الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 429

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 429 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 120168 / تحميل: 6179
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

صار يمتد على وجه الأرض ليلقى عليها ثماره فتحملها عنه فترى الأصل من القرع(١) والبطيخ مفترشا للأرض وثماره مبثوثة عليها وحواليه كأنه هرة ممتدة وقد اكتنفتها جراؤها(٢) لترضع منها.

( موافاة أصناف النبات في الوقت المشاكل لها)

وانظر كيف صارت الأصناف توافي في الوقت المشاكل لها من حمارة(٣) الصيف ووقدة الحر فتلقاها النفوس بانشراح وتشوق إليها ولو كانت توافي الشتاء لوافقت من الناس كراهة لها واقشعرارا(٤) منها مع ما يكون فيها من المضرة للأبدان ألا ترى أنه ربما أدرك شيء من الخيار في الشتاء فيمتنع الناس من أكله إلا الشره الذي لا يمتنع من أكل ما يضره ويسقم معدته.

__________________

(١) القرع - بالفتح - نوع من اليقطين، الواحدة قرعة.

(٢) في الأصل المطبوع « اجزاؤها » وهذا تصحيف شنيع، والجراء جمع جرو - بتثليث الجيم - صغير كل شيء حتّى الرمان والبطّيخ وغلب على الكلب والأسد، والمراد هنا بالجراء أولاد الهرة.

(٣) الحمارة: شدة الحرّ والجمع حمّار.

(٤) اقشعر: تغير لونه.

١٦١

( في النخل وخلقة الجذع والخشب وفوائد ذلك)

فكر يا مفضل في النخل فإنه لما صار فيه إناث تحتاج إلى التلقيح جعلت فيه ذكورة للقاح من غير غراس فصار الذكر من النخل بمنزلة الذكر من الحيوان الذي يلقح الإناث لتحمل وهو لا يحمل تأمل خلقة الجذع كيف هو فإنك تراه كالمنسوج نسجا من خيوط ممدودة كالسدى وأخرى معه معترضة كاللحمة(١) كنحو ما ينسج بالأيدي وذلك ليشتد ويصلب ولا يتقصف من حمل القنوات(٢) الثقيلة وهز الرياح العواصف إذا صار نخلة وليتهيأ للسقوف والجسور وغير ذلك مما يتخذ منه إذا صار جذعا.

وكذلك ترى الخشب مثل النسج فإنك ترى بعضه مداخلا بعضه بعضا طولا وعرضا كتداخل أجزاء اللحم وفيه مع ذلك متانة ليصلح لما يتخذ منه من الآلات فإنه لو كان مستحصفا(٣) كالحجارة لم يمكن أن يستعمل في السقوف وغير ذلك مما يستعمل فيه الخشبة كالأبواب والأسرة والتوابيت وما أشبه ذلك ومن جسيم المصالح في الخشب أنه

__________________

(١) اللحمة - بالضم - ما سدي به بين سدى الثوب أي ما نسج عرضا وهو خلاف سواه والجمع لحم.

(٢) في الأصل المطبوع - قنوان - ولا معنى لها هنا والقنوات جمع قناة وهي العسا الغليظة، وقد أراد بها الإمامعليه‌السلام هنا هي سعف النخل الغليظة.

(٣) أراد بالمستحصف: الشديد المحكم كانه الحجارة.

١٦٢

يطفو على الماء فكل الناس يعرف هذا منه وليس كلهم يعرف جلالة الأمر فيه فلو لا هذه الخلة كيف كانت هذه السفن والأظراف(١) تحمل أمثال الجبال من الحمولة وأنى كان ينال الناس هذا الرفق وخفة المئونة في حمل التجارات من بلد إلى بلد وكانت تعظم المئونة عليهم في حملها حتى يلقى كثير مما يحتاج إليه في بعض البلدان مفقودا أصلا أو عسر وجوده.

( العقاقير واختصاص كل منها)

فكر في هذه العقاقير وما خص بها كل واحد منها من العمل في بعض الأدواء فهذا يغور في المفاصل فيستخرج الفضول الغليظة مثل الشيطرج(٢) وهذا ينزف المرة السوداء(٣) مثل الأفتيمون(٤) وهذا

__________________

(١) كذا في النسخ، والظرف لا يجمع على لفظ اظراف وانما يقال للجمع ظروف.

(٢) جاء في تذكرة الانطاكى: شيطرج هندي هو الخامشة وهو نبت يوجد بالقبور الخراب له ورق عريض ودقيق ينتثر أعلاه إذا برد الجو وزهره أحمر إلى بياض، يخلف بزر أسود أصغر من الخردل ورائحته ثقيلة حادة وطعمه الى مرارة.

(٣) المرة السوداء: خلط من أخلاط البدن والجمع مرار.

(٤) افتيمون لفظ يوناني معناه دواء الجنون وهو نبات له أصل كالجزر شديد الحمرة وفروع كالخيوط الليفية تحف باوراق دقاق خضر وزهره الى حمرة وغيرة وبزر دون الخردل أحمر إلى صفرة يلتف بما يليه.

١٦٣

ينفي الرياح مثل السكبينج(١) وهذا يحلل الأورام وأشباه هذا من أفعالها فمن جعل هذه القوى فيها إلا من خلقها للمنفعة ومن فطن الناس لها إلا من جعل هذا فيها ومتى كان يوقف على هذا منها بالعرض والاتفاق - كما قال القائلون وهب الإنسان فطن لهذه الأشياء بذهنه ولطيف رويته وتجاربه فالبهائم كيف فطنت لها حتى صار بعض السباع يتداوى من جراحة إن أصابته ببعض العقاقير فيبرأ وبعض الطير يحتقن من الحصر يصيبه بماء البحر فيسلم وأشباه هذا كثير ولعلك تشكك في هذا النبات النابت في الصحاري والبراري حيث لا أنس ولا أنيس فتظن أنه فضل لا حاجة إليه وليس كذلك بل هو طعم لهذه الوحوش وحبه علف للطير وعوده وأفنانه حطب فيستعمله الناس وفيه بعد أشياء تعالج بها الأبدان وأخرى تدبغ بها الجلود وأخرى تصبغ الأمتعة وأشباه هذا من المصالح ألست تعلم أن من أخس النبات وأحقره هذا البردي وما أشبهها ففيها مع هذا من ضروب المنافع فقد يتخذ من البردي القراطيس التي يحتاج إليها الملوك والسوقة والحصر التي يستعملها كل صنف من الناس ويعمل منه الغلف التي يوقى بها الأواني ويجعل حشوا بين الظروف في الأسفاط لكيلا تعيب وتنكسر وأشباه هذا من المنافع

فاعتبر بما ترى من ضروب المآرب في صغير الخلق وكبيره وبما له قيمة

__________________

(١) سكبينج او سكنبيج هو شجرة بفارس، ويورد الاطباء الاقدمون اوصافا طبية كثيرة من السكنبيج ويذكرون انه يذهب عدة أمراض لا مجال لذكرها هنا.

١٦٤

وما لا قيمة له وأخس من هذا وأحقره الزبل والعذرة التي اجتمعت فيها الخساسة والنجاسة معا وموقعها من الزروع والبقول والخضر أجمع الموقع الذي لا يعدله شيء حتى أن كل شيء من الخضر لا يصلح ولا يزكو إلا بالزبل والسماد الذي يستقذره الناس ويكرهون الدنو منه.

واعلم أنه ليس منزلة الشيء على حسب قيمته بل هما قيمتان مختلفتان بسوقين وربما كان الخسيس في سوق المكتسب نفيسا في سوق العلم فلا تستصغر العبرة في الشيء لصغر قيمته فلو فطن طالبوا الكيمياء لما في العذرة لاشتروها بأنفس الأثمان وغالوا بها.

قال المفضل: وحان وقت الزوال، فقام مولاي إلى الصلاة وقال بكر إلي غدا إن شاء الله تعالى فانصرفت وقد تضاعف سروري بما عرفنيه مبتهجا بما آتانيه حامدا لله على ما منحنيه فبت ليلتي مسروراً.

١٦٥

المجلس الرابع

قال المفضل: فلما كان اليوم الرابع بكرت إلى مولاي فاستؤذن لي، فأمرني بالجلوس فجلست، فقالعليه‌السلام : منا التحميد والتسبيح والتعظيم والتقديس، للاسم الأقدم، والنور الأعظم، العلي العلام،ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ، ومنشئ الأنام، ومفني العوالم والدهور، وصاحب السر المستور، والغيب المحظور، والاسم المخزون، والعلم المكنون، وصلواته وبركاته على مبلغ وحيه، ومؤدي رسالته، الذي بعثهبَشِيراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ ،وَسِراجاً مُنِيراً ،لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ، فعليه وعلى آله من بارئه الصلوات الطيبات، والتحيات الزاكيات الناميات، وعليه وعليهم السلام والرحمة والبركات في الماضين والغابرين، أبد الآبدين ودهر الداهرين، وهم أهله ومستحقوه.

( الموت والفناء وانتقاد الجهال وجواب ذلك)

قد شرحت لك يا مفضل من الأدلة على الخلق، والشواهد على صواب التدبير والعمد في الإنسان والحيوان والنبات والشجر وغير ذلك. ما فيه عبرة لمن اعتبر، وأنا أشرح لك الآن الآفات الحادثة في بعض الأزمان التي اتخذها أناس من الجهال ذريعة إلى جحود الخلق والخالق والعمد والتدبير، وما أنكرت المعطلة والمنانية من المكاره والمصائب، وما

١٦٦

أنكروه من الموت والفناء، وما قاله أصحاب الطبائع، ومن زعم أن كون الأشياء بالعرض والاتفاق، ليتسع ذلك القول في الرد عليهمقاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ .

