الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 429

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 429 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 120152 / تحميل: 6176
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) (1) .

فهنالك الناس ذُهول، وعُميِّت عليهم الأنباء، ولا يسألُ حميمٌ حميماً، ولا يَتساءلون فيما بينهم، وهكذا لا يسأل أحدٌ أحداً عن ذنبه وعن شأنه الذي هو فيه.

أمّا وبعد أن أَخرجت الأرضُ أثقالَها، وَوضَعت الزلزلةُ أوزارها، وعاد الناس على حالتهم العادية وتفرّغوا للحساب فهناك السؤال والمـُؤاخذة، والتساؤل والتعارف، فاختلف الموقفان.

وهناك بعد انقضاء الحساب ودخول أهل الجنّة الجنّة ودخول أهل النار النار، يقع التساؤل والتعارف بينهم.

يقول تعالى عن المجرمين: ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ * قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ * فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ) (2) .

ويقول عن الصالحين: ( ...إِلاّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ..... فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ... ) (3) .

( إِلاّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) (4) .

____________________

(1) الحج 22: 2.

(2) الصافّات 37: 22 - 34.

(3) الصافّات 37: 40 - 50.

(4) المدّثّر 74: 39 - 48.

٢٦١

( لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ)

سؤال:

قال تعالى ( لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ) (1) ، والبَلد هو البَلد الأمين مكّة المكرّمة، وقد أقسم به في سورة التين: ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ ) (2) ، فكيف التوفيق؟

جواب:

قالوا بزيادة (لا) هنا ليكون معنى الكلام إثباتاً لا نفياً، وأن العرب قد تُدخل (لا) في أثناء كلامها وتُلغي معناها، وأنشدوا في ذلك أبياتاً، ونحن قد فنّدنا ذلك وذَكَرنا أنْ لا شاهد عليه في كلام العرب، فراجع (3) .

والصحيح أنْ يُقال: إنّ مورد الآيتَين مُختلف، فمرّة لا يُقسم ومرّة يُقسم باختلاف الموارد... إذ ليس المعنى في سورة البلد أنّه تعالى لا يُقسم أبداً بهذا البلد، بل لا يُقسم في موردٍ خاصّ - لوضوحه - وهو أنّ الإنسان خُلق في كَبَد... أمّا المعنى في سورة البلد فهو على القسم حيث أهمّية المورد (المـُقسم عليه) وهو أنّ الإنسان خُلق؛ ليكون رفيعاً لكنّه بيديه حطّ من شأن نفسه فارتدّ أسفل سافلين بسوء تدبيره وسوء عمله.

وهنا جواب آخر لعلّه أدقّ وهو: أنْ ليس المراد (في آية البلد) نفي الإقسام على الإطلاق، ليكون متنافياً مع الآية الأُخرى (في سورة التين)، بل هو نوع من القسم على الشكل السلبي، حيث عدم الحاجة إليه بعد وضوح الأمر وظهوره، وهو آكد في إثبات المطلوب بشكلٍ أدبيّ رائع.

والمعنى: إنّي لا أحلف، إذ لا حاجة إليه بعد وضوح الأمر، وهذا يعني أنّ الأمر مُتأكّد الثبوت بذاته واضحاً جليّاً من غير حاجة إلى إقامة حجّة ودليل.

فهو في حقيقته قسم، لكن بصورة سلبية هي آكد من صورة الإيجاب.

____________________

(1) البلد 90: 1 - 2.

(2) التين 95: 1 - 3.

(3) وللعلاّمة البلاغي تحقيق مستوف في ذلك: تفسير آلاء الرحمان، ج1، ص38 - 41.

٢٦٢

( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)

سؤال:

قال تعالى: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (1) .

ضَمِنَ تعالى أنْ لا يُعذّب العرب على قيد أحد شرطَين: حضور النبيّ بين أظهُرهم، أو استغفارهم هم؛ ومِن ثَمّ قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (كان في الأرض أمانان مِن عذاب اللّه، وقد رُفع أحدهما، فدونكم الآخر فتمسّكوا به، أمّا الأمان الذي رُفع فهو رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) وأمّا الأمان الباقي فالاستغفار)، ثمّ تلا الآية (2) .

لكن يَتعقّب الآية ما يُنافي ذلك ظاهراً، وقوله: ( وَمَا لَهُمْ أَلاّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاّ الْمُتَّقُونَ ) (3) ، فكيف التوفيق؟

جواب:

إنّ سياق الآيتَين يَدلّنا على اتصالِهما ونزولِهما معاً إحداهما تلو الأُخرى مباشرةً، الأمر الذي يستدعي وِئامَهما طبعاً وعدم تنافيهما؛ حيث المتكلّم النابه - فضلاً عن الحكيم - لا يتناقض في كلامه قيد تكلّمه، فزاعم التناقض واهمٌ في حَدسِه البتة.

على أنّه لا تهافت بين الآيتين حتّى بحسب الظاهر أيضاً، حيث الآية الأُولى إنّما تنفي فعلية العذاب وأنّه لا يقع لوجود المانع، أمّا الآية الثانية فناظرة إلى جهة الاقتضاء وأصل الاستحقاق، فهم مستحقّون للعذاب لتوفّر المقتضي فيهم، بصدّهم عن المسجد الحرام، وليسوا بأوليائه، وإنْ كانوا لا يُعذَّبون فعلاً مادام وجود المانع وهما الشرطان أو أحدهما، فلا مُنافاة بين وجود المقتضي ونفي الفعلية لمكان المانع، كما لا يخفى.

وقد ذكر الطبرسي في جواب المسألة وجوهاً ثلاثة:

أحدها: أنّ المراد بالأَوّل (نفي التعذيب) عذاب الاستئصال والاصطلام، كما وقع

____________________

(1) الأنفال 8: 33.

(2) نهج البلاغة، قصار الحكم، رقم 88، ص483.

(3) الأنفال 8: 34.

٢٦٣

بشأن الأُمَم الماضية، وبالثاني (وقوع التعذيب) عذاب القتل بالسيف والأسر بأيدي المؤمنين - كما في يوم بدر وغيره وأخيراً يوم الفتح - ولكن بعد خروج المؤمنين من بين أظهُرهم.

ثانيها: أنّه أراد: وما لهم أنْ لا يُعذّبهم اللّه في الآخرة، ويُريد بالأَوّل عذاب الدنيا، قاله الجبائي.

ثالثها: أنّ الأَوّل استدعاءٌ للاستغفار، يُريد أنّه لا يُعذّبهم بعذابٍ دُنياً ولا آخرةً إذا استغفروا وتابوا، فإذا لم يفعلوا عُذّبوا - وفي ذلك ترغيبٌ لهم في التوبة والإنابة - ثمّ إنّه بيّن وجه استحقاقهم للعذاب بصدّ الناس عن المسجد الحرام (1) .

( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ)

سؤال:

قال تعالى: ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) (2) .

وقال: ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ) (3) .

وقال: ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ) (4) .

وقال: ( وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ) (5) .

هذا مع قوله تعالى بشأن المؤمنين: ( فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (6) .

____________________

(1) مجمع البيان، ج4، ص540.

(2) الأنبياء 21: 47.

(3) الأعراف 7: 8 و9.

(4) الإنشقاق 84: 7 و8.

(5) البقرة 2: 284.

(6) غافر 40: 40.

٢٦٤

وقوله: ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (1) .

وقوله بشأن الكافرين: ( الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) (2) .

فكيف التوفيق؟

جواب:

ليس في القرآن ما ينفي المحاسبة وموازنة الأعمال، والآيات المـُستَند إليها إنّما تعني شيئاً آخر وهو: الرزق والأجر بما يَفوق الحساب، وكذا الذي حَبِطت أعماله، لا وزن له عند اللّه ولا مِقدار.

قال الطبرسي - عند قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (3) -: فيه أقوال:

أحدهما: أنّ معناه يُعطيهم الكثير الواسع الذي لا يَدخله الحساب مِن كثرته.

ثانيهما: أنّه تعالى لا يَرزق الناس في الدنيا على مقابلة أعمالهم وإيمانهم وكفرهم، وكذا في الآخرة لا يُثيبهم على قَدَرِ أعمالهم بل يَزيدهم فضلاً منه وإنعاماً.

ثالثها: أنّه تعالى يُعطي العطاء لا يؤاخذه عليه أحد، ولا يسأله عنه سائل، ولا يطلب عليه جزاءً ولا مُكافأة.

رابعها: أنّه يعطي العدد من الشيء الذي لا يُضبط بالحساب ولا يأتي عليه العَدَد؛ لأنّ ما يَقدر عليه غير متناهٍ ولا محصور، فهو يُعطي الشيء لا مِن عدد أكثر منه فينقص منه، كمَن يُعطي الألف من الألفين، والعشرة من المِئة، قاله قطرب.

خامسها: أنّ معناه يُعطي أهل الجنّة ما لا يَتناهى ولا يأتي عليه الحساب.

ثمّ قال رحمه اللّه: وكلّ هذه الوجوه جائز حسن (4) .

وقال الزمخشري - في تفسير قوله تعالى: ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ

____________________

(1) الزّمر 39: 10.

(2) الكهف 18: 105.

(3) البقرة 2: 212.

(4) مجمع البيان، ج2، ص305 - 306.

٢٦٥

سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً ) -: (1) (ضلّ سعيهم) ضاع وبطل... وعن أبي سعيد الخدري: يأتي ناس بأعمالٍ يوم القيامة، هي عندهم في العِظَم كجبالِ تَهامة، فإذا وَزَنوها لم تَزن شيئاً، ( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) فنزدري بهم ولا يكون لهم عندنا وزن ولا مِقدار (2) .

وقال الطبرسي: أي لا قيمة لهم عندنا ولا كرامة، ولا نعتدّ بهم، بل نستخفّ بهم ونُعاقبهم، تقول العرب: ما لفلانٍ عندنا وزن أي قَدر ومَنزلة، ويُوصف الجاهل بأنّه لا وزن له؛ لخفّته بسرعة بطشه وقلة تثبّته، ورُوي في الصحيح: أنّ النبي (صلّى اللّه عليه وآله) قال: (إنّه ليأتي الرجلُ العظيمُ السَّمين يومَ القيامة لا يَزن جَناح بعوضة) (3) .

قال العلامة الطباطبائي: والوزن هنا هو الثِقل في العمل في مقابلة الخِفّة في العمل، وربّما تبلغ إلى مرتبة فَقْدِ الوزن رأساً.

