الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 429

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 429
المشاهدات: 114946
تحميل: 5403


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 429 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 114946 / تحميل: 5403
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 18

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أنّ المراد بهذا القرين الملك الموكّل به فإن كان هو السائق كان معنى قوله:( هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ ) هذا الإنسان الّذي هو عندي حاضر، و إن كان هو الشهيد كان المعنى هذا - و هو يشير إلى أعماله الّتي حمل الشهادة عليها - ما عندي من أعماله حاضر مهيّأ.

و قيل: المراد بالقرين الشيطان الّذي يصاحبه و يغويه، و معنى كلامه على هذا هذا الإنسان هو الّذي تولّيت أمره و ملكته حاضر مهيّأ لدخول جهنّم.

قوله تعالى: ( أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ ) الكفّار اسم مبالغة من الكفر، و العنيد المعاند للحقّ المستمرّ على عناده، و المعتدي المتجاوز عن الحدّ المتخطّئ للحقّ، و المريب الشاكّ أو المشكّك في أمر البعث.

و بين هذه الصفات المعدودة شبه الاستلزام فإنّ كثرة الكفر برد الإنسان كلّ حقّ يواجهه تنتج العناد مع الحقّ و الإصرار عليه، و الإصرار على العناد يوجب المنع عن أكثر الخيرات إذ لا خير إلّا في الحقّ و من ناحيته، و هو يستلزم الخروج عن حدّ الحقّ إلى الباطل و تجاوز الإنسان عن حدّ العبوديّة إلى الاستكبار و الطغيان و يستلزم تشكيك الناس في ما يرومونه من دين الحقّ.

و الخطاب في الآية منه تعالى، و ظاهر سياق الآيات أنّ المخاطب به هما الملكان الموكّلان السائق و الشهيد، و احتمل بعضهم أن يكون الخطاب إلى ملكين من ملائكة النار و خزنتها.

قوله تعالى: ( الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ ) العدول في ذكر صفة الشرك عن الإيجاز إلى الإطناب حيث لم يقل: مشرك و قال:( الَّذِي جَعَلَ ) إلخ، للإشارة إلى أنّ هذه الصفة أعظم المعاصي و اُمّ الجرائم الّتي أتى بها و الصفات الرذيلة الّتي عدّت له من الكفر و العناد و منع الخير و الاعتداء و الإرابة.

و قوله:( فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ ) تأكيد لما تقدّم من الأمر بقوله:( أَلْقِيا ) إلخ، و يلوّح إلى تشديد الأمر من جهة الشرك، و لذا عقّبه بقوله:( فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ ) .

قوله تعالى: ( قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَ لكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) المراد بهذا

٣٨١

القرين قرينه من الشياطين بلا شكّ، و قد تكرّر في كلامه تعالى ذكر القرين من الشيطان و هو الّذي يلازم الإنسان و يوحي إليه ما يوحي من الغواية و الضلال، قال تعالى:( وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ) الزخرف: 38.

فقوله:( قالَ قَرِينُهُ ) أي شيطانه الّذي يصاحبه و يغويه( رَبَّنا ) أضاف الربّ إلى نفسه و الإنسان الّذي هو قرينه لأنّهما في مقام الاختصام( ما أَطْغَيْتُهُ ) أي ما أجبرته على الطغيان( وَ لكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) أي متهيّأ مستعدّاً لقبول ما ألقيته إليه تلقّاه باختياره فما أنا بمسؤل عن ذنبه في طغيانه.

و قد تقدّم في سورة الصافّات تفصيل اختصام الظالمين و أزواجهم في قوله:( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْواجَهُمْ ) الصافّات: 22، إلى آخر الآيات.

قوله تعالى: ( قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ) القائل هو الله سبحانه يخاطبهم و كأنّه خطاب واحد لعامّة المشركين الطاغين و قرنائهم ينحلّ إلى خطابات جزئيّة لكلّ إنسان و قرينه بمثل قولنا: لا تختصما لديّ، إلخ.

و قوله:( وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ) حال من فاعل( لا تَخْتَصِمُوا ) و( بِالْوَعِيدِ ) مفعول( قَدَّمْتُ ) و الباء للوصلة.

و المعنى: لا تختصموا لديّ فلا نفع لكم فيه بعد ما أبلغتكم وعيدي لمن أشرك و ظلم، و الوعيد الّذي قدّمه إليهم مثل قوله تعالى لإبليس:( اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً ) إسراء: 63، و قوله:( فَالْحَقُّ وَ الْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ) ص: 85. أو قوله:( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ ) السجدة: 13.

قوله تعالى: ( ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَ ما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) الّذي يعطيه السياق أن تكون الآية استئنافاً بمنزلة الجواب عن سؤال مقدّر كأنّ قائلاً يقول: هب إنّك قد قدّمت فهلّا غيّرته و عفوت؟ فاُجيب بقوله:( ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ) و المراد بالقول

٣٨٢

مطلق القضاء المحتوم الّذي قضى به الله، و قد قضى لمن مات على الكفر بدخول جهنّم و ينطبق بحسب المورد على الوعيد الّذي أوعده الله لإبليس و من تبعه.

فقد بان أنّ الجملة مستأنفة، و المراد بتبديل القول تغيير القضاء المحتوم، و( لَدَيَّ ) متعلّق بالتبديل، هذا ما يعطيه السياق، و قد ذكر بعضهم في هذه الجملة و إعراب مفرداتها و معنى تبديل القول وجوهاً و احتمالات كثيرة بعيدة عن الفهم لا تزيد في الكلام إلّا تعقيداً فأغمضنا عن إيرادها.

