الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ

الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ0%

الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 199

الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 199 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 83788 / تحميل: 4903
الحجم الحجم الحجم
الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ

الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ

مؤلف:
العربية

الإسلام قد حثّ من اعتنقه على الاهتمام بالنظافة عموما، كما حثّ على الاهتمام بالاناقة، وكان الرضاعليه‌السلام يلفت النظر إلى أهمية الطيب، وفي هذا المجال يقول: «لا ينبغي للرجل أن يدَع الطيب في كل يوم، فإن لم يقدر عليه فيوم ويوم لا، فإن لم يقدر ففي كل جمعة، ولا يدع ذلك »(١) .

وعن الحسن بن الجهم، قال: قال أبو الحسنعليه‌السلام : « كان أمير المؤمنينعليه‌السلام يقول: لا يأبى الكرامة إلاّ حمار، قلت: مامعنى ذلك؟ قال: «التوسعة في المجلس والطيب يُعرض عليه »(٢) .

نخلص من هذا كله إلى القول بأن الإمام الرضاعليه‌السلام قد ترك لنا ثروة معنوية لا تقدر بثمن، هي مجموع التعاليم التربوية والحضارية الرائعة التي ينبغي أن نضعها نصب أعيننا من أجل الصعود الحضاري بأفراد أمتنا إلى مدارج الكمال والرفعة.

ثانيا: علاقة الإنسان بخالقه

يدعو الإمام الرضاعليه‌السلام إلى بناء وتوثيق علاقة المسلم بخالقه، ويوقظ في نفسه العاطفة الدينية، ويزرع في وعيه المفهوم السليم للعبادة، وضرورة الإخلاص فيها، كما يبين الأساليب المؤدية إلى تعزيز العلاقة مع الرَّب، ويكشف عن النتائج الايجابية لمن أطاع ربَّه والعواقب الوخيمة لمن عصاه. والحديث التالي يقدم لنا مفهوما عميقا للعبادة يعطي فيه للفكر الأولوية، بينما يأتي العمل العبادي من صلاة وصوم وما إلى ذلك في المرتبة

__________________

(١) كشف الغمة ٣: ٨٦، باب: ذكر طرف من دلائله وأخباره.

(٢) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢: ٢٧٨، ح ٧٧، باب (٢٨).

١٤١

الثانية:

عن معمر بن خلاّد قال: سمعت أبا الحسن الرضاعليه‌السلام يقول: « ليس العبادة كثرة الصلاة والصوم، إنّما العبادة التفكّر في أمر اللّه عزَّوجلَّ »(١) ، فإمامنا يقدم في مفهومه للعبادة الفكر والعقل لكونه أصل في الاعتقاد السليم، أما الشعائر وأعمال الجوارح فهي تابع للعقل والاعتقاد ومتفرعة عليه. ومن هنا كانت عبادة أكثر المقربين إلى أهل البيتعليهم‌السلام كأبي ذرّ وعمّار وسلمان وغيرهم (رضي اللّه عنهم) مقرونة بالتفكّر والاعتبار، وقد سألوا أم ذرّ يوما عن عبادته، فقالت: «كان نهاره أجمع يتفكّر في ناحية من الناس»(٢) .

من جانب آخر يركز إمامناعليه‌السلام على الإخلاص في العبادة لكونها تنطلق من بواعث ذاتية، كالنية، وبدونها يفسد العمل العبادي كما تُفسد قطرة الخل العسل. وفي هذا الخصوص يروي الرضاعليه‌السلام عن جده أمير المؤمنينعليه‌السلام قوله: «طوبى لمن أخلص للّه العبادة والدُّعاء، ولم يشغل قلبه بما تراه عيناه، ولم ينسَ ذكر اللّه بما تسمع أذناه، ولم يحزن صدره بما اُعطي غيره »(١) .

ضمن هذا السياق يعرض لنا إمامناعليه‌السلام أسلوبين لتقوية العلاقة مع الخالق، هما:

__________________

(١) اُصول الكافي ٢: ٥٥ / ٤ باب التفكّر.

(٢) تنبيه الخواطر / الأمير ورّام ١: ٢٥٠ باب التفكّر.

(٣) اُصول الكافي ٢: ١٣ / ٣ باب الاخلاص، كتاب الإيمان والكفر.

١٤٢

١ - أسلوب الاستغفار

ليس خافيا بأن الذنوب تمثل عائقا يحول دون توطيد العلاقة مع الرَّب، والاستغفار هو الأسلوب الذي يرتضيه الرَّب لكسب عفوه واستجلاب رحمته، وليس من شكّ في أن الاعتراف بالذنب مقدمة ضرورية عند العقلاء لتخفيف الجرم أو إلغائه، واللّه تعالى سيد العقلاء يدعو عباده المذنبين الذين قطعوا حبل الوصال معه إلى الاستغفار والتوبة كمقدمة للدخول في حظيرة قدسه، بشرط أن يكون المستغفر صادقا في طلبه مقلعا عن ذنبه.

