الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 429

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 429 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 120153 / تحميل: 6179
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

يقول الأُستاذ الطنطاوي: ويعتقد بعض العلماء اليوم أنّ تبادل الخواطر هو مستوى القوّة التي تُمكّن الشخص مِن نقل آرائه إلى شخصٍ آخر بدون أيّة واسطة مادّية أو ظاهريّة، فهل هذا الرأي مُمكن أو مُحتمل الوقوع؟ وإجابةً على ذلك يقول العالِم الإنجليزي (برسي): إنّ نقل الأفكار قد يحدث في أوقات شاذّة وحالات خاصّة، وذلك مالا يُعارض فيه أحد من الباحثينَ، ولكنّه لا ينطبق على الحالات العامّة، وذلك التبادل قد يُرى بوضوح بين الحشرات والحيوانات قد اقتربت حشرةً من أُخرى. قال: وبذلك نعرف أنّ الحيوانات تُكلّم بعضها بنقل الخواطر، والنَّمل من هذا القبيل، وأنّ الإنسان مُستعدّ لذلك؛ لأنّه من جُملة مواهبه، ولكن هذه المـَوهبة تجيء تارةً بطريق الوحي الخارق للعادة وتارةً بالتَمرين (1) .

فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً

زَعَموا أنّ القرآن ذَكَر مراحل تكوين الجنين فيما يُخالف العِلم الثابت اليوم!

ففي قوله تعالى: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (2) .

جاء في تفسير الجلالَين: ( عَلَقَةً ) دماً جامداً، ( مُضْغَةً ) لَحمَة قَدَر ما يُمضغ (3) .

وهكذا جاء في تفسير المراغي (4) وغيره مِن المتأخّرين.

ومعنى ذلك: أنّ النطفة تحوّلت دماً مُتخثّراً، وتحوّل الدم إلى مُضغةٍ أي لَحمَة شِبه ممضوغة أو بقدرها، ثمّ تحوّلت اللَحمة إلى العظام.

الأمر الذي يتنافى مع العِلم القائل بأنّ اللحم ينبت على العظام بعد خَلقها، كما هو صريح القرآن أيضاً وهذا يبدو متناقضاً ( فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ) !!

____________________

(1) تفسير الجواهر، ج13، ص158 - 159.

(2) المؤمنون 23: 12 - 14.

(3) تفسير الجلالَين، ج2، ص44.

(4) تفسير المراغي، ج18، ص8.

٣٢١

غير أنّ هذه الشُبهة نشأت مِن خطأ هؤلاء المفسّرين وليست واردة على القرآن.

فقد كان تعبير القرآن أنّ النُطفة - وهي خليّة الذَكَر تمتزج ببويضة المرأة - تتحوّل إلى علقة: كُرة جرثوميّة لها خلايا آكلةً وقاضمةً تُعلّق بواسطتها وبواسطة حملات دقيقة بجدار الرحم، تتغذّى بدم المرأة، وهذه النُطفة الصغيرة العالقة تشبه دودة العَلَقة التي تَمتصّ الدم.

ثمّ إنّ هذه العَلَقَة تتحوّل إلى كُتلة غُضروفيّة تشبه ممضوغة العِلك في الفم، وتكون منشأ لتكوين العظام ثُمّ تكوين العضلات بعد بِضعة أيّام؛ لتكسو العظام أي تُغطّيها وتلتحم معها.

ومعنى ذلك: أنّ العِظام تسبق العضلات، ثُمّ تكسو العضلات العظام، وصدق الله العظيم حيث يقول: ( فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ) .

قال سيّد قطب: وهنا يَقف الإنسان مدهوشاً أمام ما كَشَف عنه القرآن من حقيقة في تكوين الجنين لم تُعرف على وجه الدقّة إلاّ أخيراً بعد تقدّم عِلم الأجنّة التشريحي، ذلك أنّ خلايا العظام غير خلايا اللحم (العضلات)، وقد ثبت أنّ خلايا العِظام هي الّتي تتكوّن أَوّلاً في الجنين، ولا تُشاهد خليّة واحدة من خلايا اللحم إلاّ بعد ظهور خلايا العِظام وتمام الهيكل العظمي للجنين، وهي الحقيقة التي يُسجّلها النصّ القرآني (1) .

وقد أشبعنا الكلام في ذلك عند الكلام عن إعجاز القرآن العلمي في الجزء السادس من التمهيد.

وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ

يبدو من ظاهر تعبير آيات قرآنيّة أنّ النجوم جُعلت شُهُباً يُرمى بها الشياطين، قال تعالى: ( وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ ) (2) .

وقال ( إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى

____________________

(1) في ظِلال القرآن، ج 18، ص 16 - 17.

(2) المـُلك 67: 5.

٣٢٢

الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلاّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ) (1) .

وقال سبحانه: ( وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً ) (2) .

وقال عزّ مَن قائل: ( وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلاّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ ) (3) .

غير خفيّ أنّ الشُهُب والنيازك إنّما تَحدث في الغلاف الغازي (الهواء) المحيط بالأرض؛ وقايةً لها، وقُدّر سُمكُه بأكثر من ثلاثمِئة كيلومتر، وذلك على أثر سقوط أحجار هي أشلاء متناثرة في الفضاء المتبقّية من كواكب اندثرت تعوم عبر الفضاء، فإذا ما اقتربت من الأرض انجذبت إليها بسرعة هائلة ما بين 50 و 60 كيلومتراً في الثانية، تخترق الهواء المحيط بالأرض، ولاحتكاكها الشديد بالهواء من جهةٍ ولتأثير الغازات الهوائيّة من جهةٍ أخرى تَحترق وتلتهب شعلة نار، لتتحوّل إلى ذرّات عالقة في الهواء مُكوّناً منها الغُبار الكوني، وهي في حال انقضاضها - وهي تشتعل ناراً - تُرى بصورة نجمة وهّاجة ذات ذَنب مستطيل تُدعى الشُهُب والنيازك.

فليست الشُهُب سِوى أحجار مُلتهبة في الهواء المحيط بالأرض، قريبة منها! فما وجه فَرضها نُجوماً في السماء يُرجم بها الشياطين الصاعدة إلى الملأ الأعلى؟!

لكن يجب أنْ نعلم قبل كلّ شيء أنّ التعابير القرآنيّة - وهي آخذة في الحديث عن كائنات ما وراء المادّة - ليس ينبغي الأخذ بظاهرها اللفظي؛ حيث الأفهام تقصر عن إدراك ما يفوق مستواها المادّي المحدود، والألفاظ أيضاً تضيق عن الإدلاء بتلك المفاهيم الرقيقة البعيدة عن متناول الحسّ.

وبتعبير اصطلاحي: إنّ الأفهام وكذا الألفاظ محدودة في إطار المادّة الكثيفة، فلا تَنال المجرّدات الرقيقة.

____________________

(1) الصافّات 37: 7 - 10.

(2) الجنّ 72: 8 و 9.

(3) الحجر 15: 16 - 18.

٣٢٣

وعليه، فكلّ تعبير جاء بهذا الشأن إنّما هو مجاز واستعارة وتمثيل بِلا ريب.

فلا تَحسب مِن الملأ الأعلى عالَماً يشبه عالَمَنا الأسفل، سوى أنّه واقع في مكان فوق أجواء الفضاء؛ لأنّه تصوّر مادّي عن أمرٍ هو يفوق المادةّ ومُتجرّد عنها، وعليه، فَقِس كلّ ما جاء في أمثال هذه التعابير.

فلا تتصوّر من الشياطين أجساماً على مثال الأناسي والطيور، ولا رَجمها بمِثل رمي النُشّاب إليها، ولا مُرودها بمثل نفور الوحش، ولا استماعها في محاولة الصعود إلى الملأ الأعلى بالسارق المتسلّق على الحيطان، ولا قذفها بمثل قذف القنابل والبندقيات، ولا الحرس الذين ملئوا السماء بالجنود المتصاكّة في القِلاع، ولا رصدها بالكمين لها على غِرار ميادين القتال... إذ كلّ ذلك تشبيه وتمثيل وتقريب في التعبير لأمرٍ غير محسوس إلى الحسّ لغرض التفهيم، فهو تقريبٌ ذهني، أمّا الحقيقة فالبون شاسع والشُقّة واسعة والمسافة بينهما بعيدة غاية البُعد.

قال العلاّمة الطباطبائي: إنّ هذه التعابير في كلامه تعالى من قبيل الأمثال المضروبة؛ ليُتصوّر بها الأمور الخارجة عن محدودة الحسّ في صور المحسوسات للتقريب إلى الأذهان، وهو القائل عزّ وجلّ: ( وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاّ الْعَالِمُونَ ) (1) (أي لا يتعقّلها ولا يعرف مغزاها إلاّ مَن عَرف أنها أمثال ظاهريّة ضُربت للتقريب محضاً).

قال: وأمثال هذه التعابير كثير في القرآن كالحديث عن العرش والكرسي واللوح والكتاب وغيرها.

قال: وعلى هذا، فيكون المـُراد من السماء التي مَلأَتْها الملائكة: عالَماً ملكوتيّاً هو أعلا مرتبة من العالم المشهود، على مِثال اعتلاء السماء الدنيا من الأرض، والمـُراد من اقتراب الشياطين إليها واستراق السمع والقذف بالشُهب: اقترابهم من عالم الملائكة لغرض؛ الاطّلاع على أسرار الملكوت، وثَمّ طردهم بما لا يَطيقون تَحمّله مِن قذائف النور،

____________________

(1) العنكبوت 29: 43.

٣٢٤

أو محاولتهم لتلبيس الحقّ الظاهر، وثَمّ دحرهم ليعودوا خائبينَ (1) ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) (2) .

والآيات من سورة الجنّ لعلّها إشارة إلى هذا المعنى، حيث هي ناظرة إلى بعثة نبيّ الإسلام، وقد أَيسَ الشيطان من أنْ يُعبد وعلا نفيره.

قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (ولقد سمعتُ رنّةَ الشيطان حين نَزل الوحي عليه (صلّى الله عليه وآله) فقلتُ: يا رسولَ الله، ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان قد أيسَ من عبادته) (3) .

يقول تعالى في سورة الجنّ: ( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناًَ عَجَباً - إلى قوله: - وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً ) (4) ، فهي حكاية عن حالٍ حاضرة وَجَدَتها الجنّ حينما بُعث نبيّ الإسلام.

وبهذا يشير قوله تعالى: ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (5) ، وقوله: ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ) (6) .

نعم، كانت تلك بُغية إبليس أنْ يتلاعب بوحي السماء ولكن في خيبة آيسة: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاّ إِذَا تَمَنَّى (ظهور شريعته) أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (7) ، أي حاول إبليس الحؤول دون بلوغ أُمنيّة الأنبياء، فكان يَندحر ويَغلب الحقّ الباطل وتَفشل دسائسه في نهاية المطاف.

أمّا عند ظهور الإسلام فقد خاب هو وجنوده منذ بدء الأمر وخَسِر هنالك المـُبطلون.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (فلمـّا وُلد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حُجِب (إبليس) عن السبع السماوات ورُميت الشياطين بالنجوم...) (8) .

____________________

(1) تفسير الميزان، ج 17، ص 130 نقلاً مع تصرّفٍ يسير.

(2) الأنبياء 21: 18.

(3) نهج البلاغة، الخطبة القاصعة، ص 301.

(4) الجنّ 72: 1 - 9.

