الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 429

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 429 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 120165 / تحميل: 6179
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

كما أن من الطبيعي أن يثير دهشتهم، ويذهلهم.. بعد أن لم يكن بينهم رجالات كفاة، يدركون ألاعيب السياسة، ودهاء ومكر الرجال. وقد عبر عن دهشتهم هذه نفس الخليفة الذي اختاروه، واستعاضوا به عن المأمون. فلقد قال ابن شكلة معاتبا العباسيين:

فـلا جزيت بنو العباس خيراً

على رغمي ولا اغتبطت بري

أتـوني مـهطعين، وقد أتاهم

بـوار الـدهر بالخبر الجلي

وقد ذهل الحواضن عن بنيها

وصـد الثدي عن فمه الصبي

وحـل عصائب الأملاك منها

فـشدت فـي رقاب بني علي

فضجت أن تشد على رؤوس

تـطالبها بـميراث النبي(١)

ب ـ ولكن دهشتهم وغضبهم لا قيمة لهما، في جانب ذهاب الخلافة عنهم بالكلية، وسفك دمائهم.. وقد أوضح لهم ذلك في رسالة منه إليهم، حيث قال: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى، بعد استحقاق منه لها في نفسه، فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم.). والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.

وقريب من ذلك ما جاء في وثيقة العهد، مخاطباً (أهل بيت أمير المؤمنين) حيث قال لهم: (.. راجين عائدته في ذلك (أي في البيعة للرضاعليه‌السلام ) في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم، ولم شعثكم، وسد ثغوركم.) فليغضبوا إذن قليلاً، فإنهم سوف يفرحون في نهاية الأمر كثيراً، وذلك عندما يعرفون الأهداف الحقيقية، التي كانت تكمن وراء تلك اللعبة، وأنها لم تكن إلا من أجل الإبقاء عليهم، واستمرار وجودهم في الحكم، والقضاء على أخطر خصومهم، الذين لن يكون الصدام المسلح معهم في صالحهم، إنهم دون شك عندما تؤتي تلك اللعبة ثمارها سوف يشكرونه، ويعترفون له بالجميل، ويعتبرون أنفسهم مدينين له مدى الحياة، ولسوف يذكرون دائما قوله لهم في رسالته المشار إلها آنفاً: (.. فإن تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم (يعني للعلويين) عاقبة ومنفعة، فإني في تدبيركم، والنظر لكم، ولعقبكم، ولأبنائكم من بعدكم.).

____________

(١) التنبيه والإشراف ص ٣٠٣، والولاة والقضاة للكندي ص ١٦٨.

١٨١

ومضمون هذه العبارة بعينه ـ تقريباً ـ قد جاء في وثيقة العهد، حيث قال فيها، موجها كلامه للعباسيين، رجاء أن يلتفتوا لما يرمي إليه من لعبته تلك.. فبعد أن طلب منهم بيعة منشرحة لها صدورهم ـ قال ـ: (.. عالمين بما أراد أمير المؤمنين بها، وآثر طاعة الله، والنظر لنفسه، ولكم فيها، شاكرين الله على ما ألهم أمير المؤمنين، من قضاء حقه في رعايتكم، وحرصه على رشدكم، وصلاحكم، راجين عائدته في ذلك في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم إلخ. ما قومناه..).

لا شك أنه إذا غضب عليه العباسيون، فإنه يقدر على إرضائهم في المستقبل، (وقد حدث ذلك بالفعل) عندما يطلعهم على حقيقة نواياه، ومخططاته، وأهدافه، ولكنه إذا خسر مركزه، وخلافته، فإنه لا يستطيع ـ فيما بعد ـ أن يستعيدها بسهولة، أو أن يعتاض عنها بشيء ذي بال.

ج ـ: إن من الإنصاف هنا أن نقول: إن اختيار المأمون للرضاعليه‌السلام ولياً للعهد، كان اختياراً موفقاً للغاية، كما سيتضح، وإنه لخير دليل على حنكته ودهائه، وإدراكه للأسباب الحقيقية للمشاكل التي كان يواجهها المأمون، ويعاني منها ما يعاني.

د ـ: إن من الأمور الجديرة بالملاحظة هنا هو أن اختيار المأمون لولي عهده، الذي لم يقبل إلا بعد التهديد بالقتل.. كان ينطوي في بادئ الرأي على مغامرة لا تنسجم مع ما هو معروف عن المأمون من الدهاء والسياسة، إذا ما أخذت مكانة الإمامعليه‌السلام ، ونفوذه بنظر الاعتبار، سيما مع ملاحظة: أنه هو الذي كان يشكل أكبر مصدر للخطر على المأمون، ونظام حكمه، حيث إنه كان يحظى بالاحترام والتقدير، والتأييد الواسع في مختلف الفئات والطبقات في الأمة الإسلامية.

ولكننا إذا دققنا الملاحظة نجد أن المأمون لم يقدم على اختيار الإمام وليا للعهد، إلا وهو على ثقة من استمرار الخلافة في بني أبيه، حيث كان الإمامعليه‌السلام يكبره بـ (٢٢) سنة، وعليه فجعل ولاية العهد لرجل بينه، وبين الخليفة الفعلي هذا الفارق الكبير بالسن، لم يكن يشكل خطراً على الخلافة، إذ لم يكن من المعروف، ولا المألوف أن يعيش ولي العهد ـ وهو بهذه السن المتقدمة ـ لو فرض سلامته من الدسائس والمؤامرات!.. إلى ما بعد الخليفة الفعلي، فإن ذلك من الأمور التي يبعد احتمالها جداً.

١٨٢

ه‍ ـ: ولهذا.. ولأن ما أقدم عليه لم يكن منتظراً من مثله، وهو الذي قتل أخاه من أجل الخلافة والملك، ولأنه من تلك السلالة المعادية لأهل البيتعليهم‌السلام .. احتاج المأمون إلى أن يثبت صدقه، وإخلاصه فيما أقدم عليه، وأن يقنع الناس بصفاء نيته، وسلامة طويته.. فأقدم لذلك. على عدة أعمال:

فأولاً: أقدم على نزع السواد شعار العباسيين، ولبس الخضرة شعار العلويين وكان يقول: إنه لباس أهل الجنة(١) . حتى إذا ما انتهى دور هذه الظاهرة بوفاة الإمام الرضاعليه‌السلام وتمكنه هو من دخول بغداد عاد إلى لبس السواد شعار العباسيين، بعد ثمانية أيام فقط من وصوله، على حد قول أكثر المؤرخين، وقيل: بل بقي ثلاثة أشهر. نزع الخضرة رغم أن العباسيين، تابعوه، وأطاعوه في لبسها، وجعلوا يحرقون كل ملبوس يرونه من السواد، على ما صرح به في مآثر الإنافة، والبداية والنهاية، وغير ذلك.

____________

(١) الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ٦٢ عن ابن الأثير.

١٨٣

وثانياً: ولنفس السبب(١) أيضاً نراه قد ضرب النقود باسم الإمام الرضاعليه‌السلام .

وثالثاً: أقدم للسبب نفسه على تزويج الإمام الرضاعليه‌السلام ابنته، رغم أنها كانت بمثابة حفيدة له، حيث كان يكبرها الإمامعليه‌السلام بحوالي أربعين سنة. كما أنه زوج ابنته الأخرى للإمام الجوادعليه‌السلام الذي كان لا يزال صغيراً، أي ابن سبع سنين(٢) .

ومن يدري: فلعله كان يهدف من تزويجهما أيضاً إلى أن يجعل عليهما رقابة داخلية. وأن يمهد السبيل، لكي تكون الأداة الفعالة، التي

____________

(١) التربية الدينية ص ١٠٠.

(٢) راجع مروج الذهب ج ٣ / ٤٤١، وغيره من كتب التاريخ. وفي الطبري ج ١١ / ١١٠٣، طبع ليدن، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٦٩: أنهعليه‌السلام لم يدخل بها إلا في سنة ٢١٥ للهجرة، ولكن يظهر من اليعقوبي ج ٢ / ٤٥٤ ط صادر: أنه زوج الجواد ابنته بعد وصوله إلى بغداد، وأمر له بألفي ألف درهم، وقال: إني أحببت أن أكون جداً لامرئ ولده رسول الله، وعلي بن أبي طالب، فلم تلد منه انتهى. وهذا يدل على أنه قد بادر إلى تزويج الجواد بعد قتل أبيه الرضاعليه‌السلام ليبرئ نفسه من الاتهام بقتل الرضاعليه‌السلام ، حيث إن الناس كانوا مقتنعين تقريباً بذلك ومطمئنين إليه، وسيأتي في أواخر الكتاب البحث عن ظروف وملابسات وفاتهعليه‌السلام ويلاحظ: أن كلمة المأمون هذه تشبه إلى حد بعيد كلمة عمر بن الخطاب حينما أراد أن يبرر إصراره غير الطبيعي على الزواج بأم كلثوم بنت عليعليه‌السلام حتى لقد استعمل أسلوباً غير مألوف في التهديد والوعيد من أجل الوصول إلى ما يريد.

١٨٤

يستعملها في القضاء على الإمامعليه‌السلام ، كما كان الحال بالنسبة لولده الإمام الجواد، الذي قتل بالسم الذي دسته إليه ابنة المأمون، بأمر من عمها المعتصم(١) ، فيكون بذلك قد أصاب عدة عصافير بحجر واحد. كما يقولون..

ويجب أن نتذكر هنا: أن المأمون كان قد حاول أن يلعب نفس هذه اللعبة مع وزيره الفضل بن سهل، فألح عليه أن يزوجه ابنته فرفض، وكان الرأي العام معه، فلم يستطع المأمون أن يفعل شيئاً، كما سنشير إليه.. لكن الإمامعليه‌السلام لم يكن له إلى الرفض سبيل، ولم يكن يستطيع أن يصرح بمجبوريته على مثل هكذا زواج. لأن الرأي العام لا يقبل ذلك منه بسهولة.. بل ربما كان ذلك الرفض سبباً في تقليل ثقة الناس بالإمام، حيث يرون حينئذٍ أنه لا مبرر لشكوكه تلك، التي تجاوزت ـ بنظرهم حينئذٍ ـ كل الحدود المألوفة والمعروفة..

وعلى كل حال: فإن كل الشواهد والدلائل تشير إلى أن زواج الإمام من ابنة المأمون كان سياسياً، مفروضاً إلى حد ما.. كما أننا لا نستبعد أن يكون زواج المأمون من بوران بنت الحسن بن سهل سياسياً أيضاً، حيث أراد بذلك أن يوثق علاقاته مع الإيرانيين، ويجعلهم يطمئنون إليه، خصوصاً بعد عودته إلى بغداد، وتركه مروا، وليبرئ نفسه من دم الفضل بن سهل، ويكتسب ثقة أخيه الحسن بن سهل، المعرف بثرائه ونفوذه.

ورابعاً: وللسبب نفسه أيضاً كان يظهر الاحترام والتبجيل للإمامعليه‌السلام ـ وإن كان يضيق عليه في الباطن(٢) ـ وكذلك كانت الحال بالنسبة لإكرامه للعلويين، حيث قد صرح هو نفسه بأن إكرامه لهم ما كان إلا سياسة منه ودهاء، ومن أجل الوصول إلى أهداف سياسية معينة، فقد قال في رسالته للعباسيين، المذكورة في أواخر هذا الكتاب: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى.. فما كان ذلك مني، إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم. وهي الطريق أسلكها في إكرام آل أبي طالب، ومواساتهم في الفيء، بيسير ما يصيبهم منه.).

____________

(١) ولعله قد استفاد ذلك من سلفه معاوية، وما جرى له مع الإمام الحسن السبطعليه‌السلام .