( الآفات ونظر الجهال إليها والجواب على ذلك)

اتخذ أناس من الجهال هذه الآفات الحادثة في بعض الأزمان كمثل الوباء واليرقان والبرد(١) والجراد ذريعة إلى جحود الخالق والتدبير والخلق فيقال في جواب ذلك أنه إن لم يكن خالق ومدبر فلم لا يكون ما هو أكثر من هذا وأفظع فمن ذلك أن تسقط السماء على الأرض وتهوي الأرض فتذهب سفلا وتتخلف الشمس عن الطلوع أصلا وتجف الأنهار والعيون حتى لا يوجد ماء للشفة وتركد الريح حتى تخم الأشياء وتفسد ويفيض ماء البحر على الأرض فيغرقها ثم هذه الآفات التي ذكرناها من الوباء والجراد وما أشبه ذلك ما بالها لا تدوم وتمتد حتى تجتاح كل ما في العالم بل تحدث في الأحايين ثم لا تلبث أن ترفع أفلا ترى أن العالم يصان ويحفظ من تلك الأحداث الجليلة التي لو حدث عليه شيء منها كان فيه بواره ويلذع(٢) أحيانا بهذه الآفات اليسيرة لتأديب الناس وتقويمهم ثم لا تدوم هذه الآفات بل تكشف

__________________

(١) ذهب ذكر اليرقان والبرد سابقا.

(٢) يقال لذعته النار اي احرقته ولذعه بلسانه اي اوجعه بكلام. وفي بعض النسخ باهمال الأول واعجام الثاني من لدغ العقرب.

١٦٧

عنهم عند القنوط منهم فيكون وقوعها بهم موعظة وكشفها عنهم رحمة وقد أنكرت المنانية من المكاره والمصائب التي تصيب الناس فكلاهما يقول إن كان للعالم خالق رءوف رحيم فلم تحدث فيه هذه الأمور المكروهة والقائل بهذا القول يذهب إلى أنه ينبغي أن يكون عيش الإنسان في هذه الدنيا صافيا من كل كدر ولو كان هكذا كان الإنسان يخرج من الأشر(١) والعتو(٢) إلى ما لا يصلح في دين ولا دنيا كالذي ترى كثيرا من المترفين ومن نشأ في الجدة والأمن يخرجون إليه حتى أن أحدهم ينسى أنه بشر وأنه مربوب أو أن ضررا يمسه أو أن مكروها ينزل به أو أنه يجب عليه أن يرحم ضعيفا أو يواسي فقيرا أو يرثي لمبتلى أو يتحنن على ضعيف أو يتعطف على مكروب فإذا عضته المكاره ووجد مضضها اتعظ وأبصر كثيرا مما كان جهله وغفل عنه ورجع إلى كثير مما كان يجب عليه.

والمنكرون لهذه الأمور المؤذية بمنزلة الصبيان الذين يذمون الأدوية المرة البشعة ويتسخطون من المنع من الأطعمة الضارة ويتكرهون الأدب والعمل ويحبون أن يتفرغوا للهو والبطالة وينالوا كل مطعم ومشرب ولا يعرفون ما تؤديهم إليه البطالة من سوء النشو والعادة، وما تعقبهم الأطعمة اللذيذة الضارة من الأدواء والأسقام وما لهم في الأدب من الصلاح وفي الأدوية من المنفعة وإن شاب ذلك بعض الكراهة،

__________________

(١) الاشر: البطر.

(٢) العتو - بالضم - الاستكبار وتجاوز الحد.

١٦٨

فإن قالوا: فلم لم يكن الإنسان معصوما من المساوي، حتى لا يحتاج إلى أن تلذعه هذه المكاره قيل: إذا كان يكون غير محمود على حسنه يأتيها، ولا مستحقا للثواب عليها. فإن قالوا: وما كان يضره أن لا يكون محمودا على الحسنات مستحقا للثواب، بعد أن يصير إلى غاية النعيم واللذات؟ قيل لهم: اعرضوا على امرئ صحيح الجسم والعقل، أن يجلس منعما، ويكفى كلما يحتاج إليه بلا سعي ولا استحقاق، فانظروا هل تقبل نفسه ذلك بل ستجدونه بالقليل مما يناله بالسعي والحركة أشد اغتباطا وسرورا منه بالكثير مما يناله بغير الاستحقاق وكذلك نعيم الآخرة أيضا يكمل لأهله بأن ينالوه بالسعي فيه والاستحقاق له فالنعمة على الإنسان في هذا الباب مضاعفة، فإن أعد له الثواب الجزيل على سعيه في هذه الدنيا وجعل له السبيل إلى أن ينال ذلك بسعي واستحقاق فيكمل له السرور والاغتباط بما يناله منه فإن قالوا: أوليس قد يكون من الناس من يركن إلى ما نال من خير، وإن كان لا يستحقه، فما الحجة في منع من رضي أن ينال نعيم الآخرة على هذه الجملة؟ قيل لهم: إن هذا باب لو صح للناس لخرجوا إلى غاية الكلب(١) والضراوة على الفواحش، وانتهاك المحارم، فمن كان يكف نفسه عن فاحشة أو يتحمل المشقة في باب من أبواب البر لوثق بأنه

__________________

(١) في الأصل المطبوع الكلبة. ولا معنى للفظ هنا، والصحيح ما ذكرناه اذ الكلب - بفتحتين - هو داء يشبه الجنون يأخذ الكلاب فتعض الناس فتكلب الناس أيضا إذا تمنعوا عن استعمال لقاح الطبيب الفرنسي المعروف باستور.

١٦٩

صائر إلى النعيم لا محالة أو من كان يأمن على نفسه وأهله وماله من الناس لو لم يخف الحساب والعقاب فكان ضرر هذا الباب سينال الناس في هذه الدنيا قبل الآخرة فيكون في ذلك تعطيل العدل والحكمة معا وموضع للطعن على التدبير بخلاف الصواب ووضع الأمور في غير مواضعها.

( لما ذا تصيب الآفات جميع الناس وما الحجة في ذلك)

وقد يتعلق هؤلاء بالآفات التي تصيب الناس فتعم البر والفاجر أو يبتلى بها البر ويسلم الفاجر منها فقالوا كيف يجوز هذا في تدبير الحكيم وما الحجة فيه فيقال لهم إن هذه الآفات وإن كانت تنال الصالح والطالح جميعا فإن الله عز وجل جعل ذلك صلاحا للصنفين كليهما أما الصالحون فإن الذي يصيبهم من هذا يزدهم نعم ربهم عندهم في سالف أيامهم فيحدوهم ذلك على الشكر والصبر وأما الطالحون فإن مثل هذا إذا نالهم كسر شرتهم وردعهم عن المعاصي والفواحش وكذلك يجعل لمن سلم منهم من الصنفين صلاحا في ذلك أما الأبرار فإنهم يغتبطون بما هم عليه من البر والصلاح ويزدادون فيه رغبة وبصيرة وأما الفجار فإنهم يعرفون رأفة ربهم وتطوله عليهم بالسلامة من غير استحقاق فيحضهم ذلك على الرأفة بالناس والصفح عمن أساء إليهم ولعل قائلا يقول إن هذه الآفات التي تصيب الناس في أموالهم فما قولك فيما يبتلون به في أبدانهم فيكون فيه تلفهم كمثل الحرق والغرق والسيل والخسف؟ فيقال له إن الله جعل في هذا أيضا صلاحا للصنفين جميعا أما الأبرار فلما لهم في مفارقة هذه الدنيا من الراحة

١٧٠

من تكاليفها والنجاة من مكارهها وأما الفجار فلما لهم في ذلك من تمحيص أوزارهم وحبسهم عن الازدياد منها وجملة القول أن الخالق تعالى ذكره بحكمته وقدرته قد يصرف هذه الأمور كلها إلى الخير والمنفعة فكما أنه إذا قطعت الريح شجرة أو قطعت نخلة أخذها الصانع الرفيق واستعملها في ضروب من المنافع فكذلك يفعل المدبر الحكيم في الآفات التي تنزل بالناس في أبدانهم وأموالهم فيصيرها جميعا إلى الخير والمنفعة فإن قال ولم تحدث على الناس قيل له: لكيلا يركنوا إلى المعاصي من طول السلامة فيبالغ الفاجر في ركوب المعاصي ويفتر الصالح عن الاجتهاد في البر فإن هذين الأمرين جميعا يغلبان على الناس في حال الخفض والدعة وهذه الحوادث التي تحدث عليهم تردعهم وتنبههم على ما فيه رشدهم فلو خلوا منها لغلوا في الطغيان والمعصية كما غلا الناس في أول الزمان حتى وجب عليهم البوار بالطوفان وتطهير الأرض منهم.

( الموت والفناء وانتقاد الجهال وجواب ذلك)

ومما ينتقده الجاحدون للعمد والتقدير الموت والفناء فإنهم يذهبون إلى أنه ينبغي أن يكون الناس مخلدين في هذه الدنيا مبرءين من هذه الآفات فينبغي أن يساق هذا الأمر إلى غايته فينظر ما محصوله.