(5) الحجر 15: 9.

(6) الفتح 48: 28.

(7) الحجّ 22: 52.

(8) الأمالي للصدوق، ص 253، المجلس 48، وبحار الأنوار، ج 15، ص 257.

٣٢٥

وفي حديث الرضا عن أبيه الكاظم عن أبيه الصادق (عليهم السلام) في جواب مُساءَلة اليهود: (أنّ الجنّ كانوا يَسترقون السمعَ قَبل مَبعث النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فمُنِعت مِن أوان رسالته بالرجوم وانقضاض النجوم وبُطلان (عمل) الكَهَنة والسحرة) (1) .

وهكذا حاول الشيخ الطنطاوي تأويل ظواهر التعابير الواردة في هذه الآيات إلى إرادة التمثيل، قال - ما مُلخّصه -: إنّ العلوم التي عَرفها الناس تُراد لأَمرَين: إمّا لمعرفة الحقائق لإكمال العقول، أو لنظام المعايش والصناعات لتربية الجسم، وإلى الأَوّل أشار بقوله تعالى: ( وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً ) (2) ، وإلى الثاني قوله: ( وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ) (3) ، وكلّ مَن خالف هاتَين الطريقتَين فهو على أحد حالَين: إمّا أنْ يُريد ابتزاز أموال الناس بالاستعلاء بلا فائدة، وإمّا أنْ يُريد الصيت والشُهرة وكسب الجاه، وكلاهما لا نفع في عِلمه ولا فضل له.

فمَن طلب العِلم أو أكثر في الذِكر؛ ليكون عالةً على الأُمّة فهو داخلٌ في نوع الشيطان الرجيم، مرجوم مُبعدٌ عن إدراك الحقائق ومُعذّبٌ بالذّل والهوان، وهذا مِثال قوله تعالى:) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى (فلا يعرفون حقائق الأشياء) وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً ) بما رُكّب فيهم من الشهوات وما اُبتلوا من العاهات ( وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ) أي في أَمل متواصل مُلازم لهم مدى الحياة، فلو حاول أنْ يَخطِف خَطفة من الحقائق حالت دون بلوغه لها الأميال الباطلة ( فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ) (4) .

نعم ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ) (5) ، ولا شكّ أنّها كناية عن حرمانهم العناية الربّانيّة المـُفاضة مِن مَلكوت أعلى، الأمر الذي أُنعِمَ به الرّبانيّون في هذه الحياة: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ) (6) ، فملائكة الرَحمة تَهبط إليهم وهم في مواضعهم آمنون مستقرّون سائرون في طريقهم صُعُداً إلى قمّة الكمال.

____________________

(1) بحار الأنوار، ج 17، ص 226 عن قرب الإسناد للحميري، ص 133.

(2) الحجر 15: 16.

(3) الأعراف 7: 10، الحجر 15: 20.

(4) الصافّات 37: 6 - 10. راجع: تفسير الجواهر، ج 8، ص 13، وج 18، ص 10.

(5) الأعراف 7: 40.

(6) فصّلت 41: 30.

٣٢٦

وكذلك قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ) (1) ، أي آخذ في الصعود إلى سماء العزّ والشرف والسعادة. ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (2) ، فما هذا الصعود وهذا الرفع؛ إلاّ ترفيعاً في مدارج الكمال.

وهكذا جاء التعبير بفتح أبواب السماء كنايةً عن هطول المطر ( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ ) (3) ، وأمثال هذا التعبير في القرآن كثير (4) ، والجميع مَجاز وليس على الحقيقة سواء في المعنويّات أم الماديّات، فلو كان عيباً لعَابَه العرب أصحاب اللغة العَرباء في الجزيرة، لا أرباب اللغة العجماء من وراء البحار.

وأمّا النجوم التي يُرجم بها الشياطين (أبالسة الجنّ والإنس) فهم العلماء الربّانيّون المتلألئون في أُفق السماء، يقومون في وجه أهل الزيغ والباطل فيَرجموهم بقذائف الحُجج الدامغة ودلائل البيّنات الباهرة، ويَرمونهم من كلّ جانب دحوراً.

فسماء المعرفة مُلئت حرساً شديداً وشُهُباً. قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (يَحمل هذا الدِّين في كلِّ قَرن عدولٌ يَنفون عنه تأويل المـُبطلينَ وتحريف الغالينَ وانتحال الجاهلين...) (5) .

وقد أطلق النُجوم على أئمة الهُدى ومصابيح الدُجى من آل بيت الرسول (عليهم السلام) فقد روى عليّ بن إبراهيم في تفسير قوله تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) (6) قال: النُجوم آل مُحمّد (صلّى الله عليه وآله) (7) .

وفي حديث سلمان الفارسي رضوان الله عليه قال: خَطَبنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال: (مَعاشرَ الناسِ، إنّي راحل عنكم عن قريب ومُنطلق إلى المـَغيب، أُوصيكم في عترتي خيراً وإيّاكم والبِدع، فإنّ كلّ بِدعةٍ ضلالة وكلّ ضلالة وأهلها في النار، معاشرَ الناسِ، مَن افتقدَ الشمس فليتمسّك بالقمر، ومَن افتقدَ القمر فليتمسّك بالفرقَدَين، ومَن افتقدَ الفرقَدَين فليَتمسّك بالنجوم الزاهرة بعدي، أقول قولي واستغفر اللّه لي ولكم).

____________________

(1) إبراهيم 14: 24.

(2) فاطر 35: 10.

(3) القمر 54: 11.

(4) الأنعام 6: 44، الأعراف 7: 96، الحجر 15: 14، النبأ 78: 19.

(5) بحار الأنوار، ج2، ص93، رقم 22 من كتاب العلم.

(6) الأنعام 6: 97.

(7) تفسير القميّ، ج1، ص211.

٣٢٧

قال سلمان: فتَبِعتُه وقد دَخل بيت عائشة وسألتُه عن تفسير كلامه فقال - ما ملخّصه -: (أنا الشمس وعليٌّ القمر، والفرقَدان الحسن والحسين، وأمّا النجوم الزاهرة فالأئمة مِن وُلد الحسين واحداً بعد واحد...) (1) (كلّما غابَ نجمٌ طلعَ نجمٌ إلى يوم القيامة) كما في حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس رحمة اللّه عليهما قاله في شأن أهل البيت (عليهم السلام) (2) .

وفي حديث أبي ذر رضوان اللّه عليه التعبير عنهم بـ (النُجُوم الهادية) (3) وأمثال ذلك كثير.

سبع سماوات عُلا

قال تعالى: ( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ - إلى قوله: - وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ) (4) .

ظاهر التعبير أنّ السماوات السبع هي أجواء وفضاءات متراكبة بعضُها فوق بعضٍ؛ لتكون الجميع محيطةً بالأرض من كلّ الجوانب ( وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً ) (5) ، حيث الفوقيّة بالنسبة إلى جسم كريّ - هي الأرض - إنّما تعني الإحاطة بها من كلّ جانب.

وأيضاً فإنّ السماء الدنيا - وهو الفضاء الفسيح المـُحيط بالأرض - هي التي تَزينَّت بزينة الكواكب ( أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا ) (6) ، والظاهر يقتضي التركيز فيها، وإنْ كان مِن المـُحتمل تَجلّلها بما تُشِعّ عليها الكواكبُ من أنوار!

ويبدو أنّ هذا الفضاء الواسع الأرجاء - بما فيه من أَنجم زاهرة وكواكب مضيئة لامعة - هي السماء الأُولى الدنيا، ومن ورائها فضاءات ستٌّ في أبعادٍ مُترامية، هي مليئة بالحياة لا يعلم بها سِوى صانعها الحكيم، ( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً ) (7) .

والعقل لا يفسح المجال لإنكار ما لم يَبلغه العلم، وهو في بدء مراحله الآخذة إلى الكمال.

____________________

(1) بحار الأنوار، ج36، ص 289، عن كتاب كفاية الأثر للخزّار الرازي، باب ما جاء عن سلمان في النصّ على الأئمة الاثني عشر، ص293.

(2) بحار الأنوار، ج40، ص203 عن جامع الأخبار للصدوق، ص15.

(3) راجع: بحار الأنوار، ج28، ص275.

(4) الملك 67: 3 - 5.

(5) النبأ 78: 12.

(6) ق 50: 6.

(7) الإسراء 17: 85.

٣٢٨

نعم، يزداد العلم يقيناً - كلّما رَصَد ظاهرة كونيّة - أنّ ما بَلَغه ضئيل جدّاً بالنسبة إلى ما لم يبلغه، ويزداد ضآلةً كلّما تقدّم إلى الأمام؛ حيث عَظَمة فُسحة الكون تَزداد اُبّهةً وكبرياءً كلّما كُشف عن سرٍّ من أسرار الوجود وربّما إلى غير نهاية، لاسيّما والكون في اتّساع مطّرد: ( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ) (1) .

هذا وقد حاول بعضهم - في تَكلّفٍ ظاهر - التطبيق مع ما بَلغه العِلم قديماً وفي الجديد مِن غير ضرورة تدعو إلى ذلك، ولعلّ الأناة حتّى يأتي يوم يساعد التوفيق على حلّ هذا المجهول من غير تكلّفٍ، كانت أفضل.

يقول سيّد قطب: لا ضرورة لمحاولة تطبيق هذه النصوص على ما يَصل إليه عِلمنا؛ لأنّ علمنا لا يُحيط بالكون حتّى نقول على وجه التحقيق: هذا ما يريده القرآن، ولن يصحّ أنْ نقول هكذا إلاّ يوم يَعلم الإنسان تَركيبَ الكون كلّه عِلماً يقيناً، وهيهات... (2)

وإليك بعض محاولات القوم: حاول بعض القُدامى تطبيق التعبير الوارد في القرآن على فرضيّة بطلميوس لهيئة الأفلاك التي هي مَدارات الكواكب فيما حَسبه حول الأرض (3) ، ولكن من غير جَدوى؛ لأنّ الأفلاك في مزعومتِه تسعة؛ ومِن ثَمَّ أضافوا على

____________________

(1) الذاريات 51: 47.

(2) في ظِلال القرآن، ج28، ص152.

(3) زَعموا أنّ الأرض في مركز العالَم، وأنّ القمر وعطارد والزُهرة والشمس والمرّيخ والمشتري وزحل سيّارات حولها، في مَدارات هي أفلاك بعضها فوق بعض بنفس الترتيب، وكلّ وأحدٍ منها في فَلكٍ دائر حول الأرض من الغرب إلى الشرق في حركةٍ معاكسةٍ لحركتها اليوميّة من الشرق إلى الغرب على أثر تحريك الفَلك التاسع، المـُسمّى عندهم بفَلك الأفلاك أو بالفَلك الأطلس؛ لعدم وجود نجم فيه وأمّا النجوم الثوابت فهي مركوزة في الفَلك الثامن، فهذه تسعة أفلاك مُحيطة بالأرض بعضها فوق بعض.

وهكذا جاء في إنجيل برنابا من كلام المسيح (عليه السلام): أنّ السماوات تسع، فيها السيّارات، وتَبعُد إحداها عن الأُخرى مسيرة خمسمِئة عام.

ولمـّا تُرجمت فلسفة اليونان إلى العربيّة، ودَرَسها علماء الإسلام وَثقوا بأنّ الأفلاك تسعة، وقال بعضهم: هي سبع سماوات، والكرسي فَلك الثوابت، والعرش هو الفَلك المـُحيط.

