الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 429

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 429
المشاهدات: 114900
تحميل: 5403


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 429 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 114900 / تحميل: 5403
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 18

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ما استغفر لرجل قطّ يخصّه إلّا استشهد.

قالوا: فلمّا جدّ الحرب و تصافّ القوم خرج يهوديّ و هو يقول:

قد علمت خيبر أنّي مرحب

شاكي السلاح بطل مجرّب

إذا الحروب أقبلت تلهّب

فبرز إليه عامر و هو يقول:

قد علمت خيبر أنّي عامر

شاكي السلاح بطل مغامر

فاختلفا ضربتين فوقع سيف اليهوديّ في ترس عامر و كان سيف عامر فيه قصر فتناول به ساق اليهوديّ ليضربه فرجع ذباب سيفه فأصاب عين ركبة عامر فمات منه.

قال سلمة: فإذا نفر من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقولون: بطل عمل عامر قتل نفسه. قال: فأتيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أنا أبكي فقلت: قالوا: إنّ عامراً بطل عمله، فقال: من قال ذلك؟ قلت: نفر من أصحابك، فقال: كذب اُولئك بل اُوتي من الأجر مرّتين.

قال: فحاصرناهم حتّى أصابنا مخمصة شديدة ثمّ إنّ الله فتحها علينا، و ذلك أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطى اللواء عمر بن الخطّاب و نهض من نهض معه من الناس فلقوا أهل خيبر فانكشف عمر و أصحابه فرجعوا إلى رسول الله يجبّنه أصحابه و يجبّنهم، و كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى الناس فقال حين أفاق من وجعه: ما فعل الناس بخيبر؟ فاُخبر فقال: لاُعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله و رسوله و يحبّه الله و رسوله كرّاراً غير فرار لا يرجع حتّى يفتح الله على يديه.

و روى البخاريّ و مسلم عن قتيبة بن سعيد قال: حدّثنا يعقوب عن عبدالرحمن الإسكندرانيّ عن أبي حازم قال: أخبرني سعد بن سهل: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال يوم خيبر: لاُعطينّ هذه الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه يحبّ الله و رسوله و يحبّه الله و رسوله. قال: فبات الناس يدوكون بجملتهم أنّهم يعطاها؟ فلمّا أصبح الناس غدوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّهم يرجون أن يعطاها.

فقال: أين عليّ بن أبي طالب؟ فقالوا: يا رسول الله هو يشتكي عينيه. قال:

٣٢١

فأرسلوا إليه فاُتي به فبصق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عينيه فبرأ كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية، فقال عليّ: يا رسول الله اُقاتلهم حتّى يكونوا مثلنا. قال: أنفذ على رسلك حتّى تنزل بساحتهم ثمّ أدعهم إلى الإسلام و أخبرهم بما يجب عليهم من حقّ الله فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم.

قال سلمة: فبرز مرحب و هو يقول: قد علمت خيبر أنّي مرحب الأبيات، فبرز له عليّ و هو يقول:

أنا الّذي سمّتني اُمّي حيدرة

كليث غابات كريه المنظرة

اُوفيهم بالصاع كيل السندرة

فضرب مرحبا ففلق رأسه فقتله و كان الفتح على يده.

أورده مسلم في صحيحة.

و روى أبوعبدالله الحافظ بإسناده عن أبي رافع مولى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: خرجنا مع عليّ حين بعثه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا دني من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم فضربه رجل من اليهود فطرح ترسه من يده- فتناول عليّ باب الحصن فتترّس به عن نفسه فلم يزل في يده و هو يقاتل حتّى فتح الله عليه ثمّ ألقاه من يده، فلقد رأيتني في نفر مع سبعة أنا ثامنهم نجهد على أن نقلّب ذلك الباب فما استطعنا أن نقلّبه.

و بإسناده عن ليث بن أبي سليم عن أبي جعفر محمّد بن عليّ قال: حدّثني جابر بن عبدالله: أنّ عليّا حمل الباب يوم خيبر حتّى صعد المسلمون عليه فاقتحموها، و أنّه حرّك بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلاً.

قال: و روي من وجه آخر عن جابر: ثمّ اجتمع عليه سبعون رجلاً فكان جهدهم أن أعادوا الباب.

و بإسناده عن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال: كان عليّ يلبس في الحرّ و الشتاء القباء المحشوّ الثخين و ما يبالي الحرّ فأتاني أصحابي فقالوا: إنّا رأينا من أميرالمؤمنين شيئاً فهل رأيت؟ فقلت: و ما هو؟ قالوا: رأيناه يخرج علينا في الحرّ الشديد في القباء

٣٢٢

المحشوّ الثخين و ما يبالي الحرّ، و يخرج علينا في البرد الشديد في الثوبين الخفيفين و ما يبالي البرد فهل سمعت في ذاك شيئاً؟ فقلت: لا فقالوا: فسل لنا أباك عن ذلك فإنّه يسمر معه فسألته فقال: ما سمعت في ذلك شيئاً.