والملاحظ أن إمامناعليه‌السلام يستخدم ضرب الأمثال كأسلوب تربوي فعال لتقريب الفكرة إلى الواقع المحسوس في عقول الناس:

عن ياسر، عن الرضاعليه‌السلام قال: « مثل الاستغفار مثل ورق على شجرة تحرَّك فيتناثر، والمستغفر من ذنب ويفعله كالمستهزى ء برَّبه »(٢) .

٢ - أسلوب الدعاء

تتوطّد دعائم العلاقة باللّه تعالى من خلال الدعاء الذي يمثل الاتصال المباشر بين البشر وخالقهم، لا سيما وأن اللّه تعالى قد أَذِن للإنسان بالدعاء وتكفّل له بالإجابة. والدعاء هو شكل من العبادة بل أفضلها، قال الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أفضل العبادة الدعاء »(١) ، وهو أحبّ الأعمال إلى اللّه تعالى، قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : «أحبّ الأعمال إلى اللّه عزَّوجلَّ في الأرض

__________________

(١) اُصول الكافي ٢: ٥٠٤ / ٣ باب الاستغفار، كتاب الدعاء.

(٢) تنبيه الخواطر ٢: ٢٣٧.

١٤٣

الدعاء »(١) ، وعن أبي جعفرعليه‌السلام : « إن اللّه تعالى يحبّ من عباده المؤمنين كل دعّاء »(٢) .

وعلى هذا الأساس يحث الإمام الرضاعليه‌السلام أصحابه وشيعته على الارتباط باللّه وتقوية العلاقة معه من خلال الإلحاح بالدعاء، الذي هو - حسب تعبيره - سلاح الأنبياء:

عن ابن فضال، بإسناده إلى الرضاعليه‌السلام أنّه كان يقول لأصحابه: «عليكم بسلاح الأنبياء »، فقيل: وما سلاح الأنبياء؟ قال: « الدُّعاء »(٣) .

وينقل لناعليه‌السلام حديثا عن جدّه زين العابدينعليه‌السلام مبينا فيه الاقتران في الدنيا بين الدعاء والبلاء، كاشفا عن القدرة الكبرى للدعاء في رفع أمواج البلاء المتلاطمة في بحر الحياة الهائج المائج: عن أبي همّام إسماعيل بن همّام، عن الرضاعليه‌السلام ، قال عليّ بن الحسينعليه‌السلام : «إن الدّعاء والبلاء ليترافقان إلى يوم القيامة، إنَّ الدُّعاء ليردُّ البلاء وقد اُبرم إبراما »(٤) .

ومن المفيد التذكير بأن الدعاء في السر أكثر ثوابا من الدعاء في العلن، لأن الأول يمثل اتصال مباشر بين العبد وربّه لا مجال فيه للرياء والنفاق أو إلحاق الأذى بالنفس أمام الظالمين أو إثارة مشاعر الآخرين، من هنا يوصي إمامناعليه‌السلام بدعوة السرّ: عن أبي همّام إسماعيل بن همّام عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام قال: «دعوة العبد سرا دعوة واحدة تعدل سبعين

__________________

(١) اُصول الكافي ٢: ٤٦٧ / ٨ باب الدعاء.

(٢) كتاب سلوة الذاكرين المعروف ب- «الدعوات» / قطب الدين الراوندي: ٣٤ / ٧٨.

(٣) اُصول الكافي ٢: ٤٦٨ / ٥ باب: الدعاء سلاح المؤمن، كتاب الدُّعاء.

(٤) اُصول الكافي ٢: ٤٦٩ / ٤ باب: ان الدعاء يرد البلاء والقضاء، كتاب الدُّعاء.

١٤٤

دعوة علانية ». وفي رواية اُخرى: «دعوة تخفيها أفضل عند اللّه من سبعين دعوة تظهرها »(١) .

ويلفت نظرناعليه‌السلام إلى نقطة مهمة، وهي عدم القنوط واليأس عند تأخر إجابة الدعاء، فالقنوط أواليأس نوع من إساءة الظن باللّه تعالى، ولأن اللّه تعالى حكيم ورحيم وأعرف بمصالح عبده، فقد يستجيب الدعاء ولكن يؤخره للوقت أو الظرف المناسب للعبد، وعليه يُسدي الإمامعليه‌السلام نصيحته لشيعته بتجنب الوقوع في شرك الشيطان، الذي يحاول أن يقنط الإنسان من رحمة ربّه:

عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: قلت لأبي الحسنعليه‌السلام : جعلت فداك إنّي قد سألت اللّه حاجة منذ كذا وكذا سنة وقد دخل قلبي من إبطائها شيء، فقال: «يا أحمد، إيّاك والشيطان أن يكون له عليك سبيلاً حتى يقنّطك، إنَّ أبا جعفر صلوات اللّه عليه كان يقول: إنَّ المؤمنَ يسألُ اللّه عزَّوجلَّ حاجةً فيُوخّرُ عنه تعجيل إجابته حبّا لصوته واستماع نحيبه ».

