الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 429

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 429 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 120147 / تحميل: 6174
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

و على تقدير أن يراد به الروح الأمريّ فالمراد بمن نشاء جميع الأنبياء و من آمن بهم من اُممهم فإنّه يهدي بالوحي الّذي نزل به، الأنبياء و المؤمنين من اُممهم و يسدّد الأنبياء خاصّة و يهديهم إلى الأعمال الصالحة و يشير عليهم بها.

و على هذا تكون الآية في مقام تصديق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تصدّقه في دعواه أنّ كتابه من عند الله بوحي منه، و تصدّقه في دعواه أنّه مؤمن بما يدعو إليه فيكون في معنى قوله تعالى:( إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ) يس: ٥.

و قوله:( وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) إشارة إلى أنّ الّذي يهدي إليه صراط مستقيم و أنّ الّذي يهديه من الناس هو الّذي يهديه الله سبحانه، فهدايتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هداية الله.

قوله تعالى: ( صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) إلخ، بيان للصراط المستقيم الّذي يهدي إليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و توصيفه تعالى بقوله:( الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) للدلالة على الحجّة على استقامة صراطه فإنّه تعالى لمّا ملك كلّ شي‏ء ملك الغاية الّتي تسير إليها الأشياء و السعادة الّتي تتوجّه إليها، فكانت الغاية و السعادة هي الّتي عيّنها، و كان الطريق إليها و السبيل الّذي عليهم أن يسلكوه لنيل سعادتهم هو الّذي شرعه و بيّنه، و ليس يملك أحد شيئاً حتّى ينصب له غاية و نهاية أو يشرع له إليها سبيلاً، فالسعادة الّتي يدعو سبحانه إليها حقّ السعادة و الطريق الّذي يدعو إليه حقّ الطريق و مستقيم الصراط.

و قوله:( أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ) تنبيه على لازم ملكه لما في السماوات و ما في الأرض فإنّ لازمه رجوع اُمورهم إليه و لازمه كون السبيل الّذي يسلكونه - و هو من جملة اُمورهم - راجعاً إليه فالصراط المستقيم هو صراطه فالمضارع أعني قوله:( تَصِيرُ ) للاستمرار.

و فيه إشعار بلمّ الوحي و التكليم الإلهيّ، إذ لمّا كان مصير الأشياء إليه تعالى كان لكلّ نوع إليه تعالى سبيل يسلكه و كان عليه تعالى أن يهديه إليه و يسوقه إلى غايته كما قال:( وَ عَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) النحل: ٩، و هو تكليم كلّ نوع بما يناسب ذاته

٨١

و هو في الإنسان التكليم المسمّى بالوحي و الإرسال.

و قيل: المضارع للاستقبال و المراد مصيرها جميعاً إليه يوم القيامة، و قد سيقت الجملة لوعد المهتدين إلى الصراط المستقيم و وعيد الضالّين عنه، و أوّل الوجهين أظهر.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج البخاريّ و مسلم و البيهقيّ عن عائشة أنّ الحارث بن هشام سأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف يأتيك الوحي؟ قال: أحياناً يأتيني الملك في مثل صلصلة الجرس فيفصم عنّي و قد وعيت عنه ما قال و هو أشدّه علي، و أحياناً يتمثّل لي الملك رجلاً فيكلّمني فأعي ما يقول.

قالت عائشة: و لقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم و إنّ جبينه ليتفصّد عرقاً.

و في التوحيد، بإسناده عن زرارة قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : جعلت فداك الغشية الّتي كانت تصيب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا نزل عليه الوحي؟ قال: فقال: ذلك إذا لم يكن بينه و بين الله أحد ذاك إذا تجلّى الله له. قال: ثمّ قال: تلك النبوّة يا زرارة و أقبل يتخشّع.

و في العلل، بإسناده عن ابن أبي عمير عن عمرو بن جميع عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: كان جبرئيل إذا أتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قعد بين يديه قعدة العبد، و كان لا يدخل حتّى يستأذنه.

و في أمالي الشيخ، بإسناده عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قال بعض أصحابنا: أصلحك الله كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: قال جبرئيل، و هذا جبرئيل يأمرني ثمّ يكون في حال اُخرى يغمى عليه، فقال أبوعبداللهعليه‌السلام : إنّه إذا كان الوحي من الله إليه ليس بينهما جبرئيل- أصابه ذلك لثقل الوحي من الله، و إذا كان بينهما جبرئيل لم يصبه ذلك فقال: قال لي جبرئيل و هذا جبرئيل.

و في البصائر، عن عليّ بن حسّان عن ابن بكير عن زرارة قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام

٨٢

من الرسول؟ من النبيّ؟ من المحدّث؟ فقال: الرسول الّذي يأتيه جبرئيل فيكلّمه قبلاً فيراه كما يرى أحدكم صاحبه الّذي يكلّمه فهذا الرسول، و النبيّ الّذي يؤتى في النوم نحو رؤيا إبراهيمعليه‌السلام ، و نحو ما كان يأخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من السبات إذا أتاه جبرئيل في النوم فهكذا النبيّ، و منهم من يجمع له الرسالة و النبوّة فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسولاً نبيّاً يأتيه جبرئيل قبلاً فيكلّمه و يراه، و يأتيه في النوم، و أمّا المحدّث فهو الّذي يسمع كلام الملك فيحدّثه من غير أن يراه و من غير أن يأتيه في النوم.

أقول: و في معناه روايات اُخر.

و في التوحيد، بإسناده عن محمّد بن مسلم و محمّد بن مروان عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: ما علم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ جبرئيل من قبل الله إلّا بالتوفيق.

و في تفسير العيّاشيّ، عن زرارة قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : كيف لم يخف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما يأتيه من قبل الله أن يكون ذلك ممّا ينزغ به الشيطان؟ قال: فقال: إنّ الله إذا اتّخذ عبداً رسولاً أنزل عليه السكينة و الوقار فكان يأتيه من قبل الله مثل الّذي يراه بعينه.

و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله تبارك و تعالى:( وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ ) قال: خلق من خلق أعظم من جبرئيل و ميكائيل كان مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبره و يسدّده، و هو مع الأئمّة من بعده.

أقول: و في معناها عدّة روايات و في بعضها أنّه من الملكوت، قال في روح المعاني: و نقل الطبرسيّ عن أبي جعفر و أبي عبدالله: أنّ المراد من هذا الروح ملك أعظم من جبرائيل و ميكائيل كان مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لم يصعد إلى السماء، و هذا القول في غاية الغرابة و لعلّه لا يصحّ عن هذين الإمامين. انتهى. و الّذي في مجمع البيان: عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام قالا: و لم يصعد إلى السماء و إنّه لفينا. انتهى. و استغرابه فيما لا دليل له على نفيه غريب. على أنّه يسلّم تسديد هذا الروح لبعض

٨٣

الاُمّة غير النبيّ كما هو ظاهر لمن راجع قسم الإشارات من تفسيره.

و في النهج: و لقد قرن الله بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من لدن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم و محاسن أخلاق العالم ليله و نهاره.

و في الدرّ المنثور، أخرج أبونعيم في الدلائل و ابن عساكر عن عليّ قال: قيل للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل عبدت وثناً قطّ؟ قال: لا. قالوا: فهل شربت خمراً قطّ؟ قال: لا. و ما زلت أعرف أنّ الّذي هم عليه كفر و ما كنت أدري ما الكتاب و ما الإيمان، و بذلك نزل القرآن( ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ ) .

و في الكافي، بإسناده عن أبي عمرو الزبيريّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام في حديث، و قال في نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) يقول: تدعو.

و في الكافي، بإسناده عن جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: سمعته يقول: وقع مصحف في البحر فوجدوه و قد ذهب ما فيه إلّا هذه الآية:( أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ) .

٨٤

( سورة الزخرف مكّيّة و هي تسع و ثمانون آية)

( سورة الزخرف الآيات ١ - ١٤)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم ( ١ ) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ( ٢ ) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( ٣ ) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ( ٤ ) أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ ( ٥ ) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ ( ٦ ) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( ٧ ) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَىٰ مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ( ٨ ) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ( ٩ ) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( ١٠ ) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا  كَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ ( ١١ ) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ( ١٢ ) لِتَسْتَوُوا عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ( ١٣ ) وَإِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ ( ١٤ )

( بيان‏)

السورة موضوعة للإنذار كما تشهد به فاتحتها و خاتمتها و المقاصد المتخلّلة بينهما إلّا ما في قوله:( إِلَّا الْمُتَّقِينَ يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ) إلى تمام ستّ آيات استطرادية.

٨٥

تذكر أنّ السنّة الإلهيّة إنزال الذكر و إرسال الأنبياء و الرسل و لا يصدّه عن ذلك إسراف الناس في قولهم و فعلهم بل يرسل الأنبياء و الرسل و يهلك المستهزئين بهم و المكذّبين لهم ثمّ يسوقهم إلى نار خالدة.

و قد ذكرت إرسال الأنبياء بالإجمال أوّلاً ثمّ سمّي منهم إبراهيم ثمّ موسى ثمّ عيسىعليهم‌السلام ، و ذكرت من إسراف الكفّار أشياء و من عمدتها قولهم بأنّ لله سبحانه ولداً و أنّ الملائكة بنات الله ففيها عناية خاصّة بنفي الولد عنه تعالى فكرّرت ذلك و ردّته و أوعدتهم بالعذاب، و فيها حقائق متفرّقة اُخرى.

و السورة مكّيّة بشهادة مضامين آياتها إلّا قوله:( وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ) الآية، و لم يثبت كما سيأتي إن شاء الله.

قوله تعالى: ( وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ ) ظاهره أنّه قسم و جوابه قوله:( إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا ) إلى آخر الآيتين، و كون القرآن مبيناً هو إبانته و إظهاره طريق الهدى كما قال تعالى:( وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ) النحل: ٨٩، أو كونه ظاهراً في نفسه لا يرتاب فيه كما قال:( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ ) البقرة: ٢.

قوله تعالى: ( إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) الضمير للكتاب، و( قُرْآناً عَرَبِيًّا ) أي مقروّاً باللغة العربيّة و( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) غاية الجعل و غرضه.