وقال - في قوله تعالى: ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ) (4) -: المراد أنّ الوزن الذي تُوزن به الأعمال يومئذٍ إنّما هو الحقّ. فبقَدَر اشتمال العمل على الحقّ يكون اعتباره وقيمته، والحسنات مُشتملة على الحقّ، فلها ثِقل، كما أن السيّئات ليست إلاّ باطلة فلا ثِقل لها، واللّه سبحانه يَزن الأعمال يومئذٍ بالحقّ، فما اشتمل عليه العمل مِن الحقّ فهو وزنه وثِقله (5) .

مواطن القيامة متفاوتة

سؤال:

هناك آيات تنصّ على أنّهم لا يَتكلّمون إلاّ صواباً (6) ونهوا أن يتخاصموا (7) بل وختم

____________________

(1) الكهف 18: 103 - 106.

(2) الكشّاف، ج2، ص749.

(3) مجمع البيان، ج6، ص497.

(4) الأعراف 7: 8.

(5) الميزان للطباطبائي، ج8، ص8 - 9.

(6) وهو قوله تعالى: ( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ) النبأ 78: 38.

(7) وهو قوله تعالى: ( لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ) ق 50: 28.

٢٦٦

على أفواههم لتتكلّم أيديهم وتشهد أرجُلُهم بما كانوا يكسبون (1) .

الأمر الّذي يتنافى وقوله تعالى فيهم بأنّهم قالوا واللّه ما كنّا مشركين (2) فإنّه قول كَذِب بل ويمين كاذبة وقد أُذنوا بالتكلّم به!

وكذا مع قوله: ( إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ) (3) وقوله: ( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) (4) ، فقد تخاصموا لديه تعالى رُغم منعه سبحانه من ذلك! ثُمّ كيف يلتئم ذلك مع الختم على الأفواه؟!

جواب:

أولاً: إنّ مَن يتكلّم بالصواب في الآية الأُولى هم الملائكة أو المؤمنون، والكلام الصواب هنا هي الشفاعة بالحقّ على ما ذَكَره المفسّرون، وفي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) وقد سُئل عن هذه الآية قال: (نحن واللّه المأذون لهم يوم القيامة، والقائلون صواباً: نُمجّد ربّنا ونُصلّي على نبيّنا ونَشفع لشيعتنا) (5) .

وثانياً: مواطن القيامة متفاوتة ومواقفها متنوّعة، فقوله ( لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ ) (6) خطاب إلى الكَفّار العنيد وقرينه الشيطان الذي أغواه، حيث يقول الشيطان: ( رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) (7) ، ويحاول الكافر أنْ يَجعل اللّوم على الّذي أغواه، فكان النهي موجّهاً إليهم: لا تختصموا لديَّ بل اجعلوا بأسَكم بينكم فليس منعاً عن التخاصم على الإطلاق.

غير أنّ هذا التخاصم والتشاجر والمنع منه لديه سبحانه إنّما هو بعد الفراغ من الحساب وفي مقام الاعتذار بعد الاعتراف بالاقتراف، أمّا الختم على الأفواه فهو عند الحساب وفي أثنائه حيث يحاولون الإنكار رأساً، فتتكلّم أيديهم وتشهد أرجُلُهم بما

____________________

(1) وهو قوله تعالى: ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ، يس 36: 65.

(2) وهو قوله تعالى: ( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) ، الأنعام 6: 22 - 23.

(3) ص 38: 64.

(4) العنكبوت 29: 25.

(5) رواه العيّاشي حسبما ذكره الطبرسي في مجمع البيان، ج10، ص427.

(6) ق 50: 28.

(7) ق 50: 27.

٢٦٧

اقترفوه، فالمـَواطن مُختلفة والمواقف متعدّدة:

فالموطن الأَوّل: موطن المـُداقّة في الحساب، (يختم على أفواه أهل الإلحاد والإنكار).

والموطن الثاني: موطن الفراغ من الحساب، (يتخاصم فيه أهل النار).

والموطن الثالث: موطن الشفاعة لأهل الإيمان، (موطن النُطق بالصواب).

ولكلِّ موطن مناسبتُه وشأنُه.

هكذا يُحمل على اختلاف المواطن ما وَرَد من قوله ( وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) (1) ، مع قوله:) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ) (2) ، وقوله ( فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ ) (3) .

( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)

سؤال:

قال تعالى: ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ) (4) .

وقال: ( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ) (5) .

وقال: ( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) (6) .

وقال: ( تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ) (7) .

وقال: ( تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ) (8) .

جواب:

اللّه خالق الموت والحياة، ومَلَك الموت هو الآمر الأَوّل، والملائكة أعوانه المباشرون (9) .

____________________

(1) المرسلات 77: 36.

(2) غافر 40: 52.

(3) الروم 30: 57.

(4) الزمر 39: 42.

(5) الأنعام 6: 60.

(6) السجدة 32: 11.

(7) الأنعام 6: 61.

(8) النحل 16: 28.

(9) راجع: البرهان، ج2، ص64.

٢٦٨

( وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً)

سؤال:

قال تعالى: ( يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ) (1) .

فقد أخبر تعالى عنهم بأنّهم لا يَكتمون لديه حديثاً... وهذا يتنافى ظاهراً وقوله في موضع آخر: ( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) (2) فقد كتموا إشراكَهم!

الجواب عن ذلك من وجهين:

الأوّل: أنّ قوله ( لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ) داخل في التمنّي، أي يَودّون لو كانوا لم يَكتموا حديثاً في الدنيا بشأن الرسالة والإسلام، أو لم يَكتموا في الآخرة كفرَهم في الدنيا، حيث قولهم: ( وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُـشْرِكِينَ ) ، وذلك باختلاف الموقف، ففي الوَهلة الأُولى كَتموا، وفي الثانية تمنّوا لو لم يكتموا...

الثاني: أنّهم لا يَستطيعون الكتمان؛ حيث تشهد عليهم أرجُلُهم وأيديهم بما كانوا يَكسبون.

مضاعفة العذاب

سؤال:

قال تعالى: ( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ) (3) .

لكنّه في موضع آخر قال: ( يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ) (4) ...؟!

جواب:

المـُجازاة بالمِثل خاصّة بالدنيا في مثل القِصاص والعقوبات الجزائيّة، والآية الأُولى واردة بهذا الشأن.

____________________

(1) النساء 4: 42.

(2) الأنعام 6: 23.

(3) الشورى 42: 40.

(4) هود 11: 20.

٢٦٩

أمّا مُضاعفة العذاب ففي الآخرة على حسب مراتب الكبيرة التي ارتكبَها أهلُ الكبائر، والآثار التي خلّفتها تلك الكبيرة المـُوبقة في الأوساط الاجتماعيّة حين الارتكاب وبعدها، ومورد الآية هم الذين كانوا يَصدّون عن سبيل اللّه ويبغونها عِوجاً وهم بالآخرة هم كافرون؛ ومِن ثَمّ يُضاعف لهم العذاب.

التكليم من وراء حجاب

سؤال:

قال تعالى: ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ) (1) .

كيف يلتئم وقوله: ( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ) (2) ، وقوله: ( وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا ) (3) حيث وقع التكليم مباشرةً؟!

جواب:

لم تنفِ الآية الأُولى التكليم رأساً، وإنّما نَفَته على الطريقة المعهودة بين الناس حيث يقع مشافهةً، نعم تكليمه تعالى يقع على طرائق ثلاث:

1 - إمّا وحياً وهو النَفث في الرَوع، فيتلقّى النبيّ بشخصيّته الباطنة ما يُلقيه إليه وحي السماء، وهو نوع مِن الإلهام خاصّ بالأنبياء والرسل.

2 - أو بإسماع الصوت من غير أن يُرى شخص المتكلّم، كأنّه يتكلّم من وراء حجاب، وهذا بِخَلقِ التموّج الصوتي في الهواء ليَقرع مسامع النبيّ فيستمع إليه، ولكنّه لا يُرى المتكلّم وإن كان يسمع صوته؛ ومِن ثَمّ وقع التشبيه من وراء حجاب. وهذا هو الذي وقع مع موسى النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله).

3 - أو بإرسال رسول - ملك الوحي - وهو جبرائيل (عليه السلام)، فيُلقي ما تلقّاه وحياً على

____________________

(1) الشورى 42: 51.

(2) النساء 4: 164.

(3) الأعراف 7: 22.

٢٧٠

النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله)، والأكثر ولعلّه الشامل من الوحي القرآني هذا النوع الأخير.

والتكليم والنداء في الآيتَين هُما من النوع الثاني أي التكليم من وراء حجاب، إذن فلا منافاة.

نظرة أو انتظار؟

سؤال:

قال تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (1) ، وقال: ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ) (2) .

قالوا: كيف يلتئم ذلك مع قوله: ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) (3) . ( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) (4) ، في حين أنّ مَن رأى الشيء وحَدّق النظر إليه فقد أَدركه ببصره وأحاط به علمه؟!

جواب:

هناك فَرق بين نظر رؤية ونظر انتظار وتوقّع، فيومئذٍ تكون الأنظار إليه سبحانه لكنّها نظرة توقّع وانتظار عَميم رحمته، ولا نظر إلاّ إليه (عظمت آلاؤه)، فالنظر إنّما هو إلى ربّهم كيف يُثيبهم؟ وإلى ما وَعَدهم مِن المثوبة في جنّة عدن.

قال الزمخشري: و(الناظرة) مِن نضرة النعيم، ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) تنظر إلى ربّها خاصّة ولا تنظر إلى غيره، والمراد: نظر توقّع ورجاء، كقولك: أنا إلى فلان ما يَصنع بي، تُريد معنى التوقّع والرجاء، ومنه قول القائل:

وإذا نظرتُ إليك من مَلِكٍ

والبحرُ دونك زدتني نِعَماً

قال: وسمعت سَرَويَّة مُستجدية بمكّة وقت الظهيرة حين يُغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم تقول: عُيَينَتي نُوَيظرة إلى اللّه وإليكم، أي رجائي إلى اللّه وإليكم.

فمعنى الآية: أنّهم لا يتوقّعون النعمة والكرامة إلاّ من ربّهم، كما كانوا في الدّنيا لا يَخشون ولا يرجون إلاّ إيّاه (5) .

____________________

(1) القيامة 75: 22 و23.

(2) النجم 53: 13 و14.

(3) الأنعام 6: 103.

(4) طه 20: 110.

(5) الكشّاف، ج4، ص662 بتصرّف.

٢٧١

وأمّا الآية من سورة النَّجم فالمـُراد: رؤية جبرائيل على صورته الأصليّة؛ حيث وقعت لمـُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله) مرّتَين، مرّة عند التبشير بنبوّته، ومرّة أُخرى في المعراج عند سورة المنتهى.

