الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 429

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 429 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 120170 / تحميل: 6179
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

هذا وإن كلمة «النشأة» في الأصل ، تعني إيجاد الشيء وتربيته ، وقد يعبر أحيانا عن الدنيا بالنشأة الأولى ، كما يعبر عن الأخرى بالنشأة الآخرة!.

وهذه اللطيفة جديرة بالملاحظة ، وهي أنّ في ذيل الآيات السابقة ورد التعبير «إن ذلك على الله يسير» وورد التعبير هنا( إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

ولعل منشأ التفاوت والاختلاف هو أن الآية الأولى تعالج مطالعة محدودة ، أمّا الثّانية فتعالج وتبيّن مطالعة وسيعة جدّا.

ثمّ يتعرض القرآن الكريم إلى إحدى المسائل المتعلقة بالمعاد ، وهي مسألة الرحمة والعذاب ، فيقول :( يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ) .

ومع أنّ رحمة الله مقدمة على غضبه ، إلّا أن الآية هنا تبدأ أولا بذكر العذاب ثمّ الرحمة ، لأنّها في مقام التهديد ، وما يناسب مقام التهديد هو هذا الأسلوب!.

هنا ينقدح السؤال التالي :

كيف يتحدث القرآن أوّلا عن العذاب والرحمة ، ثمّ يتحدث عن معاد الناس إليه( وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ) ؟ في حين أن القضية على العكس من ذلك ، ففي البداية يحضر الناس عند ساحته ، ثمّ يشملهم العذاب أو الرحمة وربّما كان هذا هو السبب في أن يعتقد بعضهم أن العذاب والرحمة المذكورين هنا هما في هذه الدنيا.

ونقول جوابا على مثل هذا السؤال : إن العذاب والرحمة ـ بقرينة الآيات السابقة واللاحقة ـ هما عذاب القيامة ورحمتها ، وجملة( وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ) إشارة إلى الدليل على ذلك : أي : بما أنّ معادكم إليه وكتابكم وحسابكم لديه ، فالعذاب والرحمة ـ أيضا ـ بإرادته وتحت أمره!.

ولا يبعد أن يكون العذاب والرحمة في هذه الآية لهما معنى واسع ، بحيث

٣٦١

يشمل العذاب والرحمة في الدارين.

كما يتّضح أنّ المراد بقول :( مَنْ يَشاءُ ) هو المشيئة الإلهية المقرونة بحكمته ، أي كل من كان جديرا ومستحقا لذلك فإن مشيئة الله ليست عبثا ، بل منسجمة مع الاستحقاق والجدارة!.

وجملة «تنقلبون» من مادة «القلب» ومعناها في الأصل : تغيير الشيء من صورة إلى صورة أخرى ، وحيث أن الإنسان في يوم القيامة يعود إلى هيئة الموجود الحي الكامل بعد أن كان ترابا لا روح فيه ، فقد ورد هذا التعبير في إيجاده ثانية أيضا.

ويمكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى هذه اللطيفة الدقيقة ـ أيضا ـ وهي أن الإنسان يتبدل في الدار الأخرى ويتغيّر تغيرا ينكشف باطنه به وتتجلى أسراره الخفية ، وبهذا فهي تنسجم مع الآية (٩) من سورة الطارق( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) .

وإكمالا لهذا البحث الذي يبيّن أن الرحمة والعذاب هما بيد الله والمعاد إليه ، يضيف القرآن : إذا كنتم تتصورون أنّكم تستطيعون أن تهربوا من سلطان الله وحكومته ولا يمسّكم عذابه ، فأنتم في خطأ كبير فليس الأمر كذلك!( وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ) (١) .

وإذا كنتم تتصورون أنّكم تجدون من يدافع عنكم وينصركم هناك ، فهذا خطأ محض أيضا( وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) .

وفي الحقيقة ، فإنّ الفرار من قبضة الله وعذابه ، إمّا بأن تخرجوا من حكومته ، وإمّا بأن تعتمدوا مع بقائكم في حكومته على قدرة الآخرين لتدافعوا عن أنفسكم ، فلا الخروج ممكن ، لأنّ البلاد كلّها له وعالم الوجود كلّه ملكه الواسع ،

__________________

(١) كلمة «معجزين» مشتقّة من مادة «عجز» ، ومعناها في الأصل التخلّف والتأخر عن الشيء ، ولذلك تستعمل هذه الكلمة في الضعف الباعث على التخلف والتأخر ، «المعجزة» معناه الذي يجعل الآخر عاجزا ، وحيث أن الأفراد الذين يفرون من سلطان أحد وقدرته ، يعجزونه عن ملاحقتهم ، لذلك استعملت كلمة «معجز» في هذا الصدد أيضا

٣٦٢

ولا يوجد أحد يستطيع أن يقف أمام قدرته وينهض للدفاع عنكم.

يبقى هنا سؤالان : ـ

أوّلا : مع الالتفات إلى هذه الحقيقة ، وهي أن مقصود الآية هو في الكفار والمشركين ، وهم سكنة الأرض ، فما معنى قوله تعالى :( وَلا فِي السَّماءِ ) وأي مفهوم له هنا؟!

وينبغي أن يقال في الجواب ، أن هذا التعبير هو نوع من التأكيد والمبالغة ، أي إنكم لا تستطيعون أن تخرجوا من قدرة الله وسلطانه في هذه الأرض ، ولا في السماوات ، إذ حتى لو فرضنا أنّكم تستطيعون أن تصعدوا في السماء ، فما زلتم تحت قدرته وسلطانه.

أو إنّه : لا تستطيعون أن تعجزوا الله في مشيئته بواسطة من في الأرض ، ولا بواسطة من تعبدون في السماوات ، من أمثال الملائكة والجن (والتّفسير الأوّل أكثر مناسبة ـ طبعا ـ)

ثانيا : ما الفرق بين الولي والنصير؟!

يرى العلامة «الطبرسي» في «مجمع البيان» وقيل : إن الولي الذي يتولى المعونة بنفسه والنصير يتولى النصرة تارة بنفسه بأن يأمره غيره به»(١) .

بل يمكن القول مع ملاحظة الكلمتين هاتين ، أن الولي إشارة إلى من يعيّن دون طلب (من عليه الولاية) ، والنصير هو المستصرخ الذي يأتي لإعانة الإنسان بعد استصراخه.

وهكذا يغلق القرآن جميع أبواب الفرار بوجه هؤلاء المجرمين

لذلك يقول في الآية التي بعدها بشكل قاطع :( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي )

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ، ص ٣٥٢.

٣٦٣

ثمّ يضيف مؤكدا :( وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

هذا «العذاب الأليم» هو لزم اليأس من رحمة الله.

والمراد بـ «ايات الله» إمّا هي «الآيات التكوينية» أي آثار عظمة الله في نظام خلقه وإيجاده ، وفي هذه الصورة فهي إشارة إلى مسألة التوحيد ، في حين أن كلمة «لقائه» إشارة إلى مسألة المعاد ، أي إنّهم منكرون للمبدأ وللمعاد كليهما.

أو أنّ المراد من آيات الله هي «الآيات التشريعية» أي هي الآيات التي أنزلها الله على أنبيائه ، التي تتحدث عن المبدأ وعن النبوة وعن المعاد ، وفي هذه الحال يكون التعبير بـ «لقائه» من قبيل ذكر الخاص بعد العام.

كما يمكن أن يكون المقصود من آيات الله هي جميع الآيات في عالم الوجود والتشريع.

وينبغي ذكر هذه المسألة ـ أيضا ـ وهي أن «يئسوا» فعل ماض والهدف منه هو الاستقبال ـ أي في يوم القيامة ـ والعرب عادة إذا تحدثوا عن أمر مستقبلي بصورة التأكيد عبروا عنه بصيغة الماضي ، للدلالة على تحققه قطعا وحتما.

* * *

٣٦٤

الآيات

( فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) )

التّفسير

أسلوب المستكبرين في جوابهم لإبراهيم :

والآن علينا أن نعرف ماذا قال هؤلاء القوم الضّالون لإبراهيمعليه‌السلام ردّا على أدلته الثّلاثة في مجال التوحيد والنّبوة والمعاد؟!

إنّهم ـ قطعا ـ لم يكن لديهم جواب منطقي وكجميع الأقوياء المستكبرين فقد توسّلوا بقدراتهم الشيطانية وأصدروا أمرا بقتله ، حيث يصرّح بذلك القرآن الكريم فيقول :( فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ! ) .

٣٦٥

ويستفاد من هذا التعبير أن جماعة كانوا يميلون إلى حرق إبراهيم بالنّار ، في حين كانت جماعة أخرى تقترح أن يقتل بالسيف أو ما شاكله!

وأخيرا رجح الرأى الأوّل ، لأنّهم كانوا يعتقدون أنّ أشدّ حالات الإعدام هو الإحراق بالنّار.

كما ويحتمل أيضا أنّهم جميعا كانوا يفكرون في قتله بالوسائل الطبيعية ، غير أنّهم اتفقوا أخيرا على إحراقه بالنّار ، وأن يبذلوا قصارى جهدهم في هذا الأمر.

وفي هذه الآية الكريمة لم يرد كلام عن كيفية إحراق إبراهيمعليه‌السلام بالنّار سوى هذا المقدار الذي استكملت به الآية الكريمة ، وهو( فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ ) .

غير أن تفصيل ما جرى عليه من الإحراق ورد في سورة الأنبياء (الآيات ٦٨ ـ ٧٠) وقد بيّنا ذلك هناك ، فلا بأس بمراجعته!

