الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 429

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 429 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 120102 / تحميل: 6171
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

و قد اُبهم ما يعطيه من الدنيا إذ قال:( نُؤْتِهِ مِنْها ) إشارة إلى أنّ الأمر إلى المشيّة الإلهيّة فربّما بسطت الرزق و ربّما قدرت كما قال تعالى:( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ) إسراء: ١٨.

و الالتفات من الغيبة إلى التكلّم بالغير في قوله( نَزِدْ لَهُ ) و( نُؤْتِهِ مِنْها ) للدلالة على العظمة الّتي يشعر بها قوله:( وَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ) .

و المحصّل من معنى الآيتين: أنّ الله سبحانه لطيف بعباده جميعاً ذو قوّة مطلقة و عزّة مطلقة يرزق عباده على حسب مشيّته و قد شاء في من أراد الآخرة و عمل لها أن يرزقه منها و يزيد فيه، و فيمن أراد الدنيا و عمل لها فحسب أن يؤتيه منها و ما له في الآخرة من نصيب.

و يظهر من ذلك أنّ الآية الاُولى عامّة تشمل الفريقين، و المراد بالعباد ما يعمّ أهل الدنيا و الآخرة، و كذا الرزق و أنّ الآية الثانية في مقام تفصيل ما في قوله:( يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ ) من الإجمال.

قوله تعالى: ( أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ ) إلى آخر الآية لمّا بيّن أنّ الله سبحانه هو الّذي أنزل الكتاب بالحقّ و شرع لهم الدين الّذي هو ميزان أعمالهم و أنّه بلطفه و قوّته و عزّته يرزق من أراد الآخرة و عمل لها ما أراده منها و يزيد، و أنّ من أراد الدنيا و نسي الآخرة لا نصيب له فيها سجّل على من كفر بالآخرة عدم النصيب فيها بإنكار أن لا دين غير ما شرعه الله يدين به هؤلاء حتّى يرزقوا بالعمل به مثل ما يرزق أهل الإيمان بالآخرة فيها إذ لا شريك لله حتّى يشرع ديناً غير ما شرعه الله من غير إذن منه تعالى فلا دين إلّا لله و لا يرزق في الآخرة رزقاً حسناً إلّا من آمن بها و عمل لها.

فقوله:( أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ ) إلخ، في مقام الإنكار، و قوله:( وَ لَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) إشارة إلى الكلمة الّتي سبقت منه تعالى أنّهم يعيشون في الأرض إلى أجل مسمّى، و فيه إكبار لجرمهم و معصيتهم.

و قوله:( وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) وعيد لهم على ظلمهم، و إشارة إلى

٤١

أنّهم لا يفوتونه تعالى فإن لم يقض بينهم و لم يعذّبهم في الدنيا فلهم في الآخرة عذاب أليم.

قوله تعالى: ( تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَ هُوَ واقِعٌ بِهِمْ ) إلخ، الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعنوان أنّه سامع فيشمل كلّ مَن مِن شأنه أن يرى، و المراد بالظالمين التاركون لدين الله الّذي شرعه لعباده المعرضون عن الساعة، و المعنى: يرى الراؤن هؤلاء الظالمين يوم القيامة خائفين ممّا كسبوا من السيّئات و هو واقع بهم لا مناص لهم عنه.

و الآية من الآيات الظاهرة في تجسّم الأعمال، و قيل: في الكلام مضاف محذوف و التقدير مشفقين من وبال ما كسبوا، و لا حاجة إليه.

و قوله:( وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ ) في المجمع: إنّ الروضة الأرض الخضرة بحسن النبات، و الجنّة الأرض الّتي تحفّها الشجر فروضات الجنّات الحدائق المشجّرة المخضّرة متونها.

و قوله:( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) أي إنّ نظام الأسباب مطويّ فيها بل السبب الوحيد هو إرادتهم وحدها يخلق الله لهم من عنده ما يشاؤن ذلك هو الفضل الكبير.

و قوله:( ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) تبشير للمؤمنين الصالحين، و إضافة العباد تشريفيّة.

قوله تعالى: ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى‏ ) الّذي نفي سؤال الأجر عليه هو تبليغ الرسالة و الدعوة الدينيّة، و قد حكى الله ذلك عن عدّة ممّن قبلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الرسل كنوح و هود و صالح و لوط و شعيب فيما حكي ممّا يخاطب كلّ منهم اُمّته:( وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى‏ رَبِّ الْعالَمِينَ ) الشعراء و غيرها.

و قد حكي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك إذ قال:( وَ ما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ) يوسف: ١٠٤، و قد أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخاطب الناس بذلك بتعبيرات مختلفة حيث قال:( قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ) ص: ٨٦، و قال:( قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ

٤٢

إِلَّا عَلَى اللهِ ) سبأ: ٤٧، و قال:( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى‏ لِلْعالَمِينَ ) الأنعام: ٩٠، فأشار إلى وجه النفي و هو أنّه ذكرى للعالمين لا يختصّ ببعض دون بعض حتّى يتّخذ عليه الأجر.

و قال:( قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا ) الفرقان: ٥٧، و معناه على ما مرّ في تفسير الآية: إلّا أن يشاء أحد منكم أن يتّخذ إلى ربّه سبيلاً أي يستجيب دعوتي باختياره فهو أجري أي لا شي‏ء هناك وراء الدعوة أي لا أجر.

و قال تعالى في هذه السورة:( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) فجعل أجر رسالته المودّة في القربى، و من المتيقّن من مضامين سائر الآيات الّتي في هذا المعنى أنّ هذه المودّة أمر يرجع إلى استجابة الدعوة إمّا استجابة كلّها و إمّا استجابة بعضها الّذي يهتمّ به و ظاهر الاستثناء على أيّ حال أنّه متّصل بدعوى كون المودّة من الأجر و لا حاجة إلى ما تمحّله بعضهم بتقريب الانقطاع فيه.

و أمّا معنى المودّة في القربى فقد اختلف فيه تفاسيرهم:

فقيل - و نسب إلى الجمهور - أنّ الخطاب لقريش و الأجر المسؤل هو مودّتهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقرابته منهم و ذلك لأنّهم كانوا يكذّبونه و يبغضونه لتعرّضه لآلهتهم على ما في بعض الأخبار فاُمرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسألهم: إن لم يؤمنوا به فليودّوه لمكان قرابته منهم و لا يبغضوه و لا يؤذوه فالقربى مصدر بمعنى القرابة، و في للسببيّة.

و فيه أنّ معنى الأجر إنّما يتمّ إذا قوبل به عمل يمتلكه معطي الأجر فيعطي العامل ما يعادل ما امتلكه من مال و نحوه فسؤال الأجر من قريش و هم كانوا مكذّبين له كافرين بدعوته إنّما كان يصحّ على تقدير إيمانهم بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّهم على تقدير تكذيبه و الكفر بدعوته لم يأخذوا منه شيئاً حتّى يقابلوه بالأجر، و على تقدير الإيمان به - و النبوّة أحد الاُصول الثلاثة في الدين - لا يتصوّر بغض حتّى تجعل المودّة أجراً للرسالة و يسأل.

و بالجملة لا تحقّق لمعنى الأجر على تقدير كفر المسؤلين و لا تحقّق لمعنى البغض

٤٣

على تقدير إيمانهم حتّى يسألوا المودّة.

و هذا الإشكال وارد حتّى على تقدير أخذ الاستثناء منقطعاً فإنّ سؤال الأجر منهم على أيّ حال إنّما يتصوّر على تقدير إيمانهم و الاستدراك على الانقطاع إنّما هو عن الجملة بجميع قيودها فأجد التأمّل فيه.

و قيل: المراد بالمودّة في القربى ما تقدّم و الخطاب للأنصار فقد قيل: إنّهم أتوه بمال ليستعين به على ما ينوبه فنزلت الآية فردّه، و قد كان له منهم قرابة من جهة سلمى بنت زيد النجاريّة و من جهة أخوال اُمّة آمنة على ما قيل.

و فيه أنّ أمر الأنصار في حبّهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوضح من أن يرتاب فيه ذو ريب و هم الّذين سألوه أن يهاجر إليهم، و بوّؤا له الدار، و فدوه بالأنفس و الأموال و البنين و بذلوا كلّ جهدهم في نصرته و حتّى في الإحسان على من هاجر إليهم من المؤمنين به، و قد مدحهم الله تعالى بمثل قوله:( وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَ الْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَ يُؤْثِرُونَ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ ) الحشر: ٩، و هذا مبلغ حبّهم للمهاجرين إليهم لأجل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فما هو الظنّ في حبّهم له؟.

و إذا كان هذا مبلغ حبّهم فما معنى أن يؤمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتوسّل إلى مودّتهم بقرابته منهم هذه القرابة البعيدة؟.

على أنّ العرب ما كانت تعتني بالقرابة من جهة النساء ذاك الاعتناء و فيهم القائل:

بنونا بنو أبنائنا و بناتنا

بنوهنّ أبناء الرجال الأباعد

و القائل:

و إنّما اُمّهات الناس أوعية

مستودعات و للأنساب آباء

و إنّما هو الإسلام أدخل النساء في القرابة و ساوى بين أولاد البنين و أولاد البنات و قد تقدّم الكلام في ذلك.

و قيل: الخطاب لقريش و المودّة في القربى هي المودّة بسبب القرابة غير أنّ المراد بها مودّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا مودّة قريش كما في الوجه الأوّل، و الاستثناء منقطع،

٤٤

و محصّل المعنى: أنّي لا أسألكم أجراً على ما أدعوكم إليه من الهدى الّذي ينتهي بكم إلى روضات الجنّات و الخلود فيها و لا أطلب منكم جزاء لكن حبّي لكم بسبب قرابتكم منّي دفعني إلى أن أهديكم إليه و أدلّكم عليه.

و فيه أنّه لا يلائم ما يخدّه الله سبحانه لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في طريق الدعوة و الهداية فإنّه تعالى يسجّل عليه في مواضع كثيرة من كلامه أنّ الأمر في هداية الناس إلى الله و ليس له من الأمر شي‏ء و أن ليس له أن يحزن لكفرهم و ردّهم دعوته و إنّما عليه البلاغ فلم يكن له أن يندفع إلى هداية أحد لحبّ قرابة أو يعرض عن هداية آخرين لبغض أو كراهة و مع ذلك كلّه كيف يتصوّر أن يأمره الله بقوله:( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ ) الآية أن يخبر كفّار قريش أنّه إنّما اندفع إلى دعوتهم و هدايتهم بسبب حبّه لهم لقرابتهم منه لا لأجر يسألهم إيّاه عليه.

