الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ

الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ0%

الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 199

الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 199 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 83768 / تحميل: 4903
الحجم الحجم الحجم
الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ

الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ

مؤلف:
العربية

ومن الشواهد على الإجلال والهيبة التي لقاها من علماء عصره، وحتى من أهل بيته، ما جاء عن سليمان بن جعفر، قال: قال لي علي بن عبيد اللّه بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (صلوات اللّه عليهم): أشتهي أن أدخل على أبي الحسن الرضاعليه‌السلام اُسلّم عليه، قلت: فما يمنعك من ذلك؟ قال: الإجلال والهيبة له(٣) .

وكان بعض كبارعلماءالشيعة يطلبون لقاء الإمامعليه‌السلام لا لشيء إلاّ لالتماس البركة منه، وحكاياتهم في هذا كثيرة، وهو أمر معهود في شأن عمداء أهل بيت النبوّة، ناهيك عن اعتقادهم بأنّه الإمام الحقّ الواجب الطاعة ..

ثانيا: جمهور الناس

لما كانت أسرار الرسالة ومفاتيح كنوزها قد انتهت إلى الإمام الرضاعليه‌السلام غدت جموع الجماهير تحفُّ به، وبالمقابل كان الإمامعليه‌السلام يكن للناس كل الحب والعطف، وعندما تحف به الجماهير تتألق ملامحه بالبشر والنور، وتفيض عيناه بالوداعة واللطف، كانت شخصيته ذات جاذبية خاصة تجذب القلوب المؤمنة والنفوس الطاهرة كما يجذب شذا الازهار النحل، أينما يرحل أو يحل يمطروه بوابل كلمات التقدير والتبجيل، يتعطشون إلى رؤيته تعطش الضمآن إلى الماء.

عن أبي حبيب النباجي، قال: جاءني من أخبرني بقدوم أبي الحسن الرضاعليه‌السلام من المدينة، ورأيت الناس يسعون إليه(١) . وعبارة «يسعون إليه» تكشف لنامدى شوق الناس للامام الرضاعليه‌السلام وشدة محبتهم له، فقد كانوا

__________________

(١) رجال الكشي: ٤٩٥، ترجمة (٤٨٥).

(٢) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام : ٢٢٧، ح ١٥، الباب (٤٧).

٨١

يتبركون به ويسألونه عن معالم دينهم وعن الحلال والحرام روى الكليني في (الكافي) بسنده عن اليسع بن حمزة، قال: كنت في مجلس أبي الحسن الرضاعليه‌السلام وقد اجتمع إليه خلق كثير يسألونه عن الحلال والحرام(٢) .

كان شذا علمه وبيانه يجذب الناس، كانت ترنو إليه أبصارهم وتحدق إليه عيونهم، وكانوا يلتمسون البركة في كل شيء يلامسه بدنه، روى الصدوق: أن الرضاعليه‌السلام لما دخل نيسابور نزل في محلة يقال لها القزويني، أو الغزيني، فيها حمّام، وهو الحمام المعروف اليوم بحمام الرضا، وكانت هناك عين فدخل ماءها فأقام عليها من أخرج ماءها حتى توفر وكثر، واتخذ من خارج الدرب حوضا ينزل إليه بالمراقي إلى هذه العين فدخله الرضاعليه‌السلام واغتسل فيه ثم خرج منه فصلى على ظهره والناس يتناوبون ذلك الحوض ويغتسلون منه التماسا للبركة ويصلون على ظهره، ويدعون اللّه عزّوجلّ في حوائجهم، وهي العين المعروفة بعين كهلان يقصدها الناس إلى يومنا هذا(١) .

كان الرضاعليه‌السلام آية الحق وراية العدل ورمزا للفضيلة، وكانت روعة الإيمان تغطي وجهه، لذلك كانت له في قلوب الناس هيبة كبيرة، يروى أنه لما خرج للصلاة في مرو ورآه القُوّاد والعسكر رموا بأنفسهم عن دوابهم ونزعوا خفافهم وقطعوها بالسكاكين لما رأوه راجلاً حافيا، وأنه لما هجم الجند على دار المأمون بسرخس بعد قتل الفضل بن سهل وجاءوا بنار ليحرقوا الباب وطلب منه المأمون أن يخرج، فلما خرج وأشار إليهم أن

__________________

(١) أعيان الشيعة ٢: ١٥.

(٢) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢: ١٤٥، ح ٤، باب (٣٧).

٨٢

يتفرّقوا تفرّقوا مسرعين(٢) .

صفوة القول ؛ لقد فجّر الإمام أمامنا نهرا من العاطفة في قلب كل انسان مسلم، فقد وجدوا فيه انسانية فذة استمدها من روح الرسالة.