ويضيف القرآن في الختام( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

ولم تكن علامة وآية واحدة في هذا الصدد وفي هذه الحادثة ، بل علائم وآيات فمن جانب فإنّ عدم تأثير النّار في جسد إبراهيم بنفسه معجزة واضحة ، وتبدل النّار إلى روضة و «سلام» على إبراهيم كما هو معروف معجزة أخرى ، وعدم استطاعة هذه الجماعة القوية التغلب على شخص واحد ـ وهو أعزل من كل وسيلة بحسب الظاهر ـ كان معجزة ثالثة أيضا.

كما أنّ عدم تأثير هذا الحادث العجيب الخارق للعادة في أولئك المظلمة قلوبهم ، آية من آيات الله ، إذ يسلب التوفيق من أمثال هؤلاء الأفراد المعاندين الألدّاء ، بحيث لا تؤثر فيهم أعظم الآيات!.

وقد ورد في بعض الرّوايات أنّه لما القي بإبراهيم الخليل مكتوف اليدين والرجلين في النّار ، فإن الشيء الوحيد الذي احترق منه هو الحبل الذي كان مشدودا وموثقا به(١) .

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ٢٠ ، ص ١٣٠.

٣٦٦

أجل ، إنّ نار الجهل وجناية المنحرفين إنّما أحرقت وسائل الأسر ، فتحرر إبراهيمعليه‌السلام منها وهذه بنفسها تعدّ آية أخرى.

وربّما كان ـ لهذه الأسباب ـ أن عبّر القرآن عن قصّة نوح وسفينته بقوله :( جَعَلْناها آيَةً ) بصيغة الإفراد ، ولكنّه عبّر هنا بقوله :( لَآياتٍ ) بصيغة الجمع!.

وعلى كل حال فإنّ ابراهيمعليه‌السلام نجّي من النّار بصورة خارقة للعادة وبلطف الله سبحانه ، غير أنّه لم يترك أهدافه بل نهض بالأمر وازداد همّة وأعطى لأهدافه حرارة أكثر.

ثمّ توجه إبراهيم إلى المشركين( وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) ولكن هذه المودّة والمحبّة تتلاشى في الآخرة( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ) .

كيف تكون الأوثان أساسا للمودّة بين عبدة الأوثان؟!

هذا السؤال يمكن الإجابة عليه من عدّة طرق :

الأوّل : أن عبادة الصنم أو الوثن كانت رمزا للوحدة لكل قوم ولكل قبيلة ، لأنّ كل جماعة اختارت لنفسها وثنا ، كما ذكروا في شأن أصنام الجاهلية ، إذ كان كل صنم يعود لقبيلة من القبائل العربية ، فصنم «العزّى» كان لقريش ، و «اللّات» كان خاصا بثقيف ، أمّا «منات» فكان خاصا بالأوس والخزرج!.

الثّاني : أن عبادة الأوثان تربط بينهم وبين أسلافهم وغالبا ما كانوا يعتذرون بمثل هذا العذر ويقولون : إنّ هذه الأوثان كان عليها السلف ونحن نتبع السلف ونمضي على دين آبائنا.

ثمّ بعد هذا كلّه فإنّ سراة(١) الكفار كانوا يدعون أتباعهم إلى عبادة الأوثان ، وكان هذا الأمر بمثابة «حلقة الاتصال» بين السراة والأتباع.

__________________

(١) «السراة» جمع مفردها سريّ ـ كبير القوم. (المصحح)

٣٦٧

ولكن هذه العلائق والوشائج والارتباطات الخاوية تتقطع جميعها يوم القيامة ، وكل فرد يلقي التبعة والذنب على رقبة الآخر ، ويلعنه ويتبرأ منه ومن عمله ، حتى المعبودات التي كانوا يتصورون أنّها الوسيلة إلى الله ، وكانوا يقولون في شأنها( ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى ) ،(١) ـ تتبرأ منهم.

وكما يصوّر القرآن هذه الحالة في سورة مريم الآية ٨٢ يقول :( كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) .

فعلى هذا ، يكون المراد من قوله تعالى :( يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) هو أنّهم يتبرأ بعضهم من بعض في ذلك اليوم ، وما كان أساسا لعلاقة المودة الكاذبة في الدنيا يكون مدعاة للعداوة والبغضاء في الآخرة كما يعبّر القرآن عن ذلك في الآية (٦٧) من سورة الزخرف فيقول :( الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ) .

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ هذا الحكم غير مختص بعبدة أوثان ، بل هو لجميع أولئك الذين اختاروا «إماما باطلا» لأنفسهم ، فاتبعوه وتعاهدوا معه على المودة ، ففي يوم القيامة يكونون أعداء فيما بينهم ، ويتبرأ بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضا.(٢) في حين أنّ علاقة المحبّة بين المؤمنين قائمة على أساس التوحيد وعبادة الله وإطاعة أمر الحق في هذه الدنيا وهذه العلاقة سيكتب لها الدوام ، وفي الآخرة تكون أكثر تماسكا حين إنّه يستفاد من بعض الروايات أنّ المؤمنين يستغفر بعضهم لبعض ويتشفع بعضهم لبعض في يوم القيامة في وقت يتبرأ فيه المشركون بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضا(٣) .

وفي الآية التي بعد تلك الآية إشارة إلى إيمان لوط وهجرة إبراهيم ، إذ تقول :

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية ٣.

(٢) أصول الكافي ، طبقا لما ورد في تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٥٤.

(٣) كتاب الصدوق ، طبقا لما ورد في تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٥٤.

٣٦٨

( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ) .

«لوط» نفسه من الأنبياء العظام ، وكانت له مع إبراهيم علاقة قربى «يقال إنّه كان ابن أخت ابراهيمعليه‌السلام » وحيث أن اتّباع شخص عظيم ـ لإبراهيم ـ بمنزلة أفراد امّة كاملة فقد تحدث سبحانه ـ خاصة ـ عن إيمان «لوط» وشخصيته الكبرى المعاصرة لإبراهيمعليه‌السلام ، ليتّضح أنّه إذ لم يؤمن الآخرون ، فإنّ ذلك ليس مهمّا.

ويبدوا أنّه كانت في أرض بابل قلوب مهيأة لقبول دعوة إبراهيم الخليلعليه‌السلام ، وقد التفوا حوله بعد مشاهدة تلك المعجزة العظيمة ، غير أنّه من المسلّم به أنّهم كانوا «أقليّة».

ثمّ تضيف الآية عن هجرة إبراهيمعليه‌السلام فتقول :( وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

ومن الوضوح بمكان أنّه حين يؤدي القادة الإلهيون رسالتهم في محيط ما ، ويكون هذا المحيط ملوّثا وتحت تأثير الجبابرة ، بحيث لا تتقدّم دعوتهم أكثر ، فينبغي أن يهاجروا إلى منطقة أخرى لتتسع دعوة الله في الأرض!.

فلذلك تحرك ابراهيمعليه‌السلام وزوجه سارة ـ بمعيّة لوط ـ من بابل إلى أرض الشام مهد الأنبياء والتوحيد ، ليستطيع أن يكتسب جماعة هناك ويوسع دعوة التوحيد!.

من الطريف أنّ إبراهيمعليه‌السلام يقول في هذا الصدد :( إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي ) لأنّ ذلك الطريق كان طريق الله ، طريق رضاه ، وطريق دينه ومنهاجه.

وبالطبع فإنّ بعض المفسّرين احتمل أن يكون الضمير في قوله تعالى :( وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ ) عائد على لوطعليه‌السلام ، أي إنّ لوطا قال : إنّي مهاجر إلى ربّي ، وظاهر الجملة منسجم مع هذا المعنى أيضا ، إلّا أن الشواهد التاريخية تدلّ على أن الضمير يعود على إبراهيمعليه‌السلام ، وكانت هجرة لوط بمعية إبراهيم.

٣٦٩

والشاهد على هذا الكلام قول إبراهيمعليه‌السلام في الآية (٩٩) من سورة الصافات( إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ ) .(١) وفي آخر آية من هذا المقطع يقع الكلام على المواهب الأربع التي منحها الله لإبراهيمعليه‌السلام بعد الهجرة العظيمة :

الموهبة الأولى : الأبناء الصالحون ، من أمثال إسحاق ويعقوب ، ليسرجوا مصباح الإيمان والنّبوة في بيته وأسرته ويحافظوا عليه ، إذ يقول القرآن :( وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ) وهما نبيّان كبيران واصل كلّ منهما السير على منهاج إبراهيمعليه‌السلام محطم الأصنام.

الموهبة الثّانية :( وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ ) ولم تكن النّبوة في إسحاق بن إبراهيم ويعقوب حفيده فحسب ، بل استمر خط النّبوة في ذريّة إبراهيمعليه‌السلام وأسرته حتى نبوّة خاتم الأنبياء محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متعاقبون من ذرية إبراهيم ، نوّروا العالم بضياء التوحيد.

الموهبة الثّالثة :( وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا ) فما هو هذا الأجر الذي لم يوجهه القرآن؟ لعله إشارة إلى أمور مختلفة مثل الاسم الحسن ، ولسان الصدق والثناء بين جميع الأمم ، لأنّ الأمم كلها تحترم ابراهيمعليه‌السلام على أنّه نبي عظيم الشأن ، ويفتخرون بوجوده ويسمونه «شيخ الأنبياء».

عمارة أرض مكّة كانت بدعائه ، وجذب قلوب الناس جميعا نحوه ، لتتذكر ذكريات التجلي والإيمان كل سنة في مناسك الحج ، كل ذلك من هذا الأجر المشار اليه في القرآن.