التناسي أو النسيان

سؤال:

قال تعالى: ( فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا ) (1) ، وقال: ( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) (2) .

كيف يلتئم ذلك مع قوله: ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ) (3) ، وقوله: ( لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى ) ؟! (4) .

جواب:

النسيان في الآيتَين الأَوّليتَين هو التناسي والتغافل، أمّا المنفّي في الآيتَين الأخيريتَين فهي الغفلة والنسيان حقيقة.

والنسيان - بمعنى التناسي - في القرآن، كما في قوله تعالى: ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) (5) أي تناسى العهد ولم يأخذ بجدٍّ؛ إذ لو كان نَسيَ حقيقةً لكان معذوراً، إذ لا مؤاخذة على التناسي عقلاً ولا لوم عليه.

وقوله: ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ) (6) أي تَغافلوا حضورَه تعالى في الحياة؛ ومِن ثَمَّ تغافلوا ولم يأخذوا كرامة الإنسان بجدّ.

فقوله تعالى: ( قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) (7) يعني نَبَذتَ آياتنا وراء ظهرك ولم تأخذها بجدٍّ، فكذلك اليوم تُنسى ولا تَشملك العناية الإلهيّة.

كما في قوله تعالى: ( فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ) (8) أي استهانوا بشأن الكتاب واستعاضوا به مَتاع الحياة الدنيا القليل، وهو مِن التغافل في الأمر والتساهل فيه وليست حقيقة الغفلة.

____________________

(1) الأعراف 7: 51.                                   (2) التوبة 9: 67.

(3) مريم 19: 64.                                      (4) طه 20: 52.

(5) طه 20: 115.                                    (6) الحشر 59: 19.

(7) طه 20: 126.                                     (8) آل عمران 3: 187.

٢٧٢

وهكذا جاء في الجواب فيما نُسب إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:

(أمّا قوله: ( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) فإنّما يعني: نَسوا الله في دار الدنيا، لم يَعملوا بطاعته، فنَسَيهم في الآخرة أي لم يَجعل لهم في ثوابه شيئاً، فصاروا منسيّينَ من الخير، وقد يقول العرب: قد نَسيَنا فلان فلا يَذكُرُنا، أي إنّه لا يَأمر لنا بخير ولا يَذكُرُنا به، وأمّا قوله: ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ) فإنّ ربّنا تبارك و تعالى ليس بالذي يَنسى ولا يَغفل بل هو الحفيظ العليم) (1) .

كسب التأنيث والتذكير

سؤال:

قال تعالى: ( وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) (2) .

وقال: ( وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ) (3) .

كيف جاء الوصف وكذا الضمير في الآية الأُولى مُذَكّراً، وفي الآية الثانية مُؤنّثاً في حين وحدة السياق؟!

جواب:

المضاف إلى مؤنّث إن كان يجوز حذفه ولا يُخلّ حذفُه بمَفاد الكلام يجوز في وصفه التذكير والتأنيث، قال ابن مالك:

وربّما أكسبَ ثانٍ أَوَّلاً

تأنيثاً إن كانِ لحذف مُوهَلاَ

فإنّ المضاف المـُذَكّر قد يَكتسب التأنيث من المضاف إليه المؤنّث بشرط جواز حذفه من غير إخلال بمَفاد الكلام، كما قال الأعشى:

وَتَشرِقُ بالقول الذي قد أَذعتَه

كما شَرِقَت صدرُ القناة مِن الدمِ

فتأنيث الفعل (شرقت) المسند إلى (صدر) إنّما هو باعتبار كسبه التأنيث من

____________________

(1) كتاب التوحيد للصدوق، ص259 - 260.

(2) السجدة 32: 20.

(3) سبأ 34: 42.

٢٧٣

المضاف إليه، فلو قُدّر حذفه لم يختلّ مَفاد الكلام.

وجاء عكسه في قول الآخر:

رؤية الفكرِ ما يؤولُ له الأمرُ

مُعينٌ على اجتناب التَواني

وقال غيره:

إنارةُ العقلِ مكسوفٌ بطوعِ هوىً

وعقلُ عاصي الهوى يَزداد تَنويراً

فالضمائر الراجعة إلى المضاف - وهو مؤنّث - في البيتَين، إنّما رُوعي فيها جانب المضاف إليه المـُذَكّر، باعتبار أنّ حذف المضاف في مثل هذا الكلام غير مُخلّ بمفاده.

وهكذا في الآية الكريمة يَجوز في وصف العذاب المضاف إلى النار مُراعاة التذكير على الأصل، كما في الآية من سورة السجدة، وكذا مراعاة التأنيث باعتبار إضافته إلى النار، كما في الآية من سورة سبأ.

وكِلا الأمرَين جائز، كما قال ابن مالك: (وربّما أكسب ثانٍ أوَّلاً تأنيثاً...)، وليس دائماً ولا ضرورة.

* * *

هذا بناءً على كون الوصف نعتاً للمضاف في كلتا الآيتَين؛ نظراً لوحدة السياق فيهما.

وربما فرّقوا بين الآيتَين فجعلوا الوصف نعتاً للمضاف في الآية الأُولى، وللمضاف إليه في الآية الثانية، وعلّلوا ذلك باختلاف الموجب:

قال الزركشي: جاء في سورة السجدة بلفظ (الذي) على وصف العذاب، وفي سورة سبأ بلفظ (التي) على وصف النار. وذلك لوقوع (النار) في سورة السجدة موقع الضمير الذي لا يُوصف، وإنّما وقعت موقع الضمير لتقدّم إضمارها في قوله: ( أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ ) (1) .

____________________

(1) السجدة 32: 20.

٢٧٤

فحقّ الكلام أنْ يُقال: (وقيل لهم ذوقوا عذابها...) فلمـّا وضعها موضع المضمر الذي لا يقبل الوصف عَدَل إلى وصف العذاب.

وأمّا في (سبأ) فوَصَفَها لعدم المانع مِن وصفِها (1) .

* * *

وربّما ذهبوا إلى أنّه وصفٌ للنار في كلتا الآيتَين، وجاء التذكير في سورة السجدة على معنى (الجحيم) أو (الحريق) (2) .

وهنا وجوه استحسانيّة لا نُطيل بذِكرها فليراجع مظانّها (3) .

فرعون يُقتّل أبناء إسرائيل قبل بعثة موسى أم بعدها؟

جاء في آيات من سورة غافر (4) وسورة الأعراف (5) ما يَدلّ على أنّ فرعون هَمَّ بقتل أبناء إسرائيل واستحياء نسائهم بعد أنْ بُعث موسى (عليه السلام) ودعاه إلى الإيمان.

وفي سورة القصص (6) وسورة طه (7) وإبراهيم (8) والأعراف (9) والبقرة (10) ما يدلّ على أنّ ذبح الأبناء واستحياء النساء كان قد وقع من قبل.

كان فرعون قد أَمر بقتل الذُكور من مواليد بني إسرائيل مِن قبل؛ خوفاً من ظهور نبيّهم موسى (عليه السلام) وقد خاب ظنّه، لكنّه بعد أنْ ظهرت نبوّته وقام في وجهه مُهدّداً له

____________________

(1) البرهان، ج2، ص63 - 64.

(2) إملاء ما مَنَّ به الرحمان لأبي البقاء العكبري، ج2، ص190.

(3) ذكر الزركشي وجوهاً أربعة، وقد ذَكَرنا اثنين منها، راجع: البرهان، ج2، ص63 - 64.

(4) ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ ) . غافر 40: 23 - 25.

(5) ( وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ) . الأعراف 7: 127.

(6) ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) . القصص 28: 4.

(7) ( أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ ) . طه 20: 39.

(8) ( إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) .إبراهيم 14: 6.

(9) ( وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) . الأعراف 7: 141.

(10) ( وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) . البقرة 2: 49.

٢٧٥

- ولا سيّما بعد أنْ آمن السَحَرة - خاف ازدياد قوّة موسى وقومه والنجدة بالأبناء، فحاول كسر شوكتِهم بالقتل في الأبناء واستعباد النساء، لكنّه لم يُساعده الحظّ؛ حيث أَهلَكَهم اللّه.

قال الطبرسي عند تفسير الآيات من سورة غافر: أُمروا بقتل الذُكور من قوم موسى؛ لئلاّ يكثر قومه ولا يتقوّى بهم، وباستبقاء نسائهم للخِدمَة، وهذا غير القتل الأَوّل؛ لأنّه أمر بالقتل أَوّلاً لئلاّ ينشأ منهم مَن يزول مُلكُه على يده، ثُمَّ ترك ذلك لمـّا أنْ تيقّن ولادة موسى، ولا فائدة في ذبح الأبناء، لكنّه بعد أن ظهرت نبوّة موسى وقام في وجهه مهدِّداً له حاول العَودَ إلى القتل ثانياً؛ حتّى لا تكون فيهم نجدة وقوّة، لكنه تعالى حال دون بلوغ أُمنيّته وأَخذهم بالبلاء والعذاب (1) .

التقدير أَزلاً أم في ليلة القَدر؟

قد يَزعم البعض أنّ في ذلك تناقضاً في القرآن، فتارةً يُرى من تقدير الأُمور مُثبتاً في اللوح المحفوظ ( فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ) (2) ، وأُخرى تقديرها في ليلة القَدر لكلّ عام ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) (3) .

قلت: ليس التقدير ممّا يختلف وإنّما يختلف العلم به، فالّذي يعلم تقدير الأمور ومجاريها أَزلاً وفي اللوح المحفوظ هو اللّه وحده لا شريك له، وأمّا الذي يتنزّل به ويُطلع أولياءه عليه فهو في ليلةٍ مباركةٍ هي ليلة القدر من شهر رمضان من كلّ عام. يتنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كلّ أمر، يتنزّلون بتقادير الأمور على الحجّة القائم مِن أوليائه؛ ليُطلعه على مجاري الأُمور عامّة ذلك، وبذلك تواترت روايات أئمة أهل البيت الصادقين (عليهم السلام) ومِن ثمَّ فإنّ عِلمـَهم الحتم بمجاري الأُمور محدود بعامِهم، دون علم اللّه المحيط الشامل (4) .

____________________

(1) راجع: مجمع البيان، ج4، ص465، وج 8، ص520.

(2) الحديد 57: 22.

(3) الدخان 44: 4، راجع: هاشم العربي في ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص384 - 385.

(4) راجع: الكافي، ج1، ص242 - 253.