فدخل على عليّ فسمر معه ثمّ سأله عن ذلك فقال: أ و ما شهدت خيبر؟ قلت: بلى. قال: أ فما رأيت رسول الله حين دعا أبابكر فعقد له ثمّ بعثه إلى القوم فانطلق فلقي القوم ثمّ جاء بالناس و قد هزم ثمّ بعث إلى عمر فعقد له ثمّ بعثه إلى القوم فانطلق فلقي القوم فقاتلهم ثمّ رجع و قد هزم.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لاُعطينّ الراية اليوم رجلاً يحبّ الله و رسوله و يحبّه الله و رسوله يفتح الله على يديه كرّاراً غير فرّار فدعاني و أعطاني الراية ثمّ قال: اللّهمّ اكفه الحرّ و البرد فما وجدت بعد ذلك حرّاً و لا برداً و هذا كلّه منقول من كتاب دلائل النبوّة للإمام أبي بكر البيهقيّ.

قال الطبرسيّ: ثمّ لم يزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفتح الحصون حصناً حصناً و يحوز الأموال حتّى انتهوا إلى حصن الوطيح و السلالم و كان آخر حصون خيبر افتتح، و حاصرهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بضع عشرة ليلة.

قال ابن إسحاق: و لمّا افتتح القموص حصن أبي الحقيق اُتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصفيّة بنت حييّ بن أخطب و باُخرى معها فمرّ بهما بلال - و هو الّذي جاء بهما - على قتلى من قتلى يهود فلمّا رأتهم الّتي معها صفيّة صاحت و صكّت وجهها و حثت التراب على رأسها فلمّا رآها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: أعزبوا عنّي هذه الشيطانة، و أمر بصفيّة فحيزت خلفه و ألقى عليها رداءه فعرف المسلمون أنّه قد اصطفاها لنفسه، و قال لبلال لما رأى من تلك اليهوديّة ما رأى: أ نزعت منك الرحمة يا بلال حيث تمرّ بامرأتين على قتلى رجالهما؟

و كانت صفية قد رأت في المنام - و هي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق - أنّ قمراً وقع في حجرها فعرضت رؤياها على زوجها فقال: ما هذا إلّا أنّك تتمنّين

٣٢٣

ملك الحجاز محمّداً و لطم وجهها لطمة اخضرّت عينها منها فاُتي بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بها أثر منها فسألها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما هو؟ فأخبرته.

و أرسل ابن أبي الحقيق إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنزل فاُكلّمك؟ قال: نعم. فنزل و صالح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حقن دماء من في حصونهم من المقاتلة و ترك الذرّيّة لهم، و يخرجون من خيبر و أرضها بذراريهم و يخلّون بين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بين ما كان لهم من مال و أرض على الصفراء و البيضاء و الكراع(1) و الخلقة و على البزّ إلّا ثوباً على ظهر إنسان، و قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبرئت منكم ذمّة الله و ذمّة رسوله إن كتمتموني شيئاً فصالحوه على ذلك.

فلمّا سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا بعثوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسألونه أن يسيّرهم و يحقن دماءهم و يخلّون بينه و بين الأموال ففعل و كان ممّن مشى بين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بينهم في ذلك محيّصة بن مسعود أحد بني حارثة.

فلمّا نزل أهل خيبر على ذلك سألوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعاملهم الأموال على النصف، و قالوا: نحن أعلم بها منكم و أعمر لها فصالحهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على النصف على أنّا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم، و صالحه أهل فدك على مثل ذلك فكانت‏ أموال خيبر فيئا بين المسلمين و كانت فدك خالصة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّهم لم يوجفوا عليها بخيل و لا ركاب.

و لمّا اطمأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم و هي ابنة أخي مرحب شاة مصليّة، و قد سألت أيّ عضو أحبّ إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقيل لها: الذراع فأكثرت فيها السمّ و سمّت سائر الشاة ثمّ جاءت بها فلمّا وضعتها بين يديه تناول الذراع فأخذها و لاك منها مضغة و انتهش منها و معه بشر بن البراء بن معرور فتناول عظماً فانتهش منه فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ارفعوا أيديكم فإنّ

____________________

(1) الكراع: بضمّ الكاف مطلق الماشية و الخلفة بالكسر فالسكون الأثاث و البزّ الثوب.

٣٢٤

كتف هذه الشاة يخبرني أنّها مسمومة ثمّ دعاها فاعترفت فقال: ما حملك على ذلك؟ فقالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك فقلت: إن كان نبيّاً فسيخبر و إن كان ملكاً استرحت منه فتجاوز عنها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و مات بشر بن البراء من أكلته الّتي أكل.

قال: و دخلت اُمّ بشر بن البراء على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعوده في مرضه الّذي توفّي فيه فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا اُمّ بشر ما زالت اُكلة خيبر الّتي أكلت بخيبر مع ابنك تعاودني فهذا أوان قطعت أبهري، و كان المسلمون يرون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات شهيداً مع ما أكرمه الله به من النبوّة.

٣٢٥

( سورة الفتح آية 29)

مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ  وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ  تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا  سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ  ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ  وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ  وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ( 29 )

( بيان‏)

الآية خاتمة السورة تصف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تصف الّذين معه بما وصفهم به في التوراة و الإنجيل و تعد الّذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات وعداً جميلاً، و للآية اتّصال بما قبلها حيث أخبر فيه أنّه أرسل رسوله بالهدى و دين الحقّ.

