الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 429

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 429
المشاهدات: 114917
تحميل: 5403


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 429 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 114917 / تحميل: 5403
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 18

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

تبيّن خاصّة سيرتهم في جنب الناس و هي إيتاء السائل و المحروم.

و تخصيص حقّ السائل و المحروم بأنّه في أموالهم - مع أنّه لو ثبت فإنّما يثبت في كلّ مال - دليل على أنّ المراد أنّهم يرون بصفاء فطرتهم أنّ في أموالهم حقّاً لهما فيعملون بما يعملون نشراً للرحمة و إيثاراً للحسنة.

و السائل هو الّذي يسأل العطيّة بإظهار الفاقة و المحروم هو الّذي حرم الرزق فلم ينجح سعيه في طلبه و لا يسأل تعفّفاً.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ، حدّثني أبي عن ابن أبي عمير عن جميل عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قوله تعالى:( وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً ) فقال: إنّ ابن الكوّا سأل أميرالمؤمنينعليه‌السلام عن( الذَّارِياتِ ذَرْواً ) قال: الريح، و عن( فَالْحامِلاتِ وِقْراً ) فقال: هي السحاب، و عن( فَالْجارِياتِ يُسْراً ) فقال: هي السفن، و عن( فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً ) فقال: الملائكة.

أقول: و الحديث مرويّ من طرق أهل السنّة أيضاً كما في روح المعاني.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبدالرزّاق و الفاريابيّ و سعيد بن منصور و الحارث بن أبي اُسامة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن الأنباريّ في المصاحف، و الحاكم و صحّحه و البيهقيّ في شعب الإيمان، من طرق عن عليّ بن أبي طالب في قوله:( وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً ) قال: الرياح( فَالْحامِلاتِ وِقْراً ) قال: السحاب( فَالْجارِياتِ يُسْراً ) قال: السفن( فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً ) قال: الملائكة.

و في المجمع، قال أبوجعفر و أبوعبداللهعليهما‌السلام : لا يجوز لأحد أن يقسم إلّا بالله تعالى، و الله يقسم بما شاء من خلقه.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن منيع عن عليّ بن أبي طالب أنّه سئل عن قوله:( وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ ) قال: ذات الخلق الحسن.

أقول: و روي مثله في المجمع، و لفظه: و قيل: ذات الحسن و الزينة: عن عليّ

٤٠١

عليه‌السلام و في جوامع الجامع، و لفظه: و عن عليّعليه‌السلام : حسنها و زينتها.

و في بعض الأخبار: في قوله تعالى:( إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ) تطبيقه على الولاية..

و في المجمع في قوله تعالى:( كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ ) و قيل معناه: كانوا أقلّ ليلة تمرّ بهم إلّا صلّوا فيها: و هو المرويّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

و فيه، في قوله تعالى:( وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) و قال أبوعبداللهعليه‌السلام : كانوا يستغفرون الله في الوتر سبعين مرّة في السحر.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن أنس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ آخر الليل في التهجّد أحبّ إلي من أوّله لأنّ الله يقول:( وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) .

و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عمر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله:( وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) قال: يصلّون.

أقول: لعلّ تفسير الاستغفار بالصلاة من جهة اشتمال الوتر عليه كإرادة الصلاة من القرآن في قوله:( وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ) إسراء: 78.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ ) قال: السائل الّذي يسأل، و المحروم الّذي قد منع كدّه.

و في التهذيب، بإسناده عن صفوان الجمال عن أبي عبداللهعليه‌السلام في الآية قال: المحروم المحارف الّذي قد حرم كدّ يده في الشراء و البيع.

قال: و في رواية اُخرى عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليه‌السلام قال: المحروم الرجل ليس بعقله بأس و لا يبسط له في الرزق و هو محارف.

٤٠٢

( سورة الذاريات الآيات 20 - 51)

وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ ( 20 ) وَفِي أَنفُسِكُمْ  أَفَلَا تُبْصِرُونَ ( 21 ) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ( 22 ) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ( 23 ) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ( 24 ) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا  قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ( 25 ) فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ( 26 ) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ ( 27 ) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً  قَالُوا لَا تَخَفْ  وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ( 28 ) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ( 29 ) قَالُوا كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ  إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ( 30 ) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ( 31 ) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ( 32 ) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ ( 33 ) مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ( 34 ) فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( 35 ) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ ( 36 ) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ( 37 ) وَفِي مُوسَىٰ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ( 38 ) فَتَوَلَّىٰ بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ( 39 ) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ ( 40 ) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا

٤٠٣

عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ( 41 ) مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ( 42 ) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّىٰ حِينٍ ( 43 ) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ ( 44 ) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ ( 45 ) وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ  إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ( 46 ) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ( 47 ) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ( 48 ) وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( 49 ) فَفِرُّوا إِلَى اللهِ  إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( 50 ) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ  إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( 51 )

( بيان‏)

تشير الآيات إلى عدّة من آيات الله الدالّة على وحدانيّته في الربوبيّة و رجوع أمر التدبير في الأرض و السماء و الناس و أرزاقهم إليه، و لازمه إمكان نزول الدين الإلهيّ من طريق الرسالة بل وجوبه، و لازمه صدق الدعوة النبويّة فيما تضمّنته من وعد البعث و الجزاء و أنّ ما يوعدون لصادق و أنّ الدين لواقع، و قد مرّت إشارة إلى خصوصيّة سلوك السورة في احتجاجها في البيان السابق.

