الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ

الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ0%

الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 199

الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 199 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 83756 / تحميل: 4903
الحجم الحجم الحجم
الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ

الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ

مؤلف:
العربية

وفوق ذلك كانوا يبرهنون على صحة نبوتهم بالمعاجز الباهرة والبراهين القاطعة؟

خامسا: الردّ على الصابئة:

ثم وصلت النوبة إلى عمران الصابى ء، وكان واحدا من المتكلمين، فسأل الإمامعليه‌السلام عن الكائن الأول وعمّا خلق.

قالعليه‌السلام : «سألت فافهم، أمّا الواحد فلم يزل واحدا كائنا لا شيء معه بلا حدود ولا أعراض ولايزال كذلك واعلم يا عمران أنّه لو كان خلق ما خلق لحاجةٍ لم يخلق إلاّ من يستعين به على حاجته، ولكان ينبغي أن يخلق أضعاف ما خلق لأنَّ الأعوان كلَّما كثروا كان صاحبهم أقوى، والحاجة يا عمران لا يسعها لأنّه لم يُحدث من الخلق شيئا إلاّ حدثت فيه حاجةٌ اُخرى، ولذلك أقول: لم يخلق الخلق لحاجةٍ، ولكن نقل بالخلق الحوائج بعضهم إلى بعض وفضَّل بعضهم على بعض، بلا حاجةٍ منه إلى من فَضَّل، ولا نقمةٍ منه على من أذلَّ، فلهذا خَلقَ.

وتطرق معه في النقاش لمسائل مختلفة في توحيد اللّه وأسفرت هذه المناظرة عن اعتراف عمران الصابى ء بصواب أجوبة الإمام الرضاعليه‌السلام على أسئلته الحساسة والمختلفة، وعلى إثر ذلك أعلن إسلامه أمام المأمون مخاطباً الإمام الرضاعليه‌السلام بقوله: قد فهمتُ وأشهدُ أنَّ اللّه على ما وصفتهُ ووحدتهُ، وأنَّ محمدا عبدهُ المبعوث بالهدى ودين الحقِّ، ثمّ خرَّ ساجدا نحو القبلة وأسلَمَ.

قال الحسنُ بن محمد النَّوفليّ: فلما نظر المتكلمون إلى كلام عمران الصابى ء، وكان جدلاً لم يقطعه عن حجّته أحد قط، لم يدنُ من الرِّضاعليه‌السلام

١٠١

أحد منهم ولم يسألوه عن شيءٍ، وأمسينا فنهض المأمون والرِّضاعليه‌السلام فدخلا وانصرف الناس(١) .

ويلاحظ أن الإمامعليه‌السلام قد اتبع المنهج العقلي مع غير أهل الكتاب كأصحاب زرادشت ورؤساء الصابئين، وذلك لأن هؤلاء لا يؤمنون بالنقل أو النصوص من حيث الأساس.

سادسا: الرَّد على الزنادقة

وإذا أمعنا النظر في طريقة حواره مع الزنادقة نجد أنه اتبع معهم ذات المنهج الأخير - أي المنهج العقلي - لعدم إيمان هؤلاء باللّه تعالى وكتبه وأنبيائه، وكان يتبع مع أمثال هؤلاء أسلوب (التداول الحرّ للأفكار)، يتّضح لنا ذلك من خلال حوار الإمامعليه‌السلام مع أحد الزنادقة:

عن محمد بن عبد اللّه الخراساني، خادم الرضاعليه‌السلام ، قال: دخل رجل من الزنادقة على الرضاعليه‌السلام وعنده جماعة، فقال له أبو الحسنعليه‌السلام : «أرأيت إن كان القول قولكم، وليس هو كما تقولون، ألسنا وإياكم شرع سواء، ولا يضرّنا ما صلينا وزكينا وأقررنا؟ » فسكت، فقال أبو الحسنعليه‌السلام : «وإن يكن القول قولنا، وهو قولنا، وكما نقول، ألستم قد هلكتم ونجونا؟ ».

قال: رحمك اللّه فأوجدني كيف هو؟ وأين هو؟ قال: «ويلك، إن الذي ذهبت إليه غلط، وهو أيّن الأين ولا أين، وكيّف الكيف وكان ولا كيف، فلا يُعرف بكيفوفية، ولا بأينونية، ولا يدرك بحاسة ولا يُقاس بشيء ».

قال الرجل: فإذن انه لا شيء إذا لم يدرك بحاسة من الحواس!

__________________

(١) التوحيد: ٤١٧ - ٤٤٠، باب (٦٥).

١٠٢

فقال أبو الحسنعليه‌السلام : «ويلك إذا عجزت حواسك عن إدراكه أنكرت ربوبيته، ونحن إذا عجزت حواسنا عن ادراكه أيقنّا انه ربنا، وأنه شيء بخلاف الأشياء ».

قال الرجل: فأخبرني متى كان؟!

قال أبو الحسنعليه‌السلام : «أخبرني متى لم يكن، فأخبرك متى كان؟! ».