والغريب أنّ مِثل مُحيي الدين ابن عربي اغترّ بهذه الغريبة وحسبها حقيقة وبنى عليها معارفَه الإشراقيّة فيما زعم، (راجع: الفتوحات المكّيّة، الباب 371 والفصل الثالث منه، ج3، ص416 و433، وكذا الفصّ الإدريسي من فصوص الحكم، ج1، ص75)، وهكذا شيخنا العلاّمة بهاء الدين العاملي في كتابه تشريح الأفلاك، وهو عجيب!

ولقد أَعجبني كلام أبي الحسن علي بن عيسى الرّمّاني المـُعتزلي في تفسير الآية، حيث أنكر إرادة الأفلاك البطلميوسيّة من السماوات السبع في القرآن؛ محتجّاً بأنّه تفسير يُخالف ظاهر النصّ، راجع: تفسير التبيان للشيخ الطوسي، ج1، ص 127.

٣٢٩

السماوات السبع - الواردة في القرآن - العرش والكرسي؛ ليَكتمل التسع ويحصل التطابق بين القرآن وفرضيّةٍ أساسُها الحَدسُ والتخمينُ المجرّد.

وأمّا المحدَثون فحاولوا التطبيق على النظرة الكوبرنيكيّة الحديثة، حيث الشمس هي نواة منظومتها والكُرات دائرة حولها ومنها الأرض مع قمرها (1) .

زَعَموا أنّ المـُراد بالسماوات السبع، هي الأجرام السماويّة، الكُرات الدائرة حول الشمس، تُرى فوق الأرض في أُفقها. فالسماوات - في تعبير القرآن على هذا الفرض - هي الأجرام العالقة في جوّ السماء (وكان جديراً أنْ يُقال - بَدلَ السماوات - السماويّات).

يقول الشيخ الطنطاوي: هذا هو الذي عرفه الإنسان اليوم من السماوات. فَقَايسَ بين ما ذَكَره علماء الإسكندريّة بالأمس، ويبن ما عرفه الإنسان الآن، إنّ عظمة اللّه تَجلّت في هذا الزمان..

إذن فما جاء في إنجيل برنابا مَبنيّاً على عِلم الإسكندرون أصبح لا قيمة له بالنسبة للكشف الحديث الذي يُوافق القرآن (2) .

ويزداد تَبّجُحاً قائلاً: إذن دين الإسلام صار الكشف الحديث مُوافقاً له، وهذه معجزة جديدة جاءت في زماننا.

ثُمَّ يورد أسئلةً وُجّهت إليه، منها: التعبير بالسبع، فيجيب: أنّ العدد غير حاصر، فسواء قُلت سبعاً أو ألفاً فذلك كلّه صحيح؛ إذ كلّ ذلك من فعل اللّه دالّ على جماله وكماله.

____________________

(1) جاءت النظرية على الأَساس التالي:

1 - الشمس: نَواة المنظومة.

2 - نجمة فلكان: بُعدها عن الشمس 13 مليون ميلاً، ودورها المحوري 18 ساعة، ودورها حول الشمس 20 يوماً.

3 - كوكب عطارد: بُعدها 35 مليون ميلاً دَورها المحوري 24 ساعة و5 دقائق، حول الشمس 88 يوماً.

4 - الزُهرة: بُعدها 66 مليون ميلاً، دَورها المحوري 23 ساعة و22 دقيقة، حول الشمس 225 يوماً.

5 - الأرض: بُعدها 93 مليون ميلاً، دَورها المحوري 24 ساعة، حول الشمس 365 يوماً.

6 - المرّيخ: بُعدها 140 مليون ميلاً، دَورها المحوري 24 ساعة و38 دقيقة، حول الشمس 687 يوماً.

7 - المشتري: بُعدها 476 مليون ميلاً، دَورها المحوري 10 ساعات، حول الشمس 12 سنة.

8 - زُحل: بُعدها 876 مليون ميلاً، دَورها المحوري 10 ساعات و 15 دقيقة، حول الشمس 29 سنة ونصفاً.

9 - أُورانوس: بُعدها 1753 مليون ميلاً، دَورها المحوري 10 ساعات، حول الشمس 84 سنة وأُسبوعا.

10 - نبتون: بُعدها 2746 مليون ميلاً، دَورها المحوري مجهول، حول الشمس 164 سنة و285 يوماً.

راجع: الهيئة والإسلام للسيّد هبة الدين الشهرستاني، ص61 - 62.

(2) تفسير الجواهر، ج1، ص49 الطبعة الثانية.

٣٣٠

وأخيراً يقول: إنّ ما قُلناه ليس القصد منه أنْ يَخضع القرآن للمباحث (العلميّة) فإنّه ربّما يَبطل المذهب الحديث كما بَطل المذهب القديم، فالقرآن فوق الجميع، وإنّما التطبيق؛ كان ليأنس المؤمنون بالعلم ولا ينفروا منه لظاهر مخالفته لألفاظ القرآن في نظرهم (1) .

وللسيّد هبة الدين الشهرستاني - علاّمة بغداد في عصره - محاولة أُخرى للتطبيق، فَفَرض من كلّ كُرة دائرة حول الشمس ومنها الأرض أرضاً والجوّ المحيط بها سماءً، فهناك أَرَضون سبع وسماوات سبع، الأُولى: في أرضنا وسماؤها الغلاف الهوائي المحيط بها، والأرض الثانية: هي الزُهرة وسماؤها الغلاف البخاري المحيط بها، والثالثة: عطارد وسماؤها المحيط بها، الرابعة: المرّيخ وسماؤها المحيط بها، الخامسة: المشتري وسماؤها المحيط بها، السادسة: زُحل وسماؤها المحيط بها، السابعة: أورانوس وسماؤها المحيط بها.

قال: ترتيبنا المـُختار تنطبق عليه مقالات الشريعة الإسلاميّة ويُوافق الهيئة الكوبرنيكيّة.

وأسند ذلك إلى حديث عن الإمام الرضا (عليه السلام) سنوافيك به عند الكلام عن الأَرَضين (2) .

وذكر الحجّة البلاغي أنّ السماوات السبع لا يمتنع انطباقها على كلّ واحدة من الهيئتَين القديمة والجديدة، فيُمكن أنْ يُقال على الهيئة القديمة: إنّ السماوات السبع هي أفلاك السيّارات السبع، وإنّ فَلك الثوابت هو الكرسي في قوله تعالى: ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ) (3) ، وإنّ الفَلك الأطلس المـُدير - على ما زَعَموا - هو العرش في قوله تعالى: ( رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) (4) .

ويُمكن أنْ يُقال على الهيئة الجديدة: إنّ السماوات السبع هي أفلاكٌ خمسٌ من السيّارات مع فَلكَي (الأرض) و(فلكان) والعرش والكرسي هما فَلَكا (نبتون) و(أُورانوس)، وأمّا الشمس فهي مركز الأفلاك، والقمر تابع للأرض وفَلَكه جزء من فَلَكها (5) .

____________________

(1) المصدر: ص 50 - 51 بتصرّف وتلخيص.

(2) الهيئة والإسلام، ص177 - 179.

(3) البقرة 2: 255.

(4) المؤمنون 23: 86.

(5) الهدى إلى دين المصطفى للبلاغي، ج2، ص7.

٣٣١

قال: والحاصل أنّ كلاًّ مِن وضعَي الهيئة القديمة والجديدة يُمكن من حيث انطباق الحركات المحسوسة عليه، ولكنّه يُمكن أنْ يتعدّاه التحقيق إلى وضعٍ ثالث ورابع، فلا يَحسُن الجزم بشيءٍ ما لم يُشاهد بالتفصيل أو بصراحة الوحي، لكنّ الحِكمة تقتضي أنْ لا يتولّى الوحي بصراحته بالتفصيل (1) .

وبعد، فالطريقة السليمة هي التي سَلكها سيّدنا العلاّمة الطباطبائي، يقول:

إنّ المـُستفاد من ظاهر الآيات الكريمة - وليست نصّاً - أنّ السماء الدنيا هي عالم النجوم والكواكب فوقنا، وأنّ السماوات السبع هي أجواء متطابقة أقربُها منّا عالم النُجوم، ولم يَصف لنا القرآن شيئاً مِن الستّ الباقية سِوى أنّها طِباق، وليس المراد بها الأَجرام العلوية سواء من مَنظُومتنا الشمسيّة أو غيرها.

وما وَرد مِن كون السماوات مأوى الملائكة يَهبطون منها ويَعرجون إليها، ولها أبواب تُفتَّح لنزول البركات، كلّ ذلك يكشف عن أنّ لهذه الأُمور نوع تعلّق بها لا كتعلّقها بالجسمانيّات، فإنّ للملائكة عوالم ملكوتيّة مُترتّبة سماوات سبعاً ونُسب ما لها من الآثار إلى ظاهر هذه السماوات؛ بلحاظ ما لها من العلوّ والإحاطة والشمول، وهو تسامح في التعبير تقريباً إلى الأذهان الساذجة (2) .

ولبعض العلماء الباحثين في المسائل الروحيّة في إنجلترا - (هو: جيمس آرثر فندلاي من مواليد 1883م) - تصوير عن السماوات السبع يَشبه تصويرنا بعض الشيء: يرى من كُرة الأرض واقعة في وسط أبهاء وفضاءات تُحيط بها من كلّ الجوانب، في شكل كُراتٍ مُتخلِّلةٍ بعضُها بعضاً ومتراكبة إلى سبعة أطباق، كلّ طبقة ذات سطحَين أعلى وأسفل، مِلءُ ما بينهما الحياة النابضة، يُسمّى المجموع العالَم الأكبر الذي نعيش فيه، نحن في الوسط على وجه الأرض.

وهذه الأجواء المتراكبة تُحيط بنا طِباقاً بعضها فوق بعض إلى سبع طَبقات، وإنْ شئت فعبّر بسبع سماوات؛ لأنّها مبنيّة في جهةٍ أعلى فوق رؤوسنا، وإليك الصورة حسبما رَسَمها في كتابه (الكون المنشور).

____________________

(1) المصدر: ج2، ص6.

(2) تفسير الميزان، ج17، ص392 - 393.

٣٣٢

شَكل الأرض في الوسط تَحيط بها سبع أطباق هي سماوات عُلى:

في هذا الشَكل - كما رَسَمه (جيمس آرثر فندلاي) - نجد العالم الأَكبر في صورة أبهاء متراكبة بعضها فوق بعض مملوءة بالحياة، ويُرى الحياة في حركتها إلى أعلى وأسفل في شكل خُطوطٍ مُنحنية على السطوح، وتُمثّل الصُلبان الصغيرة الحياة على الأرض، أمّا النُقط فتُمثّل الحياة الأثيريّة ويُلاحظ أنّها ليست مقصورة على السطوح وحدَها؛ لأنّ الفضاءات بين السطوح مِلؤها الحياة سابحة فيها! (1)

____________________

(1) راجع: ملحق كتابه (على حافّة العالم الأثيري) تَرجمة أحمد فهمي أبو الخير (ط3)، ص199.

٣٣٣

مسائل ودلائل

هنا عدة أسئلة تستدعي الوقوف لديها:

1 - ( كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)

قال تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) (1) .

وقال: ( لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) (2) .

