الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 429

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 429 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 120159 / تحميل: 6179
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

و على تقدير أن يراد به الروح الأمريّ فالمراد بمن نشاء جميع الأنبياء و من آمن بهم من اُممهم فإنّه يهدي بالوحي الّذي نزل به، الأنبياء و المؤمنين من اُممهم و يسدّد الأنبياء خاصّة و يهديهم إلى الأعمال الصالحة و يشير عليهم بها.

و على هذا تكون الآية في مقام تصديق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تصدّقه في دعواه أنّ كتابه من عند الله بوحي منه، و تصدّقه في دعواه أنّه مؤمن بما يدعو إليه فيكون في معنى قوله تعالى:( إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ) يس: ٥.

و قوله:( وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) إشارة إلى أنّ الّذي يهدي إليه صراط مستقيم و أنّ الّذي يهديه من الناس هو الّذي يهديه الله سبحانه، فهدايتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هداية الله.

قوله تعالى: ( صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) إلخ، بيان للصراط المستقيم الّذي يهدي إليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و توصيفه تعالى بقوله:( الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) للدلالة على الحجّة على استقامة صراطه فإنّه تعالى لمّا ملك كلّ شي‏ء ملك الغاية الّتي تسير إليها الأشياء و السعادة الّتي تتوجّه إليها، فكانت الغاية و السعادة هي الّتي عيّنها، و كان الطريق إليها و السبيل الّذي عليهم أن يسلكوه لنيل سعادتهم هو الّذي شرعه و بيّنه، و ليس يملك أحد شيئاً حتّى ينصب له غاية و نهاية أو يشرع له إليها سبيلاً، فالسعادة الّتي يدعو سبحانه إليها حقّ السعادة و الطريق الّذي يدعو إليه حقّ الطريق و مستقيم الصراط.

و قوله:( أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ) تنبيه على لازم ملكه لما في السماوات و ما في الأرض فإنّ لازمه رجوع اُمورهم إليه و لازمه كون السبيل الّذي يسلكونه - و هو من جملة اُمورهم - راجعاً إليه فالصراط المستقيم هو صراطه فالمضارع أعني قوله:( تَصِيرُ ) للاستمرار.

و فيه إشعار بلمّ الوحي و التكليم الإلهيّ، إذ لمّا كان مصير الأشياء إليه تعالى كان لكلّ نوع إليه تعالى سبيل يسلكه و كان عليه تعالى أن يهديه إليه و يسوقه إلى غايته كما قال:( وَ عَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) النحل: ٩، و هو تكليم كلّ نوع بما يناسب ذاته

٨١

و هو في الإنسان التكليم المسمّى بالوحي و الإرسال.

و قيل: المضارع للاستقبال و المراد مصيرها جميعاً إليه يوم القيامة، و قد سيقت الجملة لوعد المهتدين إلى الصراط المستقيم و وعيد الضالّين عنه، و أوّل الوجهين أظهر.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج البخاريّ و مسلم و البيهقيّ عن عائشة أنّ الحارث بن هشام سأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف يأتيك الوحي؟ قال: أحياناً يأتيني الملك في مثل صلصلة الجرس فيفصم عنّي و قد وعيت عنه ما قال و هو أشدّه علي، و أحياناً يتمثّل لي الملك رجلاً فيكلّمني فأعي ما يقول.

قالت عائشة: و لقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم و إنّ جبينه ليتفصّد عرقاً.

و في التوحيد، بإسناده عن زرارة قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : جعلت فداك الغشية الّتي كانت تصيب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا نزل عليه الوحي؟ قال: فقال: ذلك إذا لم يكن بينه و بين الله أحد ذاك إذا تجلّى الله له. قال: ثمّ قال: تلك النبوّة يا زرارة و أقبل يتخشّع.

و في العلل، بإسناده عن ابن أبي عمير عن عمرو بن جميع عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: كان جبرئيل إذا أتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قعد بين يديه قعدة العبد، و كان لا يدخل حتّى يستأذنه.

و في أمالي الشيخ، بإسناده عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قال بعض أصحابنا: أصلحك الله كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: قال جبرئيل، و هذا جبرئيل يأمرني ثمّ يكون في حال اُخرى يغمى عليه، فقال أبوعبداللهعليه‌السلام : إنّه إذا كان الوحي من الله إليه ليس بينهما جبرئيل- أصابه ذلك لثقل الوحي من الله، و إذا كان بينهما جبرئيل لم يصبه ذلك فقال: قال لي جبرئيل و هذا جبرئيل.

و في البصائر، عن عليّ بن حسّان عن ابن بكير عن زرارة قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام

٨٢

من الرسول؟ من النبيّ؟ من المحدّث؟ فقال: الرسول الّذي يأتيه جبرئيل فيكلّمه قبلاً فيراه كما يرى أحدكم صاحبه الّذي يكلّمه فهذا الرسول، و النبيّ الّذي يؤتى في النوم نحو رؤيا إبراهيمعليه‌السلام ، و نحو ما كان يأخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من السبات إذا أتاه جبرئيل في النوم فهكذا النبيّ، و منهم من يجمع له الرسالة و النبوّة فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسولاً نبيّاً يأتيه جبرئيل قبلاً فيكلّمه و يراه، و يأتيه في النوم، و أمّا المحدّث فهو الّذي يسمع كلام الملك فيحدّثه من غير أن يراه و من غير أن يأتيه في النوم.

أقول: و في معناه روايات اُخر.

و في التوحيد، بإسناده عن محمّد بن مسلم و محمّد بن مروان عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: ما علم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ جبرئيل من قبل الله إلّا بالتوفيق.

و في تفسير العيّاشيّ، عن زرارة قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : كيف لم يخف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما يأتيه من قبل الله أن يكون ذلك ممّا ينزغ به الشيطان؟ قال: فقال: إنّ الله إذا اتّخذ عبداً رسولاً أنزل عليه السكينة و الوقار فكان يأتيه من قبل الله مثل الّذي يراه بعينه.

و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله تبارك و تعالى:( وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ ) قال: خلق من خلق أعظم من جبرئيل و ميكائيل كان مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبره و يسدّده، و هو مع الأئمّة من بعده.

أقول: و في معناها عدّة روايات و في بعضها أنّه من الملكوت، قال في روح المعاني: و نقل الطبرسيّ عن أبي جعفر و أبي عبدالله: أنّ المراد من هذا الروح ملك أعظم من جبرائيل و ميكائيل كان مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لم يصعد إلى السماء، و هذا القول في غاية الغرابة و لعلّه لا يصحّ عن هذين الإمامين. انتهى. و الّذي في مجمع البيان: عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام قالا: و لم يصعد إلى السماء و إنّه لفينا. انتهى. و استغرابه فيما لا دليل له على نفيه غريب. على أنّه يسلّم تسديد هذا الروح لبعض

٨٣

الاُمّة غير النبيّ كما هو ظاهر لمن راجع قسم الإشارات من تفسيره.

و في النهج: و لقد قرن الله بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من لدن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم و محاسن أخلاق العالم ليله و نهاره.

و في الدرّ المنثور، أخرج أبونعيم في الدلائل و ابن عساكر عن عليّ قال: قيل للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل عبدت وثناً قطّ؟ قال: لا. قالوا: فهل شربت خمراً قطّ؟ قال: لا. و ما زلت أعرف أنّ الّذي هم عليه كفر و ما كنت أدري ما الكتاب و ما الإيمان، و بذلك نزل القرآن( ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ ) .

و في الكافي، بإسناده عن أبي عمرو الزبيريّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام في حديث، و قال في نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) يقول: تدعو.

و في الكافي، بإسناده عن جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: سمعته يقول: وقع مصحف في البحر فوجدوه و قد ذهب ما فيه إلّا هذه الآية:( أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ) .

٨٤

( سورة الزخرف مكّيّة و هي تسع و ثمانون آية)

( سورة الزخرف الآيات ١ - ١٤)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم ( ١ ) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ( ٢ ) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( ٣ ) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ( ٤ ) أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ ( ٥ ) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ ( ٦ ) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( ٧ ) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَىٰ مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ( ٨ ) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ( ٩ ) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( ١٠ ) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا  كَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ ( ١١ ) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ( ١٢ ) لِتَسْتَوُوا عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ( ١٣ ) وَإِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ ( ١٤ )

( بيان‏)

السورة موضوعة للإنذار كما تشهد به فاتحتها و خاتمتها و المقاصد المتخلّلة بينهما إلّا ما في قوله:( إِلَّا الْمُتَّقِينَ يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ) إلى تمام ستّ آيات استطرادية.

٨٥

تذكر أنّ السنّة الإلهيّة إنزال الذكر و إرسال الأنبياء و الرسل و لا يصدّه عن ذلك إسراف الناس في قولهم و فعلهم بل يرسل الأنبياء و الرسل و يهلك المستهزئين بهم و المكذّبين لهم ثمّ يسوقهم إلى نار خالدة.

و قد ذكرت إرسال الأنبياء بالإجمال أوّلاً ثمّ سمّي منهم إبراهيم ثمّ موسى ثمّ عيسىعليهم‌السلام ، و ذكرت من إسراف الكفّار أشياء و من عمدتها قولهم بأنّ لله سبحانه ولداً و أنّ الملائكة بنات الله ففيها عناية خاصّة بنفي الولد عنه تعالى فكرّرت ذلك و ردّته و أوعدتهم بالعذاب، و فيها حقائق متفرّقة اُخرى.

و السورة مكّيّة بشهادة مضامين آياتها إلّا قوله:( وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ) الآية، و لم يثبت كما سيأتي إن شاء الله.

قوله تعالى: ( وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ ) ظاهره أنّه قسم و جوابه قوله:( إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا ) إلى آخر الآيتين، و كون القرآن مبيناً هو إبانته و إظهاره طريق الهدى كما قال تعالى:( وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ) النحل: ٨٩، أو كونه ظاهراً في نفسه لا يرتاب فيه كما قال:( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ ) البقرة: ٢.

قوله تعالى: ( إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) الضمير للكتاب، و( قُرْآناً عَرَبِيًّا ) أي مقروّاً باللغة العربيّة و( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) غاية الجعل و غرضه.

و جعل رجاء تعقّله غاية للجعل المذكور يشهد بأنّ له مرحلة من الكينونة و الوجود لا ينالها عقول الناس، و من شأن العقل أن ينال كلّ أمر فكريّ و إن بلغ من اللطافة و الدقّة ما بلغ فمفاد الآية أنّ الكتاب بحسب موطنه الّذي له في نفسه أمر وراء الفكر أجنبيّ عن العقول البشريّة و إنّما جعله الله قرآناً عربيّاً و ألبسه هذا اللباس رجاء أن يستأنس به عقول الناس فيعقلوه، و الرجاء في كلامه تعالى قائم بالمقام أو المخاطب دون المتكلّم كما تقدّم غير مرّة.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) تأكيد و تبيين لما تدلّ عليه الآية السابقة أنّ الكتاب في موطنه الأصليّ وراء تعقّل العقول.

و الضمير للكتاب، و المراد باُمّ الكتاب اللّوح المحفوظ كما قال تعالى:( بَلْ

٨٦

هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ) البروج: ٢٢، و تسميته باُمّ الكتاب لكونه أصل الكتب السماويّة يستنسخ منه غيره، و التقييد باُمّ الكتاب و( لَدَيْنا ) للتوضيح لا للاحتراز، و المعنى: أنّه حال كونه في اُمّ الكتاب لدينا - حالاً لازمة - لعليّ حكيم، و سيجي‏ء في أواخر سورة الجاثية كلام في اُمّ الكتاب إن شاء الله.

و المراد بكونه عليّاً على ما يعطه مفاد الآية السابقة أنّه رفيع القدر و المنزلة من أن تناله العقول، و بكونه حكيماً أنّه هناك محكم غير مفصّل و لا مجزّى إلى سور و آيات و جمل و كلمات كما هو كذلك بعد جعله قرآناً عربيّاً كما استفدناه من قوله تعالى:( كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) هود: ١.