الموهبة الرّابعة : هي( إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) وهكذا تشكّل هذه

__________________

(١) هناك بحث مفصل في هجرة إبراهيمعليه‌السلام من بابل إلى الشام في ذيل الآية (٧١) من سورة الأنبياء من التّفسير الأمثل ، فلا بأس بمراجعته.

٣٧٠

المواهب مجموعة كاملة من المفاخر.

* * *

ملاحظتان

١ ـ أكبر الفخر!

«الدخول في الصالحين» بالشكل الذي يستنتج من كثير من آيات القرآن هو أوج الفخر ، وقد يحظى به انسان معين فيكون من نصيبه. ولذلك فإنّ كثيرا من الأنبياء كانوا يسألون الله أن يدخلهم في زمرة عباده الصالحين.

فيوسفعليه‌السلام بعد وصوله إلى أبرز الانتصارات الظاهرية يسأل الله فيقول :( تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) .(١)

وكذلك نبيّ الله سليمانعليه‌السلام مع ما لديه من جاه وحشمة وجلالة ، يطلب من الله( أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ ) (٢)

وشعيبعليه‌السلام ، ذلك النّبي العظيم ، حين وقع العقد على استئجار موسى قال له :

( سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) .(٣)

وإبراهيمعليه‌السلام أيضا يطلب لنفسه من الله أن يكون في زمرة الصالحين( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) .(٤) كما يطلب من الله أن يرزقه أبناء صالحين فيقول :( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) .(٥)

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية ١٠١.

(٢) سورة النمل ، الآية ١٩.

(٣) سورة القصص ، الآية ٣٧.

(٤) سورة الشعراء ، الآية ٨٣.

(٥) سورة الصافات ، الآية ١٠٠.

٣٧١

كما نلاحظ في كثير من الآيات أن الله سبحانه حين يمدح أنبياءه العظام في كتابه ، يصفهم بأنّهم «من عباده الصالحين».

ويستفاد من مجموع هذه الآيات ـ بصورة جيدة ـ أن أسمى مراحل تكامل الإنسان هو أن يكون عبدا صالحا.

ما معنى الصلاح؟! وبعبارة أجلى : ما معنى أن يكون الإنسان صالحا؟!

معناه : أن يكون جديرا بالاعتقاد والإيمان ، جديرا بالعمل ، جديرا بالقول ، جديرا بالأخلاق!

أمّا ما يقابل الصالح فهو الفاسد ، ونعرف أن «الفساد في الأرض» تعبير يشمل جميع أنواع الظلم والأعمال السيئة.

وفي القرآن الكريم يستعمل الصلاح ـ أحيانا ـ في مقابل الفساد ، ويستعمل ـ أحيانا ـ في مقابل السيئة ، وتعني «الذنب» وما لا يليق.

٢ ـ مواهب إبراهيم العظيمة

قال بعض المفسّرين : إنّ في الآية الآنفة لطيفة دقيقة هي أنّ الله بدل جميع الأمور والأحوال التي تؤدي بإبراهيم إلى الاستياء ، إلى الضدّ.

فعبدة الأوثان في بابل أرادوا إحراقه بالنّار ، فتبدلت روضة وسلاما.

وأرادوه أن يبقى منفردا معزولا عن الناس ، فوهب الله له أمّة عظيمة وجعل النّبوة في ذراريه.

وكان بعض أقاربه ضالا وعابدا للصنم كما هي الحال في «آزر» فأعطاه الله مكانه أبناء مهتدين وهادين للآخرين.

ولم يكن لإبراهيمعليه‌السلام في بداية حياته مال ولا جاه ، فوهب له الله مالا وجاها عظيما.

٣٧٢

وكان إبراهيمعليه‌السلام في بداية أمره مجهولا لا يعرفه الناس حتى أن عبدة الأوثان في بابل حين أرادوا تعريفه( قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ ) .

لكن الله سبحانه رفع مقامه وأعلى صيته ، حتى أنّه إذا ذكر قيل في حقّه «شيخ الأنبياء» أو «شيخ المرسلين»(١) .

* * *

__________________

(١) تفسير الرازي ، بشيء من التصرف.

٣٧٣

الآيات

( وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) )

التّفسير

المنحرفون جنسيا :

بعد بيان جانب ممّا جرى لإبراهيمعليه‌السلام يتحدث القرآن عن قسم من قصّة حياة النّبي المعاصر لإبراهيم «لوط»عليه‌السلام فيقول :( وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ ) .(١)

«الفاحشة» كما بيناها من قبل ، مشتقّة من مادة «فحش» وهي في الأصل تعني كل فعل أو كلام سيء للغاية ، والمراد بها هنا الانحراف الجنسي. (اللواط).

ويستفاد من جملة( ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ ) بصورة جليّة أن

__________________

(١) يمكن أن تكون كلمة «لوطا» عطفا على كلمة (نوحا) فتكون بمنزلة المفعول «لأرسلنا» ويمكن أن يكون مفعولا لفعل محذوف تقديره «واذكر لوطا».

٣٧٤

هذا العمل السيء والمخزي لم يسبق له ـ على الأقل بشكل عام وجماعي ـ أن يقع في أية أمة أو قوم كما وقع في قوم لوط.

ذكروا في أحوال قوم لوط أن واحدا من عوامل تلوثهم بهذا الذنب هو أنّهم كانوا قوما بخلاء جدا ، ولمّا كانت مدنهم على قارعة الطريق التي تمرّ بها قوافل الشام ، فقد كانوا يظهرون هذا العمل «الانحراف» لبعض ضيوفهم أو العابرين لينفروهم وكي لا يضيفوهم ، إلّا أنّهم تعودوا على هذا العمل القبيح ، وقويت فيهم رغبة اللواط ، فسقطوا في الوحل المخزي شيئا فشيئا.

على كل حال ، سينؤون بحمل ذنوبهم وذنوب من يعمل عملهم ، دون أن ينقص من ذنوب الآخرين شيء أبدا وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم!.

لأنّهم كانوا مؤسسي هذه السنة المشؤومة ، ونحن نعرف أن من سنّ سنة ما فهو شريك في عمل من يعمل بها أيضا.

لوطعليه‌السلام هذا النّبي العظيم ، كشف أخيرا ما في نفسه وقال لقومه( أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ ) أفتريدون أن تقطعوا النسل( وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ ) (١) .

ولا ترعوون عن الأعمال المخزية في مجالسكم العامة( وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) .

«النادي» مشتق من «النداء» وهو يعني المجلس العام ، كما يأتي أحيانا بمعنى مكان التنزّه ، لأنّ الأفراد هناك ينادي بعضهم بعضا وترتفع أصواتهم.

والقرآن لم يبيّن هنا بتفصيل أية منكرات كانوا يأتونها في مجالسهم ونواديهم لكنّها قطعا كانت متناسبة مع عملهم السيء المخزي وكما ورد في

__________________

(١) يرى جماعة من المفسّرين وجوها واحتمالات أخرى لجملة «وتقطعون السبيل» منها ما فسّروه بقطع الطريق على الناس في سفرهم مع الالتفات إلى ماضيهم وتأريخهم المعروف ، لأنّ القوافل تضطر أن تأخذ طريقا غير مطروق من أجل أن تسلم من شرّ هؤلاء ولئلا تبتلي بهم ، كما فسّره بعضهم بسرقة أموال المسافرين في القافلة ولكن التّفسير الأوّل المشار إليه في المتن أنسب للآية كما يبدوا للنظر ، لأنّ واحدا من أسرار تحريم اللواط وفلسفته هو خطر قطع النسل كما صرحت به الرّوايات.

٣٧٥

بعض التواريخ ، فإنّهم كانوا يتسابون بكلمات الفحش والابتذال ، أو يضرب أحدهم الأخر على ظهره. أو يلعبون القمار ، وأو يعبثون كالأطفال وخاصة الترامي بالحجارة الصغيرة فيما بينهم أو على العابرين ، ويستعملون أنواع الآلات الموسيقية ، ويكشفون عوراتهم في مجتمعهم ويغدون عراة إلخ(١) .

في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كما تنقله «أم هاني» أنّه قال مفسرا لمعنى :( وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) أنّهم «كانوا يخذفون من يمرّ بهم ويسخرون منه»(٢) أي يرمون من يمرّ بهم بالحجارة ويسخرون منه.

والآن فلنلاحظ ما ذا كان جواب هؤلاء القوم الضالين المنحرفين ، على كلمات النّبي لوطعليه‌السلام المنطقية.

يقول القرآن :( فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) .

أجل هكذا ، كان جواب هؤلاء المفتونين فاقدي العقل والدراية إذ أجابوا به من منطلق السخرية والاستهزاء إزاء دعوة لوطعليه‌السلام المنطقية والمعقولة.

كما يستفاد جيدا من هذا الجواب أنّ لوطاعليه‌السلام كان قد هدّدهم بعذاب الله ، بالإضافة إلى كلامه البيّن ذي الدليل الواضح في ما لو استمروا بهذا العمل القبيح ، إلّا أنّهم تركوا جميع مواعظه وتمسكوا بتهديده بالعذاب ، فقالوا :( ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ ) على سبيل الاستهزاء والسخرية!! كما أشير إلى هذا الموضوع في سورة القمر الآية (٣٦) بقوله تعالى :( وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ ) .

ويستشف ـ ضمنا ـ من تعبير هؤلاء القوم أنّهم كانوا يريدن أن يستنتجوا من عدم نزول العذاب على كذب لوطعليه‌السلام ، في حين أن رحمة الله هي التي تمهلهم وتعطيهم الفرصة لمراجعة أنفسهم وإعادة النظر!

__________________

(١) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٥١٧.

(٢) تفسير القرطبي ذيل الآيات محل البحث.