هلاّ كان التعبير بالفَلَك مُتابعة لِما حَسبه بطلميوس؟

قلت: لا؛ لأنّ الفَلَك لفظة عربيّة قديمة يُراد بها الشيء المـُستدير، ومن الشيء مُستداره، قال ابن فارس: الفاء واللام والكاف أصل صحيح (3) يدلّ على استدارةٍ في شيء، من ذلك (فَلْكَةُ المِغزل) لاستدارتها؛ ولذلك قيل: فَلَكَ ثديُ المرأة، إذا استدار، ومن هذا القياس: فَلَكُ السماء (4) .

إذن، فكما أنّ السماء مستديرة حتّى في شكلها الظاهري، فكلّ ما يَسبح في فضائِها يَسير في مَسلك مُستدير؛ وبذلك صحّت استعارة هذا اللفظ.

والدليل على أنها استعارة هو استعمال اللفظة بشأن الليل والنهار أيضاً، أي أنّ لكلّ ظاهرة من الظواهر الكونيّة مَجراها الخاصّ وفي نظام رتيب لا تَجور ولا تَحور.

2 - ( فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ)

قال تعالى: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ) (5) .

أو هل كانت الطرائق هنا هي مَدارات الأفلاك البطليميوسيّة؟

قلت: كلاّ، إنّها الطَرائق بمعنى مَجاري الأُمور في التدبير والتقدير والتي هي محلّها السماوات العُلا.

____________________

(1) الأنبياء 21: 33.

(2) يس 36: 40.

(3) مقصوده من الأصل: كونها ذات أصالة عربيّة وليس مستعارة من لغةٍ أجنبيّة.

(4) معجم مقاييس اللغة، ج4، ص452 - 453.

(5) المؤمنون 23: 17.

٣٣٤

الطَرَائق: جمعُ الطَريقة بمعنى المـَذهب والمـَسلك الفكري والعقائدي وليس بمعنى سبيل الاستطراق على الأقدام، ولم تُستعمل في القرآن إلاّ بهذا المعنى:

يقول تعالى - حكايةً عن لسان الجنّ -: ( وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً ) (1) ، أي مَذاهب شتّى.

( وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) (2) ، أي بمَذهبكم القويم الأفضل.

( إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ يَوْماً ) (3) ، وذاك يوم الحَشر يَتخافت المـُجرمون: كم لَبِثوا؟ فيقول بعضهم: عشراً. ويقول أَعقلهم وأَفضلهم بصيرةً: ( إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ يَوْماً ) .

( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً ) (4) ، أي الطريقة المـُثلى والمـَذهب الحقّ.

فالمقصود بالطَرَائق - في الآية الكريمة - هي طَرائق التدبير والتقدير، المـُتّخذة في السماوات حيث مُستقرّ الملائِكِ المدبِّرات أمراً والمقسّمات (5) ، ( يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ) (6) ، ( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) (7) ، أي تقدير أرزاقكم وكلّما قُدّر لكم مِن مَجاري الأُمور، ( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ ) (8) ، ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) (9) .

فالتدبير في السماء ثُمّ التنزيل إلى الأرض ( وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبِّكَ ) (10) ، ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) (11) ، ومِن ثَمَّ تعقّب الآية بقوله تعالى: قال العلاّمة الطباطبائي: أي لستُم بمُنقطعينَ عنّا ولا بمَعزلٍ عن مراقبتِنا وتدبيرنا لشؤونكم، فهذه الطَرائق السبع إنّما جُعلت؛ ليستطرقَها رُسُل ربّكم في التقدير والتدبير والتنزيل (12) .

____________________

(1) الجن 72: 11.

(2) طه 20: 63.

(3) طه 20: 104.

(4) الجنّ 72: 16.

(5) النازعات 79: 5، والذرايات 51: 4.

(6) السجدة 32: 5.

(7) الذاريات 51: 22.

(8) يونس 10: 3.

(9) الحجر 15: 21.

(10) مريم 10: 64.

(11) القدر 97: 4.

(12) راجع: الميزان، ج15، ص21.

٣٣٥

3 - ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ) (1)

ماذا يعنى بذات الحُبُك؟

الحُبُك: جمع الحَبِيكة بمعنى الطَريقة المـَتّخذة، قال الراغب. فمنهم مَن تصوّر منها الطَرائق المحسوسة بالنجوم والمـَجرّات، ومنهم مَن اعتبر ذلك بما فيه مِن الطَرائق المعقولة المـُدرَكة بالبصيرة.

والحُبُك: المـُنعطفات على وجه الماء الصافي تحصل على أثرِ هُبوب الرياح الخفيفة، وهي تكسّرات على وجه الماء كتجعّدات الشعر، ويُقال للشعر المـُجعَّد: حُبُك والواحد حِباك وحَبيكة، قاله الشيخ أبو جعفر الطوسي في التبيان.

من ذلك قول زهير يصف روضة:

مُكلَّلٌ بأُصولِ النَجْمِ تَنْسِجُهُ

ريحٌ خَريقٌ لضاحي مائِهِ حُبُكُ

مراده بالنَجم النبات الناعم، وشَبّه تربية الرياح له بالنَسج، كأنّه إكليل (تاج مزيّن بالجواهر) نَسَجته الريح، ووصف الريح بالخَريق، وهو العاصف.

ثُمّ وَصَف ضاحي مائِهِ - وهو الصافي الزُلال - بأنّ على وجهه قَسَمات وتَعاريج على أثر مَهبّ الرياح عليه، وهو منظر بهيج.

فعلى احتمال إرادة التعرّجات المتأرجحة من الآية، فهي إشارة إلى تلكُم التمرُّجات النوريّة التي تُجلِّل كَبْدَ السماء زينةً لها وبهجةً للناظرين، فسبحان الصانع العظيم!

4 - ( أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً) (2)

في هذه الآية تَوجّه الخطاب إلى عامّة الناس ولا سيّما الأُمَم السالفة الجاهلة حيث لا يعرفون من أطباق السماء شيئاً، فكيف يُعرض عليهم دليلاً على إتقان صنعه تعالى؟ (الآية في سورة نوح والخطاب عن لسانه موجّه إلى قومه).

____________________

(1) الذاريات 51: 7.

(2) نوح 71: 15.

٣٣٦

وهكذا قوله تعالى: ( أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ) (1) .

وقوله: ( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ) (2) .

قلت: هذا بناءً على تفسير الطِباق بذات الطَبقات.

هكذا فسّره المشهور: طِباقاً، واحدة فوق أخرى كالقِباب بعضها فوق بعض (3) .

لكنّ الطِباق هو بمعنى الوِفاق والتَماثل في الصُنع والإتقان، بدليل تفسيره بقوله تعالى: ( مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ ) ، أي كلّها في الصُنع والاستحكام متشاكل.

وقد أُشرِب هنا معنى الالتحام والتلاصق التامّ بين أجزائها مُراداً به الانسجام في الخَلق، بدليل قوله تعالى: ( هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ) أي انشقاق وخَلَل وعَدم انسجام، وكذا قوله: ( وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ) أي منفرجات وخلاّت تُوجب فصل بعضها عن بعض بحيث تُضادّ النَظم القائم، الأمر الذي يستطيع كلّ إنسان - مهما كان مَبلَغه مِن العِلم - من الوقوف عليه إذا تأمّل في النَظم الساطي على السماوات والأرض.

5 - ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ) (4)

( وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ) (5) ( تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً ) (6) ، أو هل تعني البُرُوج هذه ما تصوّره الفلكيّون بشأن البروج الاثني عشر في أشكالٍ رَسَموها لرصد النجوم؟

قلت: المعنيّ بالبُرُوج هذه هي نفس النُجوم؛ تشبيهاً لها بالقصور الزاهية والحصون المنيعة الرفيعة، بدليل عطف السِراج - وهي الشمس الوهّاجة - والقمر المنير عليها.

____________________

(1) ق 50: 6.

(2) الملك 67: 3.

(3) راجع: مجمع البيان، ذيل الآية من سورة المـُلك والآية من سورة نوح، ج 10، ص 322 و 363، وروح المعاني للآلوسي، ج 29، ص 6 و75، وتفسير المراغي، ج 29، ص 6 و 85... وغيرها.

(4) البروج 85: 1.

(5) الحجر 15: 16.

(6) الفرقان 25: 61.

٣٣٧

ولا صلة لها بالأَشكال الفَلكيّة الاثني عشر.

البُرج - في اللغة - بمعنى الحِصن والقصر وكلّ بناءٍ رفيع على شكلٍ مُستدير، فالنُجوم باعتبار إنارتها تبدو مُستديرةً، وباعتبار تلألؤها تبدو كعُبابات تَعوم على وجه السماء زينةً لها، وباعتبارها مراصد لحراسة السماء ( وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ) (1) ، هي حُصون منيعة، فصحّ إطلاق البروج عليها من هذه الجوانب لا غيرها.

هذا، وقد خُلِط على لفيفٍ من المفسّرين فَحَسبوها منازل الشمس والقمر حسب ترسيم الفلكيّين (2) .

وسيّدنا العلاّمة الطباطبائي وإنْ كان في تفسيره لسورتَي الحِجر والفُرقان قد ذهب مذهب المشهور، لكنّه (قدس سره) عَدَل عنه عند تفسيره لسورة البُروج، قال: البُروج، جمع بُرج وهو الأمر الظاهر ويَغلب استعماله في القصر العالي والبِناء المـُرتفع على سُور البلد، وهو المـُراد في الآية، فالمـُراد بالبُروج مواضع الكواكب من السماء، قال: وبذلك يَظهر أنّ تفسير البُروج (في الآيات الثلاث) بالبُروج الاثني عشر المـُصطلح عليها في عِلم النجوم غير سديد (3) .

وقال الشيخ مُحمّد عَبده: وفُسّرت البُروج بالنُجوم وبالبُروج الفلكيّة وبالقُصور على التشبيه، ولا ريب في أنّ النُجوم أَبنية فخيمة عظيمة، فيصحّ إطلاق البُروج عليها تشبيهاً لها بما يُبنى من الحُصون والقُصور في الأرض (4) .

6 - ( وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ)

قال تعالى: ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ

____________________

(1) الحجر 15: 17.

(2) تفسير القمي، ج 1، ص 373، والميزان، ج 12، ص 143 و 154، وتفسير ابن كثير، ج 2، ص 548، وروح المعاني، ج 14، ص 20.

(3) تفسير الميزان، ج 20، ص 368.

(4) تفسير جزء عمّ لمـُحمّد عبده، ص 57.

٣٣٨

يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ ) (1) .

(يُزجي): يَسوق، (يُؤلّف بينه): يؤلّف بين متفرّقه، (يجعله رُكاماً): متكاثفاً، (فترى الوَدق): قَطرات المطر الآخِذة في الهُطول.

( وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ ) ؟

السؤال هنا: ماذا يعني بالجبال هذه؟ وماذا يكون المقصود مِن البَرد وهو الماء المتجمّد على أثر ضغط البرد؟ وكيف يكون هناك في السماء جبالٌ مِن بردٍ؟

وقد مرّ عليها أكثر المفسّرين القُدامى مرور الكرام، وبعضهم أَخذها على ظاهرها وقال: إنّ في السّماء جِبالاً من برد (من ثلج) يَنزل منها المطر، كما تنحدر المياه من جبال الأرض على أثر تراكم الثلوج عليها، عن الحسن والجبّائي (2) وعن مجاهد والكلبي وأكثر المفسّرين: أنّ المراد بالسّماء هي المظلّة وبالجبال حقيقتها، قالوا: إنّ الله خَلَق في السّماء جِبالاً من برد كما خَلق في الأرض جبالاً من صخر، قال الآلوسي: وليس في العقل ما ينفيه من قاطع، فيجوز إبقاء الآية على ظاهرها كما قيل (3) .