و جعل رجاء تعقّله غاية للجعل المذكور يشهد بأنّ له مرحلة من الكينونة و الوجود لا ينالها عقول الناس، و من شأن العقل أن ينال كلّ أمر فكريّ و إن بلغ من اللطافة و الدقّة ما بلغ فمفاد الآية أنّ الكتاب بحسب موطنه الّذي له في نفسه أمر وراء الفكر أجنبيّ عن العقول البشريّة و إنّما جعله الله قرآناً عربيّاً و ألبسه هذا اللباس رجاء أن يستأنس به عقول الناس فيعقلوه، و الرجاء في كلامه تعالى قائم بالمقام أو المخاطب دون المتكلّم كما تقدّم غير مرّة.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) تأكيد و تبيين لما تدلّ عليه الآية السابقة أنّ الكتاب في موطنه الأصليّ وراء تعقّل العقول.

و الضمير للكتاب، و المراد باُمّ الكتاب اللّوح المحفوظ كما قال تعالى:( بَلْ

٨٦

هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ) البروج: ٢٢، و تسميته باُمّ الكتاب لكونه أصل الكتب السماويّة يستنسخ منه غيره، و التقييد باُمّ الكتاب و( لَدَيْنا ) للتوضيح لا للاحتراز، و المعنى: أنّه حال كونه في اُمّ الكتاب لدينا - حالاً لازمة - لعليّ حكيم، و سيجي‏ء في أواخر سورة الجاثية كلام في اُمّ الكتاب إن شاء الله.

و المراد بكونه عليّاً على ما يعطه مفاد الآية السابقة أنّه رفيع القدر و المنزلة من أن تناله العقول، و بكونه حكيماً أنّه هناك محكم غير مفصّل و لا مجزّى إلى سور و آيات و جمل و كلمات كما هو كذلك بعد جعله قرآناً عربيّاً كما استفدناه من قوله تعالى:( كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) هود: ١.

و هذان النعتان أعني كونه عليّاً حكيماً هما الموجبان لكونه وراء العقول البشريّة فإنّ العقل في فكرته لا ينال إلّا ما كان من قبيل المفاهيم و الألفاظ أوّلاً و كان مؤلّفاً من مقدّمات تصديقيّة يترتّب بعضها على بعض كما في الآيات و الجمل القرآنيّة، و أمّا إذا كان الأمر وراء المفاهيم و الألفاظ و كان غير متجزّ إلى أجزاء و فصول فلا طريق للعقل إلى نيله.

فمحصّل معنى الآيتين: أنّ الكتاب عندنا في اللّوح المحفوظ ذو مقام رفيع و إحكام لا تناله العقول لذينك الوصفين و إنّما أنزلناه بجعله مقروّاً عربيّاً رجاء أن يعقله النّاس.

فإن قلت: ظاهر قوله:( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) إمكان تعقّل الناس هذا القرآن العربيّ النازل تعقّلاً تامّاً فهذا الّذي نقرؤه و نعقله إمّا أن يكون مطابقاً لما في اُمّ الكتاب كلّ المطابقة أو لا يكون، و الثاني باطل قطعاً كيف؟ و هو تعالى يقول:( وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ ) و( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ) البروج: ٢٢، و( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ ) الواقعة: ٧٨، فتعيّن الأوّل و مع مطابقته لاُمّ الكتاب كلّ المطابقة ما معنى كون القرآن العربيّ الّذي عندنا معقولاً لنا و ما في اُمّ الكتاب عندالله غير معقول لنا؟

قلت: يمكن أن تكون النسبة بين ما عندنا و ما في اُمّ الكتاب نسبة المثل و الممثّل

٨٧

فالمثل هو الممثّل بعينه لكنّ الممثّل له لا يفقه إلّا المثل فافهم ذلك.

و بما مرّ يظهر ضعف الوجوه الّتي أوردوها في تفسير الوصفين كقول بعضهم: إنّ المراد بكونه عليّاً أنّه عال في بلاغته مبين لما يحتاج إليه الناس، و قول بعضهم: معناه أنّه يعلو كلّ كتاب بما اختصّ به من الإعجاز و هو ينسخ الكتب غيره و لا ينسخه كتاب، و قول بعضهم يعني أنّه يعظّمه الملائكة و المؤمنون.

و كقول بعضهم في معنى( حَكِيمٌ ) أنّه مظهر للحكمة البالغة، و قول بعضهم معناه أنّه لا ينطق إلّا بالحكمة و لا يقول إلّا الحقّ و الصواب، ففي توصيفه بالحكيم تجوّز لغرض المبالغة. و ضعف هذه الوجوه ظاهر بالتدبّر في مفاد الآية السابقة و ظهور أنّ جعله قرآناً عربيّاً بالنزول عن اُمّ الكتاب.

قوله تعالى: ( أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ ) الاستفهام للإنكار، و الفاء للتفريع على ما تقدّم، و ضرب الذكر عنهم صرفه عنهم. قال في المجمع: و أصل ضربت عنه الذكر أنّ الراكب إذا ركب دابّة فأراد أن يصرفه عن جهة ضربه بعصاً أو سوط ليعدل به إلى جهة اُخرى ثمّ وضع الضرب موضع الصرف و العدل. انتهى. و الصفح بمعنى الإعراض فصفحاً مفعول له، و احتمل أن يكون بمعنى الجانب( و أَنْ كُنْتُمْ ) محذوف الجارّ و التقدير لأن كنتم و هو متعلّق بقوله:( أَ فَنَضْرِبُ ) .

و المعنى: أ فنصرف عنكم الذكر - و هو الكتاب الّذي جعلناه قرآناً لتعقلوه - للإعراض عنكم لكونكم مسرفين أو أ فنصرفه عنكم إلى جانب لكونكم مسرفين أي أنا لا نصرفه عنكم لذلك.

قوله تعالى: ( وَ كَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) ( كَمْ ) للتكثير، و الأوّلون هم الاُمم الدارجة و( ما يَأْتِيهِمْ ) إلخ، حال و العامل فيها( أَرْسَلْنا ) .

و الآيتان و ما يتلوهما في مقام التعليل لعدم صرف الذكر عنهم ببيان أنّ كونكم قوماً مسرفين لا يمنعنا من إجراء سنّة الهداية من طريق الوحي فإنّا كثيراً ما أرسلنا من نبيّ في الاُمم الماضين و الحال أنّه ما يأتيهم من نبيّ إلّا استهزؤا به و انجرّ الأمر

٨٨

إلى أن أهلكنا من اُولئك من هو أشدّ بطشاً منكم.

فكما كانت عاقبة إسرافهم و استهزائهم الهلاك دون الصرف فكذلك عاقبة إسرافكم ففي الآيات الثلاث كما ترى وعد للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و وعيد لقومه.

قوله تعالى: ( فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَ مَضى‏ مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ) قال الراغب: البطش تناول الشي‏ء بصولة. انتهى و في الآية التفات في قوله:( مِنْهُمْ ) من الخطاب إلى الغيبة، و كأنّ الوجه فيه العدول عن خطابهم إلى خطاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعدم اعتبارهم بهذه القصص و العبر و ليكون تمهيداً لقوله بعد:( وَ مَضى‏ مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ) و يؤيّده قوله بعد:( وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ ) خطاباً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . و معنى قوله:( وَ مَضى‏ مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ) و مضى في السور النازلة قبل هذه السورة من القرآن وصف الاُمم الأوّلين و أنّه كيف حاق بهم ما كانوا به يستهزؤن.

قوله تعالى: ( وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ) في الآية و ما يتلوها إلى تمام ستّ آيات احتجاج على ربوبيّته تعالى و توحّده فيها مع إشارة مّا إلى المعاد و تبكيت لهم على إسرافهم مأخوذ من اعترافهم بأنّه تعالى هو خالق الكلّ ثمّ الأخذ بجهات من الخلق هي بعينها تدبير لاُمور العباد كجعل الأرض لهم مهداً و جعله فيها سبلاً و إنزال الأمطار فينتج أنّه تعالى وحده مالك مدبّر لاُمورهم فهو الربّ لا ربّ غيره.

و بذلك تبيّن أنّ الآية تقدّمة و توطئة لما تتضمّنه الآيات التالية من الحجّة و قد تقدّم في هذا الكتاب مراراً أنّ الوثنيّة لا تنكر رجوع الصنع و الإيجاد إليه تعالى وحده و إنّما تدّعي رجوع أمر التدبير إلى غيره.

قوله تعالى: ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَ جَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) أي جعل لكم الأرض بحيث تربّون فيها كما يربّى الأطفال في المهد، و جعل لكم في الأرض سبلاً و طرقاً تسلكونها و تهتدون بها إلى مقاصدكم.

و قيل: معنى( لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) رجاء أن تهتدوا إلى معرفة الله و توحيده في العبادة و الأوّل أظهر.

٨٩

و في الكلام التفات إلى خطاب القوم بعد صرف الخطاب عنهم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لعلّ الوجه فيه إظهار العناية بهذا المعنى في الخلقة و هو أنّ التدبير بعينه من الخلق فاعترافهم بكون الخلق مختصّاً بالله سبحانه و قولهم برجوع التدبير إلى غيره من خلقه من التهافت في القول جهلاً فقرعهم بهذا الخطاب من غير واسطة.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ ) قيّد تنزيل الماء بقدر للإشارة إلى أنّه عن إرادة و تدبير لا كيف اتّفق و الإنشار الإحياء، و الميت مخفّف الميّت بالتشديد، و توصيف البلدة به باعتبار أنّها مكان لأنّ البلدة أيضاً إنّما تتّصف بالموت و الحياة باعتبار أنها مكان، و الالتفات عن الغيبة إلى التكلّم مع الغير في( فَأَنْشَرْنا ) لإظهار العناية.

و لمّا استدلّ بتنزيل الماء بقدر و إحياء البلدة الميّتة على خلقه و تدبيره استنتج منه أمراً آخر لا يتمّ التوحيد إلّا به و هو المعاد الّذي هو رجوع الكلّ إليه تعالى فقال:( كَذلِكَ تُخْرَجُونَ ) أي كما أحيا البلدة الميّتة كذلك تبعثون من قبوركم أحياء.