و قوله:( وَ ما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) متمّم لمعنى الجملة السابقة أي لا يبدّل قولي فأنتم معذّبون لا محالة و لست أظلم عبيدي في عذابهم على طبق ما قدّمت إليهم بالوعيد لأنّهم مستحقّون لذلك بعد إتمام الحجّة.

و من وجه آخر: لا ظلم في مجازاتهم بالعذاب فإنّهم إنّما يجزون بأعمالهم الّتي قدّموها في أعمالهم ردّت إليهم كما هو ظاهر قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) التحريم: 7.

و ما في قوله:( وَ ما أَنَا بِظَلَّامٍ ) من نفي الظلم الكثير لا يستوجب جواز الظلم اليسير فإنّه تعالى لو ظلم في شي‏ء من الجزاء كان ظلماً كثيراً لكثرة أمثاله فإنّ الخطاب لكلّ إنسان مشرك ظالم مع قرينه، و هم كثيرون فهو سبحانه لو ظلم في شي‏ء من الجزاء لكان ظلاماً.

قوله تعالى: ( يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) خطاب منه تعالى لجهنّم و جواب منها، و قد اختلف في حقيقة هذا التكليم و التكلّم فقيل: الخطاب و الجواب بلسان الحال و يردّه أنّه لو كان بلسان الحال لم يختصّ به تعالى بل كان لكلّ من يشاهدها على تلك الحال أن يسألها عن امتلائها فتجيبه بقولها: هل من مزيد؟ فليس لتخصيص الخطاب به تعالى نكتة ظاهرة.

و قيل: حقيقة الخطاب لخزنة جهنّم و الجواب منهم و إن كانا نسباً إلى جهنّم و فيه أنّه خلاف الظاهر لا يصار إليه إلّا بدليل.

و قيل: الخطاب و الجواب على ظاهره، و لا دليل يدلّ على عدم الجواز، و قد

٣٨٣

أخبر الله سبحانه عن تكليم الأيدي و الأرجل و الجلود و غيرها، و هو الوجه و قد تقدّم في تفسير سورة فصّلت أنّ العلم و الشعور سار في جميع الموجودات.

و قوله:( هَلِ امْتَلَأْتِ ) استفهام تقريريّ، و كذا قوله حكاية عنها:( هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) و لعلّ إيراد هذا السؤال و الجواب للإشارة إلى أنّ قهره و عذابه لا يقصر عن الإحاطة بالمجرمين و إيفاء ما يستحقّونه من الجزاء قال تعالى:( وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ) التوبة: 49.

و استشكل بأنّه مناف لصريح قوله تعالى:( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ ) الآية و اُجيب بأنّ الامتلاء قد يراد به أنّه لا يخلو شي‏ء من طبقاتها من السكنة كما يقال: البلد ممتلئ بأهله. على أنّه يمكن أن يكون هذا القول منها قبل دخول جميع أهل النار فيها.

و قيل: الاستفهام في قوله:( هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) للإنكار و المعنى: لا مزيد أي لا مكان فيّ يزيد على من اُلقي فيّ من المجرمين فقد امتلأت فيكون إشارة إلى ما قضى به في قوله:( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ ) السجدة: 13، و قوله:( هَلِ امْتَلَأْتِ ) في معنى أن يقال:( حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ ) ، و قوله:( هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) تقرير و تصديق له.

و ربّما أيّد هذا الوجه قوله تعالى قبل:( ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ) على تقدير أن يراد بالقول قوله تعالى:( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ ) .

قوله تعالى: ( وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ) شروع في وصف حال المتّقين يوم القيامة، و الإزلاف التقريب، و( غَيْرَ بَعِيدٍ ) على ما قيل صفة لظرف محذوف و التقدير في مكان غير بعيد.

و المعنى: و قرّبت الجنّة يومئذ للمتّقين حال كونها في مكان غير بعيد أي هي بين أيديهم لا تكلّف لهم في دخولها.

قوله تعالى: ( هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ) الإشارة إلى ما تقدّم من الثواب الموعود، و الأوّاب من الأوب بمعنى الرجوع، و المراد كثرة الرجوع إلى الله

٣٨٤

بالتوبة و الطاعة، و الحفيظ هو الّذي يدوم على حفظ ما عهد الله إليه من أن يترك فيضيع، و قوله:( لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ) خبر بعد خبر لهذا أو حال.

قوله تعالى: ( مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَ جاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ) بيان لكلّ أوّاب و الخشية بالغيب الخوف من عذاب الله حال كونه غائباً غير مرئيّ له، و الإنابة هو الرجوع، و المجي‏ء إلى ربّه بقلب منيب أن يتمّ عمره بالإنابة فيأتي ربّه بقلب متلبّس بالإنابة.

قوله تعالى: ( ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ) خطاب للمتّقين أي يقال لهم: ادخلوا بسلام أي بسلامة و أمن من كلّ مكروه و سوء، أو بسلام من الله و ملائكته عليكم، و قوله:( ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ) بشرى يبشّرون بها.

قوله تعالى: ( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ ) يمكن أن يكون( فِيها ) متعلّقاً بيشاؤن أو بمحذوف هو حال من الموصول، و التقدير: حال كون ما يشاؤن فيها أو من الضمير المحذوف الراجع إلى الموصول، و التقدير: ما يشاؤنه حال كونه فيها، و الأوّل أوفق لسعة كرامتهم عندالله سبحانه.