و هذان النعتان أعني كونه عليّاً حكيماً هما الموجبان لكونه وراء العقول البشريّة فإنّ العقل في فكرته لا ينال إلّا ما كان من قبيل المفاهيم و الألفاظ أوّلاً و كان مؤلّفاً من مقدّمات تصديقيّة يترتّب بعضها على بعض كما في الآيات و الجمل القرآنيّة، و أمّا إذا كان الأمر وراء المفاهيم و الألفاظ و كان غير متجزّ إلى أجزاء و فصول فلا طريق للعقل إلى نيله.

فمحصّل معنى الآيتين: أنّ الكتاب عندنا في اللّوح المحفوظ ذو مقام رفيع و إحكام لا تناله العقول لذينك الوصفين و إنّما أنزلناه بجعله مقروّاً عربيّاً رجاء أن يعقله النّاس.

فإن قلت: ظاهر قوله:( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) إمكان تعقّل الناس هذا القرآن العربيّ النازل تعقّلاً تامّاً فهذا الّذي نقرؤه و نعقله إمّا أن يكون مطابقاً لما في اُمّ الكتاب كلّ المطابقة أو لا يكون، و الثاني باطل قطعاً كيف؟ و هو تعالى يقول:( وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ ) و( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ) البروج: ٢٢، و( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ ) الواقعة: ٧٨، فتعيّن الأوّل و مع مطابقته لاُمّ الكتاب كلّ المطابقة ما معنى كون القرآن العربيّ الّذي عندنا معقولاً لنا و ما في اُمّ الكتاب عندالله غير معقول لنا؟

قلت: يمكن أن تكون النسبة بين ما عندنا و ما في اُمّ الكتاب نسبة المثل و الممثّل

٨٧

فالمثل هو الممثّل بعينه لكنّ الممثّل له لا يفقه إلّا المثل فافهم ذلك.

و بما مرّ يظهر ضعف الوجوه الّتي أوردوها في تفسير الوصفين كقول بعضهم: إنّ المراد بكونه عليّاً أنّه عال في بلاغته مبين لما يحتاج إليه الناس، و قول بعضهم: معناه أنّه يعلو كلّ كتاب بما اختصّ به من الإعجاز و هو ينسخ الكتب غيره و لا ينسخه كتاب، و قول بعضهم يعني أنّه يعظّمه الملائكة و المؤمنون.

و كقول بعضهم في معنى( حَكِيمٌ ) أنّه مظهر للحكمة البالغة، و قول بعضهم معناه أنّه لا ينطق إلّا بالحكمة و لا يقول إلّا الحقّ و الصواب، ففي توصيفه بالحكيم تجوّز لغرض المبالغة. و ضعف هذه الوجوه ظاهر بالتدبّر في مفاد الآية السابقة و ظهور أنّ جعله قرآناً عربيّاً بالنزول عن اُمّ الكتاب.

قوله تعالى: ( أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ ) الاستفهام للإنكار، و الفاء للتفريع على ما تقدّم، و ضرب الذكر عنهم صرفه عنهم. قال في المجمع: و أصل ضربت عنه الذكر أنّ الراكب إذا ركب دابّة فأراد أن يصرفه عن جهة ضربه بعصاً أو سوط ليعدل به إلى جهة اُخرى ثمّ وضع الضرب موضع الصرف و العدل. انتهى. و الصفح بمعنى الإعراض فصفحاً مفعول له، و احتمل أن يكون بمعنى الجانب( و أَنْ كُنْتُمْ ) محذوف الجارّ و التقدير لأن كنتم و هو متعلّق بقوله:( أَ فَنَضْرِبُ ) .

و المعنى: أ فنصرف عنكم الذكر - و هو الكتاب الّذي جعلناه قرآناً لتعقلوه - للإعراض عنكم لكونكم مسرفين أو أ فنصرفه عنكم إلى جانب لكونكم مسرفين أي أنا لا نصرفه عنكم لذلك.

قوله تعالى: ( وَ كَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) ( كَمْ ) للتكثير، و الأوّلون هم الاُمم الدارجة و( ما يَأْتِيهِمْ ) إلخ، حال و العامل فيها( أَرْسَلْنا ) .

و الآيتان و ما يتلوهما في مقام التعليل لعدم صرف الذكر عنهم ببيان أنّ كونكم قوماً مسرفين لا يمنعنا من إجراء سنّة الهداية من طريق الوحي فإنّا كثيراً ما أرسلنا من نبيّ في الاُمم الماضين و الحال أنّه ما يأتيهم من نبيّ إلّا استهزؤا به و انجرّ الأمر

٨٨

إلى أن أهلكنا من اُولئك من هو أشدّ بطشاً منكم.

فكما كانت عاقبة إسرافهم و استهزائهم الهلاك دون الصرف فكذلك عاقبة إسرافكم ففي الآيات الثلاث كما ترى وعد للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و وعيد لقومه.

قوله تعالى: ( فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَ مَضى‏ مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ) قال الراغب: البطش تناول الشي‏ء بصولة. انتهى و في الآية التفات في قوله:( مِنْهُمْ ) من الخطاب إلى الغيبة، و كأنّ الوجه فيه العدول عن خطابهم إلى خطاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعدم اعتبارهم بهذه القصص و العبر و ليكون تمهيداً لقوله بعد:( وَ مَضى‏ مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ) و يؤيّده قوله بعد:( وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ ) خطاباً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . و معنى قوله:( وَ مَضى‏ مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ) و مضى في السور النازلة قبل هذه السورة من القرآن وصف الاُمم الأوّلين و أنّه كيف حاق بهم ما كانوا به يستهزؤن.

قوله تعالى: ( وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ) في الآية و ما يتلوها إلى تمام ستّ آيات احتجاج على ربوبيّته تعالى و توحّده فيها مع إشارة مّا إلى المعاد و تبكيت لهم على إسرافهم مأخوذ من اعترافهم بأنّه تعالى هو خالق الكلّ ثمّ الأخذ بجهات من الخلق هي بعينها تدبير لاُمور العباد كجعل الأرض لهم مهداً و جعله فيها سبلاً و إنزال الأمطار فينتج أنّه تعالى وحده مالك مدبّر لاُمورهم فهو الربّ لا ربّ غيره.

و بذلك تبيّن أنّ الآية تقدّمة و توطئة لما تتضمّنه الآيات التالية من الحجّة و قد تقدّم في هذا الكتاب مراراً أنّ الوثنيّة لا تنكر رجوع الصنع و الإيجاد إليه تعالى وحده و إنّما تدّعي رجوع أمر التدبير إلى غيره.

قوله تعالى: ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَ جَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) أي جعل لكم الأرض بحيث تربّون فيها كما يربّى الأطفال في المهد، و جعل لكم في الأرض سبلاً و طرقاً تسلكونها و تهتدون بها إلى مقاصدكم.

و قيل: معنى( لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) رجاء أن تهتدوا إلى معرفة الله و توحيده في العبادة و الأوّل أظهر.

٨٩

و في الكلام التفات إلى خطاب القوم بعد صرف الخطاب عنهم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لعلّ الوجه فيه إظهار العناية بهذا المعنى في الخلقة و هو أنّ التدبير بعينه من الخلق فاعترافهم بكون الخلق مختصّاً بالله سبحانه و قولهم برجوع التدبير إلى غيره من خلقه من التهافت في القول جهلاً فقرعهم بهذا الخطاب من غير واسطة.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ ) قيّد تنزيل الماء بقدر للإشارة إلى أنّه عن إرادة و تدبير لا كيف اتّفق و الإنشار الإحياء، و الميت مخفّف الميّت بالتشديد، و توصيف البلدة به باعتبار أنّها مكان لأنّ البلدة أيضاً إنّما تتّصف بالموت و الحياة باعتبار أنها مكان، و الالتفات عن الغيبة إلى التكلّم مع الغير في( فَأَنْشَرْنا ) لإظهار العناية.

و لمّا استدلّ بتنزيل الماء بقدر و إحياء البلدة الميّتة على خلقه و تدبيره استنتج منه أمراً آخر لا يتمّ التوحيد إلّا به و هو المعاد الّذي هو رجوع الكلّ إليه تعالى فقال:( كَذلِكَ تُخْرَجُونَ ) أي كما أحيا البلدة الميّتة كذلك تبعثون من قبوركم أحياء.

قيل: في التعبير عن إخراج النبات بالإنشار الّذي هو إحياء الموتى و عن إحيائهم بالإخراج تفخيم لشأن الإنبات و تهوين لأمر البعث لتقويم سنن الاستدلال و توضيح منهاج القياس.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَ الْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ ) قيل: المراد بالأزواج أصناف الموجودات من ذكر و اُنثى و أبيض و أسود و غيرها، و قيل: المراد الزوج من كلّ شي‏ء فكلّ ما سوى الله كالفوق و تحت و اليمين و اليسار و الذكر و الاُنثى زوج.

و قوله:( وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَ الْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ ) أي تركبونه، و الركوب إذا نسب إلى الحيوان كالفرس و الإبل تعدّى بنفسه فيقال: ركبت الفرس و إذا نسب إلى مثل الفلك و السفينة تعدّى بفي فيقال ركب فيه قال تعالى:( فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ ) ففي قوله:( ما تَرْكَبُونَ ) أي تركبونه تغليب لجانب الأنعام.

قوله تعالى: ( لِتَسْتَوُوا عَلى‏ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَ

٩٠

تَقُولُوا - إلى قوله -لَمُنْقَلِبُونَ ) الاستواء على الظهور الاستقرار عليها، و الضمير في( ظُهُورِهِ ) راجع إلى لفظ الموصول في( ما تَرْكَبُونَ ) ، و الضمير في قوله:( إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ) للموصول أيضاً فكما يقال: استويت على ظهر الدابّة يقال: استويت على الدابّة.

و المراد بذكر نعمة الربّ سبحانه بعد الاستواء على ظهر الفلك و الأنعام ذكر النعم الّتي ينتفع بها الإنسان بتسخيره تعالى له هذه المراكب كالانتقال من مكان إلى مكان و حمل الأثقال قال تعالى:( وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ) إبراهيم: ٣٢، و قال:( وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها - إلى أن قال -وَ تَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى‏ بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ ) النحل: ٧، أو المراد ذكر مطلق نعمه تعالى بالانتقال من ذكر هذه النعم إليه.

و قوله:( وَ تَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَ ما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ) أي مطيقين و الإقران الإطاقة.

و ظاهر ذكر النعمة عند استعمالها و الانتفاع بها شكر منعمها و لازم ذلك أن يكون ذكر النعمة غير قول:( سُبْحانَ الَّذِي ) إلخ، فإنّ هذا القول تسبيح و تنزيه له عمّا لا يليق بساحة كبريائه و هو الشريك في الربوبيّة و الاُلوهيّة، و ذكر النعمة شكر - كما تقدم - و الشكر غير التنزيه.

و يؤيّد هذا ما ورد عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام في ما يقال عند الاستواء على المركوب فإنّ الروايات على اختلافها تتضمّن التحميد وراء التسبيح يقول( سُبْحانَ الَّذِي ) إلخ.

و روي في الكشّاف، عن الحسن بن عليّعليهما‌السلام أنّه رأى رجلاً يركب دابّة فقال: سبحان الّذي سخّر لنا هذا فقال: أ بهذا اُمرتم؟ فقال: و بم اُمرنا؟ قال: إن تذكروا نعمة ربّكم.

و قوله:( وَ إِنَّا إِلى‏ رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ ) أي صائرون شهادة بالمعاد.