قيل: في التعبير عن إخراج النبات بالإنشار الّذي هو إحياء الموتى و عن إحيائهم بالإخراج تفخيم لشأن الإنبات و تهوين لأمر البعث لتقويم سنن الاستدلال و توضيح منهاج القياس.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَ الْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ ) قيل: المراد بالأزواج أصناف الموجودات من ذكر و اُنثى و أبيض و أسود و غيرها، و قيل: المراد الزوج من كلّ شي‏ء فكلّ ما سوى الله كالفوق و تحت و اليمين و اليسار و الذكر و الاُنثى زوج.

و قوله:( وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَ الْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ ) أي تركبونه، و الركوب إذا نسب إلى الحيوان كالفرس و الإبل تعدّى بنفسه فيقال: ركبت الفرس و إذا نسب إلى مثل الفلك و السفينة تعدّى بفي فيقال ركب فيه قال تعالى:( فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ ) ففي قوله:( ما تَرْكَبُونَ ) أي تركبونه تغليب لجانب الأنعام.

قوله تعالى: ( لِتَسْتَوُوا عَلى‏ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَ

٩٠

تَقُولُوا - إلى قوله -لَمُنْقَلِبُونَ ) الاستواء على الظهور الاستقرار عليها، و الضمير في( ظُهُورِهِ ) راجع إلى لفظ الموصول في( ما تَرْكَبُونَ ) ، و الضمير في قوله:( إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ) للموصول أيضاً فكما يقال: استويت على ظهر الدابّة يقال: استويت على الدابّة.

و المراد بذكر نعمة الربّ سبحانه بعد الاستواء على ظهر الفلك و الأنعام ذكر النعم الّتي ينتفع بها الإنسان بتسخيره تعالى له هذه المراكب كالانتقال من مكان إلى مكان و حمل الأثقال قال تعالى:( وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ) إبراهيم: ٣٢، و قال:( وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها - إلى أن قال -وَ تَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى‏ بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ ) النحل: ٧، أو المراد ذكر مطلق نعمه تعالى بالانتقال من ذكر هذه النعم إليه.

و قوله:( وَ تَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَ ما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ) أي مطيقين و الإقران الإطاقة.

و ظاهر ذكر النعمة عند استعمالها و الانتفاع بها شكر منعمها و لازم ذلك أن يكون ذكر النعمة غير قول:( سُبْحانَ الَّذِي ) إلخ، فإنّ هذا القول تسبيح و تنزيه له عمّا لا يليق بساحة كبريائه و هو الشريك في الربوبيّة و الاُلوهيّة، و ذكر النعمة شكر - كما تقدم - و الشكر غير التنزيه.

و يؤيّد هذا ما ورد عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام في ما يقال عند الاستواء على المركوب فإنّ الروايات على اختلافها تتضمّن التحميد وراء التسبيح يقول( سُبْحانَ الَّذِي ) إلخ.

و روي في الكشّاف، عن الحسن بن عليّعليهما‌السلام أنّه رأى رجلاً يركب دابّة فقال: سبحان الّذي سخّر لنا هذا فقال: أ بهذا اُمرتم؟ فقال: و بم اُمرنا؟ قال: إن تذكروا نعمة ربّكم.

و قوله:( وَ إِنَّا إِلى‏ رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ ) أي صائرون شهادة بالمعاد.

٩١

( سورة الزخرف الآيات ١٥ - ٢٥)

وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا  إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ ( ١٥ ) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ ( ١٦ ) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ( ١٧ ) أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ( ١٨ ) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا  أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ  سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ( ١٩ ) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم  مَّا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ  إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ( ٢٠ ) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ( ٢١ ) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ( ٢٢ ) وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ( ٢٣ ) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ  قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ( ٢٤ ) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ  فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ( ٢٥ )

( بيان‏)

حكاية بعض أقوالهم الّتي دعاهم إلى القول بها الإسراف و الكفر بالنعم و هو قولهم بالولد و أنّ الملائكة بنات الله سبحانه، و احتجاجهم على عبادتهم الملائكة و ردّه عليهم.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ ) المراد بالجزء الولد فإنّ الولادة إنّما هي الاشتقاق فالولد جزء من والده منفصل منه متصوّر بصورته.

٩٢

و إنّما عبّر عن الولد بالجزء للإشارة إلى استحالة دعواهم، فإنّ جزئيّة شي‏ء من شي‏ء كيفما تصوّرت لا تتمّ إلّا بتركّب في ذلك الشي‏ء و الله سبحانه واحد من جميع الجهات.

و قد بان بما تقدّم أنّ( مِنْ عِبادِهِ ) بيان لقوله:( جُزْءاً ) و لا ضير في تقدّم هذا النوع من البيان على المبيّن و لا في جمعيّة البيان و إفراد المبيّن.

قوله تعالى: ( أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَ أَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ ) أي أخلصكم للبنين فلكم بنون و ليس له إلّا البنات و أنتم ترون أنّ البنت أخسّ من الابن فتثبتون له أخسّ الصنفين و تخصّون أنفسكم بأشرفهما و هذا مع كونه قولاً محالاً في نفسه إزراء و إهانة ظاهرة و كفران.

و تقييد اتّخاذ البنات بكونه ممّا يخلق لكونهم قائلين بكون الملائكة - على ربوبيّتهم و اُلوهيّتهم - مخلوقين لله، و الالتفات في الآية إلى خطابهم لتأكيد الإلزام و تثبيت التوبيخ، و التنكير و التعريف في( بنات) و( البنين) للتحقير و التفخيم.

قوله تعالى: ( وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ ) المثل هو المثل و الشبه المجانس للشي‏ء و ضرب الشي‏ء مثلاً أخذه مجانساً للشي‏ء( و بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ) الاُنثى، و الكظيم المملوء كرباً و غيظاً.

و المعنى: و حالهم أنّه إذا بشّر أحدهم بالاُنثى الّذي جعلها شبهاً مجانساً للرحمان صار وجهه مسوّداً من الغمّ و هو مملوء كرباً و غيظاً لعدم رضاهم بذلك و عدّه عاراً لهم لكنّهم يرضونه له.

و الالتفات في الآية إلى الغيبة لحكاية شنيع سيرتهم و قبيح طريقتهم للغير حتّى يتعجّب منه.

قوله تعالى: ( أَ وَ مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَ هُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) أي أ و جعلوا لله سبحانه من ينشؤ في الحلية أي يتربّى في الزينة و هو في المخاصمة و المحاجّة غير مبين لحجّته لا يقدر على تقرير دعواه.

و إنّما ذكر هذين النعتين لأنّ المرأة بالطبع أقوى عاطفة و شفقة و أضعف

٩٣

تعقّلاً بالقياس إلى الرجل و هو بالعكس و من أوضح مظاهر قوّة عواطفها تعلّقها الشديد بالحلية و الزينة و ضعفها في تقرير الحجّة المبنيّ على قوّة التعقّل.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ) إلخ، هذا معنى قولهم: إنّ الملائكة بنات الله و قد كان يقول به طوائف من عرب الجاهليّة و أمّا غيرهم من الوثنيّة فربّما عدّوا في آلهتهم إلهة هي اُمّ إله أو بنت إله لكن لم يقولوا بكون جميع الملائكة إناثاً كما هو ظاهر المحكيّ في الآية الكريمة.

و إنّما وصف الملائكة بقوله:( الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ ) ردّاً لقولهم باُنوثتهم لأنّ الإناث لا يطلق عليهنّ العباد، و لا يلزم منه اتّصافهم بالذكورة بالمعنى الّذي يتّصف به الحيوان فإنّ الذكورة و الاُنوثة اللّتين في الحيوان من لوازم وجوده المادّيّ المجهّز للتناسل و توليد المثل، و الملائكة في معزل من ذلك.

و قوله:( أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَ يُسْئَلُونَ ) ردّ لدعواهم الاُنوثة في الملائكة بأنّ الطريق إلى العلم بذلك الحسّ و هم لم يروهم حتّى يعلموا بها فلم يكونوا حاضرين عند خلقهم حتّى يشاهدوا منهم ذلك.

فقوله:( أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ إلخ) استفهام إنكاريّ و وعيد على قولهم بغير علم أي لم يشهدوا خلقهم و ستكتب في صحائف أعمالهم هذه الشهادة عليهم و يسألون عنه يوم القيامة.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ) حجّة عقليّة داحضة محكيّة عنهم يمكن أن تقرّر تارة لإثبات صحّة عبادة الشركاء بأن يقال: لو شاء الله أن لا نعبد الشركاء ما عبدناهم ضرورة لاستحالة تخلف مراده تعالى عن إرادته لكنّا نعبدهم فهو لم يشأ ذلك و عدم مشيّته عدم عبادتهم إذنٌ في عبادتهم فلا منع من قبله تعالى عن عبادة الشركاء و الملائكة منهم، و هذا المعنى هو المنساق إلى الذهن من قوله في سورة الأنعام:( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ شَيْ‏ءٍ ) الأنعام: ١٤٨، على ما يعطيه السياق ما قبله و ما بعده.

٩٤

و تقرّر تارة لإبطال النبوّة القائلة أنّ الله يوجب عليكم كذا و كذا و يحرّم عليكم كذا كذا بأن يقال لو شاء الله أن لا نعبد الشركاء و لا نحلّ و لا نحرّم شيئاً لم نعبد الشركاء و لم نضع من عندنا حكماً لاستحالة تخلّف مراده تعالى عن إرادته لكنّا نعبدهم و نحلّ و نحرّم أشياء فلم يشأ الله سبحانه منّا شيئاً، فقول إنّ الله يأمركم بكذا و ينهاكم عن كذا و بالجملة إنّه شاء كذا باطل.

و هذا المعنى هو الظاهر المستفاد من قوله تعالى في سورة النحل:( وَ قالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ نَحْنُ وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) النحل: ٣٥، بالنظر إلى السياق.

و قولهم في محكيّ الآية المبحوث عنها:( لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ) على ما يفيده سياق الآيات السابقة و اللاحقة مسوق للاحتجاج على المعنى الأوّل و هو تصحيح عبادتهم للملائكة فيكون في معنى آية سورة الأنعام و أخصّ منها.