و قيل: المراد بالمودّة في القربى مودّة الأقرباء و الخطاب لقريش أو لعامة الناس و المعنى: لا أسألكم على دعائي أجراً إلّا أن تودّوا أقرباءكم.

و فيه أنّ مودّة الأقرباء على إطلاقهم ليست ممّا يندب إليه في الإسلام قال تعالى:( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) المجادلة: ٢٢، و سياق هذه الآية لا يلائم كونها مخصّصة أو مقيّدة لعموم قوله:( إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) أو إطلاقه حتّى تكون المودّة للأقرباء المؤمنين هي أجر الرسالة - على أنّ هذه المودّة الخاصّة لا تلائم خطاب قريش أو عامّة الناس.

بل الّذي يفيده سياق الآية أنّ الّذي يندب إليه الإسلام هو الحبّ في الله من غير أن يكون للقرابة خصوصيّة في ذلك، نعم هناك اهتمام شديد بأمر القرابة و الرحم لكنّه بعنوان صلة الرحم و إيتاء المال، على حبّه ذوي القربى لا بعنوان مودّة القربى فلا حبّ إلّا لله عزّ اسمه.

و لا مساغ للقول بأنّ المودّة في القربى في الآية كناية عن صلتهم و الإحسان إليهم بإيتاء المال إذ ليس في الكلام ما يدفع كون المراد هو المعنى الحقيقيّ غير الملائم لما

٤٥

ندب إليه الإسلام من الحبّ في الله.

و قيل: معنى القربى هو التقرّب إلى الله، و المودّة في القربى هي التودّد إليه تعالى بالطاعة و التقرّب فالمعنى: لا أسألكم عليه أجراً إلّا أن تودّدوا إليه تعالى بالتقرّب إليه.

و فيه أنّ في قوله:( إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) على هذا المعنى إبهاماً لا يصلح به أن يخاطب به المشركون فإنّ حاقّ مدلوله التودّد إليه - أو ودّه تعالى - بالتقرّب إليه و المشركون لا ينكرون ذلك بل يرون ما هم عليه من عبادة الآلهة تودّداً إليه بالتقرّب منه فهم القائلون على ما يحكيه القرآن عنهم:( ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) الزمر: ٣،( هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ ) يونس: ١٨.

فسؤال التودّد إلى الله بالتقرّب إليه من غير تقييده بكونه بعبادته وحده، و جعل ذلك أجراً مطلوباً ممّن يرى شركة نوع تودّد إلى الله بالتقرّب إليه، و خطابهم بذلك على ما فيه من الإبهام - و المقام مقام تمحيضهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه في دعوتهم إلى دين التوحيد لا يسألهم لنفسه شيئاً قطّ - ممّا لا يرتضيه الذوق السليم.

على أنّ المستعمل في الآية هو المودّة دون التودّد فالمراد بالمودّة حبّهم لله في التقرّب إليه و لم يرد في كلامه تعالى إطلاق المودّة على حبّ العباد لله سبحانه و إن ورد العكس كما في قوله:( إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) هود: ٩٠، و قوله:( وَ هُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ) البروج: ١٤، و لعلّ ذلك لما في لفظ المودّة من الإشعار بمراعاة حال المودود و تعاهده و تفقّده، حتّى قال بعضهم - على ما حكاه الراغب - إنّ مودّة الله لعباده مراعاته لهم.

و الإشكال السابق على حاله و لو فسّرت المودّة في القربى بموادّة الناس بعضهم بعضاً و محابّتهم في التقرّب إلى الله بأن تكون القربات أسباباً للمودّة و الحبّ فيما بينهم فإنّ للمشركين ما يماثل ذلك فيما بينهم على ما يعتقدون.

و قيل: المراد بالمودّة في القربى، مودّة قرابة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هم عترته من أهل بيتهعليهم‌السلام و قد وردت به روايات من طرق أهل السنّة و تكاثرت الأخبار من طرق الشيعة

٤٦

على تفسير الآية بمودّتهم و موالاتهم، و يؤيّده الأخبار المتواترة من طرق الفريقين على وجوب موالاة أهل البيتعليهم‌السلام و محبّتهم.

ثمّ التأمل الكافي في الروايات المتواترة الواردة من طرق الفريقين عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المتضمّنة لإرجاع الناس في فهم كتاب الله بما فيه من اُصول معارف الدين و فروعها و بيان حقائقه إلى أهل البيتعليهم‌السلام كحديث الثقلين و حديث السفينة و غيرهما لا يدع ريباً في أنّ إيجاب مودّتهم و جعلها أجراً للرسالة إنّما كان ذريعة إلى إرجاع الناس إليهم فيما كان لهم من المرجعيّة العلميّة.

فالمودّة المفروضة على كونها أجراً للرسالة لم تكن أمراً وراء الدعوة الدينيّة من حيث بقائها و دوامها، فالآية في مؤدّاها لا تغاير مؤدّى سائر الآيات النافية لسؤال الأجر.

و يئول معناها إلى أنّي لا أسألكم عليه أجراً إلّا أنّ الله لمّا أوجب عليكم مودّة عامّة المؤمنين و من جملتهم قرابتي فإنّي أحتسب مودّتكم لقرابتي و أعدّها أجراً لرسالتي، قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا ) مريم: ٩٦ و قال:( وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) التوبة: ٧١.

و بذلك يظهر فساد ما اُورد على هذا الوجه أنّه لا يناسب شأن النبوّة لما فيه من التهمة فإنّ أكثر طلبة الدنيا يفعلون شيئاً و يسألون عليه ما يكون فيه نفع لأولادهم و قراباتهم.

و أيضاً فيه منافاة لقوله تعالى:( وَ ما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ) يوسف: ١٠٤.

وجه الفساد أنّ إطلاق الأجر عليها و تسميتها به إنّما هو بحسب الدعوى و أمّا بحسب الحقيقة فلا يزيد مدلول الآية على ما يدلّ عليه الآيات الاُخر النافية لسؤال الأجر كما عرفت و ما في ذلك من النفع عائد إليهم فلا مورد للتهمة.

على أنّ الآية على هذا مدنيّة خوطب بها المسلمون و ليس لهم أن يتّهموا نبيّهم المصون بعصمة إلهيّة - بعد الإيمان به و تصديق عصمته - فيما يأتيهم به من ربّهم و لو جاز اتّهامهم له في ذلك و كان ذلك غير مناسب لشأن النبوّة لا يصلح لأن يخاطب

٤٧

به، لاطّرد مثل ذلك في خطابات كثيرة قرآنيّة كالآيات الدالّة على فرض طاعته المطلقة و الدالّة على كون الأنفال و الغنائم لله و لرسوله، و الدالّة على خمس ذوي القربى، و ما اُبيح له في أمر النساء و غير ذلك.

على أنّه تعالى تعرّض لهذه التهمة و دفعها في قوله الآتي:( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى‏ عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى‏ قَلْبِكَ ) الآية على ما سيأتي.

و هب أنّا صرفنا الآية عن هذا المعنى بحملها على غيره دفعاً لما ذكر من التهمة فما هو الدافع لها عن الأخبار الّتي لا تحصى كثرة الواردة من طرق الفريقين في إيجاب مودة أهل البيت عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟.

و أمّا منافاة هذا الوجه لقوله تعالى:( وَ ما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ) فقد اتّضح بطلانه ممّا ذكرناه، و الآية بقياس مدلولها إلى الآيات النافية لسؤال الأجر نظيره قوله تعالى:( قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا ) الفرقان: ٥٧.

قال في الكشّاف بعد اختياره هذا الوجه: فإن قلت: هلا قيل: إلّا مودّة القربى أو إلّا المودّة للقربى، و ما معنى قوله: إلّا المودّة في القربى؟

قلت: جعلوا مكانا للمودّة و مقرّاً لها كقولك: لي في آل فلان مودّة، و لي فيهم هوى و حبّ شديد، تريد اُحبّهم و هم مكان حبّي و محلّه.

قال: و ليست في بصلة للمودّة كاللام إذا قلت: إلّا المودّة للقربى. إنّما هي متعلّقه بمحذوف تعلّق الظرف به في قولك: المال في الكيس، و تقديره: إلّا المودّة ثابتة في القربى و متمكّنة فيها. انتهى.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ) الاقتراف الاكتساب، و الحسنة الفعلة الّتي يرتضيها الله سبحانه و يثيب عليها، و حسن العمل ملاءمته لسعادة الإنسان و الغاية الّتي يقصدها كما أنّ مساءته و قبحه خلاف ذلك، و زيادة حسنها إتمام ما نقص من جهاتها و إكماله و من ذلك الزيادة في ثوابها كما قال تعالى:( وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ ) العنكبوت: ٧، و قال:

٤٨

( لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) النور: ٣٨.

و المعنى: و من يكتسب حسنة نزد له في تلك الحسنة حسناً - برفع نقائصها و زيادة أجرها - إنّ الله غفور يمحو السيّئات شكور يظهر محاسن العمل من عامله.

و قيل: المراد بالحسنة مودّة قربى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يؤيّده ما في روايات أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ قوله:( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ) إلى تمام أربع آيات نزلت في مودّة قربى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و لازم ذلك كون الآيات مدنيّة و أنّها ذات سياق واحد و أنّ المراد بالحسنة من حيث انطباقها على المورد هي المودّة، و على هذا فالإشارة بقوله:( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى‏ ) إلخ، إلى بعض ما تفوّه به المنافقون تثاقلاً عن قبوله و في المؤمنين سمّاعون لهم، و بقوله:( وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ ) إلى آخر الآيتين إلى توبة الراجعين منهم و قبولها.

و في قوله:( إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ) التفات من التكلّم إلى الغيبة و الوجه فيه الإشارة إلى علّة الاتّصاف بالمغفرة و الشكر فإنّ المعنى: إنّ الله غفور شكور لأنّه الله عزّ اسمه.

قوله تعالى: ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى‏ عَلَى اللهِ كَذِباً ) إلى آخر الآية أم منقطعة، و الكلام مسوق للتوبيخ و لازمه إنكار كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مفترياً على الله كذباً.