قال السيّد المرتضى: وجدتُ المفسّرين على اختلاف عباراتهم يذهبون إلى أنّه تعالى أراد: أنّ في السّماء جِبالاً من بردٍ، وفيهم مَن قال: ما قَدْرُه قَدْرُ جبال، يعني مِقدار جبال مِن كثرته.

قال: وأبو مسلم بن بحر الإصبهانيّ خاصّةً انفرد في هذا الموضع بتأويلٍ طريف، وهو أنْ قال: الجبال، ما جَبَل الله مِن بَرَد، وكلّ جسم شديد مُستحجِر فهو من الجبال، ألم ترَ إلى قوله تعالى في خَلق الأُمَم: ( وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ ) (4) ، والناس يقولون: فلا مجبول على كذا.

وأورد عليه السيّد بأنّه يَلزمه أنّ جعل الجبال اسماً للبرد نفسه؛ من حيث كان مجبولاً مستحجراً! وهذا غلط؛ لأنّ الجبال وإن كانت في الأصل مشتقّة من الجَبْل

____________________

(1) النور 24: 43.

(2) مجمع البيان، ج 7، ص 148.

(3) روح المعاني، ج 18، ص 172، وراجع: التفسير الكبير، ج 24، ص 14.

(4) الشعراء 26: 184.

٣٣٩

والجَمْع، فقد صارت اسماً لذي هيئةٍ مخصوصة؛ ولهذا لا يُسمّي أحد من أهل اللغة كلَّ جسم ضُمَّ بعضه إلى بعض - مع استحجار أو غير استحجار - بأنّه جبل، ولا يخصّون بهذا اللفظ إلاّ أجساماً مخصوصةً... كما أنّ اسم الدابّة وإن كان مشتقّاً في الأصل من الدبيب فقد صار اسماً لبعض ما دبّ، ولا يعمّ كلّ ما وقع منه الدبيب.

قال: والأَولى أنْ يُريد بلفظة السماء - هنا - ما عَلا من الغَيم وارتفع فصار سماءً لنا؛ لأنّ سماء البيت وسماواته ما ارتفع منه، وأراد بالجبال التشبيه؛ لأنّ السحاب المتراكب المتراكم تُشبّهه العرب بالجِبال والجِمال، وهذا شائعٌ في كلامها، كأنّه تعالى قال: ويُنزّل من السحاب الذي يشبه الجِبال في تَراكُمِه بَرداً.

قال: وعلى هذا التفسير تكون (مِن) الأُولى والثانية لابتداء الغاية، والثالثة زائدة لا حكم لها، ويكون تقدير الكلام: ويُنزّل من جبالٍ في السماء بَرداً، فزادت (مِن) كما تزاد في قولهم: ما في الدار من أحد، وكم أعطيته من درهم، ومالك عندي من حقّ، وما أشبه ذلك.

وأضاف: إنّه قد ظهر مفعولٌ صحيحٌ لـ (نُنزّل)، ولا مفعول لهذا الفعل على سائر التأويلات (1) .

قلت: وهو تأويل وجيه لولا جانب زيادة (مِن) في الإيجاب.

قال ابن هشام: شرط زيادتها تقدّم نفي أو نهي أو استفهام ولم يشترطه الكوفيّون واستدلّوا بقول العرب، قد كان من مطر. وبقول عمر بن أبي ربيعة:

ويَنمي لها حبُّها عندَنا

فما قال مِن كاشحٍ لم يَضِرّ

أي فما قاله كاشحٌ - وهو الذي يُضمر العداوة - لم يَضرّ.

قال: وقال الفارسي في قوله تعالى: ( وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ ) : يجوز كون (مِن) الثانية والثالثة زائدتَين، فجوّز الزيادة في الإيجاب (2) .

____________________

(1) الأمالي للسيّد المرتضى عَلَم الهدى، ج 2، ص 304 - 306.

(2) مغني اللبيب لابن هشام، حرف الميم، ج 1، ص 325.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

تبيّن خاصّة سيرتهم في جنب الناس و هي إيتاء السائل و المحروم.

و تخصيص حقّ السائل و المحروم بأنّه في أموالهم - مع أنّه لو ثبت فإنّما يثبت في كلّ مال - دليل على أنّ المراد أنّهم يرون بصفاء فطرتهم أنّ في أموالهم حقّاً لهما فيعملون بما يعملون نشراً للرحمة و إيثاراً للحسنة.

و السائل هو الّذي يسأل العطيّة بإظهار الفاقة و المحروم هو الّذي حرم الرزق فلم ينجح سعيه في طلبه و لا يسأل تعفّفاً.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ، حدّثني أبي عن ابن أبي عمير عن جميل عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قوله تعالى:( وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً ) فقال: إنّ ابن الكوّا سأل أميرالمؤمنينعليه‌السلام عن( الذَّارِياتِ ذَرْواً ) قال: الريح، و عن( فَالْحامِلاتِ وِقْراً ) فقال: هي السحاب، و عن( فَالْجارِياتِ يُسْراً ) فقال: هي السفن، و عن( فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً ) فقال: الملائكة.

أقول: و الحديث مرويّ من طرق أهل السنّة أيضاً كما في روح المعاني.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبدالرزّاق و الفاريابيّ و سعيد بن منصور و الحارث بن أبي اُسامة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن الأنباريّ في المصاحف، و الحاكم و صحّحه و البيهقيّ في شعب الإيمان، من طرق عن عليّ بن أبي طالب في قوله:( وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً ) قال: الرياح( فَالْحامِلاتِ وِقْراً ) قال: السحاب( فَالْجارِياتِ يُسْراً ) قال: السفن( فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً ) قال: الملائكة.

و في المجمع، قال أبوجعفر و أبوعبداللهعليهما‌السلام : لا يجوز لأحد أن يقسم إلّا بالله تعالى، و الله يقسم بما شاء من خلقه.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن منيع عن عليّ بن أبي طالب أنّه سئل عن قوله:( وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ ) قال: ذات الخلق الحسن.

أقول: و روي مثله في المجمع، و لفظه: و قيل: ذات الحسن و الزينة: عن عليّ

٤٠١

عليه‌السلام و في جوامع الجامع، و لفظه: و عن عليّعليه‌السلام : حسنها و زينتها.

و في بعض الأخبار: في قوله تعالى:( إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ) تطبيقه على الولاية..

و في المجمع في قوله تعالى:( كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ ) و قيل معناه: كانوا أقلّ ليلة تمرّ بهم إلّا صلّوا فيها: و هو المرويّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

و فيه، في قوله تعالى:( وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) و قال أبوعبداللهعليه‌السلام : كانوا يستغفرون الله في الوتر سبعين مرّة في السحر.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن أنس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ آخر الليل في التهجّد أحبّ إلي من أوّله لأنّ الله يقول:( وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) .

و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عمر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله:( وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) قال: يصلّون.

أقول: لعلّ تفسير الاستغفار بالصلاة من جهة اشتمال الوتر عليه كإرادة الصلاة من القرآن في قوله:( وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ) إسراء: ٧٨.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ ) قال: السائل الّذي يسأل، و المحروم الّذي قد منع كدّه.

و في التهذيب، بإسناده عن صفوان الجمال عن أبي عبداللهعليه‌السلام في الآية قال: المحروم المحارف الّذي قد حرم كدّ يده في الشراء و البيع.

قال: و في رواية اُخرى عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليه‌السلام قال: المحروم الرجل ليس بعقله بأس و لا يبسط له في الرزق و هو محارف.

٤٠٢

( سورة الذاريات الآيات ٢٠ - ٥١)

وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ ( ٢٠ ) وَفِي أَنفُسِكُمْ  أَفَلَا تُبْصِرُونَ ( ٢١ ) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ( ٢٢ ) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ( ٢٣ ) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ( ٢٤ ) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا  قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ( ٢٥ ) فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ( ٢٦ ) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ ( ٢٧ ) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً  قَالُوا لَا تَخَفْ  وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ( ٢٨ ) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ( ٢٩ ) قَالُوا كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ  إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ( ٣٠ ) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ( ٣١ ) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ( ٣٢ ) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ ( ٣٣ ) مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ( ٣٤ ) فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( ٣٥ ) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ ( ٣٦ ) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ( ٣٧ ) وَفِي مُوسَىٰ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ( ٣٨ ) فَتَوَلَّىٰ بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ( ٣٩ ) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ ( ٤٠ ) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا

٤٠٣

عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ( ٤١ ) مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ( ٤٢ ) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّىٰ حِينٍ ( ٤٣ ) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ ( ٤٤ ) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ ( ٤٥ ) وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ  إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ( ٤٦ ) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ( ٤٧ ) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ( ٤٨ ) وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( ٤٩ ) فَفِرُّوا إِلَى اللهِ  إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( ٥٠ ) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ  إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( ٥١ )

( بيان‏)

تشير الآيات إلى عدّة من آيات الله الدالّة على وحدانيّته في الربوبيّة و رجوع أمر التدبير في الأرض و السماء و الناس و أرزاقهم إليه، و لازمه إمكان نزول الدين الإلهيّ من طريق الرسالة بل وجوبه، و لازمه صدق الدعوة النبويّة فيما تضمّنته من وعد البعث و الجزاء و أنّ ما يوعدون لصادق و أنّ الدين لواقع، و قد مرّت إشارة إلى خصوصيّة سلوك السورة في احتجاجها في البيان السابق.

قوله تعالى: ( وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ ) الاستنتاج الآتي في آخر هذه الآيات في قوله:( فَفِرُّوا إِلَى اللهِ - إلى أن قال -وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) الآية، يشهد على أنّ سوق هذه الآيات و الدلائل لإثبات وحدانيّته تعالى في الربوبيّة لا لإثبات أصل وجوده أو انتهاء الخلق إليه و نحو ذلك.

٤٠٤

و في الآية إشارة إلى ما تتضمّنه الأرض من عجائب الآيات الدالّة على وحدة التدبير القائمة بوحدانيّة مدبّره من برّ و بحر و جبال و تلال و عيون و أنهار و معادن و منافعها المتّصلة بعضها ببعض الملاءمة بعضها لبعض ينتفع بها ما عليها من النبات و الحيوان في نظام واحد مستمرّ من غير اتّفاق و صدفة، لائح عليها آثار القدرة و العلم و الحكم دالّ على أنّ خلقها و تدبير أمرها ينتهي إلى خالق مدبّر قادر عليم حكيم.

فأيّ جانب قصد من جوانبها و أيّة وجهة ولّيت من جهات التدبير العامّ الجاري فيها كانت آية بيّنة و برهاناً ساطعاً على وحدانيّة ربّها لا شريك له ينجلي فيه الحقّ لأهل اليقين ففيها آيات للموقنين.

قوله تعالى: ( وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ ) معطوف على قوله:( فِي الْأَرْضِ ) أي و في أنفسكم آيات ظاهرة لمن أبصر إليها و ركز النظر فيها أ فلا تبصرون.

و الآيات الّتي في النفوس منها ما هي في تركّب الأبدان من أعضائها و أعضاء أعضائها حتّى ينتهي إلى البسائط و ما لها من عجائب الأفعال و الآثار المتّحدة في عين تكثّرها المدبّرة جميعاً لمدبّر واحد، و ما يعرضها من مختلف الأحوال كالجنينيّة و الطفوليّة و الرهاق و الشباب و الشيب.