أفرأيت لو كان كل من دخل العالم ويدخله يبقون ولا يموت أحد منهم ألم تكن الأرض تضيق بهم حتى تعوزهم المساكن والمزارع والمعايش فإنهم والموت يفنيهم أولا فأولا يتنافسون في المساكن

١٧١

والمزارع حتى تنشب بينهم في ذلك الحروب وتسفك فيهم الدماء فكيف كانت تكون حالهم لو كانوا يولدون ولا يموتون وكان يغلب عليهم الحرص والشره وقساوة القلوب فلو وثقوا بأنهم لا يموتون لما قنع الواحد منهم بشيء يناله ولا أفرج لأحد عن شيء يسأله ولا سلا عن شيء مما يحدث عليه ثم كانوا يملون الحياة وكل شيء من أمور الدنيا كما قد يمل الحياة من طال عمره حتى يتمنى الموت والراحة من الدنيا فإن قالوا: إنه كان ينبغي أنه يرفع عنهم المكاره والأوصاب حتى لا يتمنوا الموت ولا يشتاقوا إليه فقد وصفنا ما كان يخرجهم إليه من العتو والأشر الحامل لهم على ما فيه فساد الدنيا والدين وإن قالوا إنه كان ينبغي أن لا يتوالدوا كيلا تضيق عنهم المساكن والمعايش قيل لهم إذا كان يحرم أكثر هذا الخلق دخول العالم والاستمتاع بنعم الله تعالى ومواهبه في الدارين جميعا إذا لم يدخل العالم إلا قرن(١) واحد لا يتوالدون ولا يتناسلون فإن قالوا إنه كان ينبغي أن يخلق في ذلك القرن الواحد من الناس مثل ما خلق ويخلق إلى انقضاء العالم يقال لهم رجع الأمر إلى ما ذكرنا من ضيق المساكن والمعايش عنهم ثم لو كانوا لا يتوالدون ولا يتناسلون لذهب موضع الأنس بالقرابات وذوي الأرحام والانتصار بهم عند الشدائد وموضع تربية الأولاد والسرور بهم ففي هذا دليل على أن كل ما تذهب إليه الأوهام سوى ما جرى به التدبير خطأ وسفه من الرأي والقول.

__________________

(١) المراد بالقرن هنا أهل زمان واحد والجمع قرون.

١٧٢

( الطعن على التدبير من جهة أخرى والجواب عليه)

ولعل طاعنا يطعن على التدبير من جهة أخرى فيقول كيف يكون هاهنا تدبير ونحن نرى الناس في هذه الدنيا من عز بز فالقوي يظلم ويغصب والضعيف يظلم ويسالم الخسف والصالح فقير مبتلى والفاسق معافى موسع عليه ومن ركب فاحشة أو انتهك محرما لم يعاجل بالعقوبة فلو كان في العالم تدبير لجرت الأمور على القياس القائم فكان الصالح هو المرزوق والطالح هو المحروم وكان القوي يمنع من ظلم الضعيف والمنتهك للمحارم يعاجل بالعقوبة فيقال في جواب ذلك إن هذا لو كان هكذا لذهب موضع الإحسان الذي فضل به الإنسان على غيره من الخلق وحمل النفس على البر والعمل الصالح احتسابا للثواب وثقة بما وعد الله عنه ولصار الناس بمنزلة الدواب التي تساس بالعصا والعلف ويلمع لها بكل واحد منهما ساعة فساعة فتستقيم على ذلك ولم يكن أحد يعمل على يقين بثواب أو عقاب حتى كان هذا يخرجهم عن حد الإنسية إلى حد البهائم ثم لا يعرف ما غاب ولا يعمل إلا على الحاضر من نعيم الدنيا وكان يحدث من هذا أيضا أن يكون الصالح إنما يعمل للرزق والسعة في هذه الدنيا ويكون الممتنع من الظلم والفواحش إنما يكف عن ذلك لترقب عقوبة تنزل به من ساعته حتى تكون أفعال الناس كلها تجري على الحاضر لا يشوبه شيء من اليقين بما عند الله ولا يستحقون ثواب الآخرة والنعيم الدائم فيها مع أن هذه الأمور التي ذكرها الطاعن من

١٧٣

الغنى والفقر والعافية والبلاء ليست بجارية على خلاف قياسه، بل قد تجري على ذلك أحيانا والأمر المفهوم.

فقد ترى كثيرا من الصالحين يرزقون المال لضروب من التدبير وكيلا يسبق إلى قلوب الناس أن الكفار هم المرزوقون، والأبرار هم المحرومون فيؤثرون الفسق على الصلاح وترى كثيرا من الفساق يعاجلون بالعقوبة إذا تفاقم طغيانهم وعظم ضررهم على الناس وعلى أنفسهم كما عوجل فرعون(١) بالغرق وبختنصر(٢) بالتيه وبلبيس(٣) بالقتل وإن أمهل بعض الأشرار بالعقوبة وأخر بعض الأخيار بالثواب إلى الدار الآخرة لأسباب تخفى على العباد لم يكن هذا مما يبطل التدبير فإن مثل هذا قد يكون من ملوك الأرض ولا يبطل تدبيرهم بل يكون تأخيرهم ما أخروه وتعجيلهم ما عجلوه داخلا في صواب الرأي والتدبير وإذا كانت

__________________

(١) قصة غرق فرعون في البحر معروفة في الكتب المقدّسة، والقرآن الكريم يشير إليها في أكثر من موضع واحد.

(٢) او نبوخدنصر كان أعظم ملوك الكلدانيين، وملك في بابل من سنة ٦٠٤ الى سنة ٥٦١ ق م وقد وصف بالقوة والبأس وعد من أبطال التاريخ في الشرق، وجاء ذكره في التوراة كثيرا لأنّه عاقب الأمم الغربية عقابا شديدا، وهاجم اليهود - سكان مملكة يهوذا الصغيرة - هجوما صاعقا بعد ان أجلى أكثرهم الى بابل ودمر عاصمتهم اورشليم تدميرا شديدا.

(٣) بلبيس كذا في الأصل وهو غير معروف عند المؤرخين، ولم نجده فيما بين ايدينا من الكتب.

١٧٤

الشواهد تشهد وقياسهم يوجب أن للأشياء خالقا حكيما قادرا فما يمنعه أن يدبر خلقه فإنه لا يصلح في قياسهم أن يكون الصانع يهمل صنعته إلا بإحدى ثلاث خلال إما عجز وإما جهل وإما شرارة وكل هذا محال في صنعته عز وجل وتعالى ذكره وذلك أن العاجز لا يستطيع أن يأتي بهذه الخلائق الجليلة العجيبة والجاهل لا يهتدي لما فيها من الصواب والحكمة والشرير لا يتطاول لخلقها وإنشائها وإذا كان هذا هكذا وجب أن يكون الخالق لهذه الخلائق يدبرها لا محالة وإن كان لا يدرك كنه ذلك التدبير ومخارجه فإن كثيرا من تدبير الملوك لا تفهمه العامة ولا تعرف أسبابه لأنها لا تعرف دخيلة أمر الملوك وأسرارهم فإذا عرف سببه وجد قائما على الصواب والشاهد المحنة ولو شككت في بعض الأدوية والأطعمة فيتبين لك من جهتين أو ثلاث أنه حار أو بارد ألم تكن ستقضي عليه بذلك وتنفي الشك فيه عن نفسك فما بال هؤلاء الجهلة لا يقضون على العالم بالخلق والتدبير مع هذه الشواهد الكثيرة وأكثر منها ما لا يحصى كثرة ولو كان نصف العالم وما فيه مشكلا صوابه لما كان من حزم الرأي وسمت(١) الأدب أن يقضى على العالم بالإهمال لأنه كان في النصف الآخر وما يظهر فيه من الصواب وإتقان ما يردع الوهم عن التسرع إلى هذه القضية فكيف وكل ما فيه إذا فتش وجد على غاية الصواب حتى لا يخطر بالبال شيء إلا وجد ما عليه الخلقة أصح وأصوب منه.

__________________

(١) السمت - بالفتح - الطريق والمحجة والجمع سموت.

١٧٥

( اسم هذا العالم بلسان اليونانية)

واعلم يا مفضل أن اسم هذا العالم بلسان اليونانية الجاري المعروف عندهم قوسموس وتفسيره الزينة وكذلك سمته الفلاسفة ومن ادعى الحكمة أفكانوا يسمونه بهذا الاسم إلا لما رأوا فيه من التقدير والنظام فلم يرضوا أن يسموه تقديرا ونظاما حتى سموه زينة ليخبروا أنه مع ما هو عليه من الصواب والإتقان على غاية الحسن والبهاء.

( عمي ماني عن دلائل الحكمة وادعاؤه علم الأسرار)

اعجب يا مفضل من قوم لا يقضون على صناعة الطب بالخطإ وهم يرون الطبيب يخطئ ويقضون على العالم بالإهمال ولا يرون شيئا منه مهملا بل اعجب من أخلاق من ادعى الحكمة حتى جهلوا مواضعها في الخلق فأرسلوا ألسنتهم بالذم للخالق جل وعلا بل العجب من المخذول ماني حين ادعى علم الأسرار وعمي عن دلائل الحكمة في الخلق حتى نسبه إلى الخطإ ونسب خالقه إلى الجهل تبارك الحكيم الكريم.

( انتقاد المعطلة فيما راموا أن يدركوا بالحس ما لا يدرك بالعقل)

وأعجب منهم جميعا المعطلة الذين راموا أن يدركوا بالحس ما لا يدرك بالعقل فلما أعوزهم ذلك خرجوا إلى الجحود والتكذيب فقالوا ولم لا يدرك بالعقل قيل لأنه فوق مرتبة العقل كما لا يدرك البصر ما هو

١٧٦

فوق مرتبته فإنك لو رأيت حجرا يرتفع في الهواء علمت أن راميا رمى به فليس هذا العلم من قبل البصر بل من قبل العقل لأن العقل هو الذي يميزه فيعلم أن الحجر لا يذهب علوا من تلقاء نفسه أفلا ترى كيف وقف البصر على حده فلم يتجاوزه فكذلك يقف العقل على حده من معرفة الخالق فلا يعدوه ولكن يعقله بعقل أقر أن فيه نفسا ولم يعاينها ولم يدركها بحاسة من الحواس.

