الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ

الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ0%

الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 199

الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 199 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 83891 / تحميل: 4911
الحجم الحجم الحجم
الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ

الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ

مؤلف:
العربية

١

٢

٣

٤

٥

مقدِّمة المركز

الحمد للّه رب العالمين وصلى اللّه على سيدنا محمَّد وآله الهداة الميامين الطاهرين ..

وبعد:

إن دراسة سيرة أئمة أهل البيتعليهم‌السلام تعدّ إحدى الركائز الأساسية في البناء العقائدي والفكري والسلوكي لديننا القويم، ذلك لأنهم عدل القرآن الكريم والامتداد الرسالي لمنهج النبوة، والحارس الأمين للقيم والمفاهيم الإسلامية في وجه التشويه والتحريف والضلال.

إنها سيرة معصومة تكشف عن سلوك القدوة الحسنة بكل تجلياتها، وتربط المرء بالمفاهيم الإسلامية في أصالتها، وتفتح له آفاقاً جديدة في مجالات العلم والعمل والفكر والتربية والسلوك.

ومن هنا فإن الكتابة عنها لاتنتهي، مهماتعددت الدراسات وتنوعت أساليبها، ذلك لما يجده الباحثون من حالة التواصل مع دلالاتها التي تتسع بسعة الحياة وتستغرق كل مفرداتها، وتسير بها باتجاه حركة التكامل المطلوب على صعيد الفرد والاُمّة.

إننا في رحاب النبي العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة الطاهرينعليهم‌السلام نعيش أروع معالم الكمال البشري، وأسمى آيات العظمة الإنسانية، ونتابع سلسلة من المواقف التي تحمل في ذاتها كل مبررات البقاء والخلود، معالم طريق، ومنارات هدى، وبيّنات مجد لا يضاهى ذلك إذا ما وقفنا عند تلك المعالم وهذه المنارات والبينات كما ينبغي، مرسلين النظر في أطرافها، باعثين سفراء العقول والضمائر بين ثناياها وفي أعماقها وقفة الدارس المتأمل، والناظر المستلهم، وهذا عين ما أردناه من هذه السلسلة الخاصة في دراسة سير المعصومينعليهم‌السلام ولعل أول ما نلمحه من نظرة

٦

كلية الى سيرهم الغنية بالعطاء هو انّ كل واحدٍ منهمعليهم‌السلام قد تميّز بواحدةٍ من الخصال أو أكثر، صبغت أيامه، وربّما تراثه أيضاً بصبغتها المميزة، مع ما نلاحظه من خطوط التلاقي الوفيرة، والتكامل التاريخي المتجسّد في سيرة واحدة تمتد قرنين ونصف القرن.

فإذا كان لون الشهادة هو الغالب على سيرة الحسينعليه‌السلام واشراقة مدارس الفقه والحديث والتفسير واتساع آفاقها مع الباقر والصادقعليهما‌السلام ، ونهضة الدين العارمة المتنقلة بين السجون مع موسى الكاظمعليه‌السلام وظاهرة الإمامة المبكرة مع الجواد والهادي والمهديعليهم‌السلام ، فثمة حلقات تاريخية شاخصة المعالم تجمع سير العظماء الخمسة مع من سبقهم، ومن هو بينهم من هداة البشرعليهم‌السلام .

أما مع الإمام الرضا فنشهد صفحتين أخريين لهما ظهور كبير، اتخذت الأولى لوناً سياسياً، في ولاية العهد التي اسندت إليه من قبل المأمون، فكيف أصبح زعيم أهل البيت ولياً للعهد في دولة المأمون، وقد كان أبوه قد قضى شهيداً في سجون هارون أبي المأمون؟ وفي وقت كان أنصاره من العلويين يعلنون التمرد على الدولة في كثير من أمصارها؟ وكيف قضى أيامه في ولايته تلك؟ وكيف كانت نهاية العهد؟ انها الصفحة التي شغلت وتشغل كل من كتب ويكتب عن الرضاعليه‌السلام .