ثمَّ قال: «واللّه ما أَخَّر اللّه عزَّوجلَّ عن المؤمنين ما يطلبون من هذه الدُّنيا خيرٌ لهم ممّا عجَّل لهم فيها، وأَيُّ شيءٍ الدُّنيا؟ إنَّ أبا جعفر عليه‌السلام كان يقولُ: ينبغي للمؤمن أن يكونَ دُعاؤُهُ في الرَّخاء نحوا من دُعائهِ في الشدَّةِ، ليس إذا اُعطي فَتَر، فلا تملّ الدّعاءَ فانّهُ من اللّه عزَّوجلَّ بمكانٍ، وعليك بالصَّبر وطلب الحلال وصلة الرّحم، وإيّاك ومكاشفة الناس، فإنّا أهل البيتِ نصلُ من قطعنا ونُحسنُ إلى من أساء إلينا، فنرى واللّه في ذلك العاقبة

__________________

(١) اُصول الكافي ٢: ٤٧٦ / ١ باب: اخفاء الدعاء، كتاب الدُّعاء.

١٤٥

الحسنة »(١) .

وفي هذا الإطار يكشف لنا الإمامعليه‌السلام عن الثمار الطيبة التي يجنيها الإنسان المسلم عند ارتباطه بربّه وإيثار طاعته، وبالمقابل يبين لنا العواقب الوخيمة المترتّبة على المعصية: عن سليمان الجعفري، عن الرضاعليه‌السلام قال: «أوحى اللّه عزَّوجلَّ إلى نبيّ من الأنبياء: إذا اُطعتُ رضيتُ، وإذا رضيتُ باركتُ، وليس لبركتي نهاية، وإذا عُصيتُ غضبتُ، وإذا غضبتُ لَعَنتُ، ولعنتي تبلغ السابع من الورى (٢) »(٣) .

وهكذا يقدم لنا رؤية شمولية لتوثيق العلاقة مع الخالق، تلك العلاقة التي تعود بأعظم الفوائد على المخلوق في الدنيا والآخرة.

ثالثا: علاقة المسلم بنبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيتهعليهم‌السلام :

لا بدّ للمسلم السويّ من أن يوطّد علاقته بأولياء أمره الذين فرض اللّه طاعتهم، فهم حجج اللّه تعالى ووسيلته إلى رضوانه والشفعاء في يوم حسابه. وتوطيد العلاقة معهم يتأتى من خلال الاقتداء بهديهم والتأسّي بهم، وفي طليعتهم الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يقول أمير المومنينعليه‌السلام موصيا: «اقتدوا بهدى نبيِّكم فإنَّه أفضل الهدى، واستنُّوا بسنَّته فإنَّها أهدى السُّنن »(٤) وهنا يرشدنا الإمام الرضاعليه‌السلام إلى دوام الصلاة على النبي

__________________

(١) اُصول الكافي ٢: ٤٨٨ / ١ باب: من أبطأت عليه الإجابة، كتاب الدُّعاء.

(٢) الورى: ولد الولد.

(٣) اُصول الكافي ٢: ٢٧٥ / ٢٦ باب: الذنوب، كتاب الإيمان والكفر.

(٤) نهج البلاغة / تحقيق: السيد جعفر الحسيني، خطبة ١١٠.

١٤٦

الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرفانا بالجميل، وتقديرا للجهود الجبارة التي بذلها من أجل أمته: عن عبيداللّه بن عبداللّه الدّهان، قال: دخلت على أبي الحسن الرضاعليه‌السلام فقال لي:« ما معنى قوله: ( وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) (٢) » قلت: كلّما ذكر اسم ربّه قام فصلّى، فقال لي: «لقد كلّف اللّه عزَّوجلَّ هذا شططا »(٣) فقلت: جعلت فداك فكيف هو؟ فقال: «كلّما ذكر اسم ربّه صلّى على محمّد وآله »(٤) .

أما أهل البيتعليهم‌السلام فهم شمس الهداية الأبدية لهذه الأمة وسفن نجاتها، وفي هذا المورد يقول أمير المؤمنينعليه‌السلام : «انظروا أهل بيت نبيكم فالزموا سَمْتَهُم واتَّبعوا أثَرهم، فلن يُخرجوكم من هُدى، ولن يُعيدُوكم في ردى »(٥) ، ويرشد الإمام الرضاعليه‌السلام شيعته إلى إحياء ذكر أهل البيتعليهم‌السلام وإقامة مجالس العزاء تثمينا للتضحيات الجسام التي بذلوها والمصائب العظام التي لاقوها في سبيل إعلاء كلمة الدين: عن علي بن الحسن بن فضال عن أبيه، قال الرضاعليه‌السلام : «من تذكر مصابنا فبكى وأبكى لم تبكِ عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلسا يحيي فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب »(١) .

