الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 429

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 429 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 120164 / تحميل: 6179
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

كما أن من الطبيعي أن يثير دهشتهم، ويذهلهم.. بعد أن لم يكن بينهم رجالات كفاة، يدركون ألاعيب السياسة، ودهاء ومكر الرجال. وقد عبر عن دهشتهم هذه نفس الخليفة الذي اختاروه، واستعاضوا به عن المأمون. فلقد قال ابن شكلة معاتبا العباسيين:

فـلا جزيت بنو العباس خيراً

على رغمي ولا اغتبطت بري

أتـوني مـهطعين، وقد أتاهم

بـوار الـدهر بالخبر الجلي

وقد ذهل الحواضن عن بنيها

وصـد الثدي عن فمه الصبي

وحـل عصائب الأملاك منها

فـشدت فـي رقاب بني علي

فضجت أن تشد على رؤوس

تـطالبها بـميراث النبي(١)

ب ـ ولكن دهشتهم وغضبهم لا قيمة لهما، في جانب ذهاب الخلافة عنهم بالكلية، وسفك دمائهم.. وقد أوضح لهم ذلك في رسالة منه إليهم، حيث قال: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى، بعد استحقاق منه لها في نفسه، فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم.). والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.

وقريب من ذلك ما جاء في وثيقة العهد، مخاطباً (أهل بيت أمير المؤمنين) حيث قال لهم: (.. راجين عائدته في ذلك (أي في البيعة للرضاعليه‌السلام ) في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم، ولم شعثكم، وسد ثغوركم.) فليغضبوا إذن قليلاً، فإنهم سوف يفرحون في نهاية الأمر كثيراً، وذلك عندما يعرفون الأهداف الحقيقية، التي كانت تكمن وراء تلك اللعبة، وأنها لم تكن إلا من أجل الإبقاء عليهم، واستمرار وجودهم في الحكم، والقضاء على أخطر خصومهم، الذين لن يكون الصدام المسلح معهم في صالحهم، إنهم دون شك عندما تؤتي تلك اللعبة ثمارها سوف يشكرونه، ويعترفون له بالجميل، ويعتبرون أنفسهم مدينين له مدى الحياة، ولسوف يذكرون دائما قوله لهم في رسالته المشار إلها آنفاً: (.. فإن تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم (يعني للعلويين) عاقبة ومنفعة، فإني في تدبيركم، والنظر لكم، ولعقبكم، ولأبنائكم من بعدكم.).

____________

(١) التنبيه والإشراف ص ٣٠٣، والولاة والقضاة للكندي ص ١٦٨.

١٨١

ومضمون هذه العبارة بعينه ـ تقريباً ـ قد جاء في وثيقة العهد، حيث قال فيها، موجها كلامه للعباسيين، رجاء أن يلتفتوا لما يرمي إليه من لعبته تلك.. فبعد أن طلب منهم بيعة منشرحة لها صدورهم ـ قال ـ: (.. عالمين بما أراد أمير المؤمنين بها، وآثر طاعة الله، والنظر لنفسه، ولكم فيها، شاكرين الله على ما ألهم أمير المؤمنين، من قضاء حقه في رعايتكم، وحرصه على رشدكم، وصلاحكم، راجين عائدته في ذلك في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم إلخ. ما قومناه..).

لا شك أنه إذا غضب عليه العباسيون، فإنه يقدر على إرضائهم في المستقبل، (وقد حدث ذلك بالفعل) عندما يطلعهم على حقيقة نواياه، ومخططاته، وأهدافه، ولكنه إذا خسر مركزه، وخلافته، فإنه لا يستطيع ـ فيما بعد ـ أن يستعيدها بسهولة، أو أن يعتاض عنها بشيء ذي بال.

ج ـ: إن من الإنصاف هنا أن نقول: إن اختيار المأمون للرضاعليه‌السلام ولياً للعهد، كان اختياراً موفقاً للغاية، كما سيتضح، وإنه لخير دليل على حنكته ودهائه، وإدراكه للأسباب الحقيقية للمشاكل التي كان يواجهها المأمون، ويعاني منها ما يعاني.

د ـ: إن من الأمور الجديرة بالملاحظة هنا هو أن اختيار المأمون لولي عهده، الذي لم يقبل إلا بعد التهديد بالقتل.. كان ينطوي في بادئ الرأي على مغامرة لا تنسجم مع ما هو معروف عن المأمون من الدهاء والسياسة، إذا ما أخذت مكانة الإمامعليه‌السلام ، ونفوذه بنظر الاعتبار، سيما مع ملاحظة: أنه هو الذي كان يشكل أكبر مصدر للخطر على المأمون، ونظام حكمه، حيث إنه كان يحظى بالاحترام والتقدير، والتأييد الواسع في مختلف الفئات والطبقات في الأمة الإسلامية.

ولكننا إذا دققنا الملاحظة نجد أن المأمون لم يقدم على اختيار الإمام وليا للعهد، إلا وهو على ثقة من استمرار الخلافة في بني أبيه، حيث كان الإمامعليه‌السلام يكبره بـ (٢٢) سنة، وعليه فجعل ولاية العهد لرجل بينه، وبين الخليفة الفعلي هذا الفارق الكبير بالسن، لم يكن يشكل خطراً على الخلافة، إذ لم يكن من المعروف، ولا المألوف أن يعيش ولي العهد ـ وهو بهذه السن المتقدمة ـ لو فرض سلامته من الدسائس والمؤامرات!.. إلى ما بعد الخليفة الفعلي، فإن ذلك من الأمور التي يبعد احتمالها جداً.

١٨٢

ه‍ ـ: ولهذا.. ولأن ما أقدم عليه لم يكن منتظراً من مثله، وهو الذي قتل أخاه من أجل الخلافة والملك، ولأنه من تلك السلالة المعادية لأهل البيتعليهم‌السلام .. احتاج المأمون إلى أن يثبت صدقه، وإخلاصه فيما أقدم عليه، وأن يقنع الناس بصفاء نيته، وسلامة طويته.. فأقدم لذلك. على عدة أعمال:

فأولاً: أقدم على نزع السواد شعار العباسيين، ولبس الخضرة شعار العلويين وكان يقول: إنه لباس أهل الجنة(١) . حتى إذا ما انتهى دور هذه الظاهرة بوفاة الإمام الرضاعليه‌السلام وتمكنه هو من دخول بغداد عاد إلى لبس السواد شعار العباسيين، بعد ثمانية أيام فقط من وصوله، على حد قول أكثر المؤرخين، وقيل: بل بقي ثلاثة أشهر. نزع الخضرة رغم أن العباسيين، تابعوه، وأطاعوه في لبسها، وجعلوا يحرقون كل ملبوس يرونه من السواد، على ما صرح به في مآثر الإنافة، والبداية والنهاية، وغير ذلك.

____________

(١) الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ٦٢ عن ابن الأثير.

١٨٣

وثانياً: ولنفس السبب(١) أيضاً نراه قد ضرب النقود باسم الإمام الرضاعليه‌السلام .

وثالثاً: أقدم للسبب نفسه على تزويج الإمام الرضاعليه‌السلام ابنته، رغم أنها كانت بمثابة حفيدة له، حيث كان يكبرها الإمامعليه‌السلام بحوالي أربعين سنة. كما أنه زوج ابنته الأخرى للإمام الجوادعليه‌السلام الذي كان لا يزال صغيراً، أي ابن سبع سنين(٢) .

ومن يدري: فلعله كان يهدف من تزويجهما أيضاً إلى أن يجعل عليهما رقابة داخلية. وأن يمهد السبيل، لكي تكون الأداة الفعالة، التي

____________

(١) التربية الدينية ص ١٠٠.

(٢) راجع مروج الذهب ج ٣ / ٤٤١، وغيره من كتب التاريخ. وفي الطبري ج ١١ / ١١٠٣، طبع ليدن، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٦٩: أنهعليه‌السلام لم يدخل بها إلا في سنة ٢١٥ للهجرة، ولكن يظهر من اليعقوبي ج ٢ / ٤٥٤ ط صادر: أنه زوج الجواد ابنته بعد وصوله إلى بغداد، وأمر له بألفي ألف درهم، وقال: إني أحببت أن أكون جداً لامرئ ولده رسول الله، وعلي بن أبي طالب، فلم تلد منه انتهى. وهذا يدل على أنه قد بادر إلى تزويج الجواد بعد قتل أبيه الرضاعليه‌السلام ليبرئ نفسه من الاتهام بقتل الرضاعليه‌السلام ، حيث إن الناس كانوا مقتنعين تقريباً بذلك ومطمئنين إليه، وسيأتي في أواخر الكتاب البحث عن ظروف وملابسات وفاتهعليه‌السلام ويلاحظ: أن كلمة المأمون هذه تشبه إلى حد بعيد كلمة عمر بن الخطاب حينما أراد أن يبرر إصراره غير الطبيعي على الزواج بأم كلثوم بنت عليعليه‌السلام حتى لقد استعمل أسلوباً غير مألوف في التهديد والوعيد من أجل الوصول إلى ما يريد.

١٨٤

يستعملها في القضاء على الإمامعليه‌السلام ، كما كان الحال بالنسبة لولده الإمام الجواد، الذي قتل بالسم الذي دسته إليه ابنة المأمون، بأمر من عمها المعتصم(١) ، فيكون بذلك قد أصاب عدة عصافير بحجر واحد. كما يقولون..

ويجب أن نتذكر هنا: أن المأمون كان قد حاول أن يلعب نفس هذه اللعبة مع وزيره الفضل بن سهل، فألح عليه أن يزوجه ابنته فرفض، وكان الرأي العام معه، فلم يستطع المأمون أن يفعل شيئاً، كما سنشير إليه.. لكن الإمامعليه‌السلام لم يكن له إلى الرفض سبيل، ولم يكن يستطيع أن يصرح بمجبوريته على مثل هكذا زواج. لأن الرأي العام لا يقبل ذلك منه بسهولة.. بل ربما كان ذلك الرفض سبباً في تقليل ثقة الناس بالإمام، حيث يرون حينئذٍ أنه لا مبرر لشكوكه تلك، التي تجاوزت ـ بنظرهم حينئذٍ ـ كل الحدود المألوفة والمعروفة..

وعلى كل حال: فإن كل الشواهد والدلائل تشير إلى أن زواج الإمام من ابنة المأمون كان سياسياً، مفروضاً إلى حد ما.. كما أننا لا نستبعد أن يكون زواج المأمون من بوران بنت الحسن بن سهل سياسياً أيضاً، حيث أراد بذلك أن يوثق علاقاته مع الإيرانيين، ويجعلهم يطمئنون إليه، خصوصاً بعد عودته إلى بغداد، وتركه مروا، وليبرئ نفسه من دم الفضل بن سهل، ويكتسب ثقة أخيه الحسن بن سهل، المعرف بثرائه ونفوذه.

ورابعاً: وللسبب نفسه أيضاً كان يظهر الاحترام والتبجيل للإمامعليه‌السلام ـ وإن كان يضيق عليه في الباطن(٢) ـ وكذلك كانت الحال بالنسبة لإكرامه للعلويين، حيث قد صرح هو نفسه بأن إكرامه لهم ما كان إلا سياسة منه ودهاء، ومن أجل الوصول إلى أهداف سياسية معينة، فقد قال في رسالته للعباسيين، المذكورة في أواخر هذا الكتاب: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى.. فما كان ذلك مني، إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم. وهي الطريق أسلكها في إكرام آل أبي طالب، ومواساتهم في الفيء، بيسير ما يصيبهم منه.).