ثالثا: الشعراء

كان الشعراء يتوافدون اليه، ينظمون القوافي ويتفننون في صوغ قوالب المعاني التي تشيد بفضله ومنزلته. كان دعبل الخزاعي من أبرز شعرائه، فقد كان كل ولائه موجها نحو العلويين، حتى أنه جهر بعدائه الشديد للخلفاء العباسيين، وهجاهم هجاءً لاذعا مرّا، وأبدى دعبل حبوره لبيعة المأمون للامام العلوي الرضا بولاية العهد، فدخل عليه بمرو فقال له: يا ابن رسول اللّه، اني قد قلت فيكم قصيدة، وآليت على نفسي أن لا أنشدها أحدا قبلك. فقالعليه‌السلام : « هاتها » فأنشده:

مدارسُ آيات خلت من تلاوة

ومنزلُ وحيٍ مقفرُ العرصات

 فلما بلغ إلى قوله:

أرى فيئهم في غيرهم متقسّما

وأيديهم من فيئهم صفرات

 بكى أبو الحسن الرضاعليه‌السلام وقال له: « صدقت ياخزاعي » فلما بلغ إلى قوله:

إذا وتروا مدُّوا إلى واتريهم

أكفّا عن الأوتار منقبضات

 جعل الرضاعليه‌السلام يقلّب كفّيه ويقول: « أجل واللّه منقبضات » فلما بلغ قوله:

__________________

(١) اُنظر: الإرشاد ٢: ٢٦٥ و ٢٦٧.

٨٣

٨٤

لقد خفت في الدنيا وأيام سعيها

وإنّي لارجو الأمن بعد وفاتي

 قال الرضاعليه‌السلام : « آمنك اللّه يوم الفزع الأكبر » فلما انتهى إلى قوله:

وقبر ببغداد لنفسٍ زكيّةٍ

تضمَّنها الرحمنُ في الغُرفات

وهي قصيدة عصماء، من أشهر ماقيل من الشعر في أهل البيتعليهم‌السلام (١) .

وأنشده إبراهيم بن عباس:

أزالت عناء القلب بعد التجلّد

مصارع أولاد النبي محمد

 فوهب لهما عشرين ألف درهم من الدراهم التي عليها اسمه، وكان المأمون أمر بضربها في ذلك الوقت.

قال: أما دعبل فصار بالعشرة آلاف التي حصته إلى قوم، فباع كل درهم بعشرة دراهم، فتخلصت له مائة ألف درهم، الأمر الذي يحكي بوضوح مدى تعلق قاعدة الإمام الرضاعليه‌السلام بكل ما خرج عنه مطلقا، وأما إبراهيم فلم تزل عنده بعد أن أهدى بعضها وفرق بعضها على أهله إلى أن توفّىرحمه‌الله ، وكان كفنه وجهازه منها.

أما أبو نؤاس، فارس الشعر في زمانه، فقد أدلى بدلوه، وأظهر جواهر شعره بعد صمت طويل، فلما وفد على المأمون، قال له: يا أبا النؤاس، قد علمت مكان علي بن موسى الرضا مني وما أكرمته به، فلماذا أخّرت مدحه وأنت شاعر زمانك وقريع دهرك؟ فأنشد يقول:

قيل لي أنت أوحد الناس طرا

في فنون من الكلام النبيه

لك من جوهر الكلام بديع

يثمر الدر في يدي مجتنيه

فعلى مَ تركت مدح ابن موسى

والخصال التي تجمعن فيه

__________________

(١) إعلام الورى ٢: ٦٧.

٨٥

قلت لا أهتدي لمدح إمامٍ

كان جبريل خادما لأبيه

 فقال المأمون: أحسنت! ووصله من المال بمثل الذي وصل به كافة الشعراء، وفضّله عليهم(١) .

وعن علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه، قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن يحيى الفارسي، قال: نظر أبو نؤاس إلى أبي الحسن علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ذات يوم وقد خرج من عند المأمون على بغلة له، فدنا منه أبو نؤاس، فسلّم عليه وقال: يا ابن رسول اللّه، قد قلت فيك أبياتا فأحب أن تسمعها مني، قال: « هات » فأنشأ يقول:

مطهّرون نقيّات ثيابهم

تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا

مَن لم يكن علويا حين تنسبه

فما له من قديم الدهر مفتخر

فاللّه لما برى خلقا فأتقنه

صفّاكم واصطفاكم أيها البشر

فأنتم الملأ الأعلى وعندكم

علم الكتاب وما جاءت به السور

 فأكرمه الإمام ثلاثمائة دينار كانت نفقته، وساق إليه بغلته.(٢)

مما تقدّم ظهر لنا سعة قاعدة امامة الرضاعليه‌السلام بين الناس ؛ العلماء منهم والجمهور والشعراء، وليس ثمة عبارة تعكس ذيوع صيته وسعة دائرة مواليه، أتمّ من عبارة أبي جعفرعليه‌السلام : « رضي به المخالفون من أعدائه كما رضي به الموافقون من أوليائه »(٣) .

__________________

(١) إعلام الورى ٢: ٦٥، سير أعلام النبلاء ٩: ٣٨٩. غير أن المعروف أن أبا نؤاس توفي سنة ١٩٥ أو ١٩٦ أو ١٩٨، أي قبل ولاية الإمام الرضاعليه‌السلام بسنتين على الأقل.

