الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 429

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 429
المشاهدات: 114912
تحميل: 5403


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 429 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 114912 / تحميل: 5403
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 18

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فهذه كانت سخريّتهما، و قيل: إنّها عيّرتها بالقصر، و أشارت بيدها أنّها قصيرة. عن الحسن.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و عبد بن حميد و البخاريّ في الأدب، و أبوداود و الترمذيّ و النسائيّ و ابن ماجة و أبويعلى و ابن جرير و ابن المنذر و البغويّ في معجمه، و ابن حبّان و الشيرازيّ في الألقاب، و الطبرانيّ و ابن السني في عمل اليوم و الليلة، و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه و البيهقيّ في شعب الإيمان، عن أبي جبيرة بن الضحّاك قال: فينا نزلت في بني سلمة( وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ ) قدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة و ليس فينا رجل إلّا و له اسمان أو ثلاثة فكان إذا دعا أحدهم باسم من تلك الأسماء قالوا: يا رسول الله إنّه يكره هذا الاسم فأنزل الله( وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ ) .

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدّي: أنّ سلمان الفارسيّ كان مع رجلين في سفر يخدمهما و ينال من طعامهما و أنّ سلمان نام نوماً فطلبه صاحباه فلم يجداه فضربا الخباء و قالا ما يريد سلمان شيئاً غير هذا أن يجي‏ء إلى طعام معدود و خباء مضروب فلمّا جاء سلمان أرسلاه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطلب لهما إداماً فانطلق فأتاه فقال: يا رسول الله بعثني أصحابي لتؤدمهم إن كان عندك. قال: ما يصنع أصحابك بالأدم؟ قد ائتدموا.

فرجع سلمان فخبّرهما فانطلقا فأتيا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالا: و الّذي بعثك بالحقّ ما أصبنا طعاماً منذ نزلنا. قال: إنّكما قد ائتدمتما سلمان بقولكما. فنزلت( أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً ) .

و فيه، أخرج الضياء المقدّسيّ عن أنس قال: كانت العرب يخدم بعضها بعضاً في الأسفار و كان مع أبي بكر و عمر رجل يخدمهما فناما و استيقظا و لم يهيّئ لهما طعاماً فقالا: إنّ هذا لنؤوم فأيقظاه فقالا: ائت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقل له: إنّ أبابكر و عمر يقرئانك السلام و يستأدمانك، فقال: إنّهما ائتدما، فجاءاه فقالا يا رسول الله بأيّ شي‏ء ائتدمنا؟ قال: بلحم أخيكما، و الّذي نفسي بيده إنّي لأرى لحمه بين ثناياكما، فقالا: استغفر لنا يا رسول الله. قال: مراه فليستغفر لكما.

٣٦١

أقول: الظاهر أنّ القصّة الموردة في الروايتين واحدة و الرجلان المذكوران في الرواية الاُولى أبوبكر و عمر و الرجل المذكور في الثانية هو سلمان، و يؤيّد هذا ما عن جوامع الجامع، قال: و روي: أنّ أبابكر و عمر بعثا سلمان إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليأتي لهما بطعام فبعثه إلى اُسامة بن زيد و كان خازن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على رحله فقال: ما عندي شي‏ء فعاد إليهما فقالا: بخل أسامة و لو بعثنا سلمان إلى بئر سميحة لغار ماؤها.

ثمّ انطلقا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لهما: ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما قالا: يا رسول الله ما تناولنا اليوم لحماً. قال: ظلمتم تأكلون لحم سلمان و اُسامة فنزلت.

و في العيون، بإسناده عن محمّد بن يحيى بن أبي عباد عن عمّه قال: سمعت الرضاعليه‌السلام يوماً ينشد و قليلاً ما كان ينشد شعراً:

كلّنا نأمل مدّاً في الأجل

و المنايا هنّ آفات الأمل

لا يغرّنك أباطيل المنى

و الزم القصد و دع عنك العلل

إنّما الدنيا كظلّ زائل

حلّ فيه راكب ثمّ رحل

فقلت: لمن هذا أعزّ الله الأمير؟ فقال: لعراقيّ لكم قلت: أنشدنيه أبو العتاهية(1) لنفسه فقال: هات اسمه و دع هذا، إنّ الله سبحانه يقول:( وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ ) و لعلّ الرجل يكره هذا.

و في الكافي، بإسناده عن الحسين بن مختار عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قال أميرالمؤمنينعليه‌السلام في كلام له: ضع أمر أخيك على أحسنه حتّى يأتيك ما يقلّبك منه، و لا تظنّنّ بكلمة خرجت من أخيك سوءا و أنت تجد لها في الخير محملاً.

و في نهج البلاغة، و قالعليه‌السلام : إذا استولى الصلاح على الزمان و أهله، ثمّ أساء رجل الظنّ برجل لم يظهر منه حوبة فقد ظلم، و إذا استولى الفساد على الزمان و أهله ثمّ أحسن رجل الظنّ برجل فقد غُرر.

أقول: و الروايتان غير متعارضتين فالثانية ناظرة إلى نفس الظنّ و الاُولى إلى

____________________

(1) العتاهية بمعنى نقصان العقل.

٣٦٢

ترتيب الأثر عليه عملاً.