٣٧٦

وهنا لم يكن للوطعليه‌السلام بدّ إلّا أن يلتفت إلى الله بقلب حزين مهموم و( قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ) .

القوم المنحرفين ، المتمادين في الأرض فسادا ، والذين تركوا تقواهم وأخلاقهم الإنسانية وألقوا العفة والطهارة خلف ظهورهم ، وسحقوا العدل الاجتماعي تحت أقدامهم ، ومزجوا عبادة الأوثان بفساد الأخلاق والظلم ، وهددوا نسل الإنسان بالفناء والزوال ، فيا ربّ انصرني على هؤلاء القوم المفسدين.

* * *

ملاحظة

بلاء الانحراف الجنسي :

الانحراف الجنسي ـ سواء كان في أوساط الرجال «اللواط» أم في أوساط النساء «المساحقة» ـ لهو من أسوأ الانحرافات الأخلاقية ، ومصدر المفاسد الكثيرة في المجتمع.

وأساسا فإنّ طبيعة «كلّ من الرجل والمرأة» مخلوقة بشكل يمنح الهدوء والإشباع الصحيح السالم في العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة «عن طريق الزواج المشروع» وأي نوع من الميول الجنسية في غير هذه الصورة هو انحراف عن طبع الإنسان الصحيح ، وهو نوع من الأمراض النفسيّة الذي لو قدّر له أن يستمرّ لاشتد خطره يوما بعد يوم ، وتكون نتيجته البرود الجنسي بالنسبة ما بين الرجل والمرأة ، والإشباع غير الصحيح من «الجنس المماثل» أي «اللواط» أو «السحاق».

ولهذا النوع من العلائق غير المشروعة أثر مدمّر في جهاز البدن ، بل حتى في سلسلة الأعصاب والروح. إذ يسقط الرجل من رجولته والمرأة من أنوثتها!

٣٧٧

بحيث أن أمثال هؤلاء الرجال والنساء المنحرفين جنسيا يبتلون بضعف جنسي شديد ، ولا يستطيعون أن يكونوا آباء وأمهات صالحين لأبنائهم في المستقبل ، وربّما كانوا غير قادرين حتى على الإنجاب بصورة كلية «بسبب هذا الانحراف».

إن المنحرفين جنسيا يغدون بالتدريج منزوين منعزلين عن المجتمع ، ويحسون بالغربة في مجتمعهم وفي أنفسهم أيضا ، كما يبتلون بنفصام الشخصية ، وإذا لم يهتموا بإصلاح أنفسهم ، فمن الممكن أن يبتلوا بأمراض جسمية ونفسية مختلفة.

ولهذا السبب ـ ولأسباب أخلاقية واجتماعية أخرى ـ حرّم الإسلام الانحراف الجنسي تحريما شديدا بأي شكل كان وفي أية صورة ، كما قرر للذي يقوم بهذا العمل عقابا صارما يبلغ أحيانا إلى درجة الإعدام والقتل!.

والموضوع المهم هو أن الانفلات الاخلاقي والتميّع الجنسي والابتذال للعالم المتمدن والحضارة المادية قد جرّت كثيرا من الفتيان والفتيات إلى الانحراف الكبير.

في البداية يرغّبون الفتيان في أن يلبسوا ثياب النساء وأن يظهروا بمظهر خاص ، ويدعون النساء أن يلبسن ثياب الرجال ، وتبدأ من هنا قضية الانحراف الجنسي حتى تصل إلى أقبح الأعمال الوقحة في هذا المجال ، وتأخذ شكلا قانونيا بحيث يعدون هذا الأمر عاديا لا يستحق أي نوع من العقاب أو التبعة ، ولا يسع القلم إلّا أن يستحي ويخجل من وصف ذلك(١) .

* * *

__________________

(١) كان لنا في صدد الانحراف الجنسي بحث مفصل في ذيل الآية (٨١) سورة هود

٣٧٨

الآيات

( وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥) )

التّفسير

وهذه هي عاقبة المنحرفين :

لقد أستجيب دعاء لوط أخيرا ، وصدر الأمر من الله تعالى بالعقاب الصارم والشديد لهؤلاء القوم المنحرفين والمفسدين ، فمرّ الملائكة المأمورون بعذاب قوم لوط بالأرض التي فيها إبراهيمعليه‌السلام لأداء رسالة أخرى قبل أن ينزلوا العقاب بقوم لوط ، وهذه الرسالة التي سبقت العذاب ، هي بشارتهم لإبراهيمعليه‌السلام بالولد : «بشروه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب».

٣٧٩

والآيات المتقدمة تذكر أوّلا قصّة مرورهم بإبراهيمعليه‌السلام فتقول :( وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ ) .

والتعبير بـ «هذه القرية» يدل على أن مدن قوم لوط كانت قريبة من أرض إبراهيمعليه‌السلام

والتعبير بالظالمين هو لأجل كونهم يظلمون أنفسهم باتخاذهم سبيل الشرك والفساد الأخلاقي وعدم العفة ، وظلمهم الآخرين حتى شمل العابرين والقوافل التي كانت تمرّ على طريقهم.

فلمّا سمع «إبراهيم» هذا النبأ حزن على لوط النّبي العظيم و( قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً ) .

فما عسى أن تكون عاقبته؟!

إلّا أنّهم أجابوه على الفور ،( قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها ) فلا تحزن عليه ، لأننا لا نحرق «الأخضر واليابس» معا ، وخطتنا دقيقة ومحسوبة تماما ثمّ أضافوا( لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ ) .

ويستفاد من هذه الآية جيدا أنّ أسرة واحدة فقط في جميع تلك المدن والقرى كانت مؤمنة وغير مدنّسة ، وقد نجاها الله في ذلك الحين أيضا كما نقرأ مثل ذلك في الآية (٣٦) من سورة الذاريات :( فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) ومع ذلك فإنّ امرأة لوط كانت خارجة عن جماعة المؤمنين ، فشملها العذاب.

والتعبير بـ «الغابرين» جمع «غابر» ومعناه المتخلف عن جماعته الماضين في الطريق ، فالمرأة التي كانت في عائلة النبوّة لا ينبغي لها أن تنفصل عن المؤمنين والمسلمين غير أنّ الكفر والشرك وعبادة الأوثان ـ كل ذلك ـ دعاها إلى الانفصال!.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

تبيّن خاصّة سيرتهم في جنب الناس و هي إيتاء السائل و المحروم.

و تخصيص حقّ السائل و المحروم بأنّه في أموالهم - مع أنّه لو ثبت فإنّما يثبت في كلّ مال - دليل على أنّ المراد أنّهم يرون بصفاء فطرتهم أنّ في أموالهم حقّاً لهما فيعملون بما يعملون نشراً للرحمة و إيثاراً للحسنة.

و السائل هو الّذي يسأل العطيّة بإظهار الفاقة و المحروم هو الّذي حرم الرزق فلم ينجح سعيه في طلبه و لا يسأل تعفّفاً.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ، حدّثني أبي عن ابن أبي عمير عن جميل عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قوله تعالى:( وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً ) فقال: إنّ ابن الكوّا سأل أميرالمؤمنينعليه‌السلام عن( الذَّارِياتِ ذَرْواً ) قال: الريح، و عن( فَالْحامِلاتِ وِقْراً ) فقال: هي السحاب، و عن( فَالْجارِياتِ يُسْراً ) فقال: هي السفن، و عن( فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً ) فقال: الملائكة.

أقول: و الحديث مرويّ من طرق أهل السنّة أيضاً كما في روح المعاني.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبدالرزّاق و الفاريابيّ و سعيد بن منصور و الحارث بن أبي اُسامة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن الأنباريّ في المصاحف، و الحاكم و صحّحه و البيهقيّ في شعب الإيمان، من طرق عن عليّ بن أبي طالب في قوله:( وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً ) قال: الرياح( فَالْحامِلاتِ وِقْراً ) قال: السحاب( فَالْجارِياتِ يُسْراً ) قال: السفن( فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً ) قال: الملائكة.

و في المجمع، قال أبوجعفر و أبوعبداللهعليهما‌السلام : لا يجوز لأحد أن يقسم إلّا بالله تعالى، و الله يقسم بما شاء من خلقه.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن منيع عن عليّ بن أبي طالب أنّه سئل عن قوله:( وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ ) قال: ذات الخلق الحسن.

أقول: و روي مثله في المجمع، و لفظه: و قيل: ذات الحسن و الزينة: عن عليّ

٤٠١

عليه‌السلام و في جوامع الجامع، و لفظه: و عن عليّعليه‌السلام : حسنها و زينتها.

و في بعض الأخبار: في قوله تعالى:( إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ) تطبيقه على الولاية..

و في المجمع في قوله تعالى:( كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ ) و قيل معناه: كانوا أقلّ ليلة تمرّ بهم إلّا صلّوا فيها: و هو المرويّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

و فيه، في قوله تعالى:( وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) و قال أبوعبداللهعليه‌السلام : كانوا يستغفرون الله في الوتر سبعين مرّة في السحر.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن أنس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ آخر الليل في التهجّد أحبّ إلي من أوّله لأنّ الله يقول:( وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) .

و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عمر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله:( وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) قال: يصلّون.

أقول: لعلّ تفسير الاستغفار بالصلاة من جهة اشتمال الوتر عليه كإرادة الصلاة من القرآن في قوله:( وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ) إسراء: ٧٨.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ ) قال: السائل الّذي يسأل، و المحروم الّذي قد منع كدّه.

