الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 429

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 429 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 120103 / تحميل: 6171
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

نفي الآلهة غير الله لا نفي الآلهة و إثبات الإله تعالى(1) و هو ظاهر فلا حاجة إلى ما تكلّف به بعضهم أنّ الضمير لكلمة التوحيد المعلوم ممّا تكلّم به إبراهيمعليه‌السلام .

و المراد بعقبه ذرّيّته و ولده، و قوله:( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) أي يرجعون من عبادة آلهة غير الله إلى عبادته تعالى أي يرجع بعضهم - و هم العابدون لغير الله بدعوة بعضهم و هم العابدون لله - إلى عبادته تعالى، و بهذا يظهر أنّ المراد ببقاء الكلمة في عقبه عدم خلوّهم عن الموحّد ما داموا، و لعلّ هذا عن استجابة دعائهعليه‌السلام إذ يقول:( وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ) إبراهيم: 35.

و قيل: الضمير في( جعل) لإبراهيمعليه‌السلام فهو الجاعل هذه الكلمة باقية في عقبه رجاء أن يرجعوا إليها، و المراد بجعلها باقية فيهم وصيّته لهم بذلك كما قال تعالى:( وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى‏ لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) البقرة: 132.

و أنت خبير بأنّ الوصيّة بكلمة التوحيد لا تسمّى جعلاً للكلمة باقية في العقب و إن صحّ أن يقال: أراد بها ذلك لكنّه غير جعلها باقية فيهم.

و قيل: المراد أنّ الله جعل الإمامة كلمة باقية في عقبه و سيجي‏ء الكلام فيه في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله.

و يظهر من الآية أنّ ذرّيّة إبراهيمعليه‌السلام لا تخلو من هذه الكلمة إلى يوم القيامة.

قوله تعالى: ( بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَ آباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَ رَسُولٌ مُبِينٌ ) إضراب عمّا يفهم من الآية السابقة، و المعنى: أنّ رجوعهم عن الشرك إلى التوحيد كان هو الغاية المرجوّة منهم لكنّهم لم يرجعوا بل متّعت هؤلاء من قومك و آباءهم فتمتّعوا بنعمي( حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَ رَسُولٌ مُبِينٌ ) .

و لعلّ الالتفات إلى التكلّم وحده في قوله:( بَلْ مَتَّعْتُ ) للإشارة إلى تفخيم

____________________

(1) و ذلك أن ( الله ) فيها مرفوع على البدلية لا منصوب على الاستثناء.

١٠١

جرمهم و أنّهم لا يقصدون في كفرانهم للنعمة و كفرهم بالحقّ و رمية بالسحر إلّا إيّاه تعالى وحده.

و المراد بالحقّ الّذي جاءهم هو القرآن، و بالرسول المبين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( وَ لَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَ إِنَّا بِهِ كافِرُونَ ) هذا طعنهم في الحقّ الّذي جاءهم و هو القرآن و يستلزم الطعن في الرسول. كما أنّ قولهم الآتي:( لَوْ لا نُزِّلَ ) إلخ، كذلك.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى‏ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) المراد بالقريتين مكّة و الطائف، و مرادهم بالعظمة - على ما يفيده السياق - ما هو من حيث المال و الجاه اللّذين هما ملاك الشرافة و علوّ المنزلة عند أبناء الدنيا، و المراد بقوله:( رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) رجل من إحدى القريتين حذف المضاف إيجازاً.

و مرادهم أنّ الرسالة منزلة شريفة إلهيّة لا ينبغي أن يتلبّس به إلّا رجل شريف في نفسه عظيم مطاع في قومه، و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقير فاقد لهذه الخصلة، فلو كان القرآن الّذي جاء به وحياً نازلاً من الله فلو لا نزّل على رجل عظيم من مكّة أو الطائف كثير المال رفيع المنزلة.

و في المجمع: و يعنون بالرجل العظيم من إحدى القريتين الوليد بن المغيرة من مكّة و أبا مسعود عروة بن مسعود الثقفيّ من الطائف. عن قتادة، و قيل: عتبة بن أبي ربيعة من مكّة و ابن عبد ياليل من الطائف. عن مجاهد، و قيل: الوليد بن المغيرة من مكّة و حبيب بن عمر الثقفيّ من الطائف. عن ابن عبّاس. انتهى.

و الحقّ أنّ ذلك من تطبيق المفسّرين و إنّما قالوا ما قالوا على الإبهام و أرادوا أحد هؤلاء من عظماء القريتين على ما هو ظاهر الآية.

قوله تعالى: ( أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) إلخ، المراد بالرحمة - على ما يعطيه السياق - النبوّة.

و قال الراغب: العيش الحياة المختصّة بالحيوان، و هو أخصّ من الحياة لأنّ الحياة تقال في الحيوان و في الباري تعالى و في الملك، و يشتقّ منه المعيشة لما يتعيّش

١٠٢

به. انتهى. و قال: التسخير سياقه إلى الغرض المختصّ قهراً - إلى أن قال -: و السخريّ هو الّذي يُقهر فيتسخّر بإرادته. انتهى.

و الآية و الآيتان بعدها في مقام الجواب عن قولهم:( لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى‏ رَجُلٍ ) إلخ، و محصّلها أنّ قولهم هذا تحكّم ظاهر ينبغي أن يتعجّب منه فإنّهم يحكمون فيما لا يملكون. هذه معيشتهم في الحياة الدنيا يعيشون بها و يرتزقون و هي رحمة منّا لا قدر لها و لا منزلة عندنا و ليست إلّا متاعاً زائلاً نحن نقسمها بينهم و هي خارجة عن مقدرتهم و مشيّتهم فكيف يقسمون النبوّة الّتي هي الرحمة الكبرى و هي مفتاح سعادة البشر الدائمة و الفلاح الخالد فيعطونها لمن شاؤا و يمنعونها ممّن شاؤا.

فقوله:( أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ) الاستفهام للإنكار، و الالتفات إلى الغيبة في قوله:( رَحْمَتَ رَبِّكَ ) و لم يقل: رحمتنا، للدلالة على اختصاص النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعناية الربوبيّة في النبوّة.

و المعنى: أنّهم لا يملكون النبوّة الّتي هي رحمة لله خاصّة به حتّى يمنعوك منها و يعطوها لمن هووا.

و قوله:( نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) بيان لوجه الإنكار في الجملة السابقة بأنّهم عاجزون عن قسمة ما هو دون النبوّة بمراحل و لا منزلة له و هو معيشتهم في الحياة الدنيا فنحن قسمناها بينهم فكيف يقسمون ما هو أرفع منزلة منها بما لا يقدّر قدره و هو النبوّة الّتي هي رحمة ربّك الخاصّة به.

و الدليل على أنّ الأرزاق و المعايش ليست بيد الإنسان اختلاف أفراده بالغنى و الفقر و العافية و الصحّة و في الأولاد و سائر ما يعدّ من الرزق، و كلّ يريد أن يقتني منها ما لا مزيد عليه، و لا يكاد يتيسّر لأحد منهم جميع ما يتمنّاه و يرتضيه فلو كان ذلك بيد الإنسان لم يوجد معدم فقير في شي‏ء منها بل لم يختلف اثنان فيها فاختلافهم فيها أوضح دليل على أنّ الرزق مقسوم بمشيّة من الله دون الإنسان.

على أنّ الإرادة و العمل من الإنسان بعض الأسباب الناقصة لحصول المطلوب الّذي هو الرزق و وراءهما أسباب كونيّة لا تحصى خارجة عن مقدرة الإنسان لا يحصل

١٠٣

المطلوب إلّا بحصولها جميعاً و اجتماعها عليه و ليست إلّا بيد الله الّذي إليه تنتهي الأسباب.

هذا كلّه في المال و أمّا الجاه فهو أيضاً مقسوم من عندالله فإنّه يتوقّف على صفات خاصّة بها ترتفع درجات الإنسان في المجتمع فيتمكّن من تسخير من هو دونه كالفطنة و الدهاء و الشجاعة و علوّ الهمّة و إحكام العزيمة و كثرة المال و العشيرة و شي‏ء من ذلك لا يتمّ إلّا بصنع من الله سبحانه، و ذلك قوله:( وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ) .

فيتبيّن بمجموع القولين أعني قوله:( نَحْنُ قَسَمْنا ) إلخ، و قوله:( وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ ) إلخ، إنّ القاسم للمعيشة و الجاه بين الناس هو الله سبحانه لا غير، و قوله:( وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) أي النبوّة خير من المال فكيف يملكون قسمها و هم لا يملكون قسم المال فيما بينهم.

و من الممكن أن يكون قوله:( وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ ) عطف تفسير على قوله:( نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ ) إلخ، يبيّن قسم المعيشة بينهم ببيان علل انقسامها في المجتمع الإنسانيّ، بيان ذلك أنّ كثرة حوائج الإنسان في حياته الدنيا بحيث لا يقدر على رفع جميعها في عيش انفراديّ أحوجته إلى الاجتماع مع غيره من الأفراد على طريق الاستخدام و الاستدرار أوّلاً و على طريق التعاون و التعاضد ثانياً كما مرّ في مباحث النبوّة من الجزء الثاني من الكتاب.

فآل الأمر إلى المعاوضة العامّة المفيدة لنوع من الاختصاص بأن يعطي كلّ ممّا عنده من حوائج الحياة ما يفضل من حاجته و يأخذ به من الغير ما يعادله ممّا يحتاج إليه فيعطي مثلاً ما يفضل من حاجته من الماء الّذي عنده و قد حصّله و اختصّ به و يأخذ من غيره ما يزيد على قوته من الغذاء، و لازم ذلك أن يسعى كلّ فرد بما يستعدّ له و يحسنه من السعي فيقتني ممّا يحتاج إليه ما يختصّ به، و لازم ذلك أن يحتاج غيره إليه فيما عنده من متاع الحياة فيتسخّر له فيفيده ما يحتاج إليه كالخبّاز يحتاج إلى ما عند السقّاء من الماء و بالعكس فيتعاونان بالمعاوضة و كالمخدوم يتسخّر للخادم لخدمته و الخادم يتسخّر للمخدوم لماله و هكذا فكلّ بعض من المجتمع مسخّر

١٠٤

لآخرين بما عنده و الآخرون متسخّرون له بلا واسطة أو بواسطة أو وسائط لما أنّ كلّا يرتفع على غيره بما يختصّ به ممّا عنده بدرجات مختلفة باختلاف تعلّق الهمم و القصود به.