____________

(١) ولعله قد استفاد ذلك من سلفه معاوية، وما جرى له مع الإمام الحسن السبطعليه‌السلام .

(٢) وقد سبقه إلى مثل ذلك سليمان عم الرشيد، عندما أرسل غلمانه، فأخذوا جنازة الكاظمعليه‌السلام من غلمان الرشيد، وطردوهم. ثم نادوا عليه بذلك النداء المعروف، اللائق بشأنه، فمدحه الرشيد، واعتذر إليه، ولام نفسه، حيث لم يأخذ في اعتباره ما يترتب على ما أقدم عليه من ردة فعل لدى الشيعة، ومحبي أهل البيتعليهم‌السلام ، والذين قد لا يكون للرشيد القدرة على مواجهتهم. وتبعه أيضاً المتوكل، حيث جاء بالإمام الهاديعليه‌السلام إلى سامراء، فكان يكرمه في ظاهر الحال، ويبغي له الغوائل في باطن الأمر، فلم يقدره الله عليه.. على ما صرح به ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص ٢٢٦، والمجلسي في البحار ج ٥٠ / ٢٠٣، والمفيد في الإرشاد ص ٣١٤.

١٨٥

ويذكرني قول المأمون: (ومواساتهم في الفيء إلخ..) بقول إبراهيم بن العباس الصولي ـ وهو كاتب القوم وعاملهم ـ في الرضا عندما قربه المأمون:

يـمن عـليكم بأموالكم

وتعطون من مئة واحدا

و ـ: إن المأمون ـ ولا شك ـ كان يعلم: أن ذلك كله ـ حتى البيعة للإمام ـ لا يضره ما دام مصمما على التخلص من ولي عهده هذا بأساليبه الخاصة. بعد أن ينفذ ما تبقى من خطته الطويلة الأجل، للحط من الإمام قليلاً قليلاً، حتى يصوره للرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ كما صرح هو نفسه(١) ، وكما صرح بذلك أيضاً عبد الله بن موسى في رسالته إلى المأمون، والتي سوف نوردها في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله، حيث يقول له فيها: (.. وكنت ألطف حيلة منهم. بما استعملته من الرضا بنا، والتستر لمحننا، تختل واحداً فواحداً منا إلخ.)(٢) .

إلى غير ذلك من الشواهد والدلائل، التي لا تكاد تخفى على أي باحث، أو متتبع..

أهداف المأمون من البيعة:

هذا.. وبعد كل الذي قدمناه، فإننا نستطيع في نهاية المطاف: أن نجمل أهداف المأمون، وما كان يتوخاه من أخذ البيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد بعده.. على النحو التالي:

الهدف الأول:

أن يأمن الخطر الذي كان يتهدده من قبل تلك الشخصية الفذة، شخصية الإمام الرضاعليه‌السلام الذي كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب، وكان الأرضى في الخاصة والعامة ـ باعتراف نفس المأمون ـ، حيث لا يعود باستطاعة الإمامعليه‌السلام أن يدعو الناس إلى الثورة ولا أن يأتي بأية حركة ضد الحكم، بعد أن أصبح هو ولي العهد فيه. ولسوف لا ينظر الناس إلى أية بادرة عدائية منه لنظام الحكم القائم إلا على أنها نكران للجميل، لا مبرر لها، ولا منطق يدعمها.

____________

(١) سنتكلم في القسم الرابع من هذا الكتاب، حول تصريحات المأمون، وخططه بنوع من التفصيل إن شاء الله تعالى.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٦٢٩.

١٨٦

وقد أشار المأمون إلى ذلك، عندما صرح بأنه: خشي إن ترك الإمام على حاله: أن ينفتق عليه منه ما لا يسده، ويأتي منه عليه ما لا يطيقه فأراد أن يجعله ولي عهده ليكون دعاؤه له. كما سيأتي بيانه في فصل: مع بعض خطط المأمون إن شاء الله تعالى.

الهدف الثاني:

أن يجعل هذه الشخصية تحت المراقبة الدقيقة، والواعية من قرب، من الداخل والخارج، وليمهد الطريق من ثم إلى القضاء عليها بأساليبه الخاصة. وقد أشرنا فيما سبق، إلى أننا لا نستبعد أن يكون من جملة ما كان يهدف إليه من وراء تزويجه الإمام بابنته، هو: أن يجعل عليه رقيبا داخليا موثوقا عنده هو، ويطمئن إليه الإمام نفسه.

وإذا ما لاحظنا أيضاً، أن: (المأمون كان يدس الوصائف هدية ليطلعنه على أخبار من شاء..)(١) ، وأنه كان: للمأمون على كل واحد صاحب خبر(٢) . (.. فإننا نعرف السر في إرساله بعض جواريه إلى الإمام الرضاعليه‌السلام بعنوان: هدية.. وقد أرجعها الإمامعليه‌السلام إليه مع عدة أبيات من الشعر، عندما رآها اشمأزت من شيبه)(٣) .

ولم يكتف بذلك، بل وضع على الإمامعليه‌السلام عيوناً آخرين، يخبرونه بكل حركة من حركاته، وكل تصرف من تصرفاته.

فقد كان: (هشام بن إبراهيم الراشدي من أخص الناس عند الرضاعليه‌السلام ، وكانت أمور الرضا تجري من عنده، وعلى يده، ولكنه لما حمل إلى مرو اتصل هشام بن إبراهيم بذي الرئاستين، والمأمون،

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٥ جلد ٢ ص ٥٤٩، نقلاً عن: العقد الفريد ج ١ / ١٤٨.

(٢) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٤ جلد ٢ ص ٤٤١، نقلاً عن: المسعودي ج ٢ / ٢٢٥، وطبقات الأطباء ج ١ / ١٧١، (٣) البحار ج ٤٩ / ١٦٤، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٧٨.

١٨٧

فحظي بذلك عندهما. وكان لا يخفي عليهما شيئاً من أخباره، فولاه المأمون حجابة الرضا. وكان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب، وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه. وكان لا يتكلم الرضا في داره بشيء إلا أورده هشام على المأمون، وذي الرئاستين..)(١) وعن أبي الصلت: أن الرضا (كان يناظر العلماء، فيغلبهم، فكان الناس يقولون: والله، إنه أولى بالخلافة من المأمون، فكان أهل الأخبار يرفعون ذلك إليه..)(٢) وأخيراً.. فإننا نلاحظ: أن جعفر بن محمد بن الأشعث، يطلب من الإمامعليه‌السلام : أن يحرق كتبه إذا قرأها، مخافة أن تقع في يد غيره، ويقول الإمامعليه‌السلام مطمئناً له: «إني إذا قرأت كتبه إلي أحرقتها.)(٣) إلى غير ذلك من الدلائل والشواهد الكثيرة، التي لا نرى أننا بحاجة إلى تتبعها واستقصائها.

الهدف الثالث:

أن يجعل الإمامعليه‌السلام قريباً منه، ليتمكن من عزله عن الحياة الاجتماعية، وإبعاده عن الناس، وإبعاد الناس عنه، حتى لا يؤثر عليهم بما يمتلكه من قوة الشخصية، وبما منحه الله إياه من العلم، والعقل، والحكمة. ويريد أن يحد من ذلك النفوذ له، الذي كان يتزايد باستمرار، سواء في خراسان، أو في غيرها.

وأيضاً.. أن لا يمارس الإمام أي نشاط لا يكون له هو دور رئيس فيه، وخصوصاً بالنسبة لرجال الدولة، إذ قد يتمكن الإمامعليه‌السلام من قلوبهم، ومن ثم من تدبير شيء ضد النظام القائم. دون أن يشعر أحد.

____________

(١) البحار ج ٤٩ / ١٣٩، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ٧٧، ٧٨، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٥٣.

(٢) شرح ميمية أبي فراس ص ٢٠٤، والبحار ج ٤٩ / ٢٩٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢٣٩.

(٣) كشف الغمة ج ٣ / ٩٢، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٩.

١٨٨

والأهم من ذلك كله:

أنه كان يريد عزل الإمامعليه‌السلام عن شيعته، ومواليه، وقطع صلاتهم به، وليقطع بذلك آمالهم، ويشتت شملهم، ويمنع الإمام من أن يصدر إليهم من أوامره، ما قد يكون له أثر كبير على مستقبل المأمون، وخلافته.

وبذلك يكون أيضاً قد مهد الطريق للقضاء على الإمامعليه‌السلام نهائياً، والتخلص منه بالطريقة المناسبة، وفي الوقت المناسب.

وقد قال المأمون إنه: (يحتاج لأن يضع من الإمام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر. ثم يدبر فيه بما يحسم عنه مواد بلائه.) كما سيأتي.

وقد قرأنا آنفاً أنه: (كان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب ـ أي هشام بن إبراهيم ـ وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه).

كما أن الرضا نفسه قد كتب في رسالته منه إلى أحمد بن محمد البيزنطي، يقول:((وأما ما طلبت من الإذن علي، فإن الدخول إلي صعب، وهؤلاء قد ضيقوا علي في ذلك الآن، فلست تقدر الآن، وسيكون إن شاء الله...)) (١) .

____________

(١) رجال المامقاني ج ١ / ٧٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٢.

١٨٩

كما أننا نرى أنه عندما وصل إلى القادسية، وهو في طريقه إلى مرو، يقول لأحمد بن محمد بن أبي نصر: (إكتر لي حجرة لها بابان: باب إلى الخان، وباب إلى خارج، فإنه أستر عليك..)(١) .

ولعل ذلك هو السبب في طلبه من الإمامعليه‌السلام ، ومن رجاء بن أبي الضحاك: أن يمرا عن طريق البصرة، فالأهواز إلخ.. ما سيأتي: ولا نستبعد أيضاً أن يكون عزل الإمام عن الناس، هو أحد أسباب إرجاع الإمام الرضا عن صلاة العيد مرتين(٢) . وللسبب نفسه أيضاً فرق عنه تلامذته، عندما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس، وحتى لا يظهر علم الإمام، وفضله.. إلى آخر ما هنالك من صفحات تاريخ المأمون السوداء.

الهدف الرابع:

إن المأمون في نفس الوقت الذي يريد فيه أن يتخذ من الإمام مجناً يتقي به سخط الناس على بني العباس، ويحوط نفسه من نقمة الجمهور. يريد أيضاً، أن يستغل عاطفة الناس ومحبتهم لأهل البيت ـ والتي زادت ونمت بعد الحالة التي خلفتها الحرب بينه وبين أخيه ـ ويوظف ذلك في صالحه هو، وصالح الحكم العباسي بشكل عام.

أي أنه كان يهدف من وراء لعبته تلك، والتي كان يحسب أنها سوف تكون رابحة جداً ـ إلى أن يحصل على قاعدة شعبية، واسعة، وقوية. حيث كان يعتقد ويقدر: أن نظام حكمه سوف ينال من التأييد، والقوة، والنفوذ، بمقدار ما كان لتلك الشخصية من التأييد، والنفوذ والقوة.. وإذا ما استطاع في نهاية الأمر أن يقضي عليها، فإنه يكون قد أمن خطراً عظيماً، كان يتهدده من قبلها، بمقدار ما كان لها من العظمة والخطر.