(٢) وقد سبقه إلى مثل ذلك سليمان عم الرشيد، عندما أرسل غلمانه، فأخذوا جنازة الكاظمعليه‌السلام من غلمان الرشيد، وطردوهم. ثم نادوا عليه بذلك النداء المعروف، اللائق بشأنه، فمدحه الرشيد، واعتذر إليه، ولام نفسه، حيث لم يأخذ في اعتباره ما يترتب على ما أقدم عليه من ردة فعل لدى الشيعة، ومحبي أهل البيتعليهم‌السلام ، والذين قد لا يكون للرشيد القدرة على مواجهتهم. وتبعه أيضاً المتوكل، حيث جاء بالإمام الهاديعليه‌السلام إلى سامراء، فكان يكرمه في ظاهر الحال، ويبغي له الغوائل في باطن الأمر، فلم يقدره الله عليه.. على ما صرح به ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص ٢٢٦، والمجلسي في البحار ج ٥٠ / ٢٠٣، والمفيد في الإرشاد ص ٣١٤.

١٨٥

ويذكرني قول المأمون: (ومواساتهم في الفيء إلخ..) بقول إبراهيم بن العباس الصولي ـ وهو كاتب القوم وعاملهم ـ في الرضا عندما قربه المأمون:

يـمن عـليكم بأموالكم

وتعطون من مئة واحدا

و ـ: إن المأمون ـ ولا شك ـ كان يعلم: أن ذلك كله ـ حتى البيعة للإمام ـ لا يضره ما دام مصمما على التخلص من ولي عهده هذا بأساليبه الخاصة. بعد أن ينفذ ما تبقى من خطته الطويلة الأجل، للحط من الإمام قليلاً قليلاً، حتى يصوره للرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ كما صرح هو نفسه(١) ، وكما صرح بذلك أيضاً عبد الله بن موسى في رسالته إلى المأمون، والتي سوف نوردها في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله، حيث يقول له فيها: (.. وكنت ألطف حيلة منهم. بما استعملته من الرضا بنا، والتستر لمحننا، تختل واحداً فواحداً منا إلخ.)(٢) .

إلى غير ذلك من الشواهد والدلائل، التي لا تكاد تخفى على أي باحث، أو متتبع..

أهداف المأمون من البيعة:

هذا.. وبعد كل الذي قدمناه، فإننا نستطيع في نهاية المطاف: أن نجمل أهداف المأمون، وما كان يتوخاه من أخذ البيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد بعده.. على النحو التالي:

الهدف الأول:

أن يأمن الخطر الذي كان يتهدده من قبل تلك الشخصية الفذة، شخصية الإمام الرضاعليه‌السلام الذي كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب، وكان الأرضى في الخاصة والعامة ـ باعتراف نفس المأمون ـ، حيث لا يعود باستطاعة الإمامعليه‌السلام أن يدعو الناس إلى الثورة ولا أن يأتي بأية حركة ضد الحكم، بعد أن أصبح هو ولي العهد فيه. ولسوف لا ينظر الناس إلى أية بادرة عدائية منه لنظام الحكم القائم إلا على أنها نكران للجميل، لا مبرر لها، ولا منطق يدعمها.

____________

(١) سنتكلم في القسم الرابع من هذا الكتاب، حول تصريحات المأمون، وخططه بنوع من التفصيل إن شاء الله تعالى.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٦٢٩.

١٨٦

وقد أشار المأمون إلى ذلك، عندما صرح بأنه: خشي إن ترك الإمام على حاله: أن ينفتق عليه منه ما لا يسده، ويأتي منه عليه ما لا يطيقه فأراد أن يجعله ولي عهده ليكون دعاؤه له. كما سيأتي بيانه في فصل: مع بعض خطط المأمون إن شاء الله تعالى.

الهدف الثاني:

أن يجعل هذه الشخصية تحت المراقبة الدقيقة، والواعية من قرب، من الداخل والخارج، وليمهد الطريق من ثم إلى القضاء عليها بأساليبه الخاصة. وقد أشرنا فيما سبق، إلى أننا لا نستبعد أن يكون من جملة ما كان يهدف إليه من وراء تزويجه الإمام بابنته، هو: أن يجعل عليه رقيبا داخليا موثوقا عنده هو، ويطمئن إليه الإمام نفسه.

وإذا ما لاحظنا أيضاً، أن: (المأمون كان يدس الوصائف هدية ليطلعنه على أخبار من شاء..)(١) ، وأنه كان: للمأمون على كل واحد صاحب خبر(٢) . (.. فإننا نعرف السر في إرساله بعض جواريه إلى الإمام الرضاعليه‌السلام بعنوان: هدية.. وقد أرجعها الإمامعليه‌السلام إليه مع عدة أبيات من الشعر، عندما رآها اشمأزت من شيبه)(٣) .

ولم يكتف بذلك، بل وضع على الإمامعليه‌السلام عيوناً آخرين، يخبرونه بكل حركة من حركاته، وكل تصرف من تصرفاته.

فقد كان: (هشام بن إبراهيم الراشدي من أخص الناس عند الرضاعليه‌السلام ، وكانت أمور الرضا تجري من عنده، وعلى يده، ولكنه لما حمل إلى مرو اتصل هشام بن إبراهيم بذي الرئاستين، والمأمون،

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٥ جلد ٢ ص ٥٤٩، نقلاً عن: العقد الفريد ج ١ / ١٤٨.

(٢) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٤ جلد ٢ ص ٤٤١، نقلاً عن: المسعودي ج ٢ / ٢٢٥، وطبقات الأطباء ج ١ / ١٧١، (٣) البحار ج ٤٩ / ١٦٤، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٧٨.

١٨٧

فحظي بذلك عندهما. وكان لا يخفي عليهما شيئاً من أخباره، فولاه المأمون حجابة الرضا. وكان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب، وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه. وكان لا يتكلم الرضا في داره بشيء إلا أورده هشام على المأمون، وذي الرئاستين..)(١) وعن أبي الصلت: أن الرضا (كان يناظر العلماء، فيغلبهم، فكان الناس يقولون: والله، إنه أولى بالخلافة من المأمون، فكان أهل الأخبار يرفعون ذلك إليه..)(٢) وأخيراً.. فإننا نلاحظ: أن جعفر بن محمد بن الأشعث، يطلب من الإمامعليه‌السلام : أن يحرق كتبه إذا قرأها، مخافة أن تقع في يد غيره، ويقول الإمامعليه‌السلام مطمئناً له: «إني إذا قرأت كتبه إلي أحرقتها.)(٣) إلى غير ذلك من الدلائل والشواهد الكثيرة، التي لا نرى أننا بحاجة إلى تتبعها واستقصائها.

الهدف الثالث:

أن يجعل الإمامعليه‌السلام قريباً منه، ليتمكن من عزله عن الحياة الاجتماعية، وإبعاده عن الناس، وإبعاد الناس عنه، حتى لا يؤثر عليهم بما يمتلكه من قوة الشخصية، وبما منحه الله إياه من العلم، والعقل، والحكمة. ويريد أن يحد من ذلك النفوذ له، الذي كان يتزايد باستمرار، سواء في خراسان، أو في غيرها.

وأيضاً.. أن لا يمارس الإمام أي نشاط لا يكون له هو دور رئيس فيه، وخصوصاً بالنسبة لرجال الدولة، إذ قد يتمكن الإمامعليه‌السلام من قلوبهم، ومن ثم من تدبير شيء ضد النظام القائم. دون أن يشعر أحد.

____________

(١) البحار ج ٤٩ / ١٣٩، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ٧٧، ٧٨، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٥٣.

(٢) شرح ميمية أبي فراس ص ٢٠٤، والبحار ج ٤٩ / ٢٩٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢٣٩.

(٣) كشف الغمة ج ٣ / ٩٢، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٩.

١٨٨

والأهم من ذلك كله:

أنه كان يريد عزل الإمامعليه‌السلام عن شيعته، ومواليه، وقطع صلاتهم به، وليقطع بذلك آمالهم، ويشتت شملهم، ويمنع الإمام من أن يصدر إليهم من أوامره، ما قد يكون له أثر كبير على مستقبل المأمون، وخلافته.

وبذلك يكون أيضاً قد مهد الطريق للقضاء على الإمامعليه‌السلام نهائياً، والتخلص منه بالطريقة المناسبة، وفي الوقت المناسب.

وقد قال المأمون إنه: (يحتاج لأن يضع من الإمام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر. ثم يدبر فيه بما يحسم عنه مواد بلائه.) كما سيأتي.

وقد قرأنا آنفاً أنه: (كان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب ـ أي هشام بن إبراهيم ـ وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه).

كما أن الرضا نفسه قد كتب في رسالته منه إلى أحمد بن محمد البيزنطي، يقول:((وأما ما طلبت من الإذن علي، فإن الدخول إلي صعب، وهؤلاء قد ضيقوا علي في ذلك الآن، فلست تقدر الآن، وسيكون إن شاء الله...)) (١) .

____________

(١) رجال المامقاني ج ١ / ٧٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٢.

١٨٩

كما أننا نرى أنه عندما وصل إلى القادسية، وهو في طريقه إلى مرو، يقول لأحمد بن محمد بن أبي نصر: (إكتر لي حجرة لها بابان: باب إلى الخان، وباب إلى خارج، فإنه أستر عليك..)(١) .

ولعل ذلك هو السبب في طلبه من الإمامعليه‌السلام ، ومن رجاء بن أبي الضحاك: أن يمرا عن طريق البصرة، فالأهواز إلخ.. ما سيأتي: ولا نستبعد أيضاً أن يكون عزل الإمام عن الناس، هو أحد أسباب إرجاع الإمام الرضا عن صلاة العيد مرتين(٢) . وللسبب نفسه أيضاً فرق عنه تلامذته، عندما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس، وحتى لا يظهر علم الإمام، وفضله.. إلى آخر ما هنالك من صفحات تاريخ المأمون السوداء.

الهدف الرابع:

إن المأمون في نفس الوقت الذي يريد فيه أن يتخذ من الإمام مجناً يتقي به سخط الناس على بني العباس، ويحوط نفسه من نقمة الجمهور. يريد أيضاً، أن يستغل عاطفة الناس ومحبتهم لأهل البيت ـ والتي زادت ونمت بعد الحالة التي خلفتها الحرب بينه وبين أخيه ـ ويوظف ذلك في صالحه هو، وصالح الحكم العباسي بشكل عام.

أي أنه كان يهدف من وراء لعبته تلك، والتي كان يحسب أنها سوف تكون رابحة جداً ـ إلى أن يحصل على قاعدة شعبية، واسعة، وقوية. حيث كان يعتقد ويقدر: أن نظام حكمه سوف ينال من التأييد، والقوة، والنفوذ، بمقدار ما كان لتلك الشخصية من التأييد، والنفوذ والقوة.. وإذا ما استطاع في نهاية الأمر أن يقضي عليها، فإنه يكون قد أمن خطراً عظيماً، كان يتهدده من قبلها، بمقدار ما كان لها من العظمة والخطر.

____________

(١) بصائر الدرجات ص ٢٤٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٥٥.

(٢) هذه القضية معروفة ومشهورة، فراجع: الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص ٢٤٦، ٢٤٧، ومطالب السؤول، لمحمد بن طلحة الشافعي، طبعة حجرية ص ٨٥، وإثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٥، ومعادن الحكمة ص، ١٨٠، ١٨١، ونور الأبصار ص ١٤٣، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥، وإعلام الورى ص ٣٢٢، ٣٢٣، وروضة الواعظين ج ١ / ٢٧١، ٢٧٢، وأصول الكافي ج ١ / ٤٨٩، ٤٩٠، والبحار ج ٤٩ / ١٣٥، ١٣٦، ١٧١، ١٧٢، وعيون أخبار الرضا، وإرشاد المفيد، وأعيان الشيعة، وكشف الغمة، وغير ذلك.