و على ما تقدّم فالمراد بالمعيشة كلّ ما يعاش به أعمّ من المال و الجاه أو خصوص المال و غيره تبع له كما يؤيّده قوله ذيلاً:( وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) فإنّ المراد به المال و غيره من لوازم الحياة مقصود بالتبع.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً - إلى قوله -وَ مَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ ) الآية و ما يتلوها لبيان أنّ متاع الدنيا من مال و زينة لا قدر لها عند الله سبحانه و لا منزلة.

قالوا: المراد بكون الناس اُمّة واحدة كونهم مجتمعين على سنّة واحدة هي الكفر بالله لو رأوا أنّ زينة الدنيا بحذافيرها عند الكافر بالله و المؤمن صفر الكفّ منها مطلقاً، و المعارج الدرجات و المصاعد.

و المعنى: و لو لا أن يجتمع الناس على الكفر لو رأوا تنعّم الكافرين و حرمان المؤمنين لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضّة و درجات عليها يظهرون لغيرهم.

و يمكن أن يكون المراد بكون الناس اُمّة واحدة كونهم جميعاً على نسبة واحدة تجاه الأسباب العاملة في حظوظ العيش من غير فرق بين المؤمن و الكافر، فمن سعى سعيه للرزق و وافقته الأسباب و العوامل الموصلة الاُخرى نال منه مؤمناً كان أو كافراً، و من لم يجتمع له حرم ذلك و قتر عليه الرزق مؤمناً أو كافراً.

و المعنى: لو لا ما أردنا أن يتساوى الناس تجاه الأسباب الموصلة إلى زخارف الدنيا و لا يختلفوا فيها بالإيمان و الكفر لجعلنا لمن يكفر، إلخ.

قوله تعالى: ( وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَ سُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ وَ زُخْرُفاً ) تنكير( أَبْواباً ) و( سُرُراً ) للتفخيم، و الزخرف الذهب أو مطلق الزينة، قال في المجمع: الزخرف كمال حسن الشي‏ء و منه قيل للذهب، و يقال: زخرفه زخرفة إذا حسّنه و زيّنه، و منه

١٠٥

قيل للنقوش و التصاوير: زخرف، و في الحديث: إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يدخل الكعبة حتّى أمر بالزخرف فنحّي. انتهى. و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ) ( إِنْ ) للنفي و( لَمَّا ) بمعنى إلّا أي ليس كلّ ما ذكر من مزايا المعيشة إلّا متاع الحياة الدنيا الزائلة الفانية الّتي لا تدوم.

و قوله:( وَ الْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ) المراد بالآخرة بقرينة المقام الحياة الآخرة السعيدة كان الحياة الآخرة الشقيّة لا تعدّ حياة.

و المعنى: أنّ الحياة الآخرة السعيدة بحكم من الله تعالى و قضاء منه مختصّة بالمتّقين، و هذا التخصيص و القصر يؤيّد ما قدّمناه من معنى كون الناس اُمّة واحدة في الدنيا بعض التأييد.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ) يقال: عشي يعشى عشاً من باب علم يعلم إذا كان ببصره آفة لا يبصر مطلقاً أو بالليل فقط، و عشا يعشو عشواً و عشوّاً من باب نصر ينصر إذا تعامى و تعشّى بلا آفة، و التقييض التقدير و الإتيان بشي‏ء إلى شي‏ء، يقال: قيّضه له إذا جاء به إليه.

لمّا انتهى الكلام إلى ذكر المتّقين و أنّ الآخرة لهم عندالله قرنه بعاقبة أمر المعرضين عن الحقّ المتعامين عن ذكر الرحمن مشيراً إلى أمرهم من أوّله و هو أنّ تعاميهم عن ذكر الله يورثهم ملازمة قرناء الشياطين فيلازمونهم مضلّين لهم حتّى يردوا عذاب الآخرة معهم.

فقوله:( وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً ) أي من تعامى عن ذكر الرحمن و نظر إليه نظر الأعشى جئنا إليه بشيطان، و قد عبّر تعالى عنه في موضع آخر بالإرسال فقال:( أَ لَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ) مريم: 83، و إضافة الذكر إلى الرحمن للإشارة إلى أنّه رحمة.

و قوله:( فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ) أي مصاحب لا يفارقه.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ) ضمير

١٠٦

( أنّهم ) للشياطين، و ضمائر الجمع الباقية للعاشين عن الذكر، و اعتبار الجمع نظراً إلى المعنى في( وَ مَنْ يَعْشُ ) إلخ، و الصدّ الصرف، و المراد بالسبيل ما يدعو إليه الذكر من سبيل الله الّذي هو دين التوحيد.

و المعنى: و إنّ الشياطين ليصرفون العاشين عن الذكر و يحسب العاشون أنّهم - أي العاشين أنفسهم - مهتدون إلى الحقّ.

و هذا أعني حسبانهم أنّهم مهتدون عند انصدادهم عن سبيل الحقّ أمارة تقييض القرين و دخولهم تحت ولاية الشيطان فإنّ الإنسان بطبعه الأوّليّ مفطور على الميل إلى الحقّ و معرفته إذا عرض عليه ثمّ إذا عرض عليه فأعرض عنه اتّباعاً للهوى و دام عليه طبع الله على قلبه و أعمى بصره و قيّض له القرين فلم ير الحقّ الّذي تراءى له و طبق الحقّ الّذي يميل إليه بالفطرة على الباطل الّذي يدعوه إليه الشيطان فيحسب أنّه مهتد و هو ضالّ و يخيّل إليه أنّه على الحقّ و هو على الباطل.

و هذا هو الغطاء الّذي يذكر تعالى أنّه مضروب عليهم في الدنيا و أنّه سينكشف عنهم يوم القيامة، قال تعالى:( الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي - إلى أن قال -قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) الكهف: 104، و قال فيما يخاطبه يوم القيامة و معه قرينه:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) - إلى أن قال -( قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَ لكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) ق: 27.

قوله تعالى: ( حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ) ( حَتَّى ) غاية لاستمرار الفعل الّذي يدلّ عليه قوله في الآية السابقة:( لَيَصُدُّونَهُمْ ) و قوله:( يَحْسَبُونَ ) أي لا يزال القرناء يصدّونهم و لا يزالون يحسبون أنّهم مهتدون حتّى إذا جاءنا الواحد منهم.

و المراد بالمجي‏ء إليه تعالى البعث، و ضمير( جاء ) و( قال ) راجع إلى الموصول باعتبار لفظه، و المراد بالمشرقين المشرق و المغرب غلّب فيه جانب المشرق.

و المعنى: و أنّهم يستمرّون على صدّهم عن السبيل و يستمرّ العاشون عن الذكر

١٠٧

على حسبان أنّهم مهتدون في انصدادهم حتّى إذا حضر الواحد منهم عندنا و معه قرينه و كشف له عن ضلاله و ما يستتبعه من العذاب الأليم، قال مخاطباً لقرينه متأذّياً من صحابته: يا ليت بيني و بينك بعد المشرق و المغرب فبئس القرين أنت.

و يستفاد من السياق أنّهم معذّبون بصحابة القرناء وراء عذابهم بالنار، و لذا يتمنّون التباعد عنهم و يخصّونه بالذكر و ينسون سائر العذاب.

قوله تعالى: ( وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ) الظاهر أنّه معطوف على ما قبله من وصف حالهم، و المراد باليوم يوم القيامة، و قوله:( أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ) فاعل( لَنْ يَنْفَعَكُمُ ) و المراد بضمير جمع المخاطب العاشون عن الذكر و قرناؤهم، و( إِذْ ظَلَمْتُمْ ) واقع موقع التعليل.

و المراد - و الله أعلم - أنّكم إذا أساء بعضكم إلى بعض في الدنيا فأوقعه في مصيبة ربّما تسليتم بعض التسلّي لو ابتلي هو نفسه بمثل ما ابتلاكم به فينفعكم ذلك تسلّياً و تشفّياً لكن لا ينفعكم يوم القيامة اشتراك قرنائكم معكم في العذاب فإنّ اشتراكهم معكم في العذاب و كونهم معكم في النار هو بعينه عذاب لكم.

و ذكر بعض المفسّرين أنّ فاعل( لَنْ يَنْفَعَكُمُ ) ضمير راجع إلى تمنّيهم المذكور في الآية السابقة، و قوله:( إِذْ ظَلَمْتُمْ ) أي لأجل ظلمكم أنفسكم في الدّنيا باتّباعكم إيّاهم في الكفر و المعاصي، و قوله:( أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ) تعليل لنفي النفع و المعنى: و لن ينفعكم تمنّي التباعد عنكم لأنّ حقّكم أن تشتركوا أنتم و قرناؤكم في العذاب.

و فيه أنّ فيه تدافعاً فإنّه أخذ قوله:( إِذْ ظَلَمْتُمْ ) تعليلاً لنفي نفع التمنّي أوّلاً و قوله:( أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ) تعليلاً له ثانياً و لازم التطابق بين التعليلين أن يذكر ثانياً القضاء على المتمنّين التابعين بالعذاب لا باشتراك التابعين و المتبوعين فيه.

و قال بعضهم: معنى الآية أنّه لا يخفّف الاشتراك عنكم شيئاً من العذاب لأنّ

١٠٨

لكلّ واحد منكم و من قرنائكم الحظّ الأوفر من العذاب.

و فيه أنّ ما ذكر من سبب عدم النفع و إن فرض صحيحاً في نفسه لكن لا دلالة عليه من جهة لفظ الآية و لا سياق الكلام.

و قال بعضهم: المعنى: لا ينفعكم اشتراككم في العذاب كما ينفع الواقعين في شدائد الدنيا اشتراكهم فيها لتعاونهم في تحمّل أعبائها و تقسّمهم لعنائها لأنّ لكلّ منكم و من قرنائكم من العذاب ما لا تبلغه طاقته.

و فيه ما في سابقه من الكلام، و ردّ أيضاً بأنّ الانتفاع بذلك الوجه ليس ممّا يخطر ببالهم حتّى يردّ عليهم بنفيه.