قال الرجل: فما الدليل عليه؟

قال أبو الحسنعليه‌السلام : «إني لما نظرت إلى جسدي فلم يمكني زيادة ولا نقصان في العرض والطول ودفع المكاره عنه وجرّ المنفعة اليه، علمت أن لهذا البنيان بانيا، فأقررت به، مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته، وإنشاء السحاب، وتصريف الرياح، ومجرى الشمس والقمر والنجوم، وغير ذلك من الآيات العجيبات المتقنات، علمت أن لهذا مقدّرا ومنشأً ».

قال الرجل: فلم احتجب؟

فقال أبو الحسنعليه‌السلام : «إنّ الحجاب على الخلق، لكثرة ذنوبهم، فأما هو فلا يخفى عليه خافية في آناء الليل والنهار ».

قال: فلم لا تدركه حاسة الأبصار؟

قال: «للفرق بينه وبين خلقه الذين تدركهم حاسة الأبصار منهم ومن غيرهم، ثم هو أجلّ من أن يدركه بصر أو يحيطه وهم أو يضبطه عقل ».

قال: فحده لي؟

قال: «لا حدّ له »، قال: ولم؟

قال: « لأن كل محدود متناه إلى حدّ، وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة، واذا احتمل الزيادة احتمل النقصان، فهو غير محدود ولا متزايد

١٠٣

ولا متناقص ولا متجزيء ولا متوهَّم »(١) .

نستخلص من هذا النص ومما سبقه أن الإمامعليه‌السلام كان يحاجج الخصوم بصدر رحب وطول نفس، وبأسلوب يتناسب مع عقلية الخصم سواء كان من أهل الكتاب أو غيرهم ليلزمهم بما ألزموا به أنفسهم.

المبحث الثاني: حواراته مع أهل الإسلام

لم يهدف الإمام الرضاعليه‌السلام من مناظراته وخاصة مع أهل الإسلام إلى كسب المناظرة والحوار، وإنما إلى إيصال الحقيقة الدينية الصحيحة، وتنقية العقيدة الإسلامية من كل الشوائب التي لحقت بها والشبهات التي تثار حولها، خصوصا بعد أن اختلط الحقّ بالباطل، والتبست السنّة بالبدعة. والملاحظ أنه اعتمد في مناظراته مع أهل الإسلام على المنهج النقلي - من قرآن وسنّة نبوية - بصورة أساسية. وكان ينتزع إجاباته من هذين المصدرين بدون تكلف أو اعتساف في تحميل النصوص. علما بأن المأمون قد جهد منذ البداية على إحراج الإمام الرضاعليه‌السلام أمام أهل الأديان والملل المختلفة الذين حشدهم من كل ملة ومكان لأجل هذه الغاية.

ولكنه خابت ظنونه بأهل الأديان وخسر الصفقة، ومن هنا حاول أن يعيد التجربة، فحشد له - هذه المرّة - أبرز علماء الإسلام ومتكلميه، أمثال: علي بن محمد بن الجهم ويحيى بن الضحاك السمرقنديّ وسليمان المروزيّ، وكان العالمان الأخيران من أبرز علماء خراسان في ذلك الزمان.

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام : ١ / ١٢٠، ح ٢٨، باب (١١).

١٠٤

وكان المأمون يأمرهم بإثارة مواضيع حساسة مع الإمام الرضاعليه‌السلام ، كمسألة عصمة الأنبياء، ومسألة الإمامة، والبداء، وما إلى ذلك.

أولاً: مناظرتهعليه‌السلام حول عصمة الأنبياءعليهم‌السلام

يعتقد أئمة أهل البيتعليهم‌السلام أن الأنبياء (صلى اللّه عليهم) معصومون، بمعنى عدم اقترافهم جريمة ولا ذنب ولا خطيئة حتى الغلط والخطأ والسهو والغفلة والنسيان. ومعصومون كذلك عن كل ما ينفي الحشمة والكرامة منذ ولادتهم وإلى وفاتهم. والشيعة الإمامية يقولون بعصمة الأنبياء قبل البعثة وبعدها، ويستدلّون على وجوب عصمتهم بأدلّة عقلية عديدة.

ولما كان بعض المسلمين يجوّز صغائر الذنوب على الأنبياء، كالمعتزلة، والبعض الآخر كالأشعرية والحشوية يُجوز ارتكابهم الكبائر فضلاً عن الصغائر، إلاّ الكفر والكذب، ويستدلون على ذلك بظواهر بعض الآيات القرآنية.

وجد أئمة أهل البيتعليهم‌السلام أن هذا الفهم يتصادم مع العقل ولا يليق بمكانة الأنبياءعليهم‌السلام ومنزلتهم، ويترك آثارا سلبية على العقيدة الإسلامية، فقاموا، وهم تراجم القرآن، ببيان شافٍ لجميع الآيات التي يظهر منها نسبة الخطأ أو المعصية للأنبياء (عليهم الصلاة والسلام)، وقد قام إمامنا الرضاعليه‌السلام بإماطة الستار عن المعاني القرآنية الحقيقية التي تتحدّث عن الأنبياء والرُّسل، وبدّد ضباب الغبش والتشويش وسوء الفهم الذي حجب دلالاتها.