أما الصفحة الثانية فاتخذت طابعاً علمياً كلامياً، حيث كانت أسواق الجدل العقيدي قائمة، والميادين مفتوحة لا سيما للزنادقة، فكانت مواجهاته لهذا التيار من أكبر صفحات آثاره المشرقة، مع ما تقدمه من صورة عن متابعاته الجادة لمشكلات عصره الثقافية والفكرية.

نرجو أن نجد في هذا الكتاب ما يقارب صفحات حياتهعليه‌السلام ويكشف عن أبرز معالم عطائه فيها.

واللّه ولي التوفيق.

مركز الرسالة

٧

المُقدَّمةُ

يتّصف أئمة أهل البيتعليهم‌السلام بجميع المناقب والفضائل فهم من نور واحد وطينة واحدة، ومن الضروري بمكان أن نستضئ بتاريخ حياتهم الشريفة، ونستجلي مواطن العبرة فيها، وما أكثرها لنهتدي بهديهم، ولنتعرف على مواضع العظمة التي امتازوا بها عن غيرهم، تلك المواضع التي ارتفعت بهم إلى قمم الكمال الانساني.

ومن هذا المنطلق يتناول هذا الكتاب دراسة لحياة الإمام الثامن علي بن موسى الرضاعليه‌السلام الذي لم يكن في الطالبيين في عصره مثله وكان سيد بني هاشم في زمانه ومشهورا بالتقدّم ونباهة القدر، وعظم الشأن، وجلالة المقام بين الخاصّ والعام. وفوق كل ذلك هو باب من أبواب اللّه عزوجل. كان - ومازال - منارا للهدى يقصده ملايين الزوار من كافة الاقطار، يتبركون بمرقده ويلتمسون شفاعته.

وتتأكد الحاجة إلى مثل هذا البحث إذا ما عرفنا الحالتين السياسية والثقافية التي عاصرها الإمام الرضاعليه‌السلام وما يمكن أن يؤدّيه من دور على هذين الصعيدين.

إلى جانب ذلك فإن الأمم الحيّة تُحيي ذكرى عظمائها وعلمائها، وتستمد من جهودهم وجهادهم دروسا تربوية تترجمها إلى واقع عملي، فترتقي بذلك إلى سلّم أعلى من القيم والرّقي الحضاري.

من هنا وجدنا من الضرورة بمكان أن ندرس هذه الشخصية الكبيرة دراسة علمية موضوعية، تعتمد التحليل قدر استطاعتها، والاستنتاج قدر جهودها، وفق منهج تكاملي يعتمد النقل والعقل معا، وبلغة واضحة.

وقد قسّمنا الكتاب إلى مقدِّمة وسبعة فصول، استعرضنا في الفصل الأول: عصر الإمامعليه‌السلام سياسياً وثقافياً، ضمن مبحثين منفصلين.

٨

وفي الفصل الثاني: نبحث حياة الإمامعليه‌السلام قبل توليه الإمامة، ضمن ثلاثة مباحث، الاول: الولادة والنشأة ومعاصرته لمدرسة جده الإمام الصادقعليه‌السلام ، والثاني: حياته مع أبيه ومعاناته في تلك الفترة، والثالث: يدرس قاعدة الإمامة في عصرهعليه‌السلام فيستعرض موقف أصحابه منه، والتفاف الناس حوله، ومدح الشعراء له.

أما الفصل الثالث: فيتحدّث عن الإمامعليه‌السلام بعد توليه الإمامة، في مبحثين، الأول: النصّ على إمامته، والثاني: في موقفه من الإمامة بصورة عامة.

والفصل الرابع: يتعرّض لدوره في الحفاظ على الكيان الإسلامي من خلال ثلاثة مباحث: حواراته مع أهل الأديان والعقائد المختلفة وحواراته مع أهل الإسلام ثمّ أساليبه التربوية وتعاليمه الحضارية.