قوله تعالى: ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ) إلى آخر الآية، الظاهر أنّه مبتدأ و خبر فهو كلام تامّ، و قيل:( مُحَمَّدٌ ) خبر مبتدإ محذوف و هو ضمير عائد إلى الرسول في الآية السابقة و التقدير: هو محمّد، و( رَسُولُ اللهِ ) عطف بيان أو صفة أو بدل، و قيل:( مُحَمَّدٌ ) مبتدأ و( رَسُولُ اللهِ ) عطف بيان أو صفة أو بدل و( الَّذِينَ مَعَهُ ) معطوف على المبتدإ و( أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ) إلخ، خبر المبتدإ.

و قوله:( وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ) مبتدأ و خبر، فالكلام مسوق لتوصيف الّذين معه و الشدّة و الرحمة المذكورتان من نعوتهم.

٣٢٦

و تعقيب قوله:( أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ) بقوله:( رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ) لدفع ما يمكن أن يتوهّم أنّ كونهم أشدّاء على الكفّار يستوجب بعض الشدّة فيما بينهم فدفع ذلك بقوله:( رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ) و أفادت الجملتان أنّ سيرتهم مع الكفّار الشدّة و مع المؤمنين فيما بينهم الرحمة.

و قوله:( تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً ) الركّع و السجّد جمعاً راكع و ساجد، و المراد بكونهم ركّعاً سجّداً إقامتهم للصلاة، و( تَراهُمْ ) يفيد الاستمرار، و المحصّل: أنّهم مستمرّون على الصلاة، و الجملة خبر بعد خبر للّذين معه.

و قوله:( يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَ رِضْواناً ) الابتغاء الطلب، و الفضل العطيّة و هو الثواب، و الرضوان أبلغ من الرضا.

و الجملة إن كانت مسوقة لبيان غايتهم من الركوع و السجود كان الأنسب أن تكون حالاً من ضمير المفعول في( تَراهُمْ ) و إن كانت مسوقة لبيان غايتهم من الحياة مطلقاً كما هو الظاهر كانت خبراً بعد خبر للّذين معه.

و قوله:( سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) السيما العلامة و( سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ‏ ) مبتدأ و خبر و( مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) حال من الضمير المستكنّ في الخبر أو بيان للسيما أي إنّ سجودهم لله تذلّلاً و تخشّعاً أثر في وجوههم أثراً و هو سيما الخشوع لله يعرفهم به من رآهم، و يقرب من هذا المعنى ما عن الصادقعليه‌السلام أنّه السهر في الصلاة(1) .

و قيل: المراد أثر التراب في جباههم لأنّهم كانوا إنّما يسجدون على التراب لا على الأثواب.

و قيل: المراد سيماهم يوم القيامة فيكون موضع سجودهم يومئذ مشرقاً مستنيراً.

____________________

(1) رواه الصدوق في الفقيه و المفيد في روضة الواعظين مرسلاً عن عبدالله بن سنان عنه عليه السلام.

٣٢٧

و قوله:( ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ ) المثل هو الصفة أي الّذي وصفناهم به من أنّهم أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم إلخ، وصفهم الّذي وصفناهم به في الكتابين التوراة و الإنجيل.

فقوله:( وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ ) معطوف على قوله:( مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ ) و قيل: إنّ قوله:( وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ ) إلخ، استئناف منقطع عمّا قبله، و هو مبتدأ خبره قوله:( كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ ) إلخ، فيكون وصفهم في التوراة هو أنّهم أشدّاء على الكفّار - إلى قوله -:( مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) ، و وصفهم في الإنجيل هو أنّهم كزرع أخرج شطأه إلخ.

و قوله:( كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى‏ عَلى‏ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ) شطؤ النبات أفراخه الّتي تتولّد منه و تنبت حوله، و الإيزار الإعانة، و الاستغلاظ الأخذ في الغلظة، و السوق جمع ساق، و الزرّاع جمع زارع.

و المعنى: هم كزرع أخرج أفراخه فأعانها فقويت و غلظت و قام على سوقه يعجب الزارعين بجودة رشده.

و فيه إشارة إلى أخذ المؤمنين في الزيادة و العدّة و القوّة يوماً فيوماً و لذلك عقّبه بقوله:( لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ) .

و قوله:( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً ) ضمير( مِنْهُمْ ) للّذين معه، و( مِنَ ) للتبعيض على ما هو الظاهر المتبادر من مثل هذا النظم و يفيد الكلام اشتراط المغفرة و الأجر العظيم بالإيمان حدوثاً و بقاء و عمل الصالحات فلو كان منهم من لم يؤمن أصلاً كالمنافقين الّذين لم يعرفوا بالنفاق كما يشير إليه قوله تعالى:( وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ) التوبة: 101، أو آمن أوّلاً ثمّ أشرك و كفر كما في قوله:( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى‏ أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى - إلى أن قال -وَ لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ ) سورة محمّد: 30.

أو آمن و لم يعمل الصالحات كما يستفاد من آيات الإفك(1) و آية التبيّن في

____________________

(1) فمن أهل الإفك من هو صحابي بدري و قد قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) النور: 23، و من نزل فيه: ( إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) الحجرات: 6، و هو الوليد بن عقبة صحابي و قد سماه الله فاسقاً و قد قال تعالى: ( فَإِنَّ اللهَ لَا يَرْضَىٰ عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) التوبة: 96.

٣٢٨

نبأ الفاسق و أمثال ذلك لم يشمله وعد المغفرة و الأجر العظيم.

و نظير هذا الاشتراط ما تقدّم في قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى‏ نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفى‏ بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ) و يؤيّده أيضاً ما فهمه ابن عبّاس من قوله تعالى:( فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ) حيث فسّره بقوله: إنّما اُنزلت السكينة على من علم منه الوفاء، و قد تقدّمت الرواية.