قوله تعالى: ( أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَ مَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) لمّا ذكر تقييضه القرناء لهم و تقليبهم إدراكهم بحيث يرون الضلال هدىً و لا يقدرون على معرفة الحقّ فرّع عليه أن نبهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ هؤلاء صمّ عمي لا يقدر هو على إسماعهم كلمة الحقّ و هدايتهم إلى سبيل الرشد فلا يتجشّم و لا يتكلّف في دعوتهم و لا يحزن لإعراضهم، و الاستفهام للإنكار، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ ) المراد بالإذهاب به توفّيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل الانتقام منهم، و قيل: المراد إذهابه بإخراجه من بينهم، و قوله:( فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ) أي لا محالة، و المراد بإراءته ما وعدهم الانتقام منهم قبل توفّيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو حال كونه بينهم، و قوله:( فإنا عليهم مقتدرون) أي اقتدارنا يفوق عليهم.

و قوله في الصدر:( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ ) أصله إن نذهب بك زيدت عليه ما و النون للتأكيد، و محصّل الآية إنّا منتقمون منهم بعد توفّيك أو قبلها لا محالة.

قوله تعالى: ( فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) الظاهر أنّه تفريع لجميع ما تقدّم من أنّ إنزال الذكر من طريق الوحي و النبوّة من سننه تعالى و أنّ كتابه النازل عليه حقّ و هو رسول مبين لا يستجيب دعوته إلّا المتّقون و لا يعرض عنها إلّا قرناء الشياطين، و لا مطمع في إيمانهم و سينتقم الله منهم.

١٠٩

فأكّد عليه الأمر بعد ذلك كلّه أن يجدّ في التمسّك بالكتاب الّذي اُوحي إليه لأنّه على صراط مستقيم.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ ) الظاهر أنّ المراد بالذكر ذكر الله، و بهذا المعنى تكرّر مراراً في السورة، و اللام في( لَكَ وَ لِقَوْمِكَ ) للاختصاص بمعنى توجّه ما فيه من التكاليف إليهم، و يؤيّده بعض التأييد قوله:( وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ ) أي عنه يوم القيامة.

و عن أكثر المفسّرين أنّ المراد بالذكر الشرف الّذي يذكر به، و المعنى: و إنّه لشرف عظيم لك و لقومك من العرب تذكرون به بين الاُمم.

قوله تعالى: ( وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ) قيل: المراد بالسؤال منهم السؤال من اُممهم و علماء دينهم كقوله تعالى:( فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ ) يونس: 94، و فائدة هذا المجاز أنّ المسؤل عنه السؤال منهم عين ما جاءت به رسلهم لا ما يجيبونه من تلقاء أنفسهم.

و قيل: المراد السؤال من أهل الكتابين: التوراة و الإنجيل فإنّهم و إن كفروا لكنّ الحجّة تقوم بتواتر خبرهم، و الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و التكليف لاُمّته.

و بُعد الوجهين غير خفيّ و يزيد الثاني بعداً التخصيص بأهل الكتابين من غير مخصّص ظاهر.

و قيل: الآية ممّا خوطب به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة المعراج أن يسأل أرواح الأنبياءعليهم‌السلام و قد اجتمع بهم أن يسألهم هل جاؤا بدين وراء دين التوحيد.

و قد وردت به غير واحدة من الروايات عن أئمّة أهل البيتصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و سيوافيك في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله.

( بحث روائي‏)

في المجمع: في قوله تعالى:( وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) و قيل: الكلمة الباقية في عقبه هي الإمامة إلى يوم الدين: عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

١١٠

أقول: و في هذا المعنى روايات اُخر و قد طبّقت الآية في بعضها على الإمامة في عقب الحسينعليه‌السلام .

و التأمّل في الروايات يعطي أنّ بناءها على إرجاع الضمير في( جَعَلَها ) إلى الهداية المفهومة من قوله:( سَيَهْدِينِ ) و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ) أنّ الإمام وظيفته هداية الناس في ملكوت أعمالهم بمعنى سوقهم إلى الله سبحانه بإرشادهم و إيرادهم درجات القرب من الله سبحانه و إنزال كلّ ذي عمل منزلة الّذي يستدعيه عمله، و حقيقة الهداية من الله سبحانه و تنسب إليه بالتبع أو بالعرض.

و فعليّة الهداية النازلة من الله إلى الناس تشمله أوّلاً ثمّ تفيض عنه إلى غيره فله أتمّ الهداية و لغيره ما هي دونها و ما ذكره إبراهيمعليه‌السلام في قوله:( فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ) هداية مطلقة تقبل الانطباق على أتمّ مراتب الهداية الّتي هي حظّ الإمام منها فهي الإمامة و جعلها كلمة باقية في عقبه جعل الإمامة كذلك.

و في الإحتجاج، عن العسكريّ عن أبيهعليه‌السلام قال: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قاعداً ذات يوم بفناء الكعبة إذ قال له عبدالله بن اُميّة المخزوميّ: لو أراد الله أن يبعث إلينا رسولاً لبعث أجلّ من فيما بيننا مالاً و أحسنه حالاً فهلاً نزل هذا القرآن الّذي تزعم أنّ الله أنزله عليك- و ابتعثك به رسولاً، على رجل من القريتين عظيم: إمّا الوليد بن المغيرة بمكّة و إمّا عروة بن مسعود الثقفيّ بالطائف.

ثمّ ذكرعليه‌السلام في كلام طويل جواب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قوله بما في معنى الآيات.

ثمّ قال: و ذلك قوله تعالى:( وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى‏ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) قال الله:( أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ) يا محمّد( نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) فأحوجنا بعضنا إلى بعض أحوج هذا إلى مال ذلك و أحوج ذلك إلى سلعة هذا و إلى خدمته.

فترى أجلّ الملوك و أغنى الأغنياء محتاجاً إلى أفقر الفقراء في ضرب من الضروب إمّا سلعة معه ليست معه، و إمّا خدمة يصلح لها لا يتهيّأ لذلك الملك أن يستغني إلّا به

١١١

و أمّا باب من العلوم و الحكم هو فقير إلى أن يستفيدها من هذا الفقير الّذي يحتاج إلى مال ذلك الملك الغنيّ، و ذلك الملك يحتاج إلى علم هذا الفقير أو رأيه أو معرفته.

ثمّ ليس للملك أن يقول: هلّا اجتمع إلي مالي علم هذا الفقير و لا للفقير أن يقول: هلّا اجتمع إلى رأيي و معرفتي و علمي و ما أتصرّف فيه من فنون الحكم مال هذا الملك الغنيّ، ثمّ قال تعالى:( وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ) .

ثمّ قال: يا محمّد( وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) أي ما يجمعه هؤلاء من أموال الدنيا.

و في الكافي، بإسناده عن سعيد بن المسيّب قال: سألت عليّ بن الحسينعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ) قال: عنى بذلك اُمّة محمّد أن يكونوا على دين واحد كفّاراً كلّهم( لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ ) إلى آخر الآية.

و في تفسير القمّي، بإسناده عن يحيى بن سعيد عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال:( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ ) يا محمّد من مكّة إلى المدينة فإنّا رادّوك إليها و منتقمون منهم بعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج عبدالرزّاق و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و الحاكم و صحّحه عن قتادة في قوله:( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ) قال: قال أنس ذهب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بقيت النقمة و لم ير الله نبيّه في اُمّته شيئاً يكرهه حتّى قبض و لم يكن نبيّ قطّ إلّا و قد رأى العقوبة في اُمّته إلّا نبيّكم رأى ما يصيب اُمّته بعده فما رؤي ضاحكاً منبسطاً حتّى قبض.

أقول: و روي فيه هذا المعنى عنه و عن عليّ بن أبي طالب و عن غيرهما بطرق اُخرى.

و فيه، أخرج ابن مردويه من طريق محمّد بن مروان عن الكلبيّ عن أبي صالح عن جابر بن عبدالله عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله تعالى:( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ )

١١٢

نزلت في عليّ بن أبي طالب أنّه ينتقم من الناكثين و القاسطين بعدي.

أقول: ظاهر الرواية و ما قبلها و ما في معناهما أنّ الوعيد في الآيتين للمنحرفين عن الحقّ من أهل القبلة دون كفّار قريش.

و في الإحتجاج، عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام في حديث طويل يقول فيه: و أمّا قوله تعالى:( وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ) فهذا من براهين نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّتي آتاه الله إيّاها و أوجب به الحجّة على سائر خلقه لأنّه لمّا ختم به الأنبياء و جعله الله رسولاً إلى جميع الاُمم و سائر الملل خصّه بالارتقاء إلى السماء عند المعراج و جمع له يومئذ الأنبياء فعلم منهم ما أرسلوا به و حملوه من عزائم الله و آياته و براهينه. الحديث.

أقول: و روى هذا المعنى القمّيّ في تفسيره، بإسناده عن أبي الربيع عن أبي جعفرعليه‌السلام في جواب ما سأله نافع بن الأزرق، و رواه في الدرّ المنثور، بطرق عن سعيد بن جبير و ابن جريح و ابن زيد.

١١٣

( سورة الزخرف الآيات 46 - 56)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 46 ) فَلَمَّا جَاءَهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ ( 47 ) وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا  وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 48 ) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ( 49 ) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ( 50 ) وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي  أَفَلَا تُبْصِرُونَ ( 51 ) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ( 52 ) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ( 53 ) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ  إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ( 54 ) فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ( 55 ) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِّلْآخِرِينَ ( 56 )

( بيان‏)

لمّا ذكر طغيانهم بعد تمتيعهم بنعمه و رميهم الحقّ الّذي جاءهم به رسول مبين بأنّه سحر و أنّهم قالوا:( لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى‏ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) فرجّحوا الرجل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكثرة ماله مثّل لهم بقصّة موسىعليه‌السلام و فرعون و قومه

١١٤

حيث أرسله الله إليهم بآياته الباهرة فضحكوا منها و استهزؤا بها، و احتجّ فرعون فيما خاطب به قومه على أنّه خير من موسى بملك مصر و أنهار تجري من تحته فاستخفّهم فأطاعوه فآل أمر استكبارهم أن انتقم الله منهم فأغرقهم.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى‏ بِآياتِنا إِلى‏ فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ ) اللّام في( لَقَدْ ) للقسم، و الباء في قوله:( بِآياتِنا ) للمصاحبة، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ ) المراد بمجيئهم بالآيات إظهار المعجزات للدلالة على الرسالة، و المراد بالضحك ضحك الاستهزاء استخفافاً بالآيات.

قوله تعالى: ( وَ ما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها ) إلخ، الاُخت المثل، و قوله:( هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها ) كناية عن كون كلّ واحدة منها بالغة في الدلالة على حقّيّة الرسالة، و جملة( وَ ما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ ) إلخ، حال من ضمير( مِنْها ) ، و المعنى: فلمّا أتاهم بالمعجزات إذا هم منها يضحكون و الحال أنّ كلّاً منها تامّة كاملة في إعجازها و دلالتها من غير نقص و لا قصور.