٩١

( سورة الزخرف الآيات ١٥ - ٢٥)

وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا  إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ ( ١٥ ) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ ( ١٦ ) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ( ١٧ ) أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ( ١٨ ) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا  أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ  سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ( ١٩ ) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم  مَّا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ  إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ( ٢٠ ) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ( ٢١ ) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ( ٢٢ ) وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ( ٢٣ ) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ  قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ( ٢٤ ) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ  فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ( ٢٥ )

( بيان‏)

حكاية بعض أقوالهم الّتي دعاهم إلى القول بها الإسراف و الكفر بالنعم و هو قولهم بالولد و أنّ الملائكة بنات الله سبحانه، و احتجاجهم على عبادتهم الملائكة و ردّه عليهم.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ ) المراد بالجزء الولد فإنّ الولادة إنّما هي الاشتقاق فالولد جزء من والده منفصل منه متصوّر بصورته.

٩٢

و إنّما عبّر عن الولد بالجزء للإشارة إلى استحالة دعواهم، فإنّ جزئيّة شي‏ء من شي‏ء كيفما تصوّرت لا تتمّ إلّا بتركّب في ذلك الشي‏ء و الله سبحانه واحد من جميع الجهات.

و قد بان بما تقدّم أنّ( مِنْ عِبادِهِ ) بيان لقوله:( جُزْءاً ) و لا ضير في تقدّم هذا النوع من البيان على المبيّن و لا في جمعيّة البيان و إفراد المبيّن.

قوله تعالى: ( أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَ أَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ ) أي أخلصكم للبنين فلكم بنون و ليس له إلّا البنات و أنتم ترون أنّ البنت أخسّ من الابن فتثبتون له أخسّ الصنفين و تخصّون أنفسكم بأشرفهما و هذا مع كونه قولاً محالاً في نفسه إزراء و إهانة ظاهرة و كفران.

و تقييد اتّخاذ البنات بكونه ممّا يخلق لكونهم قائلين بكون الملائكة - على ربوبيّتهم و اُلوهيّتهم - مخلوقين لله، و الالتفات في الآية إلى خطابهم لتأكيد الإلزام و تثبيت التوبيخ، و التنكير و التعريف في( بنات) و( البنين) للتحقير و التفخيم.

قوله تعالى: ( وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ ) المثل هو المثل و الشبه المجانس للشي‏ء و ضرب الشي‏ء مثلاً أخذه مجانساً للشي‏ء( و بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ) الاُنثى، و الكظيم المملوء كرباً و غيظاً.

و المعنى: و حالهم أنّه إذا بشّر أحدهم بالاُنثى الّذي جعلها شبهاً مجانساً للرحمان صار وجهه مسوّداً من الغمّ و هو مملوء كرباً و غيظاً لعدم رضاهم بذلك و عدّه عاراً لهم لكنّهم يرضونه له.

و الالتفات في الآية إلى الغيبة لحكاية شنيع سيرتهم و قبيح طريقتهم للغير حتّى يتعجّب منه.

قوله تعالى: ( أَ وَ مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَ هُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) أي أ و جعلوا لله سبحانه من ينشؤ في الحلية أي يتربّى في الزينة و هو في المخاصمة و المحاجّة غير مبين لحجّته لا يقدر على تقرير دعواه.

و إنّما ذكر هذين النعتين لأنّ المرأة بالطبع أقوى عاطفة و شفقة و أضعف

٩٣

تعقّلاً بالقياس إلى الرجل و هو بالعكس و من أوضح مظاهر قوّة عواطفها تعلّقها الشديد بالحلية و الزينة و ضعفها في تقرير الحجّة المبنيّ على قوّة التعقّل.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ) إلخ، هذا معنى قولهم: إنّ الملائكة بنات الله و قد كان يقول به طوائف من عرب الجاهليّة و أمّا غيرهم من الوثنيّة فربّما عدّوا في آلهتهم إلهة هي اُمّ إله أو بنت إله لكن لم يقولوا بكون جميع الملائكة إناثاً كما هو ظاهر المحكيّ في الآية الكريمة.

و إنّما وصف الملائكة بقوله:( الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ ) ردّاً لقولهم باُنوثتهم لأنّ الإناث لا يطلق عليهنّ العباد، و لا يلزم منه اتّصافهم بالذكورة بالمعنى الّذي يتّصف به الحيوان فإنّ الذكورة و الاُنوثة اللّتين في الحيوان من لوازم وجوده المادّيّ المجهّز للتناسل و توليد المثل، و الملائكة في معزل من ذلك.

و قوله:( أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَ يُسْئَلُونَ ) ردّ لدعواهم الاُنوثة في الملائكة بأنّ الطريق إلى العلم بذلك الحسّ و هم لم يروهم حتّى يعلموا بها فلم يكونوا حاضرين عند خلقهم حتّى يشاهدوا منهم ذلك.

فقوله:( أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ إلخ) استفهام إنكاريّ و وعيد على قولهم بغير علم أي لم يشهدوا خلقهم و ستكتب في صحائف أعمالهم هذه الشهادة عليهم و يسألون عنه يوم القيامة.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ) حجّة عقليّة داحضة محكيّة عنهم يمكن أن تقرّر تارة لإثبات صحّة عبادة الشركاء بأن يقال: لو شاء الله أن لا نعبد الشركاء ما عبدناهم ضرورة لاستحالة تخلف مراده تعالى عن إرادته لكنّا نعبدهم فهو لم يشأ ذلك و عدم مشيّته عدم عبادتهم إذنٌ في عبادتهم فلا منع من قبله تعالى عن عبادة الشركاء و الملائكة منهم، و هذا المعنى هو المنساق إلى الذهن من قوله في سورة الأنعام:( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ شَيْ‏ءٍ ) الأنعام: ١٤٨، على ما يعطيه السياق ما قبله و ما بعده.

٩٤

و تقرّر تارة لإبطال النبوّة القائلة أنّ الله يوجب عليكم كذا و كذا و يحرّم عليكم كذا كذا بأن يقال لو شاء الله أن لا نعبد الشركاء و لا نحلّ و لا نحرّم شيئاً لم نعبد الشركاء و لم نضع من عندنا حكماً لاستحالة تخلّف مراده تعالى عن إرادته لكنّا نعبدهم و نحلّ و نحرّم أشياء فلم يشأ الله سبحانه منّا شيئاً، فقول إنّ الله يأمركم بكذا و ينهاكم عن كذا و بالجملة إنّه شاء كذا باطل.

و هذا المعنى هو الظاهر المستفاد من قوله تعالى في سورة النحل:( وَ قالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ نَحْنُ وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) النحل: ٣٥، بالنظر إلى السياق.

و قولهم في محكيّ الآية المبحوث عنها:( لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ) على ما يفيده سياق الآيات السابقة و اللاحقة مسوق للاحتجاج على المعنى الأوّل و هو تصحيح عبادتهم للملائكة فيكون في معنى آية سورة الأنعام و أخصّ منها.

و قوله:( ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ ) أي هو منهم قول مبنيّ على الجهل فإنّه مغالطة خلطوا فيها بين الإرادة التكوينيّة و الإرادة التشريعيّة و أخذ الاُولى مكان الثانية، فمقتضى الحجّة أن لا إرادة تكوينيّة منه تعالى متعلّقة بعدم عبادتهم الملائكة و انتفاء تعلّق هذا النوع من الإرادة بعدم عبادتهم لهم لا يستلزم انتفاء تعلّق الإرادة التشريعيّة به.

فهو سبحانه لمّا لم يشأ أن لا يعبدوا الشركاء بالإرادة التكوينيّة كانوا مختارين غير مضطرّين على فعل أو ترك فأراد منهم بالإرادة التشريعيّة أن يوحّدوه و لا يعبدوا الشركاء، و الإرادة التشريعيّة لا يستحيل تخلّف المراد عنها لكونها اعتباريّة غير حقيقيّة، و إنّما تستعمل في الشرائع و القوانين و التكاليف المولوية، و الحقيقة الّتي تبتني عليها هي اشتمال الفعل على مصلحة أو مفسدة.

و بما تقدّم يظهر فساد ما قيل: إنّ حجّتهم مبنيّة على مقدّمتين: الاُولى أنّ عبادتهم للملائكة بمشيّته تعالى، و الثانية أنّ ذلك مستلزم لكونها مرضيّة عنده تعالى و قد أصابوا في الاُولى و أخطأوا في الثانية حيث جهلوا أنّ المشيّة عبارة عن ترجيح

٩٥

بعض الممكنات على بعض كائناً ما كان من غير اعتبار الرضا و السخط في شي‏ء من الطرفين.

وجه الفساد: أنّ مضمون الحجّة عدم تعلّق المشيّة على ترك العبادة و عدم تعلّق المشيّة بالترك لا يستلزم تعلّق المشيّة بالفعل بل لازمه الإذن الّذي هو عدم المنع من الفعل. ثمّ إنّ ظاهر كلامه قصر الإرادة في التكوينيّة و إهمال التشريعيّة الّتي عليها المدار في التكاليف المولويّة و هو خطأ منه.

و يظهر أيضاً فساد ما نسب إلى بعضهم أنّ المراد بقولهم:( لو شاء الرحمن ما عبدناهم) الاعتذار عن عبادة الملائكة بتعلّق مشيّة الله بها مع الاعتراف بكونها قبيحة.

و ذلك أنّهم لم يكونوا مسلّمين لقبح عبادة آلهتهم حتّى يعتذروا عنها و قد حكي عنهم ذيلاً قولهم:( إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى‏ أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى‏ آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ ) .

و قوله:( إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ) الخرص - على ما يظهر من الراغب - القول على الظنّ و التخمين، و فسّر أيضاً بالكذب.

قوله تعالى: ( أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ) ضمير( مِنْ قَبْلِهِ ) للقرآن، و في الآية نفي أن يكون لهم حجّة من طريق النقل كما أنّ في الآية السابقة نفي حجّتهم من طريق العقل، و محصّل الآيتين أن لا حجّة لهم على عبادة الملائكة لا من طريق العقل و لا من طريق النقل فلم يأذن الله فيها.

قوله تعالى: ( بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى‏ أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى‏ آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ ) الاُمّة الطريقة الّتي تؤمّ و تقصد، و المراد بها الدين، و الإضراب عمّا تحصّل من الآيتين، و المعنى: لا دليل لهم على حقّيّة عبادتهم بل قالوا إنّا وجدنا آباءنا على دين و إنّا على آثارهم مهتدون أي إنّهم متشبّثون بتقليد آبائهم فحسب.

قوله تعالى: ( وَ كَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا ) إلخ، أي إنّ التشبّث بذيل التقليد ليس ممّا يختصّ بهؤلاء فقد كان ذلك دأب أسلافهم من الاُمم المشركين و ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير و هو النبيّ إلّا تشبّث متنعّموها بذيل التقليد و قالوا: إنّا وجدنا أسلافنا على دين و إنّا على آثارهم

٩٦

مقتدون لن نتركها و لن نخالفهم.

و نسبة القول إلى مترفيهم للإشارة إلى أنّ الإتراف و التنعّم هو الّذي يدعوهم إلى التقليد و يصرفهم عن النظر في الحقّ.

قوله تعالى: ( قالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى‏ مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ ) إلخ، القائل هو النذير، و الخطاب للمترفين و يشمل غيرهم بالتبعيّة، و العطف في( أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ ) على محذوف يدلّ عليه كلامهم، و التقدير إنّكم على آثارهم مقتدون و لو جئتكم بأهدى ممّا وجدتم عليه آباءكم؟ و المحصّل: هل أنتم لازمون لدينهم حتّى لو كان ما جئتكم به من الدين أهدى منه؟ و عدّ النذير ما جاءهم به أهدى من دينهم مع كون دينهم باطلاً لا هدى فيه من باب مجاراة الخصم.

و قوله:( قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ ) جواب منهم لقول النذير:( أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ ) إلخ و هو تحكّم من غير دليل.