و نظير الآية أيضاً في الاشتراط قوله تعالى:( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ - إلى أن قال -وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) النور: 55.

و قيل: إنّ( مِنَ ) في الآية بيانيّة لا تبعيضيّة فتفيد شمول الوعد لجميع الّذين معه.

و هو مدفوع - كما قيل - بأنّ( من ) البيانيّة لا تدخل على الضمير مطلقاً في‏ كلامهم، و الاستشهاد لذلك بقوله تعالى:( لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ ) مبنيّ على إرجاع ضمير( تَزَيَّلُوا ) إلى المؤمنين و ضمير( مِنْهُمْ ) للّذين كفروا، و قد تقدّم في تفسير الآية أنّ الضميرين جميعاً راجعان إلى مجموع المؤمنين و الكافرين من أهل مكّة فتكون( مَنْ ) تبعيضيّة لا بيانيّة.

و بعد ذلك كلّه لو كانت العدة بالمغفرة أو نفس المغفرة شملتهم شمولاً مطلقاً من غير اشتراط بالإيمان و العمل الصالح و كانوا مغفورين - آمنوا أو أشركوا و أصلحوا أو فسقوا - لزمته لزوماً بيّناً لغويّة جميع التكاليف الدينيّة في حقّهم و ارتفاعها عنهم و هذا ممّا يدفعه الكتاب و السنّة فهذا الاشتراط ثابت في نفسه و إن لم يتعرّض له في اللفظ، و قد قال تعالى في أنبيائه:( وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ )

٣٢٩

الأنعام: 88، فأثبته في أنبيائه و هم معصومون فكيف فيمن هو دونهم.

فإن قيل: اشتراط الوعد بالمغفرة و الأجر العظيم بالإيمان و العمل الصالح اشتراط عقليّ كما ذكر و لا سبيل إلى إنكاره لكن سياق قوله:( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ ) يشهد باتّصافهم بالإيمان و عمل الصالحات و أنّهم واجدون للشرط.

و خاصّة بالنظر إلى تأخير( مِنْهُمْ ) عن قوله:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) حيث يدلّ على أنّ عمل الصالحات لا ينفكّ عنهم بخلاف قوله في آية النور:( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ ) النور: 55، كما ذكره بعضهم، و يؤيّده أيضاً قوله في مدحهم( تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَ رِضْواناً ) حيث يدلّ على الاستمرار.

قلنا: أمّا تأخير( مِنْهُمْ ) في الآية فليس للدلالة على كون العمل الصالح لا ينفكّ عنهم بل لأنّ موضوع الحكم هو مجموع( الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) و لا يترتّب على مجرّد الإيمان من دون العمل الصالح أثر المغفرة و الأجر ثمّ قوله:( مِنْهُمْ ) متعلّق بمجموع الموضوع فمن حقّه أن يذكر بعد تمام الموضوع و هو( الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) ، و أمّا تقدّم الضمير في قوله:( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ ) فلأنّه مسوق سوق البشرى للمؤمنين و الأنسب لها التسريع في خطاب من بشّر بها لينشط بذلك و ينبسط لتلقّي البشرى.

و أمّا دلالة قوله:( تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً ) إلخ، على الاستمرار فإنّما يدلّ عليه في ما مضى إلى أن ينتهي إلى الحال، و أمّا في المستقبل فلا و مصبّ إشكال لغويّة الأحكام إنّما هو المستقبل دون الماضي إذ مغفرة الذنوب الماضية لا تزاحم تعلّق التكليف بل تؤكّده بخلاف تعلّق المغفرة المطلقة بما سيأتي فإنّه لا يجامع بقاء التكليف المولويّ على اعتباره فيرتفع بذلك التكاليف و هو مقطوع البطلان. على أنّ ارتفاع التكاليف يستلزم ارتفاع المعصية و يرتفع بارتفاعها موضوع المغفرة فوجود المغفرة كذلك يستلزم عدمها.

٣٣٠

( سورة الحجرات مدنيّة و هي ثمان عشرة آية)

( سورة الحجرات الآيات 1 - 10)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ  وَاتَّقُوا اللهَ  إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 1 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ( 2 ) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ  لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ( 3 ) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ( 4 ) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ  وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 5 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ( 6 ) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ  لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ  أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ( 7 ) فَضْلًا مِّنَ اللهِ وَنِعْمَةً  وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 8 ) وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا  فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللهِ  فَإِن فَاءَتْ

٣٣١

فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا  إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( 9 ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ  وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 10 )

( بيان‏)

تتضمّن السورة مسائل من شرائع الدين بها تتمّ الحياة السعيدة للفرد و يستقرّ النظام الصالح الطيّب في المجتمع منها ما هو أدب جميل للعبد مع الله سبحانه و مع رسوله كما في الآيات الخمس في مفتتح السورة، و منها ما يتعلّق بالإنسان مع أمثاله من حيث وقوعهم في المجتمع الحيويّ، و منها ما يتعلّق بتفاضل الأفراد و هو من أهمّ ما ينتظم به الاجتماع المدنيّ و يهدي الإنسان إلى الحياة السعيدة و العيش الطيّب الهني‏ء و يتميّز به دين الحقّ من غيره من السنن الاجتماعيّة القانونيّة و غيرها و تختتم السورة بالإشارة إلى حقيقة الإيمان و الإسلام و امتنانه تعالى بما يفيضه من نور الإيمان.