و قوله:( وَ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) أي رجاء أن يرجعوا عن استكبارهم إلى قبول رسالته، و المراد بالعذاب الّذي اُخذوا به آيات الرجز الّتي نزلت عليهم من السنين و نقص من الثمرات و الطوفان و الجراد و القمّل و الضفادع و الدم آيات مفصّلات كما في سورة الأعراف.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ ) ما في( بِما عَهِدَ عِنْدَكَ ) مصدريّة أي بعهده عندك و المراد به عهده أن يكشف عنهم العذاب لو آمنوا كما قيل أو أن يستجيب دعاءه إذا دعا كما احتمله بعضهم.

و قولهم:( يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ) خطاب استهزاء استكباراً منهم كما قالوا: ادّع ربّك و لم يقولوا: ادع ربّنا أو ادع الله استكباراً، و المراد أنّهم طلبوا منه الدعاء لكشف العذاب عنهم و وعدوه الاهتداء.

١١٥

و قيل: معنى الساحر في عرفهم العالم و كان الساحر عندهم عظيماً يعظّمونه و لم يكن صفة ذمّ. و ليس بذاك بل كانوا ساخرين على استكبارهم كما يشهد به قولهم:( ادْعُ لَنا رَبَّكَ ) .

قوله تعالى: ( فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ ) النكث نقض العهد و خلف الوعد، و وعدهم هو قولهم:( إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ ) .

قوله تعالى: ( وَ نادى‏ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلا تُبْصِرُونَ ) أي ناداهم و هو بينهم، و فصل( قالَ ) لكونه في موضع جواب السؤال كأنّه قيل: فما ذا قال؟ فقيل: قال كذا.

و قوله:( وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ) أي من تحت قصري أو من بستاني الّذي فيه قصري المرتفع العالي البناء، و الجملة أعني قوله:( وَ هذِهِ الْأَنْهارُ ) إلخ، حالية أو( وَ هذِهِ الْأَنْهارُ ) معطوف على( مُلْكُ مِصْرَ ) ، و قوله:( تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ) حال من الأنهار، و الأنهار أنهار النيل.

و قوله:( أَ فَلا تُبْصِرُونَ ) في معنى تكرير الاستفهام السابق في قوله:( أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ) إلخ.

قوله تعالى: ( أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لا يَكادُ يُبِينُ ) المهين الحقير الضعيف من المهانة بمعنى الحقارة، و يريد بالمهين موسىعليه‌السلام لما به من الفقر و رثاثة الحال.

و قوله:( وَ لا يَكادُ يُبِينُ ) أي يفصح عن مراده و لعلّه كان يصف موسىعليه‌السلام به باعتبار ما كان عليه قبل الرسالة لكنّ الله رفع عنه ذلك لقوله:( قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) طه: 36 بعد قولهعليه‌السلام :( وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي ) طه: 28.

و قوله في صدر الآية:( أَمْ أَنَا خَيْرٌ ) إلخ، أم فيه إمّا منقطعة لتقرير كلامه السابق و المعنى: بل أنا خير من موسى لأنّه كذا و كذا، و إمّا متّصلة، و أحد طرفي الترديد محذوف مع همزة الاستفهام، و التقدير: أ هذا خير أم أنا خير إلخ، و في المجمع، قال سيبويه

١١٦

و الخليل: عطف أنا بأم على( أَ فَلا تُبْصِرُونَ ) لأنّ معنى( أَنَا خَيْرٌ ) معنى أم تبصرون فكأنّه قال: أ فلا تبصرون أم تبصرون لأنّهم إذا قالوا له: أنت خير منه فقد صاروا بصراء عنده انتهى. أي إنّ وضع( أَمْ أَنَا خَيْرٌ ) موضع أم تبصرون من وضع المسبّب موضع السبب أو بالعكس.

و كيف كان فالإشارة إلى موسى بهذا من دون أن يذكر باسمه للتحقير و توصيفه بقوله:( الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لا يَكادُ يُبِينُ ) للتحقير و للدلالة على عدم خيريّته.

قوله تعالى: ( فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ) الأسورة جمع سوار بالكسر، و قال الراغب: هو معرّب دستواره قالوا: كان من دأبهم أنّهم إذا سوّدوا رجلاً سوّروه بسوار من ذهب و طوّقوه بطوق من ذهب فالمعنى لو كان رسولاً و ساد الناس بذلك لاُلقي إليه أسورة من ذهب.

و قوله:( أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ) الظاهر أنّ الاقتران بمعنى التقارن كالاستباق و الاستواء بمعنى التسابق و التساوي، و المراد إتيان الملائكة معه متقارنين لتصديق رسالته، و هذه الكلمة ممّا تكرّرت على لسان مكذّبي الرسل كقولهم:( لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ) الفرقان: 7.

قوله تعالى: ( فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ ) أي استخفّ عقول قومه و أحلامهم، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ ) الإيساف الإغضاب أي فلمّا أغضبونا بفسوقهم انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين، و الغضب منه تعالى إرادة العقوبة.

قوله تعالى: ( فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَ مَثَلًا لِلْآخِرِينَ ) السلف المتقدّم و الظاهر أنّ المراد بكونهم سلفاً للآخرين تقدّمهم عليهم في دخول النار، و المثل الكلام السائر الّذي يتمثّل به و يعتبر به، و الظاهر أن كونهم مثلاً لهم كونهم ممّا يعتبر به الآخرون لو اعتبروا و اتّعظوا.

١١٧

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ لا يَكادُ يُبِينُ ) قال: لم يبيّن الكلام.

و في التوحيد، بإسناده إلى أحمد بن أبي عبدالله رفعه إلى أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ( فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ ) قال: إنّ الله لا يأسف كأسفنا و لكنّه خلق أولياء لنفسه يأسفون و يرضون و هم مخلوقون مدبّرون فجعل رضاهم لنفسه رضىً و سخطهم لنفسه سخطاً و ذلك لأنّه جعلهم الدعاة إليه و الأدلّاء عليه فلذلك صاروا كذلك.

و ليس أنّ ذلك يصل إلى الله كما يصل إلى خلقه و لكن هذا معنى ما قال من ذلك، و قد قال أيضاً من أهان لي وليّاً فقد بارزني بالمحاربة و دعاني إليها، و قال أيضاً:( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ) ، و قال أيضاً:( إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ ) و كلّ هذا و شبهه على ما ذكرت لك، و هكذا الرضا و الغضب و غيرهما من الأشياء ممّا يشاكل ذلك.

و لو كان يصل إلى المكوّن الأسف و الضجر و هو الّذي أحدثهما و أنشأهما لجاز لقائل أن يقول: إنّ المكوّن يبيد يوماً لأنّه إذا دخله الضجر و الغضب دخله التغيير فإذا دخله التغيير لم يؤمن عليه الإبادة، و لو كان ذلك كذلك لم يعرف المكوّن من المكوّن و إلا القادر من المقدور و لا الخالق من المخلوقين تعالى الله عن هذا القول علوّاً كبيراً.

هو الخالق للأشياء لا لحاجة فإذا كان لا لحاجة استحال الحدّ و الكيف فيه فافهم ذلك إن شاء الله.

أقول: و روي مثله في الكافي، بإسناده عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع عن عمّه حمزة بن بزيع عنهعليه‌السلام .

١١٨

( سورة الزخرف الآيات 57 - 65)

وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ( 57 ) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ  مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا  بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ( 58 ) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ( 59 ) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ( 60 ) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ  هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ( 61 ) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ  إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ( 62 ) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ  فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ( 63 ) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ  هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ( 64 ) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ  فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ( 65 )

( بيان‏)

إشارة إلى قصّة عيسى بعد الفراغ عن قصّة موسىعليهما‌السلام و قدّم عليها مجادلتهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عيسىعليه‌السلام و اُجيب عنها.

قوله تعالى: ( وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ - إلى قوله -خَصِمُونَ ) الآية إلى تمام أربع آيات أو ستّ آيات حول جدال القوم فيما ضرب من مثل ابن مريم، و الّذي يتحصّل بالتدبّر فيها نظراً إلى كون السورة مكّيّة و مع قطع النظر عن الروايات هو أنّ المراد بقوله:( وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا ) هو ما أنزله

١١٩

الله من وصفه في أوّل سورة مريم فإنّها السورة المكّيّة الوحيدة الّتي وردت فيها قصّة عيسى بن مريمعليه‌السلام تفصيلاً، و السورة تقصّ قصص عدّة من النبيّين بما أنّ الله أنعم عليهم كما تختتم قصصهم بقوله:( أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ ) مريم: 58، و قد وقع في هذه الآيات قوله:( إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ ) و هو من الشواهد على كون قوله:( وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا ) إشارة إلى ما في سورة مريم.

و المراد بقوله:( إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ) بكسر الصاد أي يضجّون و يضحكون ذمّ لقريش في مقابلتهم المثل الحقّ بالتهكّم و السخريّة، و قرئ( يَصِدُّونَ ) بضمّ الصاد أي يعرضون و هو أنسب للجملة التالية.

و قوله:( وَ قالُوا أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ) الاستفهام للإنكار أي آلهتنا خير من ابن مريم كأنّهم لمّا سمعوا اسمه بما يصفه القرآن به من النعمة و الكرامة أعرضوا عنه بما يصفه به القرآن و أخذوه بما له من الصفة عند النصارى أنّه إله ابن إله فردّوا على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ آلهتنا خير منه و هذا من أسخف الجدال كأنّهم يشيرون بذلك إلى أنّ الّذي في القرآن من وصفه لا يعتنى به و ما عند النصارى لا ينفع فإنّ آلهتهم خير منه.

و قوله:( ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا ) أي ما وجّهوا هذا الكلام:( أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ) إليك إلّا جدلاً يريدون به إبطال المثل المذكور و إن كان حقّاً( بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ) أي ثابتون على خصومتهم مصرّون عليها.

و قوله:( إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ ) ردّ لما يستفاد من قولهم:( أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ) أنّه إله النصارى كما سيجي‏ء.

و قال الزمخشريّ في الكشّاف، و كثير من المفسّرين و نسب إلى ابن عبّاس و غيره في تفسير الآية: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا قرأ قوله تعالى:( إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) على قريش امتعضوا من ذلك امتعاضاً شديداً فقال ابن الزبعري:

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

تبيّن خاصّة سيرتهم في جنب الناس و هي إيتاء السائل و المحروم.