و قوله:( فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى‏ قَلْبِكَ ) معناه على ما يعطيه السياق أنّك لست مفترياً على الله كذباً فإنّه ليس لك من الأمر شي‏ء حتّى تشاء الفرية فتأتي بها و إنّما هو وحي من الله سبحانه من غير أن يكون لك فيه صنع و الأمر إلى مشيّته تعالى فإن يشأ يختم على قلبك و سدّ باب الوحي إليك، لكنّه شاء أن يوحي إليك و يبيّن الحقّ، و قد جرت سنّته أن يمحو الباطل و يحقّ الحقّ بكلماته.

فقوله:( فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى‏ قَلْبِكَ ) كناية عن إرجاع الأمر إلى مشيّة الله و تنزيه لساحة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأتي بشي‏ء من عنده.

و هذا المعنى - كما سترى - أنسب للسياق بناء على كون المراد بالقربى قرابة

٤٩

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و التوبيخ متوجّهاً إلى المنافقين و مرضي القلوب.

و قد ذكروا في معنى الجملة وجوها اُخر:

منها: ما ذكره الزمخشريّ في الكشّاف حيث فسّر قوله:( فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى‏ قَلْبِكَ ) بقوله: فإن يشإ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم حتّى تفتري عليه الكذب فإنّه لا يفتري على الله الكذب إلّا من كان في مثل حالهم.

و هذا الاُسلوب مؤدّاه استبعاد الافتراء من مثله و أنّه في البعد مثل الشرك بالله و الدخول في جملة المختوم على قلوبهم، و مثال هذا أن يخوّن بعض الاُمناء فيقول: لعلّ الله خذلني لعلّ الله أعمى قلبي و هو لا يريد إثبات الخذلان و عمى القلب و إنّما يريد استبعاد أن يخوّن مثله و التنبيه على أنّه ركب من تخوينه أمر عظيم. انتهى.

و منها ما قيل: إنّ المعنى لو حدّثت نفسك بأن تفتري على الله الكذب لطبع الله على قلبك و لأنساك القرآن فكيف تقدر أن تفتري على الله، و هذا كقوله:( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) .

و منها ما قيل: إنّ معناه فإن يشإ الله يربط على قلبك بالصبر على أذاهم حتّى لا يشقّ عليك قولهم: إنّه مفتر و ساحر، و هي وجوه لا تخلو من ضعف.

و منها ما قيل: إنّ المعنى فإن يشإ الله يختم على قلبك كما ختم على قلوبهم و هو تسلية للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليشكر ربّه على ما آتاه من النعمة.

و منها ما قيل: إنّ المعنى فإن يشإ الله يختم على قلوب الكفّار و على ألسنتهم و يعاجلهم بالعذاب، و عدل عن الغيبة إلى الخطاب و عن الجمع إلى الإفراد، و المراد: يختم على قلبك أيّها القائل: إنّه افترى على الله كذباً.

و قوله:( وَ يَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَ يُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ ) الإتيان بالمضارع - يمحو و يحقّ - للدلالة على الاستمرار، فمحو الباطل و إحقاق الحقّ بالكلمات سنّة جارية له تعالى و المراد بالكلمات ما ينزل على الأنبياء من الوحي الإلهيّ و التكليم

٥٠

الربوبيّ و يمكن أن يكون المراد نفوس الأنبياء من حيث إنّها مفصحة عن الضمير الغيبيّ.

و قوله:( إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) تعليل لقوله:( وَ يَمْحُ اللهُ الْباطِلَ ) إلخ أي إنّه يمحو الباطل و يحقّ الحقّ بكلماته لأنّه عليم بالقلوب و ما انطوت عليه فيعلم ما تستدعيه من هدى أو ضلال أو شرح أو ختم بإنزال الوحي و توجيه الدعوة.

قيل: و في الآية إشعار بوعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنصر و لا يخلو من وجه.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ ) يقال: قبل منه و قبل عنه قال في الكشّاف: يقال: قبلت منه الشي‏ء و قبلته عنه فمعنى قبلته منه أخذته منه و جعلته مبدأ قبولي و منشأه، و معنى قبلته عنه عزلته و أبنته عنه. انتهى.

و في قوله:( وَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ ) تحضيض على التوبة و تحذير عن اقتراف السيّئات و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ الْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ ) فاعل( يَسْتَجِيبُ ) ضمير راجع إليه تعالى و( الَّذِينَ آمَنُوا ) إلخ، في موضع المفعول بنزع الخافض و التقدير و يستجيب للّذين - آمنوا على ما قيل - و قيل: فاعل( يَسْتَجِيبُ ) هو( الَّذِينَ ) و هو بعيد من السياق.

و الاستجابة إجابة الدعاء و لمّا كانت العبادة دعوة له تعالى عبّر عن قبولها بالاستجابة لهم، و الدليل على هذا المعنى قوله:( وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) فإنّ ظاهره زيادة الثواب و كذا مقابلة استجابة المؤمنين بقوله:( وَ الْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ ) .

و قيل: المراد أنّه يستجيب لهم إذا دعوه و أعطاهم ما سألوه و زادهم على ما طلبوه و هو بعيد من السياق. على أنّ استجابة الدعاء لا يختصّ بالمؤمن.

٥١

( بحث روائي‏)

في المجمع، روى زادان عن عليّعليه‌السلام قال: فينا في آل حم آية لا يحفظ مودّتنا إلّا كلّ مؤمن. ثمّ قرأ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) .

قال الطبرسيّ: و إلى هذا أشار الكميت في قوله:

وجدنا لكم في آل حم آية

تأوّلها منّا تقيّ و معرب

و فيه، و صحّ عن الحسن بن عليّعليه‌السلام : أنّه خطب الناس فقال في خطبته: إنّا من أهل البيت الّذين افترض الله مودّتهم على كلّ مسلم فقال:( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى‏ ) .

و في الكافي، بإسناده عن عبدالله بن عجلان عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله تعالى:( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) قال: هم الأئمّة.

أقول: و الأخبار في هذا المعنى من طرق الشيعة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام كثيرة جدّاً مرويّة عنهم.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و عبد بن حميد و البخاريّ و مسلم و الترمذيّ و ابن جرير و ابن مردويه من طريق طاووس عن ابن عبّاس أنّه سئل عن قوله:( إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) فقال سعيد بن جبير: هم قربى آل محمّد فقال ابن عبّاس: عجّلت إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن بطن من قريش إلّا كان له فيهم قرابة فقال: إلّا أن تصلوا ما بيني و بينكم من القرابة.

أقول: و رواه أيضاً عن ابن عبّاس بطرق اُخرى غير هذا الطريق‏، و قد تقدّم في بيان الآية أنّ هذا المعنى غير مستقيم و لا منطبق على سياق الآية، و من العجيب ما في بعض هذه الطرق أنّ الآية منسوخة بقوله تعالى:( قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ ) .

و فيه، أخرج أبونعيم و الديلميّ من طريق مجاهد عن ابن عبّاس قال: قال رسول

٥٢

اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) أن تحفظوني في أهل بيتي و تودّوهم لي.

و فيه، أخرج ابن المنذر، و ابن أبي حاتم و الطبرانيّ و ابن مردويه بسند ضعيف من طريق سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال: لمّا نزلت هذه الآية( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) قالوا: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الّذين وجبت مودّتهم قال: عليّ و فاطمة و ولداها.

أقول: و رواه الطبرسيّ في المجمع و فيها( و وُلدها) مكان( و ولداها) .

و فيه، أخرج ابن جرير عن أبي الديلم قال: لمّا جي‏ء بعليّ بن الحسين أسيراً فاُقيم على درج دمشق قام رجل من أهل الشام فقال: الحمد لله الّذي قتلكم و استأصلكم فقال له عليّ بن الحسين: أ قرأت القرآن؟ قال: نعم. قال: أ قرأت آل حم؟ قال: نعم قال: أ ما قرأت( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى‏ ) ؟ قال: فإنّكم لأنتم هم؟ قال: نعم.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس( وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً ) قال: المودّة لآل محمّد.

أقول: و روي ما في معناه في الكافي، بإسناده عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام .

و في تفسير القمّيّ، حدّثني أبي عن ابن أبي نجران عن عاصم بن حميد عن محمّد بن مسلم قال: سمعت أباجعفرعليه‌السلام يقول: في قول الله عزّوجلّ:( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى‏ ) يعني في أهل بيته.

قال: جاءت الأنصار إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: إنّا قد آوينا و نصرنا فخذ طائفة من أموالنا- فاستعن بها على ما نابك فأنزل الله عزّوجلّ:( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى‏ ) أي في أهل بيته.

ثمّ قال: أ لا ترى أنّ الرجل يكون له صديق و في نفس ذلك الرجل شي‏ء على أهل بيته فلا يسلم صدره فأراد الله عزّوجلّ أن لا يكون في نفس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شي‏ء على اُمّته ففرض الله عليهم المودّة في القربى فإن أخذوا أخذوا مفروضاً، و إن تركوا

٥٣

تركوا مفروضاً.

قال: فانصرفوا من عنده و بعضهم يقول: عرضنا عليه أموالنا فقال: لا. قاتلوا عن أهل بيتي من بعدي، و قال طائفة: ما قال هذا رسول الله و جحدوه و قالوا كما حكى الله عزّوجلّ:( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى‏ عَلَى اللهِ كَذِباً ) فقال عزّوجلّ:( فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى‏ قَلْبِكَ ) قال: لو افتريت( وَ يَمْحُ اللهُ الْباطِلَ ) يعني يبطله( وَ يُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ ) يعني بالأئمّة و القائم من آل محمّدعليهم‌السلام ( إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) .

أقول: و روى قصّة الأنصار السيوطيّ في الدرّ المنثور، عن الطبرانيّ و ابن مردويه من طريق ابن جبير و ضعّفه.