(٢) إعلام الورى ٢: ٦٥، عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢: ١٥٥، ح ١٠، باب (٤٠).

(٣) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٢٢، باب (١).

٨٦

الفصل الرابع

دور الإمام الرضاعليه‌السلام  في صيانة الفكر الإسلامي

إن الإسلام كفكر أصيل قد وضعت أسسه واتضحت معالمه وتشخصت أركانه في عصر الرسالة، وعليه فهو ليس بحاجة إلى صياغة جديدة وإنما بحاجة ماسة إلى قراءة تجلّي صورته الأصلية وفق رؤية واضحة، خصوصا بعد أن ظهرت الفرق والمذاهب وهبّت تيارات فكرية دخيلة أثّرت على نقاء العقيدة وغدا الفكر الإسلامي فسيفساء عجيبة من الاتجاهات المتناقضة والمتنافرة.

وبطبيعة الحال فان الإمام المعصوم بما يتصف به من عصمة على صعيد الفكر والسلوك، وبما يمتلكه من عمق علمي، هو المؤهل للعمل على تقديم هذه القراءة المطلوبة لتنقية المعارف الإسلامية من الشوائب والشبهات التي علقت بها من جراء المَسْلَكَين الانحرافي، والتحريفي ويمثل المسلك الانحرافي التيارات الفكرية التي تناقض العقيدة الإسلامية بشكل مباشر، كالإلحاد والزندقة والغلو والتناسخ، أما المسلك التحريفي فتمثله التيارات المحسوبة على الإسلام والتي تحرف عن عمد أو غير عمد مضمون العقيدة الإسلامية الصافي، كالتجسيم، والتشبيه، والجبر، والتفويض، والإرجاء. فنحن إذن أمام عب ء دونه زحزحة الجبل.

٨٧

لقد انحسر جانب كبير من قيم وتعاليم الإسلام في واقع الأُمة الثقافي والأخلاقي والسياسي في عصر الامويين والعباسيين، وأخذ هذا الانحسار يرسّخ جذوره في عمق الواقع الحياتي للأُمة، وامتدت تأثيراته في مساحات كبيرة من مجتمع المسلمين، وبدأ المسخ الحضاري لهوية الأُمة. وقد أصاب القيم الإسلامية اهتزاز كبير وتعرضت روحية الأُمة إلى هبوط واضح، ووجدت القيم الجاهلية لها مرتعا خصبا في ظل الحكومات المنحرفة.

في ظل هذا الواقع وجد الأئمةعليهم‌السلام أنفسهم أمام مسؤولياتهم الرسالية الكبيرة وعلى رأسها صيانة الفكر الإسلامي من خلال التصدي للتيارات الفكرية ذات الصبغة الانحرافية والتحريفية.

وتجدر الإشارة إلى أن الأدوار التي مارسها الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام في مختلف المراحل، ليست هي مواقف ارتجالية انفعالية لمواجهة تحديات طارئة، بقدر ماهي أدوار تنطلق من تشخيص دقيق للظروف الموضوعية التي تمر بها الحالة الإسلامية على كل المستويات.

وغني عن القول أن العوامل السياسية المتغيرة والضاغطة ودرجة وعي الأُمة في كل مرحلة أو مقطع زماني هي من العوامل الأساسية في تنوع أدوار الأئمة تجاه الأمة، وإن كانت هناك أدوار مشتركة بينهمعليهم‌السلام .

لقد استطاع الإمام الرضاعليه‌السلام أن يستغل فترة التحول السياسي الذي أحدثه المأمون في مسار السياسة العباسية تجاه أهل البيتعليهم‌السلام من أجل إحداث نقلة نوعية على صعيد الفكر الإسلامي وأن يخرجه من قفص التقليد والجمود السائد، بعد أن سد الساسة وعلماء البلاط على الناس

٨٨

منافذ الرؤية السليمة للإسلام من خلال أفكار الجبر والإرجاء، وحرفوا أذهانهم عن التوحيد الحقيقي بفعل التجسيم والتشبيه وما شابه ذلك. لذلك أراد الإمامعليه‌السلام أن يضبط عدسة رؤيتهم على منظور سليم للإسلام مستغلاً الانفتاح الثقافي الذي حدث في عصر المأمون وتشجيعه الحركة الثقافية بمختلف تياراتها واتجاهاتها.

وكان المأمون يستبطن غرضا شخصيا ذا صبغة سياسية، فقد حرص على انقطاعه عن الحُجَّة أمام متكلمي الأديان والمذاهب الذين جلبهم من كل حدب وصوب من أجل توهين الإمامعليه‌السلام أمام العلماء والرأي العام، قال الشيخ الصّدوق: كان المأمون يجلب على الرضاعليه‌السلام من متكلمي الفرق والأهواء المضلَّة كلَّ من سمع به حرصا على انقطاع الرضاعليه‌السلام عن الحُجَّة مع واحد منهم، وذلك حسدا منه له ولمنزلته من العلم، فكانعليه‌السلام لا يكلم أحدا إلاّ أقرَّ له بالفضل والتزم الحُجَّة له عليه(١) .