قوله تعالى: ( فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) أي تفرّع على ذلك الإرسال و الردّ بالتقليد و التحكّم أنّا أهلكناهم بتكذيبهم فانظر كيف كان عاقبة اُولئك السابقين من أهل القرى و فيه تهديد لقوم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٩٧

( سورة الزخرف الآيات ٢٦ - ٤٥)

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ ( ٢٦ ) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ( ٢٧ ) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( ٢٨ ) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّىٰ جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ ( ٢٩ ) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ ( ٣٠ ) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( ٣١ ) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ  نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا  وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا  وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ( ٣٢ ) وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ( ٣٣ ) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ ( ٣٤ ) وَزُخْرُفًا  وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا  وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ( ٣٥ ) وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ( ٣٦ ) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ( ٣٧ ) حَتَّىٰ إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ( ٣٨ ) وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ( ٣٩ ) أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ

٩٨

وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( ٤٠ ) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ ( ٤١ ) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ ( ٤٢ ) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ  إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ٤٣ ) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ  وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ( ٤٤ ) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ( ٤٥ )

( بيان‏)

لمّا انجرّ الكلام إلى ردّهم رسالة الرسول و كفرهم بها تحكّماً و تشبّثهم في الشرك بذيل تقليد الآباء و الأسلاف من غير دليل عقّب ذلك بالإشارة إلى قصّة إبراهيمعليه‌السلام و رفضه تقليد أبيه و قومه و تبرّيه عمّا يعبدونه من دون الله سبحانه و استهدائه هدى ربّه الّذي فطره.

ثمّ يذكر تمتيعه لهم بنعمه و كفرانهم بها بالكفر بكتاب الله و طعنهم فيه و في رسوله بما هو مردود عليهم. ثمّ يذكر تبعة الإعراض عن ذكر الله و ما تنتهي إليه من الشقاء و الخسران، و يعطف عليه إياس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من إيمانهم و تهديدهم بالعذاب و يؤكّد الأمر للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستمسك بالقرآن و أنّه لذكر له و لقومه و سوف يسألون عنه، و أنّ الّذي فيه من دين التوحيد هو الّذي كان عليه الأنبياء السابقون عليه.

قوله تعالى: ( وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ) البراء مصدر من برى‏ء يبرأ فهو بري‏ء فمعنى( إِنَّنِي بَراءٌ ) إنّني: ذو براء أو بري‏ء على سبيل

٩٩

المبالغة مثل زيد عدل.

و في الآية إشارة إلى تبرّي إبراهيمعليه‌السلام ممّا كان يعبده أبوه و قومه من الأصنام و الكواكب بعد ما حاجّهم فيها فاستندوا فيها إلى سيرة آبائهم على ما ذكر في سور الأنعام و الأنبياء و الشعراء و غيرها.

و المعنى: و اذكر لهم إذ تبرّأ إبراهيم عن آلهة أبيه و قومه إذ كانوا يعبدونها تقليداً لآبائهم من غير حجّة و قام بالنظر وحده.

قوله تعالى: ( إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ) أي إلّا الّذي أوجدني و هو الله سبحانه، و في توصيفه تعالى بالفطر إشارة إلى الحجّة على ربوبيّته و اُلوهيّته فإنّ الفطر و الإيجاد لا ينفكّ عن تدبير أمر الموجود المفطور فالّذي فطر الكلّ هو الّذي يدبّر أمرهم فهو الحقيق أن يعبد.

و قوله:( فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ) أي إلى الحقّ الّذي أطلبه، و قيل: أي إلى طريق الجنّة، و في هذه الجملة إشارة إلى خاصّة اُخرى ربوبيّة و هي الهداية إلى السبيل الحقّ يجب أن يسلكه الإنسان فإنّ السوق إلى الكمال من تمام التدبير فعلى الربّ المدبّر لأمر مربوبه أن يهديه إلى كماله و سعادته، قال تعالى:( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) طه: ٥٠، و قال:( وَ عَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) النحل: ٩، فالرجوع إلى الله بتوحيد العبادة يستتبع الهداية كما قال تعالى:( وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) العنكبوت: ٦٩.

و الاستثناء في قوله:( إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي ) منقطع لأنّ الوثنيّين لا يعبدون الله كما مرّ مراراً، فقول بعضهم: إنّه متّصل، و إنّهم كانوا يقولون: الله ربّنا مع عبادتهم الأوثان، كما ترى.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) الظاهر أنّ ضمير الفاعل المستتر في( جَعَلَها ) لله سبحانه، و الضمير البارز - على ما قيل - لكلمة البراءة الّتي تكلّم بها إبراهيمعليه‌السلام و معناها معنى كلمة التوحيد فإنّ مفاد لا إله إلّا الله

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

فتحصّنوا عنه بالحصون، وتمادى بهم التحصّن قريباً من سنة ونصف حتّى ظهر فيهم القحط والوباء.

وأصرّ بخت نصّر على المحاصرة حتّى فتح الحصون، وذلك في سنة خمسمائة وستّ وثمانين قبل المسيح، وقتل نفوسهم، وخرب ديارهم وخرّبوا بيت الله وأفنوا كلّ آية وعلامة دينيّة وبدّلوا هيكلهم تلّاً من تراب، وفقدت عند ذلك التوراة والتابوت الّذي كانت تجعل فيه.

وبقى الأمر على هذا الحال خمسين سنة تقريباً وهم قاطنون ببابل وليس من كتابهم عين ولا أثر ولا من مسجدهم وديارهم إلّا تلال ورياع.

ثمّ لمّا جلس كورش من ملوك فارس على سرير الملك وكان من أمره مع البابليّين ما كان وفتح بابل ودخله أطلق اُسراء بابل من بني اسرائيل وكان عزرا المعروف من المقرّبين عنده فأمّره عليهم وأجاز له أن يكتب لهم كتابهم التوراة ويبني لهم الهيكل ويعيدهم إلى سيرتهم الاُولى وكان رجوع عزرا بهم إلى بيت المقدس سنة أربعمائة وسبعة وخمسين قبل المسيح وبعد ذلك جمع عزرا كتب العهد العتيق وصحّحها وهي التوراة الدائرة اليوم(١) .

وأنت ترى بعد التدبّر في القصّة أنّ سند التوراة الدائرة اليوم مقطوعة غير متّصلة بموسى (عليه السلام) إلّا بواحد (وهو عزرا) لا نعرفه أوّلاً ولا نعرف كيفيّة اطّلاعه وتعمّقه ثانياً ولا نعرف مقدار أمانته ثالثاً، ولا نعرف من أين أخذ ما جمعه من أسفار التوراة رابعاً، ولا ندري بالاستناد إلى أيّ مستند صحّح الأغلاط الواقعة أو الدائرة خامساً.

وقد أعقبت هذه الحادثة المشئومة أثراً مشئوماً آخر وهو إنكار عدّة من باحثي المورّخين من الغربيّين وجود موسى وما يتبعه، وقولهم: إنّه شخص خياليّ كما قيل

____________________

(١) مأخوذ من قاموس الكتاب المقدّس تأليف مستر هاكس الامريكائي الهمداني ومآخذ اُخرى من التواريخ.

٣٤١

نظيره في المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام. لكنّ ذلك لا يسع لمسلم فإنّ القرآن الشريف يصرّح بوجوده (عليه السلام) وينصّ عليه.

٢ - قصّة المسيح والإنجيل:

اليهود مهتمون بتاريخ قوميّتهم وضبط الحوادث الظاهرة في الأعصار الّتي مرّت بهم، ومع ذلك فإنّك لو تتبّعت كتبهم ومسفوراتهم لم تعثر فيها على ذكر المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام): لا على كيفيّة ولادته ولا على ظهوره ودعوته ولا على سيرته والآيات الّتي أظهرها الله على يديه ولا على خاتمة حياته من موت أو قتل أو صلب أو غير ذلك. فما هو السبب في ذلك؟ وما هو الّذي أوجب خفاء أمره عليهم أو إخفائهم أمره؟

والقرآن يذكر عنهم أنّهم قذفوا مريم ورموها بالبهتان في ولادة عيسى، وأنّهم ادّعوا قتل عيسى. قال تعالى:( وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم وإنّ الّذين اختلفوا فيه لفي شكّ منه ما لهم به من علم إلّا اتّباع الظنّ وما قتلوه يقيناً ) النساء - ١٥٧.

فهل كانت دعواهم تلك مستندة إلى حديث دائر بينهم كانوا يذكرونه بين قصصهم القوميّة من غير أن يكون مودعاً في كتاب؟ وعند كلّ اُمّة أحاديث دائرة من واقعيّات وأساطير لا اعتبار بها ما لم تنته إلى مآخذ صحيحة قويمة.

أو أنّهم سمعوا من النصارى الذكر المكرّر من المسيح وولادته وظهوره ودعوته فأخذوا ذلك من أفواههم وباهتوا مريم، وادّعوا قتل المسيح؟ لا طريق إلى استبانة شئ من ذلك غير أنّ القرآن - كما يظهر بالتدبّر في الآية السابقة - لا ينسب إليهم صريحاً إلّا دعوى القتل دون الصلب، ويذكر أنّهم على ريب من الأمر وأنّ هناك اختلافاً.

وأمّا حقيقة ما عند النصارى من قصّة المسيح وأمر الإنجيل والبشارة فهي أنّ قصّته (عليه السلام) وما يتعلّق بها تنتهي عندهم إلى الكتب المقدّسة عندهم وهي الأناجيل الأربعة الّتي هي أناجيل متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا، وكتاب أعمال الرسل للوقا،

٣٤٢

وعدّة رسائل لبولس وبطرس ويعقوب ويوحنّا ويهودا. واعتبار الجميع ينتهي إلى اعتبار الأناجيل فلنشتغل بها:

أمّا إنجيل متّى فهو أقدم الأناجيل في تصنيفه وانتشاره ذكر بعضهم أنّه صنّف سنة ٣٨ الميلاديّة، وذكر آخرون أنّه كتب ما بين سنة ٥٠ إلى سنة ٦٠(١) فهو مؤلّف بعد المسيح.

والمحقّقون من قدمائهم ومتأخّريّهم على أنّه كان أصله مكتوباً بالعبرانيّة ثمّ ترجم إلى اليونانيّة وغيرها أمّا النسخة الأصليّة العبرانيّة فمفقودة، وأمّا الترجمة فلا يدري حالها، ولا يعرف مترجمها(٢) .

وأمّا إنجيل مرقس: فمرقس هذا كان تلميذاً لبطرس، ولم يكن من الحواريّين وربّما ذكروا أنّه إنّما كتب إنجيله بإشارة بطرس وأمره، وكان لا يرى إلهيّة المسيح(٣) ولذلك ذكر بعضهم أنّه إنّما كتب إنجيله للعشائر وأهل القرى فعرّف المسيح تعريف رسول إلهيّ مبلّغ لشرائع الله(٤) وكيف كان فقد كتب إنجيله سنة ٦١ ميلاديّة.

وأما إنجيل لوقا: فلوقا هذا لم يكن حواريّاً ولا رأى المسيح وإنّما تلقّن النصرانيّة من بولس، وبولس كان يهوديّاً متعصّباً على النصرانيّة يوذي المؤمنين بالمسيح ويقلّب الاُمور عليهم ثمّ اتّفق مفاجأة أن ادّعى أنّه صرع وفي حال الصرع لمسه المسيح ولامه وزجره عن الإساءة إلى متّبعيه وأنّه آمن بالمسيح وأرسله المسيح ليبشّر بإنجيله.

____________________

(١) قاموس الكتاب المقدّس للمستر هاكس مادّة - متى.

 (٢) كتاب ميزان الحقّ واعتراف به على تردّد في قاموس الكتاب المقدّس.

 (٣) نقل ذلك عبد الوهّاب النجّار في قصص الأنبياء عن كتاب مروج الاخبار في تراجم الاخبار لبطرس قرماج.