قوله تعالى: ( وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ ) الاستنتاج الآتي في آخر هذه الآيات في قوله:( فَفِرُّوا إِلَى اللهِ - إلى أن قال -وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) الآية، يشهد على أنّ سوق هذه الآيات و الدلائل لإثبات وحدانيّته تعالى في الربوبيّة لا لإثبات أصل وجوده أو انتهاء الخلق إليه و نحو ذلك.

٤٠٤

و في الآية إشارة إلى ما تتضمّنه الأرض من عجائب الآيات الدالّة على وحدة التدبير القائمة بوحدانيّة مدبّره من برّ و بحر و جبال و تلال و عيون و أنهار و معادن و منافعها المتّصلة بعضها ببعض الملاءمة بعضها لبعض ينتفع بها ما عليها من النبات و الحيوان في نظام واحد مستمرّ من غير اتّفاق و صدفة، لائح عليها آثار القدرة و العلم و الحكم دالّ على أنّ خلقها و تدبير أمرها ينتهي إلى خالق مدبّر قادر عليم حكيم.

فأيّ جانب قصد من جوانبها و أيّة وجهة ولّيت من جهات التدبير العامّ الجاري فيها كانت آية بيّنة و برهاناً ساطعاً على وحدانيّة ربّها لا شريك له ينجلي فيه الحقّ لأهل اليقين ففيها آيات للموقنين.

قوله تعالى: ( وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ ) معطوف على قوله:( فِي الْأَرْضِ ) أي و في أنفسكم آيات ظاهرة لمن أبصر إليها و ركز النظر فيها أ فلا تبصرون.

و الآيات الّتي في النفوس منها ما هي في تركّب الأبدان من أعضائها و أعضاء أعضائها حتّى ينتهي إلى البسائط و ما لها من عجائب الأفعال و الآثار المتّحدة في عين تكثّرها المدبّرة جميعاً لمدبّر واحد، و ما يعرضها من مختلف الأحوال كالجنينيّة و الطفوليّة و الرهاق و الشباب و الشيب.

و منها ما هي من حيث تعلّق النفوس أعني الأرواح بها كالحواسّ من البصر و السمع و الذوق و الشمّ و اللمس الّتي هي الطرق الأوّليّة لاطّلاع النفوس على الخارج لتميّز بذلك الخير من الشرّ و النافع من الضّارّ لتسعى إلى ما فيه كمالها و تهرب ممّا لا يلائمها، و في كلّ منها نظام وسيع جار فيه منفصل بذاته عن غيره كالبصر لا خبر عنده عمّا يعمله السمع بنظامه الجاري فيه و هكذا، و الجميع مع هذا الانفصال و التقطّع مؤتلفة تعمل تحت تدبير مدبّر واحد هو النفس المدبّرة و الله من ورائهم محيط.

و من هذا القبيل سائر القوى المنبعثة عن النفوس في الأبدان كالقوّة الغضبيّة و القوّة الشهويّة و ما لها من اللواحق و الفروع فإنّها على ما للواحد منها بالنسبة إلى غيره من البينونة و انفصال النظام الجاري فيه عن غيره واقعة تحت تدبير مدبّر واحد تتعاضد جميع شعبها و تأتلف لخدمته.

٤٠٥

و نظام التدبير الّذي لكلّ من هذه المدبّرات إنّما وجد له حينما وجد و أوّل ما ظهر من غير فصل فليس ممّا عملت فيه خيرته و أوجده هو لنفسه عن فكر و رويّة أو بغيره فنظام تدبيره كنفسه من صانع صنعه و ألزمه نظامه بتدبيره.

و منها الآيات الروحانيّة الواقعة في عالم النفوس الظاهرة لمن رجع إليها و راقب الله سبحانه فيها من آيات الله الّتي لا يسعها وصف الواصفين و ينفتح بها باب اليقين و تدرج المتطّلع عليها في زمرة الموقنين فيرى ملكوت السماوات و الأرض كما قال تعالى:( وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) الأنعام: 75.

قوله تعالى: ( وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ ) قيل: المراد بالسماء جهة العلو فإنّ كلّ ما علاك و أظلّك فهو سماء لغة، و المراد بالرزق المطر الّذي ينزّله الله على الأرض فيخرج به أنواع ما يقتاتونه و يلبسونه و ينتفعون به و قد قال تعالى:( وَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ) الجاثية: 5، فسمّي المطر رزقاً فالمراد بالرزق سببه أو بتقدير مضاف أي سبب رزقكم.

و قيل: المراد أسباب الرزق السماويّة من الشمس و القمر و الكواكب و اختلاف المطالع و المغارب الراسمة للفصول الأربعة و توالي الليل و النهار و هي جميعاً أسباب الرزق فالكلام على تقدير مضاف أي أسباب رزقكم أو فيه تجوّز بدعوى أنّ وجود الأسباب فيها وجود ذوات الأسباب.

و قيل: المراد بكون الرزق فيها كون تقديره فيها، أو أنّ الأرزاق مكتوبة في اللوح المحفوظ فيها.