____________

(١) بصائر الدرجات ص ٢٤٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٥٥.

(٢) هذه القضية معروفة ومشهورة، فراجع: الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص ٢٤٦، ٢٤٧، ومطالب السؤول، لمحمد بن طلحة الشافعي، طبعة حجرية ص ٨٥، وإثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٥، ومعادن الحكمة ص، ١٨٠، ١٨١، ونور الأبصار ص ١٤٣، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥، وإعلام الورى ص ٣٢٢، ٣٢٣، وروضة الواعظين ج ١ / ٢٧١، ٢٧٢، وأصول الكافي ج ١ / ٤٨٩، ٤٩٠، والبحار ج ٤٩ / ١٣٥، ١٣٦، ١٧١، ١٧٢، وعيون أخبار الرضا، وإرشاد المفيد، وأعيان الشيعة، وكشف الغمة، وغير ذلك.

ولسوف يأتي فصل: خطة الإمام، وغيره من الفصول، ما يتعلق بذلك إن شاء الله تعالى.

١٩٠

إن المأمون قد اختار لولاية عهده رجلاً يحظى بالاحترام والتقدير من جميع الفئات والطبقات، وله من النفوذ، والكلمة المسموعة، ما لم يكن لكل أحد سواه في ذلك الحين. بل لقد كان الكثيرون يرون: أن الخلافة حق له، وينظرون إلى الهيئة الحاكمة على أنها ظالمة له وغاصبة لذلك الحق:

يقول الدكتور الشيبي، وهو يتحدث عن الرضاعليه‌السلام : (إن المأمون جعله ولي عهده، لمحاولة تألف قلوب الناس ضد قومه العباسيين، الذين حاربوه، ونصروا أخاه..)(١) .

ويقول:. (.. وقد كان الرضا من قوة الشخصية، وسمو المكانة: أن التف حوله المرجئة، وأهل الحديث، والزيدية، ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته.)(٢) .

وكذلك هو يقول ـ وهو مهم فيما نحن بصدده ـ: (.. إن الرضا لم يكن بعد توليته العهد إمام الشيعة وحدهم، وإنما مر بنا:

____________

(١) الصلة بين التصوف والتشيع ص ٢٢٣، ٢٢٤.. ونحن لا نوافق الدكتور الشيبي على أنه كان يريد التقوي بذلك على العباسيين، كما اتضح، وسيتضح إن شاء الله.

(٢) المصدر السابق ص ٢١٤.

١٩١

أن الناس، حتى أهل السنة، والزيدية، وسائر الطوائف الشيعية المتناحرة.. قد اجتمعت على إمامته، وإتباعه، والالتفاف حوله.)(١) .

وهذا كما ترى تصريح واضح منه بهدف المأمون، الذي نحن بصدد بيانه.

ويقول محمد بن طلحة الشافعي مشيراً إلى ذلك، في معرض حديثه عن الإمام الرضاعليه‌السلام : (.. نما إيمانه، وعلا شأنه، وارتفع مكانه، وكثر أعوانه، وظهر برهانه، حتى أدخله الخليفة المأمون محل مهجته، وأشركه في مملكته.)(٢) .

وتقدم أنهعليه‌السلام كان ـ باعتراف المأمون ـ (الأرضى في الخاصة والعامة) وأن كتبه كانت تنفذ في المشرق والمغرب، حتى إن البيعة له بولاية العهد، لم تزده في النعمة شيئاً.. وأنه كان له من قوة الشخصية ما دفع أحد أعدائه لأن يقول في حقه للمأمون: (هذا الذي بجنبك والله صنم يعبد دون الله) إلى آخر ما هنالك، مما قدمنا (غيضاً من فيض منه).

كما وتقدم أيضاً قول المأمون في رسالته للعباسيين: (.. وإن تزعموا: أني أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة ـ يعني للعلويين ـ، فإني في تدبيركم، والنظر لكم. ولعقبكم، وأبنائكم من بعدكم..)، وأيضاً عبارته التي كتبها المأمون بخط يده في وثيقة العهد، فلا نعيد.

وهكذا.. فما على العباسيين إلا أن ينعموا بالاً، ويقروا عيناً، فإن المأمون كان يدبر الأمر لصالحهم ومن أجلهم.. وليس كما يقوله الدكتور الشيبي، وغيره من أنه أراد أن يحصل على التأييد الواسع، ليقابل العباسيين، ويقف في وجههم.

____________

(١) المصدر السابق ص ٢٥٦.

(٢) مطالب السؤول ص ٨٤، ٨٥. وقريب منه ما في: الإتحاف بحب الأشراف ص ٥٨.

١٩٢

إشارة هامة لا بد منها:

هذا.. ويحسن بنا أن نشير هنا: إلى ما قاله ابن المعتز في الروافض. وإلقاء نظرة فاحصة على السبب الذي جعلهم مستحقين لهذه الحملة الشعواء منه.. فهو يقول:

لـقد قـال الروافض في علي

مـقالاً جـامعاً كـفراً وموقا

زنـادقة أرادت كـسب مـال

مـن الـجهال فـاتخذته سوقا

وأشـهـد أنـه مـنهم بـريّ

وكـان بـأن يـقتلهم خـليقا

كـما كـذبوا عـليه وهو حي

فـأطعم نـاره مـنهم فـريقا

وكـانوا بالرضا شغفوا زماناً

وقـد نفخوا به في الناس بوقا

وقـالـوا: إنـه رب قـديرا

فكم لصق السواد به لصوقا(١)

وهذه الأبيات تعبر عن مدى صدمة ابن المعتز، وخيبة أمله في الروافض، الذين ضايقه جداً امتداد دعوتهم في طول البلاد الإسلامية، وعرضها. وخصوصاً في زمن الرضا. والذي لم يجد شيئاً يستطيع أن ينتقص به إمامهم الرضاعليه‌السلام سوى أنه كان أسود اللون، وأن الروافض قالوا: إنه رب قدير.. وسر حنقه هذا على الروافض ليس هو إلا عقيدتهم في عليعليه‌السلام ـ التي كان يراها خطراً حقيقياً على القضية العباسية ـ والتي تتلخص بأنهعليه‌السلام : يستحق الخلافة بالنص. وهذه العقيدة والمقالة هي التي جعلتهم يستحقون من ابن المعتز أن يجمع لهم بين وصفي الكفر والزندقة، واتهامه لهم، بأنهم يقصدون بذلك كسب المال من الجهال. ثم يتهمهم بأنهم قد قالوا بنفس هذه المقالة في علي الرضاعليه‌السلام ، فقالوا: إنه الإمام الثابت إمامته بالنص، وشهروا بذلك، حتى علم به عامة الناس، ونفخوا به في الناس بوقاً.. وحتى لقد التف حوله أهل الحديث، والزيدية. بل والمرجئة، وأهل السنة، على حد تعبير الشيبي، وقالوا: بإمامة أبيه، ثم بإمامته.

____________

(١) ديوان ابن المعتز ص ٣٠٠، ٣٠١، والأدب في ظل التشيع ص ٢٠٦.

١٩٣

وبديهي.. أن لا يرتاح ابن المعتز، الذي كان في صميم الأسرة العباسية لهذا الامتداد للتشيع، ولمقالة الروافض، حيث إن ذلك يعني أن الأئمة الذين هم بين الرضا، وعلي أمير المؤمنينعليهما‌السلام ، كلهم تثبت إمامتهم بالنص.

ولقد بلغ من حنقه عليهم، بسبب ذلك الامتداد الواسع لعقيدتهم ـ وخصوصاً في زمان الرضا ـ أن دفعه إلى أن يخلط عن عمد، أو عن غير عمد بين عقيدة الروافض هذه، وبين عقيدة الغلاة، حيث أضاف إلى مقالة الروافض تلك مقالة أخرى، هي: القول بإلوهية عليعليه‌السلام .

وإذا كنا واثقين من أن الفرق الشاسع بين عقيدة الروافض، وعقيدة الغلاة، لم يكن ليخفى على مثل ابن المعتز، بل على من هو أقل منه بمراتب، فإننا سوف ندرك بما لا مجال معه للشك: أن يقصد بهذا الخلط المتعمد: التشنيع على الروافض، وتهجين عقيدتهم، إذ أنه يقصد ب‍ـ (الروافض)، ـ حسبما هو صريح كلامه ـ خصوص القائلين بإمامة الرضا، وإمامة علي أمير المؤمنين، ومن بينهما. وهو يعلم وكل أحد يعلم: أنه ليس فيهم من يقول بإلوهية أحدهما، أو إلوهيتهما، أو إلوهية غيرهما من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام .

وأخيراً.. فإن قول واعتراف ابن المعتز هذا ـ وهو من نعلم ـ لخير دليل على مدى تحرر الشيعة في زمن الرضا، واتساع نفوذهم، وعلى أن شخصية الرضاعليه‌السلام ، كانت قد استقطبت قطاعاً واسعاً، إن لم نقل: أنه القطاع الأكبر من الأمة الإسلامية، في طول البلاد وعرضها، في تلك الفترة من الزمن، وقد تقدم بعض ما يدل على ذلك، فلا نعيد.

الهدف الخامس:

هذا.. ونستطيع أن نقول أيضاً: إنه كان يريد أن يقوي من دعائم حكمه، حيث قد أصبح الحكم يمتلك شخصية تعنو لها الجباه بالرضا والتسليم، ولقد كان الحكم بأمس الحاجة إلى شخصية من هذا القبيل. في مقابل أولئك المتزلفين القاصرين، الذين كانوا يتجمعون حول الحكم العباسي، طلبا للشهرة، وطمعا بالمال، والذين لم يعد يخفى على أحد حالهم ومآلهم.. وعلى الأخص بعد أن رأى فشلهم في صد حملات علماء الملل الأخرى، والذين كانوا قد ضاعفوا نشاطاتهم، عندما رأوا ضعف الدولة، وتمزقها، وتفرقها إلى جماعات وأحزاب.

نعم.. لقد كان الحكم يحتاج إلى العلماء الأكفاء، والأحرار في تفكيرهم، وفي نظرتهم الواعية للإنسان والحياة، ولم يعد بحاجة إلى المتزلفين، والجامدين، والانهزاميين، ولهذا نراه يستبعد أصحاب الحديث الجامدين، الذين كان أكثرهم في الجهة المناوئة له، يشدون من أزرها، ويقيمون أودها..

١٩٤

ويقرب المعتزلة: كبشر المريسي، وأبي الهذيل العلاف وأضرابهما. ولكن الشخصية العلمية، التي لا يشك أحد في تفوقها على جميع أهل الأرض علماً وزهدا، وورعاً وفضلاً الخ. كانت منحصرة في الإمام الرضاعليه‌السلام ، باعتراف من نفس المأمون، كما قدمنا، ولهذا فقد كان الحكم يحتاج إليها أكثر من احتياجه لأية شخصية أخرى، مهما بلغت.

الهدف السادس:

ولعل من الأهمية بمكان بالنسبة إليه، أنه يكون في تلك الفترة المليئة بالقلاقل والثورات، قد أتى الأمة بمفاجئة مثيرة، من شأنها أن تصرف أنظار الناس عن حقيقة ما يجري، وما يحدث، وعن واقع المشاكل التي كان يعاني الحكم والأمة منها، وما أكثرها.