و منها ما هي من حيث تعلّق النفوس أعني الأرواح بها كالحواسّ من البصر و السمع و الذوق و الشمّ و اللمس الّتي هي الطرق الأوّليّة لاطّلاع النفوس على الخارج لتميّز بذلك الخير من الشرّ و النافع من الضّارّ لتسعى إلى ما فيه كمالها و تهرب ممّا لا يلائمها، و في كلّ منها نظام وسيع جار فيه منفصل بذاته عن غيره كالبصر لا خبر عنده عمّا يعمله السمع بنظامه الجاري فيه و هكذا، و الجميع مع هذا الانفصال و التقطّع مؤتلفة تعمل تحت تدبير مدبّر واحد هو النفس المدبّرة و الله من ورائهم محيط.

و من هذا القبيل سائر القوى المنبعثة عن النفوس في الأبدان كالقوّة الغضبيّة و القوّة الشهويّة و ما لها من اللواحق و الفروع فإنّها على ما للواحد منها بالنسبة إلى غيره من البينونة و انفصال النظام الجاري فيه عن غيره واقعة تحت تدبير مدبّر واحد تتعاضد جميع شعبها و تأتلف لخدمته.

٤٠٥

و نظام التدبير الّذي لكلّ من هذه المدبّرات إنّما وجد له حينما وجد و أوّل ما ظهر من غير فصل فليس ممّا عملت فيه خيرته و أوجده هو لنفسه عن فكر و رويّة أو بغيره فنظام تدبيره كنفسه من صانع صنعه و ألزمه نظامه بتدبيره.

و منها الآيات الروحانيّة الواقعة في عالم النفوس الظاهرة لمن رجع إليها و راقب الله سبحانه فيها من آيات الله الّتي لا يسعها وصف الواصفين و ينفتح بها باب اليقين و تدرج المتطّلع عليها في زمرة الموقنين فيرى ملكوت السماوات و الأرض كما قال تعالى:( وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) الأنعام: ٧٥.

قوله تعالى: ( وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ ) قيل: المراد بالسماء جهة العلو فإنّ كلّ ما علاك و أظلّك فهو سماء لغة، و المراد بالرزق المطر الّذي ينزّله الله على الأرض فيخرج به أنواع ما يقتاتونه و يلبسونه و ينتفعون به و قد قال تعالى:( وَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ) الجاثية: ٥، فسمّي المطر رزقاً فالمراد بالرزق سببه أو بتقدير مضاف أي سبب رزقكم.

و قيل: المراد أسباب الرزق السماويّة من الشمس و القمر و الكواكب و اختلاف المطالع و المغارب الراسمة للفصول الأربعة و توالي الليل و النهار و هي جميعاً أسباب الرزق فالكلام على تقدير مضاف أي أسباب رزقكم أو فيه تجوّز بدعوى أنّ وجود الأسباب فيها وجود ذوات الأسباب.

و قيل: المراد بكون الرزق فيها كون تقديره فيها، أو أنّ الأرزاق مكتوبة في اللوح المحفوظ فيها.

و يمكن أن يكون المراد به عالم الغيب فإنّ الأشياء و منها الأرزاق تنزل من عندالله سبحانه و قد صرّح بذلك في أشياء كقوله تعالى:( وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ) الزمر: ٦، و قوله:( وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ) الحديد: ٢٥، و قوله على نحو العموم:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الحجر: ٢١، و المراد بالرزق كلّ ما ينتفع به الإنسان في بقائه من مأكل و مشرب و ملبس و مسكن و منكح و ولد و علم و قوّة و غير ذلك.

٤٠٦

و قوله:( وَ ما تُوعَدُونَ ) عطف على( رِزْقُكُمْ ) الظاهر أنّ المراد به الجنّة لقوله تعالى:( عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى‏ ) النجم: ١٥، و قول بعضهم: إنّ المراد به الجنّة و النار أو الثواب و العقاب لا يلائمه قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ ) الأعراف: ٤٠.

نعم تكرّر في القرآن نسبة نزول العذاب الدنيويّ إلى السماء كقوله:( فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ ) البقرة: ٥٩، و غير ذلك.

و عن بعضهم أنّ قوله:( وَ ما تُوعَدُونَ ) مبتدأ خبره قوله:( فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ ) و الواو للاستئناف و هو معنى بعيد عن الفهم.

قوله تعالى: ( فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ) النطق التكلّم و ضمير( إِنَّهُ ) راجع إلى ما ذكر من كون الرزق و ما توعدون في السماء و الحقّ هو الثابت المحتوم في القضاء الإلهيّ دون أن يكون أمراً تبعيّاً أو اتّفاقيّاً.

و المعنى: اُقسم بربّ السماء و الأرض إنّ ما ذكرناه من كون رزقكم و ما توعدونه من الجنّة - و هو أيضاً من الرزق فقد تكرّر في القرآن تسمية الجنّة رزقاً كقوله:( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ ) الأنفال: ٧٤، و غير ذلك - في السماء لثابت مقضيّ مثل نطقكم و تكلّمكم الّذي هو حقّ لا ترتابون فيه.

و جوّز بعضهم أن يكون ضمير( إِنَّهُ ) راجعاً إلى( ما تُوعَدُونَ ) فقط أو إلى الرزق فقط أو إلى الله أو إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو إلى القرآن أو إلى الدين في قوله:( وَ إِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ ) أو إلى اليوم في قوله:( أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ) أو إلى جميع ما تقدّم من أوّل السورة إلى ههنا، و لعلّ الأوجه رجوعه إلى ما ذكر في قوله:( وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ ) كما قدّمنا.

٤٠٧

( كلام في تكافؤ الرزق و المرزوق)

الرزق بمعنى ما يرتزق به هو ما يمدّ شيئاً آخر في بقائه بانضمامه إليه أو لحوقه به بأيّ معنى كان كالغذاء الّذي يمدّ الإنسان في حياته و بقائه بصيرورته جزءً من بدنه و كالزوج يمدّ زوجه في إرضاء غريزته و بقاء نسله و على هذا القياس.

و من البيّن: أنّ الأشياء المادّيّة يرتزق بعضها ببعض كالإنسان بالحيوان و النبات مثلاً فما يلحق المرزوق في بقائه من أطوار الكينونة و مختلف الأحوال كما أنّها أطوار من الكون لاحقة به منسوبة إليه كذلك هي بعينها أطوار من الكون لاحقة بالرزق منسوبة إليه و إن كان ربّما تغيّرت الأسماء فكما أنّ الإنسان يصير بالتغذّي ذا أجزاء جديدة في بدنه كذلك الغذاء يصير جزءً جديداً من بدنه اسمه كذا.

و من البيّن أيضاً: أنّ القضاء محيط بالكون مستوعب للأشياء يتعيّن به ما يجري على كلّ شي‏ء في نفسه و أطوار وجوده، و بعبارة اُخرى سلسلة الحوادث بما لها من النظام الجاري مؤلّفة من علل تامّة و معلولات ضروريّة.

و من هنا يظهر أنّ الرزق و المرزوق متلازمان لا يتفارقان فلا معنى لموجود يطرأ عليه طور جديد في وجوده بانضمام شي‏ء أو لحوقه إلّا مع وجود الشي‏ء المنضمّ أو اللّاحق المشترك معه في طوره ذلك فلا معنى لمرزوق مستمدّ في بقائه و لا رزق له، و لا معنى لرزق متحقّق و لا مرزوق له كما لا معنى لزيادة الرزق على ما يحتاج إليه المرزوق، و كذا لبقاء مرزوق من غير رزق فالرزق داخل في القضاء الإلهيّ دخولاً أوّليّاً لا بالعرض و لا بالتبع و هو المعنى بكون الرزق حقّاً.

قوله تعالى: ( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ) إشارة إلى قصّة دخول الملائكة المكرمين على إبراهيمعليه‌السلام و تبشيرهم له و لزوجه ثمّ إهلاكهم قوم لوط، و فيها آية على وحدانيّة الربوبيّة كما تقدّمت الإشارة إليه.

٤٠٨

و في قوله:( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ) تفخيم لأمر القصّة و( الْمُكْرَمِينَ ) - و هم الملائكة الداخلون على إبراهيم - صفة( ضَيْفِ ) و إفراده لكونه في الأصل مصدراً لا يثنّى و لا يجمع.

قوله تعالى: ( إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ) الظرف متعلّق بقوله في الآية السابقة:( حَدِيثُ ) و( سَلاماً ) مقول القول و العامل فيه محذوف أي قالوا: نسلّم عليك سلاماً.

و قوله:( قالَ سَلامٌ ) قول و مقول و( سَلامٌ ) مبتدأ محذوف الخبر و التقدير سلام عليكم، و في إتيانه بالجواب جملة اسميّة دالّة على الثبوت تحيّة منهعليه‌السلام بما هو أحسن من تحيّتهم بقولهم: سلاماً فإنّه جملة فعليّه دالّة على الحدوث.

و قوله:( قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ) الظاهر أنّه حكاية قول إبراهيم في نفسه، و معناه أنّه لمّا رآهم استنكرهم و حدّث نفسه أنّ هؤلاء قوم منكرون، و لا ينافي ذلك ما وقع في قوله تعالى:( فَلَمَّا رَأى‏ أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ ) هود: ٧٠ حيث ذكر نكره بعد تقريب العجل الحنيذ إليهم فإنّ ما في هذه السورة حديث نفسه به و ما في سورة هود ظهوره في وجهه بحيث يشاهد منه ذلك.

و هذا المعنى أوجه من قول جمع من المفسّرين: إنّه حكاية قولهعليه‌السلام لهم و التقدير أنتم قوم منكرون.

قوله تعالى: ( فَراغَ إِلى‏ أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ) الروغ الذهاب على سبيل الاحتيال على ما قاله الراغب و قال غيره: هو الذهاب إلى الشي‏ء في خفية، و المعنى الأوّل يرجع إلى الثاني.

و المراد بالعجل السمين المشويّ منه بدليل قوله:( فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) أو الفاء فصيحة و التقدير فجاء بعجل سمين فذبحه و شوّاه و قرّبه إليهم.

قوله تعالى: ( فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَ لا تَأْكُلُونَ ) عرض الأكل على الملائكة و هو يحسبهم بشرّاً.

قوله تعالى: ( فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ ) إلخ الفاء فصيحة و التقدير

٤٠٩

فلم يمدّوا إليه أيديهم فلمّا رأى ذلك نكرهم و أوجس منهم خيفة، و الإيجاس الإحساس في الضمير و الخيفة بناء نوع من الخوف أي أضمر منهم في نفسه نوعاً من الخوف.

و قوله:( قالُوا لا تَخَفْ ) جي‏ء بالفصل لا بالعطف لأنّه في معنى جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل: فما ذا كان بعد إيجاس الخيفة فقيل: قالوا: لا تخف و بشّروه بغلام عليم فبدّلوا خوفه أمنة و سروراً و المراد بغلام عليم إسماعيل أو إسحاق و قد تقدّم الخلاف فيه.

قوله تعالى: ( فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَ قالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ) في المجمع، الصرّة شدّة الصياح و هو من صرير الباب و يقال للجماعة صرّة أيضاً. قال: و الصكّ الضرب باعتماد شديد انتهى.