و السورة مدنيّة بشهادة مضامين آياتها سوى ما قيل في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى‏ ) الآية و سيجي‏ء.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) بين يدي الشي‏ء أمامه و هو استعمال شائع مجازيّ أو استعاريّ و إضافته إلى الله و رسوله معاً لا إلى الرسول دليل على أنّه أمر مشترك بينه تعالى و بين رسوله و هو مقام الحكم الّذي يختصّ بالله سبحانه و برسوله بإذنه كما قال تعالى:( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) يوسف: 40، و قال:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ ) النساء: 64.

و من الشاهد على ذلك تصدير النهي بقوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) و تذييله بقوله:( وَ اتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) الظاهر في أنّ المراد بما بين يدي الله و رسوله

٣٣٢

هو المقام الّذي يربط المؤمنين المتّقين بالله و رسوله و هو مقام الحكم الّذي يأخذون منه أحكامهم الاعتقاديّة و العمليّة.

و بذلك يظهر أنّ المراد بقوله:( لا تُقَدِّمُوا ) تقديم شي‏ء مّا من الحكم قبال حكم الله و رسوله إمّا بالاستباق إلى قول قبل أن يأخذوا القول فيه من الله و رسوله أو إلى فعل قبل أن يتلقّوا الأمر به من الله و رسوله لكن تذييله تعالى النهي بقوله:( إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) يناسب تقديم القول دون تقديم الفعل و دون الأعمّ الشامل للقول و الفعل و إلّا لقيل: إنّ الله سميع بصير ليحاذي بالسميع القول و بالبصير الفعل كما يأتي تعالى في كثير من موارد الفعل بمثل قوله:( وَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) الحديد: 4، فمحصّل المعنى: أن لا تحكموا فيما لله و لرسوله فيه حكم إلّا بعد حكم الله و رسوله أي لا تحكموا إلّا بحكم الله و رسوله و لتكن عليكم سمة الاتّباع و الاقتفاء.

لكن بالنظر إلى أنّ كلّ فعل و ترك من الإنسان لا يخلو من حكم له فيه و كذلك العزم و الإرادة إلى فعل أو ترك يدخل الأفعال و التروك و كذا إرادتها و العزم عليها في حكم الاتّباع، و يفيد النهي عن التقديم بين يدي الله و رسوله النهي عن المبادرة و الإقدام إلى قول لم يسمع من الله و رسوله، و إلى فعل أو ترك أو عزم و إرادة بالنسبة إلى شي‏ء منهما قبل تلقّي الحكم من الله و رسوله فتكون الآية قريبة المعنى من قوله تعالى في صفة الملائكة:( بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) الأنبياء: 27.

و هذا الاتّباع المندوب إليه بقوله:( لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَ رَسُولِهِ ) هو الدخول في ولاية الله و الوقوف في موقف العبوديّة و السير في مسيرها بجعل العبد مشيّته تابعة لمشيّة الله في مرحلة التشريع كما أنّها تابعة لها في مرحلة التكوين قال تعالى:( وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) الإنسان: 30، و قال:( وَ اللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) آل عمران: 68، و قال:( وَ اللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ) الجاثية: 19.

و للقوم في قوله تعالى:( لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَ رَسُولِهِ ) وجوه:

منها: أنّ التقديم بمعنى التقدّم فهو لازم و معنى( لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ

٣٣٣

وَ رَسُولِهِ ) لا تعجلوا بالأمر و النهي دون الله و رسوله و لا تقطعوا بالأمر و النهي دون الله و رسوله، و ربّما قيل: إنّ التقديم في الآية بمعناه المعروف لكنّه مستعمل بالإعراض عن متعلّقاته كقوله:( يُحْيِي وَ يُمِيتُ ) الحديد: 2، فيؤل المعنى إلى مجرّد كون شي‏ء قدّام شي‏ء فيرجع إلى معنى التقدّم.

و اللفظ مطلق يشمل التقدّم في قول أو فعل حتّى التقدّم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المشية و الجلسة، و التقدّم بالطاعات الموقّتة قبل وقتها و غير ذلك.

و منها: أنّ المراد النهي عن التكلّم قبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أي إذا كنتم في مجلسه و سئل عن شي‏ء فلا تسبقوه بالجواب حتّى يجيب هو أوّلاً.

و منها: أنّ المعنى: لا تسبقوه بقول أو فعل حتّى يأمركم به.

و منها: أنّ المعنى: لا تقدّموا أقوالكم و أفعالكم على قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و فعله و لا تمكّنوا أحداً يمشي أمامه.

و الظاهر أنّ تفسير( لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَ رَسُولِهِ ) بالنهي عن التقديم بين يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقط في هذه الوجوه الثلاثة الأخيرة مبنيّ على حملهم ذكر الله تعالى مع رسوله في الآية على نوع من التشريف كقوله: أعجبني زيد و كرمه فيكون ذكره تعالى للإشارة إلى أنّ السبقة على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أيّ حال في معنى السبقة على الله سبحانه.

و لعلّ التأمّل فيما قدّمناه من الوجه يكفيك في المنع عن المصير إلى شي‏ء من هذه الوجوه.