و المحصّل: أنّ أهل الجنّة و هم في الجنّة يملكون كلّ ما تعلّقت به مشيّتهم و إرادتهم كائناً ما كان من غير تقييد و استثناء فلهم كلّما أمكن أن يتعلّق به الإرادة و المشيّة لو تعلّقت.

و قوله:( وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ ) أي و لهم عندنا ما يزيد على ذلك - على ما يفيده السياق - و إذ كان لهم كلّ ما أمكن أن تتعلّق به مشيّتهم ممّا يتعلّق به علمهم من المطالب و المقاصد فالمزيد على ذلك أمر أعظم ممّا تتعلّق به مشيّتهم لكونه فوق ما يتعلّق به علمهم من الكمال.

و قيل: المراد بالمزيد الزيادة على ما يشاؤن من جنس ما يشتهون فإذا شاؤا رزقاً اُعطوا منه أكثر ممّا شاؤا و أفضل و أعجب كما ورد عن بعضهم أنّه تمرّ بهم السحابة فتقول: ما ذا تريدون فاُمطره عليكم فلا يريدون شيئاً إلّا أمطرته عليهم.

و فيه أنّه تقييد لإطلاق الكلام من غير مقيّد فإنّ ظاهر قوله:( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ

٣٨٥

فِيها ) أنّهم يملكون كلّ ما يمكنهم أن يشاؤا لا تملّكهم ما شاؤه بالفعل فالمزيد وراء ما يمكن أن تتعلّق به مشيّتهم.

و قيل: المراد أنّه يضاعف لهم الحسنة بعشر أمثالها و فيه ما في سابقه.

قوله تعالى: ( وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ) التنقيب السير، المحيص المحيد و المنجا.

و في الآية تذييل الاحتجاج بخلق الإنسان و العلم به و بيان سيره إلى الله بالتخويف و الإنذار نظير ما جرى عليه الكلام في صدر السورة من الاحتجاج على المعاد و تذييله بالتخويف و الإنذار في قوله:( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ أَصْحابُ الرَّسِّ وَ ثَمُودُ ) إلخ.

و المعنى: و كثيراً ما أهلكنا قبل هؤلاء المشركين من قرن هم أي أهل ذلك القرن أشدّ بطشاً منهم أي من هؤلاء المشركين فساروا ببطشهم في البلاد ففتحوها و تحكّموا عليها هل من محيد و منجا من إهلاك الله و عذابه؟.

قوله تعالى: ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى‏ لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ ) القلب ما يعقل به الإنسان فيميّز الحقّ من الباطل و الخير من الشرّ و النافع من الضارّ، فإذا لم يعقل و لم يميّز فوجوده بمنزلة عدمه إذ ما لا أثر له فوجوده و عدمه سواء، و إلقاء السمع هو الاستماع كأنّ السمع شي‏ء يلقى إلى المسموع فيناله و يدركه و الشهيد الحاضر المشاهد.

و المعنى: إنّ فيما أخبرنا به من الحقائق و أشرنا إليه من قصص الاُمم الهالكة لذكرى يتذكّر بها من كان يتعقّل فيدرك الحقّ و يختار ما فيه خيره و نفعه أو استمع إلى حقّ القول و لم يشتغل عنه بغيره و الحال أنّه شاهد حاضر يعي ما يسمعه.

و الترديد بين من كان له قلب و من استمع شهيداً لمكان أنّ المؤمن بالحقّ أحد رجلين إمّا رجل ذو عقل يمكنه أن يتناول الحقّ فيتفكّر فيه و يرى ما هو الحقّ فيذعن به، و إمّا رجل لا يقوى على التفكّر حتّى يميّز الحقّ و الخير و النافع فعليه أن يستمع القول فيتبعه، و أمّا من لا قلب له يعقل به و لا يسمع شهيداً على ما يقال له و يلقى إليه من الرسالة و الإنذار فجاهل متعنّت لا قلب له و لا سمع، قال تعالى:( وَ قالُوا

٣٨٦

لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ ) الملك: 10.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ ما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ ) اللغوب التعب و النصب، و المعنى ظاهر.

( بحث روائي‏)

في التوحيد، بإسناده إلى عمرو بن شمر عن جابر بن يزيد قال: سألت أبا جعفرعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ) قال: يا جابر تأويل ذلك أنّ الله عزّوجلّ إذا أفنى هذا الخلق و هذا العالم و سكن أهل الجنّة الجنّة و أهل النار النار جدّد الله عالماً غير هذا العالم و جدّد خلقاً من غير فحولة و لا إناث يعبدونه و يوحّدونه و خلق لهم أرضاً غير هذه الأرض تحملهم، و سماء غير هذه السماء تظلّهم.

لعلّك ترى أنّ الله إنّما خلق هذا العالم الواحد أو ترى أنّ الله لم يخلق بشراً غيركم بلى و الله لقد خلق ألف ألف عالم و ألف ألف آدم أنت في آخر تلك العوالم و اُولئك الآدميّين.

أقول: و روي في الخصال، الشطر الأوّل من الحديث بإسناده عن محمّد بن مسلم عنهعليه‌السلام ، و لعلّ المراد بكون ما ذكر تأويل الآية أنّه ممّا ينطبق عليه.

و عن جوامع الجامع، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كاتب الحسنات على يمين الرجل و كاتب السيّئات على شماله، و صاحب اليمين أمير على صاحب الشمال: فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشراً و إذا عمل سيّئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات لعلّه يسبّح أو يستغفر.