( معرفة العقل للخالق معرفة إقرار لا معرفة إحاطة)

وعلى حسب هذا أيضا نقول إن العقل يعرف الخالق من جهة توجب عليه الإقرار ولا يعرفه بما يوجب له الإحاطة بصفته فإن قالوا فكيف يكلف العبد الضعيف معرفته بالعقل اللطيف ولا يحيط به قيل لهم إنما كلف العباد من ذلك ما في طاقتهم أن يبلغوه وهو أن يوقنوا به ويقفوا عند أمره ونهيه ولم يكلفوا الإحاطة بصفته كما أن الملك لا يكلف رعيته أن يعلموا أطويل هو أم قصير وأبيض هو أم أسمر وإنما يكلفهم الإذعان لسلطانه والانتهاء إلى أمره ألا ترى أن رجلا لو أتى باب الملك فقال اعرض علي نفسك حتى أتقصى معرفتك وإلا لم أسمع لك كان قد أحل نفسه بالعقوبة فكذا القائل إنه لا يقر بالخالق سبحانه حتى يحيط بكنهه متعرضا لسخطه فإن قالوا أوليس قد نصفه فنقول هو العزيز الحكيم الجواد الكريم قيل لهم كل هذه صفات إقرار وليست صفات إحاطة فإنا نعلم أنه حكيم ولا نعلم بكنه ذلك منه وكذلك

١٧٧

قدير وجواد وسائر صفاته كما قد نرى السماء فلا ندري ما جوهرها ونرى البحر ولا ندري أين منتهاه بل فوق هذا المثال بما لا نهاية له ولأن الأمثال كلها تقصر عنه ولكنها تقود العقل إلى معرفته فإن قالوا ولم يختلف فيه قيل لهم لقصر الأوهام عن مدى عظمته وتعديها أقدارها في طلب معرفته وأنها تروم الإحاطة به وهي تعجز عن ذلك وما دونه.

( الشمس واختلاف الفلاسفة في وضعها وشكلها ومقدارها)

فمن ذلك هذه الشمس التي تراها تطلع على العالم ولا يوقف على حقيقة أمرها ولذلك كثرت الأقاويل فيها، واختلفت الفلاسفة المذكورون في وصفها، فقال بعضهم هو فلك أجوف مملوء ناراً، له فم يجيش بهذا الوهج والشعاع وقال آخرون هو سحابة وقال آخرون هو جسم زجاجي، يقل نارية في العالم، ويرسل عليه شعاعها وقال آخرون هو صفو لطيف ينعقد ماء البحر وقال آخرون هو أجزاء كثيرة مجتمعة من النار وقال آخرون هو من جوهر خامس سوى الجواهر الأربعة ثم اختلفوا في شكلها فقال بعضهم هي بمنزلة صفيحة عريضة وقال آخرون هي كالكرة المدحرجة وكذلك اختلفوا في مقدارها فزعم بعضهم أنها مثل الأرض سواء وقال آخرون بل هي أقل من ذلك وقال آخرون بل هي أعظم من الجزيرة العظيمة وقال أصحاب الهندسة هي أضعاف الأرض مائة وسبعين مرة ففي اختلاف

١٧٨

هذه الأقاويل منهم في الشمس دليل على أنهم لم يقفوا على الحقيقة من أمرها فإذا كانت هذه الشمس التي يقع عليها البصر ويدركها الحس قد عجزت العقول عن الوقوف على حقيقتها فكيف ما لطف عن الحس واستتر عن الوهم فإن قالوا ولم استتر قيل لهم لم يستتر بحيلة يخلص إليها كمن يحتجب من الناس بالأبواب والستور وإنما معنى قولنا استتر أنه لطف عن مدى ما تبلغه الأوهام كما لطفت النفس وهي خلق من خلقه وارتفعت عن إدراكها بالنظر فإن قالوا ولم لطف تعالى عن ذلك علوا كبيرا كان ذلك خطأ من القول لأنه لا يليق بالذي هو( خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) إلا أن يكون مباينا لكل شيء متعاليا عن كل شيء سبحانه وتعالى.

( الحق الذي تطلب معرفته من الأشياء أربعة أوجه وتفصيل ذلك)

فإن قالوا: كيف يعقل أن يكون مباينا لكل شيء متعاليا عن كل شيء؟ قيل لهم: الحق الذي تطلب معرفته من الأشياء هو أربعة أوجه فأولها أن ينظر أموجود هو أم ليس بموجود والثاني أن يعرف ما هو في ذاته وجوهره والثالث أن يعرف كيف هو وما صفته والرابع أن يعلم لما ذا هو ولأي علة فليس من هذه الوجوه شيء يمكن للمخلوق أن يعرفه من الخالق حق معرفته غير أنه موجود فقط فإذا قلنا وكيف وما هو فممتنع علم كنهه وكمال المعرفة به وأما لما ذا هو فساقط في صفة الخالق لأنه جل ثناؤه علة كل شيء وليس شيء بعلة له ثم ليس

١٧٩

علم الإنسان بأنه موجود يوجب له أن يعلم ما هو وكيف هو كما أن علمه بوجود النفس لا يوجب أن يعلم ما هي وكيف هي وكذلك الأمور الروحانية اللطيفة فإن قالوا فأنتم الآن تصفون من قصور العلم عنه وصفا حتى كأنه غير معلوم قيل لهم هو كذلك من جهة إذا رام العقل معرفة كنهه والإحاطة به وهو من جهة أخرى أقرب من كل قريب إذا استدل عليه بالدلائل الشافية فهو من جهة كالواضح لا يخفى على أحد وهو من جهة كالغامض لا يدركه أحد وكذلك العقل أيضا ظاهر بشواهده ومستور بذاته.

( أصحاب الطبائع ومناقشة أقوالهم)

فأما ( أصحاب الطبائع ) فقالوا إن الطبيعة لا تفعل شيئا لغير معنى ولا تتجاوز عما فيه تمام الشيء في طبيعته وزعموا أن الحكمة تشهد بذلك فقيل لهم فمن أعطى الطبيعة هذه الحكمة والوقوف على حدود الأشياء بلا مجاوزة لها وهذا قد تعجز عنه العقول بعد طول التجارب فإن أوجبوا للطبيعة الحكمة والقدرة على مثل هذه الأفعال فقد أقروا بما أنكروا لأن هذه في صفات الخالق وإن أنكروا أن يكون هذا للطبيعة فهذا وجه الخلق يهتف بأن الفعل للخالق الحكيم وقد كان من القدماء طائفة أنكروا العمد والتدبير في الأشياء وزعموا أن كونها بالعرض والاتفاق وكان مما احتجوا به هذه الآيات التي تكون على غير مجرى العرف والعادة كإنسان يولد ناقصا أو زائدا إصبعا أو يكون المولود مشوها مبدل الخلق

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

أنّ المراد بهذا القرين الملك الموكّل به فإن كان هو السائق كان معنى قوله:( هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ ) هذا الإنسان الّذي هو عندي حاضر، و إن كان هو الشهيد كان المعنى هذا - و هو يشير إلى أعماله الّتي حمل الشهادة عليها - ما عندي من أعماله حاضر مهيّأ.

و قيل: المراد بالقرين الشيطان الّذي يصاحبه و يغويه، و معنى كلامه على هذا هذا الإنسان هو الّذي تولّيت أمره و ملكته حاضر مهيّأ لدخول جهنّم.

قوله تعالى: ( أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ ) الكفّار اسم مبالغة من الكفر، و العنيد المعاند للحقّ المستمرّ على عناده، و المعتدي المتجاوز عن الحدّ المتخطّئ للحقّ، و المريب الشاكّ أو المشكّك في أمر البعث.

و بين هذه الصفات المعدودة شبه الاستلزام فإنّ كثرة الكفر برد الإنسان كلّ حقّ يواجهه تنتج العناد مع الحقّ و الإصرار عليه، و الإصرار على العناد يوجب المنع عن أكثر الخيرات إذ لا خير إلّا في الحقّ و من ناحيته، و هو يستلزم الخروج عن حدّ الحقّ إلى الباطل و تجاوز الإنسان عن حدّ العبوديّة إلى الاستكبار و الطغيان و يستلزم تشكيك الناس في ما يرومونه من دين الحقّ.

و الخطاب في الآية منه تعالى، و ظاهر سياق الآيات أنّ المخاطب به هما الملكان الموكّلان السائق و الشهيد، و احتمل بعضهم أن يكون الخطاب إلى ملكين من ملائكة النار و خزنتها.

قوله تعالى: ( الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ ) العدول في ذكر صفة الشرك عن الإيجاز إلى الإطناب حيث لم يقل: مشرك و قال:( الَّذِي جَعَلَ ) إلخ، للإشارة إلى أنّ هذه الصفة أعظم المعاصي و اُمّ الجرائم الّتي أتى بها و الصفات الرذيلة الّتي عدّت له من الكفر و العناد و منع الخير و الاعتداء و الإرابة.

و قوله:( فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ ) تأكيد لما تقدّم من الأمر بقوله:( أَلْقِيا ) إلخ، و يلوّح إلى تشديد الأمر من جهة الشرك، و لذا عقّبه بقوله:( فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ ) .

قوله تعالى: ( قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَ لكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) المراد بهذا

٣٨١

القرين قرينه من الشياطين بلا شكّ، و قد تكرّر في كلامه تعالى ذكر القرين من الشيطان و هو الّذي يلازم الإنسان و يوحي إليه ما يوحي من الغواية و الضلال، قال تعالى:( وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ) الزخرف: ٣٨.

فقوله:( قالَ قَرِينُهُ ) أي شيطانه الّذي يصاحبه و يغويه( رَبَّنا ) أضاف الربّ إلى نفسه و الإنسان الّذي هو قرينه لأنّهما في مقام الاختصام( ما أَطْغَيْتُهُ ) أي ما أجبرته على الطغيان( وَ لكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) أي متهيّأ مستعدّاً لقبول ما ألقيته إليه تلقّاه باختياره فما أنا بمسؤل عن ذنبه في طغيانه.

و قد تقدّم في سورة الصافّات تفصيل اختصام الظالمين و أزواجهم في قوله:( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْواجَهُمْ ) الصافّات: ٢٢، إلى آخر الآيات.

قوله تعالى: ( قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ) القائل هو الله سبحانه يخاطبهم و كأنّه خطاب واحد لعامّة المشركين الطاغين و قرنائهم ينحلّ إلى خطابات جزئيّة لكلّ إنسان و قرينه بمثل قولنا: لا تختصما لديّ، إلخ.