٥٤

( سورة الشورى الآيات ٢٧ - ٥٠)

وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ  إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ( ٢٧ ) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ  وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ( ٢٨ ) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ  وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ( ٢٩ ) وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ( ٣٠ ) وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ  وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ( ٣١ ) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ( ٣٢ ) إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهْرِهِ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ( ٣٣ ) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ ( ٣٤ ) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ ( ٣٥ ) فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا  وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( ٣٦ ) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ( ٣٧ ) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( ٣٨ ) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ( ٣٩ ) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا  فَمَنْ

٥٥

عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ  إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ( ٤٠ ) وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ ( ٤١ ) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ  أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٤٢ ) وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ( ٤٣ ) وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ  وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَىٰ مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ ( ٤٤ ) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ  وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ  أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ ( ٤٥ ) وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللهِ  وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ ( ٤٦ ) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ  مَا لَكُم مِّن مَّلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ ( ٤٧ ) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا  إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ  وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا  وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ ( ٤٨ ) لِّلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ  يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ ( ٤٩ ) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا  وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا  إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ( ٥٠ )

٥٦

( بيان‏)

صدر الآيات متّصل بحديث الرزق المذكور في قوله:( اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ ) و قد سبقه قوله:( لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ ) و قد تقدّمت الإشارة إلى أنّ من الرزق نعمة الدين الّتي آتاها الله سبحانه عباده المؤمنين و بهذه العناية دخل الكلام فيه في الكلام على الوحي الّذي سيقت لبيانه آيات السورة و انعطف عليه انعطافاً بعد انعطاف.

ثمّ يذكر بعض آيات التوحيد المتعلّقة بالرزق كخلق السماوات و الأرض و بثّ الدوابّ فيهما و السفائن الجواري في البحر و إيتاء الأولاد الذكور و الإناث أو إحداهما لمن يشاء و جعل من يشاء عقيماً.

ثمّ يذكر أنّ من الرزق ما آتاهموه في الدنيا و هو متاعها الفاني بفنائها و منه ما يخصّ المؤمنين في الآخرة و هو خير و أبقى، و ينتقل الكلام من هنا إلى صفات المؤمنين و حسن عاقبتهم و إلى وصف ما يلقاه الظالمون و هم غيرهم في عقباهم من أهوال القيامة و عذاب الآخرة.

و وراء ذلك في خلال الآيات من إجمال بعض الأحكام و الإنذار و التخويف و الدعوة إلى الحقّ و حقائق المعارف شي‏ء كثير.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَ لكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ) القدر مقابل البسط معناه التضييق و منه قوله السابق:( يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ ) و القدر بفتح الدالّ و سكونها كمّيّة الشي‏ء و هندسته و منه قوله:( وَ لكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ ) أو جعل الشي‏ء على كمّيّة معيّنة و منه قوله:( فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ ) المرسلات: ٢٣.

و البغي الظلم، و قوله:( بِعِبادِهِ ) من وضع الظاهر موضع الضمير، و النكتة فيه الإشارة إلى بيان كونه خبيراً بصيراً بهم و ذلك أنّهم عباده المخلوقون له القائمون

٥٧

به فلا يكونون محجوبين عنه مجهولين له، و كذا قوله السابق:( لِعِبادِهِ ) لا يخلو من إشارة إلى بيان إيتاء الرزق و ذلك أنّهم عباده و رزق العبد على مولاه.

و معنى الآية: و لو وسّع الله الرزق على عباده فأشبع الجميع بإيتائه لظلموا في الأرض - لما أنّ من طبع سعة المال الأشر و البطر و الاستكبار و الطغيان كما قال تعالى:( إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى‏ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) العلق: ٧ - و لكن ينزّل ما يشاء من الرزق بقدر و كمّيّة معيّنة أنّه بعباده خبير بصير فيعلم ما يستحقّه كلّ عبد و ما يصلحه من غنى أو فقر فيؤتيه ذلك.

ففي قوله:( وَ لكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ ) بيان للسنّة الإلهيّة في إيتاء الرزق بالنظر إلى صلاح حال الناس أي إنّ لصلاح حالهم أثراً في تقدير أرزاقهم، و لا ينافي ذلك ما نشاهد من طغيان بعض المثرين و نماء رزقهم على ذلك فإنّ هناك سنة اُخرى حاكمة على هذه السنّة و هي سنّة الابتلاء و الامتحان، قال تعالى:( إنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) التغابن: ١٥، و سنّة اُخرى هي سنّة المكر و الاستدراج، قال تعالى:( سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) الأعراف: ١٨٣.

فسنّة الإصلاح بتقدير الرزق سنّة ابتدائيّة يصلح بها حال الإنسان إلّا أن يمتحنه الله كما قال:( وَ لِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَ لِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ ) آل عمران: ١٥٤ أو يغيّر النعمة و يكفر بها فيغيّر الله في حقّه سنّته فيعطيه ما يطغيه، قال تعالى:( إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) الرعد: ١١.

و كما أنّ إيتاء المال و البنين و سائر النعم الصوريّة من الرزق المقسوم كذلك المعارف الحقّة و الشرائع السماويّة المنتهية إلى الوحي من حيث إنزالها و من حيث الابتلاء بها و التلبّس بالعمل بها من الرزق المقسوم.

فلو نزلت المعارف و الأحكام عن آخرها دفعة واحدة - على ما لها من الإحاطة و الشمول لجميع شؤن الحياة الإنسانيّة - لشقّت على الناس و لم يؤمن بها إلّا الأوحديّ منهم لكنّ الله سبحانه أنزلها على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تدريجاً و على مكث و هيّأ بذلك الناس بقبول بعضها لقبول بعض، قال تعالى:( وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ

٥٨

عَلى‏ مُكْثٍ ) إسراء: ١٠٦.

و كذا المعارف العالية الّتي هي في بطون المعارف الساذجة الدينيّة لو لم يضرب عليها بالحجاب و بيّنت لعامّة الناس على حدّ الظواهر المبيّنة لهم لم يتحمّلوها و دفعته أفهامهم إلّا الأوحديّ منهم لكنّ الله سبحانه كلّمهم في ذلك نوع تكليم يستفيد منه كلّ على قدر فهمه و سعة صدره كما قال في مثل ضربه في ذلك:( أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها ) الرعد: ١٧.

و كذلك الأحكام و التكاليف الشرعيّة لو كلّف بجميعها جميع الناس لتحرّجوا منها و لم يتحمّلوها لكنّه سبحانه قسّمها بينهم حسب تقسيم الابتلاءات المقتضية لتوجّه التكاليف المتنوّعة بينهم.

فالرزق بالمعارف و الشرائع من أيّ جهة فرض كالرزق الصوريّ مفروض بين الناس مقدّر على حسب صلاح حالهم.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَ يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَ هُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ) القنوط اليأس، و الغيث المطر، قال في مجمع البيان: الغيث ما كان نافعاً في وقته، و المطر قد يكون نافعاً و قد يكون ضارّاً في وقته و غير وقته. انتهى. و نشر الرحمة تفريق النعمة بين الناس بإنبات النبات و إخراج الثمار الّتي يكون سببها المطر.

و في الآية انتقال من حديث الرزق إلى آيات التوحيد الّتي لها تعلّق مّا بالأرزاق، و يتلوها في هذا المعنى آيات، و تذييل الآية بالاسمين: الوليّ الحميد و هما من أسمائه تعالى الحسنى للثناء عليه في فعله الجميل.

قوله تعالى: ( وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ ) إلخ، البثّ التفريق، و يقال: بثّ الريح التراب إذا أثاره، و الدابّة كلّ ما يدبّ على الأرض فيعمّ الحيوانات جميعاً، و المعنى ظاهر.

و ظاهر الآية أنّ في السماوات خلقاً من الدوابّ كالأرض، و قول بعضهم: إنّ ما في السموات من دابّة هي الملائكة يدفعه أنّ إطلاق الدوابّ على الملائكة غير معهود.

و قوله:( وَ هُوَ عَلى‏ جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ ) إشارة إلى حشر ما بثّ فيهما من دابّة

٥٩

و قد عبّر بالجمع لمقابلته البثّ الّذي هو التفريق، و لا دلالة في قوله:( عَلى‏ جَمْعِهِمْ ) حيث أتى بضمير اُولي العقل على كون ما في السماوات من الدوابّ اُولي عقل كالإنسان لقوله تعالى:( وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ثُمَّ إِلى‏ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) الأنعام: ٣٨.

و القدير من أسمائه تعالى الحسنى و هو الّذي أركزت فيه القدرة و ثبتت، قال الراغب: القدرة إذا وصف بها الإنسان فاسم لهيئة له بها يتمكّن من فعل شي‏ء مّا، و إذا وصف الله بها فهي نفي العجز عنه، و محال أن يوصف غير الله بالقدرة المطلقة معنى و إن اُطلق عليه لفظاً بل حقّه أن يقال: قادر على كذا، و متى قيل: هو قادر فعلى سبيل معنى التقييد، و لهذا لا أحد غير الله يوصف بالقدرة من وجه إلّا و يصحّ أن يوصف بالعجز من وجه و الله تعالى هو الّذي ينتفي عنه العجز من كلّ وجه.

و القدير هو الفاعل لما يشاء على قدر ما تقتضي الحكمة لا زائداً عليه و لا ناقصاً عنه و لذلك لا يصحّ أن يوصف به إلّا الله تعالى قال:( إنه على ما يشاء قدير) ، و المقتدر يقاربه نحو( عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ) لكن قد يوصف به البشر، و إذا استعمل في الله فمعناه معنى القدير و إذا استعمل في البشر فمعناه المتكلّف و المكتسب للقدرة، انتهى.

و هو حسن غير أنّ في قوله: إن القدرة إذا وصف بها الله فهي نفي العجز عنه مساهلة ظاهرة فإنّ صفاته تعالى الذاتيّة كالحياة و العلم و القدرة لها معان إيجابيّة هي عين الذات لا معان سلبيّة حتّى تكون الحياة بمعنى انتفاء الموت و العلم بمعنى انتفاء الجهل و القدرة بمعنى انتفاء العجز على ما يقوله الصابؤن و لازمه خلوّ الذات عن صفات الكمال.

فالحقّ أنّ معنى قدرته تعالى كونه بحيث يفعل ما يشاء، و لازم هذا المعنى الإيجابيّ انتفاء مطلق العجز عنه تعالى.

قوله تعالى: ( وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) المصيبة النائبة تصيب الإنسان كأنّها تقصده، و المراد بما كسبت أيديكم المعاصي و السيّئات، و قوله:( وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) أي عن كثير ممّا كسبت أيديكم و هي السيّئات.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

نفي الآلهة غير الله لا نفي الآلهة و إثبات الإله تعالى(1) و هو ظاهر فلا حاجة إلى ما تكلّف به بعضهم أنّ الضمير لكلمة التوحيد المعلوم ممّا تكلّم به إبراهيمعليه‌السلام .

