الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 429

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 429 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 120167 / تحميل: 6179
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

صار يمتد على وجه الأرض ليلقى عليها ثماره فتحملها عنه فترى الأصل من القرع(١) والبطيخ مفترشا للأرض وثماره مبثوثة عليها وحواليه كأنه هرة ممتدة وقد اكتنفتها جراؤها(٢) لترضع منها.

( موافاة أصناف النبات في الوقت المشاكل لها)

وانظر كيف صارت الأصناف توافي في الوقت المشاكل لها من حمارة(٣) الصيف ووقدة الحر فتلقاها النفوس بانشراح وتشوق إليها ولو كانت توافي الشتاء لوافقت من الناس كراهة لها واقشعرارا(٤) منها مع ما يكون فيها من المضرة للأبدان ألا ترى أنه ربما أدرك شيء من الخيار في الشتاء فيمتنع الناس من أكله إلا الشره الذي لا يمتنع من أكل ما يضره ويسقم معدته.

__________________

(١) القرع - بالفتح - نوع من اليقطين، الواحدة قرعة.

(٢) في الأصل المطبوع « اجزاؤها » وهذا تصحيف شنيع، والجراء جمع جرو - بتثليث الجيم - صغير كل شيء حتّى الرمان والبطّيخ وغلب على الكلب والأسد، والمراد هنا بالجراء أولاد الهرة.

(٣) الحمارة: شدة الحرّ والجمع حمّار.

(٤) اقشعر: تغير لونه.

١٦١

( في النخل وخلقة الجذع والخشب وفوائد ذلك)

فكر يا مفضل في النخل فإنه لما صار فيه إناث تحتاج إلى التلقيح جعلت فيه ذكورة للقاح من غير غراس فصار الذكر من النخل بمنزلة الذكر من الحيوان الذي يلقح الإناث لتحمل وهو لا يحمل تأمل خلقة الجذع كيف هو فإنك تراه كالمنسوج نسجا من خيوط ممدودة كالسدى وأخرى معه معترضة كاللحمة(١) كنحو ما ينسج بالأيدي وذلك ليشتد ويصلب ولا يتقصف من حمل القنوات(٢) الثقيلة وهز الرياح العواصف إذا صار نخلة وليتهيأ للسقوف والجسور وغير ذلك مما يتخذ منه إذا صار جذعا.

وكذلك ترى الخشب مثل النسج فإنك ترى بعضه مداخلا بعضه بعضا طولا وعرضا كتداخل أجزاء اللحم وفيه مع ذلك متانة ليصلح لما يتخذ منه من الآلات فإنه لو كان مستحصفا(٣) كالحجارة لم يمكن أن يستعمل في السقوف وغير ذلك مما يستعمل فيه الخشبة كالأبواب والأسرة والتوابيت وما أشبه ذلك ومن جسيم المصالح في الخشب أنه

__________________

(١) اللحمة - بالضم - ما سدي به بين سدى الثوب أي ما نسج عرضا وهو خلاف سواه والجمع لحم.

(٢) في الأصل المطبوع - قنوان - ولا معنى لها هنا والقنوات جمع قناة وهي العسا الغليظة، وقد أراد بها الإمامعليه‌السلام هنا هي سعف النخل الغليظة.

(٣) أراد بالمستحصف: الشديد المحكم كانه الحجارة.

١٦٢

يطفو على الماء فكل الناس يعرف هذا منه وليس كلهم يعرف جلالة الأمر فيه فلو لا هذه الخلة كيف كانت هذه السفن والأظراف(١) تحمل أمثال الجبال من الحمولة وأنى كان ينال الناس هذا الرفق وخفة المئونة في حمل التجارات من بلد إلى بلد وكانت تعظم المئونة عليهم في حملها حتى يلقى كثير مما يحتاج إليه في بعض البلدان مفقودا أصلا أو عسر وجوده.

( العقاقير واختصاص كل منها)

فكر في هذه العقاقير وما خص بها كل واحد منها من العمل في بعض الأدواء فهذا يغور في المفاصل فيستخرج الفضول الغليظة مثل الشيطرج(٢) وهذا ينزف المرة السوداء(٣) مثل الأفتيمون(٤) وهذا

__________________

(١) كذا في النسخ، والظرف لا يجمع على لفظ اظراف وانما يقال للجمع ظروف.

(٢) جاء في تذكرة الانطاكى: شيطرج هندي هو الخامشة وهو نبت يوجد بالقبور الخراب له ورق عريض ودقيق ينتثر أعلاه إذا برد الجو وزهره أحمر إلى بياض، يخلف بزر أسود أصغر من الخردل ورائحته ثقيلة حادة وطعمه الى مرارة.

(٣) المرة السوداء: خلط من أخلاط البدن والجمع مرار.

(٤) افتيمون لفظ يوناني معناه دواء الجنون وهو نبات له أصل كالجزر شديد الحمرة وفروع كالخيوط الليفية تحف باوراق دقاق خضر وزهره الى حمرة وغيرة وبزر دون الخردل أحمر إلى صفرة يلتف بما يليه.

١٦٣

ينفي الرياح مثل السكبينج(١) وهذا يحلل الأورام وأشباه هذا من أفعالها فمن جعل هذه القوى فيها إلا من خلقها للمنفعة ومن فطن الناس لها إلا من جعل هذا فيها ومتى كان يوقف على هذا منها بالعرض والاتفاق - كما قال القائلون وهب الإنسان فطن لهذه الأشياء بذهنه ولطيف رويته وتجاربه فالبهائم كيف فطنت لها حتى صار بعض السباع يتداوى من جراحة إن أصابته ببعض العقاقير فيبرأ وبعض الطير يحتقن من الحصر يصيبه بماء البحر فيسلم وأشباه هذا كثير ولعلك تشكك في هذا النبات النابت في الصحاري والبراري حيث لا أنس ولا أنيس فتظن أنه فضل لا حاجة إليه وليس كذلك بل هو طعم لهذه الوحوش وحبه علف للطير وعوده وأفنانه حطب فيستعمله الناس وفيه بعد أشياء تعالج بها الأبدان وأخرى تدبغ بها الجلود وأخرى تصبغ الأمتعة وأشباه هذا من المصالح ألست تعلم أن من أخس النبات وأحقره هذا البردي وما أشبهها ففيها مع هذا من ضروب المنافع فقد يتخذ من البردي القراطيس التي يحتاج إليها الملوك والسوقة والحصر التي يستعملها كل صنف من الناس ويعمل منه الغلف التي يوقى بها الأواني ويجعل حشوا بين الظروف في الأسفاط لكيلا تعيب وتنكسر وأشباه هذا من المنافع

فاعتبر بما ترى من ضروب المآرب في صغير الخلق وكبيره وبما له قيمة

__________________

(١) سكبينج او سكنبيج هو شجرة بفارس، ويورد الاطباء الاقدمون اوصافا طبية كثيرة من السكنبيج ويذكرون انه يذهب عدة أمراض لا مجال لذكرها هنا.

١٦٤

وما لا قيمة له وأخس من هذا وأحقره الزبل والعذرة التي اجتمعت فيها الخساسة والنجاسة معا وموقعها من الزروع والبقول والخضر أجمع الموقع الذي لا يعدله شيء حتى أن كل شيء من الخضر لا يصلح ولا يزكو إلا بالزبل والسماد الذي يستقذره الناس ويكرهون الدنو منه.

واعلم أنه ليس منزلة الشيء على حسب قيمته بل هما قيمتان مختلفتان بسوقين وربما كان الخسيس في سوق المكتسب نفيسا في سوق العلم فلا تستصغر العبرة في الشيء لصغر قيمته فلو فطن طالبوا الكيمياء لما في العذرة لاشتروها بأنفس الأثمان وغالوا بها.

قال المفضل: وحان وقت الزوال، فقام مولاي إلى الصلاة وقال بكر إلي غدا إن شاء الله تعالى فانصرفت وقد تضاعف سروري بما عرفنيه مبتهجا بما آتانيه حامدا لله على ما منحنيه فبت ليلتي مسروراً.

١٦٥

المجلس الرابع

قال المفضل: فلما كان اليوم الرابع بكرت إلى مولاي فاستؤذن لي، فأمرني بالجلوس فجلست، فقالعليه‌السلام : منا التحميد والتسبيح والتعظيم والتقديس، للاسم الأقدم، والنور الأعظم، العلي العلام،ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ، ومنشئ الأنام، ومفني العوالم والدهور، وصاحب السر المستور، والغيب المحظور، والاسم المخزون، والعلم المكنون، وصلواته وبركاته على مبلغ وحيه، ومؤدي رسالته، الذي بعثهبَشِيراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ ،وَسِراجاً مُنِيراً ،لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ، فعليه وعلى آله من بارئه الصلوات الطيبات، والتحيات الزاكيات الناميات، وعليه وعليهم السلام والرحمة والبركات في الماضين والغابرين، أبد الآبدين ودهر الداهرين، وهم أهله ومستحقوه.

( الموت والفناء وانتقاد الجهال وجواب ذلك)

قد شرحت لك يا مفضل من الأدلة على الخلق، والشواهد على صواب التدبير والعمد في الإنسان والحيوان والنبات والشجر وغير ذلك. ما فيه عبرة لمن اعتبر، وأنا أشرح لك الآن الآفات الحادثة في بعض الأزمان التي اتخذها أناس من الجهال ذريعة إلى جحود الخلق والخالق والعمد والتدبير، وما أنكرت المعطلة والمنانية من المكاره والمصائب، وما

١٦٦

أنكروه من الموت والفناء، وما قاله أصحاب الطبائع، ومن زعم أن كون الأشياء بالعرض والاتفاق، ليتسع ذلك القول في الرد عليهمقاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ .

( الآفات ونظر الجهال إليها والجواب على ذلك)

اتخذ أناس من الجهال هذه الآفات الحادثة في بعض الأزمان كمثل الوباء واليرقان والبرد(١) والجراد ذريعة إلى جحود الخالق والتدبير والخلق فيقال في جواب ذلك أنه إن لم يكن خالق ومدبر فلم لا يكون ما هو أكثر من هذا وأفظع فمن ذلك أن تسقط السماء على الأرض وتهوي الأرض فتذهب سفلا وتتخلف الشمس عن الطلوع أصلا وتجف الأنهار والعيون حتى لا يوجد ماء للشفة وتركد الريح حتى تخم الأشياء وتفسد ويفيض ماء البحر على الأرض فيغرقها ثم هذه الآفات التي ذكرناها من الوباء والجراد وما أشبه ذلك ما بالها لا تدوم وتمتد حتى تجتاح كل ما في العالم بل تحدث في الأحايين ثم لا تلبث أن ترفع أفلا ترى أن العالم يصان ويحفظ من تلك الأحداث الجليلة التي لو حدث عليه شيء منها كان فيه بواره ويلذع(٢) أحيانا بهذه الآفات اليسيرة لتأديب الناس وتقويمهم ثم لا تدوم هذه الآفات بل تكشف

__________________

(١) ذهب ذكر اليرقان والبرد سابقا.

(٢) يقال لذعته النار اي احرقته ولذعه بلسانه اي اوجعه بكلام. وفي بعض النسخ باهمال الأول واعجام الثاني من لدغ العقرب.

١٦٧

عنهم عند القنوط منهم فيكون وقوعها بهم موعظة وكشفها عنهم رحمة وقد أنكرت المنانية من المكاره والمصائب التي تصيب الناس فكلاهما يقول إن كان للعالم خالق رءوف رحيم فلم تحدث فيه هذه الأمور المكروهة والقائل بهذا القول يذهب إلى أنه ينبغي أن يكون عيش الإنسان في هذه الدنيا صافيا من كل كدر ولو كان هكذا كان الإنسان يخرج من الأشر(١) والعتو(٢) إلى ما لا يصلح في دين ولا دنيا كالذي ترى كثيرا من المترفين ومن نشأ في الجدة والأمن يخرجون إليه حتى أن أحدهم ينسى أنه بشر وأنه مربوب أو أن ضررا يمسه أو أن مكروها ينزل به أو أنه يجب عليه أن يرحم ضعيفا أو يواسي فقيرا أو يرثي لمبتلى أو يتحنن على ضعيف أو يتعطف على مكروب فإذا عضته المكاره ووجد مضضها اتعظ وأبصر كثيرا مما كان جهله وغفل عنه ورجع إلى كثير مما كان يجب عليه.

والمنكرون لهذه الأمور المؤذية بمنزلة الصبيان الذين يذمون الأدوية المرة البشعة ويتسخطون من المنع من الأطعمة الضارة ويتكرهون الأدب والعمل ويحبون أن يتفرغوا للهو والبطالة وينالوا كل مطعم ومشرب ولا يعرفون ما تؤديهم إليه البطالة من سوء النشو والعادة، وما تعقبهم الأطعمة اللذيذة الضارة من الأدواء والأسقام وما لهم في الأدب من الصلاح وفي الأدوية من المنفعة وإن شاب ذلك بعض الكراهة،

__________________

(١) الاشر: البطر.

(٢) العتو - بالضم - الاستكبار وتجاوز الحد.

١٦٨

فإن قالوا: فلم لم يكن الإنسان معصوما من المساوي، حتى لا يحتاج إلى أن تلذعه هذه المكاره قيل: إذا كان يكون غير محمود على حسنه يأتيها، ولا مستحقا للثواب عليها. فإن قالوا: وما كان يضره أن لا يكون محمودا على الحسنات مستحقا للثواب، بعد أن يصير إلى غاية النعيم واللذات؟ قيل لهم: اعرضوا على امرئ صحيح الجسم والعقل، أن يجلس منعما، ويكفى كلما يحتاج إليه بلا سعي ولا استحقاق، فانظروا هل تقبل نفسه ذلك بل ستجدونه بالقليل مما يناله بالسعي والحركة أشد اغتباطا وسرورا منه بالكثير مما يناله بغير الاستحقاق وكذلك نعيم الآخرة أيضا يكمل لأهله بأن ينالوه بالسعي فيه والاستحقاق له فالنعمة على الإنسان في هذا الباب مضاعفة، فإن أعد له الثواب الجزيل على سعيه في هذه الدنيا وجعل له السبيل إلى أن ينال ذلك بسعي واستحقاق فيكمل له السرور والاغتباط بما يناله منه فإن قالوا: أوليس قد يكون من الناس من يركن إلى ما نال من خير، وإن كان لا يستحقه، فما الحجة في منع من رضي أن ينال نعيم الآخرة على هذه الجملة؟ قيل لهم: إن هذا باب لو صح للناس لخرجوا إلى غاية الكلب(١) والضراوة على الفواحش، وانتهاك المحارم، فمن كان يكف نفسه عن فاحشة أو يتحمل المشقة في باب من أبواب البر لوثق بأنه

__________________

(١) في الأصل المطبوع الكلبة. ولا معنى للفظ هنا، والصحيح ما ذكرناه اذ الكلب - بفتحتين - هو داء يشبه الجنون يأخذ الكلاب فتعض الناس فتكلب الناس أيضا إذا تمنعوا عن استعمال لقاح الطبيب الفرنسي المعروف باستور.

١٦٩

صائر إلى النعيم لا محالة أو من كان يأمن على نفسه وأهله وماله من الناس لو لم يخف الحساب والعقاب فكان ضرر هذا الباب سينال الناس في هذه الدنيا قبل الآخرة فيكون في ذلك تعطيل العدل والحكمة معا وموضع للطعن على التدبير بخلاف الصواب ووضع الأمور في غير مواضعها.

( لما ذا تصيب الآفات جميع الناس وما الحجة في ذلك)

وقد يتعلق هؤلاء بالآفات التي تصيب الناس فتعم البر والفاجر أو يبتلى بها البر ويسلم الفاجر منها فقالوا كيف يجوز هذا في تدبير الحكيم وما الحجة فيه فيقال لهم إن هذه الآفات وإن كانت تنال الصالح والطالح جميعا فإن الله عز وجل جعل ذلك صلاحا للصنفين كليهما أما الصالحون فإن الذي يصيبهم من هذا يزدهم نعم ربهم عندهم في سالف أيامهم فيحدوهم ذلك على الشكر والصبر وأما الطالحون فإن مثل هذا إذا نالهم كسر شرتهم وردعهم عن المعاصي والفواحش وكذلك يجعل لمن سلم منهم من الصنفين صلاحا في ذلك أما الأبرار فإنهم يغتبطون بما هم عليه من البر والصلاح ويزدادون فيه رغبة وبصيرة وأما الفجار فإنهم يعرفون رأفة ربهم وتطوله عليهم بالسلامة من غير استحقاق فيحضهم ذلك على الرأفة بالناس والصفح عمن أساء إليهم ولعل قائلا يقول إن هذه الآفات التي تصيب الناس في أموالهم فما قولك فيما يبتلون به في أبدانهم فيكون فيه تلفهم كمثل الحرق والغرق والسيل والخسف؟ فيقال له إن الله جعل في هذا أيضا صلاحا للصنفين جميعا أما الأبرار فلما لهم في مفارقة هذه الدنيا من الراحة

١٧٠

من تكاليفها والنجاة من مكارهها وأما الفجار فلما لهم في ذلك من تمحيص أوزارهم وحبسهم عن الازدياد منها وجملة القول أن الخالق تعالى ذكره بحكمته وقدرته قد يصرف هذه الأمور كلها إلى الخير والمنفعة فكما أنه إذا قطعت الريح شجرة أو قطعت نخلة أخذها الصانع الرفيق واستعملها في ضروب من المنافع فكذلك يفعل المدبر الحكيم في الآفات التي تنزل بالناس في أبدانهم وأموالهم فيصيرها جميعا إلى الخير والمنفعة فإن قال ولم تحدث على الناس قيل له: لكيلا يركنوا إلى المعاصي من طول السلامة فيبالغ الفاجر في ركوب المعاصي ويفتر الصالح عن الاجتهاد في البر فإن هذين الأمرين جميعا يغلبان على الناس في حال الخفض والدعة وهذه الحوادث التي تحدث عليهم تردعهم وتنبههم على ما فيه رشدهم فلو خلوا منها لغلوا في الطغيان والمعصية كما غلا الناس في أول الزمان حتى وجب عليهم البوار بالطوفان وتطهير الأرض منهم.

( الموت والفناء وانتقاد الجهال وجواب ذلك)

ومما ينتقده الجاحدون للعمد والتقدير الموت والفناء فإنهم يذهبون إلى أنه ينبغي أن يكون الناس مخلدين في هذه الدنيا مبرءين من هذه الآفات فينبغي أن يساق هذا الأمر إلى غايته فينظر ما محصوله.