(٤) ذكره في قاموس الكتاب المقدّس. يقول فيه: إن نصّ تواتر السلف على أن مرقس كتب إنجيله برومية وانتشر بعد وفاة بطرس وبولس لكنّه ليس له كثير اعتبار لأن ظاهر إنجيله أنّه كتبه لأهل القبائل والقرويين لا لأهل البلاد وخاصّة الروميّة. فتدبّر في كلامه !

٣٤٣

وبولس هذا هو الّذي شيّد أركان النصرانيّة الحاضرة على ما هي عليها(١) فبني التعليم على أنّ الإيمان بالمسيح كاف في النجاة من دون عمل وأباح لهم أكل الميتة ولحم الخنزير ونهى عن الختنة وكثير ممّا في التوراة(٢) مع أنّ الإنجيل لم يأت إلّا مصدّقاً لما بين يديه من التوراة، ولم يحلّل إلّا أشياء معدودة. وبالجملة إنّما جاء عيسى ليقوّم شريعة التوراة ويردّ إليها المنحرفين والفاسقين لا ليبطل العمل ويقصر السعادة على الإيمان الخالي.

وقد كتب لوقا إنجيله بعد إنجيل مرقس. وذلك بعد موت بطرس وبولس. وقد صرّح جمع بأنّ إنجيله ليس كتاباً إلهاميّاً كسائر الأناجيل(٣) كما يدلّ عليه ما وقع في مبتدء إنجيله.

وأمّا إنجيل يوحنّا فقد ذكر كثير من النصارى أنّ يوحنّا هذا هو يوحنّا بن زبديّ الصيّاد أحد التلاميذ الإثنى عشر (الحواريّين) الّذي كان يحبّه المسيح حبّاً شديداً(٤) .

وذكروا أنّ (شيرينطوس) و(أبيسون) وجماعتهما لمّا كانوا يرون أنّ المسيح ليس إلّا إنساناً مخلوقاً لا يسبق وجوده وجود اُمّه اجتمعت أساقفة آسيا وغيرهم في سنة ٩٦

____________________

(١) راجع مادّة بولس من قاموس الكتاب المقدّس.

(٢) راجع كتاب أعمال الرسل ورسائل بولس.

(٣) قال في أوّل إنجيل لوقا:( لأجل أن كثيرين راموا كتب قصص الاُمور الّتي نحن بها عارفون كما عهد الينا اولئك الأوّلون الّذين كانوا من قبل معاينين وكانوا خداما للكلمة رأيت أنا أيضاً إذ كنت تابعا لكلّ شئ بتحقيق أن أكتب اليك أيّها العزيز ثاوفيلا) ودلالته على كون الكتاب نظريا غير إلهامي ظاهرة وقد نقل ذلك أيضاً عن مستر كدل في رسالة اللّهمّ وصرح جيروم أن بعض القدماء كانوا يشكون في البابين الأوّلين من إنجيل لوقا وأنّهما ما كانا في نسخة فرقة مارسيوني وجزم إكهارن في كتابه ص ٩٥ أن من ف ٤٣ إلى ٤٧ من الباب ٢٢ من إنجيل لوقا الحاقية وذكر إكهارن أيضاً في ص ٦١ من كتابه: قد اختلط الكذب الروائي ببيان المعجزات الّتي نقلها لوقا والكاتب ضمه على طريق المبالغة الشاعرية لكن تمييز الصدق عن الكذب في هذا الزمان عسير وقول:( كلي مي شيس أن متّى ومرقس يتخالفان في التحرير وإذا اتفقا ترجح قولهما على قول لوقا) نقل عن قصص الأنبياء للنجّار - ص ٤٧٧.

(٤) راجع قاموس الكتاب المقدّس مادّة يوحنّا.

٣٤٤

ميلاديّة عند يوحنّا والتمسوا منه أن يكتب ما لم يكتبه الآخرون في أناجيلهم ويبيّن بنوع خصوصيّ لاهوت المسيح فلم يسعه أن ينكر إجابة طلبهم(١) .

وقد اختلفت كلماتهم في السنة الّتي اُلّف فيها هذا الإنجيل فمن قائل أنّها سنة ٦٥ وقائل أنّها سنة ٩٦ وقائل أنّها سند ٩٨.

وقال جمع منهم إنّه ليس تأليف يوحنّا التلميذ: فبعضهم على أنّه تأليف طالب من طلبة المدرسة الاسكندريّة(٢) وبعضهم على أنّ هذا الإنجيل كلّه وكذا رسائل يوحنّا ليست من تصنيفه بل إنّما صنّفه بعضهم في ابتداء القرن الثاني، ونسبه إلى يوحنّا ليعتربه الناس(٣) وبعضهم على أنّ إنجيل يوحنّا كان في الأصل عشرين باباً فألحقت كنيسة (أفاس) الباب الحادي والعشرين بعد موت يوحنّا(٤) فهذه حال هذه الأناجيل الأربعة وإذا أخذنا بالقدر المتيقّن من هذه الطرق انتهت إلى سبعة رجال هم: متّى، مرقس، لوقا، يوحنّا، بطرس، بولس، يهوذا، ينتهي ركونهم كلّه إلى هذه الأناجيل الأربعة وينتهي الأربعة إلى واحد هو أقدمها وأسبقها وهو إنجيل متّى وقد مرّ أنّه ترجمة مفقود الأصل لا يدري من الّذي ترجمه؟ وكيف كان أصله. وعلى ما ذا كان يبني تعليمه أبرسالة المسيح أم باُلوهيّته.

وهذا الإنجيل الموجود يترجم أنّه ظهر في بني إسرائيل رجل يدعى عيسى بن يوسف النجّار وأقام الدعوة إلى الله، وكان يدّعي أنّه ابن الله مولود من غير أب بشريّ وأنّ أباه أرسله ليفدي به الناس عن ذنوبهم بالصلب والقتل، وأنّه أحيى الميّت وأبرء الأكمه والأبرص وشفى المجانين بإخراج الجنّ من أبدانهم، وأنّه كان له إثنا عشر تلميذاً: أحدهم متّى صاحب الإنجيل بارك لهم وأرسلهم للدعوة وتبليغ الدين المسيحيّ إلخ.

____________________

(١) نقله في قصص الأنبياء عند جرجس زوين الفتوحي اللبناني في كتابه.

 (٢) نقل ذلك من كتاب (كاتلك هر الد) في المجلد السابع المطبوع سنة ١٨٤٤ ص ٢٠٥ نقله عن استادلن (عن القصص) وأشار إليه في القاموس في مادّة يوحنّا.

 (٣) قال ذلك (بر طشنيدر) على ما نقل عن كتاب الفاروق المجلد الأوّل (عن القصص).

(٤) المدرك السابق.

٣٤٥

 فهذا ملخّص ما تنتهى إليه الدعوة المسيحيّة على انبساطها على شرق الأرض وغربها، وهو لا يزيد على خبر واحد مجهول الاسم والرسم، مبهم العين والوصف.

وهذا الوهن العجيب في مبدء القصّة هو الّذي أوجب لبعض أحرار الباحثين من اُروبه أن أدّعى أنّ المسيح عيسى بن مريم شخص خياليّ صوّره بعض النزعات الدينيّة على حكومات الوقت أو لها وتأيّد ذلك بموضوع خرافيّ آخر يشبهه كلّ الشبه في جميع شئون القصّة وهو موضوع (كرشنا) الّذي تدّعي وثنيّة الهند القديمة أنّه ابن الله نزل عن لاهوته، وفدى الناس بنفسه صلباً ليخلّصهم من الأوزار والخطايا كما يدّعى في عيسى المسيح حذو النعل بالنعل (كما سيجئ ذكره).

وأوجب لآخرين من منتقدي الباحثين أن يذهبوا إلى أنّ هناك شخصين مسمّيين بالمسيح: المسيح غير المصلوب، والمسيح المصلوب. وبينهما من الزمان ما يزيد على خمسة قرون.

وأنّ التاريخ الميلاديّ الّذي سنتنا هذه سنة الف وتسعمائة وستّة وخمسين منه لا ينطبق على واحد منهما بل المسيح الأوّل غير المصلوب يتقدّم عليه بما يزيد على مأتين وخمسين سنة وقد عاش نحواً من ستّين سنة والمسيح الثاني المصلوب يتأخّر عنه بما يزيد على مأتين وتسعين سنة وقد عاش نحواً من ثلاث وثلاثين سنة(١)

على أنّ عدم انطباق التاريخ الميلاديّ على ميلاد المسيح في الجملة ممّا لم يسع للنصارى إنكاره(٢) وهو سكتة تاريخيّة.

على أنّ هيهنا اُموراً مريبة موهمة اُخرى فقد ذكروا أنّه كتب في القرنين الأوّلين من الميلاد أناجيل كثيرة اُخرى ربّما أنهوها إلى نيّف ومائة من الأناجيل والأناجيل الأربعة منها ثمّ حرّمت الكنيسة جميع تلك الأناجيل إلّا الأناجيل الأربعة

____________________

(١) وقد فصل القول في ذلك الزعيم الفاضل (بهروز) في كتاب ألفه جديداً في البشارات النبوّية وأرجو أن أوفق لايداع شذرة منه في تفسير آخر سورة النساء من هذا الكتاب والقدر المتيقن (الّذي يهمنا منه) اختلال التاريخ المسيحي.

(٢) راجع مادّة مسيح من قاموس الكتاب المقدس.

٣٤٦

الّتي عرفت قانونيّة لموافقة متونها تعليم الكنيسة(١) .

ومن جملة الأناجيل المتروكة إنجيل برنابا الّذي ظهرت نسخة منها منذ سنين فترجمت إلى العربيّة والفارسيّة، وهو يوافق في عامّة قصصه ما قصّه القرآن في المسيح عيسى بن مريم(٢) .

ومن العجيب أنّ الموادّ التاريخيّة المأثورة عن غير اليهود أيضاً ساكتة عن تفاصيل ما ينسبه الإنجيل إلى الدعوة المسيحيّة من حديث البنوّة والفداء وغيرهما. ذكر المورّخ الإمريكيّ الشهير (هندريك ويلم وان لون) في تأليفه في تاريخ البشر كتاباً كتبه الطبيب (إسكولابيوس كولتلوس) الروميّ سنة ٦٢ الميلاديّة إلى ابن أخيه (جلاديوس أنسا) وكان جنديّاً في عسكر الروم بفلسطين، يذكر فيه أنّه عاد مريضاً بروميّة يسمّى بولس فأعجبه كلامه وقد كان بولس كلّمه بالدعوة المسيحيّة، وذكر له طرفاً من أخبار المسيح ودعوته.

ثمّ يذكر أنّه ترك بولس ولم يره حتّى سمع بعد حين أنّه قتل في طريق (أوستى) ثمّ يسأل ابن أخيه أن يبحث عن أخبار هذا النبيّ الاسرائيليّ الّذي كان يذكره بولس وعن أخبار بولس نفسه ويكتب إليه ما بلغه من ذلك.

____________________

(١) ولقد لام (شيلسوس) الفيلسوف في القرن الثاني النصارى في كتابه (الخطاب الحقيقي) على تلاعبهم بالاناجيل، ومحوهم بالغد ما أدرجوه بالامس، وفي سنة ٣٨٤ م أمر البابا داماسيوس أن تحرر ترجمة لاتينية جديدة من العهدين القديم والحديث تعتبر قانونيّة في الكنائس وكان تيودوسيس الملك قد ضجر من المخاصمات الجدلية بين الاساقفة، وتمت تلك الترجمة الّتي تسمى (فولكانا) وكان ذلك خاصّا بالاناجيل الاربعة: متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا وقد قال مرتب تلك الاناجيل: (بعد أن قابلنا عددا من النسخ اليونانية القديمة رتبناها بمعنى أننا نقحنا ماكان فيها مغايرا للمعنى، وأبقينا الباقي على ماكان عليه) ثمّ إن هذه الترجمة قد ثبتها المجمع (التريدنتيني) سنة ١٥٤٦ أي بعدها بأحد عشر قرنا، ثمّ خطأها سيستوس الخامس سنة ١٥٩٠ وأمر بطبع نسخ جديدة ثمّ خطأ كليمنضوس الثامن هذه النسخة الثانية أيضاً، وأمر بطبعة جديدة منقحة هي الدارجة اليوم عند الكاثوليكيين (تفسير الجواهر - الجزء الثاني - ص ١٢١ الطبعة الثانية).