و قوله:( ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ ) أي هو منهم قول مبنيّ على الجهل فإنّه مغالطة خلطوا فيها بين الإرادة التكوينيّة و الإرادة التشريعيّة و أخذ الاُولى مكان الثانية، فمقتضى الحجّة أن لا إرادة تكوينيّة منه تعالى متعلّقة بعدم عبادتهم الملائكة و انتفاء تعلّق هذا النوع من الإرادة بعدم عبادتهم لهم لا يستلزم انتفاء تعلّق الإرادة التشريعيّة به.

فهو سبحانه لمّا لم يشأ أن لا يعبدوا الشركاء بالإرادة التكوينيّة كانوا مختارين غير مضطرّين على فعل أو ترك فأراد منهم بالإرادة التشريعيّة أن يوحّدوه و لا يعبدوا الشركاء، و الإرادة التشريعيّة لا يستحيل تخلّف المراد عنها لكونها اعتباريّة غير حقيقيّة، و إنّما تستعمل في الشرائع و القوانين و التكاليف المولوية، و الحقيقة الّتي تبتني عليها هي اشتمال الفعل على مصلحة أو مفسدة.

و بما تقدّم يظهر فساد ما قيل: إنّ حجّتهم مبنيّة على مقدّمتين: الاُولى أنّ عبادتهم للملائكة بمشيّته تعالى، و الثانية أنّ ذلك مستلزم لكونها مرضيّة عنده تعالى و قد أصابوا في الاُولى و أخطأوا في الثانية حيث جهلوا أنّ المشيّة عبارة عن ترجيح

٩٥

بعض الممكنات على بعض كائناً ما كان من غير اعتبار الرضا و السخط في شي‏ء من الطرفين.

وجه الفساد: أنّ مضمون الحجّة عدم تعلّق المشيّة على ترك العبادة و عدم تعلّق المشيّة بالترك لا يستلزم تعلّق المشيّة بالفعل بل لازمه الإذن الّذي هو عدم المنع من الفعل. ثمّ إنّ ظاهر كلامه قصر الإرادة في التكوينيّة و إهمال التشريعيّة الّتي عليها المدار في التكاليف المولويّة و هو خطأ منه.

و يظهر أيضاً فساد ما نسب إلى بعضهم أنّ المراد بقولهم:( لو شاء الرحمن ما عبدناهم) الاعتذار عن عبادة الملائكة بتعلّق مشيّة الله بها مع الاعتراف بكونها قبيحة.

و ذلك أنّهم لم يكونوا مسلّمين لقبح عبادة آلهتهم حتّى يعتذروا عنها و قد حكي عنهم ذيلاً قولهم:( إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى‏ أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى‏ آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ ) .

و قوله:( إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ) الخرص - على ما يظهر من الراغب - القول على الظنّ و التخمين، و فسّر أيضاً بالكذب.

قوله تعالى: ( أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ) ضمير( مِنْ قَبْلِهِ ) للقرآن، و في الآية نفي أن يكون لهم حجّة من طريق النقل كما أنّ في الآية السابقة نفي حجّتهم من طريق العقل، و محصّل الآيتين أن لا حجّة لهم على عبادة الملائكة لا من طريق العقل و لا من طريق النقل فلم يأذن الله فيها.

قوله تعالى: ( بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى‏ أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى‏ آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ ) الاُمّة الطريقة الّتي تؤمّ و تقصد، و المراد بها الدين، و الإضراب عمّا تحصّل من الآيتين، و المعنى: لا دليل لهم على حقّيّة عبادتهم بل قالوا إنّا وجدنا آباءنا على دين و إنّا على آثارهم مهتدون أي إنّهم متشبّثون بتقليد آبائهم فحسب.

قوله تعالى: ( وَ كَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا ) إلخ، أي إنّ التشبّث بذيل التقليد ليس ممّا يختصّ بهؤلاء فقد كان ذلك دأب أسلافهم من الاُمم المشركين و ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير و هو النبيّ إلّا تشبّث متنعّموها بذيل التقليد و قالوا: إنّا وجدنا أسلافنا على دين و إنّا على آثارهم

٩٦

مقتدون لن نتركها و لن نخالفهم.

و نسبة القول إلى مترفيهم للإشارة إلى أنّ الإتراف و التنعّم هو الّذي يدعوهم إلى التقليد و يصرفهم عن النظر في الحقّ.

قوله تعالى: ( قالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى‏ مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ ) إلخ، القائل هو النذير، و الخطاب للمترفين و يشمل غيرهم بالتبعيّة، و العطف في( أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ ) على محذوف يدلّ عليه كلامهم، و التقدير إنّكم على آثارهم مقتدون و لو جئتكم بأهدى ممّا وجدتم عليه آباءكم؟ و المحصّل: هل أنتم لازمون لدينهم حتّى لو كان ما جئتكم به من الدين أهدى منه؟ و عدّ النذير ما جاءهم به أهدى من دينهم مع كون دينهم باطلاً لا هدى فيه من باب مجاراة الخصم.

و قوله:( قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ ) جواب منهم لقول النذير:( أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ ) إلخ و هو تحكّم من غير دليل.

قوله تعالى: ( فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) أي تفرّع على ذلك الإرسال و الردّ بالتقليد و التحكّم أنّا أهلكناهم بتكذيبهم فانظر كيف كان عاقبة اُولئك السابقين من أهل القرى و فيه تهديد لقوم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٩٧

( سورة الزخرف الآيات ٢٦ - ٤٥)

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ ( ٢٦ ) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ( ٢٧ ) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( ٢٨ ) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّىٰ جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ ( ٢٩ ) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ ( ٣٠ ) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( ٣١ ) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ  نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا  وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا  وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ( ٣٢ ) وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ( ٣٣ ) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ ( ٣٤ ) وَزُخْرُفًا  وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا  وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ( ٣٥ ) وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ( ٣٦ ) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ( ٣٧ ) حَتَّىٰ إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ( ٣٨ ) وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ( ٣٩ ) أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ

٩٨

وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( ٤٠ ) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ ( ٤١ ) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ ( ٤٢ ) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ  إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ٤٣ ) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ  وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ( ٤٤ ) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ( ٤٥ )

( بيان‏)

لمّا انجرّ الكلام إلى ردّهم رسالة الرسول و كفرهم بها تحكّماً و تشبّثهم في الشرك بذيل تقليد الآباء و الأسلاف من غير دليل عقّب ذلك بالإشارة إلى قصّة إبراهيمعليه‌السلام و رفضه تقليد أبيه و قومه و تبرّيه عمّا يعبدونه من دون الله سبحانه و استهدائه هدى ربّه الّذي فطره.

ثمّ يذكر تمتيعه لهم بنعمه و كفرانهم بها بالكفر بكتاب الله و طعنهم فيه و في رسوله بما هو مردود عليهم. ثمّ يذكر تبعة الإعراض عن ذكر الله و ما تنتهي إليه من الشقاء و الخسران، و يعطف عليه إياس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من إيمانهم و تهديدهم بالعذاب و يؤكّد الأمر للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستمسك بالقرآن و أنّه لذكر له و لقومه و سوف يسألون عنه، و أنّ الّذي فيه من دين التوحيد هو الّذي كان عليه الأنبياء السابقون عليه.

قوله تعالى: ( وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ) البراء مصدر من برى‏ء يبرأ فهو بري‏ء فمعنى( إِنَّنِي بَراءٌ ) إنّني: ذو براء أو بري‏ء على سبيل

٩٩

المبالغة مثل زيد عدل.

و في الآية إشارة إلى تبرّي إبراهيمعليه‌السلام ممّا كان يعبده أبوه و قومه من الأصنام و الكواكب بعد ما حاجّهم فيها فاستندوا فيها إلى سيرة آبائهم على ما ذكر في سور الأنعام و الأنبياء و الشعراء و غيرها.

و المعنى: و اذكر لهم إذ تبرّأ إبراهيم عن آلهة أبيه و قومه إذ كانوا يعبدونها تقليداً لآبائهم من غير حجّة و قام بالنظر وحده.

قوله تعالى: ( إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ) أي إلّا الّذي أوجدني و هو الله سبحانه، و في توصيفه تعالى بالفطر إشارة إلى الحجّة على ربوبيّته و اُلوهيّته فإنّ الفطر و الإيجاد لا ينفكّ عن تدبير أمر الموجود المفطور فالّذي فطر الكلّ هو الّذي يدبّر أمرهم فهو الحقيق أن يعبد.

و قوله:( فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ) أي إلى الحقّ الّذي أطلبه، و قيل: أي إلى طريق الجنّة، و في هذه الجملة إشارة إلى خاصّة اُخرى ربوبيّة و هي الهداية إلى السبيل الحقّ يجب أن يسلكه الإنسان فإنّ السوق إلى الكمال من تمام التدبير فعلى الربّ المدبّر لأمر مربوبه أن يهديه إلى كماله و سعادته، قال تعالى:( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) طه: ٥٠، و قال:( وَ عَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) النحل: ٩، فالرجوع إلى الله بتوحيد العبادة يستتبع الهداية كما قال تعالى:( وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) العنكبوت: ٦٩.

و الاستثناء في قوله:( إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي ) منقطع لأنّ الوثنيّين لا يعبدون الله كما مرّ مراراً، فقول بعضهم: إنّه متّصل، و إنّهم كانوا يقولون: الله ربّنا مع عبادتهم الأوثان، كما ترى.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) الظاهر أنّ ضمير الفاعل المستتر في( جَعَلَها ) لله سبحانه، و الضمير البارز - على ما قيل - لكلمة البراءة الّتي تكلّم بها إبراهيمعليه‌السلام و معناها معنى كلمة التوحيد فإنّ مفاد لا إله إلّا الله

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

قوله تعالى: ( إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ ) استثناء من المفعول المحذوف لقوله السابق:( فَذَكِّرْ ) و التقدير فذكّر الناس إلّا من تولّى منهم عن التذكرة و كفر إذ تذكرته لغو لا فائدة فيها، و معلوم أنّ التولّي و الكفر إنّما يكون بعد التذكرة فالمنفيّ بالاستثناء هو التذكرة بعد التذكرة كأنّه قيل: ذكّرهم و أدم التذكرة إلّا لمن ذكّرته فتولّى عنها و كفر، فليس عليك إدامة تذكرته بل أعرض عنه فيعذّبه الله العذاب الأكبر.