و قوله:( وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ) حال من فاعل( لا تَخْتَصِمُوا ) و( بِالْوَعِيدِ ) مفعول( قَدَّمْتُ ) و الباء للوصلة.

و المعنى: لا تختصموا لديّ فلا نفع لكم فيه بعد ما أبلغتكم وعيدي لمن أشرك و ظلم، و الوعيد الّذي قدّمه إليهم مثل قوله تعالى لإبليس:( اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً ) إسراء: ٦٣، و قوله:( فَالْحَقُّ وَ الْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ) ص: ٨٥. أو قوله:( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ ) السجدة: ١٣.

قوله تعالى: ( ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَ ما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) الّذي يعطيه السياق أن تكون الآية استئنافاً بمنزلة الجواب عن سؤال مقدّر كأنّ قائلاً يقول: هب إنّك قد قدّمت فهلّا غيّرته و عفوت؟ فاُجيب بقوله:( ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ) و المراد بالقول

٣٨٢

مطلق القضاء المحتوم الّذي قضى به الله، و قد قضى لمن مات على الكفر بدخول جهنّم و ينطبق بحسب المورد على الوعيد الّذي أوعده الله لإبليس و من تبعه.

فقد بان أنّ الجملة مستأنفة، و المراد بتبديل القول تغيير القضاء المحتوم، و( لَدَيَّ ) متعلّق بالتبديل، هذا ما يعطيه السياق، و قد ذكر بعضهم في هذه الجملة و إعراب مفرداتها و معنى تبديل القول وجوهاً و احتمالات كثيرة بعيدة عن الفهم لا تزيد في الكلام إلّا تعقيداً فأغمضنا عن إيرادها.

و قوله:( وَ ما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) متمّم لمعنى الجملة السابقة أي لا يبدّل قولي فأنتم معذّبون لا محالة و لست أظلم عبيدي في عذابهم على طبق ما قدّمت إليهم بالوعيد لأنّهم مستحقّون لذلك بعد إتمام الحجّة.

و من وجه آخر: لا ظلم في مجازاتهم بالعذاب فإنّهم إنّما يجزون بأعمالهم الّتي قدّموها في أعمالهم ردّت إليهم كما هو ظاهر قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) التحريم: ٧.

و ما في قوله:( وَ ما أَنَا بِظَلَّامٍ ) من نفي الظلم الكثير لا يستوجب جواز الظلم اليسير فإنّه تعالى لو ظلم في شي‏ء من الجزاء كان ظلماً كثيراً لكثرة أمثاله فإنّ الخطاب لكلّ إنسان مشرك ظالم مع قرينه، و هم كثيرون فهو سبحانه لو ظلم في شي‏ء من الجزاء لكان ظلاماً.

قوله تعالى: ( يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) خطاب منه تعالى لجهنّم و جواب منها، و قد اختلف في حقيقة هذا التكليم و التكلّم فقيل: الخطاب و الجواب بلسان الحال و يردّه أنّه لو كان بلسان الحال لم يختصّ به تعالى بل كان لكلّ من يشاهدها على تلك الحال أن يسألها عن امتلائها فتجيبه بقولها: هل من مزيد؟ فليس لتخصيص الخطاب به تعالى نكتة ظاهرة.

و قيل: حقيقة الخطاب لخزنة جهنّم و الجواب منهم و إن كانا نسباً إلى جهنّم و فيه أنّه خلاف الظاهر لا يصار إليه إلّا بدليل.

و قيل: الخطاب و الجواب على ظاهره، و لا دليل يدلّ على عدم الجواز، و قد

٣٨٣

أخبر الله سبحانه عن تكليم الأيدي و الأرجل و الجلود و غيرها، و هو الوجه و قد تقدّم في تفسير سورة فصّلت أنّ العلم و الشعور سار في جميع الموجودات.

و قوله:( هَلِ امْتَلَأْتِ ) استفهام تقريريّ، و كذا قوله حكاية عنها:( هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) و لعلّ إيراد هذا السؤال و الجواب للإشارة إلى أنّ قهره و عذابه لا يقصر عن الإحاطة بالمجرمين و إيفاء ما يستحقّونه من الجزاء قال تعالى:( وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ) التوبة: ٤٩.

و استشكل بأنّه مناف لصريح قوله تعالى:( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ ) الآية و اُجيب بأنّ الامتلاء قد يراد به أنّه لا يخلو شي‏ء من طبقاتها من السكنة كما يقال: البلد ممتلئ بأهله. على أنّه يمكن أن يكون هذا القول منها قبل دخول جميع أهل النار فيها.

و قيل: الاستفهام في قوله:( هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) للإنكار و المعنى: لا مزيد أي لا مكان فيّ يزيد على من اُلقي فيّ من المجرمين فقد امتلأت فيكون إشارة إلى ما قضى به في قوله:( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ ) السجدة: ١٣، و قوله:( هَلِ امْتَلَأْتِ ) في معنى أن يقال:( حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ ) ، و قوله:( هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) تقرير و تصديق له.

و ربّما أيّد هذا الوجه قوله تعالى قبل:( ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ) على تقدير أن يراد بالقول قوله تعالى:( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ ) .

قوله تعالى: ( وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ) شروع في وصف حال المتّقين يوم القيامة، و الإزلاف التقريب، و( غَيْرَ بَعِيدٍ ) على ما قيل صفة لظرف محذوف و التقدير في مكان غير بعيد.

و المعنى: و قرّبت الجنّة يومئذ للمتّقين حال كونها في مكان غير بعيد أي هي بين أيديهم لا تكلّف لهم في دخولها.

قوله تعالى: ( هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ) الإشارة إلى ما تقدّم من الثواب الموعود، و الأوّاب من الأوب بمعنى الرجوع، و المراد كثرة الرجوع إلى الله

٣٨٤

بالتوبة و الطاعة، و الحفيظ هو الّذي يدوم على حفظ ما عهد الله إليه من أن يترك فيضيع، و قوله:( لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ) خبر بعد خبر لهذا أو حال.

قوله تعالى: ( مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَ جاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ) بيان لكلّ أوّاب و الخشية بالغيب الخوف من عذاب الله حال كونه غائباً غير مرئيّ له، و الإنابة هو الرجوع، و المجي‏ء إلى ربّه بقلب منيب أن يتمّ عمره بالإنابة فيأتي ربّه بقلب متلبّس بالإنابة.

قوله تعالى: ( ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ) خطاب للمتّقين أي يقال لهم: ادخلوا بسلام أي بسلامة و أمن من كلّ مكروه و سوء، أو بسلام من الله و ملائكته عليكم، و قوله:( ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ) بشرى يبشّرون بها.

قوله تعالى: ( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ ) يمكن أن يكون( فِيها ) متعلّقاً بيشاؤن أو بمحذوف هو حال من الموصول، و التقدير: حال كون ما يشاؤن فيها أو من الضمير المحذوف الراجع إلى الموصول، و التقدير: ما يشاؤنه حال كونه فيها، و الأوّل أوفق لسعة كرامتهم عندالله سبحانه.

و المحصّل: أنّ أهل الجنّة و هم في الجنّة يملكون كلّ ما تعلّقت به مشيّتهم و إرادتهم كائناً ما كان من غير تقييد و استثناء فلهم كلّما أمكن أن يتعلّق به الإرادة و المشيّة لو تعلّقت.

و قوله:( وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ ) أي و لهم عندنا ما يزيد على ذلك - على ما يفيده السياق - و إذ كان لهم كلّ ما أمكن أن تتعلّق به مشيّتهم ممّا يتعلّق به علمهم من المطالب و المقاصد فالمزيد على ذلك أمر أعظم ممّا تتعلّق به مشيّتهم لكونه فوق ما يتعلّق به علمهم من الكمال.

و قيل: المراد بالمزيد الزيادة على ما يشاؤن من جنس ما يشتهون فإذا شاؤا رزقاً اُعطوا منه أكثر ممّا شاؤا و أفضل و أعجب كما ورد عن بعضهم أنّه تمرّ بهم السحابة فتقول: ما ذا تريدون فاُمطره عليكم فلا يريدون شيئاً إلّا أمطرته عليهم.

و فيه أنّه تقييد لإطلاق الكلام من غير مقيّد فإنّ ظاهر قوله:( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ

٣٨٥

فِيها ) أنّهم يملكون كلّ ما يمكنهم أن يشاؤا لا تملّكهم ما شاؤه بالفعل فالمزيد وراء ما يمكن أن تتعلّق به مشيّتهم.

و قيل: المراد أنّه يضاعف لهم الحسنة بعشر أمثالها و فيه ما في سابقه.

قوله تعالى: ( وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ) التنقيب السير، المحيص المحيد و المنجا.

و في الآية تذييل الاحتجاج بخلق الإنسان و العلم به و بيان سيره إلى الله بالتخويف و الإنذار نظير ما جرى عليه الكلام في صدر السورة من الاحتجاج على المعاد و تذييله بالتخويف و الإنذار في قوله:( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ أَصْحابُ الرَّسِّ وَ ثَمُودُ ) إلخ.

و المعنى: و كثيراً ما أهلكنا قبل هؤلاء المشركين من قرن هم أي أهل ذلك القرن أشدّ بطشاً منهم أي من هؤلاء المشركين فساروا ببطشهم في البلاد ففتحوها و تحكّموا عليها هل من محيد و منجا من إهلاك الله و عذابه؟.

قوله تعالى: ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى‏ لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ ) القلب ما يعقل به الإنسان فيميّز الحقّ من الباطل و الخير من الشرّ و النافع من الضارّ، فإذا لم يعقل و لم يميّز فوجوده بمنزلة عدمه إذ ما لا أثر له فوجوده و عدمه سواء، و إلقاء السمع هو الاستماع كأنّ السمع شي‏ء يلقى إلى المسموع فيناله و يدركه و الشهيد الحاضر المشاهد.