و قوله:( وَ اتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) أمر بالتقوى في موقف الاتّباع و العبوديّة و لا ظرف للإنسان إلّا ظرف العبوديّة و لذلك أطلق التقوى.

و في قوله:( إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) تعليل للنهي و التقوى فيه أي اتّقوه بالانتهاء عن هذا النهي فلا تقدّموا قولا بلسانكم و لا في سرّكم لأنّ الله سميع يسمع أقوالكم عليم يعلم ظاهركم و باطنكم و علانيتكم و سرّكم.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ )

٣٣٤

إلخ، و ذلك بأن تكون أصواتهم عند مخاطبته و تكليمهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرفع من صوته و أجهر لأنّ في ذلك كما قيل أحد شيئين: إمّا نوع استخفاف به و هو الكفر، و إمّا إساءة الأدب بالنسبة إلى مقامه و هو خلاف التعظيم و التوقير المأمور به.

و قوله:( وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ) فإنّ من التعظيم عند التخاطب أن يكون صوت المتكلّم أخفض من صوت مخاطبه فمطلق الجهر بالخطاب فاقد لمعنى التعظيم فخطاب العظماء بالجهر فيه كخطاب عامّة الناس لا يخلو من إساءة الأدب و الوقاحة.

و قوله:( أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) أي لئلّا تحبط أو كراهة أن تحبط أعمالكم، و هو متعلّق بالنهيين جميعاً أي إنّما نهيناكم عن رفع الصوت فوق صوته و الجهر له بالقول كجهر بعضكم لبعض لئلا تبطل أعمالكم بذلك من حيث لا تشعرون فإنّ فيهما الحبط، و قد تقدّم القول في الحبط في الجزء الثاني من الكتاب.

و جوّز بعضهم كون( أَنْ تَحْبَطَ ) إلخ، تعليلاً للمنهي عنه و هو الرفع و الجهر، و المعنى: فعلكم ذلك لأجل الحبوط منهيّ عنه، و الفرق بين تعليله للنهي و تعليله للمنهيّ عنه أنّ الفعل المنهيّ عنه معلّل على الأوّل و الفعل المعلّل منهيّ عنه على الثاني، و فيه تكلّف ظاهر.

و ظاهر الآية أنّ رفع الصوت فوق صوت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الجهر له بالقول معصيتان موجبتان للحبط فيكون من المعاصي غير الكفر ما يوجب الحبط.

و قد توجّه الآية بأنّ المراد بالحبط فقدان نفس العمل للثواب لا إبطال العمل ثواب سائر الأعمال كما في الكفر، قال في مجمع البيان: و قال أصحابنا: إنّ المعنى في قوله:( أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ ) أنّه ينحبط ثواب ذلك العمل لأنّهم لو أوقعوه على وجه تعظيم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و توقيره لاستحقّوا الثواب فلمّا أوقعوه على خلاف ذلك الوجه استحقّوا العقاب و فاتهم ذلك الثواب فانحبط عملهم فلا تعلّق لأهل الوعيد بهذه الآية.

و لأنّه تعالى علّق الإحباط في هذه الآية بنفس العمل و هم يعلّقونه بالمستحقّ على العمل و ذلك خلاف الظاهر. انتهى.

٣٣٥

و فيه أنّ الحبط المتعلّق بالكفر الّذي لا ريب في تعلّقه بثواب الأعمال أيضاً متعلّق في كلامه بنفس الأعمال كما في هذه الآية فلتحمل هذه على ما حملت عليه ذلك من غير فرق، و كونه خلاف الظاهر ممنوع فإنّ بطلان العمل بطلان أثره المترتّب عليه.

و قد توجّه الآية أيضاً بالبناء على اختصاص الحبط بالكفر بأنّ رفع الصوت فوق صوت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الجهر له بالقول ليساً بمحبطين من حيث أنفسهما بل من حيث إدّائهما أحياناً إلى إيذائهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إيذاؤه كفر و الكفر محبط للعمل.

قال بعضهم: المراد في الآية النهي عن رفع الصوت مطلقاً و معلوم أنّ ملاكه التحذّر ممّا يتوقّع فيه من إيذاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي هو كفر محبط للعمل بالاتّفاق. فورد النهي عمّا هو مظنّة أذاه - سواء وجد هذا المعنى أو لا - حماية للحومة و حسما للمادّة.

ثمّ لمّا كان هذا المنهيّ عنه منقسماً إلى ما يبلغ حدّ الكفر و هو المؤذي له عليه الصلاة و السلام و إلى ما لا يبلغ ذلك المبلغ، و لا دليل يميّز أحد القسمين من الآخر و لو فرض وجوده لم يلتفت إليه في كثير من الأحيان، لزم المكلّف أن يكفّ عن ذلك مطلقاً مخافة أن يقع فيما هو محبط للعمل و هو البالغ حدّ الأذى.

و إلى التباس أحد القسمين بالآخر الإشارة بقوله تعالى:( أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) و إلّا فلو كان رفع الصوت و الجهر بالقول منهيّاً عنهما مطلقاً سواء بلغاً حدّ الأذى أو لم يبلغاً لم يكن موقع لقوله تعالى:( وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) إذ الأمر منحصر بين أن يكون رفع الصوت أو الجهر بالقول بالغاً حدّ الأذى فيكون كفراً محبطاً قطعاً أو غير بالغ فيكون أيضاً ذنباً محبطاً قطعاً فالإحباط محقّق على أيّ تقدير فلا موقع لإدعام الكلام بعدم الشعور مع أنّ الشعور ثابت مطلقاً للعلم به بعد النهي. انتهى ملخّصاً.