و في الخصال، عن أسباط بن محمّد بإسناده إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: الغيبة أشدّ من الزنا، فقيل: يا رسول الله و لم ذلك؟ قال: صاحب الزنا يتوب فيتوب الله عليه و صاحب الغيبة يتوب فلا يتوب الله عليه حتّى يكون صاحبه الّذي يحلّه.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن ابن مردويه و البيهقيّ عن أبي سعيد و جابر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و لفظه قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الغيبة أشدّ من الزنا. قالوا: يا رسول الله و كيف الغيبة أشدّ من الزنا؟ قال: إنّ الرجل يزني فيتوب فيتوب الله عليه و إنّ صاحب الغيبة لا يغفر له حتّى يغفرها له صاحبه.

و في الكافي، بإسناده إلى السكونيّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الأكلة في جوفه.

و فيه، بإسناده عن حفص بن عمر عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سئل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كفّارة الاغتياب قال: تستغفر الله لمن اغتبته كما ذكرته.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ ) قال: الشعوب العجم و القبائل العرب.

أقول: و نسبه في مجمع البيان، إلى الصادقعليه‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه و البيهقيّ عن جابر بن عبدالله قال: خطبنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وسط أيّام التشريق خطبة الوداع فقال: يا أيّها الناس ألا إنّ ربّكم واحد، ألا إنّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربيّ على عجميّ، و لا لعجميّ على عربيّ، و لا لأسود على أحمر و لا لأحمر على أسود إلّا بالتقوى إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم. ألا هل بلّغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال فليبلّغ الشاهد الغائب.

و في الكافي، بإسناده عن أبي بكر الحضرميّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زوّج مقداد بن الأسود ضباعة بنت الزبير بن عبدالمطّلب. إنّما زوّجه لتضع المناكح، و ليتأسّوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و ليعلموا أنّ أكرمهم عندالله أتقاهم.

٣٦٣

و في روضة الكافي، بإسناده عن جميل بن درّاج قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : فما الكرم؟ قال: التقوى.

و في الكافي، بإسناده عن يونس بن يعقوب عن أبي عبداللهعليه‌السلام في حديث قال: إنّ الإسلام قبل الإيمان و عليه يتوارثون و عليه يتناكحون و الإيمان عليه يثابون.

و في الخصال، عن الأعمش عن جعفر بن محمّدعليه‌السلام في حديث: و الإسلام غير الإيمان، و كلّ مؤمن مسلم و ليس كلّ مسلم مؤمناً.

و في الدرّ المنثور في قوله تعالى:( قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا ) أخرج ابن جرير عن قتادة في قوله:( قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا ) قال: نزلت في بني أسد.

أقول: و هو مرويّ أيضاً عن مجاهد و غيره.

و فيه، أخرج ابن ماجة و ابن مردويه و الطبرانيّ و البيهقيّ في شعب الإيمان، عن عليّ بن أبي طالب قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الإيمان معرفة بالقلب و إقرار باللسان و عمل بالأركان.

و فيه، أخرج النسائيّ و البزّاز و ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: جاءت بنوأسد إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: يا رسول الله أسلمنا و قاتلك العرب و لم نقاتلك فنزلت هذه الآية( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ) .

أقول: و في هذا المعنى روايات اُخر.

٣٦٤

( سورة ق مكّيّة و هي خمس و أربعون آية)

( سورة ق الآيات 1 - 14)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ق  وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ( 1 ) بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ( 2 ) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا  ذَٰلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ( 3 ) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ  وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ( 4 ) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ ( 5 ) أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ( 6 ) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ( 7 ) تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ( 8 ) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ( 9 ) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ ( 10 ) رِّزْقًا لِّلْعِبَادِ  وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا  كَذَٰلِكَ الْخُرُوجُ ( 11 ) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ( 12 ) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ ( 13 ) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ  كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ( 14 )

( بيان‏)

السورة تذكر الدعوة و تشير إلى ما فيها من الإنذار بالمعاد و جحد المشركين به و استعجابهم ذلك بأنّ الموت يستعقب بطلان الشخصيّة الإنسانيّة بصيرورته تراباً لا

٣٦٥

يبقى معه أثر ممّا كان عليه فكيف يرجع ثانياً إلى ما كان عليه قبل الموت فتدفع ما أظهروه من الاستعجاب و الاستبعاد بأنّ العلم الإلهيّ محيط بهم و عنده الكتاب الحفيظ الّذي لا يعزب عنه شي‏ء ممّا دقّ و جلّ من أحوال خلقه ثمّ توعدهم بإصابة مثل ما أصاب الاُمم الماضية الهالكة.

و تنبّه ثانياً على علمه و قدرته تعالى بالإشارة إلى ما جرى من تدبيره تعالى في خلق السماوات و ما زيّنها به من الكواكب و النجوم و غير ذلك، و في خلق الأرض من حيث مدّها و إلقاء الرواسي عليها و إنبات الأزواج النباتيّة فيها ثمّ بإنزال الماء و تهيئة أرزاق العباد و إحياء الأرض به.