٢٧٦

والدليل على ذلك أنّ الوارد في سورَتي الدخان والقَدْر هو النزول والتفريق، وليس أصل التقدير، فتدبّر جيّداً.

فاللّه تبارك وتعالى يعلم تقدير الأُمور حسب مجاريها عِلماً في الأَزل، لكنّه تعالى يُنزل بهذا التقدير في كلّ ليلة قدر بشأن تفريقه طول ذلك العام، الأمر الذي لا يبدو عليه أيّ شبهة تناقض.

متى وقع التقدير؟ وهل لا يتنافى التقدير مع الاختيار؟

جاء في سورة الدخان أنّ التقدير إنّما يقع في كلّ ليلة قَدْرٍ مِن شهر رمضان في كلّ سنة ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) (1) . وقد وردت روايات أيضاً بأنّ ما يقع في تلك السنّة إنّما يُقدَّر في ليلة القدر.

هذا، في حين كَثرة الآيات والروايات بأنّ التقدير إنّما وقع في الأَزل، وتجري الأمور حسبما قُدّرت في اللّوح المحفوظ من غير تخلّف ولا تبديل، ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ) (2) ، ( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاّ فِي كِتَابٍ ) (3) .

على أنّ هذه الآيات تَرمي إلى سلب مسؤوليّة الإنسان عمّا يفعله؛ حيث إنّه كان مُقدّراً من قبل، وهذا يتنافى وقوله تعالى: ( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ) (4) .

أمّا المسألة الأُولى: فقد سَبَق البحث عنها في مسألة البداء وأنّ هناك تقديرَين، تقديرٌ ظاهري حسب مجاري الأمور الطبيعيّة من عللٍ وأسبابٍ تتفاعل حسب طبيعتها الأُولى، وهي السُنَن الساطية على الكون ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) (5) .

وهذه السُنَن ليست حتميّة، في حين كونها هي الغالبة، حيث احتمال مفاجئة أُمور

____________________

(1) الدخان 44: 4.

(2) الحديد 57: 22.

(3) فاطر 35: 11.

(4) الإسراء 17: 13.

(5) القمر 54: 49.

٢٧٧

طارِئة من خارج مَدارات السُنَن فتُغيّر من اتجاهاتها أحياناً، الأمر الذي لا يَعلمه إلاّ اللّه وكان مُقدّراً أي معلوماً لديه تعالى في الأَزل، خافياً عن أعين الخلائق إلاّ مَن علّمه اللّه، وهذا هو التقدير المكنون في اللوح المحفوظ، ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ) (1) .

فالأَجل الأَوّل هو الذي تقتضيه مجاري الأمور الطبيعيّة حسب السُنَن الجارية في الخَلق، وهذا ليس بحتم، أمّا الأَجل الآخر الحتمي فهو الذي عَلِمَه اللّه في الأَزل حسب الأسباب الطارئة الخافية عن غيره تعالى، ( لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (2) .

روى الصدوق بإسناده إلى الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (وهل يَمحو اللّه إلاّ ما كان؟ وهل يُثبت إلاّ ما لم يكن؟) (2) .

فهناك تغيير وتبديل على خلاف مجاري الأُمور، لا يَعلمه إلاّ اللّه عِلماً كائناً في الأَزل.

قال الإمام الباقر (عليه السلام): (من الأُمور أُمور موقوفة عند اللّه، يُقدّم منها ما يشاء ويُؤخّر منها ما يشاء ويُثبت منها ما يشاء) (4) ، أي: من الأمور ما هي موقوفة - في جريانها حسب العادة الطبيعيّة - على شرائط، إنْ وُجدت جرت، وإلاّ تخلّفت، فحصول هذه الشرائط في وقتها أو عدم حصولها شيء لا يعلمه إلاّ اللّه.

فالعلم بالتقادير الحتميّة الأَزليّة خاصّ اللّه تعالى، أمّا غيره تعالى من الملائكة المقرّبين والمدبِّرات أمراً وكذا المـُصطَفون من عباد اللّه المـُكرمينَ فلا عِلم لهم بسِوى مُقتضيات السُنَن الطبيعيّة في مجاري الأمور، والتي هي بمَعرض البَداء والتبديل، أمّا حتميّتها فهذا شيءٌ إنّما يعرفونه في كلّ ليلة قدرٍ من كلّ سنةٍ وفي محدودة عامِها فحسب.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إنّ للّه عِلمـَينِ، عِلمٌ مكنونٌ مخزونٌ لا يَعلمه إلاّ هو، من

____________________

(1) الأنعام 6: 2.

(2) الرعد 13: 38 - 39.

(3) كتاب التوحيد للصدوق، ص333، رقم 4.

(4) بحار الأنوار، ج4، ص116 - 117، رقم 44.

٢٧٨

ذلك يكون البداء، وعِلم علّمه ملائكتَه ورسلَه وأنبياءَه، فنحن نعلمه) (1) ، وقد عنى بهذا العلم الذي تَعلمه الملائكة والأنبياء والأئمّة هو العِلم وِفق مجاري الأمور الطبيعيّة، والتي يُمكن التخلّف فيها؛ ومِن ثَمَّ قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (واللّه لولا آية في كتاب اللّه لحدّثتُكم بما يكون إلى يوم القيامة، وهي قوله تعالى: ( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) ) (2) .

* * *

وأمّا المسألة الثانية: هل لا يتنافى التقدير مع الاختيار؟ فقد استوفينا الكلام عنها عند البحث عن مسألة الاستطاعة والاختيار، وتَبيّن أنّ التقدير السابق لا يَعدو سوى العِلم بما سيقع وتقديره حسبما يقع، من غير أن يكون العِلم السابق ذا أثرٍ في تحقّق المعلوم، فإنّ للظواهر الكونيّة عِللاً وأسباباً تكوينيّةً هي التي تُؤثّر في الفعل والانفعال التكوينيّينِ، كما أنّ للأفعال الاختياريّة الصادرة من الفاعل المختار (الحيوان والإنسان) سبباً مباشراً هي إرادته بالذات وليس مقهوراً فيها.

فإذا كان اللّه يعلم - أَزلاً - ماذا سيقع وسيتحقّق عِبر الأبد ثُمّ قدّر مجاريها ودبّر من شؤونها بما يتوائم ونظام الكون فهذا لا يعني الإجبار، ولا سيّما فيما يَعود إلى أعمالٍ يقوم بها الإنسان حسب إرادته واختياره، وليس مِن المنطق أن يُفرض العلم بأمرٍ علّةً لوجوده.

والتقدير السابق، إنّما هو العِلم بالأسباب والمسبّبات - كما هي - ثمّ تدبير مجاريها حسب نظام الكون، فلا هناك جَبر ولا سلب للمسؤوليّة فيما يَمسّ أفعال العباد الاختياريّة.

( إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا)

قال تعالى: ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ) (3) ، والخطاب عامّ يشمل

____________________

(1) الكافي للكليني، ج1، ص147، رقم 8.

(2) بحار الأنوار، ج4، ص97، رقم 4 و5، والآية 38 من سورة الرعد.

(3) مريم 19: 71.

٢٧٩

المؤمن والكافر، وبدليل ما بعد الآية: ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ) (1) ، حيث قوله: ( وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا ) ، أي الجميع يَرِدُونها فيخرج المؤمن ويُترك الظالم بحاله.

الأمر الذي يتنافى وقوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ) (2) ، فيكف الوئام؟!

وقد ذَكَر المفسّرون هنا وجوهاً، أوجهُها - ما عن ابن مسعود والحسن وقتادة واختاره أبو مسلم - أنّه بمعنى الإشراف عليها ليَشهدوا ذلك العرض الرهيب، فالمؤمنون يَجوزونها ويَدنون منها ويَمرّون بها وهي تتأجّج وتتميّز وتتلمـّظ، ويَرَون العتاة ينزعون فيقذفون فيها.

قال تعالى: ( فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ ) لن يكونوا لوحدِهم بل ( وَالشَّيَاطِينَ ) الذين هم قادتُهم، وبينهما صلة التابع والمتبوع والقائد والمـَقود، ( ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً ) جاثين على رُكَبِهم في ذلّ وفَزَع، ( ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً ) ، فلا يُؤخذ أحدٌ جُزافاً من تلك الجُموع المتكاثفة، ( ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً ) ليكونوا طليعةَ المقذوفينَ فيها.

وبعد، فيأتي دور المؤمنينَ الذين سَبَقت لهم مِن اللّه الحُسنى، فيأتي زَرَافات منهم، يَمرّون بهذا المشهد الرهيب، فيُزَحزَحون عنها وفي منجاةٍ منها يَجوزونه ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ) أي نجعلهم في منجاةٍ منه ( وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ) (3) أي نَدعهم جاثمين على رُكَبِهم على شفا جُرُفٍ هارٍ؛ لينهار بهم في نار جهنّم.

فقد كان المـُراد بالورود هنا هو الإشراف عليها، كما في قوله تعالى: ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ) (4) ، وقوله: ( فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ ) (5) ، إذ ليس المـُراد من الورود هنا الدخول، بل الدنوّ والاقتراب، قال الراغب: الورود، أصله قَصْدُ الماء، ثُمّ يُستعمل في غيره (6) قوله: ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ ) أي قَصَدَه واقترب منه. والوارد: الذي

____________________

(1) مريم 19: 72.

(2) الأنبياء 21: 101 - 102.

(3) مريم 19: 68 - 72.

(4) القصص 28: 23.

(5) يوسف 12: 19.

(6) المفردات، ص519.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

أنّ المراد بهذا القرين الملك الموكّل به فإن كان هو السائق كان معنى قوله:( هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ ) هذا الإنسان الّذي هو عندي حاضر، و إن كان هو الشهيد كان المعنى هذا - و هو يشير إلى أعماله الّتي حمل الشهادة عليها - ما عندي من أعماله حاضر مهيّأ.

و قيل: المراد بالقرين الشيطان الّذي يصاحبه و يغويه، و معنى كلامه على هذا هذا الإنسان هو الّذي تولّيت أمره و ملكته حاضر مهيّأ لدخول جهنّم.

قوله تعالى: ( أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ ) الكفّار اسم مبالغة من الكفر، و العنيد المعاند للحقّ المستمرّ على عناده، و المعتدي المتجاوز عن الحدّ المتخطّئ للحقّ، و المريب الشاكّ أو المشكّك في أمر البعث.