و يمكن أن يكون المراد به عالم الغيب فإنّ الأشياء و منها الأرزاق تنزل من عندالله سبحانه و قد صرّح بذلك في أشياء كقوله تعالى:( وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ) الزمر: 6، و قوله:( وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ) الحديد: 25، و قوله على نحو العموم:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الحجر: 21، و المراد بالرزق كلّ ما ينتفع به الإنسان في بقائه من مأكل و مشرب و ملبس و مسكن و منكح و ولد و علم و قوّة و غير ذلك.

٤٠٦

و قوله:( وَ ما تُوعَدُونَ ) عطف على( رِزْقُكُمْ ) الظاهر أنّ المراد به الجنّة لقوله تعالى:( عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى‏ ) النجم: 15، و قول بعضهم: إنّ المراد به الجنّة و النار أو الثواب و العقاب لا يلائمه قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ ) الأعراف: 40.

نعم تكرّر في القرآن نسبة نزول العذاب الدنيويّ إلى السماء كقوله:( فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ ) البقرة: 59، و غير ذلك.

و عن بعضهم أنّ قوله:( وَ ما تُوعَدُونَ ) مبتدأ خبره قوله:( فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ ) و الواو للاستئناف و هو معنى بعيد عن الفهم.

قوله تعالى: ( فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ) النطق التكلّم و ضمير( إِنَّهُ ) راجع إلى ما ذكر من كون الرزق و ما توعدون في السماء و الحقّ هو الثابت المحتوم في القضاء الإلهيّ دون أن يكون أمراً تبعيّاً أو اتّفاقيّاً.

و المعنى: اُقسم بربّ السماء و الأرض إنّ ما ذكرناه من كون رزقكم و ما توعدونه من الجنّة - و هو أيضاً من الرزق فقد تكرّر في القرآن تسمية الجنّة رزقاً كقوله:( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ ) الأنفال: 74، و غير ذلك - في السماء لثابت مقضيّ مثل نطقكم و تكلّمكم الّذي هو حقّ لا ترتابون فيه.

و جوّز بعضهم أن يكون ضمير( إِنَّهُ ) راجعاً إلى( ما تُوعَدُونَ ) فقط أو إلى الرزق فقط أو إلى الله أو إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو إلى القرآن أو إلى الدين في قوله:( وَ إِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ ) أو إلى اليوم في قوله:( أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ) أو إلى جميع ما تقدّم من أوّل السورة إلى ههنا، و لعلّ الأوجه رجوعه إلى ما ذكر في قوله:( وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ ) كما قدّمنا.

٤٠٧

( كلام في تكافؤ الرزق و المرزوق)

الرزق بمعنى ما يرتزق به هو ما يمدّ شيئاً آخر في بقائه بانضمامه إليه أو لحوقه به بأيّ معنى كان كالغذاء الّذي يمدّ الإنسان في حياته و بقائه بصيرورته جزءً من بدنه و كالزوج يمدّ زوجه في إرضاء غريزته و بقاء نسله و على هذا القياس.

و من البيّن: أنّ الأشياء المادّيّة يرتزق بعضها ببعض كالإنسان بالحيوان و النبات مثلاً فما يلحق المرزوق في بقائه من أطوار الكينونة و مختلف الأحوال كما أنّها أطوار من الكون لاحقة به منسوبة إليه كذلك هي بعينها أطوار من الكون لاحقة بالرزق منسوبة إليه و إن كان ربّما تغيّرت الأسماء فكما أنّ الإنسان يصير بالتغذّي ذا أجزاء جديدة في بدنه كذلك الغذاء يصير جزءً جديداً من بدنه اسمه كذا.

و من البيّن أيضاً: أنّ القضاء محيط بالكون مستوعب للأشياء يتعيّن به ما يجري على كلّ شي‏ء في نفسه و أطوار وجوده، و بعبارة اُخرى سلسلة الحوادث بما لها من النظام الجاري مؤلّفة من علل تامّة و معلولات ضروريّة.

و من هنا يظهر أنّ الرزق و المرزوق متلازمان لا يتفارقان فلا معنى لموجود يطرأ عليه طور جديد في وجوده بانضمام شي‏ء أو لحوقه إلّا مع وجود الشي‏ء المنضمّ أو اللّاحق المشترك معه في طوره ذلك فلا معنى لمرزوق مستمدّ في بقائه و لا رزق له، و لا معنى لرزق متحقّق و لا مرزوق له كما لا معنى لزيادة الرزق على ما يحتاج إليه المرزوق، و كذا لبقاء مرزوق من غير رزق فالرزق داخل في القضاء الإلهيّ دخولاً أوّليّاً لا بالعرض و لا بالتبع و هو المعنى بكون الرزق حقّاً.

قوله تعالى: ( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ) إشارة إلى قصّة دخول الملائكة المكرمين على إبراهيمعليه‌السلام و تبشيرهم له و لزوجه ثمّ إهلاكهم قوم لوط، و فيها آية على وحدانيّة الربوبيّة كما تقدّمت الإشارة إليه.

٤٠٨

و في قوله:( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ) تفخيم لأمر القصّة و( الْمُكْرَمِينَ ) - و هم الملائكة الداخلون على إبراهيم - صفة( ضَيْفِ ) و إفراده لكونه في الأصل مصدراً لا يثنّى و لا يجمع.