فقوله:( فَذَكِّرْ - إلى أن قال -إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) في معنى قوله:( فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى‏ - إلى أن قال -وَ يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) الأعلى: 12 و قد تقدّم بيانه.

و قيل: الاستثناء من ضمير( عَلَيْهِمْ ) في قوله:( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) و المعنى لست عليهم بمتسلّط إلّا على من تولّى منهم عن التذكرة و أقام على الكفر فسيُسلّطك الله عليه و يأمرك بالجهاد فتقاتله فتقتله.

و قيل: الاستثناء منقطع و المعنى لست عليهم بمتسلّط لكنّ من تولّى و كفر منهم يعذّبه الله العذاب الأكبر، و ما قدّمناه من الوجه أرجح و أقرب.

قوله تعالى: ( فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) هو عذاب جهنّم فالآية كما تقدّم محاذية لقوله في سورة الأعلى( الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى‏ ) .

قوله تعالى: ( إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ) الإياب الرجوع و( إِلَيْنا ) خبر إنّ و إنّما قدّم للتأكيد و لرعاية الفواصل دون الحصر إذ لا قائل برجوع الناس إلى غير الله سبحانه و الآية في مقام التعليل للتعذيب المذكور في الآية السابقة.

قوله تعالى: ( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ) الكلام فيه كالكلام في الآية السابقة.

٤٠١

( بحث روائي‏)

في المجمع، و قال أبوعبداللهعليه‌السلام : كلّ ناصب و إن تعبّد و اجتهد يصير إلى هذه الآية( عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى‏ ناراً حامِيَةً ) .

أقول: و رواه في ثواب الأعمال، مسنداً و لفظه: كلّ ناصب و إن تعبّد و اجتهد يصير إلى هذه الغاية( عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى‏ ناراً حامِيَةً ) .

و فيه، عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الضريع شي‏ء في النار يشبه الشوك أمرّ من الصبر و أنتن من الجيفة و أشدّ حرّاً من النار سمّاه الله الضريع.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً ) قال: الهزل و الكذب.

و فيه،: في قوله تعالى:( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) قال: بحافظ و لا كاتب عليهم.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و عبد بن حميد و مسلم و الترمذيّ و النسائيّ و ابن ماجة و ابن جرير و الحاكم و ابن مردويه و البيهقيّ في الأسماء و الصفات عن جابر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اُمرت أن اُقاتل الناس حتّى يقولوا: لا إله إلّا الله فإذا قالوها عصموا منيّ دماءهم و أموالهم إلّا بحقّها و حسابهم على الله ثمّ قرأ( فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) .

أقول: لا دلالة في الرواية على كون الاستثناء من ضمير( عَلَيْهِمْ ) و هو ظاهر.

و فيه، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ ) يريد من لم يتّعظ و لم يصدّقك و جحد ربوبيّتي و كفر نعمتي( فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) يريد الغليظ الشديد الدائم( إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ) يريد مصيرهم( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ) يريد جزاءهم.

و في النهج: و سئلعليه‌السلام : كيف يحاسب الله الخلق على كثرتهم؟ قال: كما يرزقهم على كثرتهم. قيل: فكيف يحاسبهم و لا يرونه؟ قال: كما يرزقهم و لا يرونه.

٤٠٢

و فيه، قال الصادقعليه‌السلام : كلّ اُمّة يحاسبها إمام زمانها، و يعرف الأئمّة أولياءهم و أعداءهم بسيماهم و هو قوله:( وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ‏ ) الحديث.

أقول: قد تقدّم توضيح معنى الحديث في تفسير الآية من سورة الأعراف، و روي هذا المعنى في البصائر، عن الصادقعليه‌السلام مسنداً و في الكافي، عن الباقر و الكاظمعليهما‌السلام و في الفقيه، عن الهاديعليه‌السلام في الزيارة الجامعة.

٤٠٣

( سورة الفجر مكّيّة و هي ثلاثون آية)

( سورة الفجر الآيات 1 - 30)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ ( 1 ) وَلَيَالٍ عَشْرٍ ( 2 ) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ( 3 ) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ( 4 ) هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ ( 5 ) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ( 6 ) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ( 7 ) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ( 8 ) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ( 9 ) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ( 10 ) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ( 11 ) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ( 12 ) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ( 13 ) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ( 14 ) فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ( 15 ) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ( 16 ) كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ( 17 ) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ ( 18 ) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا ( 19 ) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ( 20 ) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ( 21 ) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ( 22 ) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ ( 23 ) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ( 24 ) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ( 25 ) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ( 26 ) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ( 27 ) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ( 28 ) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ( 29 ) وَادْخُلِي جَنَّتِي ( 30 )

٤٠٤

( بيان‏)

في السورة ذمّ التعلّق بالدنيا المتعقّب للطغيان و الكفران و إيعاد أهله بأشدّ عذاب الله في الدنيا و الآخرة فتبيّن أنّ الإنسان لقصور نظره و سوء فكره يرى أنّ ما آتاه الله من نعمه من كرامته على الله و أنّ ما يتلبّس به من الفقر و العدم من هوانه فيطغى و يفسد في الأرض إذا وجد و يكفر إذا فقد و قد اشتبه عليه الأمر فما يصيبه من القدرة و الثروة و من الفقر و ضيق المعاش امتحان و ابتلاء إلهيّ ليظهر به ما ذا يقدّم من دنياه لاُخراه.

فليس الأمر على ما يتوهّمه الإنسان و يقوله بل الأمر كما سيتذكره إذا وقع الحساب و حضر العذاب أنّ ما أصابه من فقر أو غنى أو قوّة أو ضعف كان امتحاناً إلهيّاً و كان يمكنه أن يقدّم من يومه لغده فلم يفعل و آثر العقاب على الثواب فليس ينال الحياة السعيدة في الآخرة إلّا النفس المطمئنّة إلى ربّها المسلمة لأمره الّتي لا تتزلزل بعواصف الابتلاءات و لا يطغيه الوجدان و لا يكفره الفقدان.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( وَ الْفَجْرِ وَ لَيالٍ عَشْرٍ وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ) الفجر الصبح و الشفع الزوج، قال الراغب: الشفع ضمّ الشي‏ء إلى مثله و يقال للمشفوع شفع. انتهى. و سري الليل مضيّه و إدباره، و الحجر العقل فقوله:( وَ الْفَجْرِ ) إقسام بالصبح و كذا الحال فيما عطف عليه من ليال و الشفع و الوتر و اللّيل.

و لعلّ ظاهر قوله:( وَ الْفَجْرِ ) أنّ المراد به مطلق الفجر و لا يبعد أيضاً أن يراد به فجر يوم النحر و هو عاشر ذي الحجّة.

و قيل: المراد فجر ذي الحجّة، و قيل: فجر المحرّم أوّل السنة و قيل: فجر يوم الجمعة، و قيل فجر ليلة جمع، و قيل: المراد به صلاة الفجر، و قيل: النهار كلّه

٤٠٥

و قيل: فجر العيون من الصخور و غيرها و هي وجوه رديّة.

و قوله:( وَ لَيالٍ عَشْرٍ ) لعلّ المراد بها الليالي العشر من أوّل ذي الحجّة إلى عاشرها و التنكير للتفخيم.

و قيل: المراد بها الليالي العشر من آخر شهر رمضان، و قيل: الليالي العشر من أوّله، و قيل الليالي العشر من أوّل المحرّم، و قيل: المراد عبادة ليال عشر على تقدير أن يراد بالفجر صلاة الفجر.

و قوله( وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ ) يقبل الانطباق على يوم التروية و يوم عرفة و هو الأنسب على تقدير أن يراد بالفجر و ليال عشر فجر ذي الحجّة و العشر الأوّل من لياليها.

و قيل: المراد صلاتاً الشفع و الوتر في آخر الليل، و قيل: مطلق الصلاة فمنها شفع و منها وتر، و قيل: الشفع يوم النحر و الوتر يوم عرفة، و قيل: الشفع جميع الخلق لأنّه قال:( وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً ) النبأ: 8 و الوتر هو الله تعالى، و على هذه الأقوال روايات ستوافيك في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله.

و قيل: المراد الزوج و الفرد من العدد، و في الإقسام بهما تذكير بالعدد لما في ضبط المقادير به من عظيم النعمة من الله سبحانه، و قيل: الشفع و الوتر جميع المخلوقات لأنّ الأشياء إمّا زوج و إمّا فرد، و قيل: الوتر آدم شفع بزوجته، و قيل: الشفع الأيّام و الليالي و الوتر اليوم الّذي لا ليل بعده و هو يوم القيامة، و قيل: الشفع الصفا و المروة و الوتر البيت الحرام، و قيل: الشفع أيّام عاد و الوتر لياليها، و قيل: الشفع أبواب الجنّة و هي ثمانية و الوتر أبواب جهنّم و هي سبعة إلى غير ذلك و هي كثيرة أنّهاها بعضهم إلى ستّة و ثلاثين قولاً و لا يخلو أكثرها من تحكّم.

و قوله:( وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ ) أي يمضي فهو كقوله:( وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ) المدّثر: 33 و ظاهره أنّ اللّام للجنس فالمراد به مطلق آخر الليل، و قيل: المراد به ليلة المزدلفة و هي ليلة النحر الّتي يسري فيها الحاجّ من عرفات إلى المزدلفة فيجتمع فيها على طاعة الله ثمّ يغدوا منها إلى منى و هو كما ترى و خاصّة على القول بكون المراد بليال

٤٠٦

عشر هو الليالي العشر الأوائل منها.

و قوله:( هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ) الإشارة بذلك إلى ما تقدّم من القسم، و الاستفهام للتقرير، و المعنى أنّ في ذلك الّذي قدّمناه قسماً كافياً لمن له عقل يفقه به القول و يميّز الحقّ من الباطل، و إذا أقسم الله سبحانه بأمر - و لا يقسم إلّا بما له شرف و منزلة - كان من القول الحقّ المؤكّد الّذي لا ريب في صدقه.