و بين هذه الصفات المعدودة شبه الاستلزام فإنّ كثرة الكفر برد الإنسان كلّ حقّ يواجهه تنتج العناد مع الحقّ و الإصرار عليه، و الإصرار على العناد يوجب المنع عن أكثر الخيرات إذ لا خير إلّا في الحقّ و من ناحيته، و هو يستلزم الخروج عن حدّ الحقّ إلى الباطل و تجاوز الإنسان عن حدّ العبوديّة إلى الاستكبار و الطغيان و يستلزم تشكيك الناس في ما يرومونه من دين الحقّ.

و الخطاب في الآية منه تعالى، و ظاهر سياق الآيات أنّ المخاطب به هما الملكان الموكّلان السائق و الشهيد، و احتمل بعضهم أن يكون الخطاب إلى ملكين من ملائكة النار و خزنتها.

قوله تعالى: ( الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ ) العدول في ذكر صفة الشرك عن الإيجاز إلى الإطناب حيث لم يقل: مشرك و قال:( الَّذِي جَعَلَ ) إلخ، للإشارة إلى أنّ هذه الصفة أعظم المعاصي و اُمّ الجرائم الّتي أتى بها و الصفات الرذيلة الّتي عدّت له من الكفر و العناد و منع الخير و الاعتداء و الإرابة.

و قوله:( فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ ) تأكيد لما تقدّم من الأمر بقوله:( أَلْقِيا ) إلخ، و يلوّح إلى تشديد الأمر من جهة الشرك، و لذا عقّبه بقوله:( فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ ) .

قوله تعالى: ( قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَ لكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) المراد بهذا

٣٨١

القرين قرينه من الشياطين بلا شكّ، و قد تكرّر في كلامه تعالى ذكر القرين من الشيطان و هو الّذي يلازم الإنسان و يوحي إليه ما يوحي من الغواية و الضلال، قال تعالى:( وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ) الزخرف: ٣٨.

فقوله:( قالَ قَرِينُهُ ) أي شيطانه الّذي يصاحبه و يغويه( رَبَّنا ) أضاف الربّ إلى نفسه و الإنسان الّذي هو قرينه لأنّهما في مقام الاختصام( ما أَطْغَيْتُهُ ) أي ما أجبرته على الطغيان( وَ لكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) أي متهيّأ مستعدّاً لقبول ما ألقيته إليه تلقّاه باختياره فما أنا بمسؤل عن ذنبه في طغيانه.

و قد تقدّم في سورة الصافّات تفصيل اختصام الظالمين و أزواجهم في قوله:( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْواجَهُمْ ) الصافّات: ٢٢، إلى آخر الآيات.

قوله تعالى: ( قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ) القائل هو الله سبحانه يخاطبهم و كأنّه خطاب واحد لعامّة المشركين الطاغين و قرنائهم ينحلّ إلى خطابات جزئيّة لكلّ إنسان و قرينه بمثل قولنا: لا تختصما لديّ، إلخ.

و قوله:( وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ) حال من فاعل( لا تَخْتَصِمُوا ) و( بِالْوَعِيدِ ) مفعول( قَدَّمْتُ ) و الباء للوصلة.

و المعنى: لا تختصموا لديّ فلا نفع لكم فيه بعد ما أبلغتكم وعيدي لمن أشرك و ظلم، و الوعيد الّذي قدّمه إليهم مثل قوله تعالى لإبليس:( اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً ) إسراء: ٦٣، و قوله:( فَالْحَقُّ وَ الْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ) ص: ٨٥. أو قوله:( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ ) السجدة: ١٣.

قوله تعالى: ( ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَ ما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) الّذي يعطيه السياق أن تكون الآية استئنافاً بمنزلة الجواب عن سؤال مقدّر كأنّ قائلاً يقول: هب إنّك قد قدّمت فهلّا غيّرته و عفوت؟ فاُجيب بقوله:( ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ) و المراد بالقول

٣٨٢

مطلق القضاء المحتوم الّذي قضى به الله، و قد قضى لمن مات على الكفر بدخول جهنّم و ينطبق بحسب المورد على الوعيد الّذي أوعده الله لإبليس و من تبعه.

فقد بان أنّ الجملة مستأنفة، و المراد بتبديل القول تغيير القضاء المحتوم، و( لَدَيَّ ) متعلّق بالتبديل، هذا ما يعطيه السياق، و قد ذكر بعضهم في هذه الجملة و إعراب مفرداتها و معنى تبديل القول وجوهاً و احتمالات كثيرة بعيدة عن الفهم لا تزيد في الكلام إلّا تعقيداً فأغمضنا عن إيرادها.

و قوله:( وَ ما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) متمّم لمعنى الجملة السابقة أي لا يبدّل قولي فأنتم معذّبون لا محالة و لست أظلم عبيدي في عذابهم على طبق ما قدّمت إليهم بالوعيد لأنّهم مستحقّون لذلك بعد إتمام الحجّة.

و من وجه آخر: لا ظلم في مجازاتهم بالعذاب فإنّهم إنّما يجزون بأعمالهم الّتي قدّموها في أعمالهم ردّت إليهم كما هو ظاهر قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) التحريم: ٧.

و ما في قوله:( وَ ما أَنَا بِظَلَّامٍ ) من نفي الظلم الكثير لا يستوجب جواز الظلم اليسير فإنّه تعالى لو ظلم في شي‏ء من الجزاء كان ظلماً كثيراً لكثرة أمثاله فإنّ الخطاب لكلّ إنسان مشرك ظالم مع قرينه، و هم كثيرون فهو سبحانه لو ظلم في شي‏ء من الجزاء لكان ظلاماً.

قوله تعالى: ( يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) خطاب منه تعالى لجهنّم و جواب منها، و قد اختلف في حقيقة هذا التكليم و التكلّم فقيل: الخطاب و الجواب بلسان الحال و يردّه أنّه لو كان بلسان الحال لم يختصّ به تعالى بل كان لكلّ من يشاهدها على تلك الحال أن يسألها عن امتلائها فتجيبه بقولها: هل من مزيد؟ فليس لتخصيص الخطاب به تعالى نكتة ظاهرة.

و قيل: حقيقة الخطاب لخزنة جهنّم و الجواب منهم و إن كانا نسباً إلى جهنّم و فيه أنّه خلاف الظاهر لا يصار إليه إلّا بدليل.

و قيل: الخطاب و الجواب على ظاهره، و لا دليل يدلّ على عدم الجواز، و قد

٣٨٣

أخبر الله سبحانه عن تكليم الأيدي و الأرجل و الجلود و غيرها، و هو الوجه و قد تقدّم في تفسير سورة فصّلت أنّ العلم و الشعور سار في جميع الموجودات.

و قوله:( هَلِ امْتَلَأْتِ ) استفهام تقريريّ، و كذا قوله حكاية عنها:( هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) و لعلّ إيراد هذا السؤال و الجواب للإشارة إلى أنّ قهره و عذابه لا يقصر عن الإحاطة بالمجرمين و إيفاء ما يستحقّونه من الجزاء قال تعالى:( وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ) التوبة: ٤٩.

و استشكل بأنّه مناف لصريح قوله تعالى:( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ ) الآية و اُجيب بأنّ الامتلاء قد يراد به أنّه لا يخلو شي‏ء من طبقاتها من السكنة كما يقال: البلد ممتلئ بأهله. على أنّه يمكن أن يكون هذا القول منها قبل دخول جميع أهل النار فيها.

و قيل: الاستفهام في قوله:( هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) للإنكار و المعنى: لا مزيد أي لا مكان فيّ يزيد على من اُلقي فيّ من المجرمين فقد امتلأت فيكون إشارة إلى ما قضى به في قوله:( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ ) السجدة: ١٣، و قوله:( هَلِ امْتَلَأْتِ ) في معنى أن يقال:( حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ ) ، و قوله:( هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) تقرير و تصديق له.

و ربّما أيّد هذا الوجه قوله تعالى قبل:( ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ) على تقدير أن يراد بالقول قوله تعالى:( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ ) .

قوله تعالى: ( وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ) شروع في وصف حال المتّقين يوم القيامة، و الإزلاف التقريب، و( غَيْرَ بَعِيدٍ ) على ما قيل صفة لظرف محذوف و التقدير في مكان غير بعيد.

و المعنى: و قرّبت الجنّة يومئذ للمتّقين حال كونها في مكان غير بعيد أي هي بين أيديهم لا تكلّف لهم في دخولها.

قوله تعالى: ( هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ) الإشارة إلى ما تقدّم من الثواب الموعود، و الأوّاب من الأوب بمعنى الرجوع، و المراد كثرة الرجوع إلى الله

٣٨٤

بالتوبة و الطاعة، و الحفيظ هو الّذي يدوم على حفظ ما عهد الله إليه من أن يترك فيضيع، و قوله:( لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ) خبر بعد خبر لهذا أو حال.

قوله تعالى: ( مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَ جاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ) بيان لكلّ أوّاب و الخشية بالغيب الخوف من عذاب الله حال كونه غائباً غير مرئيّ له، و الإنابة هو الرجوع، و المجي‏ء إلى ربّه بقلب منيب أن يتمّ عمره بالإنابة فيأتي ربّه بقلب متلبّس بالإنابة.

قوله تعالى: ( ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ) خطاب للمتّقين أي يقال لهم: ادخلوا بسلام أي بسلامة و أمن من كلّ مكروه و سوء، أو بسلام من الله و ملائكته عليكم، و قوله:( ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ) بشرى يبشّرون بها.

قوله تعالى: ( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ ) يمكن أن يكون( فِيها ) متعلّقاً بيشاؤن أو بمحذوف هو حال من الموصول، و التقدير: حال كون ما يشاؤن فيها أو من الضمير المحذوف الراجع إلى الموصول، و التقدير: ما يشاؤنه حال كونه فيها، و الأوّل أوفق لسعة كرامتهم عندالله سبحانه.

و المحصّل: أنّ أهل الجنّة و هم في الجنّة يملكون كلّ ما تعلّقت به مشيّتهم و إرادتهم كائناً ما كان من غير تقييد و استثناء فلهم كلّما أمكن أن يتعلّق به الإرادة و المشيّة لو تعلّقت.

و قوله:( وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ ) أي و لهم عندنا ما يزيد على ذلك - على ما يفيده السياق - و إذ كان لهم كلّ ما أمكن أن تتعلّق به مشيّتهم ممّا يتعلّق به علمهم من المطالب و المقاصد فالمزيد على ذلك أمر أعظم ممّا تتعلّق به مشيّتهم لكونه فوق ما يتعلّق به علمهم من الكمال.