و المعنى فأقبلت امرأة إبراهيمعليه‌السلام - لمّا سمعت البشارة - في ضجّة و صياح فلطمت وجهها و قالت: أنا عجوز عقيم فكيف ألد؟ أو المعنى هل عجوز عقيم تلد غلاماً؟

و قيل: المراد بالصرّة الجماعة و أنّها جاءت إليهم في جماعة فصكّت وجهها و قالت ما قالت، و المعنى الأوّل أوفق للسياق.

قوله تعالى: ( قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ) الإشارة بكذلك إلى ما بشّروها به بما لها و لزوجها من حاضر الوضع هي عجوز عقيم و بعلها شيخ مسّه الكبر فربّها حكيم لا يريد ما يريد إلّا بحكمه، عليم لا يخفى عليه وجه الأمر.

قوله تعالى: ( قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ - إلى قوله -لِلْمُسْرِفِينَ ) الخطب الأمر الخطير الهامّ، و الحجارة من الطين الطين المتحجّر، و التسويم تعليم الشي‏ء بمعنى جعله ذا علامة من السومة بمعنى العلامة.

و المعنى:( قالَ ) إبراهيمعليه‌السلام ( فَما خَطْبُكُمْ ) و الشأن الخطير الّذي لكم( أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ) من الملائكة( قالُوا ) أي الملائكة لإبراهيم( إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى‏ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ) و هم قوم لوط( لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ ) طيناً متحجّراً سمّاه الله سجّيلاً( مُسَوَّمَةً )

٤١٠

معلّمة( عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ) تختصّ بهم لإهلاكهم، و الظاهر أنّ اللّام في المسرفين للعهد.

قوله تعالى: ( فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - إلى قوله -الْعَذابَ الْأَلِيمَ ) الفاء فصيحة و قد اُوجز بحذف ما في القصّة من ذهاب الملائكة إلى لوط و ورودهم عليه و همّ القوم بهم حتّى إذا أخرجوا آل لوط من القرية، و قد فصّلت القصّة في غير موضع من كلامه تعالى.

فقوله:( فَأَخْرَجْنا ) إلخ بيان إهلاكهم بمقدّمته، و ضمير( فِيها ) للقرية المفهومة من السياق، و( بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) بيت لوط، و قوله:( وَ تَرَكْنا فِيها آيَةً ) إشارة إلى إهلاكهم و جعل أرضهم عاليها سافلها، و المراد بالترك الإبقاء كناية و قد بيّنت هذه الخصوصيّات في سائر كلامه تعالى.

و المعنى: فلمّا ذهبوا إلى لوط و كان من أمرهم ما كان( فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها ) في القرية( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ ) واحد( مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) و هم آل لوط( وَ تَرَكْنا فِيها ) في أرضهم بقلبها و إهلاكهم( آيَةً ) دالّة على ربوبيّتنا و بطلان الشركاء( لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ ) من الناس.

قوله تعالى: ( وَ فِي مُوسى‏ إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى‏ فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) عطف على قوله:( وَ تَرَكْنا فِيها آيَةً ) و التقدير و في موسى آية، و المراد بسلطان مبين الحجج الباهرة الّتي كانت معه من الآيات المعجزة.

قوله تعالى: ( فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَ قالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) التولّي الإعراض و الباء في قوله:( بِرُكْنِهِ ) للمصاحبة، و المراد بركنه جنوده كما يؤيّده الآية التالية، و المعنى: أعرض مع جنوده، و قيل: الباء للتعدية، و المعنى: جعل ركنه متولّين معرضين.

و قوله:( وَ قالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) أي قال تارة هو مجنون كقوله:( إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ) الشعراء: ٢٧، و قال اُخرى: هو ساحر كقوله:( إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ ) الشعراء: ٣٤.

قوله تعالى: ( خَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَ هُوَ مُلِيمٌ‏ ) النبذ طرح الشي‏ء

٤١١

من غير أن يعتدّ به، و اليمّ البحر، و المليم الآتي بما يلام عليه من ألام بمعنى أتى بما يلام عليه كأغرب إذا أتى بأمر غريب.

و المعنى: فأخذناه و جنوده و هم ركنه و طرحناهم في البحر و الحال أنّه أتى من الكفر و الجحود و الطغيان بما يلام عليه، و إنّما خصّ فرعون بالملامة مع أنّ الجميع يشاركونه فيها لأنّه إمامهم الّذي قادهم إلى الهلاك، قال تعالى:( يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ) هود: ٩٨.

و في الكلام من الإيماء إلى عظمة القدرة و هول الأخذ و هو أن أمر فرعون و جنوده ما لا يخفى.

قوله تعالى: ( وَ فِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ) عطف على ما تقدّمه أي و في عاد أيضاً آية إذ أرسلنا عليهم أي أطلقنا عليهم الريح العقيم.

و الريح العقيم هي الريح الّتي عقمت و امتنعت من أن يأتي بفائدة مطلوبة من فوائد الرياح كتنشئة سحاب أو تلقيح شجر أو تذرية طعام أو نفع حيوان أو تصفية هواء كما قيل و إنّما أثرها الإهلاك كما تشير إليه الآية التالية.

قوله تعالى: ( ما تَذَرُ مِنْ شَيْ‏ءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ) ( ما تَذَرُ ) أي ما تترك، و الرميم الشي‏ء الهالك البالي كالعظم البالي السحيق، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ فِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ - إلى قوله -مُنْتَصِرِينَ ) عطف على ما تقدّمه أي و في ثمود أيضاً آية إذ قيل لهم: تمتّعوا حتّى حين، و القائل نبيّهم صالحعليه‌السلام إذ قال لهم:( تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) هود: ٦٥ قال لهم ذلك لمّا عقروا الناقة فأمهلهم ثلاثة أيّام ليرجعوا فيها عن كفرهم و عتوّهم لكن لم ينفعهم ذلك و حقّ عليهم كلمة العذاب.

و قوله:( فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ ) العتو - على ما ذكره الراغب - النبوّء عن الطاعة فينطبق على التمرّد، و المراد بهذا العتوّ العتوّ عن الأمر و الرجوع إلى الله أيّام المهلة فلا يستشكل بأن عتوّهم عن أمر الله كان مقدّماً على تمتّعهم - كما يظهر من تفصيل القصّة - و الآية تدلّ على العكس.

٤١٢

و قوله:( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ ) هذا لا ينافي ما في موضع آخر من ذكر الصيحة بدل الصاعقة كقوله:( وَ أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ ) : هود: ٦٧ لجواز تحقّقهما معاً في عذابهم.

و قوله:( فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَ ما كانُوا مُنْتَصِرِينَ ) لا يبعد أن يكون( اسْتَطاعُوا ) مضمّناً معنى تمكّنوا، و( مِنْ قِيامٍ ) مفعوله أي ما تمكّنوا من قيام من مجلسهم ليفرّوا من عذاب الله و هو كناية عن أنّهم لم يمهلوا حتّى بمقدار أن يقوموا من مجلسهم.

و قوله:( وَ ما كانُوا مُنْتَصِرِينَ ) عطف على( فَمَا اسْتَطاعُوا ) أي ما كانوا منتصرين بنصرة غيرهم ليدفعوا بها العذاب عن أنفسهم، و محصّل الجملتين أنّهم لم يقدروا على دفع العذاب عن أنفسهم لا بأنفسهم و لا بناصر ينصرهم.

قوله تعالى: ( وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ ) عطف على القصص السابقة، و( قَوْمَ نُوحٍ ) منصوب بفعل محذوف و التقدير و أهلكنا قوم نوح من قبل عاد و ثمود إنّهم كانوا فاسقين عن أمر الله.

فهناك أمر و نهي كلّف الناس بهما من قبل الله سبحانه و هو ربّهم و ربّ كلّ شي‏ء دعاهم إلى الدين الحقّ بلسان رسله فما جاء به الأنبياءعليهم‌السلام حقّ من عندالله و ممّا جاؤا به الوعد بالبعث و الجزاء.

قوله تعالى: ( وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَ إِنَّا لَمُوسِعُونَ ) رجوع إلى السياق السابق في قوله:( وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ ) إلخ، و الأيد القدرة و النعمة، و على كلّ من المعنيين يتعيّن لقوله:( وَ إِنَّا لَمُوسِعُونَ ) ما يناسبه من المعنى.

فالمعنى على الأوّل: و السماء بنيناها بقدرة لا يوصف قدرها و إنّا لذووا سعة في القدرة لا يعجزها شي‏ء، و على الثاني: و السماء بنيناها مقارنا بناؤها لنعمة لا تقدّر بقدر و إنّا لذووا سعة و غنى لا تنفد خزائننا بالإعطاء و الرزق نرزق من السماء من نشاء فنوسّع الرزق كيف نشاء.

و من المحتمل أن يكون( موسعون ) من أوسع في النفقة أي كثّرها فيكون

٤١٣

المراد توسعة خلق السماء كما تميل إليه الأبحاث الرياضيّة اليوم.

قوله تعالى: ( وَ الْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ ) الفرش البسط و كذا المهد أي و الأرض بسطناها و سطّحناها لتستقرّوا عليها و تسكنوها فنعم الباسطون نحن، و هذا الفرش و البسط لا ينافي كريّة الأرض.

قوله تعالى: ( وَ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) الزوجان المتقابلان يتمّ أحدهما بالآخر: فاعل و منفعل كالذكر و الاُنثى، و قيل: المراد مطلق المتقابلات كالذكر و الاُنثى و السماء و الأرض و الليل و النهار و البرّ و البحر و الإنس و الجنّ و قيل: الذكر و الاُنثى.

و قوله:( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) أي تتذكّرون أنّ خالقها منزّه عن الزوج و الشريك واحد موحّد.

قوله تعالى: ( فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) في الآيتين تفريع على ما تقدّم من الحجج على وحدانيّته في الربوبيّة و الاُلوهيّة، و فيها قصص عدّة من الاُمم الماضين كفروا بالله و رسله فانتهى بهم ذلك إلى عذاب الاستئصال.

فالمراد بالفرار إلى الله الانقطاع إليه من الكفر و العقاب الّذي يستتبعه، بالإيمان به تعالى وحده و اتّخاذه إلهاً معبوداً لا شريك له.

و قوله:( وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) كالتفسير لقوله:( فَفِرُّوا إِلَى اللهِ ) أي المراد بالإيمان به الإيمان به وحده لا شريك له في الاُلوهيّة و المعبوديّة.

و قد كرّر قوله:( إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) لتأكيد الإنذار، و الآيتان محكيّتان عن لسان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٤١٤

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ ) قال: خلقك سميعاً بصيراً، تغضب مرّة و ترضى مرّة، و تجوع مرّة و تشبع مرّة، و ذلك كلّه من آيات الله.

أقول: و نسبه في المجمع إلى الصادقعليه‌السلام .

و في التوحيد، بإسناده إلى هشام بن سالم قال: سئل أبوعبداللهعليه‌السلام فقيل له: بما عرفت ربّك؟ قال: بفسخ العزم و نقض الهمّ، عزمت ففسخ عزمي، و هممت فنقض همّي.

أقول: و رواه في الخصال، عنه عن أبيه عن جدّه عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج الخرائطيّ في مساوي الأخلاق عن عليّ بن أبي طالب( وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ ) قال: سبيل الغائط و البول.

أقول: الرواية كالروايتين السابقتين مسوقة لبيان بعض المصاديق من طرق المعرفة.

و فيه، أخرج ابن النقور و الديلميّ عن عليّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله:( وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ ) قال: المطر.