ثمّ بيان حال الإنسان من أوّل ما خلق و أنّه تحت المراقبة الشديدة الدقيقة حتّى ما يلفظ به من لفظ و حتّى ما يخطر بباله و توسوس به نفسه ما دام حيّاً ثمّ إذا أدركه الموت ثمّ إذا بعث لفصل القضاء ثمّ إذا فرغ من حسابه فاُدخل النار إن كان من المكذّبين أو الجنّة المزلفة إن كان من المتّقين.

و بالجملة مصبّ الكلام في السورة هو المعاد، و من غرر الآيات فيها قوله:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ، و قوله:( يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) و قوله:( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ ) .

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها إلّا ما قيل في قوله:( وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ ) الآية أو الآيتين، و لا شاهد عليه من اللفظ.

و ما أوردناه من الآيات فيه إجمال الإشارة إلى المعاد و استبعادهم له، و إجمال الجواب و التهديد أوّلاً ثمّ الإشارة إلى تفصيل الجواب و التهديد ثانياً.

قوله تعالى: ( ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ) ، قال في المجمع: المجد في كلامهم الشرف الواسع يقال: مجُد الرجل و مجَد - بضمّ العين و فتحها - مجداً إذا عظم و كرم، و أصله من قولهم: مجدت الإبل مُجوداً إذا عظمت بطونها من كثرة أكلها من كلاء الربيع. انتهى.

٣٦٦

و قوله:( وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ) قسم و جوابه محذوف يدلّ عليه الجمل التالية و التقدير و القرآن المجيد إنّ البعث حقّ أو إنّك لمن المنذرين أو الإنذار حقّ، و قيل: جواب القسم مذكور و هو قوله:( بَلْ عَجِبُوا ) إلخ، و قيل: هو قوله:( قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ ) إلخ، و قيل: قوله:( ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ ) إلخ، و قيل: قوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى‏ ) إلخ، و قيل: قوله:( ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ) إلخ، و هذه أقوال سخيفة لا يصار إليها.

قوله تعالى: ( بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْ‏ءٌ عَجِيبٌ ) إضراب عن مضمون جواب القسم المحذوف فكأنّه قيل: إنّا أرسلناك نذيراً فلم يؤمنوا بك بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم، أو قيل إنّ البعث الّذي أنذرتهم به حقّ و لم يؤمنوا به بل عجبوا منه و استبعدوه.

و ضمير( مِنْهُمْ ) في قوله:( بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ) راجع إليهم بما هم بشر أي من جنسهم و ذلك أنّ الوثنيّين ينكرون نبوّة البشر كما تقدّمت الإشارة إليه مراراً أو راجع إليهم بما هم عرب و المعنى: بل عجبوا أن جاءهم منذر من قومهم و بلسانهم يبيّن لهم الحقّ أوفى بيان فيكون أبلغ في تقريعهم.

و قوله:( فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْ‏ءٌ عَجِيبٌ ) وصفهم بالكفر و لم يقل: و قال المشركون و نحو ذلك للدلالة على سترهم للحقّ لمّا جاءهم، و الإشارة في قولهم:( هذا شَيْ‏ءٌ عَجِيبٌ ) ، إلى البعث و الرجوع إلى الله كما يفسّره قوله بعد:( أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً ) إلخ.

قوله تعالى: ( أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ) الرجع و الرجوع بمعنى و المراد بالبعد البعد عن العقل.

و جواب إذا في قولهم:( أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً ) محذوف يدلّ عليه قولهم:( ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ) و التقدير أ إذا متنا و كنا تراباً نبعث و نرجع؟ و الاستفهام للتعجيب، و إنّما حذف للإشارة إلى أنّه عجيب بحيث لا ينبغي أن يذكر، إذ لا يقبله عقل ذي عقل و الآية في مساق قوله:( وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) الم السجدة: 10.

٣٦٧

و المعنى: أنّهم يتعجّبون و يقولون: أ ءذا متنا و كنّا تراباً - و بطلت ذواتنا بطلانا لا أثر معه منها - نبعث و نرجع؟ ثمّ كأنّ قائلاً يقول لهم: ممّ تتعجّبون؟ فقالوا: ذلك رجع بعيد يستبعده العقل و لا يسلّمه.

قوله تعالى: ( قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَ عِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ ) ردّ منه تعالى لاستبعادهم البعث و الرجوع مستندين في ذلك إلى أنّهم ستتلاشى أبدانهم بالموت فتصير تراباً متشابه الأجزاء لا تمايز لجزء منها من جزء و الجواب أنّا نعلم بما تأكله الأرض من أبدانهم و تنقصه منها فلا يفوت علمنا جزء من أجزائهم حتّى يتعسّر علينا إرجاعه أو يتعذّر بالجهل.

أو أنّا نعلم من يموت منهم فيدفن في الأرض فتنقصه الأرض من جمعهم، و( من ) على أوّل الوجهين تبعيضيّة و على الثاني تبيينيّة.

و قوله:( وَ عِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ ) أي حافظ لكلّ شي‏ء و لآثاره و أحواله، أو كتاب ضابط للحوادث محفوظ عن التغيير و التحريف، و هو اللوح المحفوظ الّذي فيه كلّ ما كان و ما يكون و ما هو كائن إلى يوم القيامة.

و قول بعضهم إنّ المراد به كتاب الأعمال غير سديد أوّلاً من جهة أنّ الله ذكره حفيظاً لما تنقص الأرض منهم و هو غير الأعمال الّتي يحفظه كتاب الأعمال.