ولكن إمامنا واجه التحدي وشمر عن ساعد الجد، وحاجج رؤساء الأديان والملل في ذلك الزمان، ومن خلال عملية مطارحة الأفكار أذعن قادة الفكر الآخر للأدلة العلمية القاطعة التي أوردها الإمامعليه‌السلام حتى أن البعض قد أشهر إسلامه، كعمران الصابى ء. وسوف نستعرض نماذج من مناظراته مع أهل الأديان والعقائد المختلفة أولاً، ثم نستعرض ثانيا حواراته مع أهل الإسلام، والتي قدم من خلالها قراءة جديدة لقضايا شائكة كانت وما زالت موضع سجال بين علماء المسلمين، كقضايا عصمة الأنبياء والإمامة والبداء.

__________________

(١) التوحيد / الشيخ الصدوق: ٤٥٤، باب (٦٦).

٨٩

المبحث الأول: حواراتهعليه‌السلام مع أهل الأديان والملل والعقائدالمختلفة

اتّخذ الإمام الرضاعليه‌السلام من الحوار الهادف، المبني على الدليل، وسيلة إلى الإقناع، وكان حوارهعليه‌السلام مع أهل الأديان والعقائد المختلفة حوارا مفتوحا، وذلك من خلال المناظرات التي عقدها معهم، وسعى من خلالها على إطلاق العقول من عقال الجهل والحيرة والضلالة. ولعل أهم شاهد نسوقه في هذا المجال مجلس الإمام الرضاعليه‌السلام مع أهل الأديان وأصحاب المقالات مثل الجاثليق ورأس الجالوت وعمران الصابى ء والهربذ الأكبر، في التوحيد، عند المأمون، ودار الحوار فيها حول مواضيع عقائدية حساسة، وقد استطاع الإمام الرضاعليه‌السلام تحقيق النتائج التالية:

أولاً: إثبات نبوة نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الكتب السماوية

تتبدّى لنا عظمة وعلمية الإمام الرضاعليه‌السلام وكونه حجة للّه على عباده من خلال معرفته الكاملة بالكتب السماوية، وحفظه التام لمتونها واطلاعه الدقيق على ما تتضمنه من نصوص تثبت نبوة نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحيث لا يسعهم انكارها والتنصل منها، يتضح لنا ذلك من المناظرة التي جرت بمحضر المأمون وبطلب منه بين الإمام الرضاعليه‌السلام وبين الجاثليق النصراني ورأس الجالوت اليهودي، وقد طلب الجاثليق من الإمام الرضاعليه‌السلام بعد كلام بينهما أن يقيم شاهدي عدل على ما يقوله في إثبات نبوّة نبينا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله: فأقم شاهدين من غير أهل ملّتك على نُبوة محمد ممن لا تنكرهُ النَّصرانيةُ،

٩٠

وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملتنا.

قال الرِّضاعليه‌السلام : «الآن جئتَ بالنَّصَفة يا نصرانيُ، ألا تقبل مني العدل المقدم عند المسيح بن مريم؟ ».

قال الجاثليق: ومن هذا العدلُ؟ سمِّه لي. قال: «ما تقول في يوحنا الدَّيلمي؟! » قال: بخٍ بخٍ، ذكرت أحبَّ النّاس إلى المسيح.

قال: «فأقسمتُ عليك هل نطق الإنجيل أنَّ يوحنّا قال: إنَّ المسيح أخبرني بدينِ محمد العربي وبشّرني به أنّه يكونُ من بعده فبشرتُ به الحواريين فآمنوا به؟! » قال الجاثليقُ: قد ذكر ذلك يوحنّا عن المسيح وبشّر بنبوةِ رجلٍ وبأهل بيته ووصيه، ولم يُلخِّص متى يكون ذلك ولم يُسمِّ لنا القوم فنعرفهم، قال الرِّضاعليه‌السلام : « فإن جئناك بمن يقرءُ الإنجيل فتلا عليك ذكر محمد وأهل بيته واُمته أَتُؤمن به؟! » قال: سديدا.

قال الرِّضاعليه‌السلام لقسطاس الرُّوميِ: « كيف حفظك للسِّفر الثالث من الإنجيل؟ ».

قال: ما أحفظني له! ثمَّ التفت إلى رأس الجالوت فقال له: « ألست تقرءُ الإنجيل؟! » قال: بلى لعمري. قال: «فخُذ على السِّفر الثالث، فإن كان فيه ذكر محمد وأهل بيته واُّمته سلام اللّه عليهم فاشهدوا لي » وإن لم يكن فيه ذكرهُ فلا تشهدوا لي، ثم قرأعليه‌السلام السِّفر الثالث حتّى إذا بلغ ذكر النبيِعليه‌السلام وقف، ثم قال: « يا نصراني إنِّي أسألك بحق المسيح واُمّه أتعلم أنِّي عالم بالإنجيل؟! » قال: نعم، ثمَّ تلا علينا ذكر محمد وأهل بيته واُمته، ثم قال: « ما تقول يا نصرانيُ؟ هذا قول عيسى بن مريم فإن كذّبت ما ينطق به الإنجيل فقد كذَّبت عيسى وموسىعليهما‌السلام ، ومتى أنكرت هذا الذِّكر وجب

٩١

عليك القتل لأنَّك تكون قد كفرت بربِّك ونبيِّك وبكتابك ».