ونكشف في الفصل الخامس: عن دوره في الحفاظ على هوية التشيع، من خلال موقفه من الغلاة المحسوبين على التشيع ثمّ موقفه من الواقفة وأخيراً موقفه من دعاة الفرق الأخرى.

والفصل السادس: يكشف لنا عن آثاره العلمية ومدى صحة نسبتها له. وفي الفصل السابع - وهو الأخير: نتطرق لولاية العهد وآثارها على حياة الإمامعليه‌السلام ، ضمن مباحث ثلاث، الأول: يتناول خلفيات ولاية العهد، والثاني: يكشف لنا عن موقف الإمام من ولاية العهد، أما الثالث فيعكس آثار ولاية العهد في شهادة الإمام الرضاعليه‌السلام .

ولسنا ندّعي أنّا قد أحطنا هنا بكل ما ينبغي الإحاطة به من حياة هذا الإمام المعصوم، غير أنّا قدّمنا جهداً نرجو أن نكون قد وفّقنا فيه إلى تحقيق خدمة علمية وثقافية.

سائلين اللّه أن يعصمنا من الزلل والخطأ، ومنه تعالى نستمدّ العون والتوفيق.

* * *

٩

الفصل الأول

عصر الإمام الرضاعليه‌السلام سياسيا وثقافياً

إن دراسة حياة الإمام الرضاعليه‌السلام لن تكون وافية ما لم يُسلط الضوء على العصر السياسي والثقافي الذي اكتنف شخصه الشريف، الأمر الذي يكشف لنا عن منهجه في التعامل مع مايحيط به زمانا ومكانا، وكيفية معالجته للاتجاهات الفكرية وما تفرزه سياسة عصره من مؤثرات خارجية على الفكر والعقيدة، سيما وأن الإمام الرضاعليه‌السلام شخصية فذة ظهرت بصماتها واضحة على العصر الذي عاشت فيه.

قال الذهبي: (قد كان عليّ الرضا كبير الشأن، أهلاً للخلافة)(١) ، فقد كان إمام زمانه وكان الشاهد على عصره، لما اتصف فيه من كمالات كثيرة: « فيه العلم والحكم والفهم والسخاء والمعرفة بما يحتاج الناس إليه، فيما اختلفوا فيه من أمر دينهم، وفيه حسن الخُلق وحسن الجوار، وهو باب من أبواب اللّه عز وجل »(٢) .

وحتى نحيط بالعصر الذي عاش فيه الإمام الرضاعليه‌السلام ، سوف نستعرضه في مبحثين: الأول: يتناول ذلك العصر من الناحية السياسية،

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ٩: ٣٩٢ / ١٢٥.

(٢) من حديث للإمام موسى الكاظمعليه‌السلام ، عن عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٣٤، ح ٩، الباب ٤.

١٠

والثاني: مخصص للناحية الثقافية.

المبحث الأول: عصر الإمام الرضاعليه‌السلام سياسياً

عاصر الإمامعليه‌السلام عددا من الحكام العباسيين، حيث شهد بقية حكم هارون الرشيد (170 - 193 ه- )، ومن بعده ابنه الأمين المخلوع (193 - 198 ه- ) وأوائل حكم المأمون (198 - 218 ه- ) الذي عهد إليه بولاية العهد.

كانت سيرة الخلفاء العباسيين شبيهة إلى حد كبير بسيرة الحكام الامويين، كلاهما مارس الظلم والعدوان على العباد، واتخذوا مال اللّه دولاً وعباده خولاً.

وأخذت رياح الفتن تعصف مثل ريح السموم على المسلمين عموما وعلى العلويين بصورة خاصة، فقد فتح العباسيون أبواب السجون وشهروا السيوف ضد الاحرار من أهل بيت الرسالة، وكان شغلهم الشاغل ملاحقة العلويين الذين يطالبون بحقهم في الحكم، لأجل تحقيق العدالة الاجتماعية.