و فيه أنّ ظهور قوله:( لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ) في النهي النفسيّ دون النهي المقدّمي أخذاً بالاحتياط ممّا لا ريب فيه لكنّ كلاً من الفعلين ممّا يدرك كونه عملاً سيّئاً عقلاً قبل ورود النهي الشرعيّ عنه كالافتراء و الإفك، و كان الّذين يأتون بهما المؤمنين كما صدّر النهي بقوله:( يا

٣٣٦

أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) و هم و إن أمكن أن يسامحوا في بعض السيّئات بحسبانه هيّنا لكنّهم لا يرضون ببطلان إيمانهم و أعمالهم الصالحة من أصله.

فنبّه سبحانه بقوله:( أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) على أنّكم لا تشعرون بما لذلك من الأثر الهائل العظيم فإنّما هو إحباط الأعمال فلا تقربوا شيئاً منهما أن تحبط أعمالكم و أنتم لا تشعرون.

فقوله:( وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) ناظر إلى حالهم قبل النهي حيث كانوا يشعرون بكون الفعل سيّئة لكنّهم ما كانوا يعلمون بعظمة مساءته لهذا الحدّ، و أمّا بعد صدور البيان الإلهيّ فهم شاعرون بالإحباط.

فالآية من وجه نظيره قوله تعالى في آيات الإفك:( وَ تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ ) النور: 15، و قوله في آيات القيامة:( وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ) الزمر: 47.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى‏ ) إلخ، غضّ الصوت خلاف رفعه، و معنى الامتحان الابتلاء و الاختبار و إنّما يكون لتحصيل العلم بحال الشي‏ء المجهول قبل ذلك، و إذ يستحيل ذلك في حقّه تعالى فالمراد به هنا التمرين و التعويد - كما قيل - أو حمل المحنة و المشقّة على القلب ليعتاد بالتقوى.

و الآية مسوقة للوعد الجميل على غضّ الصوت عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد توصيفهم بأنّ قلوبهم ممتحنة للتقوى و الّذي امتحنهم لذلك هو الله سبحانه، و فيه تأكيد و تقوية لمضمون الآية السابقة و تشويق للانتهاء بما فيها من النهي.

و في التعبير عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الآية برسول الله بعد التعبير عنه في الآية السابقة بالنبيّ إشارة إلى ملاك الحكم فإنّ الرسول بما هو رسول ليس له من الأمر شي‏ء فما له فلمرسله، و تعظيمه و توقيره تعظيم لمرسله و توقير له فغضّ الصوت عند رسول الله تعظيم و تكبير لله سبحانه، و المداومة و الاستمرار على ذلك - كما يستفاد من قوله:( يَغُضُّونَ) المفيد للاستمرار - كاشف عن تخلّقهم بالتقوى و امتحانه تعالى قلوبهم للتقوى.

٣٣٧

و قوله:( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) وعد جميل لهم بإزاء ما في قلوبهم من تقوى الله، و العاقبة للتقوى.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) سياق الآية يؤدّي أنّه واقع و أنّهم كانوا قوماً من الجفاة ينادونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من وراء حجرات بيته من غير رعاية لمقتضى الأدب و واجب التعظيم و التوقير فذمّهم الله سبحانه حيث وصف أكثرهم بأنّهم لا يعقلون كالبهائم من الحيوان.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ اللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أي و لو أنّهم صبروا عن ندائك فلم ينادوك حتّى تخرج إليهم لكان خيراً لما فيه من حسن الأدب و رعاية التعظيم و التوقير لمقام الرسالة، و كان ذلك مقرّباً لهم إلى مغفرة الله و رحمته لأنّه غفور رحيم.

فقوله:( وَ اللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) كالناظر إلى ما ذكر من الصبر و يمكن أن يكون ناظراً إلى كون أكثرهم لا يعقلون و المعنى: أنّ ما صدر عنهم من الجهالة و سوء الأدب معفوّ عنه لأنّه لم يكن عن تعقّل و فهم منهم بل عن قصور في ذلك و الله غفور رحيم.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) إلخ، الفاسق - كما قيل - الخارج عن الطاعة إلى المعصية، و النبأ الخبر العظيم الشأن، و التبيّن و الاستبانة و الإبانة - على ما في الصحاح - بمعنى واحد و هي تتعدّى و لا تتعدّى فإذا تعدّت كانت بمعنى الإيضاح و الإظهار يقال: تبيّنت الأمر و استبنته و أبنته أي أوضحته و أظهرته، و إذا لزمت كانت بمعنى الاتّضاح و الظهور يقال: أبان الأمر و استبان و تبيّن أي اتّضح و ظهر.

و معنى الآية: يا أيّها الّذين آمنوا إن جاءكم فاسق بخبر ذي شأن فتبيّنوا خبره بالبحث و الفحص للوقوف على حقيقته حذر أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصيروا نادمين على ما فعلتم بهم.

و قد أمضى الله سبحانه في هذه الآية أصل العمل بالخبر و هو من الاُصول العقلائيّة الّتي يبتني عليه أساس الحياة الاجتماعيّة الإنسانيّة، و أمر بالتبيّن في خبر

٣٣٨

الفاسق و هو في معنى النهي عن العمل بخبره، و حقيقته الكشف عن عدم اعتبار حجّيّته و هذا أيضاً كالإمضاء لما بني عليه العقلاء من عدم حجّيّة الخبر الّذي لا يوثق بمن يخبر به و عدم ترتيب الأثر على خبره.