قوله تعالى: ( إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ) الظرف متعلّق بقوله في الآية السابقة:( حَدِيثُ ) و( سَلاماً ) مقول القول و العامل فيه محذوف أي قالوا: نسلّم عليك سلاماً.

و قوله:( قالَ سَلامٌ ) قول و مقول و( سَلامٌ ) مبتدأ محذوف الخبر و التقدير سلام عليكم، و في إتيانه بالجواب جملة اسميّة دالّة على الثبوت تحيّة منهعليه‌السلام بما هو أحسن من تحيّتهم بقولهم: سلاماً فإنّه جملة فعليّه دالّة على الحدوث.

و قوله:( قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ) الظاهر أنّه حكاية قول إبراهيم في نفسه، و معناه أنّه لمّا رآهم استنكرهم و حدّث نفسه أنّ هؤلاء قوم منكرون، و لا ينافي ذلك ما وقع في قوله تعالى:( فَلَمَّا رَأى‏ أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ ) هود: 70 حيث ذكر نكره بعد تقريب العجل الحنيذ إليهم فإنّ ما في هذه السورة حديث نفسه به و ما في سورة هود ظهوره في وجهه بحيث يشاهد منه ذلك.

و هذا المعنى أوجه من قول جمع من المفسّرين: إنّه حكاية قولهعليه‌السلام لهم و التقدير أنتم قوم منكرون.

قوله تعالى: ( فَراغَ إِلى‏ أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ) الروغ الذهاب على سبيل الاحتيال على ما قاله الراغب و قال غيره: هو الذهاب إلى الشي‏ء في خفية، و المعنى الأوّل يرجع إلى الثاني.

و المراد بالعجل السمين المشويّ منه بدليل قوله:( فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) أو الفاء فصيحة و التقدير فجاء بعجل سمين فذبحه و شوّاه و قرّبه إليهم.

قوله تعالى: ( فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَ لا تَأْكُلُونَ ) عرض الأكل على الملائكة و هو يحسبهم بشرّاً.

قوله تعالى: ( فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ ) إلخ الفاء فصيحة و التقدير

٤٠٩

فلم يمدّوا إليه أيديهم فلمّا رأى ذلك نكرهم و أوجس منهم خيفة، و الإيجاس الإحساس في الضمير و الخيفة بناء نوع من الخوف أي أضمر منهم في نفسه نوعاً من الخوف.

و قوله:( قالُوا لا تَخَفْ ) جي‏ء بالفصل لا بالعطف لأنّه في معنى جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل: فما ذا كان بعد إيجاس الخيفة فقيل: قالوا: لا تخف و بشّروه بغلام عليم فبدّلوا خوفه أمنة و سروراً و المراد بغلام عليم إسماعيل أو إسحاق و قد تقدّم الخلاف فيه.

قوله تعالى: ( فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَ قالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ) في المجمع، الصرّة شدّة الصياح و هو من صرير الباب و يقال للجماعة صرّة أيضاً. قال: و الصكّ الضرب باعتماد شديد انتهى.

و المعنى فأقبلت امرأة إبراهيمعليه‌السلام - لمّا سمعت البشارة - في ضجّة و صياح فلطمت وجهها و قالت: أنا عجوز عقيم فكيف ألد؟ أو المعنى هل عجوز عقيم تلد غلاماً؟

و قيل: المراد بالصرّة الجماعة و أنّها جاءت إليهم في جماعة فصكّت وجهها و قالت ما قالت، و المعنى الأوّل أوفق للسياق.

قوله تعالى: ( قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ) الإشارة بكذلك إلى ما بشّروها به بما لها و لزوجها من حاضر الوضع هي عجوز عقيم و بعلها شيخ مسّه الكبر فربّها حكيم لا يريد ما يريد إلّا بحكمه، عليم لا يخفى عليه وجه الأمر.

قوله تعالى: ( قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ - إلى قوله -لِلْمُسْرِفِينَ ) الخطب الأمر الخطير الهامّ، و الحجارة من الطين الطين المتحجّر، و التسويم تعليم الشي‏ء بمعنى جعله ذا علامة من السومة بمعنى العلامة.

و المعنى:( قالَ ) إبراهيمعليه‌السلام ( فَما خَطْبُكُمْ ) و الشأن الخطير الّذي لكم( أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ) من الملائكة( قالُوا ) أي الملائكة لإبراهيم( إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى‏ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ) و هم قوم لوط( لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ ) طيناً متحجّراً سمّاه الله سجّيلاً( مُسَوَّمَةً )

٤١٠

معلّمة( عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ) تختصّ بهم لإهلاكهم، و الظاهر أنّ اللّام في المسرفين للعهد.

قوله تعالى: ( فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - إلى قوله -الْعَذابَ الْأَلِيمَ ) الفاء فصيحة و قد اُوجز بحذف ما في القصّة من ذهاب الملائكة إلى لوط و ورودهم عليه و همّ القوم بهم حتّى إذا أخرجوا آل لوط من القرية، و قد فصّلت القصّة في غير موضع من كلامه تعالى.