كان الإمام الرضاعليه‌السلام يرقب عن كثب، بمرارة وألم تلك الأحداث والفجائع المؤلمة التي تعصف بالبيت العلوي، وكان يتبع الحكمة وسياسة النفَس الطويل مع السلطة وجلاوزتها، هذا الكلام لانقوله جزافا فمصاديقه كثيرة، منها: «لما خرج محمد بن جعفر بن محمد - وهو عمّ الإمام الرضاعليه‌السلام - في المدينة بعث هارون الرشيد أحد جلاوزته المعروف

١١

بالجلودي، وأمره ان ظفر به أن يضرب عنقه وأن يغير على دور آل أبي طالب، وأن يسلب نساءهم ولايدع على واحدة منهن إلا ثوبا واحدا فصار الجلودي إلى باب دار أبي الحسن الرضاعليه‌السلام وهجم على داره مع خيله فلما نظر إليه الرضاعليه‌السلام جعل النساء كلهن في بيت، ووقف على باب البيت، فقال الجلودي لابي الحسنعليه‌السلام لابدّ من أن أدخل البيت فاسلبهن كما أمرني أمير المؤمنين، فقال الرضاعليه‌السلام : أنا أسلبهن لك وأحلف أنّي لا أدع عليهن شيئا إلاّ أخذته، فلم يزل يطلب إليه ويحلف له حتى سكن، فدخل أبو الحسن الرضاعليه‌السلام فلم يدع عليهن شيئا حتى أقراطهن وخلاخيلهن وإزارهن إلاّ أخذه منهن وجميع ما كان في الدار من قليل وكثير»(١) .

وكان واضحا من هذا الموقف مدى الحقد الدفين الذي يكنه هارون للعلويين بسبب معارضتهم التي تشكل كابوسا مؤرقا للعباسيين، لذلك شن «هارون» ومن قبله من حكام العباسيين حربا شعواء منظمة في كل الاتجاهات ضد العلويين، وقتلوهم تحت كل حجر ومدر، ولم يسلم حتى من تظاهر بمسالمتهم فقد دسوا إليه السّم، ولعل أوضح شاهد على الجو الخانق والضيق الشديد الذي تعرض له أهل البيتعليهم‌السلام في ذلك الوقت ماجرى للإمام موسى الكاظمعليه‌السلام حتى أنه سمّي بالكاظم لما كظمه من الغيظ عن أعدائه وخاصة العباسيين منهم، كان يوصي أصحابه بالكتمان والحذر وعدم المجاهرة بالمعارضة، قال لهشام بن سالم:

« من آنست منهم رشدا فألق إليه وخذ عليه الكتمان، فإن أذاع فهو

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢: ١٧٢، ح ٢٤، باب (٤٠).

١٢

الذّبح » وأشار بيده إلى حلقه(١) . وكان يشغل أكثر أوقاته بالعبادة، ومع ذلك ألقوه في غياهب السجون أكثر من مرة على الرغم من تصريحه لهم بعدم الخروج عليهم، مع كل ذلك أمر المهدي العباسي (١٥٨ - ١٦٩ ه- ) بجلبه إلى بغداد وحبسه، وقال له: تؤمنني أن لاتخرج عليّ أو على أحد من ولدي؟ فقال الإمامعليه‌السلام : « لا واللّه! لافعلت ذلك، ولا هو من شأني ». ولما هلك المهدي وقدم هارون إلى المدينة منصرفا من عمرة رمضان سنة ١٧٩ ه-، حمل معه موسى الكاظمعليه‌السلام إلى بغداد وحبسه إلى أن توفي في محبسه(٢) ، قتله السندي بن شاهك في سم جعله في طعام قدّمه إليه(٣) .

وبذلك عاصر الإمام الرضاعليه‌السلام مأساة أبيه من بدايتها إلى نهايتها، تلك المأساة التي تمثل من جهة أخرى رسالة مفتوحة في خطاب التهديد والإنذار والوعيد، يتلقّاه في مطلع شبابه.