وهذا الحديث فيه أسلوب تربوي قيم يُعمق من رابطة الولاء بين

__________________

(١) سورة الأعلى: ٨٧ / ١٥.

(٢) الشطط: مجاوزة القدر في كل شيء، يعني لو كان كذلك لكان التكليف فوق الطاقة.

(٣) اُصول الكافي ٢: ٤٩٤ - ٤٩٥ / ١٨ باب: الصلاة على النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيتهعليهم‌السلام ، كتاب الدُّعاء.

(٤) نهج البلاغة، خطبة ٩٧.

(٥) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٢٦٤ / ٤٨ باب (٢٨).

١٤٧

المسلم وأئمتهعليهم‌السلام ، فإدامة ذكرهم وذكر مصائبهم تُنمي في وعيه ووجدانه الأفكار والمفاهيم الإسلامية الصحيحة، فتنطلق في داخله ينابيع العواطف الإنسانية الخيرة، إضافة إلى المعطيات الايجابية التي يحصل عليها يوم الحساب حيث الثواب الجزيل.

رابعا: علاقته بأبناء جنسه

يريد الإسلام من الإنسان أن يخرج بوعيه من قفص الأنانية الضيق إلى أفق الإنسانية الأرحب، وأن لا يتقوقع على ذاته وينعزل عن محيطه الاجتماعي، وإلاّ تحوّلت حياته إلى صحراء مجدبة. لذلك يشجّع الإنسان على بناء وتدعيم علاقات طيبة مع أبناء جنسه قائمة على الاحترام المتبادل وتبادل المنفعة والمعونة وإسداء النصيحة وما إلى ذلك.

والملاحظ أن المسألة الاجتماعية تأخذ مكان الصدارة في الآيات القرآنية والروايات الواردة عن النبي وأهل بيته (صلوات اللّه عليهم)، ولإمامنا الرضاعليه‌السلام نصائح وإرشادات قيمة بخصوص المسألة الاجتماعية عند مراعاتها تشكل صمام أمان لبناء إنسان مسلم ملتزم بالحقوق الاجتماعية المترتبة عليه.

والملاحظ أن اهتمام الإمامعليه‌السلام ينصب أولاً على الدائرة الاجتماعية الأقرب للإنسان وهي دائرة الوالدين، الذين لهم حق عظيم عليه في ولادته ونشأته وتربيته، فأقل ما يتوجب لهما من الحقوق وجوب مداراتهما وعدم عقوقهما، إذا كانا على قيد الحياة، أما إذا طوى الموت صفحة حياتهما فينبغي على الأولاد الدعاء لهما والتصدّق عنهما، بغضّ النظر عن عقيدتهما

١٤٨

أو عدم معرفتهما للمذهب الحق: عن معمر بن خلاّد قال: قلت لأبي الحسن الرّضاعليه‌السلام : أدعوا لوالديّ إذا كانا لا يعرفان الحقَّ؟ قال: «ادع لهما وتصدَّق عنهما، وإن كانا حيّين لا يعرفان الحقَّ فدارهما، فإنَّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنَّ اللّه بعثني بالرَّحمة لا بالعقوق »(١) .

فهنا يوقظ إمامناعليه‌السلام خير ما في نفس الإنسان من أحاسيس خيرة وعواطف نبيلة تجاه والديه، ويكشف عن المعطيات الإيجابية التي سيحصل عليها المسلم في الدنيا قبل الآخرة والمتمثّلة بطول العمر:

عن محمد بن عبيد اللّه: قال: قال أبو الحسن الرضاعليه‌السلام : « يكون الرَّجل يصل رحمه فيكون قد بقي من عمره ثلاث سنين فيصيّرها اللّه ثلاثين سنة، ويفعل اللّه ما يشاء »(٢) .

ومما يدلّل على الأهمية القصوى التي يوليها الإمامعليه‌السلام للمسألة الاجتماعية توسيعه من دائرة الاهتمام بالمحيط الاجتماعي لتشمل الجار والقريب والصديق، وهم الذين يمتون بصلة القرابة مع الإنسان المسلم ويشاركونه بالعيش في محيطه، ويمكننا الإشارة إلى أبرز الارشادات في هذا الصدد بالنقاط التالية:

١ - المواساة والإخاء في اللّه تعالى : عمل إمامنا على تكريس مبدأ الإخاء عمليا من خلال تعامله مع خدمه وحشمه، فعن ياسر الخادم، قال: كان الرضاعليه‌السلام إذا خلا جمع حشمه كلهم عنده، الصغير والكبير فيحدثهم ويأنس بهم ويؤنسهم، وكانعليه‌السلام إذا جلس على المائدة لا يدع

__________________

(١) اُصول الكافي ٢: ١٥٩ / ٨ باب: البرّ بالوالدين، كتاب الإيمان والكفر.