و المراد بعقبه ذرّيّته و ولده، و قوله:( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) أي يرجعون من عبادة آلهة غير الله إلى عبادته تعالى أي يرجع بعضهم - و هم العابدون لغير الله بدعوة بعضهم و هم العابدون لله - إلى عبادته تعالى، و بهذا يظهر أنّ المراد ببقاء الكلمة في عقبه عدم خلوّهم عن الموحّد ما داموا، و لعلّ هذا عن استجابة دعائهعليه‌السلام إذ يقول:( وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ) إبراهيم: 35.

و قيل: الضمير في( جعل) لإبراهيمعليه‌السلام فهو الجاعل هذه الكلمة باقية في عقبه رجاء أن يرجعوا إليها، و المراد بجعلها باقية فيهم وصيّته لهم بذلك كما قال تعالى:( وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى‏ لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) البقرة: 132.

و أنت خبير بأنّ الوصيّة بكلمة التوحيد لا تسمّى جعلاً للكلمة باقية في العقب و إن صحّ أن يقال: أراد بها ذلك لكنّه غير جعلها باقية فيهم.

و قيل: المراد أنّ الله جعل الإمامة كلمة باقية في عقبه و سيجي‏ء الكلام فيه في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله.

و يظهر من الآية أنّ ذرّيّة إبراهيمعليه‌السلام لا تخلو من هذه الكلمة إلى يوم القيامة.

قوله تعالى: ( بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَ آباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَ رَسُولٌ مُبِينٌ ) إضراب عمّا يفهم من الآية السابقة، و المعنى: أنّ رجوعهم عن الشرك إلى التوحيد كان هو الغاية المرجوّة منهم لكنّهم لم يرجعوا بل متّعت هؤلاء من قومك و آباءهم فتمتّعوا بنعمي( حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَ رَسُولٌ مُبِينٌ ) .

و لعلّ الالتفات إلى التكلّم وحده في قوله:( بَلْ مَتَّعْتُ ) للإشارة إلى تفخيم

____________________

(1) و ذلك أن ( الله ) فيها مرفوع على البدلية لا منصوب على الاستثناء.

١٠١

جرمهم و أنّهم لا يقصدون في كفرانهم للنعمة و كفرهم بالحقّ و رمية بالسحر إلّا إيّاه تعالى وحده.

و المراد بالحقّ الّذي جاءهم هو القرآن، و بالرسول المبين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( وَ لَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَ إِنَّا بِهِ كافِرُونَ ) هذا طعنهم في الحقّ الّذي جاءهم و هو القرآن و يستلزم الطعن في الرسول. كما أنّ قولهم الآتي:( لَوْ لا نُزِّلَ ) إلخ، كذلك.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى‏ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) المراد بالقريتين مكّة و الطائف، و مرادهم بالعظمة - على ما يفيده السياق - ما هو من حيث المال و الجاه اللّذين هما ملاك الشرافة و علوّ المنزلة عند أبناء الدنيا، و المراد بقوله:( رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) رجل من إحدى القريتين حذف المضاف إيجازاً.

و مرادهم أنّ الرسالة منزلة شريفة إلهيّة لا ينبغي أن يتلبّس به إلّا رجل شريف في نفسه عظيم مطاع في قومه، و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقير فاقد لهذه الخصلة، فلو كان القرآن الّذي جاء به وحياً نازلاً من الله فلو لا نزّل على رجل عظيم من مكّة أو الطائف كثير المال رفيع المنزلة.

و في المجمع: و يعنون بالرجل العظيم من إحدى القريتين الوليد بن المغيرة من مكّة و أبا مسعود عروة بن مسعود الثقفيّ من الطائف. عن قتادة، و قيل: عتبة بن أبي ربيعة من مكّة و ابن عبد ياليل من الطائف. عن مجاهد، و قيل: الوليد بن المغيرة من مكّة و حبيب بن عمر الثقفيّ من الطائف. عن ابن عبّاس. انتهى.

و الحقّ أنّ ذلك من تطبيق المفسّرين و إنّما قالوا ما قالوا على الإبهام و أرادوا أحد هؤلاء من عظماء القريتين على ما هو ظاهر الآية.

قوله تعالى: ( أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) إلخ، المراد بالرحمة - على ما يعطيه السياق - النبوّة.

و قال الراغب: العيش الحياة المختصّة بالحيوان، و هو أخصّ من الحياة لأنّ الحياة تقال في الحيوان و في الباري تعالى و في الملك، و يشتقّ منه المعيشة لما يتعيّش

١٠٢

به. انتهى. و قال: التسخير سياقه إلى الغرض المختصّ قهراً - إلى أن قال -: و السخريّ هو الّذي يُقهر فيتسخّر بإرادته. انتهى.

و الآية و الآيتان بعدها في مقام الجواب عن قولهم:( لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى‏ رَجُلٍ ) إلخ، و محصّلها أنّ قولهم هذا تحكّم ظاهر ينبغي أن يتعجّب منه فإنّهم يحكمون فيما لا يملكون. هذه معيشتهم في الحياة الدنيا يعيشون بها و يرتزقون و هي رحمة منّا لا قدر لها و لا منزلة عندنا و ليست إلّا متاعاً زائلاً نحن نقسمها بينهم و هي خارجة عن مقدرتهم و مشيّتهم فكيف يقسمون النبوّة الّتي هي الرحمة الكبرى و هي مفتاح سعادة البشر الدائمة و الفلاح الخالد فيعطونها لمن شاؤا و يمنعونها ممّن شاؤا.

فقوله:( أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ) الاستفهام للإنكار، و الالتفات إلى الغيبة في قوله:( رَحْمَتَ رَبِّكَ ) و لم يقل: رحمتنا، للدلالة على اختصاص النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعناية الربوبيّة في النبوّة.

و المعنى: أنّهم لا يملكون النبوّة الّتي هي رحمة لله خاصّة به حتّى يمنعوك منها و يعطوها لمن هووا.

و قوله:( نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) بيان لوجه الإنكار في الجملة السابقة بأنّهم عاجزون عن قسمة ما هو دون النبوّة بمراحل و لا منزلة له و هو معيشتهم في الحياة الدنيا فنحن قسمناها بينهم فكيف يقسمون ما هو أرفع منزلة منها بما لا يقدّر قدره و هو النبوّة الّتي هي رحمة ربّك الخاصّة به.

و الدليل على أنّ الأرزاق و المعايش ليست بيد الإنسان اختلاف أفراده بالغنى و الفقر و العافية و الصحّة و في الأولاد و سائر ما يعدّ من الرزق، و كلّ يريد أن يقتني منها ما لا مزيد عليه، و لا يكاد يتيسّر لأحد منهم جميع ما يتمنّاه و يرتضيه فلو كان ذلك بيد الإنسان لم يوجد معدم فقير في شي‏ء منها بل لم يختلف اثنان فيها فاختلافهم فيها أوضح دليل على أنّ الرزق مقسوم بمشيّة من الله دون الإنسان.

على أنّ الإرادة و العمل من الإنسان بعض الأسباب الناقصة لحصول المطلوب الّذي هو الرزق و وراءهما أسباب كونيّة لا تحصى خارجة عن مقدرة الإنسان لا يحصل

١٠٣

المطلوب إلّا بحصولها جميعاً و اجتماعها عليه و ليست إلّا بيد الله الّذي إليه تنتهي الأسباب.

هذا كلّه في المال و أمّا الجاه فهو أيضاً مقسوم من عندالله فإنّه يتوقّف على صفات خاصّة بها ترتفع درجات الإنسان في المجتمع فيتمكّن من تسخير من هو دونه كالفطنة و الدهاء و الشجاعة و علوّ الهمّة و إحكام العزيمة و كثرة المال و العشيرة و شي‏ء من ذلك لا يتمّ إلّا بصنع من الله سبحانه، و ذلك قوله:( وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ) .

فيتبيّن بمجموع القولين أعني قوله:( نَحْنُ قَسَمْنا ) إلخ، و قوله:( وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ ) إلخ، إنّ القاسم للمعيشة و الجاه بين الناس هو الله سبحانه لا غير، و قوله:( وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) أي النبوّة خير من المال فكيف يملكون قسمها و هم لا يملكون قسم المال فيما بينهم.

و من الممكن أن يكون قوله:( وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ ) عطف تفسير على قوله:( نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ ) إلخ، يبيّن قسم المعيشة بينهم ببيان علل انقسامها في المجتمع الإنسانيّ، بيان ذلك أنّ كثرة حوائج الإنسان في حياته الدنيا بحيث لا يقدر على رفع جميعها في عيش انفراديّ أحوجته إلى الاجتماع مع غيره من الأفراد على طريق الاستخدام و الاستدرار أوّلاً و على طريق التعاون و التعاضد ثانياً كما مرّ في مباحث النبوّة من الجزء الثاني من الكتاب.

فآل الأمر إلى المعاوضة العامّة المفيدة لنوع من الاختصاص بأن يعطي كلّ ممّا عنده من حوائج الحياة ما يفضل من حاجته و يأخذ به من الغير ما يعادله ممّا يحتاج إليه فيعطي مثلاً ما يفضل من حاجته من الماء الّذي عنده و قد حصّله و اختصّ به و يأخذ من غيره ما يزيد على قوته من الغذاء، و لازم ذلك أن يسعى كلّ فرد بما يستعدّ له و يحسنه من السعي فيقتني ممّا يحتاج إليه ما يختصّ به، و لازم ذلك أن يحتاج غيره إليه فيما عنده من متاع الحياة فيتسخّر له فيفيده ما يحتاج إليه كالخبّاز يحتاج إلى ما عند السقّاء من الماء و بالعكس فيتعاونان بالمعاوضة و كالمخدوم يتسخّر للخادم لخدمته و الخادم يتسخّر للمخدوم لماله و هكذا فكلّ بعض من المجتمع مسخّر

١٠٤

لآخرين بما عنده و الآخرون متسخّرون له بلا واسطة أو بواسطة أو وسائط لما أنّ كلّا يرتفع على غيره بما يختصّ به ممّا عنده بدرجات مختلفة باختلاف تعلّق الهمم و القصود به.