و تخصيص حقّ السائل و المحروم بأنّه في أموالهم - مع أنّه لو ثبت فإنّما يثبت في كلّ مال - دليل على أنّ المراد أنّهم يرون بصفاء فطرتهم أنّ في أموالهم حقّاً لهما فيعملون بما يعملون نشراً للرحمة و إيثاراً للحسنة.

و السائل هو الّذي يسأل العطيّة بإظهار الفاقة و المحروم هو الّذي حرم الرزق فلم ينجح سعيه في طلبه و لا يسأل تعفّفاً.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ، حدّثني أبي عن ابن أبي عمير عن جميل عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قوله تعالى:( وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً ) فقال: إنّ ابن الكوّا سأل أميرالمؤمنينعليه‌السلام عن( الذَّارِياتِ ذَرْواً ) قال: الريح، و عن( فَالْحامِلاتِ وِقْراً ) فقال: هي السحاب، و عن( فَالْجارِياتِ يُسْراً ) فقال: هي السفن، و عن( فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً ) فقال: الملائكة.

أقول: و الحديث مرويّ من طرق أهل السنّة أيضاً كما في روح المعاني.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبدالرزّاق و الفاريابيّ و سعيد بن منصور و الحارث بن أبي اُسامة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن الأنباريّ في المصاحف، و الحاكم و صحّحه و البيهقيّ في شعب الإيمان، من طرق عن عليّ بن أبي طالب في قوله:( وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً ) قال: الرياح( فَالْحامِلاتِ وِقْراً ) قال: السحاب( فَالْجارِياتِ يُسْراً ) قال: السفن( فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً ) قال: الملائكة.

و في المجمع، قال أبوجعفر و أبوعبداللهعليهما‌السلام : لا يجوز لأحد أن يقسم إلّا بالله تعالى، و الله يقسم بما شاء من خلقه.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن منيع عن عليّ بن أبي طالب أنّه سئل عن قوله:( وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ ) قال: ذات الخلق الحسن.

أقول: و روي مثله في المجمع، و لفظه: و قيل: ذات الحسن و الزينة: عن عليّ

٤٠١

عليه‌السلام و في جوامع الجامع، و لفظه: و عن عليّعليه‌السلام : حسنها و زينتها.

و في بعض الأخبار: في قوله تعالى:( إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ) تطبيقه على الولاية..

و في المجمع في قوله تعالى:( كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ ) و قيل معناه: كانوا أقلّ ليلة تمرّ بهم إلّا صلّوا فيها: و هو المرويّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

و فيه، في قوله تعالى:( وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) و قال أبوعبداللهعليه‌السلام : كانوا يستغفرون الله في الوتر سبعين مرّة في السحر.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن أنس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ آخر الليل في التهجّد أحبّ إلي من أوّله لأنّ الله يقول:( وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) .

و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عمر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله:( وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) قال: يصلّون.

أقول: لعلّ تفسير الاستغفار بالصلاة من جهة اشتمال الوتر عليه كإرادة الصلاة من القرآن في قوله:( وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ) إسراء: ٧٨.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ ) قال: السائل الّذي يسأل، و المحروم الّذي قد منع كدّه.

و في التهذيب، بإسناده عن صفوان الجمال عن أبي عبداللهعليه‌السلام في الآية قال: المحروم المحارف الّذي قد حرم كدّ يده في الشراء و البيع.

قال: و في رواية اُخرى عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليه‌السلام قال: المحروم الرجل ليس بعقله بأس و لا يبسط له في الرزق و هو محارف.

٤٠٢

( سورة الذاريات الآيات ٢٠ - ٥١)

وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ ( ٢٠ ) وَفِي أَنفُسِكُمْ  أَفَلَا تُبْصِرُونَ ( ٢١ ) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ( ٢٢ ) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ( ٢٣ ) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ( ٢٤ ) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا  قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ( ٢٥ ) فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ( ٢٦ ) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ ( ٢٧ ) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً  قَالُوا لَا تَخَفْ  وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ( ٢٨ ) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ( ٢٩ ) قَالُوا كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ  إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ( ٣٠ ) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ( ٣١ ) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ( ٣٢ ) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ ( ٣٣ ) مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ( ٣٤ ) فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( ٣٥ ) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ ( ٣٦ ) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ( ٣٧ ) وَفِي مُوسَىٰ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ( ٣٨ ) فَتَوَلَّىٰ بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ( ٣٩ ) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ ( ٤٠ ) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا

٤٠٣

عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ( ٤١ ) مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ( ٤٢ ) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّىٰ حِينٍ ( ٤٣ ) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ ( ٤٤ ) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ ( ٤٥ ) وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ  إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ( ٤٦ ) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ( ٤٧ ) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ( ٤٨ ) وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( ٤٩ ) فَفِرُّوا إِلَى اللهِ  إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( ٥٠ ) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ  إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( ٥١ )

( بيان‏)

تشير الآيات إلى عدّة من آيات الله الدالّة على وحدانيّته في الربوبيّة و رجوع أمر التدبير في الأرض و السماء و الناس و أرزاقهم إليه، و لازمه إمكان نزول الدين الإلهيّ من طريق الرسالة بل وجوبه، و لازمه صدق الدعوة النبويّة فيما تضمّنته من وعد البعث و الجزاء و أنّ ما يوعدون لصادق و أنّ الدين لواقع، و قد مرّت إشارة إلى خصوصيّة سلوك السورة في احتجاجها في البيان السابق.

قوله تعالى: ( وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ ) الاستنتاج الآتي في آخر هذه الآيات في قوله:( فَفِرُّوا إِلَى اللهِ - إلى أن قال -وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) الآية، يشهد على أنّ سوق هذه الآيات و الدلائل لإثبات وحدانيّته تعالى في الربوبيّة لا لإثبات أصل وجوده أو انتهاء الخلق إليه و نحو ذلك.

٤٠٤

و في الآية إشارة إلى ما تتضمّنه الأرض من عجائب الآيات الدالّة على وحدة التدبير القائمة بوحدانيّة مدبّره من برّ و بحر و جبال و تلال و عيون و أنهار و معادن و منافعها المتّصلة بعضها ببعض الملاءمة بعضها لبعض ينتفع بها ما عليها من النبات و الحيوان في نظام واحد مستمرّ من غير اتّفاق و صدفة، لائح عليها آثار القدرة و العلم و الحكم دالّ على أنّ خلقها و تدبير أمرها ينتهي إلى خالق مدبّر قادر عليم حكيم.

فأيّ جانب قصد من جوانبها و أيّة وجهة ولّيت من جهات التدبير العامّ الجاري فيها كانت آية بيّنة و برهاناً ساطعاً على وحدانيّة ربّها لا شريك له ينجلي فيه الحقّ لأهل اليقين ففيها آيات للموقنين.

قوله تعالى: ( وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ ) معطوف على قوله:( فِي الْأَرْضِ ) أي و في أنفسكم آيات ظاهرة لمن أبصر إليها و ركز النظر فيها أ فلا تبصرون.

و الآيات الّتي في النفوس منها ما هي في تركّب الأبدان من أعضائها و أعضاء أعضائها حتّى ينتهي إلى البسائط و ما لها من عجائب الأفعال و الآثار المتّحدة في عين تكثّرها المدبّرة جميعاً لمدبّر واحد، و ما يعرضها من مختلف الأحوال كالجنينيّة و الطفوليّة و الرهاق و الشباب و الشيب.

و منها ما هي من حيث تعلّق النفوس أعني الأرواح بها كالحواسّ من البصر و السمع و الذوق و الشمّ و اللمس الّتي هي الطرق الأوّليّة لاطّلاع النفوس على الخارج لتميّز بذلك الخير من الشرّ و النافع من الضّارّ لتسعى إلى ما فيه كمالها و تهرب ممّا لا يلائمها، و في كلّ منها نظام وسيع جار فيه منفصل بذاته عن غيره كالبصر لا خبر عنده عمّا يعمله السمع بنظامه الجاري فيه و هكذا، و الجميع مع هذا الانفصال و التقطّع مؤتلفة تعمل تحت تدبير مدبّر واحد هو النفس المدبّرة و الله من ورائهم محيط.

و من هذا القبيل سائر القوى المنبعثة عن النفوس في الأبدان كالقوّة الغضبيّة و القوّة الشهويّة و ما لها من اللواحق و الفروع فإنّها على ما للواحد منها بالنسبة إلى غيره من البينونة و انفصال النظام الجاري فيه عن غيره واقعة تحت تدبير مدبّر واحد تتعاضد جميع شعبها و تأتلف لخدمته.

٤٠٥

و نظام التدبير الّذي لكلّ من هذه المدبّرات إنّما وجد له حينما وجد و أوّل ما ظهر من غير فصل فليس ممّا عملت فيه خيرته و أوجده هو لنفسه عن فكر و رويّة أو بغيره فنظام تدبيره كنفسه من صانع صنعه و ألزمه نظامه بتدبيره.

و منها الآيات الروحانيّة الواقعة في عالم النفوس الظاهرة لمن رجع إليها و راقب الله سبحانه فيها من آيات الله الّتي لا يسعها وصف الواصفين و ينفتح بها باب اليقين و تدرج المتطّلع عليها في زمرة الموقنين فيرى ملكوت السماوات و الأرض كما قال تعالى:( وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) الأنعام: ٧٥.

قوله تعالى: ( وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ ) قيل: المراد بالسماء جهة العلو فإنّ كلّ ما علاك و أظلّك فهو سماء لغة، و المراد بالرزق المطر الّذي ينزّله الله على الأرض فيخرج به أنواع ما يقتاتونه و يلبسونه و ينتفعون به و قد قال تعالى:( وَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ) الجاثية: ٥، فسمّي المطر رزقاً فالمراد بالرزق سببه أو بتقدير مضاف أي سبب رزقكم.

و قيل: المراد أسباب الرزق السماويّة من الشمس و القمر و الكواكب و اختلاف المطالع و المغارب الراسمة للفصول الأربعة و توالي الليل و النهار و هي جميعاً أسباب الرزق فالكلام على تقدير مضاف أي أسباب رزقكم أو فيه تجوّز بدعوى أنّ وجود الأسباب فيها وجود ذوات الأسباب.

و قيل: المراد بكون الرزق فيها كون تقديره فيها، أو أنّ الأرزاق مكتوبة في اللوح المحفوظ فيها.