وفي عصر كهذا ...، كان الإمامعليه‌السلام يتصرّف في حدود ما هو متاح له، وكان يجهر بالحقيقة ولاتأخذه في الحق لومة لائم، حتى أن بعض أصحابه قد خاف عليه من السلطة الظالمة، والبعض دعاه إلى التمسك بالتقية ففي رواية ينتهي سندها إلى صفوان بن يحيى، قال:

لما مضى أبو الحسن موسى بن جعفرعليهما‌السلام وتكلم الرضاعليه‌السلام خفنا عليه من ذلك، فقلت له: إنّك قد أظهرت أمرا عظيما وإنّا نخاف من هذا الطاغي

__________________

(١) الارشاد / الشيخ المفيد ٢: ٢٢٢ و ٢٣٥.

(٢) الأئمة الاثنا عشر / شمس الدين بن طولون: ٩٠.

(٣) الارشاد ٢: ٢٤٢.

١٣

- يقصد هارون - فقال: « ليجتهد جهده فلا سبيل له عليّ »(١) .

ومن هنا يبدو متوقعا أن العباسيين سوف يضعون الإمامعليه‌السلام في دائرة الضوء، يراقبون تحركاته، ويحصون أقواله وأفعاله، ونتيجة لذلك تظاهر الامامعليه‌السلام بالانصراف عن الشؤون العامة والانشغال عن مناوئة السلطة، وأوحى لها باهتمامه بشأنه الخاص وفق أسلوب بارع تنقله الرواية التالية، عن أبي الحسن الطيب، قال: لمّا توفّي أبو الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام دخل أبو الحسن علي بن موسى الرضاعليه‌السلام السوق، فاشترى كلبا وكبشا وديكا، فلما كتب صاحب الخبر إلى هارون بذلك، قال: قد أمنا جانبه. وكتب الزبيري أن علي بن موسى الرضا قد فتح بابه ودعا إلى نفسه، فقال هارون: واعجبا من هذا! يكتب أن علي بن موسى قد اشترى كلبا وكبشا وديكا، ويكتب فيه ما يكتب(٢) .

ويبدو أن مناورة الإمام هذه هي حالة امتصاص بارعة للضغوط والمراقبة الشديدة التي يتعرض لها من «هارون» وجواسيسه، لم يكتب لها النجاح طويلاً فسرعان ما أدركت السلطة أن الإمامعليه‌السلام لا يتوانى ولا يستكين ولا يكف عن كشف زيف العباسيين والمظالم التي يرتكبونها باسم الدين، وكان من الطبيعي أن تثور ثائرتهم، فلم يتركوه طليق اليدين.

وبعد هلاك هارون ونشوب الخلاف الدموي بين ولديه الأمين والمأمون أصبح الطريق سالكا أمام الإمامعليه‌السلام فوجد الفرصة سانحة له بعض الشيء للقيام بدور فعال في إحياء ما دثر من مآثر الإسلام الخالدة،

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢: ٢٤٦، ح ٤، الباب (٥٠).

(٢) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢: ٢٢٢، ح ٤، الباب (٤٧).

١٤

وبما يتناسب مع تلك المرحلة الحرجة من تاريخ بني العباس السياسي الدامي، كما انفسح المجال أمام شيعته للاتصال به، وعلى ضوء هذا التحول واتساع النفوذ والتعاطف الجماهيري الكبير، قاد الإمامعليه‌السلام حركة فكرية واسعة سرعان ما أثمرت بوقت قصير.

وهناك روايات تاريخية تُلقي ضوءا على حقيقة ما قلناه، فقد قام بجولة واسعة في العالم الاسلامي، وقد ابتدأ جولته من المدينة إلى البصرة لكي يجتمع مباشرة مع قواعده الشعبية ويحدثها في كل شيء، وكان من عادته قبل أن يصل تلك المنطقة أن يرسل إليها رسولاً يخبرهم بمقدمه إليهم خلال الأيام القلائل الآتية ثم يأتي إليها الإمامعليه‌السلام والجمهور متهيء لاستقباله والاجتماع به، فيعقد معهم اجتماعا واسعا يلقي عليهم الحجة بإمامته وقيادته ويطلب منهم بعد ذلك أن يسألوه، لكي يجيب على أسئلتهم في مختلف جوانب المعرفة الاسلامية(١) .