و المعنى: إنّ فيما أخبرنا به من الحقائق و أشرنا إليه من قصص الاُمم الهالكة لذكرى يتذكّر بها من كان يتعقّل فيدرك الحقّ و يختار ما فيه خيره و نفعه أو استمع إلى حقّ القول و لم يشتغل عنه بغيره و الحال أنّه شاهد حاضر يعي ما يسمعه.

و الترديد بين من كان له قلب و من استمع شهيداً لمكان أنّ المؤمن بالحقّ أحد رجلين إمّا رجل ذو عقل يمكنه أن يتناول الحقّ فيتفكّر فيه و يرى ما هو الحقّ فيذعن به، و إمّا رجل لا يقوى على التفكّر حتّى يميّز الحقّ و الخير و النافع فعليه أن يستمع القول فيتبعه، و أمّا من لا قلب له يعقل به و لا يسمع شهيداً على ما يقال له و يلقى إليه من الرسالة و الإنذار فجاهل متعنّت لا قلب له و لا سمع، قال تعالى:( وَ قالُوا

٣٨٦

لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ ) الملك: ١٠.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ ما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ ) اللغوب التعب و النصب، و المعنى ظاهر.

( بحث روائي‏)

في التوحيد، بإسناده إلى عمرو بن شمر عن جابر بن يزيد قال: سألت أبا جعفرعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ) قال: يا جابر تأويل ذلك أنّ الله عزّوجلّ إذا أفنى هذا الخلق و هذا العالم و سكن أهل الجنّة الجنّة و أهل النار النار جدّد الله عالماً غير هذا العالم و جدّد خلقاً من غير فحولة و لا إناث يعبدونه و يوحّدونه و خلق لهم أرضاً غير هذه الأرض تحملهم، و سماء غير هذه السماء تظلّهم.

لعلّك ترى أنّ الله إنّما خلق هذا العالم الواحد أو ترى أنّ الله لم يخلق بشراً غيركم بلى و الله لقد خلق ألف ألف عالم و ألف ألف آدم أنت في آخر تلك العوالم و اُولئك الآدميّين.

أقول: و روي في الخصال، الشطر الأوّل من الحديث بإسناده عن محمّد بن مسلم عنهعليه‌السلام ، و لعلّ المراد بكون ما ذكر تأويل الآية أنّه ممّا ينطبق عليه.

و عن جوامع الجامع، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كاتب الحسنات على يمين الرجل و كاتب السيّئات على شماله، و صاحب اليمين أمير على صاحب الشمال: فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشراً و إذا عمل سيّئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات لعلّه يسبّح أو يستغفر.

أقول: و في معناها روايات اُخرى، و روي ستّ ساعات بدل سبع ساعات.

و في نهج البلاغة:( وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِيدٌ ) سائق يسوقها إلى محشرها و شاهد يشهد عليها بعملها.

٣٨٧

و في المجمع، و روى أبوالقاسم الحسكانيّ بالإسناد عن الأعمش قال: حدّثنا أبو المتوكّل التاجر عن أبي السعيد الخدريّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا كان يوم القيامة يقول الله لي و لعليّ: ألقيا في النار من أبغضكما، و أدخلاً في الجنّة من أحبّكما و ذلك قوله:( أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ) .

أقول: و رواه شيخ الطائفة في أماليه، بإسناده عن أبي سعيد الخدريّ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي الدنيا في ذكر الموت و ابن أبي حاتم و أبونعيم في الحلية، عن جابر بن عبدالله قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إنّ ابن آدم لفي غفلة عمّا خلق له إنّ الله إذا أراد خلقه قال للملك: اكتب رزقه. اكتب أثره. اكتب أجله شقيّاً أم سعيداً ثمّ يرتفع ذلك الملك و يبعث الله ملكاً فيحفظه حتّى يدرك ثمّ يرتفع ذلك الملك.

ثمّ يوكّل الله به ملكين يكتبان حسناته و سيّئاته فإذا حضره الموت ارتفع ذلك الملكان و جاء ملك الموت ليقبض روحه فإذا اُدخل قبره ردّ الروح في جسده و جاءه ملكاً القبر فامتحناه ثمّ يرتفعان.

فإذا قامت الساعة انحطّ عليه ملك الحسنات و ملك السيّئات فبسطا كتاباً معقوداً في عنقه ثمّ حضراً معه واحد سائق و آخر شهيد. ثمّ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ قدّامكم لأمراً عظيماً لا تقدّرونه فاستعينوا بالله العظيم.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) قال: هو استفهام لأنّ الله وعد النار أن يملأها فتمتلئ النار ثمّ يقول لها:( هَلِ امْتَلَأْتِ ) ؟ و تقول:( هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) ؟ على حدّ الاستفهام أي ليس فيّ مزيد.

أقول: بناؤه على كون الاستفهام إنكاريّاً.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و البخاريّ و مسلم و الترمذيّ و النسائيّ و ابن جرير و ابن مردويه و البيهقيّ في الأسماء و الصفات عن أنس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تزال جهنّم يلقى فيها و تقول: هل من مزيد؟ حتّى تضع ربّ العزّة فيها قدمه فينزوي

٣٨٨

بعضها إلى بعض و تقول: قط قط و عزّتك و كرمك.

و لا يزال في الجنّة فضل حتّى ينشئ الله لها خلقاً آخر فيسكنهم في قصور الجنّة.

أقول: وضع القدم على النار و قولها: قط قط مرويّ في روايات كثيرة من طرق أهل السنّة.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ ) قال: النظر إلى رحمة الله.

و في الدرّ المنثور، أخرج البزّاز و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و اللالكائيّ في السنّة و البيهقيّ في البعث و النشور عن أنس في قوله تعالى:( وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ ) قال: يتجلّى لهم الربّ عزّوجلّ.

و في الكافي، بعض أصحابنا رفعه عن هشام بن الحكم قال: قال لي أبوالحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام : يا هشام إنّ الله يقول في كتابه:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى‏ لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ ) يعني عقل.

و في الدرّ المنثور، أخرج الخطيب في تاريخه، عن العوّام بن حوشب قال: سألت أبا مجلز عن الرجل يجلس فيضع إحدى رجليه على الاُخرى فقال: لا بأس به إنّما كره ذلك اليهود زعموا أنّ الله خلق السماوات و الأرض في ستّة أيّام ثمّ استراح يوم السبت فجلس تلك الجلسة فأنزل الله( وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ ما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ ) .

أقول: و روي هذا المعنى عن الضحّاك و قتادة، و روى هذا المعنى المفيد في روضة الواعظين، في رواية ضعيفة، و أصل تقسيم خلق الأشياء إلى ستّة من أيّام الاُسبوع واقع في التوراة، و القرآن و إن كرّر ذكر خلق الأشياء في ستّة أيّام لكنّه لم يذكر كون هذه الأيّام هي أيّام الاُسبوع و لا لوّح إليه.

و على هذه الروايات اعتمد من قال: إنّ الآية مدنيّة، و لا دلالة في ردّها قول اليهود أن تكون نازلة بالمدينة، و في الآيات المكّيّة ما تعرّض سبحانه فيه لشأن اليهود كما في سورة الأعراف و غيرها.

٣٨٩

( سورة ق الآيات ٣٩ - ٤٥)

فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ( ٣٩ ) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ( ٤٠ ) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ( ٤١ ) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ  ذَٰلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ( ٤٢ ) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ( ٤٣ ) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا  ذَٰلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ( ٤٤ ) نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ  وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ  فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ( ٤٥ )

( بيان‏)

خاتمة السورة يأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها أن يصبر على ما يقولون ممّا يرمونه بنحو السحر و الجنون و الشعر، و ما يتعنّتون به باستهزاء المعاد و الرجوع إلى الله تعالى فيأمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر و أن يعبد ربّه بتسبيحه و أن يتوقّع البعث بانتظار الصيحة، و أن يذكّر بالقرآن من يخاف الله بالغيب.

قوله تعالى: ( فَاصْبِرْ عَلى‏ ما يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ ) تفريع على جميع ما تقدّم من إنكار المشركين للبعث، و من تفصيل القول في البعث و الحجّة عليه، و من وعيد المنكرين له المكذّبين للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تهديدهم بمثل ما جرى على المكذّبين من الاُمم الماضية.

و قوله:( وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ) إلخ، أمر بتنزيهه تعالى عمّا يقولون مصاحباً للحمد و محصّله إثبات جميل الفعل له و نفي كلّ نقص و شين عنه تعالى، و التسبيح قبل طلوع

٣٩٠

الشمس يقبل الانطباق على صلاة الصبح، و التسبيح قبل الغروب يقبل الانطباق على صلاة العصر أو عليها و على صلاة الظهر.

قوله تعالى: ( وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ أَدْبارَ السُّجُودِ ) أي و من اللّيل فسبّحه فيه، و يقبل الانطباق على صلاتي المغرب و العشاء.

و قوله:( وَ أَدْبارَ السُّجُودِ ) الأدبار جمع دبر و هو ما ينتهي إليه الشي‏ء و بعده، و كأنّ المراد بأدبار السجود بعد الصلوات فإنّ السجود آخر الركعة من الصلاة فينطبق على التعقيب بعد الصلوات، و قيل: المراد به النوافل بعد الفرائض، و قيل: المراد به الركعتان أو الركعات بعد المغرب و قيل: ركعة الوتر في آخر الليل.

قوله تعالى: ( وَ اسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ ) فسّروا الاستماع بمعان مختلفة و الأقرب أن يكون مضمّناً معنى الانتظار و( يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ ) مفعوله و المعنى: و انتظر يوماً ينادي فيه المنادي ملقياً سمعك لاستماع ندائه، و المراد بنداء المنادي نفخ صاحب الصور في الصور على ما تفيده الآية التالية.