ولسوف يأتي فصل: خطة الإمام، وغيره من الفصول، ما يتعلق بذلك إن شاء الله تعالى.

١٩٠

إن المأمون قد اختار لولاية عهده رجلاً يحظى بالاحترام والتقدير من جميع الفئات والطبقات، وله من النفوذ، والكلمة المسموعة، ما لم يكن لكل أحد سواه في ذلك الحين. بل لقد كان الكثيرون يرون: أن الخلافة حق له، وينظرون إلى الهيئة الحاكمة على أنها ظالمة له وغاصبة لذلك الحق:

يقول الدكتور الشيبي، وهو يتحدث عن الرضاعليه‌السلام : (إن المأمون جعله ولي عهده، لمحاولة تألف قلوب الناس ضد قومه العباسيين، الذين حاربوه، ونصروا أخاه..)(١) .

ويقول:. (.. وقد كان الرضا من قوة الشخصية، وسمو المكانة: أن التف حوله المرجئة، وأهل الحديث، والزيدية، ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته.)(٢) .

وكذلك هو يقول ـ وهو مهم فيما نحن بصدده ـ: (.. إن الرضا لم يكن بعد توليته العهد إمام الشيعة وحدهم، وإنما مر بنا:

____________

(١) الصلة بين التصوف والتشيع ص ٢٢٣، ٢٢٤.. ونحن لا نوافق الدكتور الشيبي على أنه كان يريد التقوي بذلك على العباسيين، كما اتضح، وسيتضح إن شاء الله.

(٢) المصدر السابق ص ٢١٤.

١٩١

أن الناس، حتى أهل السنة، والزيدية، وسائر الطوائف الشيعية المتناحرة.. قد اجتمعت على إمامته، وإتباعه، والالتفاف حوله.)(١) .

وهذا كما ترى تصريح واضح منه بهدف المأمون، الذي نحن بصدد بيانه.

ويقول محمد بن طلحة الشافعي مشيراً إلى ذلك، في معرض حديثه عن الإمام الرضاعليه‌السلام : (.. نما إيمانه، وعلا شأنه، وارتفع مكانه، وكثر أعوانه، وظهر برهانه، حتى أدخله الخليفة المأمون محل مهجته، وأشركه في مملكته.)(٢) .

وتقدم أنهعليه‌السلام كان ـ باعتراف المأمون ـ (الأرضى في الخاصة والعامة) وأن كتبه كانت تنفذ في المشرق والمغرب، حتى إن البيعة له بولاية العهد، لم تزده في النعمة شيئاً.. وأنه كان له من قوة الشخصية ما دفع أحد أعدائه لأن يقول في حقه للمأمون: (هذا الذي بجنبك والله صنم يعبد دون الله) إلى آخر ما هنالك، مما قدمنا (غيضاً من فيض منه).

كما وتقدم أيضاً قول المأمون في رسالته للعباسيين: (.. وإن تزعموا: أني أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة ـ يعني للعلويين ـ، فإني في تدبيركم، والنظر لكم. ولعقبكم، وأبنائكم من بعدكم..)، وأيضاً عبارته التي كتبها المأمون بخط يده في وثيقة العهد، فلا نعيد.

وهكذا.. فما على العباسيين إلا أن ينعموا بالاً، ويقروا عيناً، فإن المأمون كان يدبر الأمر لصالحهم ومن أجلهم.. وليس كما يقوله الدكتور الشيبي، وغيره من أنه أراد أن يحصل على التأييد الواسع، ليقابل العباسيين، ويقف في وجههم.

____________

(١) المصدر السابق ص ٢٥٦.

(٢) مطالب السؤول ص ٨٤، ٨٥. وقريب منه ما في: الإتحاف بحب الأشراف ص ٥٨.

١٩٢

إشارة هامة لا بد منها:

هذا.. ويحسن بنا أن نشير هنا: إلى ما قاله ابن المعتز في الروافض. وإلقاء نظرة فاحصة على السبب الذي جعلهم مستحقين لهذه الحملة الشعواء منه.. فهو يقول:

لـقد قـال الروافض في علي

مـقالاً جـامعاً كـفراً وموقا

زنـادقة أرادت كـسب مـال

مـن الـجهال فـاتخذته سوقا

وأشـهـد أنـه مـنهم بـريّ

وكـان بـأن يـقتلهم خـليقا

كـما كـذبوا عـليه وهو حي

فـأطعم نـاره مـنهم فـريقا

وكـانوا بالرضا شغفوا زماناً

وقـد نفخوا به في الناس بوقا

وقـالـوا: إنـه رب قـديرا

فكم لصق السواد به لصوقا(١)

وهذه الأبيات تعبر عن مدى صدمة ابن المعتز، وخيبة أمله في الروافض، الذين ضايقه جداً امتداد دعوتهم في طول البلاد الإسلامية، وعرضها. وخصوصاً في زمن الرضا. والذي لم يجد شيئاً يستطيع أن ينتقص به إمامهم الرضاعليه‌السلام سوى أنه كان أسود اللون، وأن الروافض قالوا: إنه رب قدير.. وسر حنقه هذا على الروافض ليس هو إلا عقيدتهم في عليعليه‌السلام ـ التي كان يراها خطراً حقيقياً على القضية العباسية ـ والتي تتلخص بأنهعليه‌السلام : يستحق الخلافة بالنص. وهذه العقيدة والمقالة هي التي جعلتهم يستحقون من ابن المعتز أن يجمع لهم بين وصفي الكفر والزندقة، واتهامه لهم، بأنهم يقصدون بذلك كسب المال من الجهال. ثم يتهمهم بأنهم قد قالوا بنفس هذه المقالة في علي الرضاعليه‌السلام ، فقالوا: إنه الإمام الثابت إمامته بالنص، وشهروا بذلك، حتى علم به عامة الناس، ونفخوا به في الناس بوقاً.. وحتى لقد التف حوله أهل الحديث، والزيدية. بل والمرجئة، وأهل السنة، على حد تعبير الشيبي، وقالوا: بإمامة أبيه، ثم بإمامته.

____________

(١) ديوان ابن المعتز ص ٣٠٠، ٣٠١، والأدب في ظل التشيع ص ٢٠٦.

١٩٣

وبديهي.. أن لا يرتاح ابن المعتز، الذي كان في صميم الأسرة العباسية لهذا الامتداد للتشيع، ولمقالة الروافض، حيث إن ذلك يعني أن الأئمة الذين هم بين الرضا، وعلي أمير المؤمنينعليهما‌السلام ، كلهم تثبت إمامتهم بالنص.

ولقد بلغ من حنقه عليهم، بسبب ذلك الامتداد الواسع لعقيدتهم ـ وخصوصاً في زمان الرضا ـ أن دفعه إلى أن يخلط عن عمد، أو عن غير عمد بين عقيدة الروافض هذه، وبين عقيدة الغلاة، حيث أضاف إلى مقالة الروافض تلك مقالة أخرى، هي: القول بإلوهية عليعليه‌السلام .

وإذا كنا واثقين من أن الفرق الشاسع بين عقيدة الروافض، وعقيدة الغلاة، لم يكن ليخفى على مثل ابن المعتز، بل على من هو أقل منه بمراتب، فإننا سوف ندرك بما لا مجال معه للشك: أن يقصد بهذا الخلط المتعمد: التشنيع على الروافض، وتهجين عقيدتهم، إذ أنه يقصد ب‍ـ (الروافض)، ـ حسبما هو صريح كلامه ـ خصوص القائلين بإمامة الرضا، وإمامة علي أمير المؤمنين، ومن بينهما. وهو يعلم وكل أحد يعلم: أنه ليس فيهم من يقول بإلوهية أحدهما، أو إلوهيتهما، أو إلوهية غيرهما من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام .

وأخيراً.. فإن قول واعتراف ابن المعتز هذا ـ وهو من نعلم ـ لخير دليل على مدى تحرر الشيعة في زمن الرضا، واتساع نفوذهم، وعلى أن شخصية الرضاعليه‌السلام ، كانت قد استقطبت قطاعاً واسعاً، إن لم نقل: أنه القطاع الأكبر من الأمة الإسلامية، في طول البلاد وعرضها، في تلك الفترة من الزمن، وقد تقدم بعض ما يدل على ذلك، فلا نعيد.

الهدف الخامس:

هذا.. ونستطيع أن نقول أيضاً: إنه كان يريد أن يقوي من دعائم حكمه، حيث قد أصبح الحكم يمتلك شخصية تعنو لها الجباه بالرضا والتسليم، ولقد كان الحكم بأمس الحاجة إلى شخصية من هذا القبيل. في مقابل أولئك المتزلفين القاصرين، الذين كانوا يتجمعون حول الحكم العباسي، طلبا للشهرة، وطمعا بالمال، والذين لم يعد يخفى على أحد حالهم ومآلهم.. وعلى الأخص بعد أن رأى فشلهم في صد حملات علماء الملل الأخرى، والذين كانوا قد ضاعفوا نشاطاتهم، عندما رأوا ضعف الدولة، وتمزقها، وتفرقها إلى جماعات وأحزاب.

نعم.. لقد كان الحكم يحتاج إلى العلماء الأكفاء، والأحرار في تفكيرهم، وفي نظرتهم الواعية للإنسان والحياة، ولم يعد بحاجة إلى المتزلفين، والجامدين، والانهزاميين، ولهذا نراه يستبعد أصحاب الحديث الجامدين، الذين كان أكثرهم في الجهة المناوئة له، يشدون من أزرها، ويقيمون أودها..

١٩٤

ويقرب المعتزلة: كبشر المريسي، وأبي الهذيل العلاف وأضرابهما. ولكن الشخصية العلمية، التي لا يشك أحد في تفوقها على جميع أهل الأرض علماً وزهدا، وورعاً وفضلاً الخ. كانت منحصرة في الإمام الرضاعليه‌السلام ، باعتراف من نفس المأمون، كما قدمنا، ولهذا فقد كان الحكم يحتاج إليها أكثر من احتياجه لأية شخصية أخرى، مهما بلغت.

الهدف السادس:

ولعل من الأهمية بمكان بالنسبة إليه، أنه يكون في تلك الفترة المليئة بالقلاقل والثورات، قد أتى الأمة بمفاجئة مثيرة، من شأنها أن تصرف أنظار الناس عن حقيقة ما يجري، وما يحدث، وعن واقع المشاكل التي كان يعاني الحكم والأمة منها، وما أكثرها.

وقد عبر إبراهيم بن المهدي، عن دهشة بني العباس في أبياته المتقدمة. حتى لقد ذهل ـ على حد قوله ـ الحواضن عن بنيها! وصد الثدي عن فمه الصبي!

وبعد هذا. فلسنا بحاجة إلى كبير عناء، لإدراك مدى دهشة غيرهم: ممن رأوا وسمعوا بمعاملة العباسيين لأبناء عمهم. ولسوف ندرك مدى عظمة دهشتهم تلك إذا ما لاحظنا: أنهم كانوا سياسياً أقل وعيا وتجربة من مثل إبراهيم بن المهدي، الذي عاش في أحضان الخلافة. وكان بمرأى ومسمع من ألاعيب السياسة، ومكر الرجال.