عن أبي الصلت الهروي قال: لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضاعليه‌السلام

١٠٥

أهل المقالات، فلم يقم أحد إلاّ وقد ألزمه حجّته كأنه أُلقم حجرا، قام إليه علي بن محمد بن الجهم، فقال له: يابن رسول اللّه أتقول بعصمة الأنبياء؟

قال: «نعم ».

قال: فما تعمل في قول اللّه عزّوجلّ:( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) (١) وفي قوله عزّوجلّ:( وَذَا النُّونِ إذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ) (٢) وفي قوله عزّوجلّ في يوسفعليه‌السلام :( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ) (٣) وفي قوله عزّوجلّ في داودعليه‌السلام :( وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ) (٤) وقوله تعالى في نبيه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللّه مُبْدِيهِ ) ؟(٥) .

فقال الرضاعليه‌السلام : «ويحك يا علي، اتقِ اللّه ولا تنسب إلى أنبياء اللّه الفواحش، ولا تتأوّل كتاب اللّه برأيك، فإنّ اللّه عزّوجلّ قال: ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّه وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) (٦) .

وأما قوله عزّوجلّ في آدم عليه‌السلام : ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) فإن اللّه عزّوجلّ خلق آدم حجّة في أرضه وخليفته في بلاده لم يخلقه للجنّة وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض وعصمته يجب أن تكون في الأرض ليتمّ مقادير أمر اللّه، فلما أهبط إلى الأرض وجعل حجّة وخليفة

__________________

(١) سورة طه: ٢٠ / ١٢١.

(٢) سورة الأنبياء: ٢١ / ٨٧.

(٣) سورة يوسف: ١٢ / ٢٤.

(٤) سورة ص: ٣٨ / ٢٤.

(٥) سورة الأحزاب: ٣٣ / ٣٧.

(٦) سورة آل عمران: ٣ / ٧.

١٠٦

عُصم بقوله عزّوجلّ:( إِنَّ اللّه اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (١) »(٢) .

وعلى هذا السياق أجابعليه‌السلام عن التهمة الشنيعة التي نسبت إلى داودعليه‌السلام من أنه اطلع في دار قائده «أوريا» فعشق امرأته فقدّمه أمام التابوت في المعركة فقُتِل وتزوّج بامرأته! فنسبوا داودعليه‌السلام - زورا وبهتانا - إلى الفاحشة ثمّ القتل.

كما كشف عن سبب إخفاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما بنفسه من أمر زواجه بزينب بنت جحش فقد أطلعه اللّه تعالى على أسماء أزواجه فوجد اسم زينب مع أسمائهن وكانت تحت زيد بن حارثة فخشي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المنافقين إن أخبر عن ذلك، فعاتبه تعالى بقوله:( وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللّه أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ) (١) . وليس في هذا ذنب أو ارتكاب معصية.

ومن المناسب التذكير بأن أحاديث أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام في تنزيه الأنبياء كثيرة مبثوثة في كتب الحديث والتفسير، ومنها استقى السيد الشريف المرتضى ردوده في كتابه (تنزيه الأنبياء).

وفي رواية أخرى أجاب الإمامعليه‌السلام على سؤال علق بذهن المأمون حول طلب موسىعليه‌السلام من ربه الرؤية، مع علمه باستحالة رؤيته تعالى بالأبصار؟!، فقال الرِّضاعليه‌السلام : «إنَّ كليمَ اللّه موسى بن عمران عليه‌السلام عَلِمَ أنَّ اللّه تعالى عن أن يُرى بالأبصار، ولكنه لمّا كلَّمه عزَّوجلَّ وقرَّبه نجيّا رجع إلى

__________________

(١) سورة آل عمران: ٣ / ٣٣.

(٢) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ١٩١ / ١ باب (١٤).

(٣) سورة الأحزاب: ٣٣ / ٣٧.

١٠٧

قومه فأخبرهم أنَّ اللّه عزَّ وجلَّ كلَّمه وقرَّبه وناجاه، فقالوا: لن نؤمن لك حتى سمع كلامهُ كما سمعت فاختار منهم سبعين رجلاً لميقات ربِّه، فخرج بهم إلى طور سيناء، فأقامهم في سفح الجبل، وصعد موسىعليه‌السلام إلى الطُّور وسأل اللّه تبارك وتعالى أن يُكلّمه ويُسمعهم كلامه، فكلَّمه اللّه تعالى ذكره وسمعوا من فوقٍ وأَسفلَ ويمينٍ وشمالٍ ووراءٍ وأمام، لأن اللّه عزَّوجلَّ أحدثهُ في الشَّجرةِ، ثم جعلهُ منبعثا منها حتّى سمعوه من جميع الوجوه.