أفرأيت لو كان كل من دخل العالم ويدخله يبقون ولا يموت أحد منهم ألم تكن الأرض تضيق بهم حتى تعوزهم المساكن والمزارع والمعايش فإنهم والموت يفنيهم أولا فأولا يتنافسون في المساكن

١٧١

والمزارع حتى تنشب بينهم في ذلك الحروب وتسفك فيهم الدماء فكيف كانت تكون حالهم لو كانوا يولدون ولا يموتون وكان يغلب عليهم الحرص والشره وقساوة القلوب فلو وثقوا بأنهم لا يموتون لما قنع الواحد منهم بشيء يناله ولا أفرج لأحد عن شيء يسأله ولا سلا عن شيء مما يحدث عليه ثم كانوا يملون الحياة وكل شيء من أمور الدنيا كما قد يمل الحياة من طال عمره حتى يتمنى الموت والراحة من الدنيا فإن قالوا: إنه كان ينبغي أنه يرفع عنهم المكاره والأوصاب حتى لا يتمنوا الموت ولا يشتاقوا إليه فقد وصفنا ما كان يخرجهم إليه من العتو والأشر الحامل لهم على ما فيه فساد الدنيا والدين وإن قالوا إنه كان ينبغي أن لا يتوالدوا كيلا تضيق عنهم المساكن والمعايش قيل لهم إذا كان يحرم أكثر هذا الخلق دخول العالم والاستمتاع بنعم الله تعالى ومواهبه في الدارين جميعا إذا لم يدخل العالم إلا قرن(١) واحد لا يتوالدون ولا يتناسلون فإن قالوا إنه كان ينبغي أن يخلق في ذلك القرن الواحد من الناس مثل ما خلق ويخلق إلى انقضاء العالم يقال لهم رجع الأمر إلى ما ذكرنا من ضيق المساكن والمعايش عنهم ثم لو كانوا لا يتوالدون ولا يتناسلون لذهب موضع الأنس بالقرابات وذوي الأرحام والانتصار بهم عند الشدائد وموضع تربية الأولاد والسرور بهم ففي هذا دليل على أن كل ما تذهب إليه الأوهام سوى ما جرى به التدبير خطأ وسفه من الرأي والقول.

__________________

(١) المراد بالقرن هنا أهل زمان واحد والجمع قرون.

١٧٢

( الطعن على التدبير من جهة أخرى والجواب عليه)

ولعل طاعنا يطعن على التدبير من جهة أخرى فيقول كيف يكون هاهنا تدبير ونحن نرى الناس في هذه الدنيا من عز بز فالقوي يظلم ويغصب والضعيف يظلم ويسالم الخسف والصالح فقير مبتلى والفاسق معافى موسع عليه ومن ركب فاحشة أو انتهك محرما لم يعاجل بالعقوبة فلو كان في العالم تدبير لجرت الأمور على القياس القائم فكان الصالح هو المرزوق والطالح هو المحروم وكان القوي يمنع من ظلم الضعيف والمنتهك للمحارم يعاجل بالعقوبة فيقال في جواب ذلك إن هذا لو كان هكذا لذهب موضع الإحسان الذي فضل به الإنسان على غيره من الخلق وحمل النفس على البر والعمل الصالح احتسابا للثواب وثقة بما وعد الله عنه ولصار الناس بمنزلة الدواب التي تساس بالعصا والعلف ويلمع لها بكل واحد منهما ساعة فساعة فتستقيم على ذلك ولم يكن أحد يعمل على يقين بثواب أو عقاب حتى كان هذا يخرجهم عن حد الإنسية إلى حد البهائم ثم لا يعرف ما غاب ولا يعمل إلا على الحاضر من نعيم الدنيا وكان يحدث من هذا أيضا أن يكون الصالح إنما يعمل للرزق والسعة في هذه الدنيا ويكون الممتنع من الظلم والفواحش إنما يكف عن ذلك لترقب عقوبة تنزل به من ساعته حتى تكون أفعال الناس كلها تجري على الحاضر لا يشوبه شيء من اليقين بما عند الله ولا يستحقون ثواب الآخرة والنعيم الدائم فيها مع أن هذه الأمور التي ذكرها الطاعن من

١٧٣

الغنى والفقر والعافية والبلاء ليست بجارية على خلاف قياسه، بل قد تجري على ذلك أحيانا والأمر المفهوم.

فقد ترى كثيرا من الصالحين يرزقون المال لضروب من التدبير وكيلا يسبق إلى قلوب الناس أن الكفار هم المرزوقون، والأبرار هم المحرومون فيؤثرون الفسق على الصلاح وترى كثيرا من الفساق يعاجلون بالعقوبة إذا تفاقم طغيانهم وعظم ضررهم على الناس وعلى أنفسهم كما عوجل فرعون(١) بالغرق وبختنصر(٢) بالتيه وبلبيس(٣) بالقتل وإن أمهل بعض الأشرار بالعقوبة وأخر بعض الأخيار بالثواب إلى الدار الآخرة لأسباب تخفى على العباد لم يكن هذا مما يبطل التدبير فإن مثل هذا قد يكون من ملوك الأرض ولا يبطل تدبيرهم بل يكون تأخيرهم ما أخروه وتعجيلهم ما عجلوه داخلا في صواب الرأي والتدبير وإذا كانت

__________________

(١) قصة غرق فرعون في البحر معروفة في الكتب المقدّسة، والقرآن الكريم يشير إليها في أكثر من موضع واحد.

(٢) او نبوخدنصر كان أعظم ملوك الكلدانيين، وملك في بابل من سنة ٦٠٤ الى سنة ٥٦١ ق م وقد وصف بالقوة والبأس وعد من أبطال التاريخ في الشرق، وجاء ذكره في التوراة كثيرا لأنّه عاقب الأمم الغربية عقابا شديدا، وهاجم اليهود - سكان مملكة يهوذا الصغيرة - هجوما صاعقا بعد ان أجلى أكثرهم الى بابل ودمر عاصمتهم اورشليم تدميرا شديدا.

(٣) بلبيس كذا في الأصل وهو غير معروف عند المؤرخين، ولم نجده فيما بين ايدينا من الكتب.

١٧٤

الشواهد تشهد وقياسهم يوجب أن للأشياء خالقا حكيما قادرا فما يمنعه أن يدبر خلقه فإنه لا يصلح في قياسهم أن يكون الصانع يهمل صنعته إلا بإحدى ثلاث خلال إما عجز وإما جهل وإما شرارة وكل هذا محال في صنعته عز وجل وتعالى ذكره وذلك أن العاجز لا يستطيع أن يأتي بهذه الخلائق الجليلة العجيبة والجاهل لا يهتدي لما فيها من الصواب والحكمة والشرير لا يتطاول لخلقها وإنشائها وإذا كان هذا هكذا وجب أن يكون الخالق لهذه الخلائق يدبرها لا محالة وإن كان لا يدرك كنه ذلك التدبير ومخارجه فإن كثيرا من تدبير الملوك لا تفهمه العامة ولا تعرف أسبابه لأنها لا تعرف دخيلة أمر الملوك وأسرارهم فإذا عرف سببه وجد قائما على الصواب والشاهد المحنة ولو شككت في بعض الأدوية والأطعمة فيتبين لك من جهتين أو ثلاث أنه حار أو بارد ألم تكن ستقضي عليه بذلك وتنفي الشك فيه عن نفسك فما بال هؤلاء الجهلة لا يقضون على العالم بالخلق والتدبير مع هذه الشواهد الكثيرة وأكثر منها ما لا يحصى كثرة ولو كان نصف العالم وما فيه مشكلا صوابه لما كان من حزم الرأي وسمت(١) الأدب أن يقضى على العالم بالإهمال لأنه كان في النصف الآخر وما يظهر فيه من الصواب وإتقان ما يردع الوهم عن التسرع إلى هذه القضية فكيف وكل ما فيه إذا فتش وجد على غاية الصواب حتى لا يخطر بالبال شيء إلا وجد ما عليه الخلقة أصح وأصوب منه.

__________________

(١) السمت - بالفتح - الطريق والمحجة والجمع سموت.

١٧٥

( اسم هذا العالم بلسان اليونانية)

واعلم يا مفضل أن اسم هذا العالم بلسان اليونانية الجاري المعروف عندهم قوسموس وتفسيره الزينة وكذلك سمته الفلاسفة ومن ادعى الحكمة أفكانوا يسمونه بهذا الاسم إلا لما رأوا فيه من التقدير والنظام فلم يرضوا أن يسموه تقديرا ونظاما حتى سموه زينة ليخبروا أنه مع ما هو عليه من الصواب والإتقان على غاية الحسن والبهاء.

( عمي ماني عن دلائل الحكمة وادعاؤه علم الأسرار)

اعجب يا مفضل من قوم لا يقضون على صناعة الطب بالخطإ وهم يرون الطبيب يخطئ ويقضون على العالم بالإهمال ولا يرون شيئا منه مهملا بل اعجب من أخلاق من ادعى الحكمة حتى جهلوا مواضعها في الخلق فأرسلوا ألسنتهم بالذم للخالق جل وعلا بل العجب من المخذول ماني حين ادعى علم الأسرار وعمي عن دلائل الحكمة في الخلق حتى نسبه إلى الخطإ ونسب خالقه إلى الجهل تبارك الحكيم الكريم.