الهدف السابع:

طبيعي بعد هذا: أنه قد أصبح يستطيع أن يدعي، بل لقد ادعى بالفعل ـ على ما في وثيقة العهد ـ: أن جميع تصرفاته، وأعماله، لم يكن يهدف من ورائها، إلا الخير للأمة، ومصلحة المسلمين، وحتى قتله أخاه، لم يكن من أجل الحكم، والرياسة، بقدر ما كان من أجل خير المسلمين، والمصلحة العامة، يدل على ذلك: أنه عندما رأى أن خير الأمة، إنما هو في إخراج الخلافة من بني العباس كلية، وهم الذين ضحوا الكثير في سبيلها، وقدموا من أجلها ما يعلمه كل أحد ـ عندما رأى ذلك ـ وأن ذلك لا يكون إلا بإخراجها إلى ألد أعدائهم، سارع إلى ذلك، بكل رضى نفس، وطيبة خاطر.. وليكون بذلك قد كفر عن جريمته النكراء، والتي كانت أحد أسباب زعزعة ثقة الناس به، ألا وهي: قتله أخاه الأمين، العزيز على العباسيين والعرب. وليكون بذلك، قد ربط الأمة بالخلافة، وكسب ثقتها فيها، وشد قلوب الناس، وأنظارهم إليها، حيث أصبح باستطاعتهم أن ينتظروا منها أن تقيم العدل، وترفع الظلم، وأن تكون معهم، وفي خدمتهم، وتعيش قضاياهم. وليكون لها من ثم من المكانة والتقدير، وما يجعلها في منأى ومأمن من كل من يتحينون بها الفرص، ويبغون لها الغوائل.

١٩٥

ويدل على ذلك ـ عدا عما ورد في وثيقة العهد ـ ما ورد من أن المأمون كتب إلى عبد الجبار بن سعد المساحقي، عامله على المدينة: أن اخطب الناس، وادعهم إلى بيعة الرضا، فقام خطيبا، فقال:

(يا أيها الناس، هذا الأمر الذي كنتم فيه ترغبون، والعدل الذي كنتم تنتظرون، والخير الذي كنتم ترجون، هذا علي بن موسى، بن جعفر، بن محمد، بن علي، بن الحسين، بن علي بن أبي طالب:

ســتـة آبــاؤهـم مــا هــم

من أفضل من يشرب صوب الغمام(١)

وقد أكد ذلك بحسن اختياره، إذ قد اختار هذه الشخصية، التي تمثل ـ في الحقيقة ـ أمل الأمة، ورجاءها، في حاضرها، ومستقبلها، وتكون النتيجة ـ بعد ذلك ـ أنه يكون قد حصل على حماية لكل تصرف يقدم عليه في المستقبل، وكل عمل يقوم به.. مهما كان غريباً، ومهما كان غير معقول، فإن على الأمة أن تعتبره صحيحاً وسليماً، لا بد منه، ولا غنى عنه، وإن لم تعرف ظروفه، ودوافعه الحقيقية. بل وحتى مع علمها بها، فإن عليها أن تؤول ما يقبل التأويل، وإلا. فإن عليها أن تدفن رأسها في التراب، وتتناسى ما تعلم. أو أن تعتبر نفسها قاصرة عن إدراك المصالح الحقيقية الكامنة في تلك التصرفات الغريبة، وأن ما أدركته ـ ولو كان حقاً ـ لا واقع له، ولا حقيقة وراءه. ويدل على ذلك بشكل واضح أبيات ابن المعتز الآتية ص ٣٠٥/٣٠٦ يقول ابن المعتز:

وأعـطاكم الـمأمون حـق خلافة

لـنا حـقها لـكنه جـاد بـالدنيا

لـيعلمكم أن الـتي قـد حرصتموا

عليها وغودرتم على أثرها صرعى

يـسير عـليه فـقدها غـير مكثر

كـما ينبغي للصالحين ذوي التقوى

____________

(١) العقد الفريد ج ٣ / ٣٩٢، طبع مصطفى محمد بمصر سنة ١٩٣٥ و (ما) في البيت زائدة.. ولا يخفى ما في البيت، وقد أثبتناه، كما وجدناه.

١٩٦

وعلى كل حال، فإنه يتفرع على ما ذكرناه:

أولاً: إنه بعد أن أقدم على ما أقدم عليه، فليس من المنطقي بعد للعرب أن يسخطوا عليه، بسبب معاملة أبيه، أو أخيه، وسائر أسلافه لهم، فإن المرء بما كسب هو، لا بما كسب أهله، ولا تزر وازرة وزر أخرى.

وكيف يجوز لهم أن يغضبوا بعد، وهو قد أرجع الخلافة إليهم، بل وإلى أعرق بيت فيهم. وعرفهم عملا: أنه لا يريد لهم، ولغيرهم، إلا الصلاح والخير..

وليس لهم بعد حق في أن ينقموا عليه معاملته القاسية لهم، ولا قتله أخاه، ولا أن يزعجهم، ويخيفهم تقريبه للإيرانيين، ولا جعله مقر حكمه مروا إلى آخر ما هنالك.. ما دام أن الخلافة قد عادت إليهم، على حسب ما يشتهون، وعلى وفق ما يريدون.

ومن هنا.. فلا يجب أن نعجب كثيراً، حين نراهم: قد تلقوا بيعة الرضا بنفوس طيبة، وقلوب رضية. حتى أهل بغداد نرى أنهم قد تقبلوها إلى حد كبير، فقد نص المؤرخون ـ ومنهم الطبري، وابن مسكويه ـ على أن بعضهم وافق، والبعض الآخر ـ وهم أنصار بني العباس ـ رفض. وهذا يدل دلالة واضحة: على أن بغداد، معقل العباسيين الأول، كانت تتعاطف مع العلويين إلى درجة كبيرة..

١٩٧

بل ونص المؤرخون، على أن: إبراهيم بن المهدي، المعروف بابن شكلة، الذي بويع له في بغداد غضبا من تولية الرضا للعهد: لم يستطع أن يسيطر إلا على بغداد، والكوفة والسواد(١) ، بل وحتى الكوفة قد استمرت الحرب قائمة فيها على ساق وقدم أشهراً عديدة بين أنصار المأمون، وعليهم الخضرة، وأنصار العباسيين وعليهم السواد(٢) .

وثانياً: وأما الإيرانيون عامة، والخراسانيون خاصة، والمعروفون بتشيعهم للعلويين، فقد ضمن المأمون استمرار تأييدهم له، وثقتهم به، بعد أن حقق لهم غاية أمانيهم. وأغلى أحلامهم، وأثبت لهم عملاً، حبه لمن يحبون، ووده لمن يودون.. وأن لا ميزة عنده لعباسي على غيره، ولا لعربي على غيره، وأن الذي يسعى إليه، هو ـ فقط خير الأمة، ومصلحتها، بجميع فئاتها، ومختلف طبقاتها، وأجناسها.

ملاحظة هامة:

إن من الجدير بالملاحظة هنا: أن الرضاعليه‌السلام كان قد قدم إلى إيران قبل ذلك. والظاهر أنه قدمها في حدود سنة ١٩٣ ه‍. أي في الوقت المناسب لوفاة الرشيد، فقد ذكر الرضي المعاصر للمجلسي في كتابه: ضيافة الإخوان: أن علياً الرضاعليه‌السلام كان مستخفياً في قزوين في دار داوود بن سليمان الغازي أبي عبد الله، ولداوود نسخة يرويها عن الرضاعليه‌السلام ، وأهل قزوين يروونها عن داوود، كإسحاق بن محمد، وعلي بن مهرويه(٣) .

وقال الرافعي في التدوين: (وقد اشتهر اجتياز علي بن موسى الرضا بقزوين. ويقال: إنه كان مستخفيا في دار داوود بن سليمان الغازي، روى عنه النسخة المعروفة، وروى عنه إسحاق بن محمد، وعلي بن مهرويه، وغيرهما.

____________

(١) راجع البداية والنهاية ج ١٠ / ٢٤٨، وغيره من كتب التاريخ. وزاد أحمد شلبي في كتابه: التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ / ١٠٥ ـ زاد على ذلك: المدائن أيضاً.

(٢) راجع: الكامل لابن الأثير ج ٥ / ١٩٠، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٤٨، وغير ذلك.

(٣) راجع كتاب: ضيافة الإخوان مخطوط في مكتبة المدرسة الفيضية في قم، في ترجمة أبي عبد الله القزويني، وعلي بن مهرويه القزويني.

١٩٨

قال الخليل: وابنه المدفون في مقبرة قزوين، يقال: إنه كان ابن سنتين، أو أصغر)(١) انتهى كلام الرافعي.

والمراد بالخليل في كلامه، هو الخليل بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الخليلي، القزويني، وهو الحافظ المشهور، مصنف كتاب الإرشاد، وكتاب تاريخ قزوين، الذي فرغ من تأليفه حوالي سنة أربعمائة هجرية، وكانت وفاته سنة ٤٤٦ ه‍.

الهدف الثامن:

لقد كان من نتائج اختياره الإمام، والبيعة له بولاية العهد ـ التي كان يتوقعها ـ: أن أخمد ثورات العلويين في جميع الولايات والأمصار.

ولعله لم تقم أية ثورة علوية ضد المأمون ـ بعد البيعة للرضا، سوى ثورة عبد الرحمان بن أحمد في اليمن. وكان سببها ـ باتفاق المؤرخين ـ هو فقط: ظلم الولاة وجورهم، وقد رجع إلى الطاعة بمجرد الوعد بتلبية مطالبه.

بل لا بد لنا أن نضيف إلى ذلك:

أ ـ : إنه ليس فقط أخمد ثوراتهم. بل لقد حصل على ثقة الكثيرين منهم، ومن والاهم، وشايعهم. والخراسانيون منهم، ويشير المأمون إلى هذا المعنى في رسالته، التي أرسلها إلى عبد الله بن موسى، حيث يقول:

(.. ما ظننت أحداً من آل أبي طالب يخافني، بعد ما عملته بالرضا) والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.. كما أنه كتب للعباسيين في بغداد في رسالته، التي أشرنا إليها غير مرة، يقول لهم: إنه يريد بذلك أن يحقن دماءهم، ويذود عنهم، باستدامة المودة بنيهم، وبين العلويين.

ب: بل ونزيد هنا على ما تقدم: أنه قد بايعه منهم ومن أشياعهم من لم يكن بعد قد بايعه، وهم قسم كبير جداً، بل لقد بايعه أكثر المسلمين، ودانوا له بالطاعة، بعد أن كانوا مخالفين له ممتنعين عن بيعته، حسبما قدمناه.

وهذه دون شك هي إحدى أمنيات المأمون، بل هي أجل أمنياته وأغلاها.

ج: قال ابن القفطي في معرض حديثه عن عبد الله بن سهل ابن نوبخت:

(.. هذا منجم مأموني، كبير القدر في صناعته، يعلم المأمون قدره في ذلك. وكان لا يقدم إلا عالما مشهودا له، بعد الاختيار..

____________

(١) التدوين قسم ٢ ورقة ٢٣٥ مخطوط في مكتبة دار التبليغ الإسلامي في قم، ترجمة علي الرضا..

١٩٩

وكان المأمون قد رأى آل أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب متخشين، متخفين، من خوف المنصور، ومن جاء بعده من بني العباس. ورأى العوام قد خفيت عنهم أمورهم بالاختفاء، فظنوا ما يظنونه بالأنبياء، ويتفوهون بما يخرجهم عن الشريعة، من التغالي.

فأراد معاقبة العامة على هذا الفعل.

ثم فكر: أنه إذا فعل هذا بالعوام زادهم إغراء به، فنظر نظراً دقيقاً، وقال: لو ظهروا للناس، ورأوا فسق الفاسق منهم، وظلم الظالم، لسقطوا من أعينهم، ولانقلب شكرهم لهم ذماً.