و في التهذيب، بإسناده عن صفوان الجمال عن أبي عبداللهعليه‌السلام في الآية قال: المحروم المحارف الّذي قد حرم كدّ يده في الشراء و البيع.

قال: و في رواية اُخرى عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليه‌السلام قال: المحروم الرجل ليس بعقله بأس و لا يبسط له في الرزق و هو محارف.

٤٠٢

( سورة الذاريات الآيات ٢٠ - ٥١)

وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ ( ٢٠ ) وَفِي أَنفُسِكُمْ  أَفَلَا تُبْصِرُونَ ( ٢١ ) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ( ٢٢ ) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ( ٢٣ ) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ( ٢٤ ) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا  قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ( ٢٥ ) فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ( ٢٦ ) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ ( ٢٧ ) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً  قَالُوا لَا تَخَفْ  وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ( ٢٨ ) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ( ٢٩ ) قَالُوا كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ  إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ( ٣٠ ) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ( ٣١ ) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ( ٣٢ ) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ ( ٣٣ ) مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ( ٣٤ ) فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( ٣٥ ) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ ( ٣٦ ) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ( ٣٧ ) وَفِي مُوسَىٰ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ( ٣٨ ) فَتَوَلَّىٰ بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ( ٣٩ ) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ ( ٤٠ ) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا

٤٠٣

عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ( ٤١ ) مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ( ٤٢ ) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّىٰ حِينٍ ( ٤٣ ) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ ( ٤٤ ) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ ( ٤٥ ) وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ  إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ( ٤٦ ) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ( ٤٧ ) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ( ٤٨ ) وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( ٤٩ ) فَفِرُّوا إِلَى اللهِ  إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( ٥٠ ) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ  إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( ٥١ )

( بيان‏)

تشير الآيات إلى عدّة من آيات الله الدالّة على وحدانيّته في الربوبيّة و رجوع أمر التدبير في الأرض و السماء و الناس و أرزاقهم إليه، و لازمه إمكان نزول الدين الإلهيّ من طريق الرسالة بل وجوبه، و لازمه صدق الدعوة النبويّة فيما تضمّنته من وعد البعث و الجزاء و أنّ ما يوعدون لصادق و أنّ الدين لواقع، و قد مرّت إشارة إلى خصوصيّة سلوك السورة في احتجاجها في البيان السابق.

قوله تعالى: ( وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ ) الاستنتاج الآتي في آخر هذه الآيات في قوله:( فَفِرُّوا إِلَى اللهِ - إلى أن قال -وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) الآية، يشهد على أنّ سوق هذه الآيات و الدلائل لإثبات وحدانيّته تعالى في الربوبيّة لا لإثبات أصل وجوده أو انتهاء الخلق إليه و نحو ذلك.

٤٠٤

و في الآية إشارة إلى ما تتضمّنه الأرض من عجائب الآيات الدالّة على وحدة التدبير القائمة بوحدانيّة مدبّره من برّ و بحر و جبال و تلال و عيون و أنهار و معادن و منافعها المتّصلة بعضها ببعض الملاءمة بعضها لبعض ينتفع بها ما عليها من النبات و الحيوان في نظام واحد مستمرّ من غير اتّفاق و صدفة، لائح عليها آثار القدرة و العلم و الحكم دالّ على أنّ خلقها و تدبير أمرها ينتهي إلى خالق مدبّر قادر عليم حكيم.

فأيّ جانب قصد من جوانبها و أيّة وجهة ولّيت من جهات التدبير العامّ الجاري فيها كانت آية بيّنة و برهاناً ساطعاً على وحدانيّة ربّها لا شريك له ينجلي فيه الحقّ لأهل اليقين ففيها آيات للموقنين.

قوله تعالى: ( وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ ) معطوف على قوله:( فِي الْأَرْضِ ) أي و في أنفسكم آيات ظاهرة لمن أبصر إليها و ركز النظر فيها أ فلا تبصرون.

و الآيات الّتي في النفوس منها ما هي في تركّب الأبدان من أعضائها و أعضاء أعضائها حتّى ينتهي إلى البسائط و ما لها من عجائب الأفعال و الآثار المتّحدة في عين تكثّرها المدبّرة جميعاً لمدبّر واحد، و ما يعرضها من مختلف الأحوال كالجنينيّة و الطفوليّة و الرهاق و الشباب و الشيب.

و منها ما هي من حيث تعلّق النفوس أعني الأرواح بها كالحواسّ من البصر و السمع و الذوق و الشمّ و اللمس الّتي هي الطرق الأوّليّة لاطّلاع النفوس على الخارج لتميّز بذلك الخير من الشرّ و النافع من الضّارّ لتسعى إلى ما فيه كمالها و تهرب ممّا لا يلائمها، و في كلّ منها نظام وسيع جار فيه منفصل بذاته عن غيره كالبصر لا خبر عنده عمّا يعمله السمع بنظامه الجاري فيه و هكذا، و الجميع مع هذا الانفصال و التقطّع مؤتلفة تعمل تحت تدبير مدبّر واحد هو النفس المدبّرة و الله من ورائهم محيط.

و من هذا القبيل سائر القوى المنبعثة عن النفوس في الأبدان كالقوّة الغضبيّة و القوّة الشهويّة و ما لها من اللواحق و الفروع فإنّها على ما للواحد منها بالنسبة إلى غيره من البينونة و انفصال النظام الجاري فيه عن غيره واقعة تحت تدبير مدبّر واحد تتعاضد جميع شعبها و تأتلف لخدمته.

٤٠٥

و نظام التدبير الّذي لكلّ من هذه المدبّرات إنّما وجد له حينما وجد و أوّل ما ظهر من غير فصل فليس ممّا عملت فيه خيرته و أوجده هو لنفسه عن فكر و رويّة أو بغيره فنظام تدبيره كنفسه من صانع صنعه و ألزمه نظامه بتدبيره.

و منها الآيات الروحانيّة الواقعة في عالم النفوس الظاهرة لمن رجع إليها و راقب الله سبحانه فيها من آيات الله الّتي لا يسعها وصف الواصفين و ينفتح بها باب اليقين و تدرج المتطّلع عليها في زمرة الموقنين فيرى ملكوت السماوات و الأرض كما قال تعالى:( وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) الأنعام: ٧٥.

قوله تعالى: ( وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ ) قيل: المراد بالسماء جهة العلو فإنّ كلّ ما علاك و أظلّك فهو سماء لغة، و المراد بالرزق المطر الّذي ينزّله الله على الأرض فيخرج به أنواع ما يقتاتونه و يلبسونه و ينتفعون به و قد قال تعالى:( وَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ) الجاثية: ٥، فسمّي المطر رزقاً فالمراد بالرزق سببه أو بتقدير مضاف أي سبب رزقكم.

و قيل: المراد أسباب الرزق السماويّة من الشمس و القمر و الكواكب و اختلاف المطالع و المغارب الراسمة للفصول الأربعة و توالي الليل و النهار و هي جميعاً أسباب الرزق فالكلام على تقدير مضاف أي أسباب رزقكم أو فيه تجوّز بدعوى أنّ وجود الأسباب فيها وجود ذوات الأسباب.

و قيل: المراد بكون الرزق فيها كون تقديره فيها، أو أنّ الأرزاق مكتوبة في اللوح المحفوظ فيها.

و يمكن أن يكون المراد به عالم الغيب فإنّ الأشياء و منها الأرزاق تنزل من عندالله سبحانه و قد صرّح بذلك في أشياء كقوله تعالى:( وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ) الزمر: ٦، و قوله:( وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ) الحديد: ٢٥، و قوله على نحو العموم:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الحجر: ٢١، و المراد بالرزق كلّ ما ينتفع به الإنسان في بقائه من مأكل و مشرب و ملبس و مسكن و منكح و ولد و علم و قوّة و غير ذلك.

٤٠٦

و قوله:( وَ ما تُوعَدُونَ ) عطف على( رِزْقُكُمْ ) الظاهر أنّ المراد به الجنّة لقوله تعالى:( عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى‏ ) النجم: ١٥، و قول بعضهم: إنّ المراد به الجنّة و النار أو الثواب و العقاب لا يلائمه قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ ) الأعراف: ٤٠.

نعم تكرّر في القرآن نسبة نزول العذاب الدنيويّ إلى السماء كقوله:( فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ ) البقرة: ٥٩، و غير ذلك.

و عن بعضهم أنّ قوله:( وَ ما تُوعَدُونَ ) مبتدأ خبره قوله:( فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ ) و الواو للاستئناف و هو معنى بعيد عن الفهم.

قوله تعالى: ( فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ) النطق التكلّم و ضمير( إِنَّهُ ) راجع إلى ما ذكر من كون الرزق و ما توعدون في السماء و الحقّ هو الثابت المحتوم في القضاء الإلهيّ دون أن يكون أمراً تبعيّاً أو اتّفاقيّاً.

و المعنى: اُقسم بربّ السماء و الأرض إنّ ما ذكرناه من كون رزقكم و ما توعدونه من الجنّة - و هو أيضاً من الرزق فقد تكرّر في القرآن تسمية الجنّة رزقاً كقوله:( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ ) الأنفال: ٧٤، و غير ذلك - في السماء لثابت مقضيّ مثل نطقكم و تكلّمكم الّذي هو حقّ لا ترتابون فيه.

و جوّز بعضهم أن يكون ضمير( إِنَّهُ ) راجعاً إلى( ما تُوعَدُونَ ) فقط أو إلى الرزق فقط أو إلى الله أو إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو إلى القرآن أو إلى الدين في قوله:( وَ إِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ ) أو إلى اليوم في قوله:( أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ) أو إلى جميع ما تقدّم من أوّل السورة إلى ههنا، و لعلّ الأوجه رجوعه إلى ما ذكر في قوله:( وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ ) كما قدّمنا.