(٢) اُصول الكافي ٢: ١٥٠ / ٣ باب: صلة الرحم، كتاب الإيمان والكفر.

١٤٩

صغيرا ولا كبيرا حتى السائس والحجام إلاّ أقعده معه على مائدته(١) .

لقد جعل إمامناعليه‌السلام الإخاء مقرونا بالطاعة للّه، فليس الإخاء - عنده - إلاّ طاعة للّه تعالى، فكل من أطاع اللّه فهو أخ وقريب وان بَعُدت لحمته، وكل من عصاه فهو بعيد وإن قرب نسبه، ومن مصاديق ذلك:

روي أن الإمام الرضاعليه‌السلام قال لأخيه زيد: «أنت أخي ما أطعت اللّه، فإن عصيت اللّه فلا أخاء بيني وبينك »(٢) .

٢ - العطاء والسخاء : لهاتين الفضيلتين دور كبير في جذب النفوس واستمالتها، فان الإنسان بطبعه يحب الخير والمنفعة، ولا ينسى في الغالب من أسدى إليه الإحسان. وكان إمامناعليه‌السلام كآبائه الأطهارعليهم‌السلام جوادا كريما، ينفق على المعوزين، ولا يمسك مالاً، يقوم بقضاء حوائج المحتاجين، ولا يرد سائلاً، ولا يُخَيّب مؤمّلاً، وهناك شواهد عديدة على ذلك أرادها أن تكون أدبا أو منهجا للسائرين في طريقهعليه‌السلام ، منها ما جاء عن اليسع بن حمزة: أن رجلاً قال له: السلام عليك يا بن رسول اللّه، أنا رجل من محبيك ومحبي آبائك، مصدري من الحج، وقد نفذت نفقتي وما معي ما أبلغ مرحلة، فإن رأيت أن تهبني إلى بلدي فإذا بلغت بلدي تصدّقت بالذي توليني عنك، فلستُ موضع صدقة. فقامعليه‌السلام فدخل الحجرة وبقي ساعة، ثم خرج وردّ الباب وأخرج يده من أعلى الباب، فقال: «خذ هذه المائتي دينار فاستعن بها في أمورك ونفقتك وتبرّك بها ولا تتصدّق بها عني، اخرج ولا أراك ولا تراني ». فلما خرج سئل عن ذلك فقال: «مخافة أن أرى ذل

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام : ٢ / ١٧٠، ح ٢٤، باب (٤٠).

(٢) المناقب / ابن شهرآشوب ٤: ٣٩١.

١٥٠

السؤال في وجهه لقضاء حاجته »(١) . ما أعظمه من موقف تربوي أن يكون العطاء بدون امتنان، ويحفظ كرامة الإنسان.

وعن يعقوب بن إسحاق النوبختي، قال: مرّ رجل بأبي الحسن الرضاعليه‌السلام فقال له: أعطني على قدر مروّتك، قال: «لا يسعني ذلك »، فقال: على قدر مروّتي، قال: «إذا فنعم »، ثم قال: «يا غلام أعطه مائتي دينار »(٢) .

وقد فرق بخراسان ماله كله في يوم عرفة، فقال له الفضل بن سهل: إن هذا لمغرم، فقال: «بل هو لمغنم، لا تعدنّ مغرما ما ابتغيت به أجرا وكرما »(٣) .

وقد تجسّد عطاؤه - أيضا - في عتق العبيد، حيث آمن بكرامة الإنسان وسعى إلى تحريره من براثن العبودية والرِّق، ومن مصاديق ذلك: أنه أعتق ألف مملوك(٤) ، وكانعليه‌السلام يمجد السخاء ويرى بأن السخي قريب من الخالق ومن الخَلق على حد سواء، وبالمقابل يذم البخل لكونه يبعد الإنسان عن ربه وعن أبناء جنسه: عن الحسن بن علي الوشاء، قال: سمعت أبا الحسنعليه‌السلام يقول: «السخي قريب من اللّه، قريب من الجنة، قريب من الناس، بعيد عن النار، والبخيل بعيد عن الجنة، بعيد عن الناس، قريب من النار »(٥) .

__________________

(١) المناقب / ابن شهرآشوب ٤: ٣٩٠.

(٢) المناقب / ابن شهرآشوب ٤: ٣٩٠.

(٣) المناقب / ابن شهرآشوب ٤: ٣٩٠.

(٤) الاتحاف بحب الاشراف / الشيخ عبد اللّه الشبراوي: ١٥٥.

(٥) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢: ١٥، ح ٢٧، باب (٣٠).

١٥١

ضمن هذا السياق حدد بعمق أظهر علامات السخي والبخيل فقال: «السخي يأكل من طعام الناس ليأكلوا من طعامه، والبخيل لا يأكل من طعام الناس لئلا يأكلوا من طعامه »(٤) .