و كون النداء من مكان قريب لإحاطته بهم فيقع في سمعهم على نسبة سواء لا تختلف بالقرب و البعد فإنّما هو نداء البعث و كلمة الحياة.

قوله تعالى: ( يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ) بيان ليوم ينادي المنادي، و كون الصيحة بالحقّ لأنّها مقضيّة قضاء محتوماً كما مرّ في قوله:( وَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ) الآية.

و قوله:( ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ) أي يوم الخروج من القبور كما قال تعالى:( يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً ) المعارج: ٤٣.

قوله تعالى: ( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ إِلَيْنَا الْمَصِيرُ ) المراد بالإحياء إفاضة الحياة على الأجساد الميتة في الدنيا، و بالإماتة الإماتة في الدنيا و هي النقل إلى عالم القبر، و بقوله:( وَ إِلَيْنَا الْمَصِيرُ ) الإحياء بالبعث في الآخرة على ما يفيده السياق.

قوله تعالى: ( يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ ) أصل( تَشَقَّقُ ) تتشقّق أي تتصدّع عنهم فيخرجون منها مسارعين إلى الداعي.

٣٩١

و قوله:( ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ ) أي ما ذكرنا من خروجهم من القبور المنشقّة عنهم سراعاً جمع لهم علينا يسير.

قوله تعالى: ( نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ ) في مقام التعليل لقوله:( فَاصْبِرْ عَلى‏ ما يَقُولُونَ ) الآية، و الجبّار المتسلّط الّذي يجبر الناس على ما يريد.

و المعنى: فاصبر على ما يقولون و سبّح بحمد ربّك و انتظر البعث فنحن أعلم بما يقولون سنجزيهم بما عملوا و لست أنت بمتسلّط جبّار عليهم حتّى تجبرهم على ما تدعوهم إليه من الإيمان بالله و اليوم الآخر و إذا كانت حالهم هذه الحال فذكّر بالقرآن من يخاف وعيدي.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج الطبرانيّ في الأوسط، و ابن عساكر عن جرير بن عبدالله عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في قوله:( وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ- قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ ) قبل طلوع الشمس صلاة الصبح، و قبل الغروب صلاة العصر.

و في المجمع، روي عن أبي عبداللهعليه‌السلام أنّه سئل عن قوله:( وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ ) فقال: تقول حين تصبح و حين تمسي عشر مرّات: لا إله إلّا الله وحده لا شريك له له الملك و له الحمد و هو على كلّ شي‏ء قدير.

أقول: هو مأخوذ من إطلاق التسبيح في الآية و إن كان خصوص مورده صلاتي الصبح و العصر فلا منافاة.

و في الكافي، بإسناده عن حريز عن زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قلت:( وَ أَدْبارَ السُّجُودِ ) قال: ركعات بعد المغرب.

أقول: و رواه القمّيّ في تفسيره، بإسناده عن ابن أبي نصر عن الرضاعليه‌السلام و لفظه قال: أربع ركعات بعد المغرب.

٣٩٢

و في الدرّ المنثور، أخرج مسدّد في مسنده، و ابن المنذر و ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب قال: سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أدبار النجوم و السجود فقال: أدبار السجود الركعتان بعد المغرب، و أدبار النجوم الركعتان قبل الغداة.

أقول: و روي مثله عن ابن عبّاس و عمر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و أسنده في مجمع البيان، إلى الحسن بن عليّعليه‌السلام أيضاً عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ ) قال: ذكّر يا محمّد ما وعدناه من العذاب.

٣٩٣

( سورة الذاريات مكّيّة و هي ستّون آية)

( سورة الذاريات الآيات ١ - ١٩)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ( ١ ) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا ( ٢ ) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ( ٣ ) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ( ٤ ) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ( ٥ ) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ( ٦ ) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ( ٧ ) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ( ٨ ) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ( ٩ ) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ( ١٠ ) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ ( ١١ ) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ( ١٢ ) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ( ١٣ ) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ( ١٤ ) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( ١٥ ) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ  إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَ ( ١٦ ) كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ( ١٧ ) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ( ١٨ ) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ( ١٩ )

( بيان‏)

كانت الدعوة النبويّة تدعو الوثنيّة إلى توحيد الربوبيّة و إنّ الله تعالى هو ربّهم و ربّ كلّ شي‏ء، و كانت الدعوة من طريق الإنذار و التبشير و خاصّة بالإنذار و كان الإنذار بعذاب الله في الدنيا للمكذّبين عذاب الاستئصال، و في الآخرة بالعذاب الخالد يوم القيامة و هو العمدة في نجاح الدعوة إذ لو لا الحساب و الجزاء يوم القيامة كان الإيمان بالوحدانيّة و النبوّة لغيً لا أثر له.

٣٩٤

و المشركون باتّخاذهم آلهة دون الله سبحانه شديدوا الإنكار لاُصول التوحيد و النبوّة و المعاد، و كانوا يتعنّتون بإنكار المعاد و الإصرار على نفيه و الاستهزاء به من أيّ طريق ممكن لما يرون أنّ في بطلانه بطلان الأصلين الآخرين.

و السورة تذكر المعاد و إنكارهم له فتبدأ به و تختم عليه لكن لا من حيث نفسه كما جرى عليه الكلام في مواضع من كلامه بل من حيث إنّه يوم الجزاء و أنّ الله الّذي وعدهم به هو ربّهم و هو الّذي وعدهم به و وعده صدق لا ريب فيه.

و لذلك لمّا انساق الكلام إلى الاحتجاج عليه احتجّت بأدلّة التوحيد من آيات الأرض و السماء و الأنفس و ما عاقب الله به الاُمم الماضين إثر دعوتهم إلى التوحيد و تكذيبهم لرسله، و ليس إلّا ليثبت بها التوحيد فيثبت به يوم الجزاء الّذي وعده الله و الله لا يخلف الميعاد و أخبرت به الدعوة النبويّة فيندفع بذلك إنكارهم للجزاء و قد توسّلوا بذلك إلى إبطال دين التوحيد و رسالة الرسول لصيرورة الإيمان به لغوا لا أثر له كما تقدّمت الإشارة إليه.

و السورة مكّيّة لشهادة سياق آياتها عليه و لم يختلف في ذلك أحد، و من غرر آياتها قوله تعالى:( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) .

و الفصل الّذي أوردناه من الآيات مفتتح الكلام يذكر فيه أنّ الجزاء الّذي وعدوه صدق و إنكارهم له و تعنّتهم بذلك تخرّص ثمّ يصف يوم الجزاء و حال المتّقين و المنكرين فيه.

قوله تعالى: ( وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً فَالْحامِلاتِ وِقْراً فَالْجارِياتِ يُسْراً فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً ) الذاريات جمع الذارية من قولهم: ذرت الريح التراب تذروه ذرواً إذا أطارته و الوقر بالكسر فالسكون ثقل الحمل في الظهر أو في البطن.

و في الآيات إقسام بعد إقسام يفيد التأكيد بعد التأكيد للمقسم عليه و هو الجزاء على الأعمال فقوله:( وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً ) إقسام بالرياح المثيرة للتراب، و قوله:( فَالْحامِلاتِ وِقْراً ) بالفاء المفيدة للتأخير و الترتيب معطوف على الذاريات و إقسام بالسحب الحاملة لثقل الماء، و قوله:( فَالْجارِياتِ يُسْراً ) عطف عليه و إقسام بالسفن

٣٩٥

الجارية في البحار بيسر و سهولة.

و قوله:( فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً ) عطف على ما سبقه و إقسام بالملائكة الّذين يعملون بأمره فيقسّمونه باختلاف مقاماتهم فإنّ أمر ذي العرش بالخلق و التدبير واحد فإذا حمله طائفة من الملائكة على اختلاف أعمالهم انشعب الأمر و تقسّم بتقسّمهم ثمّ إذا حمله طائفة هي دون الطائفة الاُولى تقسّم ثانياً بتقسّمهم و هكذا حتّى ينتهي إلى الملائكة المباشرين للحوادث الكونيّة الجزئيّة فينقسم بانقسامها و يتكثّر بتكثّرها.

و الآيات الأربع - كما ترى - تشير إلى عامّة التدبير حيث ذكرت اُنموذجاً ممّا يدبّر به الأمر في البرّ و هو الذاريات ذرواً، و اُنموذجاً ممّا يدبّر به الأمر في البحر و هو الجاريات يسراً و اُنموذجاً ممّا يدبّر به الأمر في الجوّ و هو الحاملات وقراً، و تمّم الجميع بالملائكة الّذين هم وسائد التدبير و هم المقسّمات أمراً.

فالآيات في معنى أن يقال: اُقسم بعامّة الأسباب الّتي يتمّم بها أمر التدبير في العالم إنّ كذا كذا، و قد ورد من طرق الخاصّة و العامّة عن عليّ عليه أفضل السّلام تفسير الآيات الأربع بما تقدّم.

و عن الفخر الرازيّ في التفسير الكبير، أنّ الأقرب حمل الآيات الأربع جميعاً على الرياح فإنّها كما تذرو التراب ذرواً تحمل السحب الثقال و تجري في الجوّ بيسر و تقسّم السحب على الأقطار من الأرض.

و الحقّ أن ما استقربه بعيد، و ما تقدّم من المعنى أبلغ ممّا ذكره.

قوله تعالى: ( إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَ إِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ ) ( ما ) موصولة، و الضمير العائد إليها محذوف أي الّذين توعدونه، أو مصدريّة، و( تُوعَدُونَ ) من الوعد كما يؤيّده قوله:( وَ إِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ ) الشامل لمطلق الجزاء، و قيل: من الإيعاد كما يؤيّده قوله:( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ ) ق: ٤٥.

وعدّ الوعد صادقاً من المجاز في النسبة كما في قوله:( فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ) الحاقة: ٢١ أو الصادق بمعنى ذو صدق كما قيل بمثله في قوله:( فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ) و الدين الجزاء.