و على ما تقدّم فالمراد بالمعيشة كلّ ما يعاش به أعمّ من المال و الجاه أو خصوص المال و غيره تبع له كما يؤيّده قوله ذيلاً:( وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) فإنّ المراد به المال و غيره من لوازم الحياة مقصود بالتبع.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً - إلى قوله -وَ مَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ ) الآية و ما يتلوها لبيان أنّ متاع الدنيا من مال و زينة لا قدر لها عند الله سبحانه و لا منزلة.

قالوا: المراد بكون الناس اُمّة واحدة كونهم مجتمعين على سنّة واحدة هي الكفر بالله لو رأوا أنّ زينة الدنيا بحذافيرها عند الكافر بالله و المؤمن صفر الكفّ منها مطلقاً، و المعارج الدرجات و المصاعد.

و المعنى: و لو لا أن يجتمع الناس على الكفر لو رأوا تنعّم الكافرين و حرمان المؤمنين لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضّة و درجات عليها يظهرون لغيرهم.

و يمكن أن يكون المراد بكون الناس اُمّة واحدة كونهم جميعاً على نسبة واحدة تجاه الأسباب العاملة في حظوظ العيش من غير فرق بين المؤمن و الكافر، فمن سعى سعيه للرزق و وافقته الأسباب و العوامل الموصلة الاُخرى نال منه مؤمناً كان أو كافراً، و من لم يجتمع له حرم ذلك و قتر عليه الرزق مؤمناً أو كافراً.

و المعنى: لو لا ما أردنا أن يتساوى الناس تجاه الأسباب الموصلة إلى زخارف الدنيا و لا يختلفوا فيها بالإيمان و الكفر لجعلنا لمن يكفر، إلخ.

قوله تعالى: ( وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَ سُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ وَ زُخْرُفاً ) تنكير( أَبْواباً ) و( سُرُراً ) للتفخيم، و الزخرف الذهب أو مطلق الزينة، قال في المجمع: الزخرف كمال حسن الشي‏ء و منه قيل للذهب، و يقال: زخرفه زخرفة إذا حسّنه و زيّنه، و منه

١٠٥

قيل للنقوش و التصاوير: زخرف، و في الحديث: إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يدخل الكعبة حتّى أمر بالزخرف فنحّي. انتهى. و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ) ( إِنْ ) للنفي و( لَمَّا ) بمعنى إلّا أي ليس كلّ ما ذكر من مزايا المعيشة إلّا متاع الحياة الدنيا الزائلة الفانية الّتي لا تدوم.

و قوله:( وَ الْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ) المراد بالآخرة بقرينة المقام الحياة الآخرة السعيدة كان الحياة الآخرة الشقيّة لا تعدّ حياة.

و المعنى: أنّ الحياة الآخرة السعيدة بحكم من الله تعالى و قضاء منه مختصّة بالمتّقين، و هذا التخصيص و القصر يؤيّد ما قدّمناه من معنى كون الناس اُمّة واحدة في الدنيا بعض التأييد.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ) يقال: عشي يعشى عشاً من باب علم يعلم إذا كان ببصره آفة لا يبصر مطلقاً أو بالليل فقط، و عشا يعشو عشواً و عشوّاً من باب نصر ينصر إذا تعامى و تعشّى بلا آفة، و التقييض التقدير و الإتيان بشي‏ء إلى شي‏ء، يقال: قيّضه له إذا جاء به إليه.

لمّا انتهى الكلام إلى ذكر المتّقين و أنّ الآخرة لهم عندالله قرنه بعاقبة أمر المعرضين عن الحقّ المتعامين عن ذكر الرحمن مشيراً إلى أمرهم من أوّله و هو أنّ تعاميهم عن ذكر الله يورثهم ملازمة قرناء الشياطين فيلازمونهم مضلّين لهم حتّى يردوا عذاب الآخرة معهم.

فقوله:( وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً ) أي من تعامى عن ذكر الرحمن و نظر إليه نظر الأعشى جئنا إليه بشيطان، و قد عبّر تعالى عنه في موضع آخر بالإرسال فقال:( أَ لَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ) مريم: 83، و إضافة الذكر إلى الرحمن للإشارة إلى أنّه رحمة.

و قوله:( فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ) أي مصاحب لا يفارقه.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ) ضمير

١٠٦

( أنّهم ) للشياطين، و ضمائر الجمع الباقية للعاشين عن الذكر، و اعتبار الجمع نظراً إلى المعنى في( وَ مَنْ يَعْشُ ) إلخ، و الصدّ الصرف، و المراد بالسبيل ما يدعو إليه الذكر من سبيل الله الّذي هو دين التوحيد.

و المعنى: و إنّ الشياطين ليصرفون العاشين عن الذكر و يحسب العاشون أنّهم - أي العاشين أنفسهم - مهتدون إلى الحقّ.

و هذا أعني حسبانهم أنّهم مهتدون عند انصدادهم عن سبيل الحقّ أمارة تقييض القرين و دخولهم تحت ولاية الشيطان فإنّ الإنسان بطبعه الأوّليّ مفطور على الميل إلى الحقّ و معرفته إذا عرض عليه ثمّ إذا عرض عليه فأعرض عنه اتّباعاً للهوى و دام عليه طبع الله على قلبه و أعمى بصره و قيّض له القرين فلم ير الحقّ الّذي تراءى له و طبق الحقّ الّذي يميل إليه بالفطرة على الباطل الّذي يدعوه إليه الشيطان فيحسب أنّه مهتد و هو ضالّ و يخيّل إليه أنّه على الحقّ و هو على الباطل.

و هذا هو الغطاء الّذي يذكر تعالى أنّه مضروب عليهم في الدنيا و أنّه سينكشف عنهم يوم القيامة، قال تعالى:( الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي - إلى أن قال -قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) الكهف: 104، و قال فيما يخاطبه يوم القيامة و معه قرينه:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) - إلى أن قال -( قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَ لكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) ق: 27.

قوله تعالى: ( حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ) ( حَتَّى ) غاية لاستمرار الفعل الّذي يدلّ عليه قوله في الآية السابقة:( لَيَصُدُّونَهُمْ ) و قوله:( يَحْسَبُونَ ) أي لا يزال القرناء يصدّونهم و لا يزالون يحسبون أنّهم مهتدون حتّى إذا جاءنا الواحد منهم.

و المراد بالمجي‏ء إليه تعالى البعث، و ضمير( جاء ) و( قال ) راجع إلى الموصول باعتبار لفظه، و المراد بالمشرقين المشرق و المغرب غلّب فيه جانب المشرق.

و المعنى: و أنّهم يستمرّون على صدّهم عن السبيل و يستمرّ العاشون عن الذكر

١٠٧

على حسبان أنّهم مهتدون في انصدادهم حتّى إذا حضر الواحد منهم عندنا و معه قرينه و كشف له عن ضلاله و ما يستتبعه من العذاب الأليم، قال مخاطباً لقرينه متأذّياً من صحابته: يا ليت بيني و بينك بعد المشرق و المغرب فبئس القرين أنت.

و يستفاد من السياق أنّهم معذّبون بصحابة القرناء وراء عذابهم بالنار، و لذا يتمنّون التباعد عنهم و يخصّونه بالذكر و ينسون سائر العذاب.

قوله تعالى: ( وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ) الظاهر أنّه معطوف على ما قبله من وصف حالهم، و المراد باليوم يوم القيامة، و قوله:( أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ) فاعل( لَنْ يَنْفَعَكُمُ ) و المراد بضمير جمع المخاطب العاشون عن الذكر و قرناؤهم، و( إِذْ ظَلَمْتُمْ ) واقع موقع التعليل.

و المراد - و الله أعلم - أنّكم إذا أساء بعضكم إلى بعض في الدنيا فأوقعه في مصيبة ربّما تسليتم بعض التسلّي لو ابتلي هو نفسه بمثل ما ابتلاكم به فينفعكم ذلك تسلّياً و تشفّياً لكن لا ينفعكم يوم القيامة اشتراك قرنائكم معكم في العذاب فإنّ اشتراكهم معكم في العذاب و كونهم معكم في النار هو بعينه عذاب لكم.

و ذكر بعض المفسّرين أنّ فاعل( لَنْ يَنْفَعَكُمُ ) ضمير راجع إلى تمنّيهم المذكور في الآية السابقة، و قوله:( إِذْ ظَلَمْتُمْ ) أي لأجل ظلمكم أنفسكم في الدّنيا باتّباعكم إيّاهم في الكفر و المعاصي، و قوله:( أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ) تعليل لنفي النفع و المعنى: و لن ينفعكم تمنّي التباعد عنكم لأنّ حقّكم أن تشتركوا أنتم و قرناؤكم في العذاب.

و فيه أنّ فيه تدافعاً فإنّه أخذ قوله:( إِذْ ظَلَمْتُمْ ) تعليلاً لنفي نفع التمنّي أوّلاً و قوله:( أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ) تعليلاً له ثانياً و لازم التطابق بين التعليلين أن يذكر ثانياً القضاء على المتمنّين التابعين بالعذاب لا باشتراك التابعين و المتبوعين فيه.

و قال بعضهم: معنى الآية أنّه لا يخفّف الاشتراك عنكم شيئاً من العذاب لأنّ

١٠٨

لكلّ واحد منكم و من قرنائكم الحظّ الأوفر من العذاب.

و فيه أنّ ما ذكر من سبب عدم النفع و إن فرض صحيحاً في نفسه لكن لا دلالة عليه من جهة لفظ الآية و لا سياق الكلام.

و قال بعضهم: المعنى: لا ينفعكم اشتراككم في العذاب كما ينفع الواقعين في شدائد الدنيا اشتراكهم فيها لتعاونهم في تحمّل أعبائها و تقسّمهم لعنائها لأنّ لكلّ منكم و من قرنائكم من العذاب ما لا تبلغه طاقته.

و فيه ما في سابقه من الكلام، و ردّ أيضاً بأنّ الانتفاع بذلك الوجه ليس ممّا يخطر ببالهم حتّى يردّ عليهم بنفيه.

قوله تعالى: ( أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَ مَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) لمّا ذكر تقييضه القرناء لهم و تقليبهم إدراكهم بحيث يرون الضلال هدىً و لا يقدرون على معرفة الحقّ فرّع عليه أن نبهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ هؤلاء صمّ عمي لا يقدر هو على إسماعهم كلمة الحقّ و هدايتهم إلى سبيل الرشد فلا يتجشّم و لا يتكلّف في دعوتهم و لا يحزن لإعراضهم، و الاستفهام للإنكار، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ ) المراد بالإذهاب به توفّيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل الانتقام منهم، و قيل: المراد إذهابه بإخراجه من بينهم، و قوله:( فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ) أي لا محالة، و المراد بإراءته ما وعدهم الانتقام منهم قبل توفّيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو حال كونه بينهم، و قوله:( فإنا عليهم مقتدرون) أي اقتدارنا يفوق عليهم.