وعن معمر بن خلاّد قال: كان أبو الحسن الرضاعليه‌السلام إذا أكل أُتي بصحفه توضع بطرف مائدته، فيعمد إلى أطيب طعام ممّا يؤتى به فيأخذ من كل شيء شيئا فيوضع في تلك الصحفة، ثم يأمر بها للمساكين، ثم يتلو هذه الآية:( فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ) ثم يقول: «علم اللّه عزّوجلّ أن ليس كلُّ إنسان يقدر على عتق رقبة، فجعل لهم السبيل إلى الجنة بإطعام الطعام »(٢) .

٣ - العذر : دعا إمامنا إلى التسامح مع الناس، والتماس العذر لكل من أساء التصرف منهم أو أخطأ بحق الآخرين، ودعا إلى حمل عمل المسيء على أحسن المحامل، والستر على عيوبه، وله أشعار حول قبول العذر، فعن أبي الحسن القرضي عن أبيه قال: حضرنا مجلس أبي الحسن الرضاعليه‌السلام فجاء رجل فشكا إليه حاله فأنشأ الرضا يقول:

أعذر أخاك على ذنوبه

واصبر وغظّ على عيوبه

واصبر على سفه السفيه

وللزمان على خطوبه

ودع الجواب تفضّلاً

وكِلِ الظلوم على حسيبه(٣)

٤ - عدم مجالسة أهل المعاصي : إدراكا من الإمامعليه‌السلام بأن الوقاية خيرٌ من العلاج، فهو يحذر من مجالسة أهل المعاصي ولو كانوا ضمن دائرة

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢: ١٥، ح ٢٧، باب (٣٠).

(٢) بحار الأنوار ٤٩: ٩٧ باب (٢٧).

(٣) الفصول المهمة / ابن الصباغ المالكي: ٢٤٤، الفصل الثالث.

١٥٢

الأقربين ؛ لأن العدوى الفكرية أخطر من العدوى الجرثومية، فهي تورد الإنسان موارد الهلكة والنقمة في الدنيا والعذاب الدائم في الآخرة:

عن الجعفري، قال: سمعت أبا الحسنعليه‌السلام يقول لأبي: «ما لي رأيتك عند عبد الرَّحمن بن يعقوب »؟ فقال: إنّه خالي، فقال: «إنّه يقول في اللّه قولاً عظيما، يصف اللّه ولا يوصف، فإمّا جلست معه وتركتنا، وإمّا جلست معنا وتركته ؟ » فقلت: هو يقول ما يشاء، أيُّ شيءٍ عليَّ منه إذا لم أقل ما يقول؟ فقال أبو الحسنعليه‌السلام : «أما تخاف أن تنزل به نقمة فتصيبكم جميعا؟ أما علمت بالّذي كان من أصحاب موسى عليه‌السلام وكان أبوه من أصحاب فرعون، فلمّا لحقت خيل فرعون موسى تخلَّف عنه ليعظ أباه فيلحقه بموسى فمضى أبوه وهو يراغمه (١) حتى بلغا طرفا من البحر، فغرقا جميعا، فأتى موسى عليه‌السلام الخبر، فقال: هو في رحمة اللّه، ولكنَّ النقمة إذا نزلت لم يكن لها عمّن قارب الذنب دفاع »(٢) .

الرواية المتقدمة ذات قيمة اجتماعية كبرى، ففيها دعوة إلى الانسلاخ الاجتماعي من الموبوئين فكريا والحجر عليهم والابتعاد عنهم.

صحيح أن الأفراد المحصنين عقائديا والواعين فكريا لايتأثرون بأمثال هؤلاء، ولكن الخشية كل الخشية تتأتى من النقمة الإلهية التي إذا نزلت فإنها تعم الكافر والمؤمن على حد سواء في دار الدنيا، وإن كان المؤمن تشمله رحمة اللّه في الآخرة. هذا فضلاً عما في مجالسة أهل المعاصي من إضفاء صورة عليهم لا يستحقونها ؛ لأنهم أهل للتحقير والاستصغار

__________________

(١) المراغمة: الهجران والتباعد والمغاضبة، أي يبالغ في ذكر ما يبطل مذهبه.

(٢) اُصول الكافي ٢: ٣٧٤ / ٢، أمالي الشيخ المفيد: ١١٢ / ٣.

١٥٣

لا أهل للتقدير والاحترام.

هذه الحقيقة الجوهرية التي أثارها الإمامعليه‌السلام والمتمثّلة بتسبّب الفكر المنحرف في دمار المجتمع والمدنية لم يلتفت إليها علماء الاجتماع وخاصة الغربيين منهم، فهؤلاء ينظرون لعوامل انحطاط وتدمير المجتمعات وسقوط الحضارات وفق نظرة مادية تستبعد كليا العوامل الغيبية كنزول النقمة الإلهية.