بعد هلاك هارون وجد المأمون نفسه بعد خلعه لأخيه، في مأزق خطير، فقد كشف الناس زيف شعارات العباسيين الداعية للرضا من آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن تبين للقاصي والداني أن سياستهم غير المعلنة تقوم على التفرد والاستئثار بالسلطة، من جهة أخرى أخذت الثورات وخاصة ثورات العلويين تقضُّ مضاجعهم، إضافة إلى الصراع الذي نشب داخل البيت العباسي، مما أضعف قوتهم وشتت شملهم، وفي الوقت الذي ثار فيه صراع عنيف بين الأخوين، اشتعلت نار الثورة في بلاد الشام، اذ ثار السفياني وهو «علي بن عبد اللّه بن خالد بن معاوية بن أبي سفيان» ودعا

__________________

(١) سيأتي تفصيل ذلك في الفصل الثاني.

١٥

الى نفسه، واستولى على دمشق والمنطقة المحيطة بها، وكاد أن يقيم حكما أمويا في بلاد الشام، لولا أن نشب نزاع بين اليمنيين والمضريين، أضعف قوته، فنجح الأمين بعد جهود كثيرة استمرت أكثر من عامين في القضاء عليها(١) ، كل تلك العوامل دفعت المأمون إلى الامساك بزمام الامور، وكان معروفا بالدهاء والحنكة السياسية، اذ وجد أن السيطرة على الوضع لاتتم إلا بانهاء القطيعة مع العلويين الذين اشتد ساعدهم وتزايدت ثوراتهم وتوسعت قواعدهم الجماهيرية، ولهذا قام باستدعاء الإمام الرضاعليه‌السلام من المدينة متظاهرا بانه سوف يتنازل له عن الخلافة، أو على الأقل يوصي له بولاية العهد، خصوصا وهو يعلم ان الإمام هو زعيم الطالبيين، وهذا التحول السياسي المدروس بدهاء أبدل الظرف السياسي الخانق الذي كان يحيط بالامامعليه‌السلام إلى نوع من الحرية السياسية من حيث الظاهر، فبينما كان هارون يورد العلويين حياض الموت والذل والجوع، وأراد لهم أن يأخذوا دور التابع الذليل الذي لاحول له ولاقوة، أخذ المأمون يقرب العلويين ويتودد إليهم ويغدق عليهم ويشيد بفضلهم ويتظاهر بالدفاع عن حقهم بالحكم، كما أرجع فدكا على ولد فاطمةعليها‌السلام ، وغدا دورهم دور الشريك الفاعل، لا دور التابع الخامل، كما كان الحال في عهود أسلافه.

وكل من يتتبّع المجرى العريض لهذا التحول السياسي، يجد أن المأمون أراد أن لا يسير عكس التيار، فالتيار الجماهيري العريض كان لصالح العلويين في زمانه، وكان تيار الحب للعلويين قد تعاظم حتى في عقر داره

__________________

(١) جهاد الشيعة / الدكتورة سميرة الليثي: ٣١٦.

١٦

وبالتحديد في عاصمته «مرو» بخراسان. زد على ذلك زيادة تحركات الإمام الرضاعليه‌السلام في المدينة وهي العاصمة الروحية للخلافة الاسلامية، ويكفينا الاستدلال على خشية المأمون من العلويين عامة ومن زعيمهم الإمام الرضاعليه‌السلام على وجه الخصوص، ماقاله المأمون لقادة العباسيين عندما وجهوا إليه اللّوم والعتاب على تقليده ولاية العهد للرضاعليه‌السلام ، قال: قد كان هذا الرجل مستترا عنا يدعو الناس إلى نفسه، فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه إلينا، وليعرف أن الملك والخلافة لنا، وليعتقد فيه المعتقدون أنّه ليس مما ادعى لنفسه في قليل ولا كثير، وأن هذا الأمر لنا دونه، وقد خشينا إن تركناه على تلك الحالة أن ينشقَّ علينا منه ما لا نقدر على سدِّه وأن يأتي علينا ما لا طاقة لنا به(١) .