و جواب الأقسام المذكورة محذوف يدلّ عليه ما سيذكر من عذاب أهل الطغيان و الكفران في الدنيا و الآخرة و ثواب النفوس المطمئنّة، و أنّ إنعامه تعالى على من أنعم عليه و إمساكه عنه فيمن أمسك إنّما هو ابتلاء و امتحان.

و حذف الجواب و الإشارة إليه على طريق التكنية أوقع و آكد في باب الإنذار و التبشير.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ ) هم عاد الاُولى قوم هود تكرّرت قصّتهم في القرآن الكريم و اُشير إلى أنّهم كانوا بالأحقاف، و قد قدّمنا ما يتحصّل من قصصهم في القرآن الكريم في تفسير سورة هود.

قوله تعالى: ( إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ ) العماد و جمعه عمد ما يعتمد عليه الأبنية، و ظاهر الآيتين أنّ إرم كانت مدينة لهم معمورة عديمة النظير ذات قصور عالية و عمد ممدّدة، و قد انقطعت أخبار القوم عهدهم و انمحت آثارهم، فلا سبيل إلى الحصول على تفصيل حالهم تطمئنّ إليها النفس إلّا ما قصّة القرآن الكريم من إجمال قصّتهم أنّهم كانوا بعد قوم نوح قاطنين بالأحقاف و كانوا ذوي بسطة في الخلق اُولي قوّة و بطش شديد، و كان لهم تقدّم و رقي في المدنيّة و الحضارة لهم بلاد عامرة و أراض خصبة ذات جنّات و نخيل و زروع و مقام كريم و قد تقدّمت القصّة.

و قيل: المراد بإرم قوم عاد - و هو في الأصل اسم أبيهم سمّوا باسم أبيهم كما يقال: قريش و يراد به القرشيّون و يطلق إسرائيل و يراد به بنو إسرائيل - و المراد بكونهم ذات عماد كونهم اُولي قوّة و سطوة.

٤٠٧

و المعنى: أ لم تر كيف فعل ربّك بقوم عاد الّذين هم قوم إرم ذوو القوّة و الشدّة الّذين لم يخلق مثلهم في بسطة الجسم و القوّة و البطش في البلاد أو في أقطار الأرض و لا يخلو من بعد من ظاهر اللفظ.

و أبعد منه ما قيل: إنّ المراد بكونهم ذات العماد أنّهم كانوا أهل عمد سيّارة في الربيع فإذا هاج النبت رجعوا إلى منازلهم.

و من الأساطير قصّة جنّة إرم المشهورة المرويّة عن وهب بن منبّه و كعب الأحبار.

قوله تعالى: ( وَ ثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ ) الجوب القطع أي قطعوا صخر الجبال بنحتها بيوتاً فهو في معنى قوله:( وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً ) الشعراء: 149.

قوله تعالى: ( وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ ) هو فرعون موسى، و سمّي ذا الأوتاد - على ما في بعض الروايات - لأنّه كان إذا أراد أن يعذّب رجلاً بسطه على الأرض و وتد يديه و رجليه بأربعة أوتاد في الأرض و ربّما بسطه على خشب و فعل به ذلك، و يؤيّده ما حكاه الله من قوله يهدّد السحرة إذ آمنوا بموسى:( وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ) طه: 71 فإنّهم كانوا يوتّدون يدي المصلوب و رجليه على خشبة الصليب.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ ) صفة للمذكورين من عاد و ثمود و فرعون، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ ) صبّ الماء معروف و صبّ سوط العذاب كناية عن التعذيب المتتابع المتواتر الشديد، و تنكير عذاب للتفخيم.

و المعنى فأنزل ربّك على كلّ من هؤلاء الطاغين المكثرين للفساد إثر طغيانهم و إكثارهم الفساد عذاباً شديداً متتابعاً متوالياً لا يوصف.

قوله تعالى: ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) المرصاد المكان الّذي يرصد منه و يرقب و كونه تعالى على المرصاد استعارة تمثيليّة شبّه فيها حفظه تعالى لأعمال عباده بمن

٤٠٨

يقعد على المرصاد يرقب من يراد رقوبه فيأخذه حين يمرّ به و هو لا يشعر فالله سبحانه رقيب يرقب أعمال عباده حتّى إذا طغوا و أكثروا الفساد أخذهم بأشدّ العذاب.

و في الآية تعليل ما تقدّم من حديث تعذيب الطغاة المكثرين للفساد من الماضين و في قوله:( رَبَّكَ ) بإضافة الربّ إلى ضمير الخطاب تلويح إلى أنّ سنّة العذاب جارية في اُمّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما جرت عليه في الاُمم الماضين.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) متفرّع على ما قبله، فيه تفصيل حال الإنسان إذا اُوتي من نعم الدنيا أو حرم كأنّه قيل: إنّ الإنسان تحت رقوب إلهيّ يرصده ربّه هل يصلح أو يفسد؟ و يبتليه و يمتحنه فيما آتاه من نعمة أو حرمة هذا هو الأمر في نفسه و أمّا الإنسان فإنّه إذا أنعم الله عليه بنعمة حسب أنّ ذلك إكرام إلهيّ له أن يفعل بها ما يشاء فيطغى و يكثر الفساد، و إذا أمسك و قدر عليه رزقه حسب أنّه إهانة إلهيّة فيكفر و يجزع.

فقوله:( فَأَمَّا الْإِنْسانُ ) المراد به النوع بحسب الطبع الأوّليّ فاللّام للجنس دون الاستغراق.

و قوله:( إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ ) أي امتحنه و اختبره، و العامل في الظرف محذوف تقديره كائنا إذا إلخ و قيل: العامل فيه( فَيَقُولُ ) .

و قوله:( فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ ) تفسير للابتلاء، و المراد بالإكرام و التنعيم الصوريّان و إن شئت فقل: الإكرام و التنعيم حدوثاً لا بقاء أي إنّه تعالى أكرمه و آتاه النعمة ليشكره و يعبده لكنّه جعلها نقمة على نفسه تستتبع العذاب.

و قوله:( فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) أي جعلني على كرامة منه بالنعم الّتي آتانيها و إن شئت فقل: القدرة و الجدة الموهوبتان إكرام و تنعيم حدوثاً و بقاء فلي أن أفعل ما أشاء.

و الجملة أعني قوله:( فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) حكاية ما يراه الإنسان بحسب الطبع، و قول الإنسان:( رَبِّي أَكْرَمَنِ ) الظاهر في نسبة التدبير إلى الله سبحانه

٤٠٩

- و لا يقول به الوثنيّة و المنكرون للصانع - مبنيّ على اعترافه بحسب الفطرة به تعالى و إن استنكف عنه لساناً، و أيضاً لرعاية المقابلة مع قوله:( إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ ) .

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ ) أي و أمّا إذا ما امتحنه و اختبره فضيق عليه رزقه فيقول ربّي أذلّني و استخفّ بي.

و يظهر من مجموع الآيتين أوّلاً حيث كرّر الابتلاء و أثبته في صورتي التنعيم و الإمساك عنه أنّ إيتاء النعم و الإمساك عنه جميعاً من الابتلاء و الامتحان الإلهيّ كما قال:( وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً ) الأنبياء: 35 لا كما يراه الإنسان.

و ثانياً أنّ إيتاء النعم بما أنّه فضل و رحمة إكرام إن لم يبدّلها الإنسان نقما على نفسه.

و ثالثاً أنّ الآيتين معاً تفيدان أنّ الإنسان يرى سعادته في الحياة هي التنعّم في الدنيا بنعم الله تعالى و هو الكرامة عنده و الحرمان منه شقاء عنده و الحال أنّ الكرامة هي في التقرّب إليه تعالى بالإيمان و العمل الصالح سواء في ذلك الغنى و الفقر و أي وجدان و فقدان فإنّما ذلك بلاء و امتحان.

و لهم في معنى الآيتين وجوه اُخر تركنا التعرّض لها لقلّة الجدوى.

قوله تعالى: ( كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَ لا تَحَاضُّونَ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) ردع لقولهم: إنّ الكرامة هي في الغنى و التنعّم، و في الفقر و الفقدان هوان و مذلّة، و المعنى ليس كما تقولون و إنّما إيتاؤه تعالى النعمة و إمساكه عنه كلّ ذلك ابتلاء و امتحان يختبر به حال الإنسان من حيث عبوديّته.

و في قوله:( بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ) إلخ إضراب يؤكّد الردع بذكر بعض التنعّم الّذي لا يجامع الكرامة البتّة كعدم إكرامهم اليتيم بأكل تراثه و منعه منه و عدم التحريض على إطعام المسكين حبّاً للمال فالفطرة الإنسانيّة لا يرتاب في أن لا كرامة في غنى هذا شأنه.

و في الإضراب مضافاً إلى أصل الردع تقريع و لتشديد هذا التقريع وقع الالتفات من الغيبة إلى الخطاب.

٤١٠

فقوله:( بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ) عدم إكرامه حرمانه من تراث أبيه - كما كانوا يحرمون صغار الأولاد من الإرث - و تركه صفر الكفّ بلغ به الجهد ما بلغ كما تؤيّده الآية التالية( وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ ) إلخ.

و قوله:( وَ لا تَحَاضُّونَ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) أصله و لا تتحاضّون، و هو تحريض بعضهم بعضاً على التصدّق على المساكين المعدمين، و منشأه حبّ المال كما في الآية الآتية( وَ تُحِبُّونَ الْمالَ ) إلخ.

قوله تعالى: ( وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا ) اللمّ أكل الإنسان نصيب نفسه و غيره و أكله ما يجده من دون أن يميّز الطيّب من الخبيث، و الآية تفسير لعدم إكرامهم اليتيم كما تقدّم.

قوله تعالى: ( وَ تُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا ) الجمّ الكثير العظيم، و الآية تفسّر عدم تحاضّهم على طعام المسكين كما تقدّم.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ) الدكّ هو الدقّ الشديد، و المراد بالظرف حضور يوم القيامة.