ثم قال: إذا أمرناهم بالظهور خافوا، واستتروا، وظنوا بنا سوءاً، وإنما الرأي: أن نقدم أحدهم، ويظهر لهم إماماً، فإذا رأوا هذا أنسوا، وظهروا، وأظهروا ما عندهم من الحركات الموجودة في الآدميين، فيحقق للعوام حالهم، وما هم عليه، مما خفي بالاختفاء، فإذا تحقق ذلك أزلت من أقمته، ورددت الأمر إلى حالته الأولى. وقوي هذا الرأي عنده، وكتم باطنه عن خواصه.. وأظهر للفضل ابن سهل: أنه يريد أن يقيم إماماً من آل أمير المؤمنين علي (صلوات الله عليه).

وفكر هو وهو: فيمن يصلح، فوقع إجماعهما على الرضا، فأخذ الفضل بن سهل في تقرير ذلك. وترتيبه وهو لا يعلم باطن الأمر. وأخذ في اختيار وقت لبيعة الرضا، فاختار طالع السرطان، وفيه المشتري الخ)(١) .

ثم ذكر أن عبد الله بن سهل أراد اختبار المأمون، فأخبره أن البيعة لا تتم إذا وقعت في ذلك الوقت، فهدده المأمون بالقتل إن لم تقع البيعة في ذلك الوقت بالذات، لأنه سوف يعتبر أنه هو الذي أفسد عليه ما كان دبره الخ..

وابن القفطي هنا، لا يبدو أنه يعتبر الإمام الرضاعليه‌السلام من أولئك الذين يريد المأمون إظهار تفاهاتهم للناس، ولكنه يوجه نظره إلى بقية العلويين في ذلك.. ونحن إن كنا لا نستبعد من المأمون ما ذكره ابن القفطي هنا لكننا لا نستطيع أن نعتبر أن هذا كان من الأسباب الرئيسية لدى المأمون، إذ لا نعتقد أن المأمون كان من السذاجة بحيث يجهل أن بقية العلويين لم يكونوا ـ إجمالاً ـ على الحال التي كان يريد أن يظهرهم عليها للناس، وأنهم كانوا أكثر تديناً والتزاماً من أي فئة أخرى على الإطلاق..

____________

(١) تاريخ الحكماء ص ٢٢١، ٢٢٢.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

الإيمان و تكريه الكفر و الفسوق و العصيان.

و المراد بتحبيب الإيمان إليهم جعله محبوباً عندهم و بتزيينه في قلوبهم تحليته بجمال يجذب قلوبهم إلى نفسه فيتعلّقون به و يعرضون عمّا يلهيهم عنه.

و قوله:( وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيانَ ) عطف على( حَبَّبَ ) و تكريه الكفر و ما يتبعه إليهم جعلها مكروهة عندهم تتنفّر عنها نفوسهم، و الفرق بين الفسوق و العصيان - على ما قيل - أنّ الفسوق هو الخروج عن الطاعة إلى المعصية، و العصيان نفس المعصية و إن شئت فقل: جميع المعاصي، و قيل: المراد بالفسوق الكذب بقرينة الآية السابقة و العصيان سائر المعاصي.

و قوله:( أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ) بيان أنّ حبّ الإيمان و الانجذاب إليه و كراهة الكفر و الفسوق و العصيان هو سبب الرشد الّذي يطلبه الإنسان بفطرته و يتنفّر عن الغيّ الّذي يقابله فعلى المؤمنين أن يلزموا الإيمان و يتجنّبوا الكفر و الفسوق و العصيان حتّى يرشدوا و يتّبعوا الرسول و لا يتّبعوا أهواءهم.

و لمّا كان حبّ الإيمان و الانجذاب إليه و كراهة الكفر و نحوه صفة بعض من كان الرسول فيهم دون الجميع كما يصرّح به الآية السابقة، و قد وصف بذلك جماعتهم تحفّظاً على وحدتهم و تشويقاً لمن لم يتّصف بذلك منهم غير السياق و التفت عن خطابهم إلى خطاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال:( أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ) و الإشارة إلى من اتّصف بحبّ الإيمان و كراهة الكفر و الفسوق و العصيان، ليكون مدحاً للمتّصفين بذلك و تشويقاً لغيرهم.

و اعلم أنّ في قوله:( وَ اعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ) إشعاراً بأنّ قوماً من المؤمنين كانوا مصرّين على قبول نبأ الفاسق الّذي تشير إليه الآية السابقة، و هو الوليد بن عقبة أرسله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بني المصطلق لأخذ زكواتهم فجاء إليهم فلمّا رآهم هابهم و رجع إلى المدينة و أخبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّهم ارتدّوا فعزم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قتالهم فنزلت الآية فانصرف و في القوم بعض من يصرّ على أن يغزوهم. و سيجي‏ء القصّة في البحث الروائي التالي.

٣٤١

قوله تعالى: ( فَضْلًا مِنَ اللهِ وَ نِعْمَةً وَ اللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) تعليل لما تقدّم من فعله تعالى بالمؤمنين من تحبيب الإيمان و تزيينه و تكريه الكفر و الفسوق و العصيان أي إنّ ذلك منه تعالى مجرّد عطيّة و نعمة لا إلى بدل يصل إليه منهم لكن ليس فعلاً جزافيّاً فإنّه تعالى عليهم بمورد عطيّته و نعمته حكيم لا يفعل ما يفعل جزافاً كما قال:( وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى‏ وَ كانُوا أَحَقَّ بِها وَ أَهْلَها وَ كانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيماً ) الفتح: ٢٦.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما ) إلى آخر الآية الاقتتال و التقاتل بمعنى واحد كالاستباق و التسابق، و رجوع ضمير الجمع في( اقْتَتَلُوا ) إلى الطائفتين باعتبار المعنى فإنّ كلّاً من الطائفتين جماعة و مجموعهما جماعة كما أنّ رجوع ضمير التثنية إليهما باعتبار المعنى.

و نقل عن بعضهم في وجه التفرقة بين الضميرين: أنّهم أوّلاً في حال القتال مختلطون فلذا جمع أوّلاً ضميرهم، و في حال الصلح متميّزون متفارقون فلذا ثنّى الضمير.

و قوله:( فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى‏ فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي‏ءَ إِلى‏ أَمْرِ اللهِ ) البغي الظلم و التعدّي بغير حقّ، و الفي‏ء الرجوع، و المراد بأمر الله ما أمر به الله، و المعنى: فإن تعدّت إحدى الطائفتين على الاُخرى بغير حقّ فقاتلوا الطائفة المتعدّية حتّى ترجع إلى ما أمر به الله و تنقاد لحكمه.

و قوله:( فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ ) أي فإن رجعت الطائفة المتعدّية إلى أمر الله فأصلحوا بينهما لكن لا إصلاحاً بوضع السلاح و ترك القتال فحسب بل إصلاحاً متلبّساً بالعدل بإجراء أحكام الله فيما تعدّت به المتعدّية من دم أو عرض أو مال أو أيّ حقّ آخر ضيّعته.

و قوله:( وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) الإقساط إعطاء كلّ ما يستحقّه من القسط و السهم و هو العدل فعطف قوله:( وَ أَقْسِطُوا ) على قوله:( فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ ) من عطف المطلق على المقيّد للتأكيد، و قوله:( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) تعليل يفيد تأكيداً على تأكيد كأنّه قيل: أصلحوا بينهما بالعدل و أعدلوا دائماً و في

٣٤٢

جميع الاُمور لأنّ الله يحبّ العادلين لعدالتهم.

قوله تعالى: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) استئناف مؤكّد لما تقدّم من الإصلاح بين الطائفتين المتقاتلتين من المؤمنين، و قصر النسبة بين المؤمنين في نسبة الاُخوّة مقدّمة ممهّدة لتعليل ما في قوله:( فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) من حكم الصلح فيفيد أنّ الطائفتين المتقاتلتين لوجود الاُخوّة بينهما يجب أن يستقرّ بينهما الصلح، و المصلحون لكونهم إخوة للمتقاتلتين يجب أن يسعوا في إصلاح ما بينهما.

و قوله:( فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) و لم يقل: فأصلحوا بين الأخوين من أوجز الكلام و ألطفه حيث يفيد أنّ المتقاتلتين بينهما اُخوّة فمن الواجب أن يستقرّ بينهما الصلح و سائر المؤمنين إخوان للمتقاتلتين فيجب عليهم أن يسعوا في الإصلاح بينهما.

و قوله:( وَ اتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) موعظة للمتقاتلتين و المصلحين جميعاً.

( كلام في معنى الاُخوّة)

و اعلم أنّ قوله:( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) جعل تشريعيّ لنسبة الاُخوّة بين المؤمنين لها آثار شرعيّة و حقوق مجعولة، و قد تقدّم في بعض المباحث المتقدّمة أنّ من الاُبوّة و البنوّة و الاُخوّة و سائر أنواع القرابة ما هو اعتباريّ مجعول يعتبره الشرائع و القوانين لترتيب آثار خاصّة عليه كالوراثة و الإنفاق و حرمة الازدواج و غير ذلك، و منها ما هو طبيعيّ بالانتهاء إلى صلب واحد أو رحم واحدة أو هما.

و الاعتباري من القرابة غير الطبيعي منها فربّما يجتمعان كالأخوين المتولّدين بين الرجل و المرأة عن نكاح مشروع، و ربّما يختلفان كالولد الطبيعيّ المتولّد من زنا فإنّه ليس ولداً في الإسلام و لا يلحق بمولده و إن كان ولداً طبيعيّاً، و كالداعيّ الّذي هو ولد في بعض القوانين و ليس بولد طبيعيّ.

و اعتبار المعنى الاعتباريّ و إن كان لغرض ترتيب آثار حقيقته عليه كما يؤخذ أحد القوم رأساً لهم ليكون نسبته إليهم نسبة الرأس إلى البدن فيدبّر أمر المجتمع و يحكم بينهم و فيهم كما يحكم الرأس على البدن.

٣٤٣

لكن لمّا كان الاعتبار لمصلحة مقتضية كان تابعاً للمصلحة فإن اقتضت ترتيب جميع آثار الحقيقة ترتبّت عليه جميعاً و إن اقتضت بعضها كان المترتّب على الموضوع الاعتباري ذلك البعض كما أنّ القراءة مثلاً جزء من الصلاة و الجزء الحقيقيّ ينتفي بانتفائه الكلّ مطلقاً لكنّ القراءة لا ينتفي بانتفائها الصلاة إذا كان ذلك سهواً و إنّما تبطل الصلاة إذا تركت عمداً.

و لذلك أيضاً ربّما اختلفت آثار معنى اعتباريّ بحسب الموارد المختلفة كجزئيّة الركوع حيث تبطل الصلاة بزيادته و نقيصته عمداً و سهواً بخلاف جزئيّة القراءة كما تقدّم فمن الجائز أن يختلف الآثار المترتّبة على معنى اعتباريّ بحسب الموارد المختلفة لكن لا تترتّب الآثار الاعتباريّة إلّا على موضوع اعتباريّ كالإنسان يتصرّف في ماله لكن لا بما أنّه إنسان بل بما أنّه مالك و الأخ يرث أخاه في الإسلام لا لأنّه أخ طبيعيّ يشارك الميّت في الوالد أو الوالدة أو فيهما - فولد الزنا كذلك و لا يرث أخاه الطبيعيّ - بل يرثه لأنّه أخ في الشريعة الإسلاميّة.

و الاُخوّة من هذا القبيل فمنها اُخوّة طبيعيّة لا أثر لها في الشرائع و القوانين و هي اشتراك إنسانين في أب أو اُمّ أو فيهما، و منها اُخوّة اعتباريّة لها آثار اعتباريّة و هي في الإسلام اُخوّة نسبيّة لها آثار في النكاح و الإرث، و اُخوّة رضاعيّة لها آثار في النكاح دون الإرث، و اُخوّة دينيّة لها آثار اجتماعيّة و لا أثر لها في النكاح و الإرث، و سيجي‏ء قول الصادقعليه‌السلام : المؤمن أخو المؤمن، عينه و دليله، لا يخونه، و لا يظلمه و لا يغشه، و لا يعده عدة فيخلفه.