فقالوا: لن نؤمنَ لكَ بأَنَّ هذا الَّذي سمعناه كلام اللّه حتى نرى اللّه جهرةً!! فلما قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا، بعث اللّه عزَّوجلَّ عليهم صاعقةً فأخذتهم بظُلمهم فماتوا، فقال موسى: يا ربِّ ما أقولُ لبني إسرائيلَ إذا رجعتُ إليهم وقالوا: إنَّك ذهبت بهم فقتلتهم لأنَّكَ لم تكن صادقا فيما ادَّعيت من مناجاة اللّه إياك؟ فأحياهم اللّه وبعثهم معه، فقالوا: إنك لو سألت اللّه أن يُريك أن تنظرَ إليه لأجابك وكنت تُخبرنا كيف هو فنعرفهُ حقَّ معرفته.

فقال موسىعليه‌السلام : يا قوم إنَّ اللّه لا يُرى بالأبصار ولا كيفيَّة له، وإنَّما يُعرفُ بآياته ويُعلم بأعلامه، فقالوا: لن نؤمن لك حتّى تسألهُ، فقال موسىعليه‌السلام : يا ربِّ إنّك قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم، فأوحى اللّه جلَّ جلاله إليه: يا موسى اسألني ما سألوك فلن أؤاخِذكَ بجهلهم، فعند ذلك قال موسىعليه‌السلام :( رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ ) وهو يهوي( فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ) بآيةٍ من آياته( جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ ) يقولُ: رجعتُ إلى معرفتي بك عن جهلِ قومي( وَأَنا

١٠٨

أَوَّلُ الْمُؤمِنِينَ ) (١) منهم بأنّك لا تُرى »، فقال المأمون: للّه دَرُّك يا أبا الحسن(٢) .

ثانيا: مناظرتهعليه‌السلام حول الإمامة

تمثل الإمامة معلما أساسيا من معالم الإسلام، التي بينها رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأمة إكمالاً للدين وإتماما للنعمة. وهي تمثل - من جانب آخر - لبنة أساسية في بنية الفكر الإسلامي عامة والشيعي على وجه الخصوص، لا سيما إذا ما عرفنا بان التشيع هو تجسيد لمبدأ الإمامة.

وفي ظل التجميد المتعمد لإطروحة الإمامة، حاول الأئمةعليهم‌السلام الاحتفاظ بهذه الإطروحة حية في وعي الأمة ولو على المستوى النظري، لأن غيابها من ذاكرة الأمة تأكيد لحالة المصادرة وإلغاء لهذا المفهوم الهام من منظومة الأفكار والمفاهيم المتحركة في واقع التصور الإسلامي.

وكنا قد ذكرنا في الفصل الثالث موقف الإمام الرضاعليه‌السلام من الإمامة، ويهمّنا هنا أن نستشهد بنماذج من مناظراته حول موضوع الإمامة كشاهد على ذلك.

وصف الرّيان بن الصلت مجلساً للمأمون بمرو، وقد اجتمع فيه جماعة من علماء أهل العراق وخراسان، وتطرّق الحديث لعدّة محاور تتعلّق بإمامة أهل البيتعليهم‌السلام وفضائلهم، هي:

__________________

(١) سورة الأعراف: ٧ / ١٤٣.

(٢) كتاب التوحيد، الصّدوق: ١٢١، ح ٢٤، باب (٨).

١٠٩

١ - الفرق بين العترة والأمة

دار الحوار حول تفسير بعض الآيات القرآنية التي تدل على أفضلية ومكانة أهل البيتعليهم‌السلام وبالتالي أهليتهم للإمامة، ولكنها فُسِّرت على غير معناها الحقيقي، وضُرب حولها سور هائل من التعتيم، فأزال إمامنا سوء الفهم الحاصل، وحدّدَ المعنى المراد.

والملاحظ أنه استعمل المنهج «النقلي» معتمدا على القرآن والسنة، ومستعملاً في التفسير منهج «التفسير الموضوعي» وليس المنهج التجزيئي الذي ينظر للآية بمعزل عن الآيات الأخرى، وقد مرّ نص هذا الحوار في الفصل الثالث، وعرفنا كيف احتج الإمامعليه‌السلام بنصوص كثيرة من القرآن الكريم تلاها على مسامع المأمون ومن كان معه بكل بسالة ولم يأبه بالمأمون ولا بحاشيته أو مخالفيه في العقيدة.

٢ - استعراض الآيات الدالة على اصطفاء الأئمةعليهم‌السلام

ثمّ طلب منه العلماء أن يستشهد بآيات تدل على اصطفاء اللّه تعالى لآل البيتعليهم‌السلام في الكتاب، فذكر اثنتا عشرة آية تدل على ذلك: منها (آية الإنذار) و (آية التطهير) و (المباهلة) وعند آية (المودّة في القربى) قال: « وهذه خصوصية للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى يوم القيامة وخصوصية للآل دون غيرهم، وذلك ان اللّه عزّوجلّ حكى في ذكر نوح في كتابه:( وَيَا قَوْمِ لاَ أَسْأَلُكُم عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّه ) (١) وحكى عزّوجلّ عن هود انه قال:( يَاقَوْمِ

__________________

(١) سورة هود: ١١ / ٢٩.