قال الجاثليق: لا اُنكرُ ما قد بان لي في الإنجيل، وإنِّي لمقرّ به.

قال الرِّضاعليه‌السلام : «اشهدوا على إقراره ».

ثم قالعليه‌السلام : « يا جاثليق سل عمّا بدا لك »، قال الجاثليق: أخبرني عن حواريي عيسى بن مريم، كم عِدّتُهم؟ وعن علماء الإنجيل، كم كانوا؟

قال الرِّضاعليه‌السلام : « على الخبير سقطت، أما الحواريّون فكانوا اثني عشر رجلاً، وكان أفضلهم وأعلمهم ألوقا، وأمّا علماء النَّصارى فكانوا ثلاثة رجال: يوحنا الأكبر بأج، ويوحنا بقرقيسيا، ويوحنا الدَّيلمي بزجان، وعنده كان ذكرُ النَّبيَصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذكر أهل بيته واُمته، وهو الذي بشر اُمَّةَ عيسى وبني إسرائيل به »(١) .

والملاحظ أنه مع براعة اليهود في تحريف الكلم عن مواضعه، تمكن إمامنا الرضاعليه‌السلام من إسكات رأس الجالوت، وفي سكوته هذا إقرار منه بما جاء في التوراة والإنجيل من البشارة بنبوة نبينا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

هذا، وفي المجلس نفسه طلب رأس الجالوت من الإمام الرضاعليه‌السلام أن لا يحتج عليه إلاّ بما في التوراة أو الإنجيل أو الزبور في إثبات نبوة نبينا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالعليه‌السلام : «شهد بنبوته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موسى بن عمران وعيسى بن مريم وداود خليفةُ اللّه عزَّوجلَّ في الأرض ».

فقال له: أثبت قول موسى بن عمران.

قال الرِّضاعليه‌السلام : «هل تعلم يا يهودي أنَّ موسى أوصى بني إسرائيل، فقال لهم: إنَّهُ سيأتيكُم نبيّ هو من إخوتكم فبه فصدِّقوا، ومنه فاسمعوا؟

__________________

(١) التوحيد / الصّدوق: ٤١٧ وما بعدها، باب (٦٥).

٩٢

فهل تعلمُ أنَّ لبني إسرائيل إخوةً غير ولد إسرائيل من إسماعيل والنسب الذي بينهما من قبل إبراهيم عليه‌السلام ؟ ».

فقال رأس الجالوت: هذا قول موسى لا ندفعهُ.

فقال له الرِّضاعليه‌السلام : «هل جاءكم من إخوة بني إسرائيل نبيّ غير محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟! » قال: لا.

قال الرِّضاعليه‌السلام : «أو ليس قد صحَّ هذا عندكم؟! » قال: نعم، ولكنّي اُحبُّ أن تصحّحه لي من التوراة.

فقال له الرِّضاعليه‌السلام :« هل تنكر أنَّ التَّوراة تقولُ لكم: جاءَ النُّورُ من جبل طُور سيناء، وأضاءَ لنا من جبل ساعير، واستعلن علينا من جبل فاران؟ ».

قال رأسُ الجالوت: أعرفُ هذه الكلمات، وما أعرفُ تفسيرها.

قال الرِّضاعليه‌السلام : «أنا اُخبرك به، أمّا قولهُ: جاءَ النّورُ من جبل طورِ سيناءَ، فذلك وحيُ اللّه تبارك وتعالى الذي أنزلهُ على موسى عليه‌السلام على جبل طور سيناء، وأما قوله: وأضاء لنا من جبل ساعير، فهو الجبل الّذي أوحى اللّه عزَّوجلَّ إلى عيسى بن مريم عليه‌السلام وهو عليه، وأما قوله: واستعلن علينا من جبل فاران، فذلك جبل من جبال مكةَ بينهُ وبينها يوم، وقال شعيا النّبيّ عليه‌السلام فيما تقول أنت وأصحابك في التوراة: رأيت راكبين أضاء لهما الأرض، أحدهما راكب على حمار والآخر على جمل، فمن راكبُ الحمارِ ومن راكبُ الجملِ؟ ».

قال رأس الجالوتِ: لا أعرفهما، فخبِّرني بهما.

قالعليه‌السلام : «أمّا راكبُ الحمار فعيسى بنُ مريمَ، وأما راكبُ الجمل

٩٣

فمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أتنكر هذا من التَّوراة؟! » قال: لا ما اُنكرهُ.