وقد عبر إبراهيم بن المهدي، عن دهشة بني العباس في أبياته المتقدمة. حتى لقد ذهل ـ على حد قوله ـ الحواضن عن بنيها! وصد الثدي عن فمه الصبي!

وبعد هذا. فلسنا بحاجة إلى كبير عناء، لإدراك مدى دهشة غيرهم: ممن رأوا وسمعوا بمعاملة العباسيين لأبناء عمهم. ولسوف ندرك مدى عظمة دهشتهم تلك إذا ما لاحظنا: أنهم كانوا سياسياً أقل وعيا وتجربة من مثل إبراهيم بن المهدي، الذي عاش في أحضان الخلافة. وكان بمرأى ومسمع من ألاعيب السياسة، ومكر الرجال.

الهدف السابع:

طبيعي بعد هذا: أنه قد أصبح يستطيع أن يدعي، بل لقد ادعى بالفعل ـ على ما في وثيقة العهد ـ: أن جميع تصرفاته، وأعماله، لم يكن يهدف من ورائها، إلا الخير للأمة، ومصلحة المسلمين، وحتى قتله أخاه، لم يكن من أجل الحكم، والرياسة، بقدر ما كان من أجل خير المسلمين، والمصلحة العامة، يدل على ذلك: أنه عندما رأى أن خير الأمة، إنما هو في إخراج الخلافة من بني العباس كلية، وهم الذين ضحوا الكثير في سبيلها، وقدموا من أجلها ما يعلمه كل أحد ـ عندما رأى ذلك ـ وأن ذلك لا يكون إلا بإخراجها إلى ألد أعدائهم، سارع إلى ذلك، بكل رضى نفس، وطيبة خاطر.. وليكون بذلك قد كفر عن جريمته النكراء، والتي كانت أحد أسباب زعزعة ثقة الناس به، ألا وهي: قتله أخاه الأمين، العزيز على العباسيين والعرب. وليكون بذلك، قد ربط الأمة بالخلافة، وكسب ثقتها فيها، وشد قلوب الناس، وأنظارهم إليها، حيث أصبح باستطاعتهم أن ينتظروا منها أن تقيم العدل، وترفع الظلم، وأن تكون معهم، وفي خدمتهم، وتعيش قضاياهم. وليكون لها من ثم من المكانة والتقدير، وما يجعلها في منأى ومأمن من كل من يتحينون بها الفرص، ويبغون لها الغوائل.

١٩٥

ويدل على ذلك ـ عدا عما ورد في وثيقة العهد ـ ما ورد من أن المأمون كتب إلى عبد الجبار بن سعد المساحقي، عامله على المدينة: أن اخطب الناس، وادعهم إلى بيعة الرضا، فقام خطيبا، فقال:

(يا أيها الناس، هذا الأمر الذي كنتم فيه ترغبون، والعدل الذي كنتم تنتظرون، والخير الذي كنتم ترجون، هذا علي بن موسى، بن جعفر، بن محمد، بن علي، بن الحسين، بن علي بن أبي طالب:

ســتـة آبــاؤهـم مــا هــم

من أفضل من يشرب صوب الغمام(١)

وقد أكد ذلك بحسن اختياره، إذ قد اختار هذه الشخصية، التي تمثل ـ في الحقيقة ـ أمل الأمة، ورجاءها، في حاضرها، ومستقبلها، وتكون النتيجة ـ بعد ذلك ـ أنه يكون قد حصل على حماية لكل تصرف يقدم عليه في المستقبل، وكل عمل يقوم به.. مهما كان غريباً، ومهما كان غير معقول، فإن على الأمة أن تعتبره صحيحاً وسليماً، لا بد منه، ولا غنى عنه، وإن لم تعرف ظروفه، ودوافعه الحقيقية. بل وحتى مع علمها بها، فإن عليها أن تؤول ما يقبل التأويل، وإلا. فإن عليها أن تدفن رأسها في التراب، وتتناسى ما تعلم. أو أن تعتبر نفسها قاصرة عن إدراك المصالح الحقيقية الكامنة في تلك التصرفات الغريبة، وأن ما أدركته ـ ولو كان حقاً ـ لا واقع له، ولا حقيقة وراءه. ويدل على ذلك بشكل واضح أبيات ابن المعتز الآتية ص ٣٠٥/٣٠٦ يقول ابن المعتز:

وأعـطاكم الـمأمون حـق خلافة

لـنا حـقها لـكنه جـاد بـالدنيا

لـيعلمكم أن الـتي قـد حرصتموا

عليها وغودرتم على أثرها صرعى

يـسير عـليه فـقدها غـير مكثر

كـما ينبغي للصالحين ذوي التقوى

____________

(١) العقد الفريد ج ٣ / ٣٩٢، طبع مصطفى محمد بمصر سنة ١٩٣٥ و (ما) في البيت زائدة.. ولا يخفى ما في البيت، وقد أثبتناه، كما وجدناه.

١٩٦

وعلى كل حال، فإنه يتفرع على ما ذكرناه:

أولاً: إنه بعد أن أقدم على ما أقدم عليه، فليس من المنطقي بعد للعرب أن يسخطوا عليه، بسبب معاملة أبيه، أو أخيه، وسائر أسلافه لهم، فإن المرء بما كسب هو، لا بما كسب أهله، ولا تزر وازرة وزر أخرى.

وكيف يجوز لهم أن يغضبوا بعد، وهو قد أرجع الخلافة إليهم، بل وإلى أعرق بيت فيهم. وعرفهم عملا: أنه لا يريد لهم، ولغيرهم، إلا الصلاح والخير..

وليس لهم بعد حق في أن ينقموا عليه معاملته القاسية لهم، ولا قتله أخاه، ولا أن يزعجهم، ويخيفهم تقريبه للإيرانيين، ولا جعله مقر حكمه مروا إلى آخر ما هنالك.. ما دام أن الخلافة قد عادت إليهم، على حسب ما يشتهون، وعلى وفق ما يريدون.

ومن هنا.. فلا يجب أن نعجب كثيراً، حين نراهم: قد تلقوا بيعة الرضا بنفوس طيبة، وقلوب رضية. حتى أهل بغداد نرى أنهم قد تقبلوها إلى حد كبير، فقد نص المؤرخون ـ ومنهم الطبري، وابن مسكويه ـ على أن بعضهم وافق، والبعض الآخر ـ وهم أنصار بني العباس ـ رفض. وهذا يدل دلالة واضحة: على أن بغداد، معقل العباسيين الأول، كانت تتعاطف مع العلويين إلى درجة كبيرة..

١٩٧

بل ونص المؤرخون، على أن: إبراهيم بن المهدي، المعروف بابن شكلة، الذي بويع له في بغداد غضبا من تولية الرضا للعهد: لم يستطع أن يسيطر إلا على بغداد، والكوفة والسواد(١) ، بل وحتى الكوفة قد استمرت الحرب قائمة فيها على ساق وقدم أشهراً عديدة بين أنصار المأمون، وعليهم الخضرة، وأنصار العباسيين وعليهم السواد(٢) .

وثانياً: وأما الإيرانيون عامة، والخراسانيون خاصة، والمعروفون بتشيعهم للعلويين، فقد ضمن المأمون استمرار تأييدهم له، وثقتهم به، بعد أن حقق لهم غاية أمانيهم. وأغلى أحلامهم، وأثبت لهم عملاً، حبه لمن يحبون، ووده لمن يودون.. وأن لا ميزة عنده لعباسي على غيره، ولا لعربي على غيره، وأن الذي يسعى إليه، هو ـ فقط خير الأمة، ومصلحتها، بجميع فئاتها، ومختلف طبقاتها، وأجناسها.

ملاحظة هامة:

إن من الجدير بالملاحظة هنا: أن الرضاعليه‌السلام كان قد قدم إلى إيران قبل ذلك. والظاهر أنه قدمها في حدود سنة ١٩٣ ه‍. أي في الوقت المناسب لوفاة الرشيد، فقد ذكر الرضي المعاصر للمجلسي في كتابه: ضيافة الإخوان: أن علياً الرضاعليه‌السلام كان مستخفياً في قزوين في دار داوود بن سليمان الغازي أبي عبد الله، ولداوود نسخة يرويها عن الرضاعليه‌السلام ، وأهل قزوين يروونها عن داوود، كإسحاق بن محمد، وعلي بن مهرويه(٣) .

وقال الرافعي في التدوين: (وقد اشتهر اجتياز علي بن موسى الرضا بقزوين. ويقال: إنه كان مستخفيا في دار داوود بن سليمان الغازي، روى عنه النسخة المعروفة، وروى عنه إسحاق بن محمد، وعلي بن مهرويه، وغيرهما.

____________

(١) راجع البداية والنهاية ج ١٠ / ٢٤٨، وغيره من كتب التاريخ. وزاد أحمد شلبي في كتابه: التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ / ١٠٥ ـ زاد على ذلك: المدائن أيضاً.

(٢) راجع: الكامل لابن الأثير ج ٥ / ١٩٠، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٤٨، وغير ذلك.

(٣) راجع كتاب: ضيافة الإخوان مخطوط في مكتبة المدرسة الفيضية في قم، في ترجمة أبي عبد الله القزويني، وعلي بن مهرويه القزويني.

١٩٨

قال الخليل: وابنه المدفون في مقبرة قزوين، يقال: إنه كان ابن سنتين، أو أصغر)(١) انتهى كلام الرافعي.

والمراد بالخليل في كلامه، هو الخليل بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الخليلي، القزويني، وهو الحافظ المشهور، مصنف كتاب الإرشاد، وكتاب تاريخ قزوين، الذي فرغ من تأليفه حوالي سنة أربعمائة هجرية، وكانت وفاته سنة ٤٤٦ ه‍.

الهدف الثامن:

لقد كان من نتائج اختياره الإمام، والبيعة له بولاية العهد ـ التي كان يتوقعها ـ: أن أخمد ثورات العلويين في جميع الولايات والأمصار.

ولعله لم تقم أية ثورة علوية ضد المأمون ـ بعد البيعة للرضا، سوى ثورة عبد الرحمان بن أحمد في اليمن. وكان سببها ـ باتفاق المؤرخين ـ هو فقط: ظلم الولاة وجورهم، وقد رجع إلى الطاعة بمجرد الوعد بتلبية مطالبه.

بل لا بد لنا أن نضيف إلى ذلك:

أ ـ : إنه ليس فقط أخمد ثوراتهم. بل لقد حصل على ثقة الكثيرين منهم، ومن والاهم، وشايعهم. والخراسانيون منهم، ويشير المأمون إلى هذا المعنى في رسالته، التي أرسلها إلى عبد الله بن موسى، حيث يقول:

(.. ما ظننت أحداً من آل أبي طالب يخافني، بعد ما عملته بالرضا) والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.. كما أنه كتب للعباسيين في بغداد في رسالته، التي أشرنا إليها غير مرة، يقول لهم: إنه يريد بذلك أن يحقن دماءهم، ويذود عنهم، باستدامة المودة بنيهم، وبين العلويين.