١١٠

لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَني أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) (١) وقال عزّوجلّ لنبيه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( قُلْ ) يا محمد( لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (٢) ولم يفرض اللّه تعالى مودّتهم إلاّ وقد علم انهم لا يرتدون عن الدين أبدا ولا يرجعون إلى ضلال أبدا فأي فضيلة وأي شرف يتقدم هذا أو يدانيه؟ »(٣) .

والمفارقة العجيبة أنه في الوقت الذي يقرع فيه الإمامعليه‌السلام أسماعهم بهذه الاستدلالات والشواهد القرآنية البديعة التي لاينكرها إلاّ أعمى أو معاند، قالت العلماء: يا أبا الحسن، هذا الشرح وهذا البيان لايوجد إلاّ عندكم معاشر أهل بيت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !

فقال: « ومن ينكر لنا ذلك ورسول اللّه يقول: أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأتها من بابها؟ ففيما أوضحنا وشرحنا من الفضل والشرف والتقدمة والاصطفاء والطهارة ما لا ينكره إلاّ معاند للّه عزّوجلّ »(٤) .

٣ - مكانة آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ربّهم عزّوجلّ

من اللفتات القرآنية البديعة التي تكشف عن عمق إمامنا المعرفي بالقرآن وكونه أحد تراجمته، جوابه البديع للمأمون عندما طلب منه أن يستدل على مكانة الآل في القرآن حتى يكون ألزم للخصم مما تقدم، فقال

__________________

(١) سورة هود: ١١ / ٥١.

(٢) سورة الشورى: ٤٢ / ٢٣.

(٣) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٢١٧، ح ١، باب (٢٣).

(٤) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٢١٧، ح ١، باب (٢٣).

١١١

أبو الحسنعليه‌السلام : «نعم، أخبروني عن قول اللّه عزّوجلّ: ( يسآ * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (١) فمن عني بقوله يس؟ ».

قالت العلماء: يس محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يشك فيه أحد.

قال أبو الحسن: «فإن اللّه عزّوجلّ أعطى محمداً وآل محمد من ذلك فضلاً لا يبلغ أحد كنه وصفه إلاّ مَن عقله، وذلك أن اللّه عزّوجلّ لم يُسلم على أحد إلاّ على الأنبياء صلوات اللّه عليهم، فقال تبارك وتعالى: ( سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ) (٢) وقال: ( سَلاَمٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) (٣) وقال: ( سَلاَمٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ) (٤) ولم يقل: سلام على آل نوح، ولم يقل: سلام على آل ابراهيم، ولا قال: سلام على آل موسى وهارون، وقال عزّوجلّ: ( سَلاَمٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ) (٥) يعني آل محمد صلوات اللّه عليهم ».

فقال المأمون: لقد علمت ان في معدن النبوة شرح هذا وبيانه(٦) .

٤ - الأئمةعليهم‌السلام هم أهل الذكر:

ضمن سياق الحوار الذي دار في هذا المجلس كان حديث الإمام ينساب كنهر متدفق، فتطرق معهم إلى مفهوم «أهل الذكر» ولفت نظرهم

__________________

(١) سورة يآس: ٣٦ / ١ - ٤.

(٢) سورة الصافات: ٣٧ / ٧٩.

(٣) سورة الصافات: ٣٧ / ١٠٩.

(٤) سورة الصافات: ٣٧ / ١٢٠.

(٥) سورة الصافات: ٣٧ / ١٣٠.

(٦) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٢١٤، ح ١، باب (٢٣).

١١٢

الى هذا المفهوم الهام الذي أريد له أن يغيب عن الأذهان ويمحى عن الذاكرة ويُسدل عليه ستار النسيان، من خلال التفسير القاصر، قال لهم: «فنحن أهل الذكر فاسألونا إن كنتم لا تعلمون ».

فقالت العلماء: إنما عنى اللّه بذلك اليهود والنصارى.

فقال أبو الحسنعليه‌السلام : «سبحان اللّه! وهل يجوز ذلك؟ يدعونا إلى دينهم، ويقولون: انه أفضل من دين الإسلام! ».

فقال المأمون: فهل عندك في ذلك شرح بخلاف ما قالوه يا أبا الحسن؟ فقال أبو الحسنعليه‌السلام : «نعم، الذكر رسول اللّه، ونحن أهله، وذلك بيّن في كتاب اللّه عزّوجلّ حيث يقول في سورة الطلاق :( فَاتَّقُوا اللّه يَا أُوْلِي الاْءَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللّه إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللّه مُبَيِّنَاتٍ ) (١) فالذكر رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونحن أهله »(٢) .

وفي نهاية المطاف اعترف المأمون ومن معه من العلماء بمقدرة الإمام العلمية وأنه بحر زاخر، وأقرّوا بأفضلية أهل البيتعليهم‌السلام ، وقالوا: «جزاكم اللّه أهل بيت نبيكم عن هذه الأمة خيرا، فما نجد الشرح والبيان فيما اشتبه علينا إلاّ عندكم»(٣) .