و كيف كان فقوله:( إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ ) جواب القسم، و قوله:( وَ إِنَّ

٣٩٦

الدِّينَ لَواقِعٌ ) معطوف عليه بمنزلة التفسير، و المعنى اُقسم بكذا و كذا أنّ الّذي توعدونه - و هو الّذي يعدهم القرآن أو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما اُنزل إليه - من يوم البعث و أنّ الله سيجزيهم فيه بأعمالهم إن خيراً فخيراً و إن شرّاً فشرّاً لصادق، و إنّ الجزاء لواقع.

قوله تعالى: ( وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ ) الحبك بمعنى الحسن و الزينة، و بمعنى الخلق المستوي، و يأتي جمعاً لحبيكة أو حباك بمعنى الطريقة كالطرائق الّتي تظهر على الماء إذا تثنّى و تكسّر من مرور الرياح عليه.

و المعنى على الأوّل: اُقسم بالسماء ذات الحسن و الزينة نظير قوله تعالى:( إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ) الصافّات: ٦، و على الثاني: اُقسم بالسماء ذات الخلق المستوي نظير قوله:( وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ ) الآية: ٤٧ من السورة و على الثالث اُقسم بالسماء ذات الطرائق نظير قوله:( وَ لَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ ) المؤمنون: ١٧.

و لعلّ المعنى الثالث أظهر لمناسبته لجواب القسم الّذي هو اختلاف الناس و التشتّت طرائقهم كما أنّ الأقسام السابقة:( وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً ) إلخ كانت مشتركة في معنى الجري و السير مناسبة لجوابها:( إِنَّما تُوعَدُونَ ) إلخ المتضمّن لمعنى الرجوع إلى الله و السير إليه.

قوله تعالى: ( إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ) القول المختلف ما يتناقض و يدفع بعضه بعضاً و حيث إنّ الكلام في إثبات صدق القرآن أو الدعوة أو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما وعدهم من أمر البعث و الجزاء فالمراد بالقول المختلف - على الأقرب - قولهم المختلف في أمر القرآن لغرض إنكار ما يثبته فتارة يقولون: إنّه سحر و الجائي به ساحر، و تارة يقولون: زجر و الجائي به مجنون، و تارة يقولون: إلقاء شياطين الجنّ و الجائي به كاهن، و تارة يقولون: شعر و الجائي به شاعر، و تارة إنّه افتراء، و تارة يقولون إنّما يعلّمه بشر، و تارة يقولون: أساطير الأوّلين اكتتبها.

و قوله:( يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ) الإفك الصرف، و ضمير( عَنْهُ ) إلى الكتاب من حيث اشتماله على وعد البعث و الجزاء، و المعنى: يصرف عن القرآن من صرف، و

٣٩٧

قيل: الضمير للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المعنى: يُصرف عن الإيمان به من صرف، و قد عرفت أنّ المعنى السابق أوفق للسياق و إن كان مآل المعنيين واحداً.

و حكي عن بعضهم أنّ ضمير( عَنْهُ ) لما توعدون أو للدين أقسم تعالى أوّلاً بالذاريات و غيرها على أنّ البعث و الجزاء حقّ ثمّ أقسم بالسماء على أنّهم في قول مختلف في وقوعه فمنهم شاكّ و منهم جاحد ثمّ قال تعالى: يؤفك عن الإقرار بأمر البعث و الجزاء من هو مأفوك. و هذا الوجه قريب من الوجه السابق.

و عن بعضهم: أنّ الضمير لقول مختلف و( عن ) للتعليل كما في قوله تعالى:( وَ ما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ ) هود: ٥٣ فيكون الجملة صفة لقول و المعنى: إنّكم لفي قول مختلف يؤفك بسببه من اُفك، و هو وجه حسن.

و قيل: الضمير في( إِنَّكُمْ ) للمسلم و الكافر جميعاً فيكون المراد بالقول المختلف قول المسلمين بوقوع البعث و الجزاء و قول الكفّار بعدم الوقوع. و لعلّ السياق لا يلائمه و قيل: بعض وجوه اُخر رديئة لا جدوى في التعرّض له.

قوله تعالى: ( قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ) أصل الخرص القول بالظنّ و التخمين من غير علم، و لكون القول بغير علم في خطر من الكذب يسمّى الكذّاب خرّاصاً، و الأشبه أن يكون المراد بالخرّاصين في الآية القوّالين من غير علم و دليل و هم الخائضون في أمر البعث و الجزاء المنكرون له بغير علم.

و في قوله:( قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ) دعاء عليهم بالقتل و هو كناية عن نوع من الطرد و الحرمان من الفلاح و إليه يؤل قول من فسّره باللعن.

و قوله:( الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ ) الغمرة - كما ذكر الراغب - معظم الماء الساتر لمقرّها، و جعل مثلاً للجهالة الّتي تغمر صاحبها، و المراد بالسهو - كما قيل - مطلق الغفلة.

و معنى الآية و هي تصف الخرّاصين: الّذين هم في جهالة أحاطت بهم غافلون عن حقّيّة ما اُخبروا به.

٣٩٨

و قوله:( يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ) ضمير الجمع للخرّاصين قول قالوه على طريق الاستعجال استهزاء كقولهم:( مَتى‏ هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) يس: ٤٨.

و السؤال بأيّان - الموضوعة للسؤال عن زمان مدخولها - عن يوم الدين و هو ظاهر في الزمان إنّما هو بعناية أنّ يوم الدين لكونه موعوداً ملحق بالزمانيّات فيسأل عنه كما يسأل عن الزمانيّات بأيّان و متى كما يقال: متى يوم العيد لكونه ذا شأن ملحقاً لذلك بالزمانيات كذا قيل.

و يمكن أن يكون من التوسّع في معنى الظرفيّة بأن يعدّ أوصاف الظرف الخاصّة به ظرفاً توسّعاً فيكون السؤال عن زمان الزمان سؤالاً عن أنّه بعد أيّ زمان أو قبل أيّ زمان؟ كما يقال: متى يوم العيد؟ فيجاب بأنّه بعد عشرة أيّام مثلاً أو قبل يوم كذا، و هو توسّع جار في العرف غير مختصّ بكلام العرب، و في القرآن منه شي‏ء كثير.

قوله تعالى: ( يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ) ضمير الجمع للخرّاصين، و الفتن في الأصل إدخال الذهب النار ليظهر جودته ثمّ استعمل في مطلق الإحراق و التعذيب، و الظرف متعلّق بفعل محذوف أو مبتدأ، و الآية جواب عن سؤالهم عدل فيه عن بيان وقت يوم الدين إلى بيان صفته و الإشارة إلى حالهم فيه لما أنّ وقته من الغيب الّذي لا يعلمه إلّا الله قال تعالى:( لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ) .

و تقدير الآية و معناها: يقع يوم الدين أو هو واقع يوم هم أي الخرّاصون في النار يعذّبون أو يحرقون.

قوله تعالى: ( ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ) حكاية خطاب منه تعالى أو من الملائكة بأمره للخرّاصين و هم يفتنون على النار يومئذ.

و المعنى: يقال لهم ذوقوا العذاب الّذي يخصّكم. هذا العذاب هو الّذي كنتم تستعجلون به إذ تقولون استعجالاً و استهزاء: أيّان يوم الدين.

قوله تعالى: ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ ) بيان لحال المتّقين يوم الدين بعد وصف حال اُولئك الخرّاصين.

٣٩٩

و تنكير جنّات و عيون للإشارة إلى عظم قدرها كأنّها بحيث لا يقدر الواصفون على وصفها، و قد اُلحقت العيون بالجنّات في ظرفيّتها توسّعاً.

قوله تعالى: ( آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ ) أي قابلين ما أعطاهم ربّهم الرؤف بهم راضين عنه و بما أعطاهم كما يفيده خصوص التعبير بالأخذ و الإيتاء و نسبة الإيتاء إلى ربّهم.

و قوله:( إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ ) تعليل لما تقدّمه أي إنّ حالهم تلك الحال لأنّهم كانوا قبل ذلك أي في الدنيا ذوي إحسان في أعمالهم أي ذوي أعمال حسنة.

قوله تعالى: ( كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ ) الآيات تفسير لإحسانهم، و الهجوع النوم في الليل و قيل: النوم القليل.

و يمكن أن تكون: ما زائدة و( يَهْجَعُونَ ) خبر كانوا، و( قَلِيلًا ) ظرفاً متعلّقاً به أي في زمان قليل أو صفة لمفعول مطلق محذوف أي هجوعاً قليلاً و( مِنَ اللَّيْلِ ) متعلّقاً بقليلاً و المعنى: كانوا ينامون في زمان قليل من الليل أو ينامون الليل نوماً قليلاً.

و أن تكون موصولة و الضمير العائد إليها محذوفاً و( قَلِيلًا ) خبر كانوا و الموصول فاعله و المعنى: كانوا قليلاً من الليل الّذي يهجعون فيه.

و أن تكون مصدريّة و المصدر المسبوك منها و من مدخولها فاعلاً لقوله:( قَلِيلًا ) و هو خبر( كانُوا ) .

و على أيّ حال فالقليل من الليل إمّا مأخوذ بالقياس إلى مجموع زمان كلّ ليلة فيفيد أنّهم يهجعون كلّ ليلة زماناً قليلاً منها و يصلّون أكثرها، و إمّا مأخوذ بالقياس إلى مجموع الليالي فيفيد أنّهم يهجعون في قليل من الليالي و يقومون للصلاة في أكثرها أي لا يفوتهم صلاة الليل إلّا في قليل من الليالي.

قوله تعالى: ( وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) أي يسألون الله المغفرة لذنوبهم، و قيل: المراد بالاستغفار الصلاة و هو كما ترى.

قوله تعالى: ( وَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ ) الآيتان السابقتان تبيّنان خاصّة سيرتهم في جنب الله سبحانه و هي قيام اللّيل و الاستغفار بالأسحار و هذه الآية

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429