ب: بل ونزيد هنا على ما تقدم: أنه قد بايعه منهم ومن أشياعهم من لم يكن بعد قد بايعه، وهم قسم كبير جداً، بل لقد بايعه أكثر المسلمين، ودانوا له بالطاعة، بعد أن كانوا مخالفين له ممتنعين عن بيعته، حسبما قدمناه.

وهذه دون شك هي إحدى أمنيات المأمون، بل هي أجل أمنياته وأغلاها.

ج: قال ابن القفطي في معرض حديثه عن عبد الله بن سهل ابن نوبخت:

(.. هذا منجم مأموني، كبير القدر في صناعته، يعلم المأمون قدره في ذلك. وكان لا يقدم إلا عالما مشهودا له، بعد الاختيار..

____________

(١) التدوين قسم ٢ ورقة ٢٣٥ مخطوط في مكتبة دار التبليغ الإسلامي في قم، ترجمة علي الرضا..

١٩٩

وكان المأمون قد رأى آل أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب متخشين، متخفين، من خوف المنصور، ومن جاء بعده من بني العباس. ورأى العوام قد خفيت عنهم أمورهم بالاختفاء، فظنوا ما يظنونه بالأنبياء، ويتفوهون بما يخرجهم عن الشريعة، من التغالي.

فأراد معاقبة العامة على هذا الفعل.

ثم فكر: أنه إذا فعل هذا بالعوام زادهم إغراء به، فنظر نظراً دقيقاً، وقال: لو ظهروا للناس، ورأوا فسق الفاسق منهم، وظلم الظالم، لسقطوا من أعينهم، ولانقلب شكرهم لهم ذماً.

ثم قال: إذا أمرناهم بالظهور خافوا، واستتروا، وظنوا بنا سوءاً، وإنما الرأي: أن نقدم أحدهم، ويظهر لهم إماماً، فإذا رأوا هذا أنسوا، وظهروا، وأظهروا ما عندهم من الحركات الموجودة في الآدميين، فيحقق للعوام حالهم، وما هم عليه، مما خفي بالاختفاء، فإذا تحقق ذلك أزلت من أقمته، ورددت الأمر إلى حالته الأولى. وقوي هذا الرأي عنده، وكتم باطنه عن خواصه.. وأظهر للفضل ابن سهل: أنه يريد أن يقيم إماماً من آل أمير المؤمنين علي (صلوات الله عليه).

وفكر هو وهو: فيمن يصلح، فوقع إجماعهما على الرضا، فأخذ الفضل بن سهل في تقرير ذلك. وترتيبه وهو لا يعلم باطن الأمر. وأخذ في اختيار وقت لبيعة الرضا، فاختار طالع السرطان، وفيه المشتري الخ)(١) .

ثم ذكر أن عبد الله بن سهل أراد اختبار المأمون، فأخبره أن البيعة لا تتم إذا وقعت في ذلك الوقت، فهدده المأمون بالقتل إن لم تقع البيعة في ذلك الوقت بالذات، لأنه سوف يعتبر أنه هو الذي أفسد عليه ما كان دبره الخ..

وابن القفطي هنا، لا يبدو أنه يعتبر الإمام الرضاعليه‌السلام من أولئك الذين يريد المأمون إظهار تفاهاتهم للناس، ولكنه يوجه نظره إلى بقية العلويين في ذلك.. ونحن إن كنا لا نستبعد من المأمون ما ذكره ابن القفطي هنا لكننا لا نستطيع أن نعتبر أن هذا كان من الأسباب الرئيسية لدى المأمون، إذ لا نعتقد أن المأمون كان من السذاجة بحيث يجهل أن بقية العلويين لم يكونوا ـ إجمالاً ـ على الحال التي كان يريد أن يظهرهم عليها للناس، وأنهم كانوا أكثر تديناً والتزاماً من أي فئة أخرى على الإطلاق..

____________

(١) تاريخ الحكماء ص ٢٢١، ٢٢٢.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

فهذه كانت سخريّتهما، و قيل: إنّها عيّرتها بالقصر، و أشارت بيدها أنّها قصيرة. عن الحسن.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و عبد بن حميد و البخاريّ في الأدب، و أبوداود و الترمذيّ و النسائيّ و ابن ماجة و أبويعلى و ابن جرير و ابن المنذر و البغويّ في معجمه، و ابن حبّان و الشيرازيّ في الألقاب، و الطبرانيّ و ابن السني في عمل اليوم و الليلة، و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه و البيهقيّ في شعب الإيمان، عن أبي جبيرة بن الضحّاك قال: فينا نزلت في بني سلمة( وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ ) قدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة و ليس فينا رجل إلّا و له اسمان أو ثلاثة فكان إذا دعا أحدهم باسم من تلك الأسماء قالوا: يا رسول الله إنّه يكره هذا الاسم فأنزل الله( وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ ) .

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدّي: أنّ سلمان الفارسيّ كان مع رجلين في سفر يخدمهما و ينال من طعامهما و أنّ سلمان نام نوماً فطلبه صاحباه فلم يجداه فضربا الخباء و قالا ما يريد سلمان شيئاً غير هذا أن يجي‏ء إلى طعام معدود و خباء مضروب فلمّا جاء سلمان أرسلاه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطلب لهما إداماً فانطلق فأتاه فقال: يا رسول الله بعثني أصحابي لتؤدمهم إن كان عندك. قال: ما يصنع أصحابك بالأدم؟ قد ائتدموا.

فرجع سلمان فخبّرهما فانطلقا فأتيا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالا: و الّذي بعثك بالحقّ ما أصبنا طعاماً منذ نزلنا. قال: إنّكما قد ائتدمتما سلمان بقولكما. فنزلت( أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً ) .

و فيه، أخرج الضياء المقدّسيّ عن أنس قال: كانت العرب يخدم بعضها بعضاً في الأسفار و كان مع أبي بكر و عمر رجل يخدمهما فناما و استيقظا و لم يهيّئ لهما طعاماً فقالا: إنّ هذا لنؤوم فأيقظاه فقالا: ائت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقل له: إنّ أبابكر و عمر يقرئانك السلام و يستأدمانك، فقال: إنّهما ائتدما، فجاءاه فقالا يا رسول الله بأيّ شي‏ء ائتدمنا؟ قال: بلحم أخيكما، و الّذي نفسي بيده إنّي لأرى لحمه بين ثناياكما، فقالا: استغفر لنا يا رسول الله. قال: مراه فليستغفر لكما.

٣٦١

أقول: الظاهر أنّ القصّة الموردة في الروايتين واحدة و الرجلان المذكوران في الرواية الاُولى أبوبكر و عمر و الرجل المذكور في الثانية هو سلمان، و يؤيّد هذا ما عن جوامع الجامع، قال: و روي: أنّ أبابكر و عمر بعثا سلمان إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليأتي لهما بطعام فبعثه إلى اُسامة بن زيد و كان خازن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على رحله فقال: ما عندي شي‏ء فعاد إليهما فقالا: بخل أسامة و لو بعثنا سلمان إلى بئر سميحة لغار ماؤها.

ثمّ انطلقا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لهما: ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما قالا: يا رسول الله ما تناولنا اليوم لحماً. قال: ظلمتم تأكلون لحم سلمان و اُسامة فنزلت.

و في العيون، بإسناده عن محمّد بن يحيى بن أبي عباد عن عمّه قال: سمعت الرضاعليه‌السلام يوماً ينشد و قليلاً ما كان ينشد شعراً:

كلّنا نأمل مدّاً في الأجل

و المنايا هنّ آفات الأمل

لا يغرّنك أباطيل المنى

و الزم القصد و دع عنك العلل

إنّما الدنيا كظلّ زائل

حلّ فيه راكب ثمّ رحل

فقلت: لمن هذا أعزّ الله الأمير؟ فقال: لعراقيّ لكم قلت: أنشدنيه أبو العتاهية(١) لنفسه فقال: هات اسمه و دع هذا، إنّ الله سبحانه يقول:( وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ ) و لعلّ الرجل يكره هذا.

و في الكافي، بإسناده عن الحسين بن مختار عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قال أميرالمؤمنينعليه‌السلام في كلام له: ضع أمر أخيك على أحسنه حتّى يأتيك ما يقلّبك منه، و لا تظنّنّ بكلمة خرجت من أخيك سوءا و أنت تجد لها في الخير محملاً.

و في نهج البلاغة، و قالعليه‌السلام : إذا استولى الصلاح على الزمان و أهله، ثمّ أساء رجل الظنّ برجل لم يظهر منه حوبة فقد ظلم، و إذا استولى الفساد على الزمان و أهله ثمّ أحسن رجل الظنّ برجل فقد غُرر.

أقول: و الروايتان غير متعارضتين فالثانية ناظرة إلى نفس الظنّ و الاُولى إلى

____________________

(١) العتاهية بمعنى نقصان العقل.

٣٦٢

ترتيب الأثر عليه عملاً.

و في الخصال، عن أسباط بن محمّد بإسناده إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: الغيبة أشدّ من الزنا، فقيل: يا رسول الله و لم ذلك؟ قال: صاحب الزنا يتوب فيتوب الله عليه و صاحب الغيبة يتوب فلا يتوب الله عليه حتّى يكون صاحبه الّذي يحلّه.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن ابن مردويه و البيهقيّ عن أبي سعيد و جابر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و لفظه قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الغيبة أشدّ من الزنا. قالوا: يا رسول الله و كيف الغيبة أشدّ من الزنا؟ قال: إنّ الرجل يزني فيتوب فيتوب الله عليه و إنّ صاحب الغيبة لا يغفر له حتّى يغفرها له صاحبه.

و في الكافي، بإسناده إلى السكونيّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الأكلة في جوفه.

و فيه، بإسناده عن حفص بن عمر عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سئل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كفّارة الاغتياب قال: تستغفر الله لمن اغتبته كما ذكرته.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ ) قال: الشعوب العجم و القبائل العرب.

أقول: و نسبه في مجمع البيان، إلى الصادقعليه‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه و البيهقيّ عن جابر بن عبدالله قال: خطبنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وسط أيّام التشريق خطبة الوداع فقال: يا أيّها الناس ألا إنّ ربّكم واحد، ألا إنّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربيّ على عجميّ، و لا لعجميّ على عربيّ، و لا لأسود على أحمر و لا لأحمر على أسود إلّا بالتقوى إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم. ألا هل بلّغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال فليبلّغ الشاهد الغائب.

و في الكافي، بإسناده عن أبي بكر الحضرميّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زوّج مقداد بن الأسود ضباعة بنت الزبير بن عبدالمطّلب. إنّما زوّجه لتضع المناكح، و ليتأسّوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و ليعلموا أنّ أكرمهم عندالله أتقاهم.

٣٦٣

و في روضة الكافي، بإسناده عن جميل بن درّاج قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : فما الكرم؟ قال: التقوى.

و في الكافي، بإسناده عن يونس بن يعقوب عن أبي عبداللهعليه‌السلام في حديث قال: إنّ الإسلام قبل الإيمان و عليه يتوارثون و عليه يتناكحون و الإيمان عليه يثابون.

و في الخصال، عن الأعمش عن جعفر بن محمّدعليه‌السلام في حديث: و الإسلام غير الإيمان، و كلّ مؤمن مسلم و ليس كلّ مسلم مؤمناً.