و يمكن أن يكون المراد به عالم الغيب فإنّ الأشياء و منها الأرزاق تنزل من عندالله سبحانه و قد صرّح بذلك في أشياء كقوله تعالى:( وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ) الزمر: ٦، و قوله:( وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ) الحديد: ٢٥، و قوله على نحو العموم:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الحجر: ٢١، و المراد بالرزق كلّ ما ينتفع به الإنسان في بقائه من مأكل و مشرب و ملبس و مسكن و منكح و ولد و علم و قوّة و غير ذلك.

٤٠٦

و قوله:( وَ ما تُوعَدُونَ ) عطف على( رِزْقُكُمْ ) الظاهر أنّ المراد به الجنّة لقوله تعالى:( عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى‏ ) النجم: ١٥، و قول بعضهم: إنّ المراد به الجنّة و النار أو الثواب و العقاب لا يلائمه قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ ) الأعراف: ٤٠.

نعم تكرّر في القرآن نسبة نزول العذاب الدنيويّ إلى السماء كقوله:( فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ ) البقرة: ٥٩، و غير ذلك.

و عن بعضهم أنّ قوله:( وَ ما تُوعَدُونَ ) مبتدأ خبره قوله:( فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ ) و الواو للاستئناف و هو معنى بعيد عن الفهم.

قوله تعالى: ( فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ) النطق التكلّم و ضمير( إِنَّهُ ) راجع إلى ما ذكر من كون الرزق و ما توعدون في السماء و الحقّ هو الثابت المحتوم في القضاء الإلهيّ دون أن يكون أمراً تبعيّاً أو اتّفاقيّاً.

و المعنى: اُقسم بربّ السماء و الأرض إنّ ما ذكرناه من كون رزقكم و ما توعدونه من الجنّة - و هو أيضاً من الرزق فقد تكرّر في القرآن تسمية الجنّة رزقاً كقوله:( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ ) الأنفال: ٧٤، و غير ذلك - في السماء لثابت مقضيّ مثل نطقكم و تكلّمكم الّذي هو حقّ لا ترتابون فيه.

و جوّز بعضهم أن يكون ضمير( إِنَّهُ ) راجعاً إلى( ما تُوعَدُونَ ) فقط أو إلى الرزق فقط أو إلى الله أو إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو إلى القرآن أو إلى الدين في قوله:( وَ إِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ ) أو إلى اليوم في قوله:( أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ) أو إلى جميع ما تقدّم من أوّل السورة إلى ههنا، و لعلّ الأوجه رجوعه إلى ما ذكر في قوله:( وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ ) كما قدّمنا.

٤٠٧

( كلام في تكافؤ الرزق و المرزوق)

الرزق بمعنى ما يرتزق به هو ما يمدّ شيئاً آخر في بقائه بانضمامه إليه أو لحوقه به بأيّ معنى كان كالغذاء الّذي يمدّ الإنسان في حياته و بقائه بصيرورته جزءً من بدنه و كالزوج يمدّ زوجه في إرضاء غريزته و بقاء نسله و على هذا القياس.

و من البيّن: أنّ الأشياء المادّيّة يرتزق بعضها ببعض كالإنسان بالحيوان و النبات مثلاً فما يلحق المرزوق في بقائه من أطوار الكينونة و مختلف الأحوال كما أنّها أطوار من الكون لاحقة به منسوبة إليه كذلك هي بعينها أطوار من الكون لاحقة بالرزق منسوبة إليه و إن كان ربّما تغيّرت الأسماء فكما أنّ الإنسان يصير بالتغذّي ذا أجزاء جديدة في بدنه كذلك الغذاء يصير جزءً جديداً من بدنه اسمه كذا.

و من البيّن أيضاً: أنّ القضاء محيط بالكون مستوعب للأشياء يتعيّن به ما يجري على كلّ شي‏ء في نفسه و أطوار وجوده، و بعبارة اُخرى سلسلة الحوادث بما لها من النظام الجاري مؤلّفة من علل تامّة و معلولات ضروريّة.

و من هنا يظهر أنّ الرزق و المرزوق متلازمان لا يتفارقان فلا معنى لموجود يطرأ عليه طور جديد في وجوده بانضمام شي‏ء أو لحوقه إلّا مع وجود الشي‏ء المنضمّ أو اللّاحق المشترك معه في طوره ذلك فلا معنى لمرزوق مستمدّ في بقائه و لا رزق له، و لا معنى لرزق متحقّق و لا مرزوق له كما لا معنى لزيادة الرزق على ما يحتاج إليه المرزوق، و كذا لبقاء مرزوق من غير رزق فالرزق داخل في القضاء الإلهيّ دخولاً أوّليّاً لا بالعرض و لا بالتبع و هو المعنى بكون الرزق حقّاً.

قوله تعالى: ( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ) إشارة إلى قصّة دخول الملائكة المكرمين على إبراهيمعليه‌السلام و تبشيرهم له و لزوجه ثمّ إهلاكهم قوم لوط، و فيها آية على وحدانيّة الربوبيّة كما تقدّمت الإشارة إليه.

٤٠٨

و في قوله:( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ) تفخيم لأمر القصّة و( الْمُكْرَمِينَ ) - و هم الملائكة الداخلون على إبراهيم - صفة( ضَيْفِ ) و إفراده لكونه في الأصل مصدراً لا يثنّى و لا يجمع.

قوله تعالى: ( إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ) الظرف متعلّق بقوله في الآية السابقة:( حَدِيثُ ) و( سَلاماً ) مقول القول و العامل فيه محذوف أي قالوا: نسلّم عليك سلاماً.

و قوله:( قالَ سَلامٌ ) قول و مقول و( سَلامٌ ) مبتدأ محذوف الخبر و التقدير سلام عليكم، و في إتيانه بالجواب جملة اسميّة دالّة على الثبوت تحيّة منهعليه‌السلام بما هو أحسن من تحيّتهم بقولهم: سلاماً فإنّه جملة فعليّه دالّة على الحدوث.

و قوله:( قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ) الظاهر أنّه حكاية قول إبراهيم في نفسه، و معناه أنّه لمّا رآهم استنكرهم و حدّث نفسه أنّ هؤلاء قوم منكرون، و لا ينافي ذلك ما وقع في قوله تعالى:( فَلَمَّا رَأى‏ أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ ) هود: ٧٠ حيث ذكر نكره بعد تقريب العجل الحنيذ إليهم فإنّ ما في هذه السورة حديث نفسه به و ما في سورة هود ظهوره في وجهه بحيث يشاهد منه ذلك.

و هذا المعنى أوجه من قول جمع من المفسّرين: إنّه حكاية قولهعليه‌السلام لهم و التقدير أنتم قوم منكرون.

قوله تعالى: ( فَراغَ إِلى‏ أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ) الروغ الذهاب على سبيل الاحتيال على ما قاله الراغب و قال غيره: هو الذهاب إلى الشي‏ء في خفية، و المعنى الأوّل يرجع إلى الثاني.

و المراد بالعجل السمين المشويّ منه بدليل قوله:( فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) أو الفاء فصيحة و التقدير فجاء بعجل سمين فذبحه و شوّاه و قرّبه إليهم.

قوله تعالى: ( فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَ لا تَأْكُلُونَ ) عرض الأكل على الملائكة و هو يحسبهم بشرّاً.

قوله تعالى: ( فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ ) إلخ الفاء فصيحة و التقدير

٤٠٩

فلم يمدّوا إليه أيديهم فلمّا رأى ذلك نكرهم و أوجس منهم خيفة، و الإيجاس الإحساس في الضمير و الخيفة بناء نوع من الخوف أي أضمر منهم في نفسه نوعاً من الخوف.

و قوله:( قالُوا لا تَخَفْ ) جي‏ء بالفصل لا بالعطف لأنّه في معنى جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل: فما ذا كان بعد إيجاس الخيفة فقيل: قالوا: لا تخف و بشّروه بغلام عليم فبدّلوا خوفه أمنة و سروراً و المراد بغلام عليم إسماعيل أو إسحاق و قد تقدّم الخلاف فيه.

قوله تعالى: ( فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَ قالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ) في المجمع، الصرّة شدّة الصياح و هو من صرير الباب و يقال للجماعة صرّة أيضاً. قال: و الصكّ الضرب باعتماد شديد انتهى.

و المعنى فأقبلت امرأة إبراهيمعليه‌السلام - لمّا سمعت البشارة - في ضجّة و صياح فلطمت وجهها و قالت: أنا عجوز عقيم فكيف ألد؟ أو المعنى هل عجوز عقيم تلد غلاماً؟

و قيل: المراد بالصرّة الجماعة و أنّها جاءت إليهم في جماعة فصكّت وجهها و قالت ما قالت، و المعنى الأوّل أوفق للسياق.

قوله تعالى: ( قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ) الإشارة بكذلك إلى ما بشّروها به بما لها و لزوجها من حاضر الوضع هي عجوز عقيم و بعلها شيخ مسّه الكبر فربّها حكيم لا يريد ما يريد إلّا بحكمه، عليم لا يخفى عليه وجه الأمر.

قوله تعالى: ( قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ - إلى قوله -لِلْمُسْرِفِينَ ) الخطب الأمر الخطير الهامّ، و الحجارة من الطين الطين المتحجّر، و التسويم تعليم الشي‏ء بمعنى جعله ذا علامة من السومة بمعنى العلامة.

و المعنى:( قالَ ) إبراهيمعليه‌السلام ( فَما خَطْبُكُمْ ) و الشأن الخطير الّذي لكم( أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ) من الملائكة( قالُوا ) أي الملائكة لإبراهيم( إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى‏ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ) و هم قوم لوط( لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ ) طيناً متحجّراً سمّاه الله سجّيلاً( مُسَوَّمَةً )

٤١٠

معلّمة( عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ) تختصّ بهم لإهلاكهم، و الظاهر أنّ اللّام في المسرفين للعهد.

قوله تعالى: ( فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - إلى قوله -الْعَذابَ الْأَلِيمَ ) الفاء فصيحة و قد اُوجز بحذف ما في القصّة من ذهاب الملائكة إلى لوط و ورودهم عليه و همّ القوم بهم حتّى إذا أخرجوا آل لوط من القرية، و قد فصّلت القصّة في غير موضع من كلامه تعالى.