( انتقاد المعطلة فيما راموا أن يدركوا بالحس ما لا يدرك بالعقل)

وأعجب منهم جميعا المعطلة الذين راموا أن يدركوا بالحس ما لا يدرك بالعقل فلما أعوزهم ذلك خرجوا إلى الجحود والتكذيب فقالوا ولم لا يدرك بالعقل قيل لأنه فوق مرتبة العقل كما لا يدرك البصر ما هو

١٧٦

فوق مرتبته فإنك لو رأيت حجرا يرتفع في الهواء علمت أن راميا رمى به فليس هذا العلم من قبل البصر بل من قبل العقل لأن العقل هو الذي يميزه فيعلم أن الحجر لا يذهب علوا من تلقاء نفسه أفلا ترى كيف وقف البصر على حده فلم يتجاوزه فكذلك يقف العقل على حده من معرفة الخالق فلا يعدوه ولكن يعقله بعقل أقر أن فيه نفسا ولم يعاينها ولم يدركها بحاسة من الحواس.

( معرفة العقل للخالق معرفة إقرار لا معرفة إحاطة)

وعلى حسب هذا أيضا نقول إن العقل يعرف الخالق من جهة توجب عليه الإقرار ولا يعرفه بما يوجب له الإحاطة بصفته فإن قالوا فكيف يكلف العبد الضعيف معرفته بالعقل اللطيف ولا يحيط به قيل لهم إنما كلف العباد من ذلك ما في طاقتهم أن يبلغوه وهو أن يوقنوا به ويقفوا عند أمره ونهيه ولم يكلفوا الإحاطة بصفته كما أن الملك لا يكلف رعيته أن يعلموا أطويل هو أم قصير وأبيض هو أم أسمر وإنما يكلفهم الإذعان لسلطانه والانتهاء إلى أمره ألا ترى أن رجلا لو أتى باب الملك فقال اعرض علي نفسك حتى أتقصى معرفتك وإلا لم أسمع لك كان قد أحل نفسه بالعقوبة فكذا القائل إنه لا يقر بالخالق سبحانه حتى يحيط بكنهه متعرضا لسخطه فإن قالوا أوليس قد نصفه فنقول هو العزيز الحكيم الجواد الكريم قيل لهم كل هذه صفات إقرار وليست صفات إحاطة فإنا نعلم أنه حكيم ولا نعلم بكنه ذلك منه وكذلك

١٧٧

قدير وجواد وسائر صفاته كما قد نرى السماء فلا ندري ما جوهرها ونرى البحر ولا ندري أين منتهاه بل فوق هذا المثال بما لا نهاية له ولأن الأمثال كلها تقصر عنه ولكنها تقود العقل إلى معرفته فإن قالوا ولم يختلف فيه قيل لهم لقصر الأوهام عن مدى عظمته وتعديها أقدارها في طلب معرفته وأنها تروم الإحاطة به وهي تعجز عن ذلك وما دونه.

( الشمس واختلاف الفلاسفة في وضعها وشكلها ومقدارها)

فمن ذلك هذه الشمس التي تراها تطلع على العالم ولا يوقف على حقيقة أمرها ولذلك كثرت الأقاويل فيها، واختلفت الفلاسفة المذكورون في وصفها، فقال بعضهم هو فلك أجوف مملوء ناراً، له فم يجيش بهذا الوهج والشعاع وقال آخرون هو سحابة وقال آخرون هو جسم زجاجي، يقل نارية في العالم، ويرسل عليه شعاعها وقال آخرون هو صفو لطيف ينعقد ماء البحر وقال آخرون هو أجزاء كثيرة مجتمعة من النار وقال آخرون هو من جوهر خامس سوى الجواهر الأربعة ثم اختلفوا في شكلها فقال بعضهم هي بمنزلة صفيحة عريضة وقال آخرون هي كالكرة المدحرجة وكذلك اختلفوا في مقدارها فزعم بعضهم أنها مثل الأرض سواء وقال آخرون بل هي أقل من ذلك وقال آخرون بل هي أعظم من الجزيرة العظيمة وقال أصحاب الهندسة هي أضعاف الأرض مائة وسبعين مرة ففي اختلاف

١٧٨

هذه الأقاويل منهم في الشمس دليل على أنهم لم يقفوا على الحقيقة من أمرها فإذا كانت هذه الشمس التي يقع عليها البصر ويدركها الحس قد عجزت العقول عن الوقوف على حقيقتها فكيف ما لطف عن الحس واستتر عن الوهم فإن قالوا ولم استتر قيل لهم لم يستتر بحيلة يخلص إليها كمن يحتجب من الناس بالأبواب والستور وإنما معنى قولنا استتر أنه لطف عن مدى ما تبلغه الأوهام كما لطفت النفس وهي خلق من خلقه وارتفعت عن إدراكها بالنظر فإن قالوا ولم لطف تعالى عن ذلك علوا كبيرا كان ذلك خطأ من القول لأنه لا يليق بالذي هو( خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) إلا أن يكون مباينا لكل شيء متعاليا عن كل شيء سبحانه وتعالى.

( الحق الذي تطلب معرفته من الأشياء أربعة أوجه وتفصيل ذلك)

فإن قالوا: كيف يعقل أن يكون مباينا لكل شيء متعاليا عن كل شيء؟ قيل لهم: الحق الذي تطلب معرفته من الأشياء هو أربعة أوجه فأولها أن ينظر أموجود هو أم ليس بموجود والثاني أن يعرف ما هو في ذاته وجوهره والثالث أن يعرف كيف هو وما صفته والرابع أن يعلم لما ذا هو ولأي علة فليس من هذه الوجوه شيء يمكن للمخلوق أن يعرفه من الخالق حق معرفته غير أنه موجود فقط فإذا قلنا وكيف وما هو فممتنع علم كنهه وكمال المعرفة به وأما لما ذا هو فساقط في صفة الخالق لأنه جل ثناؤه علة كل شيء وليس شيء بعلة له ثم ليس

١٧٩

علم الإنسان بأنه موجود يوجب له أن يعلم ما هو وكيف هو كما أن علمه بوجود النفس لا يوجب أن يعلم ما هي وكيف هي وكذلك الأمور الروحانية اللطيفة فإن قالوا فأنتم الآن تصفون من قصور العلم عنه وصفا حتى كأنه غير معلوم قيل لهم هو كذلك من جهة إذا رام العقل معرفة كنهه والإحاطة به وهو من جهة أخرى أقرب من كل قريب إذا استدل عليه بالدلائل الشافية فهو من جهة كالواضح لا يخفى على أحد وهو من جهة كالغامض لا يدركه أحد وكذلك العقل أيضا ظاهر بشواهده ومستور بذاته.

( أصحاب الطبائع ومناقشة أقوالهم)

فأما ( أصحاب الطبائع ) فقالوا إن الطبيعة لا تفعل شيئا لغير معنى ولا تتجاوز عما فيه تمام الشيء في طبيعته وزعموا أن الحكمة تشهد بذلك فقيل لهم فمن أعطى الطبيعة هذه الحكمة والوقوف على حدود الأشياء بلا مجاوزة لها وهذا قد تعجز عنه العقول بعد طول التجارب فإن أوجبوا للطبيعة الحكمة والقدرة على مثل هذه الأفعال فقد أقروا بما أنكروا لأن هذه في صفات الخالق وإن أنكروا أن يكون هذا للطبيعة فهذا وجه الخلق يهتف بأن الفعل للخالق الحكيم وقد كان من القدماء طائفة أنكروا العمد والتدبير في الأشياء وزعموا أن كونها بالعرض والاتفاق وكان مما احتجوا به هذه الآيات التي تكون على غير مجرى العرف والعادة كإنسان يولد ناقصا أو زائدا إصبعا أو يكون المولود مشوها مبدل الخلق

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

( سورة الفتح الآيات ١١ - ١٧)

سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا  يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ  قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا  بَلْ كَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( ١١ ) بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا ( ١٢ ) وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا ( ١٣ ) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ  وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ١٤ ) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ  يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ  قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ اللهُ مِن قَبْلُ  فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا  بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ( ١٥ ) قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ  فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا حَسَنًا  وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٦ ) لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ  وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ  وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٧ )

٣٠١

( بيان‏)

فصل ثالث من الآيات متعرّض لحال الأعراب الّذين قعدوا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سفره الحديبيّة و لم ينفروا إذا استنفرهم و هم على ما قيل أعراب حول المدينة من قبائل جهينة و مزينة و غفار و أشجع و أسلم و دئل فتخلّفوا عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لم يصاحبوه قائلين: إنّ محمّداً و من معه يذهبون إلى قوم غزوهم بالأمس في عقر دارهم فقتلوهم قتلاً ذريعاً، و إنّهم لن يرجعوا من هذه السفرة و لن ينقلبوا إلى ديارهم و أهليهم أبداً.

فأخبر الله سبحانه لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الآيات أنّهم سيلقونك و يعتلّون في قعودهم باشتغالهم بالأموال و الأهلين و يسألونك أن تستغفر الله لهم، و كذّبهم الله فيما قالوا و ذكر أنّ السبب في قعودهم غير ذلك و هو ظنّهم السوء، و أخبر أنّهم سيسألونك اللحوق و ليس لهم ذلك غير أنّهم سيدعون إلى قتال قوم آخرين فإن أطاعوا كان لهم الأجر الجزيل و إن تولّوا فأليم العذاب.