أما النظرية الإسلامية في علم الاجتماع فتأخذ بنظر الاعتبار عامل الغيب، وتعده من أبرز العوامل المؤثرة في تدمير المجتمعات وسقوط الحضارات، وإمامنا هنا أرشد إلى هذا العامل الفاعل بصورة لالبس فيها.

وهناك عدة ارشادات راقية للإمام الرضاعليه‌السلام وهي صالحة للانطباق على أكثر من دائرة واحدة من دوائر العلاقة السالفة الذكر، ويمكننا الإشارة إليها من خلال الفقرات الآتية:

أ - التمجيد بالعقل : ما من دين ذهب أبعد من الإسلام في التمجيد بالعقل وتثمين دوره في الاعتقاد، وكان إمامنا الرضاعليه‌السلام ينسج على منوال الإسلام في تأكيد قيمة العقل وإبراز مكانته، فقد اعتبر العقل حجّة على الخلق، يتّضح لنا ذلك من الحوار الذي دار بين الإمام الرضاعليه‌السلام وبين ابن السكّيت الذي أثنى على الإمامعليه‌السلام قائلاً: «واللّه ما رأيت مثلك» ثمّ سأله: فما الحجّة على الخلق اليوم؟

فقال: «العقل، يعرف به الصادق على اللّه فيصدقه، والكاذب على اللّه فيكذبه ». فقال ابن السكيت: هذا واللّه هو الجواب(١) .

__________________

(١) الاحتجاج ٢: ٢٢٥.

١٥٤

قال الطبرسي: قد ضمّن الرضاعليه‌السلام في كلامه هذا أن العالم لا يخلو في زمان التكليف من صادق من قبل اللّه يلتجى ء المكلّف إليه في أمر الشريعة، صاحب دلالة تدل على صدقه عليه تعالى، يتوصّل المكلّف إلى معرفته بالعقل، ولولاه لما عرف الصادق من الكاذب، فهو حجة اللّه على الخلق أولاً(١) .

مما تقدّم يبدو لنا أن الإمامعليه‌السلام أراد أن يغرس في نفوس الناس القيمة الحضارية للعقل حتى يحررهم من عقال الجهل، لذلك دعا إلى عقد صداقة وثيقة مع العقل وتحكيمه في شؤون الحياة، وبالمقابل معاداة الجهل، فعن حمدان الديواني، قال: قال الرضاعليه‌السلام : « صديق كل امرء عقله، وعدوه جهله »(٢) .

ب - توجيه النصح والمواعظ : وهي من الأساليب التربوية العظيمة النفع، وبها جاءت سائر الأديان، وعمل بها جميع الأنبياء والرسل والأوصياءعليهم‌السلام كما اتبعها كثير من القادة والزعماء من أجل أن يغرسوا في ثنايا النفوس بذور الخير والصلاح، وتقويم اعوجاج السلوك. وكان إمامناعليه‌السلام يكثر من وعظ المأمون إذا خلا به، ويخوّفه باللّه ويقبّح له ما يرتكبه من خلافه، وكان المأمون يظهر قبول ذلك ويبطن كراهته(٣) .

كان الإمام يعلم بأن الدّين النصيحة، وعليه كان لايبخل بإسداء نصائحه المخلصة كلما وجد التربة الصالحة لغرسها، ولكن هناك صنف من

__________________

(١) الاحتجاج ٢: ٢٢٥.

(٢) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٢٣٤، ح ١٥، باب (١٦).

(٣) كشف الغمة ٣: ٧٤، باب: ذكر طرف من دلائله وأخباره.

١٥٥

الناس لايقبل النَّصح ولاتُجدي معه الموعظة، ففي هذه الحالة يرى الإمامعليه‌السلام بأن من العبث محض النصيحة لأمثال هؤلاء:

جاء قوم بخراسان إليهعليه‌السلام فقالوا: إن قوما من أهل بيتك يتعاطون أمورا قبيحة، فلو نهيتهم عنها؟ قال: « لا أفعل »، فقيل: ولم؟ قال: «سمعت أبي عليه‌السلام يقول: النصيحة خشنة »(١) .

ج- - عدم الرضا عن المنكر : يصوغ لنا الإمامعليه‌السلام قاعدة حضارية كبرى لو طبقت على صعيد العالم لعم السلام والأمن الأرض ألا وهي «قاعدة الرضا» فهو يقرر بحق: « أن من رضي شيئا كان كمن أتاه » لكون الرضا هو الأساس النفسي للفعل، وبمقتضى هذه القاعدة: من رضي عن الفعل الحسن فهو يشارك في ثوابه، أما من رضي بالفعل القبيح فسوف يشترك في الإثم المترتب عليه، وهذه القاعدة لم تأت من فراغ، وانما تنبثق من دستور الإسلام العظيم قرآناً وسنة.