أقول: و روى نحواً منه القمّيّ في تفسيره، مرسلاً و مضمراً.

و في إرشاد المفيد، عن عليّعليه‌السلام في حديث: اطلبوا الرزق فإنّه مضمون لطالبه.

و في التوحيد، بإسناده إلى أبي البختريّ قال: حدّثني جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّه عن عليّ بن أبي طالبعليهم‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: يا عليّ: إنّ اليقين أن لا ترضي أحداً على سخط الله، و لا تحمدنّ أحداً على ما آتاك الله، و لا تذمّنّ أحداً على ما لم يؤتك الله فإنّ الرزق لا يجرّه حرص حريص، و لا يصرفه كره كاره. الحديث.

و في المجمع:( فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ ) و قيل: في جماعة. عن الصادقعليه‌السلام .

٤١٥

و في الدرّ المنثور، أخرج الفاريابيّ و ابن المنذر عن عليّ بن أبي طالب قال: الريح العقيم النكباء.

و في التوحيد، بإسناده إلى محمّد بن مسلم قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام فقلت: قول الله عزّوجلّ( يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) ؟ فقال: اليد في كلام العرب القوّة و النعمة، قال الله:( وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ ) ، و قال:( وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ ) أي بقوّة، و قال:( وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) أي بقوّة، و يقال: لفلان عندي يد بيضاء أي نعمة.

و في التوحيد، بإسناده إلى أبي الحسن الرضاعليه‌السلام خطبة طويلة و فيها: بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، و بتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له، و بمضادّته بين الأشياء عرف أن لا ضدّ له، و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له، ضادّ النور بالظلمة، و اليبس بالبلل، و الخشن باللين، و الصرد بالحرور، مؤلّفاً بين متعادياتها، مفرّقاً بين متدانياتها، دالّة بتفريقها على مفرّقها، و بتأليفها على مؤلّفها و ذلك قوله:( مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) .

ففرّق بين قبل و بعد ليعلم أن لا قبل له و لا بعد له، شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمغرّزها، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقّتها، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه و بين خلقه.

و في المجمع في قوله تعالى:( فَفِرُّوا إِلَى اللهِ ) و قيل: معناه حجّوا. عن الصادقعليه‌السلام .

أقول: و رواه في الكافي، و في المعاني، بالإسناد عن أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام و لعلّه من التطبيق.

٤١٦

( سورة الذاريات الآيات ٥٢ - ٦٠)

كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ( ٥٢ ) أَتَوَاصَوْا بِهِ  بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ( ٥٣ ) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ( ٥٤ ) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ( ٥٥ ) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ( ٥٦ ) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ( ٥٧ ) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ( ٥٨ ) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ ( ٥٩ ) فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ( ٦٠ )

( بيان‏)

مختتم السورة و فيه إرجاع الكلام إلى ما في مفتتحها من إنكارهم للبعث الموعود و مقابلتهم الرسالة بقول مختلف ثمّ إيعادهم باليوم الموعود.

قوله تعالى: ( كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) أي الأمر كذلك، فقوله:( كَذلِكَ ) كالتلخيص لمّا تقدّم من إنكارهم و اختلافهم في القول.

و قوله:( ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) إلخ، بيان للمشبّه.

قوله تعالى: ( أَ تَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ ) التواصي إيصاء القوم بعضهم بعضاً بأمر، و ضمير( بِهِ ) للقول، و الاستفهام للتعجيب، و المعنى: هل وصّى بعض هذه الاُمم بعضاً - هل السابق وصّي اللّاحق؟ - على هذا القول؟ لا بل هم قوم طاغون يدعوهم

٤١٧

إلى هذا القول طغيانهم.

قوله تعالى: ( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ ) تفريع على طغيانهم و استكبارهم و إصرارهم على العناد و اللجاج، فالمعنى: فإذا كان كذلك و لم يجيبوك إلّا بمثل قولهم ساحر أو مجنون و لم يزدهم دعوتك إلّا عناداً فأعرض عنهم و لا تجادلهم على الحقّ فما أنت بملوم فقد أريت المحجّة و أتممت الحجّة.

قوله تعالى: ( وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى‏ تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) تفريع على الأمر بالتولّي عنهم فهو أمر بالتذكير بعد النهي عن الجدال معهم، و المعنى: و استمرّ على التذكير و العظة فذكّر كما كنت تذكّر فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين بخلاف الاحتجاج و الجدال مع اُولئك الطاغين فإنّه لا ينفعهم شيئاً و لا يزيدهم إلّا طغياناً و كفراً.

قوله تعالى: ( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) فيه التفات من سياق التكلّم بالغير إلى التكلّم وحده لأنّ الأفعال المذكورة سابقاً المنسوبة إليه تعالى كالخلق و إرسال الرسل و إنزال العذاب كلّ ذلك ممّا يقبل توسيط الوسائط كالملائكة و سائر الأسباب بخلاف الغرض من الخلق و الإيجاد فإنّه أمر يختصّ بالله سبحانه لا يشاركه فيه أحد.

و قوله:( إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) استثناء من النفي لا ريب في ظهوره في أنّ للخلقة غرضاً و أنّ الغرض العبادة بمعنى كونهم عابدين لله لا كونه معبوداً فقد قال: ليعبدون و لم يقل: لاُعبد أو لأكون معبوداً لهم.

على أنّ الغرض كيفما كان أمر يستكمل به صاحب الغرض و يرتفع به حاجته و الله سبحانه لا نقص فيه و لا حاجة له حتّى يستكمل به و يرتفع به حاجته، و من جهة اُخرى الفعل الّذي لا ينتهي إلى غرض لفاعله لغو سفهيّ و يستنتج منه أنّ له سبحانه في فعله غرضاً هو ذاته لا غرض خارج منه، و أنّ لفعله غرضاً يعود إلى نفس الفعل(١) و هو كمال للفعل لا لفاعله، فالعبادة غرض لخلقة الإنسان و كمال عائد إليه هي و ما

____________________

(١) فالله تعالى خلق الإنسان ليثيبه و الثواب عائد إلى الإنسان و هو المنتفع و هو المنتفع به و الله غني عنه، و أمّا غرضه تعالى فهو ذاته المتعالية و إنّما خلقه لأنّه الله عزّ اسمه. منه.

٤١٨

يتبعها من الآثار كالرحمة و المغفرة و غير ذلك، و لو كان للعبادة غرض كالمعرفة الحاصلة بها و الخلوص لله كان هو الغرض الأقصى و العبادة غرضاً متوسّطاً.

فإن قلت: ما ذكرته من حمل اللّام في( لِيَعْبُدُونِ ) على الغرض يعارضه قوله تعالى:( لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ ) : هود: ١١٩، و قوله:( وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ ) الأعراف: ١٧٩، فإنّ ظاهر الآية الاُولى كون الغرض من الخلقة الاختلاف، و ظاهر الثانية كون الغرض من خلق كثير من الجنّ و الإنس دخول جهنّم فلا محيص عن رفع اليد من حمل اللّام على الغرض و حملها على الغاية.

قلت: أمّا الآية الاُولى فالإشارة فيها إلى الرحمة دون الاختلاف، و أمّا الآية الثانية فاللّام فيها للغرض لكنّه غرض تبعيّ و بالقصد الثاني لا غرض أصليّ و بالقصد الأوّل و قد تقدّم إشباع الكلام في تفسير الآيتين.

فإن قلت: لو كان اللّام في( لِيَعْبُدُونِ ) للغرض كانت العبادة غرضه تعالى المراد من الخلقة، و من المحال أن يتخلّف مراده تعالى عن إرادته لكن من المعلوم المشاهد عياناً أنّ كثيراً منهم لا يعبدونه تعالى و هذا نعم الدليل على أنّ اللّام في الآية ليست للغرض أو أنّها للغرض لكنّ المراد بالعبادة العبادة التكوينيّة كما في قوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) إسراء: ٤٤.

أو أنّ المراد بخلقهم للعبادة خلقهم على وجه صالح لأن يعبدوا الله بجعلهم ذوي اختيار و عقل و استطاعة، و تنزيل الصلاحية و الاستعداد منزلة الفعليّة مجاز شائع كما يقال: خُلق البقر للحرث، و الدار للسكنى.

قلت: الإشكال مبنيّ على كون اللّام في الجنّ و الإنس للاستغراق فيكون تخلّف الغرض في بعض الأفراد منافياً له و تخلّفاً من الغرض، و الظاهر أنّ اللّام فيهما للجنس دون الاستغراق فوجود العبادة في النوع في الجملة تحقّق للغرض لا يضرّه تخلّفه في بعض الأفراد نعم لو ارتفعت العبادة عن جميع الأفراد كان ذلك بطلاناً للغرض، و لله سبحانه في النوع غرض كما أنّ له في الفرد غرضاً.

٤١٩

و أمّا حمل العبادة على العبادة التكوينيّة فيضعّفه أنّها شأن عامّة المخلوقات لا موجب لتخصيصه بالجنّ و الإنس مضافاً إلى أنّ السياق سياق توبيخ الكفّار على ترك عبادة الله التشريعيّة و تهديدهم على إنكار البعث و الحساب و الجزاء و ذلك متعلّق بالعبادة التشريعيّة دون التكوينيّة.

و أمّا حمل العبادة على الصلوح و الاستعداد بأن يكون الغرض من خلق الجنّ و الإنس كونهما بحيث يصلحان للعبادة و يستعدّان لها أو لتعلّق الأمر و النهي العباديّين فيضعفّه أنّ من البيّن أنّ الصلوح و الاستعداد إنّما يتعلّق به الطلب لأجل الفعليّة الّتي يتعلّق به الصلوح و الاستعداد فلو كان الغرض المطلوب من خلقهما كونهما بحيث يصلحان للعبادة أو لتعلّق الأمر و النهي العباديّين فقد تعلّق الغرض أوّلاً بفعليّة عبادتهما ثمّ بالصلوح و الاستعداد لمكان المقدّميّة.

ففي حمل العبادة على الصلوح و الاستعداد اعتراف بكون الغرض من الخلق أوّلاً و بالذات نفس العبادة ثمّ الصلوح و الاستعداد فيعود الإشكال لو كان هناك إشكال.

فالحقّ أنّ اللّام في( الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ ) للجنس دون الاستغراق، و المراد بالعبادة نفسها دون الصلوح و الاستعداد، و لو كان المراد هو الصلوح و الاستعداد للعبادة لكان ذلك غرضاً أدنى مطلوباً لأجل غرض أعلى هو العبادة كما أنّ نفس العبادة بمعنى ما يأتي به العبد من الأعمال بالجوارح من قيام و ركوع و سجود و نحوها غرض مطلوب لأجل غرض آخر هو المثول بين يدي ربّ العالمين بذلّة العبوديّة و فقر المملوكيّة المحضة قبال العزّة المطلقة و الغنى المحض كما ربّما استفيد من قوله تعالى:( قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ ) الفرقان: ٧٧، حيث بدّل العبادة دعاءً.

فحقيقة العبادة نصب العبد نفسه في مقام الذلّة و العبوديّة و توجيه وجهه إلى مقام ربّه، و هذا هو مراد من فسّر العبادة بالمعرفة يعني المعرفة الحاصلة بالعبادة.

فحقيقة العبادة هي الغرض الأقصى من الخلقة و هي أن ينقطع العبد عن نفسه و عن كلّ شي‏ء و يذكر ربّه.

هذا ما يعطيه التدبّر في قوله تعالى:( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429