قوله تعالى: ( سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا ) إلى آخر الآية، قال في المجمع: المخلّف هو المتروك في المكان خلف الخارجين من البلد، و هو مشتقّ من الخلف و ضدّه المقدّم. انتهى. و الأعراب - و على ما قالوا - الجماعة من عرب البادية و لا يطلق على عرب الحاضرة، و هو اسم جمع لا مفرد له من لفظه.

و قوله:( سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ ) إخبار عمّا سيأتي من قولهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و في اللفظ دلالة مّا على نزول الآيات في رجوعهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الحديبيّة إلى المدينة و لمّا يردها.

و قوله:( شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا ) أي كان الشاغل المانع لنا عن صحابتك و الخروج معك هو أموالنا و أهلونا حيث لم يكن هنا من يقوم بأمرنا فخفنا

٣٠٢

ضيعتها فلزمناها فاستغفر لنا الله تعالى يغفر لنا تخلّفنا عنك، و في سؤال الاستغفار دليل على أنّهم كانوا يرون التخلّف ذنباً فتعلّقهم بأنّه شغلتهم الأموال و الأهلون ليس اعتذاراً للتبريّ عن الذنب بل ذكراً للسبب الموقع في الذنب.

و قوله:( يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) تكذيب لهم في جميع ما أخبروا به و سألوه فلا أنّ الشاغل لهم هو شغل الأموال و الأهلين، و لا أنّهم يهتمّون باستغفارهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و إنّما سألوه ليكون ذلك جنّة يصرفون بها العتاب و التوبيخ عن أنفسهم.

و قوله:( قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً ) جواب حلّيّ عمّا اعتذروا به من شغل الأموال و الأهلين محصّله أنّ الله سبحانه له الخلق و الأمر و هو المالك المدبّر لكلّ شي‏ء لا ربّ سواه فلا ضرّ و لا نفع إلّا بإرادته و مشيّته فلا يملك أحد منه تعالى شيئاً حتّى يقهره على ترك الضرّ أو فعل الخير إن أراد الضرّ أو على ترك الخير إن أراد ما لا يريده هذا القاهر من الخير، و إذا كان كذلك فانصرافكم عن الخروج مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصرةً للدين و اشتغالكم بما اعتللتم به من حفظ الأموال و الأهلين لا يغني من الله شيئاً لا يدفع الضرّ إن أراد الله بكم ضرّاً و لا يعين على جلب الخير و لا يعجّله إن أراد بكم خيراً.

فقوله:( قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ ) إلخ، جواب عن تعلّلهم بالشغل على تقدير تسليم صدقهم فيه، ملخّصه أنّ تعلّقكم في دفع الضرّ و جلب الخير بظاهر الأسباب و منها تدبيركم و القعود بذلك عن مشروع دينيّ لا يغنيكم شيئاً في ضرّ أو نفع بل الأمر تابع لما أراده الله سبحانه فالآية في معنى قوله تعالى:( قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا ) .

و التمسّك بالأسباب و عدم إلغائها و إن كان مشروعاً مأموراً به لكنّه فيما لا يعارض ما هو أهمّ منها كالدفاع عن الحقّ و إن كان فيه بعض المكاره المحتملة اللّهمّ إلّا إذا تعقّب خطراً قطعيّاً لا أثر معه للدفاع و السعي.

و قوله:( بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) تعريض لهم فيه إشارة إلى كذبهم في قولهم:( شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا ) .

٣٠٣

قوله تعالى: ( بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَ الْمُؤْمِنُونَ إِلى‏ أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَ زُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ ) إلخ، بيان لما يشير إليه قوله:( بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) من كذبهم في اعتذارهم، و المعنى: ما تخلّفتم عن الخروج بسبب اشتغالكم بالأموال و الأهلين بل ظننتم أنّ الرسول و المؤمنين لن يرجعوا إلى أهليهم أبداً و أنّ الخارجين سيقتلون بأيدي قريش بما لهم من الجموع و البأس الشديد و الشوكة و القدرة و لذلك تخلّفتم.

و قوله:( وَ زُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ ) أي زيّن الشيطان ذلك الظنّ في قلوبكم فأخذتم بما يقتضيه ذلك الظنّ المزيّن و هو أن تتخلّفوا و لا تخرجوا حذراً من أن تهلكوا و تبيدوا.

و قوله:( وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً ) البور - على ما قيل - مصدر بمعنى الفساد أو الهلاك اُريد به معنى الفاعل أي كنتم قوماً فاسدين أو هالكين.

قيل: المراد بظنّ السوء ظنّهم أن لن ينقلب الرسول و المؤمنون إلى أهليهم أبداً و لا يبعد أن يكون المراد به ظنّهم أنّ الله لا ينصر رسوله و لا يظهر دينه كما مرّ في قوله في الآية السادسة من السورة:( الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ ) بل هو أظهر.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَ رَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً ) الجمع في هذه الآيات بين الإيمان بالله و رسوله للدلالة على أنّ الكفر بالرسول بعدم طاعته كفر بالله، و في الآية لحن تهديد.

و قوله:( فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً ) كان مقتضى الظاهر أن يقال: أعتدنا لهم فوضع الظاهر موضع الضمير للإشارة إلى علّة الحكم بتعليقه على المشتقّ، و المعنى: أعتدنا و هيّأنا لهم لكفرهم سعيراً أي ناراً مسعّرة مشتعلة، و تنكير سعيراً للتهويل.

قوله تعالى: ( وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ كانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ) معنى الآية ظاهر و فيها تأييد لما تقدّم، و في تذييل الملك المطلق بالاسمين: الغفور الرحيم إشارة إلى سبق الرحمة الغضب و حثّ على الاستغفار و الاسترحام.

٣٠٤

قوله تعالى: ( سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى‏ مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ ) إلى آخر الآية إخبار عن أنّ المؤمنين سيغزون غزوة فيرزقون الفتح و يصيبون مغانم و يسألهم المخلّفون أن يتركوهم يتّبعونهم طمعاً في الغنيمة، و تلك غزوة خيبر اجتاز النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنون إليه ففتحوه و أخذوا الغنائم و خصّها الله تعالى بمن كان مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سفره الحديبيّة لم يشرك معهم غيرهم.

و المعنى: أنّكم ستنطلقون إلى غزوة فيها مغانم تأخذونها فيقول هؤلاء المخلّفون: اتركونا نتّبعكم.

و قوله:( يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ ) قيل: المراد به وعده تعالى أهل الحديبيّة أن يخصّهم بغنائم خيبر بعد فتحه كما سيجي‏ء من قوله:( وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ ) الآية، و يشير إليه في هذه الآية بقوله:( إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى‏ مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ) .

و قوله:( قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ ) أمر منه تعالى للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يمنعهم عن اتّباعهم استناداً إلى قوله تعالى من قبل أن يسألوهم الاتّباع.

و قوله:( فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا ) أي سيقول المخلّفون بعد ما منعوا عمّا سألوه من الاتّباع:( بَلْ تَحْسُدُونَنا ) و قوله:( بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ) جواب عن قولهم:( بَلْ تَحْسُدُونَنا ) لم يوجّه الخطاب إليهم أنفسهم لأنّ المدّعي أنّهم لا يفقهون الحديث و لذلك وجّه الخطاب بالجواب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قال:( بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا) .

و ذلك أنّ قولهم:( بَلْ تَحْسُدُونَنا ) إضراب عن قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم بأمر الله:( لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ ) فمعنى قولهم: إنّ منعنا من الاتّباع ليس عن أمر من قبل الله بل إنّما تمنعنا أنت و من معك من المؤمنين أهل الحديبيّة أن نشارككم في الغنائم و تريدون أن تختصّ بكم.

و هذا كلام لا يواجه به مؤمن له عقل و تمييز رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المعصوم الّذي لا يرد و لا يصدر في شأن إلّا بأمر من الله اللّهمّ إلّا أن يكون من بساطة العقل و بلادة

٣٠٥

الفهم فهذا القول الّذي واجهوا به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هم مدّعون للإيمان و الإسلام أدّل دليل على ضعف تعقّلهم و قلّة فقههم.

و من هنا يظهر أنّ المراد بعدم فقههم إلّا قليلاً بساطة عقلهم و ضعف فقههم للقول لا أنّهم يفقهون بعض القول و لا يفقهون بعضه و هو الكثير و لا أنّ بعضهم يفقه القول و جلّهم لا يفقهونه كما فسّره به بعضهم.

قوله تعالى: ( قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى‏ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ) إلخ، اختلفوا في هذا القوم من هم؟ فقيل: المراد به هوازن، و قيل: ثقيف، و قيل: هوازن و ثقيف، و قيل: هم الروم في غزاة مؤتة و تبوك، و قيل: هم أهل الردّة قاتلهم أبوبكر بعد الرحلة، و قيل: هم الفارس، و قيل: أعراب الفارس و أكرادهم.

و ظاهر قوله:( سَتُدْعَوْنَ ) أنّهم بعض الأقوام الّذين قاتلهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد فتح خيبر من هوازن و ثقيف و الروم في مؤتة، و قوله تعالى سابقاً:( قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا ) ناظر إلى نفي اتّباعهم في غزوة خيبر على ما يفيده السياق.

و قوله:( تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ) استئناف يدلّ على التنويع أي إمّا تقاتلون أو يسلمون أي أنّهم مشركون لا تقبل منهم جزية كما تقبل من أهل الكتاب بل إمّا أن يقاتلوا أو يسلموا.