ثمّ استعرض الإمام الرضاعليه‌السلام نصوصا أخرى من التوراة والإنجيل تبشّر بنبوة نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ التفتعليه‌السلام إلى رأس الجالوت فقال: «يا يهودي أقبل عليَ أسألك بالعشر الآيات الَّتي اُنزلت على موسى بن عمران عليه‌السلام ، هل تجدُ في التَّوراة مكتوبا نبأ محمد واُمَّته: ( إذا جاءت الاُمّةُ الأخيرةُ أتباعُ راكبِ البعيرِ يُسبِّحونَ الرَّبَّ جدّا جدّا تسبيحا جديدا في الكنائس الجُدد، فليفرغ بنو إسرائيلَ إليهم وإلى ملكهم لتطمئنَّ قلوبُهم، فإنَّ بأيديهم سيوفا ينتقمون بها من الاُمم الكافرة في أقطار الأرض) هكذا هو في التوراة مكتوب؟! ».

قال رأس الجالوت: نعم إنّا لنجده كذلك.

ثمّ قال للجاثليق: «يا نصرانيُّ كيف علمكَ بكتابِ شعيا ؟ » قال: أعرفُهُ حرفا حرفا.

قال الرِّضاعليه‌السلام لهما: «أتعرفان هذا من كلامه: ( ياقوم إنِّي رأيتُ صورةَ راكبِ الحمار لابسا جلابيب النُّور، ورأيتُ راكبَ البعيرِ ضوؤهُ مثلُ ضوء القمر) »؟ فقالا: قد قال ذلك شعيا.

قال الرِّضاعليه‌السلام : «يا نصراني، هل تعرفُ في الإنجيل قول عيسى: إنِّي ذاهب إلى ربِّي ورَبِّكم، والفارقليطا جاء هو الَّذي يشهد لي بالحقِّ كما شهدتُ له، وهو يُفسر لكم كلَّ شيءٍ، وهو الَّذي يُبدي فضائح الاُمم، وهو الَّذي يكسر عمود الكفر؟ ».

فقال الجاثلي-ق: ما ذكرت شيئا ممّا في الإنجيل إلاّ ونحن مقرُّون ب-ه.

٩٤

فقال:« أتجدُ هذا في الإنجيل ثابتا يا جاثليقُ؟! » قال: نعم(١) .

إن قراءة متمعنة ما بين سطور هذه المناظرة تكشف عن الأفق المعرفي الرَّحب الذي يتمتع به الإمام الرضاعليه‌السلام ، ويهمنا هنا الإشارة إلى أن إمامناعليه‌السلام حاول إصلاح الفكر والمقولات والرؤى لأقطاب أهل الأديان والملل من خلال الحجج القوية المجلجلة التي قرعت آذانهم وأفحمتهم أيّما إفحام. ومن السهل أن نكتشف أن الإمامعليه‌السلام قد اتبع المنهج النقلي مع أهل الكتاب ممثلين بالجاثليق النصراني ورأس الجالوت اليهودي، فقد احتج على أهل التوراة بتوراتهم، وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم، وعلى أهل الزَّبور بزبورهم لتكون الحجة عليهم أقوم، ولقد وجدنا كيف أن الجاثليق رفض الاحتكام إلى نصوص القرآن، قائلاً منذ البداية: كيف اُحاجّ رجلاً يحتجُ عليَ بكتاب أنا منكره، وبنبيٍّ لا أُؤمنُ به؟!

لذلك وقف إمامنا معهم على أرض مشتركة من الفهم، حيث خاطبهم بلغتهم وأورد نصوصا من كتبهم لا يسعهم إنكارها.

ثانيا: إبطال عقيدة النصارى في المسيحعليه‌السلام

من المعروف أن النصارى تغلو في شخص عيسىعليه‌السلام فتسلب منه صفته البشرية وتمنحه صفة الالُوهية وتعتقد بأنه ابن اللّه جلَّ تعالى عن ذلك، وإمامنا الرضاعليه‌السلام في الوقت الذي أثبت فيه نبوة نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالدليل النقلي الوارد بالإنجيل عن طريق بشارة المسيحعليه‌السلام لحوارييه بمبعثه من بعده، أبطل بالدليل العقلي عقيدة النصارى في المسيح المتّسمة بالغلو

__________________

(١) التوحيد: ٤١٧ - ٤٤٠، باب (٦٥).

٩٥

والبعيدة كل البعد عن التنزيه للّه تعالى. ففي هذا المجلس الذي هو - بحسب تعبيرنا - بمثابة مؤتمر فكري عالمي، وجه إمامنا كلامه للجاثليق قائلاً:

«يانصراني واللّه إنا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما ننقم على عيساكم شيئا إلاّ ضعفه وقلّة صيامه وصلاته! »

قال الجاثليق: أفسدتَ واللّه علمك وضعفت أمرك، وما كنت ظننتُ إلاّ أَنَّك أعلمُ أهل الإسلام!

قال الرِّضاعليه‌السلام : «وكيف ذلك؟ ».

قال الجاثليق: من قولك: « إنَّ عيساكم كان ضعيفا قليلَ الصيام قليل الصلاة »، وما أفطر عيسى يوما قطُّ ومازال صائمَ الدَّهر، قائم الليل!، قال الرَّضاعليه‌السلام : فلمن« كان يصومُ ويُصلّي؟! » قال: فخرس الچاثليق وانقطع.