٥ - في الواقع التاريخي للخلافة

من المعروف أن الإمامة كانت - ومازالت - موضوعا ساخنا يثير

__________________

(١) سورة الطلاق: ٦٥ / ١٠ - ١١.

(٢) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٢١٦، ح ١، باب (٢٣).

(٣) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٢٠٧ - ٢١٧، ح ١، باب (٢٣)، وأمالي الشيخ الصّدوق: ٦١٥، المجلس (٧٩).

١١٣

الجدل وتختلف حوله الأقوال وتتباين فيه وجهات النظر، وقد اعتبر البعض بأن ما حدث في السقيفة قد تجاوزه التاريخ وغدا حقيقة واقعة ليس من المناسب أن تمسّها يد المراجعة والتقييم، ولكن الرؤية الموضوعية تقرّر بأن هناك أحداثا تشكل انعطافة مهمة على صعيد التاريخ الإنساني تبقى تداعياتها حية مهما طالت الفترة الزمنية، وموضوع الإمامة واحد من هذه المواضيع الجسام التي ما زالت تبعات ما أحاط بها من أحداث تنعكس سلبا على كافة الاصعدة الإسلامية: الفكرية والسياسية والاجتماعية.

والمعالجة الجادة ينبغي أن تنطلق من التشخيص الدقيق لأسباب المشكلة، وهنا نجد أن إمامنا الرضاعليه‌السلام قد وضع إصبعه على موضع الداء، فالإمامة شغلها بعد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من لم يكن لها أهلاً، ثم لم يحدث أن تدارك المسلمون ذلك، بل أمضوه حتى تلاحقت فصوله الأخرى، فتراكم الخطأ.

وصف محمد بن يحيى الصولي مجلساً للمأمون بحضرة الإمام الرضا وثلّة من كبار أهل العلم الذين دعاهم المأمون لمناظرة الإمامعليه‌السلام ، فأداروا أمر الإمامة، فتكلم متكلّمهم يحيى بن الضحاك السمرقندي فقال: نتكلم في الإمامة، كيف ادعيت لمن لم يَؤم وتركت من أمّ ووقع الرضا به؟

فقال له: «يا يحيى أخبرني عمن صدّق كاذبا على نفسه، أو كذّب صادقا على نفسه، أيكون محقّا مصيبا أو مبطلاً مخطئا؟ » فسكت يحيى، فقال له المأمون: أجبه، فقال: يعفيني أمير المؤمنين من جوابه، فقال المأمون: يا أبا الحسن عرّفنا الغرض في هذه المسألة.

فقالعليه‌السلام : «لا بدّ ليحيى من أن يخبر عن أئمته؛ كذبوا على أنفسهم أو

١١٤

صدقوا؟ فإن زعم أنهم كذبوا، فلا أمانة لكذاب، وإن زعم أنهم صدقوا، فقد قال أولهم: ولّيتكم ولست بخيركم، وقال تاليه: كانت بيعته فلتة، فمن عاد لمثلها فاقتلوه، فواللّه مارضي لمن فعل مثل فعلهم إلاّ بالقتل، فمن لم يكن بخير الناس، والخيرية لا تقع إلاّ بنعوت منها: العلم، ومنها الجهاد، ومنها سائر الفضائل وليست فيه، ومن كانت بيعته فلتة يجب القتل على من فعل مثلها، كيف يقبل عهده إلى غيره وهذه صورته؟! ثمّ يقول على المنبر: إنّ لي شيطانا يعتريني، فإذا مال بي فقوموني، وإذا أخطأت فارشدوني، فليسوا أئمة بقولهم، إن صدقوا، أو كذبوا، فما عند يحيى في هذا جواب ».

فعجب المأمون من كلامه، وقال: يا أبا الحسن ما في الأرض من يحسن هذا سواك(١) .

والملفت للنظر أن إمامناعليه‌السلام في هذا الحوار قد اتبع منهجا فريدا، فلم يستعمل في مناظرته الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية الكثيرة التي يمكن الاستدلال بها على إمامة أهل البيتعليهم‌السلام ، فلعلّه يعلم بأن الغوص في هذا قد يؤدي إلى تجريدات فكرية لا يلتزم القوم بمدلولاتها، لذلك درس مسألة الإمامة في إطارها التاريخي محاولاً إلقاء الضوء على الحقائق كما هي من خلال أقوال أقطاب السقيفة بدون تأويل أو تفسير، فكثيرا ما يتأثر الناس بالتفسير الذي يأتيهم لحدث أكثر ما يتأثرون بالحدث نفسه، وهنا وضعهم الإمامعليه‌السلام وجها لوجه أمام الحدث، عارضا بأمانة تصريحات القوم التي أدلوا بها في قلب الحدث ودلالاتها ؛ وحينئذ يكتشف كل منصف الحقيقة بنفسه.

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢: ٢٥٥، ح ١، باب (٥٧).

١١٥

ثالثا: مناظرتهعليه‌السلام حول البداء

البداء من المسائل المعقدة التي كثر الجدل والنزاع حولها قديما وحديثا بين الفلاسفة والعلماء من السنة والشيعة، ولكل من الفريقين رأي واتجاه.