ردع ثان عمّا يقوله الإنسان في حالي الغنى و الفقر، و قوله:( إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ ) إلخ في مقام التعليل للردع، و محصّل المعنى ليس كما يقوله الإنسان فإنّه سيتذكّر إذا قامت القيامة إنّ الحياة الدنيا و ما فيها من الغنى و الفقر و أضرابهما لم تكن مقصودة بالذات بل كانت ابتلاء و امتحاناً من الله تعالى يميّز به السعيد من الشقيّ و يهيّئ الإنسان فيها ما يعيش به في الآخرة و قد التبس عليه الأمر فحسبها كرامة مقصودة بالذات فاشتغل بها و لم يقدّم لحياته الآخرة شيئاً فيتمنّى عند ذلك و يقول: يا ليتني قدّمت لحياتي و لن يصرف التمنّي عنه شيئاً من العذاب.

قوله تعالى: ( وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) نسبة المجي‏ء إليه تعالى من المتشابه الّذي يحكمه قوله تعالى:( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ) الشورى: 11 و ما ورد في آيات القيامة من خواصّ اليوم كتقطّع الأسباب و ارتفاع الحجب عنهم و ظهور أنّ الله هو الحقّ المبين.

٤١١

و إلى ذلك يرجع ما ورد في الروايات أنّ المراد بمجيئه تعالى مجي‏ء أمره قال تعالى:( وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) الانفطار: 19، و يؤيّد هذا الوجه بعض التأييد قوله تعالى( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ ) البقرة: 210 إذا انضمّ إلى قوله:( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ ) النحل: 33 و عليه فهناك مضاف محذوف و التقدير جاء أمر ربّك أو نسبة المجي‏ء إليه تعالى من المجاز العقليّ.

و الكلام في نسبة المجي‏ء إلى الملائكة و كونهم صفّا صفّا كما مرّ.

قوله تعالى: ( وَ جِي‏ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ) إلى آخر الآية لا يبعد أن يكون المراد بالمجي‏ء بجهنّم إبرازها لهم كما في قوله تعالى:( وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى‏ ) النازعات: 36 و قوله:( وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ ) الشعراء: 91، و قوله:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق: 22.

و قوله:( يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ) أي يتذكّر أجلى التذكّر أنّ ما كان يؤتاه في الحياة الدنيا من خير أو شرّ كان من ابتلاء الله و امتحانه و أنّه قصر في أمره، هذا ما يفيده السياق.

و قوله:( وَ أَنَّى لَهُ الذِّكْرى) أي و من أين له الذكرى كناية عن عدم انتفاعه بها فإنّ الذكرى إنّما تنفع فيما أمكنه أن يتدارك ما فرّط فيه بتوبة و عمل صالح و اليوم يوم الجزاء لا يوم الرجوع و العمل.

قوله تعالى: ( يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي ) أي لحياتي هذه و هي الحياة الآخرة أو المراد الحياة الحقيقيّة و هي الحياة الآخرة على ما نبّه تعالى عليه بقوله:( وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) العنكبوت: 64.

و المراد بالتقديم للحياة تقديم العمل الصالح للحياة الآخرة و ما في الآية تمنّ يتمنّاه الإنسان عند ما يتذكّر يوم القيامة و يشاهد أنّه لا ينفعه.

قوله تعالى: ( فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَ لا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ ) ضميراً عذابه

٤١٢

و وثاقه لله تعالى و المعنى فيومئذ لا يعذّب عذاب الله أحد من الخلق و لا يوثق وثاق الله أحد من الخلق أي إنّ عذابه و وثاقه تعالى يومئذ فوق عذاب الخلق و وثاقهم، تشديد في الوعيد.

و قرئ( لا يُعَذِّبُ ) بفتح الذال و( وَ لا يُوثِقُ ) بفتح الثاء بالبناء للمفعول و ضميراً عذابه و وثاقه على هذا للإنسان و المعنى لا يعذّب أحد يومئذ مثل عذاب الإنسان و لا يوثق أحد يومئذ مثل وثاقه.

قوله تعالى: ( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ) الّذي يعطيه سياق المقابلة بين هذه النفس بما ذكر لها من الأوصاف و عيّن لها من حسن المنقلب و بين الإنسان المذكور قبل بما ذكر له من وصف التعلّق بالدنيا و الطغيان و الفساد و الكفران، و ما اُوعد من سوء المصير هو أنّ النفس المطمئنّة هي الّتي تسكن إلى ربّها و ترضى بما رضي به فترى نفسها عبداً لا يملك لنفسه شيئاً من خير أو شرّ أو نفع أو ضرّ و يرى الدنيا دار مجاز و ما يستقبله فيها من غنى أو فقر أو أيّ نفع و ضرّ ابتلاء و امتحاناً إلهيّاً فلا يدعوه تواتر النعم عليه إلى الطغيان و إكثار الفساد و العلوّ و الاستكبار، و لا يوقعه الفقر و الفقدان في الكفر و ترك الشكر بل هو في مستقرّ من العبوديّة لا ينحرف عن مستقيم صراطه بإفراط أو تفريط.

قوله تعالى: ( ارْجِعِي إِلى‏ رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً ) خطاب ظرفه جميع يوم القيامة من لدن إحيائها إلى استقرارها في الجنّة بل من حين نزول الموت إلى دخول جنّة الخلد و ليس خطاباً واقعاً بعد الحساب كما ذكره بعضهم.

و توصيفها بالراضية لأنّ اطمئنانها إلى ربّها يستلزم رضاها بما قدّر و قضى تكويناً أو حكم به تشريعاً فلا تسخطها سانحة و لا تزيغها معصية، و إذا رضي العبد من ربّه رضي الربّ منه إذ لا يسخطه تعالى إلّا خروج العبد من زيّ العبوديّة فإذا لزم طريق العبوديّة استوجب ذلك رضى ربّه و لذا عقّب قوله( راضِيَةً ) بقوله:( مَرْضِيَّةً ) .

قوله تعالى: ( فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَ ادْخُلِي جَنَّتِي ) تفريع على قوله:( ارْجِعِي

٤١٣

إِلى‏ رَبِّكِ ) و فيه دلالة على أنّ صاحب النفس المطمئنّة في زمرة عباد الله حائز مقام العبوديّة.

و ذلك أنّه لمّا اطمأنّ إلى ربّه انقطع عن دعوى الاستقلال و رضي بما هو الحقّ من ربّه فرأى ذاته و صفاته و أفعاله ملكاً طلقاً لربّه فلم يرد فيما قدّر و قضى و لا فيما أمر و نهي إلّا ما أراده ربّه، و هذا ظهور العبوديّة التامّة في العبد ففي قوله:( فَادْخُلِي فِي عِبادِي ) تقرير لمقام عبوديّتها.

و في قوله:( وَ ادْخُلِي جَنَّتِي ) تعيين لمستقرّها، و في إضافة الجنّة إلى ضمير التكلّم تشريف خاصّ، و لا يوجد في كلامه تعالى إضافة الجنّة إلى نفسه تعالى و تقدّس إلّا في هذه الآية.

( بحث روائي‏)

في المجمع: في قوله تعالى:( وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ ) ، و قيل: الشفع الخلق لأنّه قال:( وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً ) و الوتر الله تعالى: عن عطيّة العوفيّ و أبي صالح و ابن عبّاس و مجاهد و هي رواية أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قيل: الشفع و الوتر الصلاة منها شفع و منها وتر: و هي رواية عن ابن حصين عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قيل: الشفع يوم النحر و الوتر يوم عرفة: عن ابن عبّاس و عكرمة و الضحّاك، و هي رواية جابر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الوجه فيه أنّ يوم النحر يشفّع بيوم نفر بعده و يتفرّد يوم عرفة بالموقف، و قيل: الشفع يوم التروية و الوتر يوم عرفة: و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام .

أقول: الروايات الثلاث المشار إليها مرويّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طرق أهل السنّة و يمكن الجمع بينها بأنّ المراد مطلق الشفع و الوتر و الروايات من قبيل الإشارة إلى بعض المصاديق.

و في تفسير القمّيّ:( وَ لَيالٍ عَشْرٍ ) قال: عشر ذي الحجّة( وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ ) قال: الشفع ركعتان و الوتر ركعة، و في حديث: الشفع الحسن و الحسين و الوتر أمير

٤١٤

المؤمنينعليهم‌السلام ( وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ ) قال: هي ليلة جمع.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( لِذِي حِجْرٍ ) يقول: لذي عقل.

و في العلل، بإسناده إلى أبان الأحمر قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ ) لأيّ شي‏ء سمّي ذا الأوتاد؟ فقال: لأنّه كان إذا عذّب رجلاً بسطه على الأرض على وجهه و مدّ يديه و رجليه فأوتدها بأربعة أوتاد في الأرض. و ربّما بسطه على خشب منبسط فوتّد رجليه و يديه بأربعة أوتاد ثمّ تركه على حاله حتّى يموت فسمّاه الله عزّوجلّ فرعون ذا الأوتاد.

و في المجمع: في قوله تعالى:( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) وروي عن عليّعليه‌السلام أنّه قال: إنّ معناه أنّ ربّك قادر أن يجزي أهل المعاصي جزاءهم.

أقول: بناء الرواية على أخذ الجملة استعارة تمثيليّة.

و فيه، عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال: المرصاد قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة عبد.

و عن الغوالي، عن الصادقعليه‌السلام في حديث في تفسير قوله تعالى:( وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) إنّما ظنّ بمعنى استيقن أنّ الله تعالى لن يضيّق عليه رزقه أ لا تسمع قول الله تعالى:( وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ) أي ضيّق عليه.

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ) قال: هي الزلزلة.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل تدرون ما تفسير هذه الآية( كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ - إلى قوله -وَ جِي‏ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ) قال: إذا كان يوم القيامة تقاد جهنّم بسبعين ألف زمام بيد سبعين ألف ملك فتشرد شردة لو لا أنّ الله حبسها لأحرقت السماوات و الأرض.

أقول: و هو مرويّ أيضاً عن أبي سعيد و ابن مسعود و من طرق الشيعة في أمالي

٤١٥

الشيخ، بإسناده عن داود بن سليمان عن الرضا عن آبائه عن عليّعليه‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في العيون، في باب ما جاء عن الرضا من أخبار التوحيد بإسناده عن عليّ بن فضال عن أبيه قال: سألت الرضاعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) فقال: إنّ الله سبحانه لا يوصف بالمجي‏ء و الذهاب تعالى عن الانتقال إنّما يعني بذلك و جاء أمر ربّك.