و قوله في الصدر:( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ ) أصله إن نذهب بك زيدت عليه ما و النون للتأكيد، و محصّل الآية إنّا منتقمون منهم بعد توفّيك أو قبلها لا محالة.

قوله تعالى: ( فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) الظاهر أنّه تفريع لجميع ما تقدّم من أنّ إنزال الذكر من طريق الوحي و النبوّة من سننه تعالى و أنّ كتابه النازل عليه حقّ و هو رسول مبين لا يستجيب دعوته إلّا المتّقون و لا يعرض عنها إلّا قرناء الشياطين، و لا مطمع في إيمانهم و سينتقم الله منهم.

١٠٩

فأكّد عليه الأمر بعد ذلك كلّه أن يجدّ في التمسّك بالكتاب الّذي اُوحي إليه لأنّه على صراط مستقيم.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ ) الظاهر أنّ المراد بالذكر ذكر الله، و بهذا المعنى تكرّر مراراً في السورة، و اللام في( لَكَ وَ لِقَوْمِكَ ) للاختصاص بمعنى توجّه ما فيه من التكاليف إليهم، و يؤيّده بعض التأييد قوله:( وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ ) أي عنه يوم القيامة.

و عن أكثر المفسّرين أنّ المراد بالذكر الشرف الّذي يذكر به، و المعنى: و إنّه لشرف عظيم لك و لقومك من العرب تذكرون به بين الاُمم.

قوله تعالى: ( وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ) قيل: المراد بالسؤال منهم السؤال من اُممهم و علماء دينهم كقوله تعالى:( فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ ) يونس: 94، و فائدة هذا المجاز أنّ المسؤل عنه السؤال منهم عين ما جاءت به رسلهم لا ما يجيبونه من تلقاء أنفسهم.

و قيل: المراد السؤال من أهل الكتابين: التوراة و الإنجيل فإنّهم و إن كفروا لكنّ الحجّة تقوم بتواتر خبرهم، و الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و التكليف لاُمّته.

و بُعد الوجهين غير خفيّ و يزيد الثاني بعداً التخصيص بأهل الكتابين من غير مخصّص ظاهر.

و قيل: الآية ممّا خوطب به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة المعراج أن يسأل أرواح الأنبياءعليهم‌السلام و قد اجتمع بهم أن يسألهم هل جاؤا بدين وراء دين التوحيد.

و قد وردت به غير واحدة من الروايات عن أئمّة أهل البيتصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و سيوافيك في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله.

( بحث روائي‏)

في المجمع: في قوله تعالى:( وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) و قيل: الكلمة الباقية في عقبه هي الإمامة إلى يوم الدين: عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

١١٠

أقول: و في هذا المعنى روايات اُخر و قد طبّقت الآية في بعضها على الإمامة في عقب الحسينعليه‌السلام .

و التأمّل في الروايات يعطي أنّ بناءها على إرجاع الضمير في( جَعَلَها ) إلى الهداية المفهومة من قوله:( سَيَهْدِينِ ) و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ) أنّ الإمام وظيفته هداية الناس في ملكوت أعمالهم بمعنى سوقهم إلى الله سبحانه بإرشادهم و إيرادهم درجات القرب من الله سبحانه و إنزال كلّ ذي عمل منزلة الّذي يستدعيه عمله، و حقيقة الهداية من الله سبحانه و تنسب إليه بالتبع أو بالعرض.

و فعليّة الهداية النازلة من الله إلى الناس تشمله أوّلاً ثمّ تفيض عنه إلى غيره فله أتمّ الهداية و لغيره ما هي دونها و ما ذكره إبراهيمعليه‌السلام في قوله:( فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ) هداية مطلقة تقبل الانطباق على أتمّ مراتب الهداية الّتي هي حظّ الإمام منها فهي الإمامة و جعلها كلمة باقية في عقبه جعل الإمامة كذلك.

و في الإحتجاج، عن العسكريّ عن أبيهعليه‌السلام قال: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قاعداً ذات يوم بفناء الكعبة إذ قال له عبدالله بن اُميّة المخزوميّ: لو أراد الله أن يبعث إلينا رسولاً لبعث أجلّ من فيما بيننا مالاً و أحسنه حالاً فهلاً نزل هذا القرآن الّذي تزعم أنّ الله أنزله عليك- و ابتعثك به رسولاً، على رجل من القريتين عظيم: إمّا الوليد بن المغيرة بمكّة و إمّا عروة بن مسعود الثقفيّ بالطائف.

ثمّ ذكرعليه‌السلام في كلام طويل جواب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قوله بما في معنى الآيات.

ثمّ قال: و ذلك قوله تعالى:( وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى‏ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) قال الله:( أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ) يا محمّد( نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) فأحوجنا بعضنا إلى بعض أحوج هذا إلى مال ذلك و أحوج ذلك إلى سلعة هذا و إلى خدمته.

فترى أجلّ الملوك و أغنى الأغنياء محتاجاً إلى أفقر الفقراء في ضرب من الضروب إمّا سلعة معه ليست معه، و إمّا خدمة يصلح لها لا يتهيّأ لذلك الملك أن يستغني إلّا به

١١١

و أمّا باب من العلوم و الحكم هو فقير إلى أن يستفيدها من هذا الفقير الّذي يحتاج إلى مال ذلك الملك الغنيّ، و ذلك الملك يحتاج إلى علم هذا الفقير أو رأيه أو معرفته.

ثمّ ليس للملك أن يقول: هلّا اجتمع إلي مالي علم هذا الفقير و لا للفقير أن يقول: هلّا اجتمع إلى رأيي و معرفتي و علمي و ما أتصرّف فيه من فنون الحكم مال هذا الملك الغنيّ، ثمّ قال تعالى:( وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ) .

ثمّ قال: يا محمّد( وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) أي ما يجمعه هؤلاء من أموال الدنيا.

و في الكافي، بإسناده عن سعيد بن المسيّب قال: سألت عليّ بن الحسينعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ) قال: عنى بذلك اُمّة محمّد أن يكونوا على دين واحد كفّاراً كلّهم( لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ ) إلى آخر الآية.

و في تفسير القمّي، بإسناده عن يحيى بن سعيد عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال:( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ ) يا محمّد من مكّة إلى المدينة فإنّا رادّوك إليها و منتقمون منهم بعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج عبدالرزّاق و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و الحاكم و صحّحه عن قتادة في قوله:( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ) قال: قال أنس ذهب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بقيت النقمة و لم ير الله نبيّه في اُمّته شيئاً يكرهه حتّى قبض و لم يكن نبيّ قطّ إلّا و قد رأى العقوبة في اُمّته إلّا نبيّكم رأى ما يصيب اُمّته بعده فما رؤي ضاحكاً منبسطاً حتّى قبض.

أقول: و روي فيه هذا المعنى عنه و عن عليّ بن أبي طالب و عن غيرهما بطرق اُخرى.

و فيه، أخرج ابن مردويه من طريق محمّد بن مروان عن الكلبيّ عن أبي صالح عن جابر بن عبدالله عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله تعالى:( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ )

١١٢

نزلت في عليّ بن أبي طالب أنّه ينتقم من الناكثين و القاسطين بعدي.

أقول: ظاهر الرواية و ما قبلها و ما في معناهما أنّ الوعيد في الآيتين للمنحرفين عن الحقّ من أهل القبلة دون كفّار قريش.

و في الإحتجاج، عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام في حديث طويل يقول فيه: و أمّا قوله تعالى:( وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ) فهذا من براهين نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّتي آتاه الله إيّاها و أوجب به الحجّة على سائر خلقه لأنّه لمّا ختم به الأنبياء و جعله الله رسولاً إلى جميع الاُمم و سائر الملل خصّه بالارتقاء إلى السماء عند المعراج و جمع له يومئذ الأنبياء فعلم منهم ما أرسلوا به و حملوه من عزائم الله و آياته و براهينه. الحديث.

أقول: و روى هذا المعنى القمّيّ في تفسيره، بإسناده عن أبي الربيع عن أبي جعفرعليه‌السلام في جواب ما سأله نافع بن الأزرق، و رواه في الدرّ المنثور، بطرق عن سعيد بن جبير و ابن جريح و ابن زيد.

١١٣

( سورة الزخرف الآيات 46 - 56)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 46 ) فَلَمَّا جَاءَهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ ( 47 ) وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا  وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 48 ) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ( 49 ) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ( 50 ) وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي  أَفَلَا تُبْصِرُونَ ( 51 ) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ( 52 ) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ( 53 ) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ  إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ( 54 ) فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ( 55 ) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِّلْآخِرِينَ ( 56 )

( بيان‏)

لمّا ذكر طغيانهم بعد تمتيعهم بنعمه و رميهم الحقّ الّذي جاءهم به رسول مبين بأنّه سحر و أنّهم قالوا:( لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى‏ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) فرجّحوا الرجل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكثرة ماله مثّل لهم بقصّة موسىعليه‌السلام و فرعون و قومه

١١٤

حيث أرسله الله إليهم بآياته الباهرة فضحكوا منها و استهزؤا بها، و احتجّ فرعون فيما خاطب به قومه على أنّه خير من موسى بملك مصر و أنهار تجري من تحته فاستخفّهم فأطاعوه فآل أمر استكبارهم أن انتقم الله منهم فأغرقهم.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى‏ بِآياتِنا إِلى‏ فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ ) اللّام في( لَقَدْ ) للقسم، و الباء في قوله:( بِآياتِنا ) للمصاحبة، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ ) المراد بمجيئهم بالآيات إظهار المعجزات للدلالة على الرسالة، و المراد بالضحك ضحك الاستهزاء استخفافاً بالآيات.

قوله تعالى: ( وَ ما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها ) إلخ، الاُخت المثل، و قوله:( هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها ) كناية عن كون كلّ واحدة منها بالغة في الدلالة على حقّيّة الرسالة، و جملة( وَ ما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ ) إلخ، حال من ضمير( مِنْها ) ، و المعنى: فلمّا أتاهم بالمعجزات إذا هم منها يضحكون و الحال أنّ كلّاً منها تامّة كاملة في إعجازها و دلالتها من غير نقص و لا قصور.