أقول: و في معناها روايات اُخرى، و روي ستّ ساعات بدل سبع ساعات.

و في نهج البلاغة:( وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِيدٌ ) سائق يسوقها إلى محشرها و شاهد يشهد عليها بعملها.

٣٨٧

و في المجمع، و روى أبوالقاسم الحسكانيّ بالإسناد عن الأعمش قال: حدّثنا أبو المتوكّل التاجر عن أبي السعيد الخدريّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا كان يوم القيامة يقول الله لي و لعليّ: ألقيا في النار من أبغضكما، و أدخلاً في الجنّة من أحبّكما و ذلك قوله:( أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ) .

أقول: و رواه شيخ الطائفة في أماليه، بإسناده عن أبي سعيد الخدريّ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي الدنيا في ذكر الموت و ابن أبي حاتم و أبونعيم في الحلية، عن جابر بن عبدالله قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إنّ ابن آدم لفي غفلة عمّا خلق له إنّ الله إذا أراد خلقه قال للملك: اكتب رزقه. اكتب أثره. اكتب أجله شقيّاً أم سعيداً ثمّ يرتفع ذلك الملك و يبعث الله ملكاً فيحفظه حتّى يدرك ثمّ يرتفع ذلك الملك.

ثمّ يوكّل الله به ملكين يكتبان حسناته و سيّئاته فإذا حضره الموت ارتفع ذلك الملكان و جاء ملك الموت ليقبض روحه فإذا اُدخل قبره ردّ الروح في جسده و جاءه ملكاً القبر فامتحناه ثمّ يرتفعان.

فإذا قامت الساعة انحطّ عليه ملك الحسنات و ملك السيّئات فبسطا كتاباً معقوداً في عنقه ثمّ حضراً معه واحد سائق و آخر شهيد. ثمّ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ قدّامكم لأمراً عظيماً لا تقدّرونه فاستعينوا بالله العظيم.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) قال: هو استفهام لأنّ الله وعد النار أن يملأها فتمتلئ النار ثمّ يقول لها:( هَلِ امْتَلَأْتِ ) ؟ و تقول:( هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) ؟ على حدّ الاستفهام أي ليس فيّ مزيد.

أقول: بناؤه على كون الاستفهام إنكاريّاً.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و البخاريّ و مسلم و الترمذيّ و النسائيّ و ابن جرير و ابن مردويه و البيهقيّ في الأسماء و الصفات عن أنس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تزال جهنّم يلقى فيها و تقول: هل من مزيد؟ حتّى تضع ربّ العزّة فيها قدمه فينزوي

٣٨٨

بعضها إلى بعض و تقول: قط قط و عزّتك و كرمك.

و لا يزال في الجنّة فضل حتّى ينشئ الله لها خلقاً آخر فيسكنهم في قصور الجنّة.

أقول: وضع القدم على النار و قولها: قط قط مرويّ في روايات كثيرة من طرق أهل السنّة.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ ) قال: النظر إلى رحمة الله.

و في الدرّ المنثور، أخرج البزّاز و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و اللالكائيّ في السنّة و البيهقيّ في البعث و النشور عن أنس في قوله تعالى:( وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ ) قال: يتجلّى لهم الربّ عزّوجلّ.

و في الكافي، بعض أصحابنا رفعه عن هشام بن الحكم قال: قال لي أبوالحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام : يا هشام إنّ الله يقول في كتابه:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى‏ لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ ) يعني عقل.

و في الدرّ المنثور، أخرج الخطيب في تاريخه، عن العوّام بن حوشب قال: سألت أبا مجلز عن الرجل يجلس فيضع إحدى رجليه على الاُخرى فقال: لا بأس به إنّما كره ذلك اليهود زعموا أنّ الله خلق السماوات و الأرض في ستّة أيّام ثمّ استراح يوم السبت فجلس تلك الجلسة فأنزل الله( وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ ما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ ) .

أقول: و روي هذا المعنى عن الضحّاك و قتادة، و روى هذا المعنى المفيد في روضة الواعظين، في رواية ضعيفة، و أصل تقسيم خلق الأشياء إلى ستّة من أيّام الاُسبوع واقع في التوراة، و القرآن و إن كرّر ذكر خلق الأشياء في ستّة أيّام لكنّه لم يذكر كون هذه الأيّام هي أيّام الاُسبوع و لا لوّح إليه.

و على هذه الروايات اعتمد من قال: إنّ الآية مدنيّة، و لا دلالة في ردّها قول اليهود أن تكون نازلة بالمدينة، و في الآيات المكّيّة ما تعرّض سبحانه فيه لشأن اليهود كما في سورة الأعراف و غيرها.

٣٨٩

( سورة ق الآيات 39 - 45)

فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ( 39 ) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ( 40 ) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ( 41 ) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ  ذَٰلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ( 42 ) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ( 43 ) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا  ذَٰلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ( 44 ) نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ  وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ  فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ( 45 )

( بيان‏)

خاتمة السورة يأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها أن يصبر على ما يقولون ممّا يرمونه بنحو السحر و الجنون و الشعر، و ما يتعنّتون به باستهزاء المعاد و الرجوع إلى الله تعالى فيأمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر و أن يعبد ربّه بتسبيحه و أن يتوقّع البعث بانتظار الصيحة، و أن يذكّر بالقرآن من يخاف الله بالغيب.