و لا يصحّ أخذ( تُقاتِلُونَهُمْ ) صفة لقوم لأنّهم يدعون إلى قتال القوم لا إلى قتال قوم يقاتلونهم، و كذا لا يصحّ أخذ حالاً من نائب فاعل( سَتُدْعَوْنَ ) لأنّهم يدعون إلى قتال القوم لا أنّهم يدعون إليهم حال قتالهم، كذا قيل.

ثمّ تمّم سبحانه الكلام بالوعد و الوعيد على الطاعة و المعصية فقال:( فَإِنْ تُطِيعُوا ) أي بالخروج إليهم( يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا ) أي بالمعصية و عدم الخروج( كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ ) و لم تخرجوا في سفره الحديبيّة( يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً ) أي في الدنيا كما هو ظاهر المقام أو في الدنيا و الآخرة معاً.

٣٠٦

قوله تعالى: ( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى‏ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ) رفع للحكم بوجوب الجهاد عن ذوي العاهة الّذين يشقّ عليهم الجهاد برفع لازمه و هو الحرج.

ثمّ تمّم الآية أيضاً بإعادة نظير ذيل الآية السابقة فقال:( وَ مَنْ يُطِعِ اللهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ مَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً ) .

٣٠٧

( سورة الفتح الآيات ١٨ - ٢٨)

لَّقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ( ١٨ ) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا  وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ١٩ ) وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ( ٢٠ ) وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا  وَكَانَ اللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ( ٢١ ) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ( ٢٢ ) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ  وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا ( ٢٣ ) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ  وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ( ٢٤ ) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ  وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ  لِّيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ  لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ٢٥ ) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ

٣٠٨

عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا  وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( ٢٦ ) لَّقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ  لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ  فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ( ٢٧ ) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ  وَكَفَىٰ بِاللهِ شَهِيدًا ( ٢٨ )

( بيان‏)

فصل رابع من الآيات يذكر تعالى فيه المؤمنين ممّن كان مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خروجه إلى الحديبيّة فيذكر رضاه عنهم إذ بايعوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت الشجرة ثمّ يمتنّ عليهم بإنزال السكينة و إثابة فتح قريب و مغانم كثيرة يأخذونها.

و يخبرهم - و هو بشرى - أنّ المشركين لو قاتلوهم لانهزموا و ولّوا الأدبار و أنّ الرؤيا الّتي رآها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رؤيا صادقة سيدخلون المسجد الحرام آمنين محلّقين رؤسهم لا يخافون فإنّه تعالى أرسل رسوله بالهدى و دين الحقّ ليظهره على الدين كلّه و لو كره المشركون.

قوله تعالى: ( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ) الرضا هيئة تطرأ على النفس من تلقّي ما يلائمها و تقبله من غير دفع، و يقابله السخط، و إذا نسب إلى الله سبحانه كان المراد الإثابة و الجزاء الحسن دون الهيئة الطارئة و الصفة العارضة الحادثة لاستحالة ذلك عليه تعالى: فرضاه سبحانه من صفات الفعل لا من صفات الذات.

٣٠٩

و الرضا - كما قيل - يستعمل متعدّيا إلى المفعول بنفسه و متعديا بعن و متعدّيا بالباء فإذا عدّي بنفسه جاز دخوله على الذات نحو: رضيت زيدا، و على المعنى نحو: رضيت أمارة زيد، قال تعالى:( وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) المائدة: ٣، و إذا عدّي بعن دخل على الذات كقوله:( رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ) البينة: ٨، و إذا عدّي بالباء دخل على المعنى كقوله تعالى:( أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ ) .

و لمّا كان الرضا المنسوب إليه تعالى صفة فعل له بمعنى الإثابة و الجزاء، و الجزاء إنّما يكون بإزاء العمل دون الذات ففيما نسب من رضاه تعالى إلى الذات و عدّي بعن كما في الآية( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ) نوع عناية استدعى عدّ الرضا و هو متعلّق بالعمل متعلّقاً بالذات و هو أخذ بيعتهم الّتي هي متعلّقة الرضا ظرفاً للرضى فلم يسع إلّا أن يكون الرضا متعلّقاً بهم أنفسهم.

فقوله:( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ) إخبار عن إثابته تعالى لهم بإزاء بيعتهم لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت الشجرة.

و قد كانت البيعة يوم الحديبيّة تحت شجرة سمرة بها بايعهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من معه من المؤمنين و قد ظهر به أنّ الظرف في قوله:( إِذْ يُبايِعُونَكَ ) متعلّق بقوله:( لَقَدْ رَضِيَ ) و اللّام للقسم.

قوله تعالى: ( فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَ مَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَ كانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) تفريع على قوله:( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ ) إلخ، و المراد بما في قلوبهم حسن النيّة و صدقها في مبايعتهم فإنّ العمل إنّما يكون مرضيّاً عندالله لا بصورته و هيئته بل بصدق النيّة و إخلاصها.

فالمعنى: فعلم ما في قلوبهم من صدق النيّة و إخلاصها في مبايعتهم لك.

و قيل: المراد بما في قلوبهم الإيمان و صحّته و حبّ الدين و الحرص عليه، و قيل: الهمّ و الأنفة من لين الجانب للمشركين و صلحهم. و السياق لا يساعد على شي‏ء من هذين الوجهين كما لا يخفى.

فإن قلت: المراد بما في قلوبهم ليس مطلق ما فيها بل نيّتهم الصادقة المخلصة

٣١٠

في المبايعة كما ذكر، و علمه تعالى بنيّتهم الموصوفة بالصدق و الإخلاص سبب يتفرّع عليه رضاه تعالى عنهم لا مسبّب متفرّع على الرضا، و لازم ذلك تفريع الرضا على العلم بأن يقال: لقد علم ما في قلوبهم فرضي عنهم لا تفريع العلم على الرضا كما في الآية.

قلت: كما أنّ للمسبّب تفرّعاً على السبب من حيث التحقّق و الوجود كذلك للسبب - سواء كان تامّاً أو ناقصاً - تفرّع على المسبّب من حيث الانكشاف و الظهور، و الرضا كما تقدّم صفة فعل له تعالى منتزع عن مجموع علمه تعالى بالعمل الصالح و ما يثيب به و يجزي صاحب العمل، و الّذي انتزع عنه الرضا في المقام هو مجموع علمه تعالى بما في قلوبهم و إنزاله السكينة عليهم و إثابتهم فتحاً قريباً و مغانم كثيرة يأخذونها.

فقوله:( فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ ) إلخ، تفرّع على قوله:( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ) للدلالة على حقيقة هذا الرضا و الكشف عن مجموع الاُمور الّتي بتحقّقها يتحقّق معنى الرضا.

ثمّ قوله:( فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ) متفرّع على قوله:( فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ ) و كذا ما عطف عليه من قوله:( وَ أَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ) إلخ.

و المراد بالفتح القريب فتح خيبر على ما يفيده السياق و كذا المراد بمغانم كثيرة يأخذونها، غنائم خيبر، و قيل: المراد بالفتح القريب فتح مكّة، و السياق لا يساعد عليه.

و قوله:( وَ كانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) أي غالباً فيما أراد متقناً لفعله غير مجازف فيه.

قوله تعالى: ( وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ ) إلخ، المراد بهذه المغانم الكثيرة المغانم الّتي سيأخذها المؤمنون بعد الرجوع من الحديبيّة أعمّ من مغانم خيبر و غيرها فتكون الإشارة بقوله:( فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ ) إلى المغانم المذكورة في الآية السابقة و هي مغانم خيبر نزّلت منزلة الحاضرة لاقتراب وقوعها.

هذا على تقدير نزول الآية مع الآيات السابقة، و أمّا على ما قيل: إنّ الآية نزلت بعد فتح خيبر فأمر الإشارة في قوله:( فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ ) ظاهر لكنّ المعروف نزول السورة

٣١١

بتمامها في مرجع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الحديبيّة بينها و بين المدينة.

و قيل: الإشارة بهذه إلى البيعة الّتي بايعوها تحت الشجرة و هو كما ترى.

و قوله:( وَ كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ ) قيل: المراد بالناس قبيلتا أسد و غطفان هموا بعد مسير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى خيبر أن يغيروا على أموال المسلمين و عيالهم بالمدينة فقذف الله في قلوبهم الرعب و كفّ أيديهم.

و قيل: المراد مالك بن عوف و عيينة بن حصين مع بني أسد و غطفان جاؤا لنصرة يهود خيبر فقذف الله في قلوبهم الرعب فرجعوا، و قيل: المراد بالناس أهل مكّة و من والاها حيث لم يقاتلوهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و رضوا بالصلح.

و قوله:( وَ لِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ) عطف على مقدّر أي وعدهم الله بهذه الإثابة إثابة الفتح و الغنائم الكثيرة المعجّلة و المؤجّلة لمصالح كذا و كذا و لتكون آية للمؤمنين أي علامة و أمارة تدلّهم على أنّهم على الحقّ و أنّ ربّهم صادق في وعده و نبيّهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صادق في إنبائه.

و قد اشتملت السورة على عدّة من أنباء الغيب فيها هدى للمتّقين كقوله:( سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا ) إلخ، و قوله:( سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ ) إلخ، و قوله:( قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ ) إلخ، و ما في هذه الآيات من وعد الفتح و المغانم، و قوله بعد:( وَ أُخْرى‏ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها ) إلخ، و قوله بعد:( لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا ) إلخ.