(٢) وقد وجد هذا الانجيل بالخط الايطالي منذ سنين وترجمه إلى العربيّة الدكتور خليل سعاده بمصر وترجمه إلى الفارسيّة الحبر الفاضل (سردار كابلي) بإيران.

٣٤٧

فكتب إليه (جلاديوس أنسا) بعد ستّة أسابيع من معسكر الروم باُورشليم: أنّي سألت عدّة من شيوخ البلد ومعمّريهم عن عيسى المسيح فوجدتهم لا يحسنون مجاوبتي فيما أسألهم( هذا والسنة سنة ٦٢ ميلاديّة وهم شيوخ !) .

حتّى لقيت بيّاع زيتون فسألته هل يعرفه؟ فأنعم لي في الجواب ثمّ دلّني على رجل اسمه يوسف، و ذكر أنّه كان من أتباعه ومحبّيه وأنّه خبير بقصصه بصير بأخباره يستطيع أن يجيبك فيما تسأله عنه.

فلقيت يوسف اليوم بعد ما تفحّصت أيّاماً فوجدته شيخاً هرماً وقد كان قديماً يصطاد السمك في بعض البحيرات من هذه الناحية.

كان الرجل على كبر سنّه صحيح المشاعر جيّد الحافظة وقصّ لي جميع الأخبار والقضايا الحادثة في ذلك الأوان، أوان الاغتشاش والفتنة.

ذكر أنّ فونتيوس فيلاطوس كان حاكماً على سامرا ويهوديّه في عهد القيصر (تي بريوس).

فاتّفق أن وقع أيّام حكومته فتنة في اُورشليم فسافر فونتيوس فيلاطوس إليه لإخماد ما فيه من نار الفتنة وكانت الفتنة هي ما شاع يومئذ أنّ ابن نجّار من أهل الناصرة يدعو الناس ويستنهضهم على الحكومة.

فلمّا تحقّقوا أمره تبيّن أنّ ابن النجّار المتّهم شابّ عاقل متين لم يرتكب ما يوجب عليه سياسة غير أنّ رؤساء المذهب من اليهود كانوا يخالفونه ويباغضونه بأشدّ ما يكون وقد قالوا لفيلاطوس إنّ هذا الشابّ الناصريّ يقول: لو أنّ يونانيّاً أو روميّاً أو فلسطينيّاً عامل الناس وعاشرهم بالعدالة والشفقة كان عند الله كمن صرف عمره في مطّلعة كتاب الله وتلاوة آياته.

وكأنّ هذه التعرّضات والاقتراحات لم تؤثّر في فيلاطوس أثرها لكنّه لما سمع ازدحام الناس قبال المعبد وهم يريدون أن يقبضوا على عيسى وأصحابه ويقطّعوهم إرباً إرباً رأى أنّ الأصلح أن يقبض هو على هذا الشابّ النجّار ويسجنة حتّى لا يقتل بأيدي الناس في غوغائهم.

٣٤٨

وكان فيلاطوس لم يتّضح له سبب ما ينقمه الناس من عيسى كلّ الاتّضاح وكلّما كلّم الناس في أمره وسألهم واستوضحهم علت أصواتهم وتنادوا (هو كافر) (هو ملحد) (هو خائن) فلم ينته الأمر إلى طائل.

حتّى استقرّ رأي فيلاطوس أن يكلّم عيسى بنفسه فأشخصه وكلّمه وسأله عمّا يقصده بما يبلّغه من الدين فأجابه عيسى أنّه لا يهتمّ بأمر الحكومة والسياسة ولا له في ذلك غرض وأنّه يهتمّ بالحياة الروحانيّة أكثر ممّا يهتمّ بأمر الحياة الجسمانيّة وأنّه يعتقد أنّ الإنسان يجب أن يحسن إلى الناس ويعبد الله الفرد الواحد وحده الّذي هو في حكم الأب لجميع أرباب الحياة من المخلوقات.

وكان فيلاطوس ذا خبرة في مذاهب الرواقيّين وسائر فلاسفة يونان فكأنّه لم ير في ما كلّمه به عيسى موضع غمضة ولا محلّ مؤاخذة ولذلك عزم ثانياً أن يخلّص هذا النبيّ السليم المتين من شرّ اليهود وسوّف في حكم قتله وإنجازه.

لكنّ اليهود لم يرضوا بذلك ولم يتركوه على حاله بل أشاعوا عليه أنّه فتن بأكاذيب عيسى وأقاويله وأنّ فيلاطوس يريد الخيانة على قيصر، وأخذوا يستشهدون عليه ويسجّلون الطوامير على ذلك يريدون به عزله من الحكومة، وقد كان برز قبل ذلك فتن وانقلابات في فلسطين. والقوى المؤمّنة القيصريّة قليلة العدّة لا تقوى على إسكات الناس فيها كلّ القوّة.

وكان على الحكّام وسائر المأمورين من ناحية قيصر أن لا يعاملوا الناس بما يجلب شكواهم وعدم رضايتهم.

فلهذه الأسباب لم ير فيلاطوس بدّاً من أن يفدي هذا الشابّ المسجون للأمن العامّ، ويجيب الناس فيما سألوه من قتله.

وأمّا عيسى فإنّه لم يجزع من الموت بل استقبله على شهامة من نفسه وقد عفى قبل موته عمّن تسبّب إلى قتله من اليهود ثمّ قضى به على الصليب و الناس يسخرون منه ويشتمونه ويسبّونه.

٣٤٩

قال (جلاديوس أنسا) هذا ما قصّ لي يوسف من قصّة عيسى ودموعه تجري على خدّيه وحين ودّعني للمفارقة قدّمت إليه شيئاً من المسكوك الذهبيّ لكنّه أبى أن يأخذه، وقال لي يوجد هيهنا من هو أفقر منّي فأعطه إيّاه.

وسألته عن بولس رفيقك المعهود فما كان يعرفه معرفة تامّة. والقدر الّذي تبيّن من أمره أنّه كان رجلاً خيّاماً ثمّ ترك شغله واشتغل بالتبليغ لهذا المذهب الجديد مذهب الربّ الرؤوف الرحيم الإله الّذي بينه وبين (يهوّه) إله يهود الّذي لا نزال نسمعه من علماء اليهود من الفرق ما هو أبعد ممّا بين السماء والأرض.

والظاهر أنّ بولس سافر أوّلاً إلى آسيا الصغرى ثمّ إلى يونان وأنّه كان يقول للعبيد والأرقّاء إنّهم جميعاً أبناء لأب يحبّهم ويرأف بهم وأنّ السعادة ليست تخصّ بعض الناس دون بعض بل تعمّ جميع الناس من فقير وغنيّ بشرط أن يعاشروا على المواخاة ويعيشوا على الطهارة والصداقة انتهى ملخّصاً.

هذه عامّة فقرات هذا الكتاب ممّا يرتبط بما نحن فيه من البحث.

وبالتأمّل في جمل مضامين هذا الكتاب يتحصّل للمتأمّل أنّ ظهور الدعوة المسيحيّة كيف كان في بني إسرائيل بعيد عيسى (عليه السلام). وأنّه لم يكن إلّا ظهور دعوة نبويّة بالرسالة من عند الله لا ظهور دعوة إلهيّة بظهور اللاهوت ونزولها إليهم وتخليصهم بالفداء!

ثمّ إنّ عدّة من تلامذة عيسى أو المنتسبين إليه كبولس وتلامذة تلامذتهم سافروا بعد وقعة الصلب إلى مختلف أقطار الأرض من الهند وإفريقيّة وروميّة وغيرها وبسطوا الدعوة المسيحيّة لكنّهم لم يلبثوا دون أن اختلفوا في مسائل أصليّة من التعليم كلاهوت المسيح وكفاية الإيمان بالمسيح عن العمل بشريعة موسى وكون دين الإنجيل ديناً أصيلاً ناسخاً لدين موسى أو كونه تابعاً لشريعة التوراة مكمّلاً إيّاها(١) فافترقوا عند ذلك فرقاً.

____________________

(١) يشير إليه كتاب الرسل ووسائل بولس، وقد اعترضت به النصارى

٣٥٠

والّذي يجب الإمعان فيه أنّ الاُمم الّتي بسطت الدعوة المسيحيّة وظهرت فيها أوّل ظهورها كالروم والهند وغيرهما كانوا قبلها منتحلين بالوثنيّة الصابئة أو البرهمنيّة أو البوذائيّة وفيها اُصول من مذاق التصوّف من جهة والفلسفة البرهمنيّة من جهة وفيها جميعاً شطر وافر من ظهور اللاهوت في مظهر الناسوت. على أنّ القول بتثليث الوحدة ونزول اللاهوت في لباس الناسوت وتحمّلها الصلب(١) والعذاب فدائا كان دائراً بين القدماء من وثنيّة الهند والصين ومصر وكلدان والآشور والفرس وكذا قدماء وثنيّة الغرب كالرومان والاسكندناويّين وغيرهم على ما يوجد في الكتب المؤلّفة في الاديان والمذاهب القديمة.

ذكر (دوان) في كتابه (خرافات التوراة وما يماثلها في الأديان الاُخرى): إذا رجعنا البصر إلى الهند نرى أنّ أعظم وأشهر عبادتهم اللاهوتيّة هو التثليث ويسمّون هذا التعليم بلغتهم (ترى مورتى) وهي عبارة مركّبة من كلمتين بلغتهم السنسكريتيّة (ترى) ومعناها الثلاثة و(مورتى) ومعناها هيآت أو أقانيم وهي (برهما، وفشنو، وسيفا) ثلاثة أقانيم متّحدة لا ينفكّ عن الوحدة فهي إله واحد بزعمهم.

ثمّ ذكر: أنّ برهما عندهم هو الأب وفشنو هو الابن، وسيفا هو روح القدس.

ثمّ ذكر أنّهم يدعون سيفا (كرشنا)(٢) الربّ المخلّص والروح العظيم الّذي ولد منه (فشنو) الإله الّذي ظهر بالناسوت على الأرض ليخلّص الناس فهو أحد الأقانيم الثلاثة الّتي هي الإله الواحد.

____________________

(١) القتل بالصلب على الصليب من القواعد القديمة جدّاً فقد كانوا يقتلون من اشتدّ جرمه وفظع دنبه بالصلب الّذي هو من أشدّ أسباب القتل عذاباً وأسوئها ذكراً، وكانت الطريقة فيه أن يصنع من خشبتين تقاطع إحديهما الاُخرى ما هو على شكل الصليب المعروف بحيث ينطبق عليه إنسان لو حمل عليه ثمّ يوضع المجرم عليه مبسوط اليدين ويدق من باطن راحتيه على طرفي الخشبة المعترضة بالمسامير، وكذا تدق قدماه على الخشبة وربّما شدتا من غير دقّ ثمّ تقام الخشبة بنصب طرفها على الأرض بحيث يكون ما بين قدمه إلى الأرض ما يقرب من ذراعين فيبقى الصليب على ذلك يوماً أو أيّاماً ثمّ تكسر قدماه من الساقين ويقتل على الصليب أو ينزل فيقتل بعد الانزال، وكان المصلوب يعذب قبل الصلب بالجلد أو المثلة وكان من العار الشنيع على قوم أن يقتل واحد منهم بالصلب.

(٢) وهو المعبر عنه ابلانكليزية (كرس) وهو المسيح المخلص.