و قد خفي هذا المعنى على بعض المفسّرين فأخذ إطلاق الإخوة في كلامه تعالى على المؤمنين إطلاقاً مجازيّاً من باب الاستعارة بتشبيه الاشتراك في الإيمان بالمشاركة في أصل التوالد لأنّ كلّا منهما أصل للبقاء إذ التوالد منشأ الحياة، و الإيمان منشأ البقاء الأبديّ في الجنان، و قيل: هو من باب التشبيه البليغ من حيث انتسابهم إلى أصل واحد هو الإيمان الموجب للبقاء الأبديّ.

٣٤٤

( بحث روائي‏)

في المجمع: في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) : روى زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام أنّه قال: ما سلّت السيوف، و لا اُقيمت الصفوف في صلاة و لا زحوف، و لا جهر بأذان، و لا أنزل الله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) حتّى أسلم أبناء قبيلة الأوس و الخزرج.

أقول: و عن ابن عبّاس أيضاً: ما نزل( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلّا بالمدينة، و لا( يا أَيُّهَا النَّاسُ ) إلّا بمكّة الخبر. و توقّف بعضهم في عموم ذيله، و اعلم أنّ هناك روايات في الدرّ المنثور، و تفسير القمّيّ، في سبب نزول قوله:( لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَ رَسُولِهِ ) الآية لا تنطبق على الآية ذاك الانطباق تركناها من أراد الوقوف عليها فليراجعهما.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و البخاريّ و مسلم و أبويعلى و البغويّ في معجم الصحابة، و ابن المنذر و الطبرانيّ و ابن مردويه و البيهقيّ في الدلائل، عن أنس قال: لمّا نزلت( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ - إلى قوله -وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) و كان ثابت بن قيس بن شماس رفيع الصوت فقال: أنا الّذي كنت أرفع صوتي على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حبط عملي أنا من أهل النار، و جلس في بيته حزينا.

ففقده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له: فقدك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما لك؟ قال: أنا الّذي أرفع صوتي فوق صوت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أجهر له بالقول حبط عملي و أنا من أهل النار، فأتوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبروه بذلك فقال: لا بل هو من أهل الجنّة. فلمّا كان يوم اليمامة قتل.

أقول: قوله:( فلمّا كان يوم اليمامة قتل) من كلام الراوي يريد أنّه استشهد يوم اليمامة فكان ذلك تصديق قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و الرواية مرويّة بطرق مختلفة اُخرى باختلاف يسير.

و فيه، أخرج البخاريّ في الأدب، و ابن أبي الدنيا و البيهقيّ عن داود بن قيس قال: رأيت الحجرات من جريد النخل مغشّي من خارج بمسوح الشعر و أظنّ عرض الباب

٣٤٥

من باب الحجرة إلى باب البيت نحواً من ستّة أو سبعة أذرع و أخرر(١) البيت الداخل عشرة أذرع، و أظنّ سمكه بين الثمان و السبع.

أقول: و روي مثل صدره عن ابن سعد عن عطاء الخراسانيّ قال: أدركت حجر أزواج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود. الحديث.

و فيه، أخرج أحمد و ابن أبي حاتم و الطبرانيّ و ابن منده و ابن مردويه بسند جيّد عن الحارث بن ضرار الخزاعيّ قال: قدمت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدعاني إلى الإسلام فدخلت فيه و أقررت به، و دعاني إلى الزكاة فأقررت بها. قلت: يا رسول الله أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام و أداء الزكاة فمن استجاب لي و ترسل إليّ يا رسول الله رسولاً إبّان كذا و كذا لتأتيك ما جمعت من الزكاة.

فلمّا جمع الحارث الزكاة ممّن استجاب له و بلغ الإبّان الّذي أراد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبعث إليه احتبس الرسول فلم يأت فظنّ الحارث أنّه قد حدث فيه سخطه من الله و رسوله فدعا بسروات قومه فقال لهم: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان وقّت لي وقتاً يرسل إلىّ رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة و ليس من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخلف و لا أرى حبس رسوله إلّا من سخطه فانطلقوا فنأتي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده ممّا جمع من الزكاة فلمّا أن سار الوليد حتّى بلغ بعض الطريق فرق فرجع فأتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: إنّ الحارث منعني الزكاة و أراد قتلي فضرب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم البعث إلى الحارث.

فأقبل الحارث بأصحابه حتّى إذا استقبل البعث و فصل عن المدينة لقيهم الحارث‏ فقالوا: هذا الحارث فلمّا غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك. قال: و لم؟ قالوا: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنّك منعته الزكاة و أردت قتله. قال: لا و الّذي بعث محمّداً بالحقّ ما رأيته و لا أتاني.

فلمّا دخل الحارث على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: منعت الزكاة و أردت قتل رسولي؟ قال: لا و الّذي بعثك بالحقّ ما رأيته و لا رآني و ما أقبلت إلّا حين احتبس عليّ رسول

____________________

(١) كذا في الأصل و لعلّه جمع خرير بالخاء المعجمة و هو المكان المطمئن.

٣٤٦

اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خشيت أن يكون كانت سخطة من الله و رسوله فنزل( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا - إلى قوله -حَكِيمٌ ) .

أقول: نزول الآية في قصّة الوليد بن عقبة مستفيض من طرق أهل السنّة و الشيعة و قال ابن عبد البرّ في الاستيعاب: و لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت أنّ قوله عزّوجلّ:( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ ) نزلت في الوليد بن عقبة.

و في المحاسن، بإسناده عن زياد الحذّاء عن أبي جعفرعليه‌السلام في حديث له قال: يا زياد ويحك و هل الدين إلّا الحبّ؟ أ لا ترى إلى قول الله:( إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) ؟ أ و لا ترون إلى قول الله لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ) قال:( يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ ) و قال: الحبّ هو الدين و الدين هو الحبّ.

أقول: و روي في الكافي، بإسناده عن فضيل بن يسار عن الصادقعليه‌السلام ما في معناه و لفظه: و هل الإيمان إلّا الحبّ و البغض؟ ثمّ تلا هذه الآية:( حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ ) إلى آخر الآية.

و في المجمع، و قيل: الفسوق هو الكذب عن ابن عبّاس و ابن زيد و هو المرويّ عن أبي جعفرعليه‌السلام ..

أقول: و في هذا المعنى بعض روايات اُخر.

و في الكافي، بإسناده عن عليّ بن عقبة عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: المؤمن أخو المؤمن عينه و دليله لا يخونه و لا يظلمه و لا يغشّه و لا يعده عدة فيخلفه.

أقول: و في معناه روايات اُخر عنهعليه‌السلام و في بعضها: المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يخذله و لا يغتابه.

و في المحاسن، بإسناده عن أبي حمزة الثماليّ عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: المؤمن أخو المؤمن لأبيه و اُمّه و ذلك أنّ الله تبارك و تعالى خلق المؤمن من طينة جنان السماوات، و أجرى فيهم من ريح روحه فلذلك هو أخوه لأبيه و اُمّه.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و البخاريّ و مسلم و ابن جرير و ابن المنذر و ابن

٣٤٧

مردويه و البيهقيّ في سننه عن أنس قال: قيل للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو أتيت عبدالله بن اُبيّ فانطلق و ركب حماراً و انطلق المسلمون يمشون و هي أرض سبخة، فلمّا انطلق إليهم قال: إليك عنّي فوالله لقد آذاني ريح حمارك.

فقال رجل من الأنصار: و الله لحمار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أطيب ريحاً منك، فغضب لعبد الله رجال من قومه فغضب لكلّ منهما أصحابه فكان بينهم ضرب بالجريد و الأيدي و النعال فأنزل فيهم( وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما ) .

أقول: و في بعض الروايات كما في المجمع، أنّ الّذي قال ذلك لعبد الله بن اُبيّ بن سلول هو عبدالله بن رواحة و أنّ التضارب وقع بين رهطه من الأوس و رهط عبدالله بن اُبيّ من الخزرج، و في انطباق الآية بموضوعها و حكمها على هذه الروايات خفاء.

٣٤٨

( سورة الحجرات الآيات ١١ - ١٨)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ  وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ  بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ  وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ١١ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ  وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا  أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ  وَاتَّقُوا اللهَ  إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ( ١٢ ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا  إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ  إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ( ١٣ ) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا  قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ  وَإِن تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا  إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ١٤ ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ  أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( ١٥ ) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ  وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ١٦ ) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا  قُل لَّا تَمُنُّوا

٣٤٩

عَلَيَّ إِسْلَامَكُم  بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ١٧ ) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ١٨ )

( بيان‏)

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى‏ أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى‏ أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ ) إلخ، السخريّة الاستهزاء و هو ذكر ما يستحقر و يستهان به الإنسان بقول أو إشارة أو فعل تقليداً بحيث يضحك منه بالطبع، و القوم الجماعة و هو في الأصل الرجال دون النساء لقيامهم بالاُمور المهمة دونهنّ، و هذا المعنى هو المراد بالقوم في الآية بما قوبل بالنساء.

و قوله:( عَسى‏ أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ ) و( عَسى‏ أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ ) حكمة النهي.

و المستفاد من السياق أنّ الملاك رجاء كون المسخور منه خيراً عند الله من الساخر سواء كان الساخر رجلاً أو امرأة و كذا المسخور منه فتخصيص النهي في اللفظ بسخريّة القوم من القوم و سخريّة النساء من النساء لمكان الغلبة عادة.

و قوله:( وَ لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ) اللمز - على ما قيل - التنبيه على المعايب، و تعليق اللمز بقوله:( أَنْفُسَكُمْ ) للإشارة إلى أنّهم مجتمع واحد بعضهم من بعض فلمز الواحد منهم غيره في الحقيقة لمز نفسه فليجتنب من أن يلمز غيره كما يكره أن يلمزه غيره، ففي قوله:( أَنْفُسَكُمْ ) إشارة إلى حكمة النهي.

و قوله:( وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ ) النبز بالتحريك هو اللقب، و يختصّ - على ما قيل - بما يدلّ على ذمّ فالتنابز بالألقاب ذكر بعضهم بعضاً بلقب السوء ممّا يكرهه كالفاسق و السفيه و نحو ذلك.

٣٥٠

و المراد بالاسم في( بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ ) الذكر كما يقال: شاع اسم فلان بالسخاء و الجود، و على هذا فالمعنى: بئس الذكر ذكر الناس - بعد إيمانهم - بالفسوق فإنّ الحريّ بالمؤمن بما هو مؤمن أن يذكر بالخير و لا يطعن فيه بما يسوؤه نحو يا من أبوه كان كذا و يا من اُمّه كانت كذا.

و يمكن أن يكون المراد بالاسم السمة و العلامة و المعنى: بئست السمة أن يوسم الإنسان بعد الإيمان بالفسوق بأن يذكر بسمة السوء كأن يقال لمن اقترف معصية ثمّ تاب: يا صاحب المعصية الفلانيّة، أو المعنى: بئس الاسم أن يسم الإنسان نفسه بالفسوق بذكر الناس بما يسوؤهم من الألقاب، و على أيّ معنى كان ففي الجملة إشارة إلى حكمة النهي.

و قوله:( وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) أي و من لم يتب عن هذه المعاصي الّتي يقترفها بعد ورود النهي فلم يندم عليها و لم يرجع إلى الله سبحانه بتركها فاُولئك ظالمون حقّاً فإنّهم لا يرون بها بأساً و قد عدّها الله معاصي و نهى عنها.