و ثانياً: أنّه سبحانه إنّما وصف في كلامه بالحفظ اللوح المحفوظ دون كتب الأعمال فحمل الكتاب الحفيظ على كتاب الأعمال من غير شاهد.

و محصّل جواب الآية أنّهم زعموا أنّ موتهم و صيرورتهم تراباً متلاشي الذرّات غير متمايز الأجزاء يصيّرهم مجهولي الأجزاء عندنا فيمتنع علينا جمعها و إرجاعها لكنّه زعم باطل فإنّا نعلم بمن مات منهم و ما يتبدّل إلى الأرض من أجزاء أبدانهم و كيف يتبدّل و إلى أين يصير؟ و عندنا كتاب حفيظ فيه كلّ شي‏ء و هو اللوح المحفوظ.

قوله تعالى: ( بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ) المرج الاختلاط و الالتباس، و في الآية إضراب عمّا تلوّح إليه الآية السابقة فإنّ اللائح منها أنّهم إنّما

٣٦٨

تعجّبوا من أمر البعث و الرجوع و استبعدوه لجهلهم بأنّ الله سبحانه عليم لا يعزب عنه شي‏ء من أحوال خلقه و آثارهم و أنّ جميع ذلك مستطر في اللوح المحفوظ عند الله بحيث لا يشذّ عنه شاذّ.

فاُضرب في هذه الآية أنّ ذلك ليس من جهلهم و إن تجاهلوا بل كذّبوا بالحقّ لمّا جاءهم فاستبان لهم أنّه حقّ فهم جاحدون للحقّ معاندون له و ليسوا بجاهلين به قاصرين عن إدراكه فهم في أمر مريج مختلط غير منتظم يدركون الحقّ و يكذّبون به مع أنّ لازم العلم بشي‏ء تصديقه و الإيمان به.

و قيل: المراد بكونهم في أمر مريج أنّهم متحيّرون بعد إنكار الحقّ لا يدرون ما يقولون فتارة يقولون: افتراء على الله، و تارة: سحر، و تارة: شعر، و تارة: كهانة و تارة: زجر.

و لذلك عقّب الكلام بذكر آيات علمه و قدرته توبيخاً لهم ثمّ بالإشارة إلى تكذيب الاُمم الماضية الهالكة الّذي ساقهم إلى عذاب الاستئصال، تهديداً لهم.

قوله تعالى: ( أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَ زَيَّنَّاها وَ ما لَها مِنْ فُرُوجٍ ) الفروج جمع فرجة: الشقوق و الفتوق، و تقييد السماء بكونها فوقهم للدلالة على أنّها بمرئى منهم لا تغيب عن أنظارهم، و المراد بتزيينها خلق النجوم اللامعة فيها بما لها من الجمال البديع، فبناء هذا الخلق البديع بما لها من الجمال الرائع من غير شقوق و فتوق أصدق شاهد على قدرته القاهرة و علمه المحيط بما خلق.

قوله تعالى: ( وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) مدّ الأرض بسطها لتلائم عيشة الإنسان، و الرواسي جمع الراسية بمعنى الثابتة صفة محذوفة الموصوف و هو الجبال، و المراد جعل الجبال الثابتة على ظهرها، و البهيج من البهجة، قال في المجمع: البهجة الحسن الّذي له روعة عند الرؤية كالزهرة و الأشجار النضرة و الرياض الخضرة. انتهى. و قيل: المراد بالبهيج الّذي من رآه بهج و سرّ به فهو بمعنى المبهوج به.

و المراد بإنبات كلّ زوج بهيج إنبات كلّ صنف حسن المنظر من النبات.

٣٦٩

فخلق الأرض و ما جرى فيها من التدبير الإلهيّ العجيب أحسن دليل يدلّ العقل على كمال القدرة و العلم.

قوله تعالى: ( تَبْصِرَةً وَ ذِكْرى‏ لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ) مفعول له أي فعلنا ما فعلنا من بناء السماء و مدّ الأرض و عجائب التدبير الّتي أجريناها فيهما ليكون تبصرة يتبصّر بها و ذكرى يتذكّر بها كلّ عبد راجع إلى الله سبحانه.

قوله تعالى: ( وَ نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَ حَبَّ الْحَصِيدِ ) السماء جهة العلو و الماء المبارك المطر، وصف بالمباركة لكثرة خيراته العائدة إلى الأرض و أهلها، و حبّ الحصيد المحصود من الحبّ و هو من إضافة الموصوف إلى الصفة، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ النَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ ) الباسقات جمع باسقة و هي الطويلة العالية، و الطلع أوّل ما يطلع من ثمر النخيل، و النضيد بمعنى المنضود بعضه على بعض و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( رِزْقاً لِلْعِبادِ وَ أَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ ) الرزق ما يمدّ به البقاء، و( رِزْقاً لِلْعِبادِ ) مفعول له أي أنبتنا هذه الجنّات و حبّ الحصيد و النخل باسقات بما لها من الطلع النضيد ليكون رزقاً للعباد فمن خلق هذه النباتات ليرزق به العباد بما في ذلك من التدبير الوسيع الّذي يدهش اللبّ و يحيّر العقل هو ذو علم لا يتناهى و قدرة لا تعيى لا يشقّ عليه إحياء الإنسان بعد موته و إن تلاشت ذرّات جسمه و ضلّت في الأرض أجزاء بدنه.