وتتّضح لنا أبعاد هذه القاعدة لو علمنا بأن كثيرا من الجرائم والتجاوزات تقع ويتكرر وقوعها بسبب رضا البعض بوقوعها أو سكوته حيالها، فلو رفع كل إنسان صوته ضد الظلم والعدوان لاندحر الباطل وعلا صوت الحق.

عن عبد السلام الهروي، قال: قال الرضاعليه‌السلام : « من رضي شيئا كان كمن أتاه، ولو أن رجلاً قتل بالمشرق فرضي بقتله رجل في المغرب لكان الراضي عند اللّه عزّوجلّ شريك القاتل »(٢) .

__________________

(١) كشف الغمة ٣: ٨٦، باب: ذكر طرف من دلائله وأخباره.

(٢) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٢٤٧، ح ٥، باب (٢٨).

١٥٦

د - إقتفاء السنن : يلفت إمامنا نظرنا إلى وجود سنن أو خصال تربوية ينبغي مراعاتها من قبل الإنسان المؤمن، لكي يكون سلوكه سويّا، تتّضح لنا هذه السنن أو الخصال فيما روي عن إمامنا أنه قال: « لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون فيه ثلاث خصال: سنّة من ربه، وسنّة من نبيه، وسنّة من وليه؛ فالسنّة من ربّه كتمان سره أما السنّة من نبيّه فمداراة الناس وأما السنّة من وليّه فالصبر على البأساء والضراء »(١) .

* * *

__________________

(١) كشف الغمة ٣: ٨٤.

١٥٧

١٥٨

الفصل الخامس

دوره في الحفاظ على هوية التشيع

إن كل فكر مالم يُحمَ ويُصان سيكون عرضة للزيادة فيه، أو النقصان منه، وربما سيؤول أمره إلى الزوال أو الاندثار، خصوصا إذا ماوُجِد في تاريخه من يحمل لواء محاربته وعلى أكثر من صعيد.

ولو تصفحنا تاريخ العقائد عند سائر الأديان والمذاهب لوجدنا ظاهرتي التحريف والزوال أو الاندثار ماثلتين عياناً في مصاديق شتى. وما اُفول شمس مذهب الاعتزال ومذهب الظاهرية ومذهب الطبري إلاّ أمثلة حيّة وواقعية على صدق مانقول.

واذا ما قيس هذا بمذهب التشيع كفكر ذي عمق وأصالة سنرى أنّ كل المقاييس التي أدت إلى زوال جملة من المذاهب الفكرية او الفقهية كانت متوفرة على أشدها بإزاء مذهب التشيع، الأمر الذي يفسر لنا السر العجيب وراء بقاء التشيع وصموده في ظل محاربته على امتداد تاريخه. كما يكشف لنا بوضوح عن الأدوار العظيمة التي اضطلع بها أهل البيتعليهم‌السلام كل من موقعه وظرفه في الحفاظ على هذا الكيان وحمايته والذود عنه، وتهذيب نفوس المنتمين إليه وتربيتهم تربية صالحة ليتحملوا بدورهم قسطا من مسؤولية الصراع على البقاء.

١٥٩

وفي هذا الصدد نجد الإمام الرضاعليه‌السلام قد قام بدور جليل لتحقيق هذه الغاية ضمن منهج قويم، فبدد غيوم الشبهات وأزال الشوائب التي حاول البعض لصقها بالشيعة والتشيع، كالغلو، والتناسخ والحلول.

لقد عمل إمامنا على ثلاثة محاور أساسية:

١ - ضد الفكر المنحرف الذي يمثله الغلو وكل مايتنافى مع التنزيه.

٢ - الوقوف بحزم ضد شبهات الواقفة، والفرق الأخرى المحسوبة على التشيع.

٣ - بيان الوجه الناصع للتشيع كفكر وعقيدة وحياة، وتربية الشيعة عليها في وصايا وارشادات ورسائل ومكاتبات، وقد استوفينا أهمها في الفصل السابق، لذا سيدور بحثنا هنا حول المحورين الأولين:

المبحث الأول: موقفه من الغلو والغلاة:

باديء ذي بدأ لابد لنا من معرفة المراد بالغلو لكي تتضح خطورته ومن ثم سوف نتعرض لموقف الإمام الرضاعليه‌السلام منه.

الغلو: هو تجاوز الحدّ، يقال: غلا في الدِّين والأمر يغلو غلوا، وقال بعضهم: هو تجاوز الحدّ والإفراط فيه(١) .

يقول الشهرستاني: ان الغلاة هم الذين غلو في حق أئمتهم حتى أخرجوهم من حدود الخلقية، وحكموا فيهم بأحكام الإلوهية، وربما شبهوا واحدا من الأئمة بالإله، ولربما شبهوا الإله

__________________

(١) اُنظر: لسان العرب / ابن منظور ١٠: ١١٢، مادة (غلا).

١٦٠