و قوله:( وَ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) أي رجاء أن يرجعوا عن استكبارهم إلى قبول رسالته، و المراد بالعذاب الّذي اُخذوا به آيات الرجز الّتي نزلت عليهم من السنين و نقص من الثمرات و الطوفان و الجراد و القمّل و الضفادع و الدم آيات مفصّلات كما في سورة الأعراف.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ ) ما في( بِما عَهِدَ عِنْدَكَ ) مصدريّة أي بعهده عندك و المراد به عهده أن يكشف عنهم العذاب لو آمنوا كما قيل أو أن يستجيب دعاءه إذا دعا كما احتمله بعضهم.

و قولهم:( يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ) خطاب استهزاء استكباراً منهم كما قالوا: ادّع ربّك و لم يقولوا: ادع ربّنا أو ادع الله استكباراً، و المراد أنّهم طلبوا منه الدعاء لكشف العذاب عنهم و وعدوه الاهتداء.

١١٥

و قيل: معنى الساحر في عرفهم العالم و كان الساحر عندهم عظيماً يعظّمونه و لم يكن صفة ذمّ. و ليس بذاك بل كانوا ساخرين على استكبارهم كما يشهد به قولهم:( ادْعُ لَنا رَبَّكَ ) .

قوله تعالى: ( فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ ) النكث نقض العهد و خلف الوعد، و وعدهم هو قولهم:( إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ ) .

قوله تعالى: ( وَ نادى‏ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلا تُبْصِرُونَ ) أي ناداهم و هو بينهم، و فصل( قالَ ) لكونه في موضع جواب السؤال كأنّه قيل: فما ذا قال؟ فقيل: قال كذا.

و قوله:( وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ) أي من تحت قصري أو من بستاني الّذي فيه قصري المرتفع العالي البناء، و الجملة أعني قوله:( وَ هذِهِ الْأَنْهارُ ) إلخ، حالية أو( وَ هذِهِ الْأَنْهارُ ) معطوف على( مُلْكُ مِصْرَ ) ، و قوله:( تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ) حال من الأنهار، و الأنهار أنهار النيل.

و قوله:( أَ فَلا تُبْصِرُونَ ) في معنى تكرير الاستفهام السابق في قوله:( أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ) إلخ.

قوله تعالى: ( أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لا يَكادُ يُبِينُ ) المهين الحقير الضعيف من المهانة بمعنى الحقارة، و يريد بالمهين موسىعليه‌السلام لما به من الفقر و رثاثة الحال.

و قوله:( وَ لا يَكادُ يُبِينُ ) أي يفصح عن مراده و لعلّه كان يصف موسىعليه‌السلام به باعتبار ما كان عليه قبل الرسالة لكنّ الله رفع عنه ذلك لقوله:( قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) طه: 36 بعد قولهعليه‌السلام :( وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي ) طه: 28.

و قوله في صدر الآية:( أَمْ أَنَا خَيْرٌ ) إلخ، أم فيه إمّا منقطعة لتقرير كلامه السابق و المعنى: بل أنا خير من موسى لأنّه كذا و كذا، و إمّا متّصلة، و أحد طرفي الترديد محذوف مع همزة الاستفهام، و التقدير: أ هذا خير أم أنا خير إلخ، و في المجمع، قال سيبويه

١١٦

و الخليل: عطف أنا بأم على( أَ فَلا تُبْصِرُونَ ) لأنّ معنى( أَنَا خَيْرٌ ) معنى أم تبصرون فكأنّه قال: أ فلا تبصرون أم تبصرون لأنّهم إذا قالوا له: أنت خير منه فقد صاروا بصراء عنده انتهى. أي إنّ وضع( أَمْ أَنَا خَيْرٌ ) موضع أم تبصرون من وضع المسبّب موضع السبب أو بالعكس.

و كيف كان فالإشارة إلى موسى بهذا من دون أن يذكر باسمه للتحقير و توصيفه بقوله:( الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لا يَكادُ يُبِينُ ) للتحقير و للدلالة على عدم خيريّته.

قوله تعالى: ( فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ) الأسورة جمع سوار بالكسر، و قال الراغب: هو معرّب دستواره قالوا: كان من دأبهم أنّهم إذا سوّدوا رجلاً سوّروه بسوار من ذهب و طوّقوه بطوق من ذهب فالمعنى لو كان رسولاً و ساد الناس بذلك لاُلقي إليه أسورة من ذهب.

و قوله:( أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ) الظاهر أنّ الاقتران بمعنى التقارن كالاستباق و الاستواء بمعنى التسابق و التساوي، و المراد إتيان الملائكة معه متقارنين لتصديق رسالته، و هذه الكلمة ممّا تكرّرت على لسان مكذّبي الرسل كقولهم:( لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ) الفرقان: 7.

قوله تعالى: ( فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ ) أي استخفّ عقول قومه و أحلامهم، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ ) الإيساف الإغضاب أي فلمّا أغضبونا بفسوقهم انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين، و الغضب منه تعالى إرادة العقوبة.

قوله تعالى: ( فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَ مَثَلًا لِلْآخِرِينَ ) السلف المتقدّم و الظاهر أنّ المراد بكونهم سلفاً للآخرين تقدّمهم عليهم في دخول النار، و المثل الكلام السائر الّذي يتمثّل به و يعتبر به، و الظاهر أن كونهم مثلاً لهم كونهم ممّا يعتبر به الآخرون لو اعتبروا و اتّعظوا.

١١٧

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ لا يَكادُ يُبِينُ ) قال: لم يبيّن الكلام.

و في التوحيد، بإسناده إلى أحمد بن أبي عبدالله رفعه إلى أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ( فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ ) قال: إنّ الله لا يأسف كأسفنا و لكنّه خلق أولياء لنفسه يأسفون و يرضون و هم مخلوقون مدبّرون فجعل رضاهم لنفسه رضىً و سخطهم لنفسه سخطاً و ذلك لأنّه جعلهم الدعاة إليه و الأدلّاء عليه فلذلك صاروا كذلك.

و ليس أنّ ذلك يصل إلى الله كما يصل إلى خلقه و لكن هذا معنى ما قال من ذلك، و قد قال أيضاً من أهان لي وليّاً فقد بارزني بالمحاربة و دعاني إليها، و قال أيضاً:( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ) ، و قال أيضاً:( إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ ) و كلّ هذا و شبهه على ما ذكرت لك، و هكذا الرضا و الغضب و غيرهما من الأشياء ممّا يشاكل ذلك.

و لو كان يصل إلى المكوّن الأسف و الضجر و هو الّذي أحدثهما و أنشأهما لجاز لقائل أن يقول: إنّ المكوّن يبيد يوماً لأنّه إذا دخله الضجر و الغضب دخله التغيير فإذا دخله التغيير لم يؤمن عليه الإبادة، و لو كان ذلك كذلك لم يعرف المكوّن من المكوّن و إلا القادر من المقدور و لا الخالق من المخلوقين تعالى الله عن هذا القول علوّاً كبيراً.

هو الخالق للأشياء لا لحاجة فإذا كان لا لحاجة استحال الحدّ و الكيف فيه فافهم ذلك إن شاء الله.

أقول: و روي مثله في الكافي، بإسناده عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع عن عمّه حمزة بن بزيع عنهعليه‌السلام .

١١٨

( سورة الزخرف الآيات 57 - 65)

وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ( 57 ) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ  مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا  بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ( 58 ) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ( 59 ) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ( 60 ) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ  هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ( 61 ) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ  إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ( 62 ) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ  فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ( 63 ) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ  هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ( 64 ) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ  فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ( 65 )

( بيان‏)

إشارة إلى قصّة عيسى بعد الفراغ عن قصّة موسىعليهما‌السلام و قدّم عليها مجادلتهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عيسىعليه‌السلام و اُجيب عنها.

قوله تعالى: ( وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ - إلى قوله -خَصِمُونَ ) الآية إلى تمام أربع آيات أو ستّ آيات حول جدال القوم فيما ضرب من مثل ابن مريم، و الّذي يتحصّل بالتدبّر فيها نظراً إلى كون السورة مكّيّة و مع قطع النظر عن الروايات هو أنّ المراد بقوله:( وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا ) هو ما أنزله

١١٩

الله من وصفه في أوّل سورة مريم فإنّها السورة المكّيّة الوحيدة الّتي وردت فيها قصّة عيسى بن مريمعليه‌السلام تفصيلاً، و السورة تقصّ قصص عدّة من النبيّين بما أنّ الله أنعم عليهم كما تختتم قصصهم بقوله:( أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ ) مريم: 58، و قد وقع في هذه الآيات قوله:( إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ ) و هو من الشواهد على كون قوله:( وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا ) إشارة إلى ما في سورة مريم.

و المراد بقوله:( إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ) بكسر الصاد أي يضجّون و يضحكون ذمّ لقريش في مقابلتهم المثل الحقّ بالتهكّم و السخريّة، و قرئ( يَصِدُّونَ ) بضمّ الصاد أي يعرضون و هو أنسب للجملة التالية.

و قوله:( وَ قالُوا أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ) الاستفهام للإنكار أي آلهتنا خير من ابن مريم كأنّهم لمّا سمعوا اسمه بما يصفه القرآن به من النعمة و الكرامة أعرضوا عنه بما يصفه به القرآن و أخذوه بما له من الصفة عند النصارى أنّه إله ابن إله فردّوا على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ آلهتنا خير منه و هذا من أسخف الجدال كأنّهم يشيرون بذلك إلى أنّ الّذي في القرآن من وصفه لا يعتنى به و ما عند النصارى لا ينفع فإنّ آلهتهم خير منه.

و قوله:( ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا ) أي ما وجّهوا هذا الكلام:( أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ) إليك إلّا جدلاً يريدون به إبطال المثل المذكور و إن كان حقّاً( بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ) أي ثابتون على خصومتهم مصرّون عليها.

و قوله:( إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ ) ردّ لما يستفاد من قولهم:( أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ) أنّه إله النصارى كما سيجي‏ء.

و قال الزمخشريّ في الكشّاف، و كثير من المفسّرين و نسب إلى ابن عبّاس و غيره في تفسير الآية: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا قرأ قوله تعالى:( إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) على قريش امتعضوا من ذلك امتعاضاً شديداً فقال ابن الزبعري:

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429