و قيل: المراد بالمزيد الزيادة على ما يشاؤن من جنس ما يشتهون فإذا شاؤا رزقاً اُعطوا منه أكثر ممّا شاؤا و أفضل و أعجب كما ورد عن بعضهم أنّه تمرّ بهم السحابة فتقول: ما ذا تريدون فاُمطره عليكم فلا يريدون شيئاً إلّا أمطرته عليهم.

و فيه أنّه تقييد لإطلاق الكلام من غير مقيّد فإنّ ظاهر قوله:( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ

٣٨٥

فِيها ) أنّهم يملكون كلّ ما يمكنهم أن يشاؤا لا تملّكهم ما شاؤه بالفعل فالمزيد وراء ما يمكن أن تتعلّق به مشيّتهم.

و قيل: المراد أنّه يضاعف لهم الحسنة بعشر أمثالها و فيه ما في سابقه.

قوله تعالى: ( وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ) التنقيب السير، المحيص المحيد و المنجا.

و في الآية تذييل الاحتجاج بخلق الإنسان و العلم به و بيان سيره إلى الله بالتخويف و الإنذار نظير ما جرى عليه الكلام في صدر السورة من الاحتجاج على المعاد و تذييله بالتخويف و الإنذار في قوله:( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ أَصْحابُ الرَّسِّ وَ ثَمُودُ ) إلخ.

و المعنى: و كثيراً ما أهلكنا قبل هؤلاء المشركين من قرن هم أي أهل ذلك القرن أشدّ بطشاً منهم أي من هؤلاء المشركين فساروا ببطشهم في البلاد ففتحوها و تحكّموا عليها هل من محيد و منجا من إهلاك الله و عذابه؟.

قوله تعالى: ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى‏ لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ ) القلب ما يعقل به الإنسان فيميّز الحقّ من الباطل و الخير من الشرّ و النافع من الضارّ، فإذا لم يعقل و لم يميّز فوجوده بمنزلة عدمه إذ ما لا أثر له فوجوده و عدمه سواء، و إلقاء السمع هو الاستماع كأنّ السمع شي‏ء يلقى إلى المسموع فيناله و يدركه و الشهيد الحاضر المشاهد.

و المعنى: إنّ فيما أخبرنا به من الحقائق و أشرنا إليه من قصص الاُمم الهالكة لذكرى يتذكّر بها من كان يتعقّل فيدرك الحقّ و يختار ما فيه خيره و نفعه أو استمع إلى حقّ القول و لم يشتغل عنه بغيره و الحال أنّه شاهد حاضر يعي ما يسمعه.

و الترديد بين من كان له قلب و من استمع شهيداً لمكان أنّ المؤمن بالحقّ أحد رجلين إمّا رجل ذو عقل يمكنه أن يتناول الحقّ فيتفكّر فيه و يرى ما هو الحقّ فيذعن به، و إمّا رجل لا يقوى على التفكّر حتّى يميّز الحقّ و الخير و النافع فعليه أن يستمع القول فيتبعه، و أمّا من لا قلب له يعقل به و لا يسمع شهيداً على ما يقال له و يلقى إليه من الرسالة و الإنذار فجاهل متعنّت لا قلب له و لا سمع، قال تعالى:( وَ قالُوا

٣٨٦

لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ ) الملك: ١٠.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ ما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ ) اللغوب التعب و النصب، و المعنى ظاهر.

( بحث روائي‏)

في التوحيد، بإسناده إلى عمرو بن شمر عن جابر بن يزيد قال: سألت أبا جعفرعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ) قال: يا جابر تأويل ذلك أنّ الله عزّوجلّ إذا أفنى هذا الخلق و هذا العالم و سكن أهل الجنّة الجنّة و أهل النار النار جدّد الله عالماً غير هذا العالم و جدّد خلقاً من غير فحولة و لا إناث يعبدونه و يوحّدونه و خلق لهم أرضاً غير هذه الأرض تحملهم، و سماء غير هذه السماء تظلّهم.

لعلّك ترى أنّ الله إنّما خلق هذا العالم الواحد أو ترى أنّ الله لم يخلق بشراً غيركم بلى و الله لقد خلق ألف ألف عالم و ألف ألف آدم أنت في آخر تلك العوالم و اُولئك الآدميّين.

أقول: و روي في الخصال، الشطر الأوّل من الحديث بإسناده عن محمّد بن مسلم عنهعليه‌السلام ، و لعلّ المراد بكون ما ذكر تأويل الآية أنّه ممّا ينطبق عليه.

و عن جوامع الجامع، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كاتب الحسنات على يمين الرجل و كاتب السيّئات على شماله، و صاحب اليمين أمير على صاحب الشمال: فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشراً و إذا عمل سيّئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات لعلّه يسبّح أو يستغفر.

أقول: و في معناها روايات اُخرى، و روي ستّ ساعات بدل سبع ساعات.

و في نهج البلاغة:( وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِيدٌ ) سائق يسوقها إلى محشرها و شاهد يشهد عليها بعملها.

٣٨٧

و في المجمع، و روى أبوالقاسم الحسكانيّ بالإسناد عن الأعمش قال: حدّثنا أبو المتوكّل التاجر عن أبي السعيد الخدريّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا كان يوم القيامة يقول الله لي و لعليّ: ألقيا في النار من أبغضكما، و أدخلاً في الجنّة من أحبّكما و ذلك قوله:( أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ) .

أقول: و رواه شيخ الطائفة في أماليه، بإسناده عن أبي سعيد الخدريّ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي الدنيا في ذكر الموت و ابن أبي حاتم و أبونعيم في الحلية، عن جابر بن عبدالله قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إنّ ابن آدم لفي غفلة عمّا خلق له إنّ الله إذا أراد خلقه قال للملك: اكتب رزقه. اكتب أثره. اكتب أجله شقيّاً أم سعيداً ثمّ يرتفع ذلك الملك و يبعث الله ملكاً فيحفظه حتّى يدرك ثمّ يرتفع ذلك الملك.

ثمّ يوكّل الله به ملكين يكتبان حسناته و سيّئاته فإذا حضره الموت ارتفع ذلك الملكان و جاء ملك الموت ليقبض روحه فإذا اُدخل قبره ردّ الروح في جسده و جاءه ملكاً القبر فامتحناه ثمّ يرتفعان.

فإذا قامت الساعة انحطّ عليه ملك الحسنات و ملك السيّئات فبسطا كتاباً معقوداً في عنقه ثمّ حضراً معه واحد سائق و آخر شهيد. ثمّ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ قدّامكم لأمراً عظيماً لا تقدّرونه فاستعينوا بالله العظيم.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) قال: هو استفهام لأنّ الله وعد النار أن يملأها فتمتلئ النار ثمّ يقول لها:( هَلِ امْتَلَأْتِ ) ؟ و تقول:( هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) ؟ على حدّ الاستفهام أي ليس فيّ مزيد.

أقول: بناؤه على كون الاستفهام إنكاريّاً.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و البخاريّ و مسلم و الترمذيّ و النسائيّ و ابن جرير و ابن مردويه و البيهقيّ في الأسماء و الصفات عن أنس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تزال جهنّم يلقى فيها و تقول: هل من مزيد؟ حتّى تضع ربّ العزّة فيها قدمه فينزوي

٣٨٨

بعضها إلى بعض و تقول: قط قط و عزّتك و كرمك.

و لا يزال في الجنّة فضل حتّى ينشئ الله لها خلقاً آخر فيسكنهم في قصور الجنّة.

أقول: وضع القدم على النار و قولها: قط قط مرويّ في روايات كثيرة من طرق أهل السنّة.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ ) قال: النظر إلى رحمة الله.

و في الدرّ المنثور، أخرج البزّاز و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و اللالكائيّ في السنّة و البيهقيّ في البعث و النشور عن أنس في قوله تعالى:( وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ ) قال: يتجلّى لهم الربّ عزّوجلّ.

و في الكافي، بعض أصحابنا رفعه عن هشام بن الحكم قال: قال لي أبوالحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام : يا هشام إنّ الله يقول في كتابه:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى‏ لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ ) يعني عقل.

و في الدرّ المنثور، أخرج الخطيب في تاريخه، عن العوّام بن حوشب قال: سألت أبا مجلز عن الرجل يجلس فيضع إحدى رجليه على الاُخرى فقال: لا بأس به إنّما كره ذلك اليهود زعموا أنّ الله خلق السماوات و الأرض في ستّة أيّام ثمّ استراح يوم السبت فجلس تلك الجلسة فأنزل الله( وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ ما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ ) .

أقول: و روي هذا المعنى عن الضحّاك و قتادة، و روى هذا المعنى المفيد في روضة الواعظين، في رواية ضعيفة، و أصل تقسيم خلق الأشياء إلى ستّة من أيّام الاُسبوع واقع في التوراة، و القرآن و إن كرّر ذكر خلق الأشياء في ستّة أيّام لكنّه لم يذكر كون هذه الأيّام هي أيّام الاُسبوع و لا لوّح إليه.

و على هذه الروايات اعتمد من قال: إنّ الآية مدنيّة، و لا دلالة في ردّها قول اليهود أن تكون نازلة بالمدينة، و في الآيات المكّيّة ما تعرّض سبحانه فيه لشأن اليهود كما في سورة الأعراف و غيرها.

٣٨٩

( سورة ق الآيات ٣٩ - ٤٥)

فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ( ٣٩ ) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ( ٤٠ ) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ( ٤١ ) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ  ذَٰلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ( ٤٢ ) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ( ٤٣ ) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا  ذَٰلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ( ٤٤ ) نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ  وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ  فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ( ٤٥ )

( بيان‏)

خاتمة السورة يأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها أن يصبر على ما يقولون ممّا يرمونه بنحو السحر و الجنون و الشعر، و ما يتعنّتون به باستهزاء المعاد و الرجوع إلى الله تعالى فيأمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر و أن يعبد ربّه بتسبيحه و أن يتوقّع البعث بانتظار الصيحة، و أن يذكّر بالقرآن من يخاف الله بالغيب.

قوله تعالى: ( فَاصْبِرْ عَلى‏ ما يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ ) تفريع على جميع ما تقدّم من إنكار المشركين للبعث، و من تفصيل القول في البعث و الحجّة عليه، و من وعيد المنكرين له المكذّبين للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تهديدهم بمثل ما جرى على المكذّبين من الاُمم الماضية.

و قوله:( وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ) إلخ، أمر بتنزيهه تعالى عمّا يقولون مصاحباً للحمد و محصّله إثبات جميل الفعل له و نفي كلّ نقص و شين عنه تعالى، و التسبيح قبل طلوع

٣٩٠

الشمس يقبل الانطباق على صلاة الصبح، و التسبيح قبل الغروب يقبل الانطباق على صلاة العصر أو عليها و على صلاة الظهر.