و قوله:( وَ أَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ ) برهان آخر على البعث غير ما تقدّم استنتج من طيّ الكلام فإنّ البيان السابق في ردّ استبعادهم للبعث مستندين إلى صيرورتهم تراباً غير متمايز الأجزاء كان برهاناً من مسلك إثبات علمه بكلّ شي‏ء و قدرته على كلّ شي‏ء و هذا البرهان الّذي يتضمّنه قوله:( وَ أَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ ) من مسلك إثبات إمكان الشي‏ء بوقوع مثله فليس الخروج من القبور بالإحياء بعد الموت إلّا مثل خروج النبات الميت من الأرض بعد موتها و وقوف قواه عن النماء و النشوء.

٣٧٠

و قد قرّرنا هذا البرهان في ذيل الآيات المستدلّة بإحياء الأرض بعد موتها على البعث غير مرّة فيما تقدّم من أجزاء الكتاب.

قوله تعالى: ( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ - إلى قوله -كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ) ، تهديد و إنذار لهم بما كذّبوا بالحقّ لمّا جاءهم و تبيّن لهم عناداً كما أشرنا إليه قبل.

و قد تقدّم ذكر أصحاب الرسّ في تفسير سورة الفرقان، و ذكر أصحاب الأيكة و هم قوم شعيب في سور الحجر و الشعراء و ص، و ذكر قوم تبّع في سورة الدخان.

و في قوله:( كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ) إشارة إلى أنّ هناك وعيداً بالهلاك ينجز عند تكذيب الرسل قال تعالى:( فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) النحل: 36.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس قال: خلق الله تعالى من وراء هذه الأرض بحراً محيطاً بها ثمّ خلق من وراء ذلك جبلاً يقال له: ق السماء الدنيا مترفرفة عليه، ثمّ خلق من وراء ذلك الجبل أرضاً مثل تلك الأرض سبع مرّات ثمّ خلق من وراء ذلك بحراً محيطاً بها، ثمّ خلق من وراء ذلك جبلاً يقال له ق السماء الثانية مترفرفة عليه حتّى عدّ سبع أرضين و سبعة أبحر و سبعة أجبل و سبع سماوات. قال: و ذلك قوله:( وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ) .

و فيه، أخرج ابن المنذر و ابن مردويه و أبوالشيخ و الحاكم عن عبدالله بن بريدة في قوله تعالى:( ق ) قال: جبل من زمرّد محيط بالدنيا عليه كنفا السماء.

و فيه، أخرج ابن أبي الدنيا في العقوبات، و أبوالشيخ في العظمة، عن ابن عبّاس قال: خلق الله جبلاً يقال له ق محيط بالعالم و عروقه إلى الصخرة الّتي عليها الأرض فإذا أراد الله أن يزلزل قرية أمر ذلك الجبل فحرّك العرق الّذي يلي تلك القرية فيزلزلها و يحرّكها فمن ثمّ تحرّك القرية دون القرية.

٣٧١

أقول: و روى القمّيّ بإسناده عن يحيى بن ميسرة الخثعميّ عن الباقرعليه‌السلام مثل ما مرّ عن عبدالله بن بريدة، و روي ما في معناه مرسلاً و مضمراً و لفظه: قال: جبل محيط بالدنيا وراء يأجوج و مأجوج.

و كيفما كان لا تعويل على هذه الروايات، و بطلان ما فيها يكاد يلحق اليوم بالبديهيّات أو هو منها.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْ‏ءٌ عَجِيبٌ ) قال: نزلت في اُبيّ بن خلف قال لأبي جهل: تعال إليّ اُعجّبك من محمّد ثمّ أخذ عظماً ففتّه ثمّ قال: يا محمّد تزعم أنّ هذا يُحيا؟ فقال الله:( بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ) .

٣٧٢

( سورة ق الآيات 15 - 38)

أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ  بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ( 15 ) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ  وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ( 16 ) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ( 17 ) مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ( 18 ) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ  ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ( 19 ) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ  ذَٰلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ( 20 ) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ( 21 ) لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ( 22 ) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ( 23 ) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ( 24 ) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ ( 25 ) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ ( 26 ) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ( 27 ) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ ( 28 ) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ( 29 ) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ ( 30 ) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ( 31 ) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ( 32 )

٣٧٣

مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ( 33 ) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ  ذَٰلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ( 34 ) لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ( 35 ) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ ( 36 ) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ( 37 ) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ( 38 )

( بيان‏)

الآية الاُولى متمّمة لما أورده في الآيات السابقة من الحجّة على علمه و قدرته بما خلق السماء و الأرض و ما فيهما من خلق و دبّر ذلك أكمل التدبير و أتمّه و ذلك كلّه هو الخلق الأوّل و النشأة الاُولى. فتمم ذلك بقوله:( أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ ) و استنتج منه أنّ القادر على الخلق الأوّل العالم به قادر على خلق جديد و نشأة ثانية و عالم به لأنّهما مثلان إذا جاز له خلق أحدهما جاز خلق الآخر و إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن.