فما هو البداء؟

البَداء - لغةً: ظهور الشيء بعد خفائه وبدا له في هذا الأمر بداءً، أي: تغير رأيه عمّا كان عليه بعد أن ظهر له فيه رأي آخر(١) .

وقد اتُهم الشيعة بنسبة الجهل إلى اللّه تعالى استنادا إلى المعنى اللغوي المتقدم للبَداء، والحال أن الشيعة يتبرأون من هذه التهمة الشنيعة، وهم يكفّرون كل من ينسب الجهل إلى اللّه تعالى، ويرون بأنه تعالى لا تخفى عليه خافية في السماوات والأرض، وأنه ليس محلاً للحوادث والتغيرات، لاستلزام ذلك خروجه - عزّوجلّ - عن حضيرة الوجوب إلى الإمكان، زد على ذلك أن الشيعة متفقون على أن اللّه تعالى عالم بالجزئيات كعلمه بالكليات، وعلمه بالمعدوم كعلمه بالموجود، وآراء الشيعة هذه مدونة في عشرات الكتب والرسائل والبحوث تحت عنوان «البَداء»(١) .

والحال أن حقيقة البَداء عندهم ليس ظهور الأمر للّه تعالى بعد أن كان خافيا عليه، تعالى اللّه عزّوجلّ عن ذلك علواً كبيراً بل هو ظهور أمر لنا منه تعالى لم يكن مرتقبا، يعد مساوقا لتغيير القضاء كما هو عند

__________________

(١) لسان العرب / ابن منظور ١٤: ٦٥، مفردات الراغب: ٤٠، مادة (بدا).

(٢) اُنظر: الذريعة إلى تصانيف الشيعة / الطهراني ٣: ٥١ - ٥٧ و ١٣١ - ١٥١.

١١٦

الجمهور، وعليه فالبداء عند الشيعة الإمامية هو البداء الواقع في (التكوينيات) كالنسخ المتعلق ب- (التشريعات)، فكما أن النسخ في التشريعات أمر جائز وسائغ، كذلك البداء في التكوينات أمر سائغ وممكن وجائز.

ثم إن البداء يكون في القضاء الموقوف المعبّر عنه ب- (لوح المحو والإثبات) والالتزام بجواز البداء فيه لايستلزم نسبة الجهل إلى اللّه سبحانه، وليس في هذا الالتزام ما ينافي عظمته وجلاله(١) .

وهناك آيات قرآنية كثيرة تثبت بأن اللّه تعالى مبسوط اليدين في مجال التكوين، يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء، ويثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء، منها: قوله تعالى:( يَمْحُوا اللّه مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (٢) .

وتوجد أحاديث في صحاح السنة تشير إلى حصول المحو والإثبات الإلهيين، وإمكانية التغيير والتبديل فيما كتبه اللّه وقدَّره وفقا لمشيئته وإرادته تعالى، منها ما أخرجه البخاري عن عبد اللّه بن مسعود، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير قوله تعالى:( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) (١) أنَّه قال: «إنَّ اللّه يحدث من أمره ما يشاء، وإنَّ مما أحدث أن لا تكلّموا في الصلاة »(٢) .

وبإسناد عن أنس بن مالك أن نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما صعد إلى السّماء واجتمع

__________________

(١) اُنظر: دفاع عن الكافي / السيد ثامر العميدي ٢: ٣٣ وما بعدها.

(٢) سورة الرعد: ١٣ / ٣٩.

(٣) سورة الرحمن: ٥٥ / ٢٩.

(٤) صحيح البخاري ٩: ١٨٧ - باب: قول اللّه تعالى:( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) .

١١٧

بالأنبياء (عليهم الصلاة والسلام)، نصحه موسىعليه‌السلام بأن يراجع ربّه لتخفيف الصلاة عن أمته فيما فرضه اللّه على أمته من خمسين صلاة في كل يوم، وبعد أن راجع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّه عدة مرات حسب نصيحة موسىعليه‌السلام خفّف اللّه تعالى الصلاة من خمسين إلى خمس صلوات(٣) .

روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أنه سمع رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: «إن ثلاثة في بني إسرائيل: أبرص، وأقرع، وأعمى بدا للّه أن يبتليهم ...»(٤) ثم ساق الخبر (الصحيح).

ومن هذه الأحاديث يظهر بوضوح دخول فكرة البداء عند أقطاب المحدثين ورواة المسلمين في دائرة المحو والاثبات المصرّح بها في القرآن الكريم، لكن المؤسف حقاً أنّها قد استغلت من قبل خصوم الشيعة للتشنيع والتشهير.

ويقتضي التنويه بأن «مصالح العباد متوقفة على القول بالبداء، إذ لو اعتقدوا أنَّ كل ما قُدّر في الأزل فلا بُدَّ من وقوعه حتما لما دعوا اللّه تعالى في شيء من مطالبهم، وما تضرَّعوا إليه، وما استكانوا لديه، ولا خافوا منه، ولا رجعوا إليه، وإذا انتفت هذه الأمور فلا يبقى مجال للصدقة وصلة الرحم، وبرّ الوالدين، وغير ذلك من صالح الأعمال ..