و قوله:( وَ يَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً ) عطف على( لِتَكُونَ ) أي و ليهديكم صراطاً مستقيماً و هو الطريق الموصل إلى إعلاء كلمة الحقّ و بسط الدين، و قيل: هو الثقة بالله و التوكّل عليه في كلّ ما تأتون و تذرون، و ما ذكرناه أوفق للسياق.

قوله تعالى: ( وَ أُخْرى‏ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَ كانَ اللهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيراً ) أي و غنائم اُخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها إحاطة قدرة و كان الله على كلّ شي‏ء قديراً.

فقوله:( أُخْرى) مبتدأ و( لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها ) صفته و قوله:( قَدْ أَحاطَ اللهُ

٣١٢

بِها ) خبره الثاني و خبره الأوّل محذوف، و تقدير الكلام: و ثمّت غنائم اُخرى قد أحاط الله بها.

و قيل: قوله:( أُخْرى) في موضع نصب بالعطف على قوله:( هذِهِ ) و التقدير: و عجّل لكم غنائم اُخرى، و قيل: في موضع نصب بفعل محذوف، و التقدير: و قضى غنائم اُخرى، و قيل: في موضع جرّ بتقدير ربّ و التقدير: و ربّ غنائم اُخرى و هذه وجوه لا يخلو شي‏ء منها من وهن.

و المراد بالاُخرى في الآية - على ما قيل - غنائم هوازن، و قيل: المراد غنائم فارس و الروم، و قيل: المراد فتح مكّة و الموصوف محذوف، و التقدير: و قرية اُخرى لم تقدروا عليها أي على فتحها، و أوّل الوجوه أقربها.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً ) خبر آخر ينبّئهم الله سبحانه ضعف الكفّار عن قتال المؤمنين بأنفسهم و أن ليس لهم وليّ يتولّى أمرهم و لا نصير ينصرهم، و يتخلّص في أنّهم لا يقوون في أنفسهم على قتالكم و لا نصير لهم من الأعراب ينصرهم، و هذا في نفسه بشرى للمؤمنين.

قوله تعالى: ( سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا ) ( سُنَّةَ اللهِ ) مفعول مطلق لفعل مقدّر أي سنّ سنّة الله أي هذه سنّة قديمة له سبحانه أن يظهر أنبياءه و المؤمنين بهم إذا صدقوا في إيمانهم و أخلصوا نيّاتهم على أعدائهم من الّذين كفروا( وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا ) كما قال تعالى:( كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي ) المجادلة: ٢١. و لم يصب المسلمون في شي‏ء من غزواتهم إلّا بما خالفوا الله و رسوله بعض المخالفة.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ‏ ) إلخ، الظاهر أنّ المراد بكفّ أيدي كلّ من الطائفتين عن الاُخرى ما وقع من الصلح بين الفئتين بالحديبيّة و هي بطن مكّة لقربها منها و اتّصالها بها حتّى قيل إنّ بعض أراضيها من الحرم و ذلك أنّ كلّاً من الفئتين كانت أعدى عدوّ للاُخرى و قد اهتمّت قريش بجمع المجموع من أنفسهم و من الأحابيش، و بايع

٣١٣

المؤمنون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن يقاتلوا، و عزم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن يناجز القوم، و قد أظفر الله النبيّ و الّذين آمنوا على الكفّار حيث دخلوا أرضهم و ركزوا أقدامهم في عقر دارهم فلم يكن ليتوهّم بينهم إلّا القتال لكنّ الله سبحانه كفّ أيدي الكفّار عن المؤمنين و أيدي المؤمنين عن الكفّار بعد إظفار المؤمنين عليهم و كان الله بما يعملون بصيراً.

قوله تعالى: ( هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ الْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ) العكوف على أمر هو الإقامة عليه، و المعكوف - كما في المجمع - الممنوع من الذهاب إلى جهة بالإقامة في مكانه، و منه الاعتكاف و هو الإقامة في المسجد للعبادة.

و المعنى: المشركون مشركوا مكّة هم الّذين كفروا و منعوكم عن المسجد الحرام و منعوا الهدي - الّذي سقتموه - حال كونه محبوساً من أن يبلغ محلّه أي الموضع الّذي ينحر أو يذبح فيه و هو مكّة الّتي ينحر أو يذبح فيها هدي العمرة كما أنّ هدي الحجّ ينحر أو يذبح في منى، و قد كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و من معه من المؤمنين محرمين للعمرة ساقوا هديا لذلك.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَ نِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) الوطء الدوس، و المعرّة المكروه، و قوله:( أَنْ تَطَؤُهُمْ ) بدل اشتمال من مدخول لو لا، و جواب لو لا محذوف، و التقدير: ما كفّ أيديكم عنهم.

و المعنى: و لو لا أن تدوسوا رجالاً مؤمنين و نساء مؤمنات بمكّة و أنتم جاهلون بهم لا تعلمون فتصيبكم من قتلهم و إهلاكهم مكروه لما كفّ الله أيديكم عنهم.

و قوله:( لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ ) اللّام متعلّق بمحذوف، و التقدير: و لكن كفّ أيديكم عنهم ليدخل في رحمته اُولئك المؤمنين و المؤمنات غير المتميّزين بسلامتهم من القتل و إيّاكم بحفظكم من أصابه المعرّة.

و قيل: المعنى: ليدخل في رحمته من أسلم من الكفّار بعد الصلح.

٣١٤

و قوله:( لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) التزيّل التفرّق و ضمير( تَزَيَّلُوا ) لجميع من تقدّم ذكره من المؤمنين و الكفّار من أهل مكّة أي لو تفرّقوا بأن يمتاز المؤمنون من الكفّار لعذّبنا الّذين كفروا من أهل مكّة عذاباً أليما لكن لم نعذّبهم لحرمة من اختلط بهم من المؤمنين.

قوله تعالى: ( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ ) إلى آخر الآية قال الراغب: و عبّر عن القوّة الغضبيّة إذا ثارت و كثرت بالحميّة فيقال: حميت على فلان أي غضبت عليه قال تعالى:( حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ ) و عن ذلك أستعير قولهم: حميت المكان حمى انتهى.

و الظرف في قوله:( إِذْ جَعَلَ ) متعلّق بقوله سابقاً:( وَ صَدُّوكُمْ ) و قيل: متعلق بقوله:( لَعَذَّبْنَا ) و قيل: متعلّق باُذكر المقدّر، و الجعل بمعنى الإلقاء و( الَّذِينَ كَفَرُوا ) فاعله و الحميّة مفعوله و( حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ ) بيان للحميّة و الجاهليّة وصف موضوع في موضع الموصوف و التقدير الملّة الجاهليّة.

و لو كان( جَعَلَ ) بمعنى صيّر كان مفعوله الثاني مقدّراً و التقدير إذ جعل الّذين كفروا الحميّة راسخة في قلوبهم و وضع الظاهر موضع الضمير في قوله:( جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) للدلالة على سبب الحكم.

و معنى الآية: هم الّذين كفروا و صدّوكم إذ ألقوا في قلوبهم الحميّة حميّة الملّة الجاهليّة.

و قوله:( فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى‏ رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) تفريع على قوله:( جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) و يفيد نوعاً من المقابلة كأنّه قيل: جعلوا في قلوبهم الحميّة فقابله الله سبحانه بإنزال السكينة على رسوله و على المؤمنين فاطمأنّت قلوبهم و لم يستخفّهم الطيش و أظهروا السكينة و الوقار من غير أن يستفزّهم الجهالة.

و قوله:( وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى‏ ) أي جعلها معهم لا تنفكّ عنهم، و هي على ما اختاره جمهور المفسّرين كلمة التوحيد و قيل: المراد الثبات على العهد و الوفاء به و قيل: المراد بها السكينة و قيل: قولهم: بلى في عالم الذرّ، و هو أسخف الأقوال.

٣١٥

و لا يبعد أن يراد بها روح الإيمان الّتي تأمر بالتقوى كما قال تعالى:( أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) المجادلة: ٢٢، و قد أطلق الله الكلمة على الروح في قوله:( وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى‏ مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ ) النساء: ١٧١.

و قوله:( وَ كانُوا أَحَقَّ بِها وَ أَهْلَها ) أمّا كونهم أحقّ بها فلتمام استعدادهم لتلقّي هذه العطيّة الإلهيّة بما عملوا من الصالحات فهم أحقّ بها من غيرهم، و أمّا كونهم أهلها فلأنّهم مختصّون بها لا توجد في غيرهم و أهل الشي‏ء خاصّته.

و قيل: المراد و كانوا أحقّ بالسكينة و أهلها، و قيل: إنّ في الكلام تقديماً و تأخيراً و الأصل و كانوا أهلها و أحقّ بها و هو كما ترى.

و قوله:( وَ كانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيماً ) تذييل لقوله:( وَ كانُوا أَحَقَّ بِها وَ أَهْلَها ) أو لجميع ما تقدّم، و المعنى على الوجهين ظاهر.

قوله تعالى: ( لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ ) إلخ، قيل: إنّ صدق و كذب مخفّفين يتعدّيان إلى مفعولين يقال: صدقت زيداً الحديث و كذبته الحديث، و إلى المفعول الثاني بفي يقال: صدقته في الحديث و كذبته فيه، و مثقّلين يتعدّيان إلى مفعول واحد يقال: صدّقته في حديثه و كذّبته في حديثه.