فقوله:( فَأَخْرَجْنا ) إلخ بيان إهلاكهم بمقدّمته، و ضمير( فِيها ) للقرية المفهومة من السياق، و( بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) بيت لوط، و قوله:( وَ تَرَكْنا فِيها آيَةً ) إشارة إلى إهلاكهم و جعل أرضهم عاليها سافلها، و المراد بالترك الإبقاء كناية و قد بيّنت هذه الخصوصيّات في سائر كلامه تعالى.

و المعنى: فلمّا ذهبوا إلى لوط و كان من أمرهم ما كان( فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها ) في القرية( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ ) واحد( مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) و هم آل لوط( وَ تَرَكْنا فِيها ) في أرضهم بقلبها و إهلاكهم( آيَةً ) دالّة على ربوبيّتنا و بطلان الشركاء( لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ ) من الناس.

قوله تعالى: ( وَ فِي مُوسى‏ إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى‏ فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) عطف على قوله:( وَ تَرَكْنا فِيها آيَةً ) و التقدير و في موسى آية، و المراد بسلطان مبين الحجج الباهرة الّتي كانت معه من الآيات المعجزة.

قوله تعالى: ( فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَ قالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) التولّي الإعراض و الباء في قوله:( بِرُكْنِهِ ) للمصاحبة، و المراد بركنه جنوده كما يؤيّده الآية التالية، و المعنى: أعرض مع جنوده، و قيل: الباء للتعدية، و المعنى: جعل ركنه متولّين معرضين.

و قوله:( وَ قالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) أي قال تارة هو مجنون كقوله:( إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ) الشعراء: ٢٧، و قال اُخرى: هو ساحر كقوله:( إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ ) الشعراء: ٣٤.

قوله تعالى: ( خَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَ هُوَ مُلِيمٌ‏ ) النبذ طرح الشي‏ء

٤١١

من غير أن يعتدّ به، و اليمّ البحر، و المليم الآتي بما يلام عليه من ألام بمعنى أتى بما يلام عليه كأغرب إذا أتى بأمر غريب.

و المعنى: فأخذناه و جنوده و هم ركنه و طرحناهم في البحر و الحال أنّه أتى من الكفر و الجحود و الطغيان بما يلام عليه، و إنّما خصّ فرعون بالملامة مع أنّ الجميع يشاركونه فيها لأنّه إمامهم الّذي قادهم إلى الهلاك، قال تعالى:( يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ) هود: ٩٨.

و في الكلام من الإيماء إلى عظمة القدرة و هول الأخذ و هو أن أمر فرعون و جنوده ما لا يخفى.

قوله تعالى: ( وَ فِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ) عطف على ما تقدّمه أي و في عاد أيضاً آية إذ أرسلنا عليهم أي أطلقنا عليهم الريح العقيم.

و الريح العقيم هي الريح الّتي عقمت و امتنعت من أن يأتي بفائدة مطلوبة من فوائد الرياح كتنشئة سحاب أو تلقيح شجر أو تذرية طعام أو نفع حيوان أو تصفية هواء كما قيل و إنّما أثرها الإهلاك كما تشير إليه الآية التالية.

قوله تعالى: ( ما تَذَرُ مِنْ شَيْ‏ءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ) ( ما تَذَرُ ) أي ما تترك، و الرميم الشي‏ء الهالك البالي كالعظم البالي السحيق، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ فِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ - إلى قوله -مُنْتَصِرِينَ ) عطف على ما تقدّمه أي و في ثمود أيضاً آية إذ قيل لهم: تمتّعوا حتّى حين، و القائل نبيّهم صالحعليه‌السلام إذ قال لهم:( تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) هود: ٦٥ قال لهم ذلك لمّا عقروا الناقة فأمهلهم ثلاثة أيّام ليرجعوا فيها عن كفرهم و عتوّهم لكن لم ينفعهم ذلك و حقّ عليهم كلمة العذاب.

و قوله:( فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ ) العتو - على ما ذكره الراغب - النبوّء عن الطاعة فينطبق على التمرّد، و المراد بهذا العتوّ العتوّ عن الأمر و الرجوع إلى الله أيّام المهلة فلا يستشكل بأن عتوّهم عن أمر الله كان مقدّماً على تمتّعهم - كما يظهر من تفصيل القصّة - و الآية تدلّ على العكس.

٤١٢

و قوله:( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ ) هذا لا ينافي ما في موضع آخر من ذكر الصيحة بدل الصاعقة كقوله:( وَ أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ ) : هود: ٦٧ لجواز تحقّقهما معاً في عذابهم.

و قوله:( فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَ ما كانُوا مُنْتَصِرِينَ ) لا يبعد أن يكون( اسْتَطاعُوا ) مضمّناً معنى تمكّنوا، و( مِنْ قِيامٍ ) مفعوله أي ما تمكّنوا من قيام من مجلسهم ليفرّوا من عذاب الله و هو كناية عن أنّهم لم يمهلوا حتّى بمقدار أن يقوموا من مجلسهم.

و قوله:( وَ ما كانُوا مُنْتَصِرِينَ ) عطف على( فَمَا اسْتَطاعُوا ) أي ما كانوا منتصرين بنصرة غيرهم ليدفعوا بها العذاب عن أنفسهم، و محصّل الجملتين أنّهم لم يقدروا على دفع العذاب عن أنفسهم لا بأنفسهم و لا بناصر ينصرهم.

قوله تعالى: ( وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ ) عطف على القصص السابقة، و( قَوْمَ نُوحٍ ) منصوب بفعل محذوف و التقدير و أهلكنا قوم نوح من قبل عاد و ثمود إنّهم كانوا فاسقين عن أمر الله.

فهناك أمر و نهي كلّف الناس بهما من قبل الله سبحانه و هو ربّهم و ربّ كلّ شي‏ء دعاهم إلى الدين الحقّ بلسان رسله فما جاء به الأنبياءعليهم‌السلام حقّ من عندالله و ممّا جاؤا به الوعد بالبعث و الجزاء.

قوله تعالى: ( وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَ إِنَّا لَمُوسِعُونَ ) رجوع إلى السياق السابق في قوله:( وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ ) إلخ، و الأيد القدرة و النعمة، و على كلّ من المعنيين يتعيّن لقوله:( وَ إِنَّا لَمُوسِعُونَ ) ما يناسبه من المعنى.

فالمعنى على الأوّل: و السماء بنيناها بقدرة لا يوصف قدرها و إنّا لذووا سعة في القدرة لا يعجزها شي‏ء، و على الثاني: و السماء بنيناها مقارنا بناؤها لنعمة لا تقدّر بقدر و إنّا لذووا سعة و غنى لا تنفد خزائننا بالإعطاء و الرزق نرزق من السماء من نشاء فنوسّع الرزق كيف نشاء.

و من المحتمل أن يكون( موسعون ) من أوسع في النفقة أي كثّرها فيكون

٤١٣

المراد توسعة خلق السماء كما تميل إليه الأبحاث الرياضيّة اليوم.

قوله تعالى: ( وَ الْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ ) الفرش البسط و كذا المهد أي و الأرض بسطناها و سطّحناها لتستقرّوا عليها و تسكنوها فنعم الباسطون نحن، و هذا الفرش و البسط لا ينافي كريّة الأرض.

قوله تعالى: ( وَ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) الزوجان المتقابلان يتمّ أحدهما بالآخر: فاعل و منفعل كالذكر و الاُنثى، و قيل: المراد مطلق المتقابلات كالذكر و الاُنثى و السماء و الأرض و الليل و النهار و البرّ و البحر و الإنس و الجنّ و قيل: الذكر و الاُنثى.

و قوله:( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) أي تتذكّرون أنّ خالقها منزّه عن الزوج و الشريك واحد موحّد.

قوله تعالى: ( فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) في الآيتين تفريع على ما تقدّم من الحجج على وحدانيّته في الربوبيّة و الاُلوهيّة، و فيها قصص عدّة من الاُمم الماضين كفروا بالله و رسله فانتهى بهم ذلك إلى عذاب الاستئصال.

فالمراد بالفرار إلى الله الانقطاع إليه من الكفر و العقاب الّذي يستتبعه، بالإيمان به تعالى وحده و اتّخاذه إلهاً معبوداً لا شريك له.

و قوله:( وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) كالتفسير لقوله:( فَفِرُّوا إِلَى اللهِ ) أي المراد بالإيمان به الإيمان به وحده لا شريك له في الاُلوهيّة و المعبوديّة.

و قد كرّر قوله:( إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) لتأكيد الإنذار، و الآيتان محكيّتان عن لسان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٤١٤

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ ) قال: خلقك سميعاً بصيراً، تغضب مرّة و ترضى مرّة، و تجوع مرّة و تشبع مرّة، و ذلك كلّه من آيات الله.

أقول: و نسبه في المجمع إلى الصادقعليه‌السلام .

و في التوحيد، بإسناده إلى هشام بن سالم قال: سئل أبوعبداللهعليه‌السلام فقيل له: بما عرفت ربّك؟ قال: بفسخ العزم و نقض الهمّ، عزمت ففسخ عزمي، و هممت فنقض همّي.

أقول: و رواه في الخصال، عنه عن أبيه عن جدّه عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج الخرائطيّ في مساوي الأخلاق عن عليّ بن أبي طالب( وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ ) قال: سبيل الغائط و البول.

أقول: الرواية كالروايتين السابقتين مسوقة لبيان بعض المصاديق من طرق المعرفة.

و فيه، أخرج ابن النقور و الديلميّ عن عليّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله:( وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ ) قال: المطر.

أقول: و روى نحواً منه القمّيّ في تفسيره، مرسلاً و مضمراً.

و في إرشاد المفيد، عن عليّعليه‌السلام في حديث: اطلبوا الرزق فإنّه مضمون لطالبه.

و في التوحيد، بإسناده إلى أبي البختريّ قال: حدّثني جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّه عن عليّ بن أبي طالبعليهم‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: يا عليّ: إنّ اليقين أن لا ترضي أحداً على سخط الله، و لا تحمدنّ أحداً على ما آتاك الله، و لا تذمّنّ أحداً على ما لم يؤتك الله فإنّ الرزق لا يجرّه حرص حريص، و لا يصرفه كره كاره. الحديث.

و في المجمع:( فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ ) و قيل: في جماعة. عن الصادقعليه‌السلام .

٤١٥

و في الدرّ المنثور، أخرج الفاريابيّ و ابن المنذر عن عليّ بن أبي طالب قال: الريح العقيم النكباء.