ثمّ أضرب عنه أنّهم في التباس من خلق جديد مع مماثلة الخلقين ثمّ أشار إلى نشأة الإنسان أوّل مرّة و هو يعلم منه حتّى خطرات قلبه و عليه رقباؤه يراقبونه أدقّ المراقبة ثمّ يجيئه سكرة الموت بالحقّ ثمّ البعث ثمّ دخول الجنّة أو النار ثمّ أشار ثانياً إلى ما حلّ بالقرون الماضية المكذّبة من السخط الإلهيّ و عذاب الاستئصال و هم أشدّ بطشاً من هؤلاء فمن جازاهم بالهلاك قادر على أن يجازي هؤلاء.

قوله تعالى: ( أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ) العيّ عجز يلحق من تولّي الأمر و الكلام كذا، قال الراغب: يقال: أعياني كذا و عييت بكذا أي عجزت عنه و الخلق الأوّل خلق هذه النشأة الطبيعيّة بنظامها الجاري و منها الإنسان في حياته الدنيا فلا وجه لقصر الخلق الأوّل في خلق السماء و الأرض

٣٧٤

فقط كما مال إليه الرازيّ في التفسير الكبير و لا لقصره في خلق الإنسان كما مال إليه بعضهم و ذلك لأنّ الخلق الجديد يشمل السماء و الأرض و الإنسان جميعاً كما قال تعالى:( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ وَ بَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) إبراهيم: 48. و الخلق الجديد خلق النشأة الثانية و هي النشأة الآخرة، و الاستفهام للإنكار.

و المعنى: أ عجزنا عن الخلق الأوّل حتّى نعجز عن الخلق الجديد؟ أي لم نعجز عن الخلق الأوّل و هو إبداؤه فلا نعجز عن الخلق الجديد و هو إعادته.

و لو اُخذ العيّ بمعنى التعب كما مال إليه بعضهم كان المعنى: هل تعبنا بسبب الخلق الأوّل حتّى يتعذّر أو يتعسّر علينا الخلق الجديد؟ و ذلك كما أنّ الإنسان و سائر الحيوان إذا أتى بشي‏ء من الفعل و أكثر منه انتهي به إلى التعب البدنيّ فيكفّه ذلك عن الفعل بعد، فما لم يأت به من الفعل لكونه تعبان مثل ما أتى لكنّه لا يؤتى به لأنّ الفاعل لا يستطيعه لتعبه و إن كان الفعل جائزاً متشابه الأمثال.

و هذا معنى لا بأس به لكن قيل: إنّ استعمال العيّ بمعنى العجز أفصح.

على أنّ سوق الحجّة من طريق العجز يفيد استحالة الإتيان و نفيها هو المطلوب بخلاف سوقها من طريق التعب فإنّه يفيد تعسّره دون استحالة الإتيان و مراد النافين للمعاد استحالته دون تعسّره هذا.

و قوله:( بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ) اللبس هو الالتباس، و المراد بالخلق الجديد تبديل نشأتهم الدنيا من نشأة اُخرى ذات نظام آخر وراء النظام الطبيعيّ الحاكم في الدنيا فإنّ في النشأة الاُخرى و هي الخلق الجديد بقاء من غير فناء و حياة من غير موت ثمّ إن كان الإنسان من أهل السعادة فله نعمة من غير نقمة و إن كان من أهل الشقاء ففي نقمة لا نعمة معها، و النشأة الاُولى و هي الخلق الأوّل و النظام الحاكم فيها على خلاف ذلك.

و المعنى: إذا كنّا خلقنا العالم بسمائه و أرضه و ما فيهما و دبّرناه أحسن تدبير لأوّل مرّة بقدرتنا و علمنا و لم نعجز عن ذلك علماً و قدرة فنحن غير عاجزين عن تجديد خلقه و هو تبديله خلقاً جديداً فلا ريب في قدرتنا و لا التباس بل هم في التباس

٣٧٥

لا سبيل لهم مع ذلك إلى الإيمان بخلق جديد.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) قال الراغب: الوسوسة الخطرة الرديئة و أصله من الوسواس و هو صوت الحلي و الهمس الخفيّ. انتهى.

و المراد بخلق الإنسان وجوده المتدرّج المتحوّل خلقاً بعد خلق لا أوّل تكوينه إنساناً و إن عبّر عنه بالماضي إذ قال:( وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ) إذ الإنسان - و كذا كلّ مخلوق له حظّ من البقاء - كما يحتاج إلى عطيّة ربّه في أوّل وجوده كذلك يحتاج إليه في بقائه.

و لما ذكر من النكتة عطف قوله:( وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ) و هو فعل مضارع مسوق للدلالة على الاستمرار على قوله:( وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ) و هو فعل ماض لكنّه مستمرّ المعنى، و كذا قوله:( وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) مفيد للثبوت و الدوام و الاستمرار باستمرار وجود الإنسان.

و للآية اتّصال بما تقدّم من الاحتجاج على علمه و قدرته تعالى في الخلق الأوّل بقوله:( أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ ) و اتّصال أيضاً بقوله تعالى في الآية السابقة:( بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ) فهي في سياق يذكر قدرته على الإنسان بخلقه، و علمه به بلا واسطة و بواسطة الملائكة الحفظة الكتبة.