٤٠٧

( كلام في تكافؤ الرزق و المرزوق)

الرزق بمعنى ما يرتزق به هو ما يمدّ شيئاً آخر في بقائه بانضمامه إليه أو لحوقه به بأيّ معنى كان كالغذاء الّذي يمدّ الإنسان في حياته و بقائه بصيرورته جزءً من بدنه و كالزوج يمدّ زوجه في إرضاء غريزته و بقاء نسله و على هذا القياس.

و من البيّن: أنّ الأشياء المادّيّة يرتزق بعضها ببعض كالإنسان بالحيوان و النبات مثلاً فما يلحق المرزوق في بقائه من أطوار الكينونة و مختلف الأحوال كما أنّها أطوار من الكون لاحقة به منسوبة إليه كذلك هي بعينها أطوار من الكون لاحقة بالرزق منسوبة إليه و إن كان ربّما تغيّرت الأسماء فكما أنّ الإنسان يصير بالتغذّي ذا أجزاء جديدة في بدنه كذلك الغذاء يصير جزءً جديداً من بدنه اسمه كذا.

و من البيّن أيضاً: أنّ القضاء محيط بالكون مستوعب للأشياء يتعيّن به ما يجري على كلّ شي‏ء في نفسه و أطوار وجوده، و بعبارة اُخرى سلسلة الحوادث بما لها من النظام الجاري مؤلّفة من علل تامّة و معلولات ضروريّة.

و من هنا يظهر أنّ الرزق و المرزوق متلازمان لا يتفارقان فلا معنى لموجود يطرأ عليه طور جديد في وجوده بانضمام شي‏ء أو لحوقه إلّا مع وجود الشي‏ء المنضمّ أو اللّاحق المشترك معه في طوره ذلك فلا معنى لمرزوق مستمدّ في بقائه و لا رزق له، و لا معنى لرزق متحقّق و لا مرزوق له كما لا معنى لزيادة الرزق على ما يحتاج إليه المرزوق، و كذا لبقاء مرزوق من غير رزق فالرزق داخل في القضاء الإلهيّ دخولاً أوّليّاً لا بالعرض و لا بالتبع و هو المعنى بكون الرزق حقّاً.

قوله تعالى: ( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ) إشارة إلى قصّة دخول الملائكة المكرمين على إبراهيمعليه‌السلام و تبشيرهم له و لزوجه ثمّ إهلاكهم قوم لوط، و فيها آية على وحدانيّة الربوبيّة كما تقدّمت الإشارة إليه.

٤٠٨

و في قوله:( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ) تفخيم لأمر القصّة و( الْمُكْرَمِينَ ) - و هم الملائكة الداخلون على إبراهيم - صفة( ضَيْفِ ) و إفراده لكونه في الأصل مصدراً لا يثنّى و لا يجمع.

قوله تعالى: ( إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ) الظرف متعلّق بقوله في الآية السابقة:( حَدِيثُ ) و( سَلاماً ) مقول القول و العامل فيه محذوف أي قالوا: نسلّم عليك سلاماً.

و قوله:( قالَ سَلامٌ ) قول و مقول و( سَلامٌ ) مبتدأ محذوف الخبر و التقدير سلام عليكم، و في إتيانه بالجواب جملة اسميّة دالّة على الثبوت تحيّة منهعليه‌السلام بما هو أحسن من تحيّتهم بقولهم: سلاماً فإنّه جملة فعليّه دالّة على الحدوث.

و قوله:( قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ) الظاهر أنّه حكاية قول إبراهيم في نفسه، و معناه أنّه لمّا رآهم استنكرهم و حدّث نفسه أنّ هؤلاء قوم منكرون، و لا ينافي ذلك ما وقع في قوله تعالى:( فَلَمَّا رَأى‏ أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ ) هود: ٧٠ حيث ذكر نكره بعد تقريب العجل الحنيذ إليهم فإنّ ما في هذه السورة حديث نفسه به و ما في سورة هود ظهوره في وجهه بحيث يشاهد منه ذلك.

و هذا المعنى أوجه من قول جمع من المفسّرين: إنّه حكاية قولهعليه‌السلام لهم و التقدير أنتم قوم منكرون.

قوله تعالى: ( فَراغَ إِلى‏ أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ) الروغ الذهاب على سبيل الاحتيال على ما قاله الراغب و قال غيره: هو الذهاب إلى الشي‏ء في خفية، و المعنى الأوّل يرجع إلى الثاني.

و المراد بالعجل السمين المشويّ منه بدليل قوله:( فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) أو الفاء فصيحة و التقدير فجاء بعجل سمين فذبحه و شوّاه و قرّبه إليهم.

قوله تعالى: ( فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَ لا تَأْكُلُونَ ) عرض الأكل على الملائكة و هو يحسبهم بشرّاً.

قوله تعالى: ( فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ ) إلخ الفاء فصيحة و التقدير

٤٠٩

فلم يمدّوا إليه أيديهم فلمّا رأى ذلك نكرهم و أوجس منهم خيفة، و الإيجاس الإحساس في الضمير و الخيفة بناء نوع من الخوف أي أضمر منهم في نفسه نوعاً من الخوف.

و قوله:( قالُوا لا تَخَفْ ) جي‏ء بالفصل لا بالعطف لأنّه في معنى جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل: فما ذا كان بعد إيجاس الخيفة فقيل: قالوا: لا تخف و بشّروه بغلام عليم فبدّلوا خوفه أمنة و سروراً و المراد بغلام عليم إسماعيل أو إسحاق و قد تقدّم الخلاف فيه.

قوله تعالى: ( فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَ قالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ) في المجمع، الصرّة شدّة الصياح و هو من صرير الباب و يقال للجماعة صرّة أيضاً. قال: و الصكّ الضرب باعتماد شديد انتهى.

و المعنى فأقبلت امرأة إبراهيمعليه‌السلام - لمّا سمعت البشارة - في ضجّة و صياح فلطمت وجهها و قالت: أنا عجوز عقيم فكيف ألد؟ أو المعنى هل عجوز عقيم تلد غلاماً؟

و قيل: المراد بالصرّة الجماعة و أنّها جاءت إليهم في جماعة فصكّت وجهها و قالت ما قالت، و المعنى الأوّل أوفق للسياق.

قوله تعالى: ( قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ) الإشارة بكذلك إلى ما بشّروها به بما لها و لزوجها من حاضر الوضع هي عجوز عقيم و بعلها شيخ مسّه الكبر فربّها حكيم لا يريد ما يريد إلّا بحكمه، عليم لا يخفى عليه وجه الأمر.

قوله تعالى: ( قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ - إلى قوله -لِلْمُسْرِفِينَ ) الخطب الأمر الخطير الهامّ، و الحجارة من الطين الطين المتحجّر، و التسويم تعليم الشي‏ء بمعنى جعله ذا علامة من السومة بمعنى العلامة.

و المعنى:( قالَ ) إبراهيمعليه‌السلام ( فَما خَطْبُكُمْ ) و الشأن الخطير الّذي لكم( أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ) من الملائكة( قالُوا ) أي الملائكة لإبراهيم( إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى‏ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ) و هم قوم لوط( لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ ) طيناً متحجّراً سمّاه الله سجّيلاً( مُسَوَّمَةً )

٤١٠

معلّمة( عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ) تختصّ بهم لإهلاكهم، و الظاهر أنّ اللّام في المسرفين للعهد.

قوله تعالى: ( فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - إلى قوله -الْعَذابَ الْأَلِيمَ ) الفاء فصيحة و قد اُوجز بحذف ما في القصّة من ذهاب الملائكة إلى لوط و ورودهم عليه و همّ القوم بهم حتّى إذا أخرجوا آل لوط من القرية، و قد فصّلت القصّة في غير موضع من كلامه تعالى.

فقوله:( فَأَخْرَجْنا ) إلخ بيان إهلاكهم بمقدّمته، و ضمير( فِيها ) للقرية المفهومة من السياق، و( بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) بيت لوط، و قوله:( وَ تَرَكْنا فِيها آيَةً ) إشارة إلى إهلاكهم و جعل أرضهم عاليها سافلها، و المراد بالترك الإبقاء كناية و قد بيّنت هذه الخصوصيّات في سائر كلامه تعالى.

و المعنى: فلمّا ذهبوا إلى لوط و كان من أمرهم ما كان( فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها ) في القرية( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ ) واحد( مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) و هم آل لوط( وَ تَرَكْنا فِيها ) في أرضهم بقلبها و إهلاكهم( آيَةً ) دالّة على ربوبيّتنا و بطلان الشركاء( لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ ) من الناس.

قوله تعالى: ( وَ فِي مُوسى‏ إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى‏ فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) عطف على قوله:( وَ تَرَكْنا فِيها آيَةً ) و التقدير و في موسى آية، و المراد بسلطان مبين الحجج الباهرة الّتي كانت معه من الآيات المعجزة.

قوله تعالى: ( فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَ قالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) التولّي الإعراض و الباء في قوله:( بِرُكْنِهِ ) للمصاحبة، و المراد بركنه جنوده كما يؤيّده الآية التالية، و المعنى: أعرض مع جنوده، و قيل: الباء للتعدية، و المعنى: جعل ركنه متولّين معرضين.

و قوله:( وَ قالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) أي قال تارة هو مجنون كقوله:( إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ) الشعراء: ٢٧، و قال اُخرى: هو ساحر كقوله:( إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ ) الشعراء: ٣٤.