٣٥١

 وذكر أيضاً: أنّهم يرمزون للاُقنوم الثالث بصورة حمامة كما يقوله النصارى.

وقال مستر (فابر) في كتابه (أصل الوثنيّة) كما نجد عند الهنود ثالوثاً مؤلّفاً من (برهما) و(فشنو) و(سيفا) نجد عند البوذيّين ثالوثاً فإنّهم يقولون: إنّ (بوذ) إله له ثلاثة أقانيم. وكذلك بوذيو (جينست) يقولون: إنّ (جيفا) مثلّث الأقانيم.

قال: والصينيّون يعبدون بوذه ويسمّونه (فو) ويقولون إنّه ثلاثة أقانيم كما تقول الهنود.

وقال دوان في كتابه المتقدّم ذكره: وكان قسّيسوا هيكل منفيس بمصر يعبّرون عن الثالوث المقدّس للمبتدئين بتعلّم الدين بقولهم: إنّ الأوّل خلق الثاني والثاني خلق الثالث وبذلك تمّ الثالوث المقدّس.

وسأل توليسو ملك مصر الكاهن تنيشوكي أن يخبره: هل كان قبله أحد أعظم منه؟ وهل يكون بعده أحد أعظم منه فأجابه الكاهن: نعم يوجد من هو أعظم وهو الله قبل كلّ شئ ثمّ الكلمة ومعهما روح القدس ولهذه الثلاثة طبيعة واحدة، وهم واحد بالذات وعنهم صدرت القوّة الأبديّة فاذهب يا فاني يا صاحب الحياه القصيرة.

وقال بونويك في كتابه (عقائد قدماء المصريّين) أغرب كلمة عمّ انتشارها في ديانة المصريّين هي قولهم بلاهوت الكلمة، وأنّ كلّ شئ حصل بواسطتها، وأنّها منبثقة من الله، وأنّها هي الله انتهى. وهذا عين العبارة الّتي يبتدي بها إنجيل يوحنّا.

وقال (هيجين) في كتاب (الإنكلوساكسون) كان الفرس يدعون متروساً الكلمة والوسيط ومخلّص الفرس.

ونقل عن كتاب سكّان اُوروبة الأوّلين: أنّه كان الوثنيّون القدماء يقولون: إنّ الإله مثلّث الأقانيم.

ونقل عن اليونان والرومان والفنلنديّين والاسكندناويّين قضيّة الثالوث السابق الذكر وكذا القول بالكلمة عن الكلدانيّين والآشوريّين والفينيقيّين.

وقال دوان في كتابه (خرافات التوراة وما يقابلها من الديانات الاُخرى) (ص ١٨١ - ١٨٢) ما ترجمته بالتلخيص:

٣٥٢

(إنّ تصوّر الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فدائا عن الخطيئة قديم العهد جدّاً عند الهنود الوثنيّين وغيرهم) وذكر شواهد على ذلك:

منها قوله: يعتقد الهنود أنّ كرشنا المولود البكر - الّذي هو نفس الإلهة فشنو الّذى لا ابتداء له ولا انتهاء على رأيهم - تحرّك حنوّاً كي يخلّص الأرض من ثقل حملها فأتاها وخلّص الإنسان بتقديم ذبيحة عنه.

وذكر أنّ (مسترمور) قد صوّر كرشنا مصلوباً كما هو مصوّر في كتب الهنود مثقوب اليدين والرجلين، وعلى قميصه صورة قلب الإنسان معلّقاً، ووجدت له صورة مصلوباً وعلى رأسه إكليل من الذهب. والنصارى تقول: إن يسوع صلب وعلى رأسه إكليل من الشوك.

وقال (هوك) في ص ٣٢٦ من المجلد الأوّل من رحلته: ويعتقد الهنود الوثنيّون بتجسّد بعض الآلهة وتقديم ذبيحة فداء للناس من الخطيئة.

وقال (موريفور ليمس) في ص ٢٦ من كتابه (الهنود) ويعتقد الهنود الوثنيّون بالخطيئة الأصليّة وممّا يدلّ على ذلك ما جاء في مناجاتهم وتوسّلاتهم الّتي يتوسّلون بها بعد (الكياتري) وهو إنّي مذنب ومرتكب الخطيئة، وطبيعتي شريرة، وحملتني اُمّي بالإثم فخلّصني يا ذا العين الحندقوقيّة يا مخلّص الخاطئين من الآثام والذنوب.

وقال القسّ (جورج كوكس) في كتابه (الديانات القديمة) في سياق الكلام عن الهنود: ويصفون كرشنا بالبطل الوديع المملوء لاهوتاً لأنّه قدّم شخصه ذبيحة.

ونقل (هيجين) عن (اندارا دا الكروزوبوس) وهو أوّل اُوروبيّ دخل بلاد التيبال والتبّت: أنّه قال في الإله (اندرا) الّذي يعبدونه: أنّه سفك دمه بالصلب وثقب المسامير لكي يخلّص البشر من ذنوبهم وأنّ صورة الصلب موجودة في كتبهم.

وفي كتاب (جورجيوس) الراهب صورة الإله (اندرا) هذا مصلوباً، وهو بشكل صليب أضلاعه متساوية العرض متفاوتة الطول فالرأسيّ اقصرها - وفيه صورة وجهه - والسفلى أطولها ولو لا صورة الوجه لما خطر لمن يرى الصورة أنّها تمثّل شخصاً هذا.

٣٥٣

وأمّا ما يروى عن البوذيّين في بوذا فهو أكثر انطباقاً على ما يرويه النصارى عن المسيح من جميع الوجوه حتّى أنّهم يسمّونه المسيح، والمولود الوحيد، ومخلّص العالم ويقولون إنّه إنسان كامل وإله كامل تجسّد بالناسوت، وأنّه قدّم نفسه ذبيحة ليكفّر ذنوب البشر ويخلّصهم من ذنوبهم فلا يعاقبوا عليها، ويجعلهم وارثين لملكوت السماوات بيّن ذلك كثير من علماء الغرب: منهم (بيل) في كتابه و(هوك) في رحلته و(موالر) في كتابه تاريخ الآداب السنسكريتيّة وغيرهم.(١)

فهذه نبذة أو اُنموذجة من عقيدة تلبّس اللاهوت بالناسوت، وحديث الصلب والفداء في الديانات القديمة الّتي كانت الاُمم متمسّكين بها منكبّين عليها يوم شرعت الديانة النصرانيّة تنبسط على الأرض وأخذت الدعوة المسيحيّة تأخذ بمجامع القلوب في المناطق الّتي جال الدعاة المسيحيّون فيها فهل هذا إلّا أنّ الدعاة المسيحيّين أخذوا اُصول المسيحيّة وأفرغوها في قالب الوثنيّة واستمالوا بذلك قلوب الناس في تقبّل دعوتهم وهضم تعليمهم؟

ويؤيّد ذلك ما ترى في كلمات بولس وغيره من الطعن في حكمة الحكماء وفلسفتهم والإزراء بطرق الاستدلالات العقليّة وأنّ الإله الربّ يرجّح بلاهة الأبله على عقل العاقل.

وليس ذلك إلّا لأنّهم قابلوا بتعليمهم مكاتب التعقّل والاستدلال فردّه أهله بأنّه لا طريق إلى قبوله بل إلى تعقّله الصحيح من جهة الاستدلال فوضعوا الأساس على المكاشفة والامتلاء بالروح المقدّس فشاكلوا بذلك ما يصرّ به جهلة المتصوّفة أنّ طريقتهم طور وراء طور العقل.

ثمّ إنّ الدعاة منهم ترهبوا وجالوا في البلاد (على ما يحكيه كتاب أعمال الرسل والتواريخ) وبسطوا الدعوة المسيحيّة واستقبلتهم في ذلك العامّة في شتات البلاد، كان من سرّ موفّقيّتهم وخاصّة في إمبراطوريّة الروم هي الضغطة الروحيّة الّتي عمّت

____________________

(١) يجد القارئ هذه المنقولات في تفسير المنار - الجزء السادس في تفسير النساء وفي دوائر المعارف وفي كتاب العقائد الوثنيّة في الديانة النصرانيّة وغيرها.

٣٥٤

البلاد من فشوّ الظلم والتعدّي، وشمول أحكام الاسترقاق والاستعباد، والبون البعيد في حياة الطبقة الحاكمة والمحكومة والآمرة والمأمورة والفصل الشاسع بين عيشة الاغنياء وأهل الإتراف والفقراء والمساكين والأرقّاء.

وقد كانت الدعاة تدعو إلى المواخاة والمحابّة و التساوي والمعاشرة الجميلة بين الناس ورفض الدنيا وعيشتها الكدرة الفانية والاقبال على الحياة الصافية السعيدة الّتي في ملكوت السماء ولهذا بعينه ما كان يعني بحالهم الطبقة الحاكمة من الملوك والقياصرة كلّ العناية، ولا يقصدونهم بالأذى والسياسة والطرد.

فلم يزالوا يزيدون عدداً من غير تظاهر وتنافس وينمون قوّة وشدّة حتّى حصل لهم جمّ غفير في إمبراطوريّة الروم وإفريقيّة والهند وغيرها من البلاد. ولم يزالوا كلّما بنوا كنيسة وفتحوا بابها على وجوه الناس هدموا بذلك واحداً من بيوت الأوثان وأغلقوا بابه.

وكانوا لا يعتنون بمزاحمة رؤساء الوثنيّة في هدم أساسهم، ولا بملوك الوقت وحكّامه في التعالي عن خضوعهم وفي مخالفة أحكامهم ودساتيرهم وربّما كان ذلك يؤدّيهم إلى الهلاك والقتل والحبس والعذاب فكان لا تزال تقتل طائفة وتسجن اُخرى وتشرّد ثالثة.

وكان الأمر على هذه الصفة إلى أوان ملك القيصر (كنستانتين) فآمن بالملّة المسيحيّة وأعلن بها فأخذ التنصّر بالرسميّة وبنيت الكنائس في الروم وما يتبع إمبراطوريّته من الممالك وذلك في النصف الأخير من القرن الرابع الميلاديّ.

تمركزت النصرانيّة يومئذ في كنيسة الروم وأخذت تبعث القسّيسين إلى أكناف الأرض من البلاد التابعة يبنون الكنائس والديرات ومدارس يدرسون بها التعليم الإنجيليّ.

والّذي يجب إلتفات النظر إليه أنّهم وضعوا البحث على اُصول مسلّمة إنجيليّة فأخذوا التعاليم الإنجيليّة كمسألة الأب والابن والروح، ومسألة الصلب والفداء وغير ذلك اُصولاً مسلّمة وبنوا البحث والتنقير عليها.

٣٥٥

وهذا أوّل ما ورد على أبحاثهم الدينيّة من الوهن والوهي فإنّ استحكام البناء المبنيّ وإن بلغ ما بلغ واستقامته لا يغني عن وهن الأساس المبنيّ عليه شيئاً وما بنوا عليه من مسألة تثليث الوحدة والصلب والفداء أمر غير معقول.

وقد اعترف عدّة من باحثيهم في التثليث بأنّه أمر غير معقول لكنّهم اعتذروا عنه بأنّه من المسائل الدينيّة الّتي يجب أن تقبل تعبّداً فكم في الأديان من مسألة تعبديّة تحيلها العقول.

وهو من الظنون الفاسدة المتفرّعة على أصلهم الفاسد، وكيف يتصوّر وقوع مسألة مستحيلة في دين حقّ؟ ونحن إنّما نقبل الدين ونميّز كونه دين حقّ بالعقل وكيف يمكن عند العقل أن تشتمل العقيدة الحقّة على أمر يبطله العقل ويحيله؟ وهل هذا إلّا تناقض صريح؟

نعم يمكن أن يشتمل الدين على ممكن يخرق العادة الجارية، والسنّة الطبيعيّة القائمة، وأمّا المحال الذاتيّ فلا البتّة.