و في الجملة أعني قوله:( وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ ) إلخ، إشعار بأنّ هناك من كان يقترف هذه المعاصي من المؤمنين.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ) إلى آخر الآية المراد بالظنّ المأمور بالاجتناب عنه ظنّ السوء فإنّ ظنّ الخير مندوب إليه كما يستفاد من قوله تعالى:( لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً ) النور: ١٢.

و المراد بالاجتناب عن الظنّ الاجتناب عن ترتيب الأثر عليه كأن يظنّ بأخيه المؤمن سوء فيرميه به و يذكره لغيره و يرتّب عليه سائر آثاره، و أمّا نفس الظنّ بما هو نوع من الإدراك النفسانيّ فهو أمر يفاجئ النفس لا عن اختيار فلا يتعلّق به النهي اللّهمّ إلّا إذا كان بعض مقدّماته اختياريّاً.

و على هذا فكون بعض الظنّ إثماً من حيث كون ما يترتّب عليه من الأثر إثماً كإهانة المظنون به و قذفه و غير ذلك من الآثار السيّئة المحرّمة، و المراد بكثير

٣٥١

من الظنّ - و قد جي‏ء به نكرة ليدلّ على كثرته في نفسه لا بالقياس إلى سائر أفراد الظنّ - هو بعض الظنّ الّذي هو إثم فهو كثير في نفسه و بعض من مطلق الظنّ، و لو اُريد بكثير من الظنّ أعمّ من ذلك كأن يراد ما يعلم أنّ فيه إثماً و ما لا يعلم منه ذلك كان الأمر بالاجتناب عنه أمراً احتياطيّاً توقّياً من الوقوع في الإثم.

و قوله:( وَ لا تَجَسَّسُوا ) التجسّس بالجيم تتبّع ما استتر من اُمور الناس للاطّلاع عليها، و مثله التحسّس بالحاء المهملة إلّا أنّ التجسّس بالجيم يستعمل في الشرّ و التحسّس بالحاء يستعمل في الخير، و لذا قيل: معنى الآية لا تتّبعوا عيوب المسلمين لتهتكوا الاُمور الّتي سترها أهلها.

و قوله:( وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ ) الغيبة على ما في مجمع البيان ذكر العيب بظهر الغيب على وجه يمنع الحكمة منه، و قد فسّرت بتفاسير مختلفة حسب الاختلاف في مصاديقها سعة و ضيقاً في الفقه، و يؤل إلى أن يذكر من الإنسان في ظهر الغيب ما يسوؤه لو ذكر به و لذا لم يعدّوا من الغيبة ذكر المتجاهر بالفسق بما تجاهر به.

و الغيبة تفسد أجزاء المجتمع واحداً بعد واحد فتسقطها عن صلاحية التأثير الصالح المرجوّ من الاجتماع و هو أن يخالط كلّ صاحبه و يمازجه في أمن و سلامة بأن يعرفه إنساناً عدلاً سويّاً يأنس به و لا يكرهه و لا يستقذره، و أمّا إذا عرفه بما يكرهه و يعيبه به انقطع عنه بمقدار ذلك و ضعفت رابطة الاجتماع فهي كالأكلة الّتي تأكل جثمان من ابتلي بها عضواً بعد عضو حتّى تنتهي إلى بطلان الحياة.

و الإنسان إنّما يعقد المجتمع ليعيش فيه بهويّة اجتماعيّة أعني بمنزلة اجتماعيّة صالحة لأن يخالطه و يمازج فيفيد و يستفاد منه، و غيبته بذكر عيبه لغيره تسقطه عن هذه المنزلة و تبطل منه هذه الهويّة، و فيه تنقيص واحد من عدد المجتمع الصالح و لا يزال ينتقص بشيوع الغيبة حتّى يأتي على آخره فيتبدّل الصلاح فساداً و يذهب الاُنس و الأمن و الاعتماد و ينقلب الدواء داء.

فهي في الحقيقة إبطال هويّة اجتماعيّة على حين غفلة من صاحبها و من حيث

٣٥٢

لا يشعر به، و لو علم بذلك على ما فيه من المخاطرة لتحرّز منه و توقّي انهتاك ستره و هو الستر ألقاه الله سبحانه على عيوب الإنسان و نواقصه ليتمّ به ما أراده من طريق الفطرة من تألّف أفراد الإنسان و تجمّعهم و تعاونهم و تعاضدهم، و أين الإنسان و النزاهة من كلّ عيب.

و إلى هذه الحقيقة أشار تعالى فيما ذكره من التمثيل بقوله:( أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ ) و قد أتي بالاستفهام الإنكاريّ و نسب الحبّ المنفيّ إلى أحدهم و لم يقل: بعضكم و نحو ذلك ليكون النفي أوضح استيعاباً و شمولاً و لذا أكّده بقوله بعد:( فَكَرِهْتُمُوهُ ) فنسب الكراهة إلى الجميع و لم يقل: فكرهه.

و بالجملة محصّله أنّ اغتياب المؤمن بمنزلة أن يأكل الإنسان لحم أخيه حال كونه ميتا، و إنّما كان لحم أخيه لأنّه من أفراد المجتمع الإسلاميّ المؤلّف من المؤمنين و إنّما المؤمنون إخوة، و إنّما كان ميتا لأنّه لغيبته غافل لا يشعر بما يقال فيه.

و في قوله:( فَكَرِهْتُمُوهُ ) و لم يقل: فتكرهونه إشعار بأنّ الكراهة أمر ثابت محقّق منكم في أن تأكلوا إنساناً هو أخوكم و هو ميت فكما أنّ هذا مكروه لكم فليكن مكروهاً لكم اغتياب أخيكم المؤمن بظهر الغيب فإنّه في معنى أكل أحدكم أخاه ميتا.

و اعلم أنّ ما في قوله:( أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ ) إلخ، من التعليل جار في التجسّس أيضاً كالغيبة، و إنّما الفرق أنّ الغيبة هو إظهار عيب الغير للغير أو التوصّل إلى الظهور عليه من طريق نقل الغير، و التجسّس هو التوصّل إلى العلم بعيب الغير من طريق تتّبع آثاره و لذلك لم يبعد أن يكون الجملة أعني قوله:( أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً ) إلخ، تعليلاً لكلّ من الجملتين أعني( وَ لا تَجَسَّسُوا وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) .

و اعلم أنّ في الكلام إشعاراً أو دلالة على اقتصار الحرمة في غيبة المسلمين، و من القرينة عليه قوله في التعليل:( لَحْمَ أَخِيهِ ) فالاُخوّة إنّما هي بين المؤمنين.

و قوله:( وَ اتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ) ظاهره أنّه عطف على قوله:( اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ ) إن كان المراد بالتقوى هو التجنّب عن هذه الذنوب الّتي كانوا

٣٥٣

يقترفونها بالتوبة إلى الله سبحانه فالمراد بقوله:( إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ) أنّ الله كثير القبول للتوبة رحيم بعباده التائبين إليه اللائذين به.

و إن كان هو التجنّب عنها و التورّع فيها و إن لم يكونوا يقترفونها فالمراد بقوله:( إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ) أنّ الله كثير الرجوع إلى عباده المتّقين بالهداية و التوفيق و الحفظ عن الوقوع في مهالك الشقوة رحيم بهم.

و ذلك أنّ التوبة من الله توبتان: توبة قبل توبة العبد بالرجوع إليه بالتوفيق للتوبة كما قال تعالى:( ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ) التوبة: ١١٨، و توبة بعد توبة العبد بالرجوع إليه بالمغفرة و قبول التوبة كما في قوله:( فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ) المائدة: ٣٩.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى‏ وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) إلخ، الشعوب جمع شعب بالكسر فالسكون و هو على ما في المجمع الحيّ العظيم من الناس كربيعة و مضر، و القبائل جمع قبيلة و هي دون الشعب كتميم من مضر.

و قيل: الشعوب دون القبائل و سمّيت بها لتشعّبها، قال الراغب: الشعب القبيلة المنشعبة من حيّ واحد، و جمعه شعوب، قال تعالى:( شُعُوباً وَ قَبائِلَ ) و الشعب من الوادي ما اجتمع منه طرف و تفرّق طرف فإذا نظرت إليه من الجانب الّذي تفرّق أخذت في وهمك واحداً يتفرّق، و إذا نظرت من جانب الاجتماع أخذت في وهمك اثنين اجتمعا فلذلك قيل: شعبت إذا جمعت، و شعبت إذا فرقت. انتهى.

و قيل: الشعوب العجم و القبائل العرب، و الظاهر أنّ مآله إلى أحد القولين السابقين، و سيجي‏ء تمام الكلام فيه(١) .

ذكر المفسّرون أنّ الآية مسوقة لنفي التفاخر بالأنساب، و عليه فالمراد بقوله:( مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى) آدم و حوّاء، و المعنى: أنّا خلقناكم من أب و اُمّ تشتركون جميعاً فيهما من غير فرق بين الأبيض و الأسود و العربيّ و العجميّ و جعلناكم شعوباً و قبائل

____________________

(١) في البحث الروائي الآتي.

٣٥٤

مختلفة لا لكرامة لبعضكم على بعض بل لأن تتعارفوا فيعرف بعضكم بعضاً و يتمّ بذلك أمراً اجتماعكم فيستقيم مواصلاتكم و معاملاتكم فلو فرض ارتفاع المعرفة من بين أفراد المجتمع انفصم عقد الاجتماع و بادت الإنسانيّة فهذا هو الغرض من جعل الشعوب و القبائل لا أن تتفاخروا بالأنساب و تتباهوا بالآباء و الاُمّهات.

و قيل: المراد بالذكر و الاُنثى مطلق الرجل و المرأة، و الآية مسوقة لإلغاء مطلق التفاضل بالطبقات كالأبيض و الأسود و العرب و العجم و الغنيّ و الفقير و المولى و العبد و الرجل و المرأة، و المعنى: يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم من رجل و امرأة فكلّ واحد منكم إنسان مولود من إنسانين لا تفترقون من هذه الجهة، و الاختلاف الحاصل بالشعوب و القبائل - و هو اختلاف راجع إلى الجعل الإلهيّ - ليس لكرامة و فضيلة و إنّما هو لأن تتعارفوا فيتمّ بذلك اجتماعكم.

و اعترض عليه بأنّ الآية مسوقة لنفي التفاخر بالأنساب و ذمّه كما يدلّ عليه قوله:( وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا ) و ترتّب هذا الغرض على هذا الوجه غير ظاهر، و يمكن أن يناقش فيه أنّ الاختلاف في الأنساب من مصاديق الاختلاف الطبقاتي و بناء هذا الوجه على كون الآية مسوقة لنفي مطلق الاختلاف الطبقاتي و كما يمكن نفي التفاخر بالأنساب و ذمّه استناداً إلى أنّ الأنساب تنتهي إلى آدم و حوّاء و الناس جميعاً مشتركون فيهما، كذلك يمكن نفيه و ذمّه استناداً إلى أنّ كلّ إنسان مولود من إنسانين و الناس جميعاً مشتركون في ذلك.

و الحقّ أنّ قوله:( وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ ) إن كان ظاهراً في ذمّ التفاخر بالأنساب فأوّل الوجهين أوجه، و إلّا فالثاني لكونه أعمّ و أشمل.