و في الدرّ المنثور في قوله تعالى:( قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا ) أخرج ابن جرير عن قتادة في قوله:( قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا ) قال: نزلت في بني أسد.

أقول: و هو مرويّ أيضاً عن مجاهد و غيره.

و فيه، أخرج ابن ماجة و ابن مردويه و الطبرانيّ و البيهقيّ في شعب الإيمان، عن عليّ بن أبي طالب قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الإيمان معرفة بالقلب و إقرار باللسان و عمل بالأركان.

و فيه، أخرج النسائيّ و البزّاز و ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: جاءت بنوأسد إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: يا رسول الله أسلمنا و قاتلك العرب و لم نقاتلك فنزلت هذه الآية( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ) .

أقول: و في هذا المعنى روايات اُخر.

٣٦٤

( سورة ق مكّيّة و هي خمس و أربعون آية)

( سورة ق الآيات ١ - ١٤)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ق  وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ( ١ ) بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ( ٢ ) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا  ذَٰلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ( ٣ ) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ  وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ( ٤ ) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ ( ٥ ) أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ( ٦ ) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ( ٧ ) تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ( ٨ ) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ( ٩ ) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ ( ١٠ ) رِّزْقًا لِّلْعِبَادِ  وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا  كَذَٰلِكَ الْخُرُوجُ ( ١١ ) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ( ١٢ ) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ ( ١٣ ) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ  كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ( ١٤ )

( بيان‏)

السورة تذكر الدعوة و تشير إلى ما فيها من الإنذار بالمعاد و جحد المشركين به و استعجابهم ذلك بأنّ الموت يستعقب بطلان الشخصيّة الإنسانيّة بصيرورته تراباً لا

٣٦٥

يبقى معه أثر ممّا كان عليه فكيف يرجع ثانياً إلى ما كان عليه قبل الموت فتدفع ما أظهروه من الاستعجاب و الاستبعاد بأنّ العلم الإلهيّ محيط بهم و عنده الكتاب الحفيظ الّذي لا يعزب عنه شي‏ء ممّا دقّ و جلّ من أحوال خلقه ثمّ توعدهم بإصابة مثل ما أصاب الاُمم الماضية الهالكة.

و تنبّه ثانياً على علمه و قدرته تعالى بالإشارة إلى ما جرى من تدبيره تعالى في خلق السماوات و ما زيّنها به من الكواكب و النجوم و غير ذلك، و في خلق الأرض من حيث مدّها و إلقاء الرواسي عليها و إنبات الأزواج النباتيّة فيها ثمّ بإنزال الماء و تهيئة أرزاق العباد و إحياء الأرض به.

ثمّ بيان حال الإنسان من أوّل ما خلق و أنّه تحت المراقبة الشديدة الدقيقة حتّى ما يلفظ به من لفظ و حتّى ما يخطر بباله و توسوس به نفسه ما دام حيّاً ثمّ إذا أدركه الموت ثمّ إذا بعث لفصل القضاء ثمّ إذا فرغ من حسابه فاُدخل النار إن كان من المكذّبين أو الجنّة المزلفة إن كان من المتّقين.

و بالجملة مصبّ الكلام في السورة هو المعاد، و من غرر الآيات فيها قوله:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ، و قوله:( يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) و قوله:( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ ) .

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها إلّا ما قيل في قوله:( وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ ) الآية أو الآيتين، و لا شاهد عليه من اللفظ.

و ما أوردناه من الآيات فيه إجمال الإشارة إلى المعاد و استبعادهم له، و إجمال الجواب و التهديد أوّلاً ثمّ الإشارة إلى تفصيل الجواب و التهديد ثانياً.

قوله تعالى: ( ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ) ، قال في المجمع: المجد في كلامهم الشرف الواسع يقال: مجُد الرجل و مجَد - بضمّ العين و فتحها - مجداً إذا عظم و كرم، و أصله من قولهم: مجدت الإبل مُجوداً إذا عظمت بطونها من كثرة أكلها من كلاء الربيع. انتهى.

٣٦٦

و قوله:( وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ) قسم و جوابه محذوف يدلّ عليه الجمل التالية و التقدير و القرآن المجيد إنّ البعث حقّ أو إنّك لمن المنذرين أو الإنذار حقّ، و قيل: جواب القسم مذكور و هو قوله:( بَلْ عَجِبُوا ) إلخ، و قيل: هو قوله:( قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ ) إلخ، و قيل: قوله:( ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ ) إلخ، و قيل: قوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى‏ ) إلخ، و قيل: قوله:( ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ) إلخ، و هذه أقوال سخيفة لا يصار إليها.

قوله تعالى: ( بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْ‏ءٌ عَجِيبٌ ) إضراب عن مضمون جواب القسم المحذوف فكأنّه قيل: إنّا أرسلناك نذيراً فلم يؤمنوا بك بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم، أو قيل إنّ البعث الّذي أنذرتهم به حقّ و لم يؤمنوا به بل عجبوا منه و استبعدوه.

و ضمير( مِنْهُمْ ) في قوله:( بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ) راجع إليهم بما هم بشر أي من جنسهم و ذلك أنّ الوثنيّين ينكرون نبوّة البشر كما تقدّمت الإشارة إليه مراراً أو راجع إليهم بما هم عرب و المعنى: بل عجبوا أن جاءهم منذر من قومهم و بلسانهم يبيّن لهم الحقّ أوفى بيان فيكون أبلغ في تقريعهم.

و قوله:( فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْ‏ءٌ عَجِيبٌ ) وصفهم بالكفر و لم يقل: و قال المشركون و نحو ذلك للدلالة على سترهم للحقّ لمّا جاءهم، و الإشارة في قولهم:( هذا شَيْ‏ءٌ عَجِيبٌ ) ، إلى البعث و الرجوع إلى الله كما يفسّره قوله بعد:( أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً ) إلخ.

قوله تعالى: ( أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ) الرجع و الرجوع بمعنى و المراد بالبعد البعد عن العقل.

و جواب إذا في قولهم:( أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً ) محذوف يدلّ عليه قولهم:( ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ) و التقدير أ إذا متنا و كنا تراباً نبعث و نرجع؟ و الاستفهام للتعجيب، و إنّما حذف للإشارة إلى أنّه عجيب بحيث لا ينبغي أن يذكر، إذ لا يقبله عقل ذي عقل و الآية في مساق قوله:( وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) الم السجدة: ١٠.

٣٦٧

و المعنى: أنّهم يتعجّبون و يقولون: أ ءذا متنا و كنّا تراباً - و بطلت ذواتنا بطلانا لا أثر معه منها - نبعث و نرجع؟ ثمّ كأنّ قائلاً يقول لهم: ممّ تتعجّبون؟ فقالوا: ذلك رجع بعيد يستبعده العقل و لا يسلّمه.

قوله تعالى: ( قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَ عِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ ) ردّ منه تعالى لاستبعادهم البعث و الرجوع مستندين في ذلك إلى أنّهم ستتلاشى أبدانهم بالموت فتصير تراباً متشابه الأجزاء لا تمايز لجزء منها من جزء و الجواب أنّا نعلم بما تأكله الأرض من أبدانهم و تنقصه منها فلا يفوت علمنا جزء من أجزائهم حتّى يتعسّر علينا إرجاعه أو يتعذّر بالجهل.

أو أنّا نعلم من يموت منهم فيدفن في الأرض فتنقصه الأرض من جمعهم، و( من ) على أوّل الوجهين تبعيضيّة و على الثاني تبيينيّة.

و قوله:( وَ عِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ ) أي حافظ لكلّ شي‏ء و لآثاره و أحواله، أو كتاب ضابط للحوادث محفوظ عن التغيير و التحريف، و هو اللوح المحفوظ الّذي فيه كلّ ما كان و ما يكون و ما هو كائن إلى يوم القيامة.

و قول بعضهم إنّ المراد به كتاب الأعمال غير سديد أوّلاً من جهة أنّ الله ذكره حفيظاً لما تنقص الأرض منهم و هو غير الأعمال الّتي يحفظه كتاب الأعمال.

و ثانياً: أنّه سبحانه إنّما وصف في كلامه بالحفظ اللوح المحفوظ دون كتب الأعمال فحمل الكتاب الحفيظ على كتاب الأعمال من غير شاهد.

و محصّل جواب الآية أنّهم زعموا أنّ موتهم و صيرورتهم تراباً متلاشي الذرّات غير متمايز الأجزاء يصيّرهم مجهولي الأجزاء عندنا فيمتنع علينا جمعها و إرجاعها لكنّه زعم باطل فإنّا نعلم بمن مات منهم و ما يتبدّل إلى الأرض من أجزاء أبدانهم و كيف يتبدّل و إلى أين يصير؟ و عندنا كتاب حفيظ فيه كلّ شي‏ء و هو اللوح المحفوظ.

قوله تعالى: ( بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ) المرج الاختلاط و الالتباس، و في الآية إضراب عمّا تلوّح إليه الآية السابقة فإنّ اللائح منها أنّهم إنّما

٣٦٨

تعجّبوا من أمر البعث و الرجوع و استبعدوه لجهلهم بأنّ الله سبحانه عليم لا يعزب عنه شي‏ء من أحوال خلقه و آثارهم و أنّ جميع ذلك مستطر في اللوح المحفوظ عند الله بحيث لا يشذّ عنه شاذّ.

فاُضرب في هذه الآية أنّ ذلك ليس من جهلهم و إن تجاهلوا بل كذّبوا بالحقّ لمّا جاءهم فاستبان لهم أنّه حقّ فهم جاحدون للحقّ معاندون له و ليسوا بجاهلين به قاصرين عن إدراكه فهم في أمر مريج مختلط غير منتظم يدركون الحقّ و يكذّبون به مع أنّ لازم العلم بشي‏ء تصديقه و الإيمان به.

و قيل: المراد بكونهم في أمر مريج أنّهم متحيّرون بعد إنكار الحقّ لا يدرون ما يقولون فتارة يقولون: افتراء على الله، و تارة: سحر، و تارة: شعر، و تارة: كهانة و تارة: زجر.

و لذلك عقّب الكلام بذكر آيات علمه و قدرته توبيخاً لهم ثمّ بالإشارة إلى تكذيب الاُمم الماضية الهالكة الّذي ساقهم إلى عذاب الاستئصال، تهديداً لهم.

قوله تعالى: ( أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَ زَيَّنَّاها وَ ما لَها مِنْ فُرُوجٍ ) الفروج جمع فرجة: الشقوق و الفتوق، و تقييد السماء بكونها فوقهم للدلالة على أنّها بمرئى منهم لا تغيب عن أنظارهم، و المراد بتزيينها خلق النجوم اللامعة فيها بما لها من الجمال البديع، فبناء هذا الخلق البديع بما لها من الجمال الرائع من غير شقوق و فتوق أصدق شاهد على قدرته القاهرة و علمه المحيط بما خلق.

قوله تعالى: ( وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) مدّ الأرض بسطها لتلائم عيشة الإنسان، و الرواسي جمع الراسية بمعنى الثابتة صفة محذوفة الموصوف و هو الجبال، و المراد جعل الجبال الثابتة على ظهرها، و البهيج من البهجة، قال في المجمع: البهجة الحسن الّذي له روعة عند الرؤية كالزهرة و الأشجار النضرة و الرياض الخضرة. انتهى. و قيل: المراد بالبهيج الّذي من رآه بهج و سرّ به فهو بمعنى المبهوج به.