بيان ذلك: أنّ حياة الإنسان حياة علميّة يبني فيها سلوكه طريق الحياة على ما يشاهده من الخير و الشرّ و النافع و الضارّ و الرأي الّذي يأخذ به فيه، و لا يتيسّر له ذلك إلّا فيما هو بمرأى منه و مشهد، و ما غاب عنه ممّا تتعلّق به حياته و معاشه أكثر ممّا يحضره و أكثر فاضطرّ إلى تتميم ما عنده من العلم بما هو عند غيره من العلم الحاصل بالمشاهدة و النظر، و لا طريق إليه إلّا السمع و هو الخبر.

فالركون إلى الخبر بمعنى ترتيب الأثر عليه عملاً و معاملة مضمونة معاملة العلم الحاصل للإنسان من طريق المشاهدة و النظر في الجملة ممّا يتوقّف عليه حياة الإنسان الاجتماعيّة توقّفاً ابتدائيّاً، و عليه بناء العقلاء و مدار العمل.

فالخبر إن كان متواتراً أو محفوفاً بقرائن قطعيّة توجب قطعيّة مضمونه كان حجّة معتبرة من غير توقّف فيها فإن لم يكن متواتراً و لا محفوفاً بما يفيد قطعيّة مضمونه و هو المسمّى بخبر الواحد اصطلاحاً كان المعتبر منه عندهم ما هو الموثوق به بحسب نوعه و إن لم يفده بحسب شخصه، و كلّ ذلك لأنّهم لا يعملون إلّا بما يرونه علماً و هو العلم الحقيقيّ أو الوثوق و الظنّ الاطمئنانيّ المعدود علماً عادة.

إذا تمهّد هذا فقوله تعالى في تعليل الأمر بالتبيّن في خبر الفاسق:( أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ ) إلخ، يفيد أنّ المأمور به هو رفع الجهالة و حصول العلم بمضمون الخبر عند ما يراد العمل به و ترتيب الأثر عليه ففي الآية إثبات ما أثبته العقلاء و نفي ما نفوه في هذا الباب، و هو إمضاء لا تأسيس.

قوله تعالى: ( وَ اعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ) إلخ، العنت الإثم و الهلاك، و الطوع و الطاعة الانقياد لكن أكثر ما يقال الطاعة في الائتمار لما اُمر و الارتسام لما رسم على ما ذكره الراغب لكن ربّما يعكس الأمر فيسمّى جري المتبوع على ما يريده التابع و يهواه طاعة من المتبوع للتابع و منه قوله

٣٣٩

تعالى في الآية:( لَوْ يُطِيعُكُمْ ) حيث سمّي عمل الرسول على ما يراه و يهواه المؤمنون طاعة منه لهم.

و الآية على ما يفيده السياق من تتمّة الكلام في الآية السابقة تعمّم ما فيها من الحكم و تؤكّد ما فيها من التعليل فمضمون الآية السابقة الحكم بوجوب التبيّن في خبر الفاسق و تعليله بوجوب التحرّز عن بناء العمل على الجهالة، و مضمون هذه الآية تنبيه المؤمنين على أنّ الله سبحانه أوردهم شرع الرشد و لذلك حبّب إليهم الإيمان و زيّنة في قلوبهم و كرّه إليهم الكفر و الفسوق و العصيان فعليهم أن لا يغفلوا عن أنّ فيهم رسول الله و هو مؤيّد من عند الله و على بيّنة من ربّه لا يسلك إلّا سبيل الرشد دون الغيّ فعليهم أن يطيعوا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما يأمرهم به و يريدوا ما أراده و يختاروا ما اختاره، و لا يصرّوا على أن يطيعهم في آرائهم و أهوائهم فإنّه لو يطيعهم في كثير من الأمر جهدوا و هلكوا.

فقوله:( وَ اعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ ) عطف على قوله في الآية السابقة:( فَتَبَيَّنُوا ) و تقديم الخبر للدلالة على الحصر، و الإشارة إلى ما هو لازمه فإنّ اختصاصهم بكون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم لازمه أن يتعلّقوا بالرشد و يتجنّبوا الغيّ و يرجعوا الاُمور إليه و يطيعوه و يتّبعوا أثره و لا يتعلّقوا بما تستدعيه منهم أهواؤهم.

فالمعنى: و لا تنسوا أنّ فيكم رسول الله، و هو كناية عن أنّه يجب عليهم أن يرجعوا الاُمور و يسيروا فيما يواجهونه من الحوادث على ما يراه و يأمر به من غير أن يتّبعوا أهواء أنفسهم.

و قوله:( لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ) أي جهدتم و هلكتم، و الجملة كالجواب لسؤال مقدّر كأنّ سائلاً يسأل فيقول: لما ذا نرجع إليه و لا يرجع إلينا و لا يوافقنا؟ فاُجيب بأنّه( لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ) .

و قوله:( وَ لكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ) استدراك عمّا يدلّ عليه الجملة السابقة:( لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ) من أنّهم مشرفون بالطبع على الهلاك و الغيّ فاستدرك أنّ الله سبحانه أصلح ذلك بما أنعم عليهم من تحبيب

٣٤٠