قال الرِّضاعليه‌السلام :« يا نصراني، إنِّي أسألك عن مسألة »، قال: سل، فإن كان عندي علمها أجبتك.

قال الرِّضاعليه‌السلام : «ما أنكرت أن عيسى كان يحيي الموتى بإذن اللّه عزَّوجلَّ؟ ».

قال الجاثليق: أنكرت ذلك من قِبَل أنَّ من أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص، فهو ربّ مستحق لأن يُعبد!

قال الرِّضاعليه‌السلام : «فإنَّ اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى، مشى على الماء وأحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص، فلم تتخذه اُمّته ربّا، ولم يعبده أحد من دون اللّه عزَّوجلَّ، ولقد صنع حزقيل النبي عليه‌السلام مثل ما صنع عيسى ابن مريم عليه‌السلام فأحيا خمسة وثلاثين ألف رجلٍ من بعد موتهم بستين سنةٍ هذا في التَّوراة لا يدفعه إلاّ كافر منكم ».

٩٦

قال رأس الجالوت: قد سمعنا به وعرفناه، قال: «صدقت ».

ثمّ قال الرِّضاعليه‌السلام : « لقد أبرأ - أي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - الأكمه والأبرص والمجانين وكلّمته البهائم والطَّير والجنُّ والشَّياطين ولم نتخذه ربّا من دون اللّه عزَّوجلَّ، ولم ننكر لأحدٍ من هؤلاء فضلهم، فمتى اتخذتم عيسى ربَّا جاز لكم أن تتَّخذوا اليسع وحزقيل ربّا، لأنَّهما قد صنعا مثل ما صنع عيسى من إحياء الموتى، وغيره أنَّ قوما من بني إسرائيل هربوا من بلادهم من الطاعون وهم اُلوف حذر الموت فأماتهم اللّه في ساعةٍ واحدة، فعمد أهلُ تلك القريةِ فحَظَرُوا عليهم حظيرةً فلم يزالوا فيها حتى نخرت عظامهم وصاروا رميما، فمرَّ بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل فتعجب منهم ومن كثرةِ العظام البالية، فأوحى اللّه إليه أتُحبُّ أن اُحييهم لك فتنذرهم؟ قال: نعم ياربِّ، فأوحى اللّه عزَّوجلَّ إليه أن نادهم، فقال: أيَّتُها العظامُ البالية قومي بإذن اللّه عزَّوجلَّ، فقاموا أحياءً أجمعين ينفضون التُّراب عن رؤوسهم.

ثمَّ إبراهيمعليه‌السلام خليلُ الرَّحمن حين أخذ الطُّيور وقطَّعهنَّ قطعا ثمَّ وضع على كُلِّ جبلٍ منهنَّ جزءا ثمَّ ناداهُنَّ فأقبلن سعيا إليه، ثم موسى بنُ عمران وأصحابه والسَّبعون الذين اختارهم صاروا معه إلى الجبل فقالوا له: لن نؤمنَ لك حتى نرى اللّه جهرةً، فأخذتهم الصاعقة فاحترقوا عن آخرهم وبقي موسى وحيدا، فقال: ياربِّ اخترتُ سبعينَ رجلاً من بني إسرائيل فجئتُ بهم وأرجعُ وحدي، فكيف يُصدقني قومي بما اُخبرهم به، فلو شئت أهلكتهم من قبلُ وإيّاي أفتُهلكنا بما فعل السُّفهاءُ منّا، فأحياهم اللّه عزَّوجلَّ من بعد موتهم، وكلُّ شيء ذكرتُهُ لك من هذا لا تقدرُ على دفعهِ لأنَّ التَّوراةَ والانجيلَ والزَّبور والفُرقانَ قد نطقت بهِ، فإن كان كلُّ من أحيا الموتى وأبرأ

٩٧

الأكمه والأبرصَ والمجانين يُتَّخذُ ربّا من دونِ اللّه فاتَّخذ هؤلاء كلَّهم أربابا، ما تقولُ يا نصرانيُ ؟! ».

قال الجاثليقُ: القولُ قولكَ ولا إله إلاّ اللّه.

وهكذا أثبت الإمامعليه‌السلام للجاثليق خطأ زعمهم اُلوهية عيسىعليه‌السلام .

ولما تشعب الكلام معه حول الإنجيل وكيف فُقد ومن ثم كتبه تلاميذ تلاميذ المسيح من بعده، أماط الإمام اللِّثام عن التحريف الذي حصل للإنجيل بعد ضياعه، وكيف أن تلاميذ تلاميذ المسيح قد خطوه بأيديهم وحرفوه واختلفوا فيه حول طبيعة المسيحعليه‌السلام ، أقر الجاثليق بكل ما جاء به الإمام الرِّضاعليه‌السلام عن الإنجيل وكيفية تحريفه، فقال موجها كلامه للإمامعليه‌السلام :

قد بان لي من فضل علمك بالإنجيل وسمعت أشياء ممّا علمته شهد قلبي أنَّها حقّ فاستزدتُ كثيرا من الفهم(١) .