و المراد بإنبات كلّ زوج بهيج إنبات كلّ صنف حسن المنظر من النبات.

٣٦٩

فخلق الأرض و ما جرى فيها من التدبير الإلهيّ العجيب أحسن دليل يدلّ العقل على كمال القدرة و العلم.

قوله تعالى: ( تَبْصِرَةً وَ ذِكْرى‏ لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ) مفعول له أي فعلنا ما فعلنا من بناء السماء و مدّ الأرض و عجائب التدبير الّتي أجريناها فيهما ليكون تبصرة يتبصّر بها و ذكرى يتذكّر بها كلّ عبد راجع إلى الله سبحانه.

قوله تعالى: ( وَ نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَ حَبَّ الْحَصِيدِ ) السماء جهة العلو و الماء المبارك المطر، وصف بالمباركة لكثرة خيراته العائدة إلى الأرض و أهلها، و حبّ الحصيد المحصود من الحبّ و هو من إضافة الموصوف إلى الصفة، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ النَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ ) الباسقات جمع باسقة و هي الطويلة العالية، و الطلع أوّل ما يطلع من ثمر النخيل، و النضيد بمعنى المنضود بعضه على بعض و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( رِزْقاً لِلْعِبادِ وَ أَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ ) الرزق ما يمدّ به البقاء، و( رِزْقاً لِلْعِبادِ ) مفعول له أي أنبتنا هذه الجنّات و حبّ الحصيد و النخل باسقات بما لها من الطلع النضيد ليكون رزقاً للعباد فمن خلق هذه النباتات ليرزق به العباد بما في ذلك من التدبير الوسيع الّذي يدهش اللبّ و يحيّر العقل هو ذو علم لا يتناهى و قدرة لا تعيى لا يشقّ عليه إحياء الإنسان بعد موته و إن تلاشت ذرّات جسمه و ضلّت في الأرض أجزاء بدنه.

و قوله:( وَ أَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ ) برهان آخر على البعث غير ما تقدّم استنتج من طيّ الكلام فإنّ البيان السابق في ردّ استبعادهم للبعث مستندين إلى صيرورتهم تراباً غير متمايز الأجزاء كان برهاناً من مسلك إثبات علمه بكلّ شي‏ء و قدرته على كلّ شي‏ء و هذا البرهان الّذي يتضمّنه قوله:( وَ أَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ ) من مسلك إثبات إمكان الشي‏ء بوقوع مثله فليس الخروج من القبور بالإحياء بعد الموت إلّا مثل خروج النبات الميت من الأرض بعد موتها و وقوف قواه عن النماء و النشوء.

٣٧٠

و قد قرّرنا هذا البرهان في ذيل الآيات المستدلّة بإحياء الأرض بعد موتها على البعث غير مرّة فيما تقدّم من أجزاء الكتاب.

قوله تعالى: ( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ - إلى قوله -كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ) ، تهديد و إنذار لهم بما كذّبوا بالحقّ لمّا جاءهم و تبيّن لهم عناداً كما أشرنا إليه قبل.

و قد تقدّم ذكر أصحاب الرسّ في تفسير سورة الفرقان، و ذكر أصحاب الأيكة و هم قوم شعيب في سور الحجر و الشعراء و ص، و ذكر قوم تبّع في سورة الدخان.

و في قوله:( كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ) إشارة إلى أنّ هناك وعيداً بالهلاك ينجز عند تكذيب الرسل قال تعالى:( فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) النحل: ٣٦.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس قال: خلق الله تعالى من وراء هذه الأرض بحراً محيطاً بها ثمّ خلق من وراء ذلك جبلاً يقال له: ق السماء الدنيا مترفرفة عليه، ثمّ خلق من وراء ذلك الجبل أرضاً مثل تلك الأرض سبع مرّات ثمّ خلق من وراء ذلك بحراً محيطاً بها، ثمّ خلق من وراء ذلك جبلاً يقال له ق السماء الثانية مترفرفة عليه حتّى عدّ سبع أرضين و سبعة أبحر و سبعة أجبل و سبع سماوات. قال: و ذلك قوله:( وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ) .

و فيه، أخرج ابن المنذر و ابن مردويه و أبوالشيخ و الحاكم عن عبدالله بن بريدة في قوله تعالى:( ق ) قال: جبل من زمرّد محيط بالدنيا عليه كنفا السماء.

و فيه، أخرج ابن أبي الدنيا في العقوبات، و أبوالشيخ في العظمة، عن ابن عبّاس قال: خلق الله جبلاً يقال له ق محيط بالعالم و عروقه إلى الصخرة الّتي عليها الأرض فإذا أراد الله أن يزلزل قرية أمر ذلك الجبل فحرّك العرق الّذي يلي تلك القرية فيزلزلها و يحرّكها فمن ثمّ تحرّك القرية دون القرية.

٣٧١

أقول: و روى القمّيّ بإسناده عن يحيى بن ميسرة الخثعميّ عن الباقرعليه‌السلام مثل ما مرّ عن عبدالله بن بريدة، و روي ما في معناه مرسلاً و مضمراً و لفظه: قال: جبل محيط بالدنيا وراء يأجوج و مأجوج.

و كيفما كان لا تعويل على هذه الروايات، و بطلان ما فيها يكاد يلحق اليوم بالبديهيّات أو هو منها.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْ‏ءٌ عَجِيبٌ ) قال: نزلت في اُبيّ بن خلف قال لأبي جهل: تعال إليّ اُعجّبك من محمّد ثمّ أخذ عظماً ففتّه ثمّ قال: يا محمّد تزعم أنّ هذا يُحيا؟ فقال الله:( بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ) .

٣٧٢

( سورة ق الآيات ١٥ - ٣٨)

أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ  بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ( ١٥ ) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ  وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ( ١٦ ) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ( ١٧ ) مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ( ١٨ ) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ  ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ( ١٩ ) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ  ذَٰلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ( ٢٠ ) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ( ٢١ ) لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ( ٢٢ ) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ( ٢٣ ) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ( ٢٤ ) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ ( ٢٥ ) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ ( ٢٦ ) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ( ٢٧ ) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ ( ٢٨ ) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ( ٢٩ ) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ ( ٣٠ ) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ( ٣١ ) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ( ٣٢ )

٣٧٣

مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ( ٣٣ ) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ  ذَٰلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ( ٣٤ ) لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ( ٣٥ ) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ ( ٣٦ ) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ( ٣٧ ) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ( ٣٨ )

( بيان‏)

الآية الاُولى متمّمة لما أورده في الآيات السابقة من الحجّة على علمه و قدرته بما خلق السماء و الأرض و ما فيهما من خلق و دبّر ذلك أكمل التدبير و أتمّه و ذلك كلّه هو الخلق الأوّل و النشأة الاُولى. فتمم ذلك بقوله:( أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ ) و استنتج منه أنّ القادر على الخلق الأوّل العالم به قادر على خلق جديد و نشأة ثانية و عالم به لأنّهما مثلان إذا جاز له خلق أحدهما جاز خلق الآخر و إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن.

ثمّ أضرب عنه أنّهم في التباس من خلق جديد مع مماثلة الخلقين ثمّ أشار إلى نشأة الإنسان أوّل مرّة و هو يعلم منه حتّى خطرات قلبه و عليه رقباؤه يراقبونه أدقّ المراقبة ثمّ يجيئه سكرة الموت بالحقّ ثمّ البعث ثمّ دخول الجنّة أو النار ثمّ أشار ثانياً إلى ما حلّ بالقرون الماضية المكذّبة من السخط الإلهيّ و عذاب الاستئصال و هم أشدّ بطشاً من هؤلاء فمن جازاهم بالهلاك قادر على أن يجازي هؤلاء.

قوله تعالى: ( أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ) العيّ عجز يلحق من تولّي الأمر و الكلام كذا، قال الراغب: يقال: أعياني كذا و عييت بكذا أي عجزت عنه و الخلق الأوّل خلق هذه النشأة الطبيعيّة بنظامها الجاري و منها الإنسان في حياته الدنيا فلا وجه لقصر الخلق الأوّل في خلق السماء و الأرض

٣٧٤

فقط كما مال إليه الرازيّ في التفسير الكبير و لا لقصره في خلق الإنسان كما مال إليه بعضهم و ذلك لأنّ الخلق الجديد يشمل السماء و الأرض و الإنسان جميعاً كما قال تعالى:( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ وَ بَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) إبراهيم: ٤٨. و الخلق الجديد خلق النشأة الثانية و هي النشأة الآخرة، و الاستفهام للإنكار.

و المعنى: أ عجزنا عن الخلق الأوّل حتّى نعجز عن الخلق الجديد؟ أي لم نعجز عن الخلق الأوّل و هو إبداؤه فلا نعجز عن الخلق الجديد و هو إعادته.

و لو اُخذ العيّ بمعنى التعب كما مال إليه بعضهم كان المعنى: هل تعبنا بسبب الخلق الأوّل حتّى يتعذّر أو يتعسّر علينا الخلق الجديد؟ و ذلك كما أنّ الإنسان و سائر الحيوان إذا أتى بشي‏ء من الفعل و أكثر منه انتهي به إلى التعب البدنيّ فيكفّه ذلك عن الفعل بعد، فما لم يأت به من الفعل لكونه تعبان مثل ما أتى لكنّه لا يؤتى به لأنّ الفاعل لا يستطيعه لتعبه و إن كان الفعل جائزاً متشابه الأمثال.

و هذا معنى لا بأس به لكن قيل: إنّ استعمال العيّ بمعنى العجز أفصح.

على أنّ سوق الحجّة من طريق العجز يفيد استحالة الإتيان و نفيها هو المطلوب بخلاف سوقها من طريق التعب فإنّه يفيد تعسّره دون استحالة الإتيان و مراد النافين للمعاد استحالته دون تعسّره هذا.

و قوله:( بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ) اللبس هو الالتباس، و المراد بالخلق الجديد تبديل نشأتهم الدنيا من نشأة اُخرى ذات نظام آخر وراء النظام الطبيعيّ الحاكم في الدنيا فإنّ في النشأة الاُخرى و هي الخلق الجديد بقاء من غير فناء و حياة من غير موت ثمّ إن كان الإنسان من أهل السعادة فله نعمة من غير نقمة و إن كان من أهل الشقاء ففي نقمة لا نعمة معها، و النشأة الاُولى و هي الخلق الأوّل و النظام الحاكم فيها على خلاف ذلك.

و المعنى: إذا كنّا خلقنا العالم بسمائه و أرضه و ما فيهما و دبّرناه أحسن تدبير لأوّل مرّة بقدرتنا و علمنا و لم نعجز عن ذلك علماً و قدرة فنحن غير عاجزين عن تجديد خلقه و هو تبديله خلقاً جديداً فلا ريب في قدرتنا و لا التباس بل هم في التباس

٣٧٥

لا سبيل لهم مع ذلك إلى الإيمان بخلق جديد.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) قال الراغب: الوسوسة الخطرة الرديئة و أصله من الوسواس و هو صوت الحلي و الهمس الخفيّ. انتهى.