و في الكافي، بإسناده عن سدير الصيرفيّ قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : جعلت فداك يا ابن رسول الله هل يكره المؤمن على قبض روحه؟ قال: لا و الله إنّه إذا أتاه ملك الموت ليقبض روحه جزع عند ذلك فيقول ملك الموت: يا وليّ الله لا تجزع فوالّذي بعث محمّداً لأنّي أبرّ بك و أشفق عليك من والد رحيم لو حضرك، افتح عينيك فانظر.

قال: و يمثّل له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أميرالمؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمّة من ذرّيّتهمعليهم‌السلام فيقال له: هذا رسول الله و أميرالمؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمّةعليهم‌السلام رفقاؤك.

قال: فيفتح عينيه فينظر فينادي روحه مناد من قبل ربّ العزّة فيقول: يا أيّتها النفس المطمئنّة إلى محمّد و أهل بيته ارجعي إلى ربّك راضية بالولاية مرضيّة بالثواب فادخلي في عبادي يعني محمّداً و أهل بيته و ادخلي جنّتي فما من شي‏ء أحبّ إليه من استلال روحه و اللحوق بالمنادي.

أقول: و روى هذا المعنى القمّيّ في تفسيره و البرقيّ في المحاسن.

٤١٦

( سورة البلد مكّيّة و هي عشرون آية)

( سورة البلد الآيات 1 - 20)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ( 1 ) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ( 2 ) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ( 3 ) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ( 4 ) أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ( 5 ) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا ( 6 ) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ ( 7 ) أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ ( 8 ) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ( 9 ) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ( 10 ) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ( 11 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ( 12 ) فَكُّ رَقَبَةٍ ( 13 ) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ( 14 ) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ( 15 ) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ( 16 ) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ( 17 ) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ( 18 ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ( 19 ) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ ( 20 )

( بيان‏)

تذكر السورة أنّ خلقة الإنسان مبنيّة على التعب و المشقّة فلا تجد شأناً من شؤن الحياة إلّا مقروناً بمرارة الكدّ و التعب من حين يلج في جثمانه الروح إلى أن يموت فلا راحة له عارية من التعب و المشقّة و لا سعادة له خالصة من الشقاء و المشأمة إلّا في الدار الآخرة عند الله.

فليتحمّل ثقل التكاليف الإلهيّة بالصبر على الطاعة و عن المعصية و ليجدّ في نشر الرحمة على المبتلين بنوائب الدهر كاليتم و الفقر و المرض و أضرابها حتّى يكون

٤١٧

من أصحاب الميمنة و إلّا فآخرته كاُولاه و هو من أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة.

و سياق آيات السورة، يشبه السياق المكّيّ فيؤيّد به كون السورة مكّيّة و قد ادّعى بعضهم عليه الإجماع، و قيل: السورة مدنيّة و السياق لا يساعد عليه، و قيل: مدنيّة إلّا أربع آيات من أوّلها و سيأتي في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ ) ذكروا أنّ المراد بهذا البلد مكّة و تؤيّده مكّيّة سياق السورة و قوله:( وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ ) خاصّة بناء على كون المراد بوالد هو إبراهيمعليه‌السلام على ما سيجي‏ء.

قوله تعالى: ( وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ) حال من هذا البلد، و وضع الظاهر موضع الضمير في قوله:( بِهذَا الْبَلَدِ ) للدلالة على عظم شأنه و الاعتناء بأمره و هو البلد الحرام، و الحلّ مصدر كالحلول بمعنى الإقامة و الاستقرار في مكان و المصدر بمعنى الفاعل.

و المعنى اُقسم بهذا البلد و الحال أنك حالٌ به مقيم فيه و في ذلك تنبيه على تشرّف مكّة بحلولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها و كونها مولده و مقامه.

و قيل: الجملة معترضة بين القسم و المقسم به و المراد بالحلّ المستحلّ الّذي لا حرمة له قال في الكشاف: و اعترض بين القسم و المقسم عليه بقوله:( وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ) يعني و من المكابدة أنّ مثلك على عظم حرمتك يستحلّ بهذا البلد الحرام كما يستحلّ الصيد في غير الحرم - عن شرحبيل - يحرّمون أن يقتلوا بها صيداً و يعضدوا(1) بها شجرة و يستحلّون إخراجك و قتلك، و فيه تثبيت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بعث على‏ احتمال ما كان يكابد من أهل مكّة و تعجيب من حالهم في عداوته انتهى.

ثمّ قال: أو سلّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقسم ببلده أنّ الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد و اعترض بأن وعده فتح مكّة تتميماً للتسلية و التنفيس عنه فقال:( وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ) يعني و أنت حلّ به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل و الأسر إلى آخر ما قال، و محصّله تفسير الحلّ بمعنى المحلّ ضدّ المحرم، و المعنى و سنحلّ لك يوم فتح مكّة حيناً فنقاتل و تقتل فيه من شئت.

____________________

(1) عضد الشجرة: قطعها و نثر ورقها للإبل. و شرحبيل راوي الحديث.

٤١٨

قوله تعالى: ( وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ ) لزوم نوع من التناسب و الارتباط بين القسم و المقسم عليه يستدعي أن يكون المراد بوالد و ما ولد من بينه و بين البلد المقسم به نسبة ظاهرة و ينطبق على إبراهيم و ولده إسماعيلعليهما‌السلام و هما السببان الأصليّان لبناء بلدة مكّة و البانيان للبيت الحرام قال تعالى:( وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ ) البقرة: 127 و إبراهيمعليه‌السلام هو الّذي سأل الله أن يجعل مكّة بلداً آمنا قال تعالى:( وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ) إبراهيم: 35. و تنكير( والِدٍ ) للتعظيم و التفخيم، و التعبير بقوله( وَ ما وَلَدَ ) دون أن يقال: و من ولد، للدلالة على التعجيب من أمره مدحاً كما في قوله:( وَ اللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ ) آل عمران: 36.

و المعنى و اُقسم بوالد عظيم الشأن هو إبراهيم و ما ولد من ولد عجيب أمره مبارك أثره و هو إسماعيل ابنه و هما البانيان لهذا البلد فمفاد الآيات الثلاث الإقسام بمكّة المشرّفة و بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي هو حلّ فيها و بإبراهيم و إسماعيل اللّذين بنياها.

و قيل: المراد بالوالد إبراهيم و بما ولد جميع أولاده من العرب.

و فيه أنّ من البعيد أن يقارن الله سبحانه بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إبراهيمعليه‌السلام و بين أمثال أبي لهب و أبي جهل و غيرهم من أئمّة الكفر فيقسم بهم جميعاً في سياق، و قد تبرّأ إبراهيمعليه‌السلام ممّن لم يتّبعه من بنيه على التوحيد إذ قال فيما حكاه الله:( وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) إبراهيم: 36.

فعلى من يفسّر ما ولد بأولاد إبراهيم أن يخصّهم بالمسلمين من ذرّيّته كما في دعاء إبراهيم و إسماعيل عند بنائهما الكعبة على ما حكاه الله:( رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا ) البقرة: 128.

و قيل: المراد بوالد و ما ولد، آدمعليه‌السلام و ذرّيّته جميعاً بتقريب أنّ المقسم عليه بهذه الأقسام خلق الإنسان في كبد و قد سنّ الله في خلق هذا النوع و إبقاء وجوده سنّة الولادة فقد أقسم في هذه الآيات بمحصول هذه السنّة و هو الوالد و ما ولد على أنّ الإنسان في كدّ و تعب بحسب نوع خلقته من حين يحيى إلى حين يموت.

٤١٩

و هذا الوجه في نفسه لا بأس به لكن يبقى عليه بيان المناسبة بين بلدة مكّة و بين والد و كلّ مولود في الجمع بينهما في الأقسام.

و قيل: المراد بهما آدم و الصالحون من ذرّيّته، و كأنّ الوجه فيه تنزيهه تعالى من أن يقسم بأعدائه الطغاة و المفسدين من الكفّار و الفسّاق.

و قيل: المراد بهما كلّ والد و كلّ مولود و قيل: من يلد و من لا يلد منهم بأخذ( ما ) في( ما وَلَدَ ) نافية لا موصولة.

و قيل: المراد بوالد هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بما ولد اُمّته لأنّه بمنزلة الأب لاُمّته و هي وجوه بعيدة.

قوله تعالى: ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ ) الكبد الكدّ و التعب، و الجملة جواب القسم فاشتمال الكبد على خلق الإنسان و إحاطة الكدّ و التعب به في جميع شؤن حياته ممّا لا يخفى على ذي لبّ فليس يقصد نعمة من نعم الدنيا إلّا خالصة في طيبها محضة في هنائها و لا ينال شيئاً منها إلّا مشوبة بما ينغّص العيش مقرونة بمقاساة و مكابدة مضافاً إلى ما يصيبه من نوائب الدهر و يفاجئه من طوارق الحدثان.

قوله تعالى: ( أَ يَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ) بمنزلة النتيجة لحجّة الآية السابقة تقريرها أنّ الإنسان لمّا كانت خلقته مبنيّة على كبد مظروفة له لا ينال قطّ شيئاً ممّا يريد إلّا دون ما يريد أو غير ما يريد فهو محاط في خلقه مغلوب في إرادته مقهور فيما قدّر له من الأمر و الّذي يغلبه في إرادته و يقهره على التلبّس بما قدّر له و هو الله سبحانه يقدر عليه من كلّ جهة فله أن يتصرّف فيه بما شاء و يأخذه إذا أراد.

فليس للإنسان أن يحسب أن لن يقدر عليه أحد فيدعوه ذلك إلى أن يعلو على الله و يستكبر عن عبادته أو يعطيه في بعض ما أمر به كالإنفاق في سبيله فيستكثره و يمتنّ به على الله أو يمكر به تعالى بعد ما عمله رياء و سمعة عملاً لوجه الكريم فيقول: أهلكت مالاً لبدا.

قوله تعالى: ( يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً ) اللبد الكثير، سياق الآية و ما يتلوها من الآيات إلى آخر السورة مشعر بأنه كان هناك بعض من أظهر الإسلام أو مال إليه

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429