فقوله:( فَأَخْرَجْنا ) إلخ بيان إهلاكهم بمقدّمته، و ضمير( فِيها ) للقرية المفهومة من السياق، و( بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) بيت لوط، و قوله:( وَ تَرَكْنا فِيها آيَةً ) إشارة إلى إهلاكهم و جعل أرضهم عاليها سافلها، و المراد بالترك الإبقاء كناية و قد بيّنت هذه الخصوصيّات في سائر كلامه تعالى.

و المعنى: فلمّا ذهبوا إلى لوط و كان من أمرهم ما كان( فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها ) في القرية( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ ) واحد( مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) و هم آل لوط( وَ تَرَكْنا فِيها ) في أرضهم بقلبها و إهلاكهم( آيَةً ) دالّة على ربوبيّتنا و بطلان الشركاء( لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ ) من الناس.

قوله تعالى: ( وَ فِي مُوسى‏ إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى‏ فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) عطف على قوله:( وَ تَرَكْنا فِيها آيَةً ) و التقدير و في موسى آية، و المراد بسلطان مبين الحجج الباهرة الّتي كانت معه من الآيات المعجزة.

قوله تعالى: ( فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَ قالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) التولّي الإعراض و الباء في قوله:( بِرُكْنِهِ ) للمصاحبة، و المراد بركنه جنوده كما يؤيّده الآية التالية، و المعنى: أعرض مع جنوده، و قيل: الباء للتعدية، و المعنى: جعل ركنه متولّين معرضين.

و قوله:( وَ قالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) أي قال تارة هو مجنون كقوله:( إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ) الشعراء: 27، و قال اُخرى: هو ساحر كقوله:( إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ ) الشعراء: 34.

قوله تعالى: ( خَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَ هُوَ مُلِيمٌ‏ ) النبذ طرح الشي‏ء

٤١١

من غير أن يعتدّ به، و اليمّ البحر، و المليم الآتي بما يلام عليه من ألام بمعنى أتى بما يلام عليه كأغرب إذا أتى بأمر غريب.

و المعنى: فأخذناه و جنوده و هم ركنه و طرحناهم في البحر و الحال أنّه أتى من الكفر و الجحود و الطغيان بما يلام عليه، و إنّما خصّ فرعون بالملامة مع أنّ الجميع يشاركونه فيها لأنّه إمامهم الّذي قادهم إلى الهلاك، قال تعالى:( يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ) هود: 98.

و في الكلام من الإيماء إلى عظمة القدرة و هول الأخذ و هو أن أمر فرعون و جنوده ما لا يخفى.

قوله تعالى: ( وَ فِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ) عطف على ما تقدّمه أي و في عاد أيضاً آية إذ أرسلنا عليهم أي أطلقنا عليهم الريح العقيم.

و الريح العقيم هي الريح الّتي عقمت و امتنعت من أن يأتي بفائدة مطلوبة من فوائد الرياح كتنشئة سحاب أو تلقيح شجر أو تذرية طعام أو نفع حيوان أو تصفية هواء كما قيل و إنّما أثرها الإهلاك كما تشير إليه الآية التالية.

قوله تعالى: ( ما تَذَرُ مِنْ شَيْ‏ءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ) ( ما تَذَرُ ) أي ما تترك، و الرميم الشي‏ء الهالك البالي كالعظم البالي السحيق، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ فِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ - إلى قوله -مُنْتَصِرِينَ ) عطف على ما تقدّمه أي و في ثمود أيضاً آية إذ قيل لهم: تمتّعوا حتّى حين، و القائل نبيّهم صالحعليه‌السلام إذ قال لهم:( تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) هود: 65 قال لهم ذلك لمّا عقروا الناقة فأمهلهم ثلاثة أيّام ليرجعوا فيها عن كفرهم و عتوّهم لكن لم ينفعهم ذلك و حقّ عليهم كلمة العذاب.

و قوله:( فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ ) العتو - على ما ذكره الراغب - النبوّء عن الطاعة فينطبق على التمرّد، و المراد بهذا العتوّ العتوّ عن الأمر و الرجوع إلى الله أيّام المهلة فلا يستشكل بأن عتوّهم عن أمر الله كان مقدّماً على تمتّعهم - كما يظهر من تفصيل القصّة - و الآية تدلّ على العكس.

٤١٢

و قوله:( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ ) هذا لا ينافي ما في موضع آخر من ذكر الصيحة بدل الصاعقة كقوله:( وَ أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ ) : هود: 67 لجواز تحقّقهما معاً في عذابهم.

و قوله:( فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَ ما كانُوا مُنْتَصِرِينَ ) لا يبعد أن يكون( اسْتَطاعُوا ) مضمّناً معنى تمكّنوا، و( مِنْ قِيامٍ ) مفعوله أي ما تمكّنوا من قيام من مجلسهم ليفرّوا من عذاب الله و هو كناية عن أنّهم لم يمهلوا حتّى بمقدار أن يقوموا من مجلسهم.

و قوله:( وَ ما كانُوا مُنْتَصِرِينَ ) عطف على( فَمَا اسْتَطاعُوا ) أي ما كانوا منتصرين بنصرة غيرهم ليدفعوا بها العذاب عن أنفسهم، و محصّل الجملتين أنّهم لم يقدروا على دفع العذاب عن أنفسهم لا بأنفسهم و لا بناصر ينصرهم.