هذا النص يعكس لنا بدون لبس مدى خوف المأمون من تحرك الإمام ومن اتساع قاعدته الجماهيرية، وقد تمكن المأمون من خلال مخطط ولاية العهد من تطويق الإمام وعزله عن الناس ووضعه في الاقامة الجبرية في خراسان، لم يضعوه - هذه المرّة - في السجون المظلمة كما كان الحال مع أبيه الكاظمعليهما‌السلام من قبل، بل وضعوه في قصور شاهقة وأبنية فارهة، لم يكن التغير - اذن - في الجوهر بل في الظاهر، وقد كان الإمامعليه‌السلام يشتكي على الدوام من الوضع الخانق الذي يحيط به، فعيون السلطة ترصد حركاته وسكناته، وتحجب عنه أقطاب شيعته، وكان محاطا بالدسائس والمؤامرات التي تحاك هناك بين أقطاب السلطة أنفسهم من أجل الايقاع به ومنعه من الاتصال بالناس.

__________________

(١) دلائل الإمامة / الطبري: ٣٤٠ - ٣٨، عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢: ١٨١، ح ١٦٠، الباب (٤١).

١٧

ومن أجلى الشواهد على ذلك أن المأمون وجد في يوم عيد انحراف مزاج أحدث عنده ثقلاً عن الخروج إلى الصلاة بالناس، فقال لأبي الحسن علي الرضاعليه‌السلام : يا أبا الحسن قم وصل بالناس، فخرج الرضاعليه‌السلام وعليه قميص قصير أبيض وعمامة بيضاء لطيفة، وفي يده قضيب فلما رآه الناس هرعوا إليه وانثالوا عليه لتقبيل يديه، فأسرع بعض الحاشية إلى الخليفة المأمون، فقال: يا أمير المؤمنين تدارك الناس واخرج وصلّ بهم وإلا خرجت الخلافة منك الآن، فحمله على أن يخرج بنفسه وجاء مسرعا، والرضاعليه‌السلام بعد من كثرة زحام الناس عليه لم يخلص إلى المصلى، فتقدم المأمون وصلّى بالناس(١) .

ومن هنا يبدو متوقعا أن يسعى المأمون للتخلص من الإمامعليه‌السلام عن طريق دس السّم اليه، كما سيأتي في محله من هذا البحث.

وخلاصة القول أن الإمام الرضاعليه‌السلام عاصر أحداثا سياسية جسيمة عصفت بالبيت العلوي خاصة وبالمسلمين عامة، فقد قضى شطرا كبيرا من عمره زمن هارون يشاهد مأساة العلويين، وخاصة بعد سجن أبيهعليهما‌السلام ومن ثم اغتياله بالسم، ومعاصرته للصراع الدموي الذي تفجر داخل الكيان العباسي بين الاخوين (الأمين والمأمون) حيث انقسمت الدولة العباسية التي كانت كيانا واحدا إلى شطرين متحاربين.

وفي خضم هذه الاحداث وقف الامامعليه‌السلام بكل شموخ مدافعا عن صرح الإسلام العظيم، معريّا السلطة مما كانت تذيعه من شرعية وجودها السياسي.

__________________

(١) كشف الغمّة / أبي الحسن الإربلي ٣: ٥٨، وانظر: الإرشاد ٢: ٢٦٤، وعيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢: ١٦٠ / ٢١٦، باب (٤٠).