وعندما كشف الإمامعليه‌السلام عن التناقض الذي وقع فيه علماء الإنجيل - لوقا ومرقابوس ومتّى ويوحنا - حول طبيعة المسيحعليه‌السلام ، أذعن الجاثليق بهذه الحقائق، وأقر بالعمق المعرفي للرضاعليه‌السلام ، ثم قال: فلا وحقِّ المسيح ما ظننتُ أنَّ في علماء المسلمين مثلك(١) .

ثالثا: الرَّد على عقيدة اليهود

تطرق إمامنا مع رأس الجالوت إلى معاجز موسىعليه‌السلام واستغرب من

__________________

(١) التوحيد: ٤١٧ - ٤٤٠، باب (٦٥).

(٢) التوحيد: ٤١٧ - ٤٤٠، باب (٦٥).

٩٨

إقراره بها مع انكاره معاجز الأنبياء من قبله أو من بعده كمعاجز عيسىعليه‌السلام ومحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتساءل قائلاً: «أرأيت ما جاء به موسى من الآيات، أشاهدته؟! أليس إنَّما جاء في الاخبار من ثقات أصحابِ موسى أَنَّه فعل ذلك؟! » قال: بلى.

قال: «فكذلك أتتكُم الأخبارُ المتواترة بما فعل عيسى بنُ مريم فكيف صدَّقتم بموسى ولم تُصدِّقوا بعيسى ؟! » فلم يُحِر جوابا.

قال الرِّضاعليه‌السلام : «كذلك أمرُ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما جاء به وأمرُ كلِّ نبيٍّ بعثه اللّه، ومن آياته أنّه كان يتيما فقيرا أجيرا ولم يختلف إلى معلّم، ثمَّ جاء بالقرآن الذي فيه قصص الأنبياء وأخبارهم حرفا حرفا وأخبارُ من مضى ومن بقي إلى يوم القيامة، ثمَّ كان يُخبرهم بأسرارهم وما يعملون في بيوتهم، وجاء بآيات كثيرة لا تحصى ».

قال رأس الجالوت: لم يصحَّ عندنا خبرُ عيسى ولا خبر محمد، ولا يجوز لنا أن نُقرَّ لهما بما لم يصحَّ.

قال الرِّضاعليه‌السلام : «فالشاهدُ الّذي شهد لعيسى ولمحمدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاهدُ زورٍ؟! » فلم يُحِر جوابا(١) .

رابعا: الرد على المجوس

ليس خافيا بأن المجوس(٢) أُناس منحرفو العقيدة والفطرة يعبدون

__________________

(١) التوحيد: ٤١٧ - ٤٤٠، باب (٦٥).

(٢) أتباع زرادشت. وهو رجل من أذربيجان. ادّعى النبوة، ويتفق المجوس على أن اللّه تعالى

٩٩

النار ويحللون الزواج من المحارم، بدون دليل أو برهان سوى التقليد الأعمى للآباء، فحاول إمامناعليه‌السلام أن يدلّهم على الطريق السوي ويوقفهم على أفق أرحب، وأن يخرج بوعيهم من قفص التقليد:

دعا الإمام الرضاعليه‌السلام الهربذ الأكبر فقال له: «زرادشت الذي تزعم أنَّه نبي، ما حُجَّتك على نبوَّته؟ ».

قال: إنَّه أتى بما لم يأتنا به أحد قبله، ولم نشهده، ولكنَّ الأخبار من أسلافنا وردت علينا بأنَّه أحلَّ لنا ما لم يُحلّهُ غيره فاتَّبعناهُ.

قالعليه‌السلام : «أفليس إنَّما أتتكم الأخبارُ فاتَّبعتُموه؟! » قال: بلى.

قال: «فكذلك سائرُ الأُمم السالفة أتتهم الأخبارُ بما أتى به النبيّون وأتى به موسى وعيسى ومحمد صلوات اللّه عليهم، فما عذركُم في ترك الإقرار لهم إذ كنتم إنَّما أقررتم بزرادشت من قبل الأخبار المتواترة بأنَّه جاء بما لم يجيء به غيره؟! » فانقطع الهربذُ مكانه(١) .

لقد وجد الإمامعليه‌السلام أن أصحاب زرادشت تضيق عدسة الرؤية لديهم فيؤمنون بالأخبار الواردة من قبل آبائهم عن زرادشت دون غيره، وهذا التخصيص لايستقيم على سكة العقل السَّوية، فإذا كان منهجهم في الاعتقاد قائما على النقل عن الآباء فلماذا لا يعتمدون على ذات المنهج الذي اتبعه الأنبياء؟! الذين جاءوا - كذلك - بما لم يجيء به غيرهم من الشرائع،

__________________

يسلم العالم إلى الشيطان سبعة آلاف سنة يحكم ويفعل مايريد. وبعد ذلك عهد أن يقتل الشيطان. وهذا الكلام غير لائق بالعقلاء (انظر: اعتقادات فرق المسلمين والمشركين، فخر الدين الرازي: ١٢٠، الفصل الثالث).

(١) التوحيد: ٤١٧ - ٤٤٠، باب (٦٥).

١٠٠