قوله تعالى: ( وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ أَدْبارَ السُّجُودِ ) أي و من اللّيل فسبّحه فيه، و يقبل الانطباق على صلاتي المغرب و العشاء.

و قوله:( وَ أَدْبارَ السُّجُودِ ) الأدبار جمع دبر و هو ما ينتهي إليه الشي‏ء و بعده، و كأنّ المراد بأدبار السجود بعد الصلوات فإنّ السجود آخر الركعة من الصلاة فينطبق على التعقيب بعد الصلوات، و قيل: المراد به النوافل بعد الفرائض، و قيل: المراد به الركعتان أو الركعات بعد المغرب و قيل: ركعة الوتر في آخر الليل.

قوله تعالى: ( وَ اسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ ) فسّروا الاستماع بمعان مختلفة و الأقرب أن يكون مضمّناً معنى الانتظار و( يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ ) مفعوله و المعنى: و انتظر يوماً ينادي فيه المنادي ملقياً سمعك لاستماع ندائه، و المراد بنداء المنادي نفخ صاحب الصور في الصور على ما تفيده الآية التالية.

و كون النداء من مكان قريب لإحاطته بهم فيقع في سمعهم على نسبة سواء لا تختلف بالقرب و البعد فإنّما هو نداء البعث و كلمة الحياة.

قوله تعالى: ( يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ) بيان ليوم ينادي المنادي، و كون الصيحة بالحقّ لأنّها مقضيّة قضاء محتوماً كما مرّ في قوله:( وَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ) الآية.

و قوله:( ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ) أي يوم الخروج من القبور كما قال تعالى:( يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً ) المعارج: ٤٣.

قوله تعالى: ( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ إِلَيْنَا الْمَصِيرُ ) المراد بالإحياء إفاضة الحياة على الأجساد الميتة في الدنيا، و بالإماتة الإماتة في الدنيا و هي النقل إلى عالم القبر، و بقوله:( وَ إِلَيْنَا الْمَصِيرُ ) الإحياء بالبعث في الآخرة على ما يفيده السياق.

قوله تعالى: ( يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ ) أصل( تَشَقَّقُ ) تتشقّق أي تتصدّع عنهم فيخرجون منها مسارعين إلى الداعي.

٣٩١

و قوله:( ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ ) أي ما ذكرنا من خروجهم من القبور المنشقّة عنهم سراعاً جمع لهم علينا يسير.

قوله تعالى: ( نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ ) في مقام التعليل لقوله:( فَاصْبِرْ عَلى‏ ما يَقُولُونَ ) الآية، و الجبّار المتسلّط الّذي يجبر الناس على ما يريد.

و المعنى: فاصبر على ما يقولون و سبّح بحمد ربّك و انتظر البعث فنحن أعلم بما يقولون سنجزيهم بما عملوا و لست أنت بمتسلّط جبّار عليهم حتّى تجبرهم على ما تدعوهم إليه من الإيمان بالله و اليوم الآخر و إذا كانت حالهم هذه الحال فذكّر بالقرآن من يخاف وعيدي.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج الطبرانيّ في الأوسط، و ابن عساكر عن جرير بن عبدالله عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في قوله:( وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ- قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ ) قبل طلوع الشمس صلاة الصبح، و قبل الغروب صلاة العصر.

و في المجمع، روي عن أبي عبداللهعليه‌السلام أنّه سئل عن قوله:( وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ ) فقال: تقول حين تصبح و حين تمسي عشر مرّات: لا إله إلّا الله وحده لا شريك له له الملك و له الحمد و هو على كلّ شي‏ء قدير.

أقول: هو مأخوذ من إطلاق التسبيح في الآية و إن كان خصوص مورده صلاتي الصبح و العصر فلا منافاة.

و في الكافي، بإسناده عن حريز عن زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قلت:( وَ أَدْبارَ السُّجُودِ ) قال: ركعات بعد المغرب.

أقول: و رواه القمّيّ في تفسيره، بإسناده عن ابن أبي نصر عن الرضاعليه‌السلام و لفظه قال: أربع ركعات بعد المغرب.

٣٩٢

و في الدرّ المنثور، أخرج مسدّد في مسنده، و ابن المنذر و ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب قال: سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أدبار النجوم و السجود فقال: أدبار السجود الركعتان بعد المغرب، و أدبار النجوم الركعتان قبل الغداة.

أقول: و روي مثله عن ابن عبّاس و عمر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و أسنده في مجمع البيان، إلى الحسن بن عليّعليه‌السلام أيضاً عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ ) قال: ذكّر يا محمّد ما وعدناه من العذاب.

٣٩٣

( سورة الذاريات مكّيّة و هي ستّون آية)

( سورة الذاريات الآيات ١ - ١٩)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ( ١ ) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا ( ٢ ) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ( ٣ ) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ( ٤ ) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ( ٥ ) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ( ٦ ) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ( ٧ ) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ( ٨ ) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ( ٩ ) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ( ١٠ ) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ ( ١١ ) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ( ١٢ ) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ( ١٣ ) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ( ١٤ ) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( ١٥ ) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ  إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَ ( ١٦ ) كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ( ١٧ ) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ( ١٨ ) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ( ١٩ )

( بيان‏)

كانت الدعوة النبويّة تدعو الوثنيّة إلى توحيد الربوبيّة و إنّ الله تعالى هو ربّهم و ربّ كلّ شي‏ء، و كانت الدعوة من طريق الإنذار و التبشير و خاصّة بالإنذار و كان الإنذار بعذاب الله في الدنيا للمكذّبين عذاب الاستئصال، و في الآخرة بالعذاب الخالد يوم القيامة و هو العمدة في نجاح الدعوة إذ لو لا الحساب و الجزاء يوم القيامة كان الإيمان بالوحدانيّة و النبوّة لغيً لا أثر له.

٣٩٤

و المشركون باتّخاذهم آلهة دون الله سبحانه شديدوا الإنكار لاُصول التوحيد و النبوّة و المعاد، و كانوا يتعنّتون بإنكار المعاد و الإصرار على نفيه و الاستهزاء به من أيّ طريق ممكن لما يرون أنّ في بطلانه بطلان الأصلين الآخرين.

و السورة تذكر المعاد و إنكارهم له فتبدأ به و تختم عليه لكن لا من حيث نفسه كما جرى عليه الكلام في مواضع من كلامه بل من حيث إنّه يوم الجزاء و أنّ الله الّذي وعدهم به هو ربّهم و هو الّذي وعدهم به و وعده صدق لا ريب فيه.

و لذلك لمّا انساق الكلام إلى الاحتجاج عليه احتجّت بأدلّة التوحيد من آيات الأرض و السماء و الأنفس و ما عاقب الله به الاُمم الماضين إثر دعوتهم إلى التوحيد و تكذيبهم لرسله، و ليس إلّا ليثبت بها التوحيد فيثبت به يوم الجزاء الّذي وعده الله و الله لا يخلف الميعاد و أخبرت به الدعوة النبويّة فيندفع بذلك إنكارهم للجزاء و قد توسّلوا بذلك إلى إبطال دين التوحيد و رسالة الرسول لصيرورة الإيمان به لغوا لا أثر له كما تقدّمت الإشارة إليه.

و السورة مكّيّة لشهادة سياق آياتها عليه و لم يختلف في ذلك أحد، و من غرر آياتها قوله تعالى:( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) .

و الفصل الّذي أوردناه من الآيات مفتتح الكلام يذكر فيه أنّ الجزاء الّذي وعدوه صدق و إنكارهم له و تعنّتهم بذلك تخرّص ثمّ يصف يوم الجزاء و حال المتّقين و المنكرين فيه.

قوله تعالى: ( وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً فَالْحامِلاتِ وِقْراً فَالْجارِياتِ يُسْراً فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً ) الذاريات جمع الذارية من قولهم: ذرت الريح التراب تذروه ذرواً إذا أطارته و الوقر بالكسر فالسكون ثقل الحمل في الظهر أو في البطن.

و في الآيات إقسام بعد إقسام يفيد التأكيد بعد التأكيد للمقسم عليه و هو الجزاء على الأعمال فقوله:( وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً ) إقسام بالرياح المثيرة للتراب، و قوله:( فَالْحامِلاتِ وِقْراً ) بالفاء المفيدة للتأخير و الترتيب معطوف على الذاريات و إقسام بالسحب الحاملة لثقل الماء، و قوله:( فَالْجارِياتِ يُسْراً ) عطف عليه و إقسام بالسفن

٣٩٥

الجارية في البحار بيسر و سهولة.

و قوله:( فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً ) عطف على ما سبقه و إقسام بالملائكة الّذين يعملون بأمره فيقسّمونه باختلاف مقاماتهم فإنّ أمر ذي العرش بالخلق و التدبير واحد فإذا حمله طائفة من الملائكة على اختلاف أعمالهم انشعب الأمر و تقسّم بتقسّمهم ثمّ إذا حمله طائفة هي دون الطائفة الاُولى تقسّم ثانياً بتقسّمهم و هكذا حتّى ينتهي إلى الملائكة المباشرين للحوادث الكونيّة الجزئيّة فينقسم بانقسامها و يتكثّر بتكثّرها.

و الآيات الأربع - كما ترى - تشير إلى عامّة التدبير حيث ذكرت اُنموذجاً ممّا يدبّر به الأمر في البرّ و هو الذاريات ذرواً، و اُنموذجاً ممّا يدبّر به الأمر في البحر و هو الجاريات يسراً و اُنموذجاً ممّا يدبّر به الأمر في الجوّ و هو الحاملات وقراً، و تمّم الجميع بالملائكة الّذين هم وسائد التدبير و هم المقسّمات أمراً.

فالآيات في معنى أن يقال: اُقسم بعامّة الأسباب الّتي يتمّم بها أمر التدبير في العالم إنّ كذا كذا، و قد ورد من طرق الخاصّة و العامّة عن عليّ عليه أفضل السّلام تفسير الآيات الأربع بما تقدّم.

و عن الفخر الرازيّ في التفسير الكبير، أنّ الأقرب حمل الآيات الأربع جميعاً على الرياح فإنّها كما تذرو التراب ذرواً تحمل السحب الثقال و تجري في الجوّ بيسر و تقسّم السحب على الأقطار من الأرض.

و الحقّ أن ما استقربه بعيد، و ما تقدّم من المعنى أبلغ ممّا ذكره.