فقوله:( وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ) - و اللّام للقسم - دالّ على القدرة عليه بإثبات الخلق.

و قوله:( وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ) في ذكر أخفى أصناف العلم و هو العلم بالخطور النفسانيّ الخفيّ إشارة إلى استيعاب العلم له كأنّه قيل: و نعلم ظاهره و باطنه حتّى ما توسوس به نفسه و ممّا توسوس به الشبهة في أمر المعاد: كيف يُبعث الإنسان و قد صار بعد الموت تراباً متلاشي الأجزاء غير متميّز بعضها من بعض.

و قد بان أنّ( ما ) في( ما تُوَسْوِسُ بِهِ ) موصولة و ضمير( بِهِ ) عائد إليه و الباء للآلة أو للسببيّة، و نسب الوسوسة إلى النفس دون الشيطان و إن كانت منسوبة إليه

٣٧٦

أيضاً لأنّ الكلام في إحاطة العلم بالإنسان حتّى بما في زوايا نفسه من هاجس و وسوسة.

و قوله:( وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) الوريد عرق متفرّق في البدن فيه مجاري الدم، و قيل: هو العرق الّذي في الحلق، و كيف كان فتسميته حبلاً لتشبيهه به، و إضافة حبل الوريد بيانيّة.

و المعنى: نحن أقرب إلى الإنسان من حبل وريده المخالط لأعضائه المستقرّ في داخل بدنه فكيف لا نعلم به و بما في نفسه؟

و هذا تقريب للمقصود بجملة ساذجة يسهل تلقّيها لعامّة الأفهام و إلّا فأمر قربه تعالى إليه أعظم من ذلك و أعظم فهو سبحانه الّذي جعلها نفساً و رتّب عليها آثارها فهو الواسطة بينها و بين نفسها و بينها و بين آثارها و أفعالها فهو أقرب إلى الإنسان من كلّ أمر مفروض حتّى في نفسه، و لكون هذا المعنى دقيقاً يشقّ تصوّره على أكثر الأفهام عدل سبحانه إلى بيانه بنحو قوله:( وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) و قريب منه بوجه قوله:( أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ ) .

و لهم في معنى الآية وجوه كثيرة اُخر لا جدوى في نقلها و البحث عنها من أرادها فليراجع كتبهم.

قوله تعالى: ( إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ) التلقّي الأخذ و التلقّن، و المراد بالمتلقّيان على ما يفيده السياق الملكان الموكّلان على الإنسان اللّذان يتلقّيان عمله فيحفظانه بالكتابة.

و قوله:( عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ) تقديره عن اليمين قعيد و عن الشمال قعيد، و المراد باليمين و الشمال يمين الإنسان و شماله، و القعيد القاعد.

و الظرف في قوله:( إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ ) الظاهر أنّه متعلّق بمحذوف و التقدير اذكر إذ يتلقّى المتلقّيان، و المراد به الإشارة إلى علمه تعالى بأعمال الإنسان من طريق كتاب الأعمال من الملائكة وراء علمه تعالى بذاته من غير توسّط الوسائط.

و قيل: الظرف متعلّق بقوله في الآية السابقة:( أَقْرَبُ ) و المعنى: نحن أقرب إليه من حبل الوريد في حين يتلقّى الملكان الموكّلان عليه أعماله ليكتباها.

٣٧٧

و لعلّ الوجه السابق أوفق للسياق فإنّ بناء هذا الوجه على كون العمدة في الغرض بيان أقربيّته تعالى إليه و علمه به و الباقي مقصود لأجله، و ظاهر السياق و خاصّة بالنظر إلى الآية التالية كون كلّ من العلم من طريق القرب و من طريق تلقّي الملكين مقصوداً بالاستقلال.

و قيل:( إِذْ ) تعليليّة تعلّل علمه تعالى المدلول عليه بقوله:( وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ ) إلخ، بمفاد مدخولها.

و فيه أنّ من البعيد من مذاق القرآن أن يستدلّ على علمه تعالى بعلم الملائكة أو بحفظهم و كتابتهم.

و قوله:( عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ) تمثيل لموقعهما من الإنسان، و اليمين و الشمال جانبا الخير و الشرّ ينتسب إليهما الحسنة و السيّئة.

قوله تعالى: ( ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) اللفظ الرمي سمّي به التكلّم بنوع من التشبيه، و الرقيب المحافظ، و العتيد المعدّ المهيّأ للزوم الأمر.

و الآية تذكر مراقبة الكتبة للإنسان فيما يتكلّم به من كلام، و هي بعد قوله:( إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ ) إلخ، من ذكر الخاصّ بعد العامّ لمزيد العناية به.

قوله تعالى: ( وَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) الحيد العدول و الميل على سبيل الهرب، و المراد بسكرة الموت ما يعرض الإنسان حال النزع إذ يشتغل بنفسه و ينقطع عن الناس كالسكران الّذي لا يدري ما يقول و لا ما يقال له.

و في تقييد مجي‏ء سكرة الموت بالحقّ إشارة إلى أنّ الموت داخل في القضاء الإلهيّ مراد في نفسه في نظام الكون كما يستفاد من قوله تعالى:( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ ) الأنبياء: 35، و قد مرّ تفسيره فالموت - و هو الانتقال من هذه الدار إلى دار بعدها - حقّ كما أنّ البعث حقّ و الجنّة حقّ و النار حقّ، و في معنى كون الموت بالحقّ أقوال اُخر لا جدوى في نقلها و التعرّض لها.