قوله تعالى: ( وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ ) عطف على القصص السابقة، و( قَوْمَ نُوحٍ ) منصوب بفعل محذوف و التقدير و أهلكنا قوم نوح من قبل عاد و ثمود إنّهم كانوا فاسقين عن أمر الله.

فهناك أمر و نهي كلّف الناس بهما من قبل الله سبحانه و هو ربّهم و ربّ كلّ شي‏ء دعاهم إلى الدين الحقّ بلسان رسله فما جاء به الأنبياءعليهم‌السلام حقّ من عندالله و ممّا جاؤا به الوعد بالبعث و الجزاء.

قوله تعالى: ( وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَ إِنَّا لَمُوسِعُونَ ) رجوع إلى السياق السابق في قوله:( وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ ) إلخ، و الأيد القدرة و النعمة، و على كلّ من المعنيين يتعيّن لقوله:( وَ إِنَّا لَمُوسِعُونَ ) ما يناسبه من المعنى.

فالمعنى على الأوّل: و السماء بنيناها بقدرة لا يوصف قدرها و إنّا لذووا سعة في القدرة لا يعجزها شي‏ء، و على الثاني: و السماء بنيناها مقارنا بناؤها لنعمة لا تقدّر بقدر و إنّا لذووا سعة و غنى لا تنفد خزائننا بالإعطاء و الرزق نرزق من السماء من نشاء فنوسّع الرزق كيف نشاء.

و من المحتمل أن يكون( موسعون ) من أوسع في النفقة أي كثّرها فيكون

٤١٣

المراد توسعة خلق السماء كما تميل إليه الأبحاث الرياضيّة اليوم.

قوله تعالى: ( وَ الْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ ) الفرش البسط و كذا المهد أي و الأرض بسطناها و سطّحناها لتستقرّوا عليها و تسكنوها فنعم الباسطون نحن، و هذا الفرش و البسط لا ينافي كريّة الأرض.

قوله تعالى: ( وَ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) الزوجان المتقابلان يتمّ أحدهما بالآخر: فاعل و منفعل كالذكر و الاُنثى، و قيل: المراد مطلق المتقابلات كالذكر و الاُنثى و السماء و الأرض و الليل و النهار و البرّ و البحر و الإنس و الجنّ و قيل: الذكر و الاُنثى.

و قوله:( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) أي تتذكّرون أنّ خالقها منزّه عن الزوج و الشريك واحد موحّد.

قوله تعالى: ( فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) في الآيتين تفريع على ما تقدّم من الحجج على وحدانيّته في الربوبيّة و الاُلوهيّة، و فيها قصص عدّة من الاُمم الماضين كفروا بالله و رسله فانتهى بهم ذلك إلى عذاب الاستئصال.

فالمراد بالفرار إلى الله الانقطاع إليه من الكفر و العقاب الّذي يستتبعه، بالإيمان به تعالى وحده و اتّخاذه إلهاً معبوداً لا شريك له.

و قوله:( وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) كالتفسير لقوله:( فَفِرُّوا إِلَى اللهِ ) أي المراد بالإيمان به الإيمان به وحده لا شريك له في الاُلوهيّة و المعبوديّة.

و قد كرّر قوله:( إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) لتأكيد الإنذار، و الآيتان محكيّتان عن لسان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٤١٤

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ ) قال: خلقك سميعاً بصيراً، تغضب مرّة و ترضى مرّة، و تجوع مرّة و تشبع مرّة، و ذلك كلّه من آيات الله.

أقول: و نسبه في المجمع إلى الصادقعليه‌السلام .

و في التوحيد، بإسناده إلى هشام بن سالم قال: سئل أبوعبداللهعليه‌السلام فقيل له: بما عرفت ربّك؟ قال: بفسخ العزم و نقض الهمّ، عزمت ففسخ عزمي، و هممت فنقض همّي.

أقول: و رواه في الخصال، عنه عن أبيه عن جدّه عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج الخرائطيّ في مساوي الأخلاق عن عليّ بن أبي طالب( وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ ) قال: سبيل الغائط و البول.

أقول: الرواية كالروايتين السابقتين مسوقة لبيان بعض المصاديق من طرق المعرفة.

و فيه، أخرج ابن النقور و الديلميّ عن عليّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله:( وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ ) قال: المطر.

أقول: و روى نحواً منه القمّيّ في تفسيره، مرسلاً و مضمراً.

و في إرشاد المفيد، عن عليّعليه‌السلام في حديث: اطلبوا الرزق فإنّه مضمون لطالبه.

و في التوحيد، بإسناده إلى أبي البختريّ قال: حدّثني جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّه عن عليّ بن أبي طالبعليهم‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: يا عليّ: إنّ اليقين أن لا ترضي أحداً على سخط الله، و لا تحمدنّ أحداً على ما آتاك الله، و لا تذمّنّ أحداً على ما لم يؤتك الله فإنّ الرزق لا يجرّه حرص حريص، و لا يصرفه كره كاره. الحديث.

و في المجمع:( فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ ) و قيل: في جماعة. عن الصادقعليه‌السلام .

٤١٥

و في الدرّ المنثور، أخرج الفاريابيّ و ابن المنذر عن عليّ بن أبي طالب قال: الريح العقيم النكباء.