أضف إلى ذلك أن القول بالبداء هو الاعتراف الصريح بأن العالم كله تحت سلطان اللّه وقدرته في حدوثه وبقائه، وان إرادة اللّه نافذة في الأشياء

__________________

(١) اُنظر: صحيح البخاري ١: ٩٨، كتاب الصلاة، وأيضا ٩٦: ١٨٢، باب قوله تعالى:( وَكَلَّمَ اللّه مُوسَى تَكْلِيماً ) .

(٢) صحيح البخاري ٤: ٢٠٨ - ٢٠٩، كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل.

١١٨

أزلاً وأبدا»(١) . من هنا دافع إمامنا الرضاعليه‌السلام عن مسألة البداء، وأولاها عناية خاصة وأعتبرها من المسائل الأساسية التي قامت عليها الأديان السماوية.

وجدير بالذكر هو أن أول من نفى القول بالبداء هم اليهود الذين قالوا - لعنهم اللّه -: إن يد اللّه مغلولة! غلّت أيديهم ولُعنوا بما قالوا. بل هو سبحانه يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب.

ومما يكشف عن اهتمام الإمام الرضاعليه‌السلام بمسألة البداء حواراته ومناظراته مع أهل الإسلام، ومن أبرز الشواهد على ذلك مناظرته مع سليمان المروزي متكلم خُراسان الذي قدم على المأمون فأكرمه ووصله، ثم طلب منه أن يناظر الإمامعليه‌السلام .

وكان عمران الصابى ء الذي أسلم ببركة إمامنا الرضاعليه‌السلام وأصبح من تلاميذه قد التقى بالمروزي فتحاورا حول البداء وكان المروزي قد أنكره، فقال المأمون: يا أبا الحسن ما تقول فيما تشاجرا فيه؟

قالعليه‌السلام : «وما أنكرت من البداءِ يا سليمان، واللّه عزَّوجلَّ يقول: ( أَوَلاَ يَذْكُرُ الاْءِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ) (٢) ويقول عزَّوجلَّ: ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) (٣) ويقول: ( بَدِيعُ السَّمواتِ وَالأَرْضِ ) (٤) ويقول عزَّوجلَّ: ( يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاء ) (٥) ويقول: ( بَدَأَ خَلْقَ

__________________

(١) دفاع عن الكافي / السيد ثامر العميدي ٢: ١٦٠ وما بعدها.

(٢) سورة مريم: ١٩ / ٦٧.

(٣) سورة الروم: ٣٠ / ٢٧.

(٤) سورة البقرة: ٢ / ١١٧، وسورة الأنعام: ٦ / ١٠١.

(٥) سورة فاطر: ٣٥ / ١.

١١٩

الإنْسانِ مِنْ طِيْنٍ ) (١) ويقول عزَّوجلَّ: ( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللّه إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ) (٢) ويقول عزَّوجلَّ: ( وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ ) (٣) ؟!

قال سُليمان: هل رويتَ فيه شيئا عن آبائكَ؟ قال: نعم، رويتُ عن أبي عبداللّهعليه‌السلام أَنَّه قال: «إنَّ للّه عزَّوجلَّ علمين: علما مخزونا مكنونا لا يعلمهُ إلاّ هو، ومن ذلك يكونُ البَداءُ، وعلما علَّمهُ ملائكتهُ ورُسُلَهُ، فالعلماء من أهلِ بيت نبيِّه يعلمونه ».

قال سُليمان: اُحبُّ أن تَنزَعهُ لي من كتابِ اللّه عزَّوجلَّ.

قالعليه‌السلام : «قولُ اللّه عزَّوجلَّ لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُ ومٍ) (٤) أراد هلاكهمُ ثمَّ بدا للّه - أي: عن علم - فقال: ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) (٥) ».

قال سُليمان: زدني جُعلتُ فداك، قال الرضاعليه‌السلام : «لقد أخبرني أبي عن آبائه أنَّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنَّ اللّه عزَّوجلَّ أوحى إلى نبيٍ من أنبيائه: أن أخبر فلان الملك أني متوفّيه إلى كذا وكذا، فقال: يا ربِّ أجِّلني حتى يشبَّ طفلي وأقضي أمري، فأوحى اللّه عزَّوجلَّ إلى ذلك النَّبيِ أن ائت فُلانَ الملك فأعلمهُ أنِّي قد أنسيتُ في أجلهِ وزدتُ في عُمره خمس عشرةَ سنةً، ثمّ أوحى اللّه عزَّوجلَّ إليه: إنَّما أنتَ عبد مأمور فأبلغهُ ذلك، واللّه لا يسألُ عمّا

__________________

(١) سورة السجدة: ٣٢ / ٧.

(٢) سورة التوبة: ٩ / ١٠٦.

(٣) سورة فاطر: ٣٥ / ١١.

(٤) سورة الذاريات: ٥١ / ٥٤.

(٥) سورة الذاريات: ٥١ / ٥٥.

١٢٠