و في قوله:( ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) إشارة إلى أنّ الإنسان يكره الموت بالطبع و ذلك أنّ الله سبحانه زيّن الحياة الدنيا و التعلّق بزخارفها للإنسان ابتلاء و

٣٧٨

امتحاناً، قال تعالى:( إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً ) الكهف: 8.

قوله تعالى: ( وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ) هذه نقلة ثانية إلى عالم الخلود بنفخ الصور بعد النقلة الاُولى، و المراد بنفخ الصور النفخة الثانية المقيمة للساعة أو مجموع النفختين بإرادة مطلق النفخ.

و المراد بيوم الوعيد يوم القيامة الّذي ينجز الله تعالى فيه وعيده على المجرمين من عباده.

قوله تعالى: ( وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِيدٌ ) السياقة حثّ الماشية على المسير من خلفها بعكس القيادة فهي جلبها من أمامها.

فقوله:( وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ ) أي جاءت إلى الله و حضرت عنده لفصل القضاء، و الدليل عليه قوله تعالى:( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ) القيامة: 30.

و المعنى: و حضرت عنده تعالى كلّ نفس معها سائق يسوقها و شاهد يشهد بأعمالها و لم يصرّح تعالى بكونهما من الملائكة أو بكونهما هما الكاتبين أو من غير الملائكة، غير أنّ السابق إلى الذهن من سياق الآيات أنّهما من الملائكة، و سيجي‏ء الروايات في ذلك.

و كذا لا تصريح بكون الشهادة منحصرة في هذا الشاهد المذكور في الآية بل الآيات الواردة في شهداء يوم القيامة تقضي بعدم الانحصار، و كذا الآيات التالية الذاكرة لاختصام الإنسان و قرينة دالّة على أنّ مع الإنسان يومئذ غير السائق و الشهيد.

قوله تعالى: ( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) وقوع الآية في سياق آيات القيامة و احتفافها بها يقضي بكونها من خطابات يوم القيامة، و المخاطب بها هو الله سبحانه، و الّذي خوطب بها هو الإنسان المذكور في قوله:( وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ ) و عليه فالخطاب عامّ متوجّه إلى كلّ إنسان إلّا أنّ التوبيخ و التقريع اللائح من سياق الآية ربّما استدعى اختصاص الخطاب بمنكري المعاد، أضف إلى ذلك، كون الآيات مسوقة لردّ منكري المعاد في قولهم:( أَ إِذا

٣٧٩

مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ) .

و الإشارة بقوله:( هذا ) إلى ما يشاهده يومئذ و يعاينه من تقطع الأسباب و بوار الأشياء و رجوع الكلّ إلى الله الواحد القهّار، و قد كان تعلّق الإنسان في الدنيا بالأسباب الظاهريّة و ركونه إليها أغفله عن ذلك حتّى إذا كشف الله عنه حجاب الغفلة فبدت له حقيقة الأمر فشاهد ذلك مشاهدة عيان لا علماً فكريّاً.

و لذا خوطب بقوله:( لَقَدْ كُنْتَ ) في الدنيا( فِي غَفْلَةٍ ) أحاطت بك( من هذا ) الّذي تشاهده و تعاينه و إن كان في الدنيا نصب عينيك لا يغيب لكن تعلّقك بذيل الأسباب أذهلك و أغفلك عنه( فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ ) اليوم( فَبَصَرُكَ ) و هو البصيرة و عين القلب( الْيَوْمَ ) و هو يوم القيامة( حَدِيدٌ ) أي نافذ يبصر ما لم يكن يبصره في الدنيا.

و يتبيّن بالآية أوّلاً: أنّ معرّف يوم القيامة أنّه يوم ينكشف فيه غطاء الغفلة عن الإنسان فيشاهد حقيقة الأمر، و في هذا المعنى و ما يقرب منه آيات كثيرة كقوله تعالى:( وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) الانفطار: 19، و قوله:( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) المؤمن: 16، إلى غير ذلك من الآيات.

و ثانياً: أنّ ما يشاهده الإنسان يوم القيامة موجود مهيّأ له و هو في الدنيا غير أنّه في غفلة منه، و خاصّة يوم القيامة أنّه يوم انكشاف الغطاء و معاينة ما وراءه، و ذلك لأنّ الغفلة إنّما يتصوّر فيما يكون هناك أمر موجود مغفول عنه، و الغطاء يستلزم أمراً وراءه و هو يغطّيه و يستره، و عدم حدّة البصر إنّما ينفع فيما إذا كان هناك مبصر دقيق لا ينفذ فيه البصر.

و من أسخف القول ما قيل: إنّ الآية خطاب منه تعالى لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و المعنى: لقد كنت قبل الرسالة في غفلة من هذا الّذي نوحي إليك فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد يدرك الوحي أو يبصر ملك الوحي فيتلقّى الوحي، و ذلك لأنّ السياق لا يساعده و لا لفظ الآية ينطبق عليه.

قوله تعالى: ( وَ قالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ ) لا يخلو السياق من ظهور في

٣٨٠