و اللّام في( لَقَدْ صَدَقَ اللهُ ) للقسم، و قوله:( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ) جواب القسم.

و قوله:( بِالْحَقِّ ) حال من الرؤيا و الباء فيه للملابسة، و التعليق بالمشيّة في قوله:( إِنْ شاءَ اللهُ ) لتعليم العباد و المعنى: اُقسم لقد صدق الله رسوله في الرؤيا الّتي أراه لتدخلنّ أيّها المؤمنون المسجد الحرام إن شاء الله حال كونكم آمنين من شرّ المشركين محلّقين رؤسكم و مقصّرين لا تخافون المشركين.

و قوله:( فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً ) ( ذلِكَ ) إشارة إلى ما تقدّم من دخولهم المسجد الحرام آمنين، و المراد بقوله:( مِنْ دُونِ ذلِكَ ) أقرب من ذلك و المعنى: فعلم تعالى من المصلحة في دخولكم المسجد الحرام آمنين ما جهلتموه

٣١٦

و لم تعلموه، و لذلك جعل قبل دخولكم كذلك فتحاً قريباً ليتيسّر لكم الدخول كذلك.

و من هنا يظهر أنّ المراد بالفتح القريب في هذه الآية فتح الحديبيّة فهو الّذي سوّى للمؤمنين الطريق لدخول المسجد الحرام آمنين و يسّر لهم ذلك و لو لا ذلك لم يمكن لهم الدخول فيه إلّا بالقتال و سفك الدماء و لا عمرة مع ذلك لكن صلح الحديبيّة و ما اشترط من شرط أمكنهم من دخول المسجد معتمرين في العام القابل.

و من هنا تعرف أن قول بعضهم: إنّ المراد بالفتح القريب في الآية فتح خيبر بعيد من السياق، و أمّا القول بأنّه فتح مكّة فأبعد.

و سياق الآية يعطي أنّ المراد بها إزالة الريب عن بعض من كان مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّ المؤمنين كانوا يزعمون من رؤيا رآها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من دخولهم المسجد آمنين محلّقين رؤسهم و مقصّرين، أنّهم سيدخلونه كذلك في عامهم ذلك فلمّا خرجوا قاصدين مكّة معتمرين فاعترضهم المشركون بالحديبيّة و صدّوهم عن المسجد الحرام ارتاب بعضهم في الرؤيا فأزال الله ريبهم بما في الآية.

و محصّله: أنّ الرؤيا حقّة أراها الله نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد صدق تعالى في ذلك، و ستدخلون المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلّقين رؤسكم و مقصّرين لا تخافون، لكنّه تعالى اُخره و قدّم عليه هذا الفتح و هو صلح الحديبيّة ليتيسّر لكم دخوله لعلمه تعالى بأنّه لا يمكن لكم دخوله آمنين محلّقين رؤسكم و مقصّرين لا تخافون إلّا بهذا الطريق.

قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏ وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ) إلخ، تقدّم تفسيره في سورة التوبة الآية ٣٣، و قوله:( وَ كَفى‏ بِاللهِ شَهِيداً ) أي شاهداً على صدق نبوّته و الوعد أنّ دينه سيظهر على الدين كلّه أو على أنّ رؤياه صادقة، فالجملة تذييل ناظر إلى نفس الآية أو الآية السابقة.

٣١٧

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور في قوله تعالى:( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ) الآية: أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن سلمة بن الأكوع قال: بينا نحن قائلون إذ نادى منادي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيّها الناس البيعة البيعة نزل روح القدس، فثرنا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو تحت شجرة سمرة فبايعناه فذلك قول الله تعالى:( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ) فبايع لعثمان إحدى يديه على الاُخرى فقال الناس هنيئا لابن عفان يطوف بالبيت و نحن ههنا. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو مكث كذا و كذا سنة- ما طاف حتّى أطوف.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و مسلم و ابن مردويه عن مغفل بن يسار قال: لقد رأيتني يوم الشجرة و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبايع الناس و أنا رافع غصناً من أغصانها عن رأسه و نحن أربع عشرة مائة و لم نبايعه على الموت- و لكن بايعناه على أن لا نفرّ.

أقول: كون المؤمنين يومئذ أربع عشرة مائة مرويّ في روايات اُخرى، و في بعض الروايات ألف و ثلاثمائة و في بعضها إلى ألف و ثمان مائة، و كذا كون البيعة على أن لا يفرّوا و في بعضها على الموت.

و فيه، أخرج أحمد عن جابر و مسلم عن اُمّ بشر عنه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لا يدخل النار أحد ممّن بايع تحت الشجرة.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله تعالى:( فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ) قال: إنّما اُنزلت السكينة على من علم منه الوفاء.

أقول: و الرواية تخصّص ما تقدّم عليها و يدلّ عليه قوله تعالى فيما تقدّم:( إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى‏ نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفى‏ بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ) فاشترط في الأجر - و يلازمه الاشتراط في الرضا - الوفاء و عدم النكث، و قد أورد القميّ هذا المعنى في تفسيره و كأنّه رواية.

٣١٨

و في الدرّ المنثور، أيضاً: في قوله تعالى:( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) الآية: أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و البخاريّ و مسلم و النسائيّ و ابن جرير و الطبرانيّ و ابن مردويه و البيهقيّ في الدلائل عن سهل بن حنيف أنّه قال يوم صفّين: اتّهموا أنفسكم فلقد رأيتنا يوم الحديبيّة نرجئ الصلح الّذي كان بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بين المشركين و لو نرى قتالاً لقاتلنا.

فجاء عمر إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا رسول الله أ لسنا على الحقّ و هم على الباطل؟ قال: بلى. قال: أ ليس قتلانا في الجنّة و قتلاهم في النار؟ قال: بلى. قال: ففيم نعطي الدنيّة في ديننا؟ و نرجع و لمّا يحكم الله بيننا و بينهم؟ قال: يا ابن الخطّاب إنّي رسول الله و لن يضيّعني الله أبداً.

فرجع متغيّظاً فلم يصبر حتّى جاء أبابكر فقال: يا أبابكر أ لسنا على الحقّ و هم على الباطل؟ قال: بلى. قال: أ ليس قتلانا في الجنّة و قتلاهم في النار؟ قال: بلى قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال: يا ابن الخطّاب إنّه رسول الله و لن يضيّعه الله أبداً فنزلت سورة الفتح فأرسل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عمر فأقرأه إيّاها فقال: يا رسول الله أ و فتح هو؟ قال: نعم.

و في كمال الدين، بإسناده عن منصور بن حازم عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ:( لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) قال: لو أخرج الله ما في أصلاب المؤمنين من الكافرين و ما في أصلاب الكافرين من المؤمنين لعذّبنا الّذين كفروا.

أقول: و هذا المعنى مرويّ في روايات اُخر.

و بإسناده عن جميل قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قوله تعالى:( وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى‏ ) قال: هو الإيمان.

و في الدرّ المنثور، أخرج الترمذيّ و عبدالله بن أحمد في زوائد المسند و ابن جرير و الدارقطنيّ في الإفراد و ابن مردويه و البيهقيّ في الأسماء و الصفات عن اُبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى‏ ) قال: لا إله إلّا الله.

٣١٩

أقول: و روي هذا المعنى أيضاً بطرق اُخرى عن عليّ و سلمة بن الأكوع و أبي هريرة، و روي أيضاً من طرق الشيعة كما في العلل، بإسناده عن الحسن بن عبدالله عن آبائه عن جدّه الحسن بن عليّعليه‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في حديث يفسّر فيه( سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلّا الله و الله أكبر ) قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و قوله: لا إله إلّا الله يعني وحدانيته لا يقبل الله الأعمال إلّا بها، و هي كلمة التقوى- يثقل الله بها الموازين يوم القيامة.

و في المجمع، في قصّة فتح خيبر قال: و لمّا قدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة من الحديبيّة مكث بها عشرين ليلة ثمّ خرج منها غادياً إلى خيبر.

ذكر ابن إسحاق بإسناده إلى أبي مروان الأسلميّ عن أبيه عن جدّه قال: خرجنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى خيبر حتّى إذا كنا قريباً منها و أشرفنا عليها قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قفوا فوقف الناس فقال اللّهمّ ربّ السماوات السبع و ما أظللن و ربّ الأرضين السبع و ما أقللن و ربّ الشياطين و ما أضللن إنّا نسألك خير هذه القرية و خير أهلها و خير ما فيها و نعوذ بك من شرّ هذه القرية و شرّ أهلها و شرّ ما فيها. أقدموا بسم الله.

و عن سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى خيبر فسرنا ليلاً فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع: أ لا تسمعنا من هنيهاتك و كان عامر رجلاً شاعراً فجعل يقول:

لا همّ لو لا أنت ما حجينا

و لا تصدّقنا و لا صلّينا

فاغفر فداء لك ما اقتنينا

و ثبّت الأقدام إن لاقينا

و أنزلن سكينة علينا

إنّا إذا صيح بنا أتينا

و بالصياح عولوا علينا

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من هذا السائق؟ قالوا: عامر. قال: يرحمه الله. قال عمر و هو على جمل له وجيب(١) : يا رسول الله لو لا أمتعتنا به، و ذلك أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

____________________

(١) وجب البعير أعيى، و وجب برك و ضرب بنفسه الأرض.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429