قوله تعالى: ( إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَ إِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ ) ( ما ) موصولة، و الضمير العائد إليها محذوف أي الّذين توعدونه، أو مصدريّة، و( تُوعَدُونَ ) من الوعد كما يؤيّده قوله:( وَ إِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ ) الشامل لمطلق الجزاء، و قيل: من الإيعاد كما يؤيّده قوله:( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ ) ق: ٤٥.

وعدّ الوعد صادقاً من المجاز في النسبة كما في قوله:( فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ) الحاقة: ٢١ أو الصادق بمعنى ذو صدق كما قيل بمثله في قوله:( فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ) و الدين الجزاء.

و كيف كان فقوله:( إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ ) جواب القسم، و قوله:( وَ إِنَّ

٣٩٦

الدِّينَ لَواقِعٌ ) معطوف عليه بمنزلة التفسير، و المعنى اُقسم بكذا و كذا أنّ الّذي توعدونه - و هو الّذي يعدهم القرآن أو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما اُنزل إليه - من يوم البعث و أنّ الله سيجزيهم فيه بأعمالهم إن خيراً فخيراً و إن شرّاً فشرّاً لصادق، و إنّ الجزاء لواقع.

قوله تعالى: ( وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ ) الحبك بمعنى الحسن و الزينة، و بمعنى الخلق المستوي، و يأتي جمعاً لحبيكة أو حباك بمعنى الطريقة كالطرائق الّتي تظهر على الماء إذا تثنّى و تكسّر من مرور الرياح عليه.

و المعنى على الأوّل: اُقسم بالسماء ذات الحسن و الزينة نظير قوله تعالى:( إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ) الصافّات: ٦، و على الثاني: اُقسم بالسماء ذات الخلق المستوي نظير قوله:( وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ ) الآية: ٤٧ من السورة و على الثالث اُقسم بالسماء ذات الطرائق نظير قوله:( وَ لَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ ) المؤمنون: ١٧.

و لعلّ المعنى الثالث أظهر لمناسبته لجواب القسم الّذي هو اختلاف الناس و التشتّت طرائقهم كما أنّ الأقسام السابقة:( وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً ) إلخ كانت مشتركة في معنى الجري و السير مناسبة لجوابها:( إِنَّما تُوعَدُونَ ) إلخ المتضمّن لمعنى الرجوع إلى الله و السير إليه.

قوله تعالى: ( إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ) القول المختلف ما يتناقض و يدفع بعضه بعضاً و حيث إنّ الكلام في إثبات صدق القرآن أو الدعوة أو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما وعدهم من أمر البعث و الجزاء فالمراد بالقول المختلف - على الأقرب - قولهم المختلف في أمر القرآن لغرض إنكار ما يثبته فتارة يقولون: إنّه سحر و الجائي به ساحر، و تارة يقولون: زجر و الجائي به مجنون، و تارة يقولون: إلقاء شياطين الجنّ و الجائي به كاهن، و تارة يقولون: شعر و الجائي به شاعر، و تارة إنّه افتراء، و تارة يقولون إنّما يعلّمه بشر، و تارة يقولون: أساطير الأوّلين اكتتبها.

و قوله:( يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ) الإفك الصرف، و ضمير( عَنْهُ ) إلى الكتاب من حيث اشتماله على وعد البعث و الجزاء، و المعنى: يصرف عن القرآن من صرف، و

٣٩٧

قيل: الضمير للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المعنى: يُصرف عن الإيمان به من صرف، و قد عرفت أنّ المعنى السابق أوفق للسياق و إن كان مآل المعنيين واحداً.

و حكي عن بعضهم أنّ ضمير( عَنْهُ ) لما توعدون أو للدين أقسم تعالى أوّلاً بالذاريات و غيرها على أنّ البعث و الجزاء حقّ ثمّ أقسم بالسماء على أنّهم في قول مختلف في وقوعه فمنهم شاكّ و منهم جاحد ثمّ قال تعالى: يؤفك عن الإقرار بأمر البعث و الجزاء من هو مأفوك. و هذا الوجه قريب من الوجه السابق.

و عن بعضهم: أنّ الضمير لقول مختلف و( عن ) للتعليل كما في قوله تعالى:( وَ ما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ ) هود: ٥٣ فيكون الجملة صفة لقول و المعنى: إنّكم لفي قول مختلف يؤفك بسببه من اُفك، و هو وجه حسن.

و قيل: الضمير في( إِنَّكُمْ ) للمسلم و الكافر جميعاً فيكون المراد بالقول المختلف قول المسلمين بوقوع البعث و الجزاء و قول الكفّار بعدم الوقوع. و لعلّ السياق لا يلائمه و قيل: بعض وجوه اُخر رديئة لا جدوى في التعرّض له.

قوله تعالى: ( قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ) أصل الخرص القول بالظنّ و التخمين من غير علم، و لكون القول بغير علم في خطر من الكذب يسمّى الكذّاب خرّاصاً، و الأشبه أن يكون المراد بالخرّاصين في الآية القوّالين من غير علم و دليل و هم الخائضون في أمر البعث و الجزاء المنكرون له بغير علم.

و في قوله:( قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ) دعاء عليهم بالقتل و هو كناية عن نوع من الطرد و الحرمان من الفلاح و إليه يؤل قول من فسّره باللعن.

و قوله:( الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ ) الغمرة - كما ذكر الراغب - معظم الماء الساتر لمقرّها، و جعل مثلاً للجهالة الّتي تغمر صاحبها، و المراد بالسهو - كما قيل - مطلق الغفلة.

و معنى الآية و هي تصف الخرّاصين: الّذين هم في جهالة أحاطت بهم غافلون عن حقّيّة ما اُخبروا به.

٣٩٨

و قوله:( يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ) ضمير الجمع للخرّاصين قول قالوه على طريق الاستعجال استهزاء كقولهم:( مَتى‏ هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) يس: ٤٨.

و السؤال بأيّان - الموضوعة للسؤال عن زمان مدخولها - عن يوم الدين و هو ظاهر في الزمان إنّما هو بعناية أنّ يوم الدين لكونه موعوداً ملحق بالزمانيّات فيسأل عنه كما يسأل عن الزمانيّات بأيّان و متى كما يقال: متى يوم العيد لكونه ذا شأن ملحقاً لذلك بالزمانيات كذا قيل.

و يمكن أن يكون من التوسّع في معنى الظرفيّة بأن يعدّ أوصاف الظرف الخاصّة به ظرفاً توسّعاً فيكون السؤال عن زمان الزمان سؤالاً عن أنّه بعد أيّ زمان أو قبل أيّ زمان؟ كما يقال: متى يوم العيد؟ فيجاب بأنّه بعد عشرة أيّام مثلاً أو قبل يوم كذا، و هو توسّع جار في العرف غير مختصّ بكلام العرب، و في القرآن منه شي‏ء كثير.

قوله تعالى: ( يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ) ضمير الجمع للخرّاصين، و الفتن في الأصل إدخال الذهب النار ليظهر جودته ثمّ استعمل في مطلق الإحراق و التعذيب، و الظرف متعلّق بفعل محذوف أو مبتدأ، و الآية جواب عن سؤالهم عدل فيه عن بيان وقت يوم الدين إلى بيان صفته و الإشارة إلى حالهم فيه لما أنّ وقته من الغيب الّذي لا يعلمه إلّا الله قال تعالى:( لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ) .

و تقدير الآية و معناها: يقع يوم الدين أو هو واقع يوم هم أي الخرّاصون في النار يعذّبون أو يحرقون.

قوله تعالى: ( ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ) حكاية خطاب منه تعالى أو من الملائكة بأمره للخرّاصين و هم يفتنون على النار يومئذ.

و المعنى: يقال لهم ذوقوا العذاب الّذي يخصّكم. هذا العذاب هو الّذي كنتم تستعجلون به إذ تقولون استعجالاً و استهزاء: أيّان يوم الدين.

قوله تعالى: ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ ) بيان لحال المتّقين يوم الدين بعد وصف حال اُولئك الخرّاصين.

٣٩٩

و تنكير جنّات و عيون للإشارة إلى عظم قدرها كأنّها بحيث لا يقدر الواصفون على وصفها، و قد اُلحقت العيون بالجنّات في ظرفيّتها توسّعاً.

قوله تعالى: ( آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ ) أي قابلين ما أعطاهم ربّهم الرؤف بهم راضين عنه و بما أعطاهم كما يفيده خصوص التعبير بالأخذ و الإيتاء و نسبة الإيتاء إلى ربّهم.

و قوله:( إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ ) تعليل لما تقدّمه أي إنّ حالهم تلك الحال لأنّهم كانوا قبل ذلك أي في الدنيا ذوي إحسان في أعمالهم أي ذوي أعمال حسنة.

قوله تعالى: ( كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ ) الآيات تفسير لإحسانهم، و الهجوع النوم في الليل و قيل: النوم القليل.

و يمكن أن تكون: ما زائدة و( يَهْجَعُونَ ) خبر كانوا، و( قَلِيلًا ) ظرفاً متعلّقاً به أي في زمان قليل أو صفة لمفعول مطلق محذوف أي هجوعاً قليلاً و( مِنَ اللَّيْلِ ) متعلّقاً بقليلاً و المعنى: كانوا ينامون في زمان قليل من الليل أو ينامون الليل نوماً قليلاً.

و أن تكون موصولة و الضمير العائد إليها محذوفاً و( قَلِيلًا ) خبر كانوا و الموصول فاعله و المعنى: كانوا قليلاً من الليل الّذي يهجعون فيه.

و أن تكون مصدريّة و المصدر المسبوك منها و من مدخولها فاعلاً لقوله:( قَلِيلًا ) و هو خبر( كانُوا ) .

و على أيّ حال فالقليل من الليل إمّا مأخوذ بالقياس إلى مجموع زمان كلّ ليلة فيفيد أنّهم يهجعون كلّ ليلة زماناً قليلاً منها و يصلّون أكثرها، و إمّا مأخوذ بالقياس إلى مجموع الليالي فيفيد أنّهم يهجعون في قليل من الليالي و يقومون للصلاة في أكثرها أي لا يفوتهم صلاة الليل إلّا في قليل من الليالي.

قوله تعالى: ( وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) أي يسألون الله المغفرة لذنوبهم، و قيل: المراد بالاستغفار الصلاة و هو كما ترى.

قوله تعالى: ( وَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ ) الآيتان السابقتان تبيّنان خاصّة سيرتهم في جنب الله سبحانه و هي قيام اللّيل و الاستغفار بالأسحار و هذه الآية

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429