قوله تعالى: ( فَاصْبِرْ عَلى‏ ما يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ ) تفريع على جميع ما تقدّم من إنكار المشركين للبعث، و من تفصيل القول في البعث و الحجّة عليه، و من وعيد المنكرين له المكذّبين للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تهديدهم بمثل ما جرى على المكذّبين من الاُمم الماضية.

و قوله:( وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ) إلخ، أمر بتنزيهه تعالى عمّا يقولون مصاحباً للحمد و محصّله إثبات جميل الفعل له و نفي كلّ نقص و شين عنه تعالى، و التسبيح قبل طلوع

٣٩٠

الشمس يقبل الانطباق على صلاة الصبح، و التسبيح قبل الغروب يقبل الانطباق على صلاة العصر أو عليها و على صلاة الظهر.

قوله تعالى: ( وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ أَدْبارَ السُّجُودِ ) أي و من اللّيل فسبّحه فيه، و يقبل الانطباق على صلاتي المغرب و العشاء.

و قوله:( وَ أَدْبارَ السُّجُودِ ) الأدبار جمع دبر و هو ما ينتهي إليه الشي‏ء و بعده، و كأنّ المراد بأدبار السجود بعد الصلوات فإنّ السجود آخر الركعة من الصلاة فينطبق على التعقيب بعد الصلوات، و قيل: المراد به النوافل بعد الفرائض، و قيل: المراد به الركعتان أو الركعات بعد المغرب و قيل: ركعة الوتر في آخر الليل.

قوله تعالى: ( وَ اسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ ) فسّروا الاستماع بمعان مختلفة و الأقرب أن يكون مضمّناً معنى الانتظار و( يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ ) مفعوله و المعنى: و انتظر يوماً ينادي فيه المنادي ملقياً سمعك لاستماع ندائه، و المراد بنداء المنادي نفخ صاحب الصور في الصور على ما تفيده الآية التالية.

و كون النداء من مكان قريب لإحاطته بهم فيقع في سمعهم على نسبة سواء لا تختلف بالقرب و البعد فإنّما هو نداء البعث و كلمة الحياة.

قوله تعالى: ( يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ) بيان ليوم ينادي المنادي، و كون الصيحة بالحقّ لأنّها مقضيّة قضاء محتوماً كما مرّ في قوله:( وَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ) الآية.

و قوله:( ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ) أي يوم الخروج من القبور كما قال تعالى:( يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً ) المعارج: 43.

قوله تعالى: ( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ إِلَيْنَا الْمَصِيرُ ) المراد بالإحياء إفاضة الحياة على الأجساد الميتة في الدنيا، و بالإماتة الإماتة في الدنيا و هي النقل إلى عالم القبر، و بقوله:( وَ إِلَيْنَا الْمَصِيرُ ) الإحياء بالبعث في الآخرة على ما يفيده السياق.

قوله تعالى: ( يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ ) أصل( تَشَقَّقُ ) تتشقّق أي تتصدّع عنهم فيخرجون منها مسارعين إلى الداعي.

٣٩١

و قوله:( ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ ) أي ما ذكرنا من خروجهم من القبور المنشقّة عنهم سراعاً جمع لهم علينا يسير.

قوله تعالى: ( نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ ) في مقام التعليل لقوله:( فَاصْبِرْ عَلى‏ ما يَقُولُونَ ) الآية، و الجبّار المتسلّط الّذي يجبر الناس على ما يريد.

و المعنى: فاصبر على ما يقولون و سبّح بحمد ربّك و انتظر البعث فنحن أعلم بما يقولون سنجزيهم بما عملوا و لست أنت بمتسلّط جبّار عليهم حتّى تجبرهم على ما تدعوهم إليه من الإيمان بالله و اليوم الآخر و إذا كانت حالهم هذه الحال فذكّر بالقرآن من يخاف وعيدي.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج الطبرانيّ في الأوسط، و ابن عساكر عن جرير بن عبدالله عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في قوله:( وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ- قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ ) قبل طلوع الشمس صلاة الصبح، و قبل الغروب صلاة العصر.

و في المجمع، روي عن أبي عبداللهعليه‌السلام أنّه سئل عن قوله:( وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ ) فقال: تقول حين تصبح و حين تمسي عشر مرّات: لا إله إلّا الله وحده لا شريك له له الملك و له الحمد و هو على كلّ شي‏ء قدير.

أقول: هو مأخوذ من إطلاق التسبيح في الآية و إن كان خصوص مورده صلاتي الصبح و العصر فلا منافاة.

و في الكافي، بإسناده عن حريز عن زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قلت:( وَ أَدْبارَ السُّجُودِ ) قال: ركعات بعد المغرب.

أقول: و رواه القمّيّ في تفسيره، بإسناده عن ابن أبي نصر عن الرضاعليه‌السلام و لفظه قال: أربع ركعات بعد المغرب.

٣٩٢

و في الدرّ المنثور، أخرج مسدّد في مسنده، و ابن المنذر و ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب قال: سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أدبار النجوم و السجود فقال: أدبار السجود الركعتان بعد المغرب، و أدبار النجوم الركعتان قبل الغداة.

أقول: و روي مثله عن ابن عبّاس و عمر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و أسنده في مجمع البيان، إلى الحسن بن عليّعليه‌السلام أيضاً عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ ) قال: ذكّر يا محمّد ما وعدناه من العذاب.