١٨

المبحث الثاني: عصر الإمام الرضاعليه‌السلام ثقافياً

لقد رافق عصر الإمام الرضاعليه‌السلام حركة فكرية بلغت الغاية في نشاطها وانتشارها، فقد اتسعت رقعة الاسلام وكثرت الفتوحات، واتصل المسلمون بالامم الاخرى من فرس وروم وغيرهم، وكان المأمون أول من ترجم علوم الحكمة وقرب أهلها، فظهرت - على اثر ذلك - مقالات غريبة وتيارات أجنبية عن الاسلام، وكان الملحدون يلقون الشبهات، والمرجئة يساندون حكام الجور، والمغالون يدعون مع اللّه آلهة أخرى والخوارج يكفرون المسلمين، وكثير من الرواة يضعون الأحاديث بطلب من الحكام لاغراض سياسية أو مذهبية. وكانت صور الصراع الفكري تتمثل في الخطابات المتبادلة ومجالس المناظرة وعن طريق الاستعانة بالشعراء في الدفاع عن آراء كل فريق وهجاء الفريق الآخر، فقد كان لكل فريق شعراءه، وعموما كان الشعر من أمضى الاسلحة(١) .

وفي هذا العصر انتشر التشيع في كل قطر، وبرزت معالمه، وتركزت أسسه وانتشر فقه الشيعة وناظر متكلموهم خصومهم في مسائل التوحيد والعدل وعصمة الأنبياء وما إلى ذلك من مسائل عقيدية، كل ذلك بفضل الجهد العلمي الكبير الذي اضطلع به الإمام الصادقعليه‌السلام ، وكان من نتائج هذا الجهد المبارك أن عرف المذهب على حقيقته، اصولاً وفروعا، ومن هنا اطلق على الشيعة لفظ الجعفريين وعلى فقههم الفقه الجعفري تيمنا

__________________

(١) انظر: جهاد الشيعة: ٢١٢.

١٩

باسم الإمام الصادقعليه‌السلام .

فقد انطلق الإمام الصادقعليه‌السلام إلى تأسيس مدرسة علمية عظيمة في مطلع القرن الهجري الثاني، تخرجت منها كوادر علمية كثيرة في مجالات عديدة من المعرفة. وعمد الإمام الكاظمعليه‌السلام على تعميق أسس مدرسة أبيه الصادقعليهما‌السلام وقام بتوضيح معالمها أكثر فأكثر، ولكن الظروف الاستثنائية التي عاشها وقضاءه شطرا كبيرا من عمره في السجون لم تمكنه من تحقيق سائر اهدافه الشريفة في احياء السنة النبوية الشريفة على ضوء مدرسة أبيهعليهما‌السلام ، فبلغ به الأمر أن يبعث إلى هشام بن الحكم بأن يكف عن الكلام نظرا لخطورة الموقف، فكف هشام عن ذلك حتى مات المهدي العباسي(١) . مع ذلك استغل الإمام الكاظمعليه‌السلام فترات الهدوء النسبي لنشر الاحكام والتعاليم الاسلامية الصافية، وكان العلماء والرواة لا يفارقونه ولا يفترون عنه، يسجلون أحاديثه وأبحاثه.

روى السيد ابن طاووس: أنه كان جماعة من خاصة أبي الحسن موسىعليه‌السلام من أهل بيته وشيعته يحضرون مجلسه، ومعهم في أكمامهم ألواح آبنوس وأميال، فإذا نطق بكلمة وأفتى في نازلة أثبت القوم ما سمعوا منه في ذلك(٢) .

تجدر الاشارة إلى أن علم الخلاف كان قد وجد منذ نهاية القرن الأول الهجري، وطوال القرن الثاني بين مدرستي أهل الرأي وأهل الحديث، وثار الجدل بينهم، وانبرى كل فريق يدافع عن رأيه ويشكك بالمدرسة

__________________

(١) انظر: رجال الكشي: ٢٢٧، رقم الترجمة (١٣١).

(٢) مهج الدعوات / ابن طاووس: ٢١٩.

٢٠