و في التوحيد، بإسناده إلى محمّد بن مسلم قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام فقلت: قول الله عزّوجلّ( يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) ؟ فقال: اليد في كلام العرب القوّة و النعمة، قال الله:( وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ ) ، و قال:( وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ ) أي بقوّة، و قال:( وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) أي بقوّة، و يقال: لفلان عندي يد بيضاء أي نعمة.

و في التوحيد، بإسناده إلى أبي الحسن الرضاعليه‌السلام خطبة طويلة و فيها: بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، و بتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له، و بمضادّته بين الأشياء عرف أن لا ضدّ له، و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له، ضادّ النور بالظلمة، و اليبس بالبلل، و الخشن باللين، و الصرد بالحرور، مؤلّفاً بين متعادياتها، مفرّقاً بين متدانياتها، دالّة بتفريقها على مفرّقها، و بتأليفها على مؤلّفها و ذلك قوله:( مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) .

ففرّق بين قبل و بعد ليعلم أن لا قبل له و لا بعد له، شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمغرّزها، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقّتها، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه و بين خلقه.

و في المجمع في قوله تعالى:( فَفِرُّوا إِلَى اللهِ ) و قيل: معناه حجّوا. عن الصادقعليه‌السلام .

أقول: و رواه في الكافي، و في المعاني، بالإسناد عن أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام و لعلّه من التطبيق.

٤١٦

( سورة الذاريات الآيات 52 - 60)

كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ( 52 ) أَتَوَاصَوْا بِهِ  بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ( 53 ) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ( 54 ) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ( 55 ) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ( 56 ) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ( 57 ) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ( 58 ) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ ( 59 ) فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ( 60 )

( بيان‏)

مختتم السورة و فيه إرجاع الكلام إلى ما في مفتتحها من إنكارهم للبعث الموعود و مقابلتهم الرسالة بقول مختلف ثمّ إيعادهم باليوم الموعود.

قوله تعالى: ( كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) أي الأمر كذلك، فقوله:( كَذلِكَ ) كالتلخيص لمّا تقدّم من إنكارهم و اختلافهم في القول.

و قوله:( ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) إلخ، بيان للمشبّه.

قوله تعالى: ( أَ تَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ ) التواصي إيصاء القوم بعضهم بعضاً بأمر، و ضمير( بِهِ ) للقول، و الاستفهام للتعجيب، و المعنى: هل وصّى بعض هذه الاُمم بعضاً - هل السابق وصّي اللّاحق؟ - على هذا القول؟ لا بل هم قوم طاغون يدعوهم

٤١٧

إلى هذا القول طغيانهم.

قوله تعالى: ( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ ) تفريع على طغيانهم و استكبارهم و إصرارهم على العناد و اللجاج، فالمعنى: فإذا كان كذلك و لم يجيبوك إلّا بمثل قولهم ساحر أو مجنون و لم يزدهم دعوتك إلّا عناداً فأعرض عنهم و لا تجادلهم على الحقّ فما أنت بملوم فقد أريت المحجّة و أتممت الحجّة.

قوله تعالى: ( وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى‏ تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) تفريع على الأمر بالتولّي عنهم فهو أمر بالتذكير بعد النهي عن الجدال معهم، و المعنى: و استمرّ على التذكير و العظة فذكّر كما كنت تذكّر فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين بخلاف الاحتجاج و الجدال مع اُولئك الطاغين فإنّه لا ينفعهم شيئاً و لا يزيدهم إلّا طغياناً و كفراً.

قوله تعالى: ( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) فيه التفات من سياق التكلّم بالغير إلى التكلّم وحده لأنّ الأفعال المذكورة سابقاً المنسوبة إليه تعالى كالخلق و إرسال الرسل و إنزال العذاب كلّ ذلك ممّا يقبل توسيط الوسائط كالملائكة و سائر الأسباب بخلاف الغرض من الخلق و الإيجاد فإنّه أمر يختصّ بالله سبحانه لا يشاركه فيه أحد.

و قوله:( إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) استثناء من النفي لا ريب في ظهوره في أنّ للخلقة غرضاً و أنّ الغرض العبادة بمعنى كونهم عابدين لله لا كونه معبوداً فقد قال: ليعبدون و لم يقل: لاُعبد أو لأكون معبوداً لهم.

على أنّ الغرض كيفما كان أمر يستكمل به صاحب الغرض و يرتفع به حاجته و الله سبحانه لا نقص فيه و لا حاجة له حتّى يستكمل به و يرتفع به حاجته، و من جهة اُخرى الفعل الّذي لا ينتهي إلى غرض لفاعله لغو سفهيّ و يستنتج منه أنّ له سبحانه في فعله غرضاً هو ذاته لا غرض خارج منه، و أنّ لفعله غرضاً يعود إلى نفس الفعل(1) و هو كمال للفعل لا لفاعله، فالعبادة غرض لخلقة الإنسان و كمال عائد إليه هي و ما

____________________

(1) فالله تعالى خلق الإنسان ليثيبه و الثواب عائد إلى الإنسان و هو المنتفع و هو المنتفع به و الله غني عنه، و أمّا غرضه تعالى فهو ذاته المتعالية و إنّما خلقه لأنّه الله عزّ اسمه. منه.