وهذا الطريق المذكور من البحث هو الّذي أوجب وقوع الخلاف والمشاجرة بين الباحثين المتفكّرين منهم في أوائل انتشار صيت النصرانيّة وانكباب المحصّلين على الأبحاث المذهبيّة في مدارس الروم والإسكندريّة وغيرهما.

فكانت الكنيسة تزيد كلّ يوم في مراقبتها لوحدة الكلمة وتهيّئ مجمعاً مشكّلاً عند ظهور كلّ قول حديث وبدعة جديدة من البطارقة والأساقفة لإقناعهم بالمذهب العامّ وتكفيرهم ونفيهم وطردهم وقتلهم إذا لم يقنعوا.

وأوّل مجمع عقدوه مجمع نيقيه لمّا قال أريوس: إنّ اُقنوم الابن غير مساو لاُقنوم الأب وإنّ القديم هو الله والمسيح مخلوق.

اجتمعت البطارقة والمطارنة والأساقفة في قسطنطينيّة بمحضر من القيصر كنستانتين وكانوا ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً واتّفقوا على هذه الكلمة( نؤمن بالله الواحد الأب مالك كلّ شئ وصانع ما يرى وما لا يرى وبالابن الواحد يسوع المسيح

٣٥٦

ابن الله الواحد، بكر الخلائق كلّها، وليس بمصنوع، إله حقّ من إله حقّ، من جوهر أبيه الّذي بيده اُتقنت العوالم وكلّ شئ، الّذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسّد من روح القدس، وولد من مريم البتول، وصلب أيّام فيلاطوس، ودفن، ثمّ قام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعدّ للمجئ تارة اُخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ونؤمن بروح القدس الواحد، روح الحقّ الّذي يخرج من أبيه، وبمعموديّة(١) واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قدسيّة مسيحيّة - جاثليقيّة وبقيام أبداننا(٢) والحياة أبد الآبدين(٣) ) .

هذا هو المجمع الأوّل، وكم من مجمع بعد ذلك عقدوه للتبرّي عن المذاهب المستحدثة كمذهب النسطوريّة واليعقوبيّة والأليانيّة واليليارسيّة و المقدانوسيّة والسباليوسيّة والنوئتوسيّة والبولسيّة وغيرها.

ومع هذا كانت الكنيسة تقوم بالواجب من مراقبتها، ولا تتوانى ولا تهن في دعوتها وتزيد كلّ يوم في قوّتها وسيطرتها حتّى وفّقت لجلب سائر دول اُوروبه إلى التنصّر كفرنسا و الإنجليز والنمسا والبروس والإسبانيا والبرتغال والبلجيك وهولاندا وغيرهم إلّا الروسيا أواخر القرن الخامس الميلاديّ سنة ٤٩٦.

ولم تزل تتقدّم وترتقي الكنيسة من جانب، ومن جانب آخر كانت تهاجم الاُمم الشماليّة والعشائر البدويّة على الروم، والحروب والفتن تضعّف سلطنة القياصرة،

____________________

(١) المراد بالمعمودية طهارة الباطن وقداسته.

(٢) أورد عليه أنّه يستلزم القول بالمعاد الجسمانيّ والنصارى تقول بالمعاد الروحانيّ كما يدلّ عليه الانجيل وأظنّ أنّ الانجيل إنّما يدلّ على عدم وجود اللذائذ الجسمانيّة الدنيويّة في القيامة وأمّا كون الإنسان روحاً مجرّداً من غير جسم فلا دلالة فيه عليه بل يدلّ على أنّ الإنسان يصير في المعاد كالملائكة لا ازدواج بينهم وظاهر العهدين أنّ الله سبحانه وملائكته جميعاً أجسام فضلا عن الإنسان يوم القيامة.

(٣) الملل والنجل للشهرستاني.

٣٥٧

وآل الأمر إلى أن أجمعت أهل الروم والاُمم المتغلّبة على إلقاء زمام اُمور المملكة إلى الكنيسة كما كانت زمام اُمور الدين بيدها فاجتمعت السلطنة الروحانيّة والجسمانيّة لرئيس الكنيسة اليوم وهو (البابا جريجوار) وكان ذلك سنة ٥٩٠ الميلاديّة.

وضارت كنيسة الروم لها الرئاسة المطلقة للعالم المسيحيّ غير أنّ الروم لمّا كانت انشعبت إمبراطوريّته إلى الروم الغربيّ الّذي عاصمتها رومة، والروم الشرقيّ الّذي عاصمتها قسطنطينيّة كانت قياصرة الروم الشرقيّ يعدّون أنفسهم رؤساء دينيّين لمملكتهم من غير أن يتّبعوا كنيسة روما وهذا مبدأ انشعاب المسيحيّة إلى الكاثوليك، أتباع كنيسة روما والأرثوذوكس وهم غيرهم.

وكان الأمر على ذلك حتّى إذا فتحت قسطنطينيّة بيد آل عثمان، وقتل القيصر (بالي اُولوكوس) وهو آخر قياصرة الروم الشرقيّ وقسّيس الكنيسة اليوم (قتل في كنيسة(أياصوفيا)).

وادّعى وراثة هذا المنصب الدينيّ أعني رئاسة الكنيسة قياصرة روسيا لقرابة سببيّة كانت بينهم وبين قياصرة الروم، وكانت الروس تنصّرت في القرن العاشر الميلاديّ فصارت ملوك روسيا قسّيسي كنيسة أرضهم غير تابعة لكنيسة رومة، وكان ذلك سنة ١٤٥٤ الميلاديّة.

وبقي الأمر على هذا الحال نحواً من خمسة قرون حتّى قتل (تزار نيكولا) وهو آخر قياصرة الروسيا قتل هو وجميع أهل بيته سنة ١٩١٨ الميلاديّة بيد الشيوعيّين فعادت كنيسة رومة تقريباً إلى حالها قبل الانشعاب.

لكنّ الكنيسة في أثر ما كانت تحاول رؤسائها السلطة على جميع جهات حياة الناس في القرون الوسطى الّتي كانت الكنيسة فيها في أوج ارتقائها وإرتفاعها ثار عليها جماهير من المتديّنين تخلّصاً من القيود الّتي كانت تحملها عليهم الكنيسة.

فخرجت طائفة عن تبعيّة أحكام رؤساء الكنيسة والباباوات وطاعتهم مع البقاء على طاعة التعليم الإنجيليّ على ما يفهمه مجامعهم، ويقرّره اتّفاق علمائهم وقسّيسهم وهؤلاء هم الأرثوذكس.

٣٥٨

 وطائفة خرجت عن متابعة كنيسة رومة أصلاً فليسوا بتابعين في التعليم الإنجيليّ لكنيسة رومة ولا معتنين للأوامر الصادرة منها وهؤلاء هم البروتستانت.

فأنشعب العالم المسيحيّ اليوم إلى ثلاث فرق: الكاثوليك وهي التابعة لكنيسة رومة وتعليمها والاُورثوذكس وهي التابعة لتعليم الكنيسة دون نفسها وقد حدثت شعبتهم بحدوث الانشعاب في الكنيسة وخاصّة بعد انتقال كنيسة قسطنطينيّة إلى مسكو بالروسيا (كما تقدّم) والبروتستانت وهي الخارجة عن تبعيّة الكنيسة وتعليمها جميعاً. وقد استقلّت طريقتهم وتظاهرت في القرن الخامس عشر الميلاديّ.

هذا إجمال ما جرى عليه الدعوة المسيحيّة في زمان يقرب من عشرين قرناً والبصير بالغرض الموضوع له هذا الكتاب يعلم أنّ القصد من ذكر جمل تاريخهم:

أوّلا: أن يكون الباحث على بصيرة من التحوّلات التاريخيّة في مذهبهم والمعاني الّتي يمكن أن تنتقل إلى عقائدهم الدينيّة بنحو التوارث أو السراية أو الانفعال بالامتزاج أو الإلف والعادة من عقائد الوثنيّة والأفكار الموروثة منهم أو المأخوذة عنهم.

وثانياً: أنّ اقتدار الكنيسة وخاصّة كنيسة رومة بلغ بالتدريج في القرون الوسطى الميلاديّة إلى نهاية أوجه حتّى كانت لهم سيطرة الدين والدنيا وانقادت لهم كراسيّ الملك بأوربه فكان لهم عزل من شاءوا ونصب من شاءوا(١) .

يروى أنّ البابا مرّة أمر إمبراطور آلمانيا أن يقف ثلاثة أيّام حافياً على باب قصره في فصل الشتاء لزلّة صدرت منه يريد ان يغفرها له(٢) .

ورفس البابا مرّة تاج الملك برجله حيث جائه جاثياً يطلب المغفرة(٣) .

وقد كانوا وصفوا المسلمين لأتباعهم وصفاً لم يدعهم إلّا أن يروا دين الإسلام دين الوثنيّة يستفاد ذلك من الشعارات والأشعار الّتي نظموها في استنهاض النصارى و

____________________

(١) الفتوحات الإسلاميّة.

(٢) المدرك السابق.

(٣) المدرك السابق.

٣٥٩

تهييجهم على المسلمين في الحروب الصليبيّة الّتي نشبت بينهم وبين المسلمين سنين متطاولة.

فإنّهم كانوا(١) يرون أنّ المسلمين يعبدون الأصنام وأنّ لهم آلهة ثلاثة أسماؤها على الترتيب (ماهوم) ويسمّى بافوميد وماهومند وهو أوّل الآلهة وهو (محمّد) وبعده (ايلين) وهو الثاني وبعده (ترفاجان) وهو الثالث وربّما يظهر من بعض كلماتهم أنّ للمسلمين إلهين آخرين وهما (مارتوان) و(جوبين) ولكنّهما بعد الثلاثة المتقدّمة رتبة وكانوا يقولون: إنّ محمّداً بنى دعوته على دعوى الاُلوهيّة وربّما قالوا: إنّه كان اتّخذ لنفسه صنماً من ذهب.

وفي أشعار ريشار الّتي قالها لاستنهاض الإفرنج على المسلمين: (قوموا وقلّبوا ماهومند وترفاجان وألقوهما في النار تقرّباً من إلهكم).

وفي أشعار رولان في وصف (ماهوم) إله المسلمين: (إنّه مصنوع تامّاً من الذهب والفضّة ولو رأيته أيقنت أنّه لا يمكن لصانع أن يصوّر في خياله أجمل منه ثمّ يصنعه عظيمة جثّته جيّدة صنعته وفي سيمائه آثار الجلالة ظاهرة ماهوم مصنوع من الذهب والفضّة يكاد سنا برقه يذهب بالبصر. وقد اُقعد على فيل هو من أحسن المصنوعات وأجودها بطنه خال وربّما أحسّ الناظر من بطنه ضوءاً هو مرصّعة بالأحجار الثمينة المتلالئة، يرى باطنه من ظاهره ولا يوجد له في جودة الصنعة نظير.

ولمّا كانت آلهة المسلمين يوحون إليهم في مواقع الشدّة وقد انهزم المسلمون في بعض حروبهم بعث قائد القوم واحداً في طلب إلههم الّذي كان بمكّة (يعني محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم)). يروي بعض من شاهد الواقعة: أنّ الإله (يعني محمّداً) جائهم وقد أحاط به جمّ غفير من أتباعه وهم يضربون الطبول والعيدان والمزامير والبوقات المعمولة من فضّة ويتغنّون ويرقصون حتّى أتوا به إلى المعسكر بسرور وترح ومرح، وقد كان خليفته منتظراً لقدومه فلمّا رآه قام على ساقه، واشتغل بعبادته بخضوع وخشوع.

____________________

(١) هذا وما بعده إلى آخر الفصل منقول عن ترجمة كتاب (هنري دوكاستري) في الديانة الإسلاميّة الفصل الأوّل منه.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429