و المراد بخلق الإنسان وجوده المتدرّج المتحوّل خلقاً بعد خلق لا أوّل تكوينه إنساناً و إن عبّر عنه بالماضي إذ قال:( وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ) إذ الإنسان - و كذا كلّ مخلوق له حظّ من البقاء - كما يحتاج إلى عطيّة ربّه في أوّل وجوده كذلك يحتاج إليه في بقائه.

و لما ذكر من النكتة عطف قوله:( وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ) و هو فعل مضارع مسوق للدلالة على الاستمرار على قوله:( وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ) و هو فعل ماض لكنّه مستمرّ المعنى، و كذا قوله:( وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) مفيد للثبوت و الدوام و الاستمرار باستمرار وجود الإنسان.

و للآية اتّصال بما تقدّم من الاحتجاج على علمه و قدرته تعالى في الخلق الأوّل بقوله:( أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ ) و اتّصال أيضاً بقوله تعالى في الآية السابقة:( بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ) فهي في سياق يذكر قدرته على الإنسان بخلقه، و علمه به بلا واسطة و بواسطة الملائكة الحفظة الكتبة.

فقوله:( وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ) - و اللّام للقسم - دالّ على القدرة عليه بإثبات الخلق.

و قوله:( وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ) في ذكر أخفى أصناف العلم و هو العلم بالخطور النفسانيّ الخفيّ إشارة إلى استيعاب العلم له كأنّه قيل: و نعلم ظاهره و باطنه حتّى ما توسوس به نفسه و ممّا توسوس به الشبهة في أمر المعاد: كيف يُبعث الإنسان و قد صار بعد الموت تراباً متلاشي الأجزاء غير متميّز بعضها من بعض.

و قد بان أنّ( ما ) في( ما تُوَسْوِسُ بِهِ ) موصولة و ضمير( بِهِ ) عائد إليه و الباء للآلة أو للسببيّة، و نسب الوسوسة إلى النفس دون الشيطان و إن كانت منسوبة إليه

٣٧٦

أيضاً لأنّ الكلام في إحاطة العلم بالإنسان حتّى بما في زوايا نفسه من هاجس و وسوسة.

و قوله:( وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) الوريد عرق متفرّق في البدن فيه مجاري الدم، و قيل: هو العرق الّذي في الحلق، و كيف كان فتسميته حبلاً لتشبيهه به، و إضافة حبل الوريد بيانيّة.

و المعنى: نحن أقرب إلى الإنسان من حبل وريده المخالط لأعضائه المستقرّ في داخل بدنه فكيف لا نعلم به و بما في نفسه؟

و هذا تقريب للمقصود بجملة ساذجة يسهل تلقّيها لعامّة الأفهام و إلّا فأمر قربه تعالى إليه أعظم من ذلك و أعظم فهو سبحانه الّذي جعلها نفساً و رتّب عليها آثارها فهو الواسطة بينها و بين نفسها و بينها و بين آثارها و أفعالها فهو أقرب إلى الإنسان من كلّ أمر مفروض حتّى في نفسه، و لكون هذا المعنى دقيقاً يشقّ تصوّره على أكثر الأفهام عدل سبحانه إلى بيانه بنحو قوله:( وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) و قريب منه بوجه قوله:( أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ ) .

و لهم في معنى الآية وجوه كثيرة اُخر لا جدوى في نقلها و البحث عنها من أرادها فليراجع كتبهم.

قوله تعالى: ( إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ) التلقّي الأخذ و التلقّن، و المراد بالمتلقّيان على ما يفيده السياق الملكان الموكّلان على الإنسان اللّذان يتلقّيان عمله فيحفظانه بالكتابة.

و قوله:( عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ) تقديره عن اليمين قعيد و عن الشمال قعيد، و المراد باليمين و الشمال يمين الإنسان و شماله، و القعيد القاعد.

و الظرف في قوله:( إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ ) الظاهر أنّه متعلّق بمحذوف و التقدير اذكر إذ يتلقّى المتلقّيان، و المراد به الإشارة إلى علمه تعالى بأعمال الإنسان من طريق كتاب الأعمال من الملائكة وراء علمه تعالى بذاته من غير توسّط الوسائط.

و قيل: الظرف متعلّق بقوله في الآية السابقة:( أَقْرَبُ ) و المعنى: نحن أقرب إليه من حبل الوريد في حين يتلقّى الملكان الموكّلان عليه أعماله ليكتباها.

٣٧٧

و لعلّ الوجه السابق أوفق للسياق فإنّ بناء هذا الوجه على كون العمدة في الغرض بيان أقربيّته تعالى إليه و علمه به و الباقي مقصود لأجله، و ظاهر السياق و خاصّة بالنظر إلى الآية التالية كون كلّ من العلم من طريق القرب و من طريق تلقّي الملكين مقصوداً بالاستقلال.

و قيل:( إِذْ ) تعليليّة تعلّل علمه تعالى المدلول عليه بقوله:( وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ ) إلخ، بمفاد مدخولها.

و فيه أنّ من البعيد من مذاق القرآن أن يستدلّ على علمه تعالى بعلم الملائكة أو بحفظهم و كتابتهم.

و قوله:( عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ) تمثيل لموقعهما من الإنسان، و اليمين و الشمال جانبا الخير و الشرّ ينتسب إليهما الحسنة و السيّئة.

قوله تعالى: ( ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) اللفظ الرمي سمّي به التكلّم بنوع من التشبيه، و الرقيب المحافظ، و العتيد المعدّ المهيّأ للزوم الأمر.

و الآية تذكر مراقبة الكتبة للإنسان فيما يتكلّم به من كلام، و هي بعد قوله:( إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ ) إلخ، من ذكر الخاصّ بعد العامّ لمزيد العناية به.

قوله تعالى: ( وَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) الحيد العدول و الميل على سبيل الهرب، و المراد بسكرة الموت ما يعرض الإنسان حال النزع إذ يشتغل بنفسه و ينقطع عن الناس كالسكران الّذي لا يدري ما يقول و لا ما يقال له.

و في تقييد مجي‏ء سكرة الموت بالحقّ إشارة إلى أنّ الموت داخل في القضاء الإلهيّ مراد في نفسه في نظام الكون كما يستفاد من قوله تعالى:( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ ) الأنبياء: ٣٥، و قد مرّ تفسيره فالموت - و هو الانتقال من هذه الدار إلى دار بعدها - حقّ كما أنّ البعث حقّ و الجنّة حقّ و النار حقّ، و في معنى كون الموت بالحقّ أقوال اُخر لا جدوى في نقلها و التعرّض لها.

و في قوله:( ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) إشارة إلى أنّ الإنسان يكره الموت بالطبع و ذلك أنّ الله سبحانه زيّن الحياة الدنيا و التعلّق بزخارفها للإنسان ابتلاء و

٣٧٨

امتحاناً، قال تعالى:( إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً ) الكهف: ٨.

قوله تعالى: ( وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ) هذه نقلة ثانية إلى عالم الخلود بنفخ الصور بعد النقلة الاُولى، و المراد بنفخ الصور النفخة الثانية المقيمة للساعة أو مجموع النفختين بإرادة مطلق النفخ.

و المراد بيوم الوعيد يوم القيامة الّذي ينجز الله تعالى فيه وعيده على المجرمين من عباده.

قوله تعالى: ( وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِيدٌ ) السياقة حثّ الماشية على المسير من خلفها بعكس القيادة فهي جلبها من أمامها.

فقوله:( وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ ) أي جاءت إلى الله و حضرت عنده لفصل القضاء، و الدليل عليه قوله تعالى:( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ) القيامة: ٣٠.

و المعنى: و حضرت عنده تعالى كلّ نفس معها سائق يسوقها و شاهد يشهد بأعمالها و لم يصرّح تعالى بكونهما من الملائكة أو بكونهما هما الكاتبين أو من غير الملائكة، غير أنّ السابق إلى الذهن من سياق الآيات أنّهما من الملائكة، و سيجي‏ء الروايات في ذلك.

و كذا لا تصريح بكون الشهادة منحصرة في هذا الشاهد المذكور في الآية بل الآيات الواردة في شهداء يوم القيامة تقضي بعدم الانحصار، و كذا الآيات التالية الذاكرة لاختصام الإنسان و قرينة دالّة على أنّ مع الإنسان يومئذ غير السائق و الشهيد.

قوله تعالى: ( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) وقوع الآية في سياق آيات القيامة و احتفافها بها يقضي بكونها من خطابات يوم القيامة، و المخاطب بها هو الله سبحانه، و الّذي خوطب بها هو الإنسان المذكور في قوله:( وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ ) و عليه فالخطاب عامّ متوجّه إلى كلّ إنسان إلّا أنّ التوبيخ و التقريع اللائح من سياق الآية ربّما استدعى اختصاص الخطاب بمنكري المعاد، أضف إلى ذلك، كون الآيات مسوقة لردّ منكري المعاد في قولهم:( أَ إِذا

٣٧٩

مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ) .

و الإشارة بقوله:( هذا ) إلى ما يشاهده يومئذ و يعاينه من تقطع الأسباب و بوار الأشياء و رجوع الكلّ إلى الله الواحد القهّار، و قد كان تعلّق الإنسان في الدنيا بالأسباب الظاهريّة و ركونه إليها أغفله عن ذلك حتّى إذا كشف الله عنه حجاب الغفلة فبدت له حقيقة الأمر فشاهد ذلك مشاهدة عيان لا علماً فكريّاً.

و لذا خوطب بقوله:( لَقَدْ كُنْتَ ) في الدنيا( فِي غَفْلَةٍ ) أحاطت بك( من هذا ) الّذي تشاهده و تعاينه و إن كان في الدنيا نصب عينيك لا يغيب لكن تعلّقك بذيل الأسباب أذهلك و أغفلك عنه( فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ ) اليوم( فَبَصَرُكَ ) و هو البصيرة و عين القلب( الْيَوْمَ ) و هو يوم القيامة( حَدِيدٌ ) أي نافذ يبصر ما لم يكن يبصره في الدنيا.

و يتبيّن بالآية أوّلاً: أنّ معرّف يوم القيامة أنّه يوم ينكشف فيه غطاء الغفلة عن الإنسان فيشاهد حقيقة الأمر، و في هذا المعنى و ما يقرب منه آيات كثيرة كقوله تعالى:( وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) الانفطار: ١٩، و قوله:( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) المؤمن: ١٦، إلى غير ذلك من الآيات.

و ثانياً: أنّ ما يشاهده الإنسان يوم القيامة موجود مهيّأ له و هو في الدنيا غير أنّه في غفلة منه، و خاصّة يوم القيامة أنّه يوم انكشاف الغطاء و معاينة ما وراءه، و ذلك لأنّ الغفلة إنّما يتصوّر فيما يكون هناك أمر موجود مغفول عنه، و الغطاء يستلزم أمراً وراءه و هو يغطّيه و يستره، و عدم حدّة البصر إنّما ينفع فيما إذا كان هناك مبصر دقيق لا ينفذ فيه البصر.

و من أسخف القول ما قيل: إنّ الآية خطاب منه تعالى لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و المعنى: لقد كنت قبل الرسالة في غفلة من هذا الّذي نوحي إليك فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد يدرك الوحي أو يبصر ملك الوحي فيتلقّى الوحي، و ذلك لأنّ السياق لا يساعده و لا لفظ الآية ينطبق عليه.

قوله تعالى: ( وَ قالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ ) لا يخلو السياق من ظهور في

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429