٤١٨

يتبعها من الآثار كالرحمة و المغفرة و غير ذلك، و لو كان للعبادة غرض كالمعرفة الحاصلة بها و الخلوص لله كان هو الغرض الأقصى و العبادة غرضاً متوسّطاً.

فإن قلت: ما ذكرته من حمل اللّام في( لِيَعْبُدُونِ ) على الغرض يعارضه قوله تعالى:( لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ ) : هود: 119، و قوله:( وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ ) الأعراف: 179، فإنّ ظاهر الآية الاُولى كون الغرض من الخلقة الاختلاف، و ظاهر الثانية كون الغرض من خلق كثير من الجنّ و الإنس دخول جهنّم فلا محيص عن رفع اليد من حمل اللّام على الغرض و حملها على الغاية.

قلت: أمّا الآية الاُولى فالإشارة فيها إلى الرحمة دون الاختلاف، و أمّا الآية الثانية فاللّام فيها للغرض لكنّه غرض تبعيّ و بالقصد الثاني لا غرض أصليّ و بالقصد الأوّل و قد تقدّم إشباع الكلام في تفسير الآيتين.

فإن قلت: لو كان اللّام في( لِيَعْبُدُونِ ) للغرض كانت العبادة غرضه تعالى المراد من الخلقة، و من المحال أن يتخلّف مراده تعالى عن إرادته لكن من المعلوم المشاهد عياناً أنّ كثيراً منهم لا يعبدونه تعالى و هذا نعم الدليل على أنّ اللّام في الآية ليست للغرض أو أنّها للغرض لكنّ المراد بالعبادة العبادة التكوينيّة كما في قوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) إسراء: 44.

أو أنّ المراد بخلقهم للعبادة خلقهم على وجه صالح لأن يعبدوا الله بجعلهم ذوي اختيار و عقل و استطاعة، و تنزيل الصلاحية و الاستعداد منزلة الفعليّة مجاز شائع كما يقال: خُلق البقر للحرث، و الدار للسكنى.

قلت: الإشكال مبنيّ على كون اللّام في الجنّ و الإنس للاستغراق فيكون تخلّف الغرض في بعض الأفراد منافياً له و تخلّفاً من الغرض، و الظاهر أنّ اللّام فيهما للجنس دون الاستغراق فوجود العبادة في النوع في الجملة تحقّق للغرض لا يضرّه تخلّفه في بعض الأفراد نعم لو ارتفعت العبادة عن جميع الأفراد كان ذلك بطلاناً للغرض، و لله سبحانه في النوع غرض كما أنّ له في الفرد غرضاً.

٤١٩

و أمّا حمل العبادة على العبادة التكوينيّة فيضعّفه أنّها شأن عامّة المخلوقات لا موجب لتخصيصه بالجنّ و الإنس مضافاً إلى أنّ السياق سياق توبيخ الكفّار على ترك عبادة الله التشريعيّة و تهديدهم على إنكار البعث و الحساب و الجزاء و ذلك متعلّق بالعبادة التشريعيّة دون التكوينيّة.

و أمّا حمل العبادة على الصلوح و الاستعداد بأن يكون الغرض من خلق الجنّ و الإنس كونهما بحيث يصلحان للعبادة و يستعدّان لها أو لتعلّق الأمر و النهي العباديّين فيضعفّه أنّ من البيّن أنّ الصلوح و الاستعداد إنّما يتعلّق به الطلب لأجل الفعليّة الّتي يتعلّق به الصلوح و الاستعداد فلو كان الغرض المطلوب من خلقهما كونهما بحيث يصلحان للعبادة أو لتعلّق الأمر و النهي العباديّين فقد تعلّق الغرض أوّلاً بفعليّة عبادتهما ثمّ بالصلوح و الاستعداد لمكان المقدّميّة.

ففي حمل العبادة على الصلوح و الاستعداد اعتراف بكون الغرض من الخلق أوّلاً و بالذات نفس العبادة ثمّ الصلوح و الاستعداد فيعود الإشكال لو كان هناك إشكال.

فالحقّ أنّ اللّام في( الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ ) للجنس دون الاستغراق، و المراد بالعبادة نفسها دون الصلوح و الاستعداد، و لو كان المراد هو الصلوح و الاستعداد للعبادة لكان ذلك غرضاً أدنى مطلوباً لأجل غرض أعلى هو العبادة كما أنّ نفس العبادة بمعنى ما يأتي به العبد من الأعمال بالجوارح من قيام و ركوع و سجود و نحوها غرض مطلوب لأجل غرض آخر هو المثول بين يدي ربّ العالمين بذلّة العبوديّة و فقر المملوكيّة المحضة قبال العزّة المطلقة و الغنى المحض كما ربّما استفيد من قوله تعالى:( قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ ) الفرقان: 77، حيث بدّل العبادة دعاءً.

فحقيقة العبادة نصب العبد نفسه في مقام الذلّة و العبوديّة و توجيه وجهه إلى مقام ربّه، و هذا هو مراد من فسّر العبادة بالمعرفة يعني المعرفة الحاصلة بالعبادة.

فحقيقة العبادة هي الغرض الأقصى من الخلقة و هي أن ينقطع العبد عن نفسه و عن كلّ شي‏ء و يذكر ربّه.

هذا ما يعطيه التدبّر في قوله تعالى:( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )

٤٢٠