٣٩٣

( سورة الذاريات مكّيّة و هي ستّون آية)

( سورة الذاريات الآيات 1 - 19)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ( 1 ) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا ( 2 ) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ( 3 ) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ( 4 ) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ( 5 ) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ( 6 ) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ( 7 ) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ( 8 ) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ( 9 ) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ( 10 ) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ ( 11 ) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ( 12 ) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ( 13 ) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ( 14 ) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( 15 ) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ  إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَ ( 16 ) كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ( 17 ) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ( 18 ) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ( 19 )

( بيان‏)

كانت الدعوة النبويّة تدعو الوثنيّة إلى توحيد الربوبيّة و إنّ الله تعالى هو ربّهم و ربّ كلّ شي‏ء، و كانت الدعوة من طريق الإنذار و التبشير و خاصّة بالإنذار و كان الإنذار بعذاب الله في الدنيا للمكذّبين عذاب الاستئصال، و في الآخرة بالعذاب الخالد يوم القيامة و هو العمدة في نجاح الدعوة إذ لو لا الحساب و الجزاء يوم القيامة كان الإيمان بالوحدانيّة و النبوّة لغيً لا أثر له.

٣٩٤

و المشركون باتّخاذهم آلهة دون الله سبحانه شديدوا الإنكار لاُصول التوحيد و النبوّة و المعاد، و كانوا يتعنّتون بإنكار المعاد و الإصرار على نفيه و الاستهزاء به من أيّ طريق ممكن لما يرون أنّ في بطلانه بطلان الأصلين الآخرين.

و السورة تذكر المعاد و إنكارهم له فتبدأ به و تختم عليه لكن لا من حيث نفسه كما جرى عليه الكلام في مواضع من كلامه بل من حيث إنّه يوم الجزاء و أنّ الله الّذي وعدهم به هو ربّهم و هو الّذي وعدهم به و وعده صدق لا ريب فيه.

و لذلك لمّا انساق الكلام إلى الاحتجاج عليه احتجّت بأدلّة التوحيد من آيات الأرض و السماء و الأنفس و ما عاقب الله به الاُمم الماضين إثر دعوتهم إلى التوحيد و تكذيبهم لرسله، و ليس إلّا ليثبت بها التوحيد فيثبت به يوم الجزاء الّذي وعده الله و الله لا يخلف الميعاد و أخبرت به الدعوة النبويّة فيندفع بذلك إنكارهم للجزاء و قد توسّلوا بذلك إلى إبطال دين التوحيد و رسالة الرسول لصيرورة الإيمان به لغوا لا أثر له كما تقدّمت الإشارة إليه.

و السورة مكّيّة لشهادة سياق آياتها عليه و لم يختلف في ذلك أحد، و من غرر آياتها قوله تعالى:( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) .

و الفصل الّذي أوردناه من الآيات مفتتح الكلام يذكر فيه أنّ الجزاء الّذي وعدوه صدق و إنكارهم له و تعنّتهم بذلك تخرّص ثمّ يصف يوم الجزاء و حال المتّقين و المنكرين فيه.

قوله تعالى: ( وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً فَالْحامِلاتِ وِقْراً فَالْجارِياتِ يُسْراً فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً ) الذاريات جمع الذارية من قولهم: ذرت الريح التراب تذروه ذرواً إذا أطارته و الوقر بالكسر فالسكون ثقل الحمل في الظهر أو في البطن.

و في الآيات إقسام بعد إقسام يفيد التأكيد بعد التأكيد للمقسم عليه و هو الجزاء على الأعمال فقوله:( وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً ) إقسام بالرياح المثيرة للتراب، و قوله:( فَالْحامِلاتِ وِقْراً ) بالفاء المفيدة للتأخير و الترتيب معطوف على الذاريات و إقسام بالسحب الحاملة لثقل الماء، و قوله:( فَالْجارِياتِ يُسْراً ) عطف عليه و إقسام بالسفن

٣٩٥

الجارية في البحار بيسر و سهولة.

و قوله:( فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً ) عطف على ما سبقه و إقسام بالملائكة الّذين يعملون بأمره فيقسّمونه باختلاف مقاماتهم فإنّ أمر ذي العرش بالخلق و التدبير واحد فإذا حمله طائفة من الملائكة على اختلاف أعمالهم انشعب الأمر و تقسّم بتقسّمهم ثمّ إذا حمله طائفة هي دون الطائفة الاُولى تقسّم ثانياً بتقسّمهم و هكذا حتّى ينتهي إلى الملائكة المباشرين للحوادث الكونيّة الجزئيّة فينقسم بانقسامها و يتكثّر بتكثّرها.

و الآيات الأربع - كما ترى - تشير إلى عامّة التدبير حيث ذكرت اُنموذجاً ممّا يدبّر به الأمر في البرّ و هو الذاريات ذرواً، و اُنموذجاً ممّا يدبّر به الأمر في البحر و هو الجاريات يسراً و اُنموذجاً ممّا يدبّر به الأمر في الجوّ و هو الحاملات وقراً، و تمّم الجميع بالملائكة الّذين هم وسائد التدبير و هم المقسّمات أمراً.

فالآيات في معنى أن يقال: اُقسم بعامّة الأسباب الّتي يتمّم بها أمر التدبير في العالم إنّ كذا كذا، و قد ورد من طرق الخاصّة و العامّة عن عليّ عليه أفضل السّلام تفسير الآيات الأربع بما تقدّم.

و عن الفخر الرازيّ في التفسير الكبير، أنّ الأقرب حمل الآيات الأربع جميعاً على الرياح فإنّها كما تذرو التراب ذرواً تحمل السحب الثقال و تجري في الجوّ بيسر و تقسّم السحب على الأقطار من الأرض.