و في التوحيد، بإسناده إلى محمّد بن مسلم قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام فقلت: قول الله عزّوجلّ( يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) ؟ فقال: اليد في كلام العرب القوّة و النعمة، قال الله:( وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ ) ، و قال:( وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ ) أي بقوّة، و قال:( وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) أي بقوّة، و يقال: لفلان عندي يد بيضاء أي نعمة.

و في التوحيد، بإسناده إلى أبي الحسن الرضاعليه‌السلام خطبة طويلة و فيها: بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، و بتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له، و بمضادّته بين الأشياء عرف أن لا ضدّ له، و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له، ضادّ النور بالظلمة، و اليبس بالبلل، و الخشن باللين، و الصرد بالحرور، مؤلّفاً بين متعادياتها، مفرّقاً بين متدانياتها، دالّة بتفريقها على مفرّقها، و بتأليفها على مؤلّفها و ذلك قوله:( مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) .

ففرّق بين قبل و بعد ليعلم أن لا قبل له و لا بعد له، شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمغرّزها، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقّتها، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه و بين خلقه.

و في المجمع في قوله تعالى:( فَفِرُّوا إِلَى اللهِ ) و قيل: معناه حجّوا. عن الصادقعليه‌السلام .

أقول: و رواه في الكافي، و في المعاني، بالإسناد عن أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام و لعلّه من التطبيق.

٤١٦

( سورة الذاريات الآيات ٥٢ - ٦٠)

كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ( ٥٢ ) أَتَوَاصَوْا بِهِ  بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ( ٥٣ ) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ( ٥٤ ) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ( ٥٥ ) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ( ٥٦ ) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ( ٥٧ ) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ( ٥٨ ) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ ( ٥٩ ) فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ( ٦٠ )

( بيان‏)

مختتم السورة و فيه إرجاع الكلام إلى ما في مفتتحها من إنكارهم للبعث الموعود و مقابلتهم الرسالة بقول مختلف ثمّ إيعادهم باليوم الموعود.

قوله تعالى: ( كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) أي الأمر كذلك، فقوله:( كَذلِكَ ) كالتلخيص لمّا تقدّم من إنكارهم و اختلافهم في القول.

و قوله:( ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) إلخ، بيان للمشبّه.

قوله تعالى: ( أَ تَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ ) التواصي إيصاء القوم بعضهم بعضاً بأمر، و ضمير( بِهِ ) للقول، و الاستفهام للتعجيب، و المعنى: هل وصّى بعض هذه الاُمم بعضاً - هل السابق وصّي اللّاحق؟ - على هذا القول؟ لا بل هم قوم طاغون يدعوهم

٤١٧

إلى هذا القول طغيانهم.

قوله تعالى: ( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ ) تفريع على طغيانهم و استكبارهم و إصرارهم على العناد و اللجاج، فالمعنى: فإذا كان كذلك و لم يجيبوك إلّا بمثل قولهم ساحر أو مجنون و لم يزدهم دعوتك إلّا عناداً فأعرض عنهم و لا تجادلهم على الحقّ فما أنت بملوم فقد أريت المحجّة و أتممت الحجّة.

قوله تعالى: ( وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى‏ تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) تفريع على الأمر بالتولّي عنهم فهو أمر بالتذكير بعد النهي عن الجدال معهم، و المعنى: و استمرّ على التذكير و العظة فذكّر كما كنت تذكّر فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين بخلاف الاحتجاج و الجدال مع اُولئك الطاغين فإنّه لا ينفعهم شيئاً و لا يزيدهم إلّا طغياناً و كفراً.

قوله تعالى: ( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) فيه التفات من سياق التكلّم بالغير إلى التكلّم وحده لأنّ الأفعال المذكورة سابقاً المنسوبة إليه تعالى كالخلق و إرسال الرسل و إنزال العذاب كلّ ذلك ممّا يقبل توسيط الوسائط كالملائكة و سائر الأسباب بخلاف الغرض من الخلق و الإيجاد فإنّه أمر يختصّ بالله سبحانه لا يشاركه فيه أحد.

و قوله:( إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) استثناء من النفي لا ريب في ظهوره في أنّ للخلقة غرضاً و أنّ الغرض العبادة بمعنى كونهم عابدين لله لا كونه معبوداً فقد قال: ليعبدون و لم يقل: لاُعبد أو لأكون معبوداً لهم.

على أنّ الغرض كيفما كان أمر يستكمل به صاحب الغرض و يرتفع به حاجته و الله سبحانه لا نقص فيه و لا حاجة له حتّى يستكمل به و يرتفع به حاجته، و من جهة اُخرى الفعل الّذي لا ينتهي إلى غرض لفاعله لغو سفهيّ و يستنتج منه أنّ له سبحانه في فعله غرضاً هو ذاته لا غرض خارج منه، و أنّ لفعله غرضاً يعود إلى نفس الفعل(١) و هو كمال للفعل لا لفاعله، فالعبادة غرض لخلقة الإنسان و كمال عائد إليه هي و ما

____________________

(١) فالله تعالى خلق الإنسان ليثيبه و الثواب عائد إلى الإنسان و هو المنتفع و هو المنتفع به و الله غني عنه، و أمّا غرضه تعالى فهو ذاته المتعالية و إنّما خلقه لأنّه الله عزّ اسمه. منه.

٤١٨

يتبعها من الآثار كالرحمة و المغفرة و غير ذلك، و لو كان للعبادة غرض كالمعرفة الحاصلة بها و الخلوص لله كان هو الغرض الأقصى و العبادة غرضاً متوسّطاً.

فإن قلت: ما ذكرته من حمل اللّام في( لِيَعْبُدُونِ ) على الغرض يعارضه قوله تعالى:( لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ ) : هود: ١١٩، و قوله:( وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ ) الأعراف: ١٧٩، فإنّ ظاهر الآية الاُولى كون الغرض من الخلقة الاختلاف، و ظاهر الثانية كون الغرض من خلق كثير من الجنّ و الإنس دخول جهنّم فلا محيص عن رفع اليد من حمل اللّام على الغرض و حملها على الغاية.

قلت: أمّا الآية الاُولى فالإشارة فيها إلى الرحمة دون الاختلاف، و أمّا الآية الثانية فاللّام فيها للغرض لكنّه غرض تبعيّ و بالقصد الثاني لا غرض أصليّ و بالقصد الأوّل و قد تقدّم إشباع الكلام في تفسير الآيتين.

فإن قلت: لو كان اللّام في( لِيَعْبُدُونِ ) للغرض كانت العبادة غرضه تعالى المراد من الخلقة، و من المحال أن يتخلّف مراده تعالى عن إرادته لكن من المعلوم المشاهد عياناً أنّ كثيراً منهم لا يعبدونه تعالى و هذا نعم الدليل على أنّ اللّام في الآية ليست للغرض أو أنّها للغرض لكنّ المراد بالعبادة العبادة التكوينيّة كما في قوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) إسراء: ٤٤.

أو أنّ المراد بخلقهم للعبادة خلقهم على وجه صالح لأن يعبدوا الله بجعلهم ذوي اختيار و عقل و استطاعة، و تنزيل الصلاحية و الاستعداد منزلة الفعليّة مجاز شائع كما يقال: خُلق البقر للحرث، و الدار للسكنى.

قلت: الإشكال مبنيّ على كون اللّام في الجنّ و الإنس للاستغراق فيكون تخلّف الغرض في بعض الأفراد منافياً له و تخلّفاً من الغرض، و الظاهر أنّ اللّام فيهما للجنس دون الاستغراق فوجود العبادة في النوع في الجملة تحقّق للغرض لا يضرّه تخلّفه في بعض الأفراد نعم لو ارتفعت العبادة عن جميع الأفراد كان ذلك بطلاناً للغرض، و لله سبحانه في النوع غرض كما أنّ له في الفرد غرضاً.

٤١٩

و أمّا حمل العبادة على العبادة التكوينيّة فيضعّفه أنّها شأن عامّة المخلوقات لا موجب لتخصيصه بالجنّ و الإنس مضافاً إلى أنّ السياق سياق توبيخ الكفّار على ترك عبادة الله التشريعيّة و تهديدهم على إنكار البعث و الحساب و الجزاء و ذلك متعلّق بالعبادة التشريعيّة دون التكوينيّة.

و أمّا حمل العبادة على الصلوح و الاستعداد بأن يكون الغرض من خلق الجنّ و الإنس كونهما بحيث يصلحان للعبادة و يستعدّان لها أو لتعلّق الأمر و النهي العباديّين فيضعفّه أنّ من البيّن أنّ الصلوح و الاستعداد إنّما يتعلّق به الطلب لأجل الفعليّة الّتي يتعلّق به الصلوح و الاستعداد فلو كان الغرض المطلوب من خلقهما كونهما بحيث يصلحان للعبادة أو لتعلّق الأمر و النهي العباديّين فقد تعلّق الغرض أوّلاً بفعليّة عبادتهما ثمّ بالصلوح و الاستعداد لمكان المقدّميّة.

ففي حمل العبادة على الصلوح و الاستعداد اعتراف بكون الغرض من الخلق أوّلاً و بالذات نفس العبادة ثمّ الصلوح و الاستعداد فيعود الإشكال لو كان هناك إشكال.

فالحقّ أنّ اللّام في( الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ ) للجنس دون الاستغراق، و المراد بالعبادة نفسها دون الصلوح و الاستعداد، و لو كان المراد هو الصلوح و الاستعداد للعبادة لكان ذلك غرضاً أدنى مطلوباً لأجل غرض أعلى هو العبادة كما أنّ نفس العبادة بمعنى ما يأتي به العبد من الأعمال بالجوارح من قيام و ركوع و سجود و نحوها غرض مطلوب لأجل غرض آخر هو المثول بين يدي ربّ العالمين بذلّة العبوديّة و فقر المملوكيّة المحضة قبال العزّة المطلقة و الغنى المحض كما ربّما استفيد من قوله تعالى:( قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ ) الفرقان: ٧٧، حيث بدّل العبادة دعاءً.

فحقيقة العبادة نصب العبد نفسه في مقام الذلّة و العبوديّة و توجيه وجهه إلى مقام ربّه، و هذا هو مراد من فسّر العبادة بالمعرفة يعني المعرفة الحاصلة بالعبادة.

فحقيقة العبادة هي الغرض الأقصى من الخلقة و هي أن ينقطع العبد عن نفسه و عن كلّ شي‏ء و يذكر ربّه.

هذا ما يعطيه التدبّر في قوله تعالى:( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429