قوله تعالى: ( خَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَ هُوَ مُلِيمٌ‏ ) النبذ طرح الشي‏ء

٤١١

من غير أن يعتدّ به، و اليمّ البحر، و المليم الآتي بما يلام عليه من ألام بمعنى أتى بما يلام عليه كأغرب إذا أتى بأمر غريب.

و المعنى: فأخذناه و جنوده و هم ركنه و طرحناهم في البحر و الحال أنّه أتى من الكفر و الجحود و الطغيان بما يلام عليه، و إنّما خصّ فرعون بالملامة مع أنّ الجميع يشاركونه فيها لأنّه إمامهم الّذي قادهم إلى الهلاك، قال تعالى:( يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ) هود: ٩٨.

و في الكلام من الإيماء إلى عظمة القدرة و هول الأخذ و هو أن أمر فرعون و جنوده ما لا يخفى.

قوله تعالى: ( وَ فِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ) عطف على ما تقدّمه أي و في عاد أيضاً آية إذ أرسلنا عليهم أي أطلقنا عليهم الريح العقيم.

و الريح العقيم هي الريح الّتي عقمت و امتنعت من أن يأتي بفائدة مطلوبة من فوائد الرياح كتنشئة سحاب أو تلقيح شجر أو تذرية طعام أو نفع حيوان أو تصفية هواء كما قيل و إنّما أثرها الإهلاك كما تشير إليه الآية التالية.

قوله تعالى: ( ما تَذَرُ مِنْ شَيْ‏ءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ) ( ما تَذَرُ ) أي ما تترك، و الرميم الشي‏ء الهالك البالي كالعظم البالي السحيق، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ فِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ - إلى قوله -مُنْتَصِرِينَ ) عطف على ما تقدّمه أي و في ثمود أيضاً آية إذ قيل لهم: تمتّعوا حتّى حين، و القائل نبيّهم صالحعليه‌السلام إذ قال لهم:( تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) هود: ٦٥ قال لهم ذلك لمّا عقروا الناقة فأمهلهم ثلاثة أيّام ليرجعوا فيها عن كفرهم و عتوّهم لكن لم ينفعهم ذلك و حقّ عليهم كلمة العذاب.

و قوله:( فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ ) العتو - على ما ذكره الراغب - النبوّء عن الطاعة فينطبق على التمرّد، و المراد بهذا العتوّ العتوّ عن الأمر و الرجوع إلى الله أيّام المهلة فلا يستشكل بأن عتوّهم عن أمر الله كان مقدّماً على تمتّعهم - كما يظهر من تفصيل القصّة - و الآية تدلّ على العكس.

٤١٢

و قوله:( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ ) هذا لا ينافي ما في موضع آخر من ذكر الصيحة بدل الصاعقة كقوله:( وَ أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ ) : هود: ٦٧ لجواز تحقّقهما معاً في عذابهم.

و قوله:( فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَ ما كانُوا مُنْتَصِرِينَ ) لا يبعد أن يكون( اسْتَطاعُوا ) مضمّناً معنى تمكّنوا، و( مِنْ قِيامٍ ) مفعوله أي ما تمكّنوا من قيام من مجلسهم ليفرّوا من عذاب الله و هو كناية عن أنّهم لم يمهلوا حتّى بمقدار أن يقوموا من مجلسهم.

و قوله:( وَ ما كانُوا مُنْتَصِرِينَ ) عطف على( فَمَا اسْتَطاعُوا ) أي ما كانوا منتصرين بنصرة غيرهم ليدفعوا بها العذاب عن أنفسهم، و محصّل الجملتين أنّهم لم يقدروا على دفع العذاب عن أنفسهم لا بأنفسهم و لا بناصر ينصرهم.

قوله تعالى: ( وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ ) عطف على القصص السابقة، و( قَوْمَ نُوحٍ ) منصوب بفعل محذوف و التقدير و أهلكنا قوم نوح من قبل عاد و ثمود إنّهم كانوا فاسقين عن أمر الله.

فهناك أمر و نهي كلّف الناس بهما من قبل الله سبحانه و هو ربّهم و ربّ كلّ شي‏ء دعاهم إلى الدين الحقّ بلسان رسله فما جاء به الأنبياءعليهم‌السلام حقّ من عندالله و ممّا جاؤا به الوعد بالبعث و الجزاء.

قوله تعالى: ( وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَ إِنَّا لَمُوسِعُونَ ) رجوع إلى السياق السابق في قوله:( وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ ) إلخ، و الأيد القدرة و النعمة، و على كلّ من المعنيين يتعيّن لقوله:( وَ إِنَّا لَمُوسِعُونَ ) ما يناسبه من المعنى.

فالمعنى على الأوّل: و السماء بنيناها بقدرة لا يوصف قدرها و إنّا لذووا سعة في القدرة لا يعجزها شي‏ء، و على الثاني: و السماء بنيناها مقارنا بناؤها لنعمة لا تقدّر بقدر و إنّا لذووا سعة و غنى لا تنفد خزائننا بالإعطاء و الرزق نرزق من السماء من نشاء فنوسّع الرزق كيف نشاء.

و من المحتمل أن يكون( موسعون ) من أوسع في النفقة أي كثّرها فيكون

٤١٣

المراد توسعة خلق السماء كما تميل إليه الأبحاث الرياضيّة اليوم.

قوله تعالى: ( وَ الْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ ) الفرش البسط و كذا المهد أي و الأرض بسطناها و سطّحناها لتستقرّوا عليها و تسكنوها فنعم الباسطون نحن، و هذا الفرش و البسط لا ينافي كريّة الأرض.

قوله تعالى: ( وَ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) الزوجان المتقابلان يتمّ أحدهما بالآخر: فاعل و منفعل كالذكر و الاُنثى، و قيل: المراد مطلق المتقابلات كالذكر و الاُنثى و السماء و الأرض و الليل و النهار و البرّ و البحر و الإنس و الجنّ و قيل: الذكر و الاُنثى.

و قوله:( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) أي تتذكّرون أنّ خالقها منزّه عن الزوج و الشريك واحد موحّد.

قوله تعالى: ( فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) في الآيتين تفريع على ما تقدّم من الحجج على وحدانيّته في الربوبيّة و الاُلوهيّة، و فيها قصص عدّة من الاُمم الماضين كفروا بالله و رسله فانتهى بهم ذلك إلى عذاب الاستئصال.

فالمراد بالفرار إلى الله الانقطاع إليه من الكفر و العقاب الّذي يستتبعه، بالإيمان به تعالى وحده و اتّخاذه إلهاً معبوداً لا شريك له.

و قوله:( وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) كالتفسير لقوله:( فَفِرُّوا إِلَى اللهِ ) أي المراد بالإيمان به الإيمان به وحده لا شريك له في الاُلوهيّة و المعبوديّة.

و قد كرّر قوله:( إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) لتأكيد الإنذار، و الآيتان محكيّتان عن لسان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٤١٤

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ ) قال: خلقك سميعاً بصيراً، تغضب مرّة و ترضى مرّة، و تجوع مرّة و تشبع مرّة، و ذلك كلّه من آيات الله.

أقول: و نسبه في المجمع إلى الصادقعليه‌السلام .

و في التوحيد، بإسناده إلى هشام بن سالم قال: سئل أبوعبداللهعليه‌السلام فقيل له: بما عرفت ربّك؟ قال: بفسخ العزم و نقض الهمّ، عزمت ففسخ عزمي، و هممت فنقض همّي.

أقول: و رواه في الخصال، عنه عن أبيه عن جدّه عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج الخرائطيّ في مساوي الأخلاق عن عليّ بن أبي طالب( وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ ) قال: سبيل الغائط و البول.

أقول: الرواية كالروايتين السابقتين مسوقة لبيان بعض المصاديق من طرق المعرفة.

و فيه، أخرج ابن النقور و الديلميّ عن عليّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله:( وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ ) قال: المطر.

أقول: و روى نحواً منه القمّيّ في تفسيره، مرسلاً و مضمراً.

و في إرشاد المفيد، عن عليّعليه‌السلام في حديث: اطلبوا الرزق فإنّه مضمون لطالبه.

و في التوحيد، بإسناده إلى أبي البختريّ قال: حدّثني جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّه عن عليّ بن أبي طالبعليهم‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: يا عليّ: إنّ اليقين أن لا ترضي أحداً على سخط الله، و لا تحمدنّ أحداً على ما آتاك الله، و لا تذمّنّ أحداً على ما لم يؤتك الله فإنّ الرزق لا يجرّه حرص حريص، و لا يصرفه كره كاره. الحديث.

و في المجمع:( فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ ) و قيل: في جماعة. عن الصادقعليه‌السلام .

٤١٥

و في الدرّ المنثور، أخرج الفاريابيّ و ابن المنذر عن عليّ بن أبي طالب قال: الريح العقيم النكباء.

و في التوحيد، بإسناده إلى محمّد بن مسلم قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام فقلت: قول الله عزّوجلّ( يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) ؟ فقال: اليد في كلام العرب القوّة و النعمة، قال الله:( وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ ) ، و قال:( وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ ) أي بقوّة، و قال:( وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) أي بقوّة، و يقال: لفلان عندي يد بيضاء أي نعمة.

و في التوحيد، بإسناده إلى أبي الحسن الرضاعليه‌السلام خطبة طويلة و فيها: بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، و بتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له، و بمضادّته بين الأشياء عرف أن لا ضدّ له، و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له، ضادّ النور بالظلمة، و اليبس بالبلل، و الخشن باللين، و الصرد بالحرور، مؤلّفاً بين متعادياتها، مفرّقاً بين متدانياتها، دالّة بتفريقها على مفرّقها، و بتأليفها على مؤلّفها و ذلك قوله:( مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) .