و الحقّ أن ما استقربه بعيد، و ما تقدّم من المعنى أبلغ ممّا ذكره.

قوله تعالى: ( إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَ إِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ ) ( ما ) موصولة، و الضمير العائد إليها محذوف أي الّذين توعدونه، أو مصدريّة، و( تُوعَدُونَ ) من الوعد كما يؤيّده قوله:( وَ إِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ ) الشامل لمطلق الجزاء، و قيل: من الإيعاد كما يؤيّده قوله:( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ ) ق: 45.

وعدّ الوعد صادقاً من المجاز في النسبة كما في قوله:( فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ) الحاقة: 21 أو الصادق بمعنى ذو صدق كما قيل بمثله في قوله:( فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ) و الدين الجزاء.

و كيف كان فقوله:( إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ ) جواب القسم، و قوله:( وَ إِنَّ

٣٩٦

الدِّينَ لَواقِعٌ ) معطوف عليه بمنزلة التفسير، و المعنى اُقسم بكذا و كذا أنّ الّذي توعدونه - و هو الّذي يعدهم القرآن أو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما اُنزل إليه - من يوم البعث و أنّ الله سيجزيهم فيه بأعمالهم إن خيراً فخيراً و إن شرّاً فشرّاً لصادق، و إنّ الجزاء لواقع.

قوله تعالى: ( وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ ) الحبك بمعنى الحسن و الزينة، و بمعنى الخلق المستوي، و يأتي جمعاً لحبيكة أو حباك بمعنى الطريقة كالطرائق الّتي تظهر على الماء إذا تثنّى و تكسّر من مرور الرياح عليه.

و المعنى على الأوّل: اُقسم بالسماء ذات الحسن و الزينة نظير قوله تعالى:( إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ) الصافّات: 6، و على الثاني: اُقسم بالسماء ذات الخلق المستوي نظير قوله:( وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ ) الآية: 47 من السورة و على الثالث اُقسم بالسماء ذات الطرائق نظير قوله:( وَ لَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ ) المؤمنون: 17.

و لعلّ المعنى الثالث أظهر لمناسبته لجواب القسم الّذي هو اختلاف الناس و التشتّت طرائقهم كما أنّ الأقسام السابقة:( وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً ) إلخ كانت مشتركة في معنى الجري و السير مناسبة لجوابها:( إِنَّما تُوعَدُونَ ) إلخ المتضمّن لمعنى الرجوع إلى الله و السير إليه.

قوله تعالى: ( إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ) القول المختلف ما يتناقض و يدفع بعضه بعضاً و حيث إنّ الكلام في إثبات صدق القرآن أو الدعوة أو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما وعدهم من أمر البعث و الجزاء فالمراد بالقول المختلف - على الأقرب - قولهم المختلف في أمر القرآن لغرض إنكار ما يثبته فتارة يقولون: إنّه سحر و الجائي به ساحر، و تارة يقولون: زجر و الجائي به مجنون، و تارة يقولون: إلقاء شياطين الجنّ و الجائي به كاهن، و تارة يقولون: شعر و الجائي به شاعر، و تارة إنّه افتراء، و تارة يقولون إنّما يعلّمه بشر، و تارة يقولون: أساطير الأوّلين اكتتبها.

و قوله:( يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ) الإفك الصرف، و ضمير( عَنْهُ ) إلى الكتاب من حيث اشتماله على وعد البعث و الجزاء، و المعنى: يصرف عن القرآن من صرف، و

٣٩٧

قيل: الضمير للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المعنى: يُصرف عن الإيمان به من صرف، و قد عرفت أنّ المعنى السابق أوفق للسياق و إن كان مآل المعنيين واحداً.

و حكي عن بعضهم أنّ ضمير( عَنْهُ ) لما توعدون أو للدين أقسم تعالى أوّلاً بالذاريات و غيرها على أنّ البعث و الجزاء حقّ ثمّ أقسم بالسماء على أنّهم في قول مختلف في وقوعه فمنهم شاكّ و منهم جاحد ثمّ قال تعالى: يؤفك عن الإقرار بأمر البعث و الجزاء من هو مأفوك. و هذا الوجه قريب من الوجه السابق.

و عن بعضهم: أنّ الضمير لقول مختلف و( عن ) للتعليل كما في قوله تعالى:( وَ ما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ ) هود: 53 فيكون الجملة صفة لقول و المعنى: إنّكم لفي قول مختلف يؤفك بسببه من اُفك، و هو وجه حسن.

و قيل: الضمير في( إِنَّكُمْ ) للمسلم و الكافر جميعاً فيكون المراد بالقول المختلف قول المسلمين بوقوع البعث و الجزاء و قول الكفّار بعدم الوقوع. و لعلّ السياق لا يلائمه و قيل: بعض وجوه اُخر رديئة لا جدوى في التعرّض له.

قوله تعالى: ( قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ) أصل الخرص القول بالظنّ و التخمين من غير علم، و لكون القول بغير علم في خطر من الكذب يسمّى الكذّاب خرّاصاً، و الأشبه أن يكون المراد بالخرّاصين في الآية القوّالين من غير علم و دليل و هم الخائضون في أمر البعث و الجزاء المنكرون له بغير علم.

و في قوله:( قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ) دعاء عليهم بالقتل و هو كناية عن نوع من الطرد و الحرمان من الفلاح و إليه يؤل قول من فسّره باللعن.