و قوله:( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) استئناف مبيّن لما فيه الكرامة عندالله سبحانه، و ذلك أنّه نبّههم في صدر الآية على أنّ الناس بما هم ناس يساوي بعضهم بعضاً لا اختلاف بينهم و لا فضل لأحدهم على غيره، و أنّ الاختلاف المترائي في الخلقة من حيث الشعوب و القبائل إنّما هو للتوصّل به إلى تعارفهم ليقوم به الاجتماع المنعقد بينهم إذ لا يتمّ ائتلاف و لا تعاون و تعاضد من غير تعرّف فهذا هو غرض الخلقة

٣٥٥

من الاختلاف المجعول لا أن تتفاخروا بالأنساب و تتفاضلوا بأمثال البياض و السواد فيستعبد بذلك بعضهم بعضاً و يستخدم إنسان إنساناً و يستعلي قوم على قوم فينجرّ إلى ظهور الفساد في البرّ و البحر و هلاك الحرث و النسل فينقلب الدواء داء.

ثمّ نبّه سبحانه في ذيل الآية بهذه الجملة أعني قوله:( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) على ما فيه الكرامة عنده، و هي حقيقة الكرامة.

و ذلك أنّ الإنسان مجبول على طلب ما يتميّز به من غيره و يختصّ به من بين أقرانه من شرف و كرامة، و عامّة الناس لتعلّقهم بالحياة الدنيا يرون الشرف و الكرامة في مزايا الحياة المادّيّة من مال و جمال و نسب و حسب و غير ذلك فيبذلون جلّ جهدهم في طلبها و اقتنائها ليتفاخروا بها و يستعلوا على غيرهم.

و هذه مزايا وهميّة لا تجلب لهم شيئاً من الشرف و الكرامة دون أن توقعهم في مهابط الهلكة و الشقوة، و الشرف الحقيقيّ هو الّذي يؤدّي الإنسان إلى سعادته الحقيقيّة و هو الحياة الطيّبة الأبديّة في جوار ربّ العزّة و هذا الشرف و الكرامة هو بتقوى الله سبحانه و هي الوسيلة الوحيدة إلى سعادة الدار الآخرة، و تتبعها سعادة الدنيا قال تعالى:( تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَ اللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ) الأنفال: ٦٧، و قال:( وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى‏ ) البقرة: ١٩٧، و إذا كانت الكرامة بالتقوى فأكرم الناس عندالله أتقاهم كما قال تعالى.

و هذه البغية و الغاية الّتي اختارها الله بعلمه غاية للناس لا تزاحم فيها و لا تدافع بين المتلبّسين بها على خلاف الغايات و الكرامات الّتي يتّخذها الناس بحسب أوهامهم غايات يتوجّهون إليها و يتباهون بها كالغنى و الرئاسة و الجمال و انتشار الصيت و كذا الأنساب و غيرها.

و قوله:( إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) فيه تأكيد لمضمون الآية و تلويح إلى أنّ الّذي اختاره الله كرامة للناس كرامة حقيقيّة اختارها الله بعلمه و خبرته بخلاف ما اختاره الناس كرامة و شرفاً لأنفسهم فإنّها وهميّة باطلة فإنّها جميعاً من زينة الحياة الدنيا قال تعالى:( وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ

٣٥٦

لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) العنكبوت: ٦٤.

و في الآية دلالة على أنّ من الواجب على الناس أن يتّبعوا في غايات الحياة أمر ربّهم و يختاروا ما يختاره و يهدي إليه و قد اختار لهم التقوى كما أنّ من الواجب عليهم أن يختاروا من سنن الحياة ما يختاره لهم من الدين.

قوله تعالى: ( قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) إلخ الآية و ما يليها إلى آخر السورة متعرّضة لحال الأعراب في دعواهم الإيمان و منّهم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإيمانهم، و سياق نقل قولهم و أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجيبهم بقوله:( لَمْ تُؤْمِنُوا ) يدلّ على أنّ المراد بالأعراب بعض الأعراب البادين دون جميعهم، و يؤيّده قوله:( وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ) التوبة: ٩٩.

و قوله:( قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ) أي قالوا لك آمنّا و ادّعوا الإيمان قل لم تؤمنوا و كذّبهم في دعواهم، و قوله:( وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا ) استدراك ممّا يدلّ عليه سابق الكلام، و التقدير: فلا تقولوا آمنّا و لكن قولوا: أسلمنا.

و قوله:( وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) لنفي دخول الإيمان في قلوبهم مع انتظار دخوله، و لذلك لم يكن تكراراً لنفي الإيمان المدلول عليه بقوله:( لَمْ تُؤْمِنُوا ) .

و قد نفي في الآية الإيمان عنهم و أوضحه بأنّه لم يدخل في قلوبهم بعد و أثبت لهم الإسلام، و يظهر به الفرق بين الإيمان و الإسلام بأنّ الإيمان معنى قائم بالقلب من قبيل الاعتقاد، و الإسلام أمر قائم باللسان و الجوارح فإنّه الاستسلام و الخضوع لساناً بالشهادة على التوحيد و النبوّة و عملاً بالمتابعة العمليّة ظاهراً سواء قارن الاعتقاد بحقّيّة ما شهد عليه و عمل به أو لم يقارن، و بظاهر الشهادتين تحقن الدماء و عليه تجري المناكح و المواريث.

و قوله:( وَ إِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَ رَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً ) اللّيت النقص يقال: لاته يليته ليتا إذا نقصه، و المراد بالإطاعة الإخلاص فيها بموافقة الباطن للظاهر من غير نفاق، و طاعة الله استجابة ما دعي إليه من اعتقاد و عمل، و طاعة رسوله تصديقه

٣٥٧

و اتّباعه فيما يأمر به فيما له الولاية عليه من اُمور الاُمّة، و المراد بالأعمال جزاؤها المراد بنقص الأعمال نقص جزائها.

و المعنى: و إن تطيعوا الله فيما يأمركم به من اتّباع دينه اعتقاداً، و تطيعوا الرسول فيما يأمركم به لا ينقص من اُجور أعمالكم شيئاً، و قوله:( إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) تعليل لعدم نقصه تعالى أعمالهم إن أطاعوه و رسوله.

قوله تعالى: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) تعريف تفصيليّ للمؤمنين بعد ما عرّفوا إجمالاً بأنّهم الّذين دخل الإيمان في قلوبهم كما هو لازم قوله:( لَمْ تُؤْمِنُوا ) و( لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) .

فقوله:( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَ رَسُولِهِ ) فيه قصر المؤمنين في الّذين آمنوا بالله و رسوله إلخ، فتفيد تعريفهم بما ذكر من الأوصاف تعريفاً جامعاً مانعاً فمن اتّصف بها مؤمن حقّاً كما أنّ من فقد شيئاً منها ليس بمؤمن حقّاً.

و الإيمان بالله و رسوله عقد القلب على توحيده تعالى و حقّيّة ما أرسل به رسوله و على صحّة الرسالة و اتّباع الرسول فيما يأمر به.

و قوله:( ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا ) أي لم يشكّوا في حقّيّة ما آمنوا به و كان إيمانهم ثابتاً مستقرّاً لا يزلزله شكّ، و التعبير بثمّ دون الواو - كما قيل - للدلالة على انتفاء عروض الريب حيناً بعد حين كأنّه طريّ جديد دائماً فيفيد ثبوت الإيمان على استحكامه الأوّلىّ و لو قيل: و لم يرتابوا كان من الجائز أن يصدق مع الإيمان أوّلاً مقارناً لعدم الارتياب مع السكوت عمّا بعد.

و قوله:( وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ) المجاهدة بذل الجهد و الطاقة و سبيل الله دينه، و المراد بالمجاهدة بالأموال و الأنفس العمل بما تسعه الاستطاعة و تبلغه الطاقة في التكاليف الماليّة كالزكاة و غير ذلك من الإنفاقات الواجبة، و التكاليف البدنيّة كالصلاة و الصوم و الحجّ و غير ذلك.

و المعنى: و يجدّون بإتيان التكاليف الماليّة و البدنيّة حال كونهم أو حال كون

٣٥٨

عملهم في دين الله و سبيله.

و قوله:( أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) تصديق في إيمانهم إذا كانوا على الصفات المذكورة.

قوله تعالى: ( قُلْ أَ تُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَ اللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ اللهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ ) توبيخ للأعراب حيث قالوا: آمنّا و لازمه دعوى الصدق في قولهم و الإصرار على ذلك، و قيل: لمّا نزلت الآية السابقة حلفت الأعراب أنّهم مؤمنون صادقون في قولهم: آمنّا، فنزل:( قُلْ أَ تُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ ) الآية، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) أي يمنّون عليك بأن أسلموا و قد أخطأوا في منّهم هذا من وجهين أحدهما أنّ حقيقة النعمة الّتي فيها المنّ هو الإيمان الّذي هو مفتاح سعادة الدنيا و الآخرة دون الإسلام الّذي له فوائد صوريّة من حقن الدماء و جواز المناكح و المواريث، و ثانيهما أن ليس للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أمر الدين إلّا أنّه رسول مأمور بالتبليغ فلا منّ عليه لأحد ممّن أسلم.

فلو كان هناك منّ لكان لهم على الله سبحانه لأنّ الدين دينه لكن لا منّ لأحد على الله لأنّ المنتفع بالدين في الدنيا و الآخرة هم المؤمنون دون الله الغنيّ على الإطلاق فالمنّ لله عليهم أن هداهم له.

و قد بدّل ثانياً الإسلام من الإيمان للإشارة إلى أنّ المنّ إنّما هو بالإيمان دون الإسلام الّذي إنّما ينفعهم في الظاهر فقط.

فقد تضمّن قوله:( قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ ) إلخ، الإشارة إلى خطاهم من الجهتين جميعاً:

إحداهما: خطأهم من جهة توجيه المنّ إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو رسول ليس له من الأمر شي‏ء، و إليه الإشارة بقوله:( لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ ) .

و ثانيهما: أنّ المنّ - لو كان هناك منّ - إنّما هو بالإيمان دون الإسلام، و إليه

٣٥٩

الإشارة بتبديل الإسلام من الإيمان.

قوله تعالى: ( إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ) ختم للسورة و تأكيد يعلّل و يؤكّد به جميع ما تقدّم في السورة من النواهي و الأوامر و ما بيّن فيها من الحقائق و ما أخبر فيها عن إيمان قوم و عدم إيمان آخرين فالآية تعلّل بمضمونها جميع ذلك.

و المراد بغيب السماوات و الأرض ما فيها من الغيب أو الأعمّ ممّا فيهما و من الخارج منهما.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ) قال: نزلت في قوم من بني تميم استهزؤا من بلال و سلمان و عمّار و خبّاب و صهيب و ابن فهيرة و سالم مولى أبي حذيفة.

و في المجمع: نزل قوله:( لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ) في ثابت بن قيس بن شماس و كان في اُذنه وقر و كان إذا دخل المسجد تفسّحوا له حتّى يقعد عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيسمع ما يقول.

فدخل المسجد يوماً و الناس قد فرغوا من الصلاة و أخذوا مكانهم فجعل يتخطّى رقاب الناس و يقول: تفسّحوا تفسّحوا حتّى انتهى إلى رجل فقال له: أصبت مجلساً فاجلس فجلس خلفه مغضباً فلمّا انجلت الظلمة قال: من هذا؟ قال الرجل: أنا فلان فقال ثابت: ابن فلانة ذكر اُمّاً له كان يعيّر بها في الجاهليّة فنكس الرجل رأسه حياء فنزلت الآية. عن ابن عبّاس.

و فيه: و قوله:( وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ ) نزل في نساء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سخرن من اُمّ سلمة. عن أنس. و ذلك أنّها ربطت حقويها بسبيبة و هي ثوب أبيض و سدلت طرفيها خلفها فكانت تجرّه فقالت عائشة لحفصة: انظري ما ذا تجرّ خلفها كأنّه لسان كلب

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429