ففرّق بين قبل و بعد ليعلم أن لا قبل له و لا بعد له، شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمغرّزها، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقّتها، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه و بين خلقه.

و في المجمع في قوله تعالى:( فَفِرُّوا إِلَى اللهِ ) و قيل: معناه حجّوا. عن الصادقعليه‌السلام .

أقول: و رواه في الكافي، و في المعاني، بالإسناد عن أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام و لعلّه من التطبيق.

٤١٦

( سورة الذاريات الآيات ٥٢ - ٦٠)

كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ( ٥٢ ) أَتَوَاصَوْا بِهِ  بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ( ٥٣ ) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ( ٥٤ ) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ( ٥٥ ) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ( ٥٦ ) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ( ٥٧ ) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ( ٥٨ ) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ ( ٥٩ ) فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ( ٦٠ )

( بيان‏)

مختتم السورة و فيه إرجاع الكلام إلى ما في مفتتحها من إنكارهم للبعث الموعود و مقابلتهم الرسالة بقول مختلف ثمّ إيعادهم باليوم الموعود.

قوله تعالى: ( كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) أي الأمر كذلك، فقوله:( كَذلِكَ ) كالتلخيص لمّا تقدّم من إنكارهم و اختلافهم في القول.

و قوله:( ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) إلخ، بيان للمشبّه.

قوله تعالى: ( أَ تَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ ) التواصي إيصاء القوم بعضهم بعضاً بأمر، و ضمير( بِهِ ) للقول، و الاستفهام للتعجيب، و المعنى: هل وصّى بعض هذه الاُمم بعضاً - هل السابق وصّي اللّاحق؟ - على هذا القول؟ لا بل هم قوم طاغون يدعوهم

٤١٧

إلى هذا القول طغيانهم.

قوله تعالى: ( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ ) تفريع على طغيانهم و استكبارهم و إصرارهم على العناد و اللجاج، فالمعنى: فإذا كان كذلك و لم يجيبوك إلّا بمثل قولهم ساحر أو مجنون و لم يزدهم دعوتك إلّا عناداً فأعرض عنهم و لا تجادلهم على الحقّ فما أنت بملوم فقد أريت المحجّة و أتممت الحجّة.

قوله تعالى: ( وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى‏ تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) تفريع على الأمر بالتولّي عنهم فهو أمر بالتذكير بعد النهي عن الجدال معهم، و المعنى: و استمرّ على التذكير و العظة فذكّر كما كنت تذكّر فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين بخلاف الاحتجاج و الجدال مع اُولئك الطاغين فإنّه لا ينفعهم شيئاً و لا يزيدهم إلّا طغياناً و كفراً.

قوله تعالى: ( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) فيه التفات من سياق التكلّم بالغير إلى التكلّم وحده لأنّ الأفعال المذكورة سابقاً المنسوبة إليه تعالى كالخلق و إرسال الرسل و إنزال العذاب كلّ ذلك ممّا يقبل توسيط الوسائط كالملائكة و سائر الأسباب بخلاف الغرض من الخلق و الإيجاد فإنّه أمر يختصّ بالله سبحانه لا يشاركه فيه أحد.

و قوله:( إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) استثناء من النفي لا ريب في ظهوره في أنّ للخلقة غرضاً و أنّ الغرض العبادة بمعنى كونهم عابدين لله لا كونه معبوداً فقد قال: ليعبدون و لم يقل: لاُعبد أو لأكون معبوداً لهم.

على أنّ الغرض كيفما كان أمر يستكمل به صاحب الغرض و يرتفع به حاجته و الله سبحانه لا نقص فيه و لا حاجة له حتّى يستكمل به و يرتفع به حاجته، و من جهة اُخرى الفعل الّذي لا ينتهي إلى غرض لفاعله لغو سفهيّ و يستنتج منه أنّ له سبحانه في فعله غرضاً هو ذاته لا غرض خارج منه، و أنّ لفعله غرضاً يعود إلى نفس الفعل(١) و هو كمال للفعل لا لفاعله، فالعبادة غرض لخلقة الإنسان و كمال عائد إليه هي و ما

____________________

(١) فالله تعالى خلق الإنسان ليثيبه و الثواب عائد إلى الإنسان و هو المنتفع و هو المنتفع به و الله غني عنه، و أمّا غرضه تعالى فهو ذاته المتعالية و إنّما خلقه لأنّه الله عزّ اسمه. منه.

٤١٨

يتبعها من الآثار كالرحمة و المغفرة و غير ذلك، و لو كان للعبادة غرض كالمعرفة الحاصلة بها و الخلوص لله كان هو الغرض الأقصى و العبادة غرضاً متوسّطاً.

فإن قلت: ما ذكرته من حمل اللّام في( لِيَعْبُدُونِ ) على الغرض يعارضه قوله تعالى:( لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ ) : هود: ١١٩، و قوله:( وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ ) الأعراف: ١٧٩، فإنّ ظاهر الآية الاُولى كون الغرض من الخلقة الاختلاف، و ظاهر الثانية كون الغرض من خلق كثير من الجنّ و الإنس دخول جهنّم فلا محيص عن رفع اليد من حمل اللّام على الغرض و حملها على الغاية.

قلت: أمّا الآية الاُولى فالإشارة فيها إلى الرحمة دون الاختلاف، و أمّا الآية الثانية فاللّام فيها للغرض لكنّه غرض تبعيّ و بالقصد الثاني لا غرض أصليّ و بالقصد الأوّل و قد تقدّم إشباع الكلام في تفسير الآيتين.

فإن قلت: لو كان اللّام في( لِيَعْبُدُونِ ) للغرض كانت العبادة غرضه تعالى المراد من الخلقة، و من المحال أن يتخلّف مراده تعالى عن إرادته لكن من المعلوم المشاهد عياناً أنّ كثيراً منهم لا يعبدونه تعالى و هذا نعم الدليل على أنّ اللّام في الآية ليست للغرض أو أنّها للغرض لكنّ المراد بالعبادة العبادة التكوينيّة كما في قوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) إسراء: ٤٤.

أو أنّ المراد بخلقهم للعبادة خلقهم على وجه صالح لأن يعبدوا الله بجعلهم ذوي اختيار و عقل و استطاعة، و تنزيل الصلاحية و الاستعداد منزلة الفعليّة مجاز شائع كما يقال: خُلق البقر للحرث، و الدار للسكنى.

قلت: الإشكال مبنيّ على كون اللّام في الجنّ و الإنس للاستغراق فيكون تخلّف الغرض في بعض الأفراد منافياً له و تخلّفاً من الغرض، و الظاهر أنّ اللّام فيهما للجنس دون الاستغراق فوجود العبادة في النوع في الجملة تحقّق للغرض لا يضرّه تخلّفه في بعض الأفراد نعم لو ارتفعت العبادة عن جميع الأفراد كان ذلك بطلاناً للغرض، و لله سبحانه في النوع غرض كما أنّ له في الفرد غرضاً.

٤١٩

و أمّا حمل العبادة على العبادة التكوينيّة فيضعّفه أنّها شأن عامّة المخلوقات لا موجب لتخصيصه بالجنّ و الإنس مضافاً إلى أنّ السياق سياق توبيخ الكفّار على ترك عبادة الله التشريعيّة و تهديدهم على إنكار البعث و الحساب و الجزاء و ذلك متعلّق بالعبادة التشريعيّة دون التكوينيّة.

و أمّا حمل العبادة على الصلوح و الاستعداد بأن يكون الغرض من خلق الجنّ و الإنس كونهما بحيث يصلحان للعبادة و يستعدّان لها أو لتعلّق الأمر و النهي العباديّين فيضعفّه أنّ من البيّن أنّ الصلوح و الاستعداد إنّما يتعلّق به الطلب لأجل الفعليّة الّتي يتعلّق به الصلوح و الاستعداد فلو كان الغرض المطلوب من خلقهما كونهما بحيث يصلحان للعبادة أو لتعلّق الأمر و النهي العباديّين فقد تعلّق الغرض أوّلاً بفعليّة عبادتهما ثمّ بالصلوح و الاستعداد لمكان المقدّميّة.

ففي حمل العبادة على الصلوح و الاستعداد اعتراف بكون الغرض من الخلق أوّلاً و بالذات نفس العبادة ثمّ الصلوح و الاستعداد فيعود الإشكال لو كان هناك إشكال.

فالحقّ أنّ اللّام في( الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ ) للجنس دون الاستغراق، و المراد بالعبادة نفسها دون الصلوح و الاستعداد، و لو كان المراد هو الصلوح و الاستعداد للعبادة لكان ذلك غرضاً أدنى مطلوباً لأجل غرض أعلى هو العبادة كما أنّ نفس العبادة بمعنى ما يأتي به العبد من الأعمال بالجوارح من قيام و ركوع و سجود و نحوها غرض مطلوب لأجل غرض آخر هو المثول بين يدي ربّ العالمين بذلّة العبوديّة و فقر المملوكيّة المحضة قبال العزّة المطلقة و الغنى المحض كما ربّما استفيد من قوله تعالى:( قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ ) الفرقان: ٧٧، حيث بدّل العبادة دعاءً.

فحقيقة العبادة نصب العبد نفسه في مقام الذلّة و العبوديّة و توجيه وجهه إلى مقام ربّه، و هذا هو مراد من فسّر العبادة بالمعرفة يعني المعرفة الحاصلة بالعبادة.

فحقيقة العبادة هي الغرض الأقصى من الخلقة و هي أن ينقطع العبد عن نفسه و عن كلّ شي‏ء و يذكر ربّه.

هذا ما يعطيه التدبّر في قوله تعالى:( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429