و قوله:( الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ ) الغمرة - كما ذكر الراغب - معظم الماء الساتر لمقرّها، و جعل مثلاً للجهالة الّتي تغمر صاحبها، و المراد بالسهو - كما قيل - مطلق الغفلة.

و معنى الآية و هي تصف الخرّاصين: الّذين هم في جهالة أحاطت بهم غافلون عن حقّيّة ما اُخبروا به.

٣٩٨

و قوله:( يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ) ضمير الجمع للخرّاصين قول قالوه على طريق الاستعجال استهزاء كقولهم:( مَتى‏ هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) يس: 48.

و السؤال بأيّان - الموضوعة للسؤال عن زمان مدخولها - عن يوم الدين و هو ظاهر في الزمان إنّما هو بعناية أنّ يوم الدين لكونه موعوداً ملحق بالزمانيّات فيسأل عنه كما يسأل عن الزمانيّات بأيّان و متى كما يقال: متى يوم العيد لكونه ذا شأن ملحقاً لذلك بالزمانيات كذا قيل.

و يمكن أن يكون من التوسّع في معنى الظرفيّة بأن يعدّ أوصاف الظرف الخاصّة به ظرفاً توسّعاً فيكون السؤال عن زمان الزمان سؤالاً عن أنّه بعد أيّ زمان أو قبل أيّ زمان؟ كما يقال: متى يوم العيد؟ فيجاب بأنّه بعد عشرة أيّام مثلاً أو قبل يوم كذا، و هو توسّع جار في العرف غير مختصّ بكلام العرب، و في القرآن منه شي‏ء كثير.

قوله تعالى: ( يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ) ضمير الجمع للخرّاصين، و الفتن في الأصل إدخال الذهب النار ليظهر جودته ثمّ استعمل في مطلق الإحراق و التعذيب، و الظرف متعلّق بفعل محذوف أو مبتدأ، و الآية جواب عن سؤالهم عدل فيه عن بيان وقت يوم الدين إلى بيان صفته و الإشارة إلى حالهم فيه لما أنّ وقته من الغيب الّذي لا يعلمه إلّا الله قال تعالى:( لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ) .

و تقدير الآية و معناها: يقع يوم الدين أو هو واقع يوم هم أي الخرّاصون في النار يعذّبون أو يحرقون.

قوله تعالى: ( ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ) حكاية خطاب منه تعالى أو من الملائكة بأمره للخرّاصين و هم يفتنون على النار يومئذ.

و المعنى: يقال لهم ذوقوا العذاب الّذي يخصّكم. هذا العذاب هو الّذي كنتم تستعجلون به إذ تقولون استعجالاً و استهزاء: أيّان يوم الدين.

قوله تعالى: ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ ) بيان لحال المتّقين يوم الدين بعد وصف حال اُولئك الخرّاصين.

٣٩٩

و تنكير جنّات و عيون للإشارة إلى عظم قدرها كأنّها بحيث لا يقدر الواصفون على وصفها، و قد اُلحقت العيون بالجنّات في ظرفيّتها توسّعاً.

قوله تعالى: ( آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ ) أي قابلين ما أعطاهم ربّهم الرؤف بهم راضين عنه و بما أعطاهم كما يفيده خصوص التعبير بالأخذ و الإيتاء و نسبة الإيتاء إلى ربّهم.

و قوله:( إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ ) تعليل لما تقدّمه أي إنّ حالهم تلك الحال لأنّهم كانوا قبل ذلك أي في الدنيا ذوي إحسان في أعمالهم أي ذوي أعمال حسنة.

قوله تعالى: ( كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ ) الآيات تفسير لإحسانهم، و الهجوع النوم في الليل و قيل: النوم القليل.

و يمكن أن تكون: ما زائدة و( يَهْجَعُونَ ) خبر كانوا، و( قَلِيلًا ) ظرفاً متعلّقاً به أي في زمان قليل أو صفة لمفعول مطلق محذوف أي هجوعاً قليلاً و( مِنَ اللَّيْلِ ) متعلّقاً بقليلاً و المعنى: كانوا ينامون في زمان قليل من الليل أو ينامون الليل نوماً قليلاً.

و أن تكون موصولة و الضمير العائد إليها محذوفاً و( قَلِيلًا ) خبر كانوا و الموصول فاعله و المعنى: كانوا قليلاً من الليل الّذي يهجعون فيه.

و أن تكون مصدريّة و المصدر المسبوك منها و من مدخولها فاعلاً لقوله:( قَلِيلًا ) و هو خبر( كانُوا ) .

و على أيّ حال فالقليل من الليل إمّا مأخوذ بالقياس إلى مجموع زمان كلّ ليلة فيفيد أنّهم يهجعون كلّ ليلة زماناً قليلاً منها و يصلّون أكثرها، و إمّا مأخوذ بالقياس إلى مجموع الليالي فيفيد أنّهم يهجعون في قليل من الليالي و يقومون للصلاة في أكثرها أي لا يفوتهم صلاة الليل إلّا في قليل من الليالي.

قوله تعالى: ( وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) أي يسألون الله المغفرة لذنوبهم، و قيل: المراد بالاستغفار الصلاة و هو كما ترى.

قوله تعالى: ( وَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ ) الآيتان السابقتان تبيّنان خاصّة سيرتهم في جنب الله سبحانه و هي قيام اللّيل و الاستغفار بالأسحار و هذه الآية

٤٠٠