الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٩

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 408

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 408
المشاهدات: 135344
تحميل: 5142


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 408 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135344 / تحميل: 5142
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 19

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

إنّ لكلّ اُمّة مجوساً و إنّ مجوس هذه الاُمّة الّذين يقولون: لا قدر. الخبر.

أقول: و رواه في ثواب الأعمال، بإسناده عن الصادق عن آبائه عن عليّعليه‌السلام و لفظه: لكلّ اُمّة مجوس و مجوس هذه الاُمّة الّذين يقولون: لا قدر.

و فيه، أخرج ابن مردويه بسند رواه عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : النهر الفضاء و السعة ليس بنهر جار.

و فيه، أخرج أبونعيم عن جابر قال: بينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً في مسجد المدينة فذكر بعض أصحابه الجنّة فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أبا دجانة أ ما علمت أنّ من أحبّنا و ابتلي بمحبّتنا أسكنه الله تعالى معنا؟ ثمّ تلا( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ) .

و في روح المعاني: في قوله:( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ ) الآية و قال جعفر الصادق رضي الله عنه: مدح المكان بالصدق فلا يقعد فيه إلّا أهل الصدق.

( كلام في القدر)

القدر و هو هندسة الشي‏ء و حدّ وجوده ممّا تكرّر ذكره في كلامه تعالى فيما تكلّم فيه في أمر الخلقة، قال تعالى:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الحجر: 21، و ظاهره أنّ القدر ملازم للإنزال من الخزائن الموجودة عنده تعالى، و أمّا نفس الخزائن و هي من إبداعه تعالى لا محالة فهي غير مقدّرة بهذا القدر الّذي يلازم الإنزال و الإنزال إصداره إلى هذا العالم المشهود كما يفيده قوله:( وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ ) الحديد: 25، و قوله:( وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ) الزمر: 6.

و يؤيّد ذلك ما ورد من تفسير القدر بمثل العرض و الطول و سائر الحدود و الخصوصيّات الطبيعيّة الجسمانيّة كما في المحاسن، عن أبيه عن يونس عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام قال: لا يكون إلّا ما شاء الله و أراد و قدّر و قضى. قلت: فما معنى شاء؟ قال: ابتدأ الفعل. قلت: فما معنى أراد؟ قال: الثبوت عليه. قلت: فما معنى قدّر؟

١٠١

قال: تقدير الشي‏ء من طوله و عرضه. قلت: فما معنى قضى؟ قال: إذا قضى أمضاه فذلك الّذي لا مردّ له.

و روي هذا المعنى عن أبيه عن ابن أبي عمير عن محمّد بن إسحاق عن الرضاعليه‌السلام في خبر مفصّل و فيه: فقال: أ و تدري ما قدر؟ قال: لا، قال: هو الهندسة من الطول و العرض و البقاء. الخبر.

و من هنا يظهر أنّ المراد بكلّ شي‏ء في قوله:( وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ) الفرقان: 3، و قوله:( إِنَّا كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ ) القمر: 49، و قوله:( وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) الرعد: 8، و قوله:( الَّذِي أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى‏ ) طه: 50، الأشياء الواقعة في عالمنا المشهود، من الطبيعيّات الواقعة تحت الخلق و التركيب، أو أنّ للتقدير مرتبتين: مرتبة تعمّ جميع ما سوى الله و هي تحديد أصل الوجود بالإمكان و الحاجة و هذا يعمّ جميع الموجودات ما خلا الله سبحانه، قال تعالى:( وَ كانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُحِيطاً) النساء: 126.

و مرتبة تخصّ عالمنا المشهود و هي تحديد وجود الأشياء الموجودة فيه من حيث وجودها و آثار وجودها و خصوصيّات كونها بما أنّها متعلّقة الوجود و الآثار باُمور خارجة من العلل و الشرائط فيختلف وجودها و أحوالها باختلاف عللها و شرائطها فهي مقلوبة بقوالب من داخل و خارج تعيّن لها من العرض و الطول و الشكل و الهيئة و سائر الأحوال و الأفعال ما يناسبها.

فالتقدير يهدي هذا النوع من الموجودات إلى ما قدّر لها في مسير وجودها، قال تعالى:( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى‏ ) الأعلى: 3، أي هدى ما خلقه إلى ما قدّر له، ثمّ أتمّ ذلك بإمضاء القضاء، و في معناه قوله في الإنسان:( مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) عبس: 20، و يشير بقوله:( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) إلى أنّ التقدير لا ينافي اختياريّة أفعاله الاختياريّة.

و هذا النوع من القدر في نفسه غير القضاء الّذي هو الحكم البتّيّ منه تعالى بوجوده( وَ اللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ) الرعد: 41، فربّما قدّر و لم يعقّبه القضاء

١٠٢

كالقدر الّذي يقتضيه بعض العلل و الشرائط الخارجة ثمّ يبطل لمانع أو باستخلاف سبب آخر، قال تعالى:( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ ) الرعد: 39، و قال:( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ) البقرة: 106، و ربّما قدّر و تبعه القضاء كما إذا قدّر من جميع الجهات باجتماع جميع علله و شرائطه و ارتفاع موانعه.

و إلى ذلك يشير قولهعليه‌السلام في خبر المحاسن السابق: إذا قضى أمضاه فذلك الّذي لا مردّ له، و قريب منه ما في عدّة من أخبار القضاء و القدر ما معناه أنّ القدر يمكن أن يتخلّف و أمّا القضاء فلا يردّ.

و عن عليّعليه‌السلام بطرق مختلفة كما في التوحيد، بإسناده عن ابن نباتة: أنّ أميرالمؤمنينعليه‌السلام عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر فقيل له: يا أميرالمؤمنين تفرّ من قضاء الله؟ قال: أفرّ من قضاء الله إلى قدر الله عزّوجلّ.

و أمّا النوع الأوّل من الموجودات الّذي قدره حدّ وجوده من إمكانه و حاجته فحسب فالقدر و القضاء فيه واحد و لا يتخلّف القدر فيه عن التحقّق البتة.

و البحث العقليّ يؤيّد ما تقدّم فإنّ الاُمور الّتي لها علل مركبة من فاعل و مادّة و شرائط و معدّات و موانع فإنّ لكلّ منها تأثيراً في الشي‏ء بما يسانخه فهو كالقالب الّذي يقلب به الشي‏ء فيأخذ لنفسه هيئة قالبة و خصوصيّته و هذا هو قدره ثمّ العلّة التامّة إذا اجتمعت أجزاؤه أعطته ضرورة الوجود، و هذه هي القضاء الّذي لا مردّ له، و قد تقدّم في تفسير أوّل سورة الإسراء كلام في القضاء لا يخلو من نفع في هذا البحث، فليرجع إليه.

١٠٣

( سورة الرحمن مكّيّة أو مدنيّة و هي ثمان و سبعون آية)

( سورة الرحمن الآيات 1 - 30)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنُ ( 1 ) عَلَّمَ الْقُرْآنَ ( 2 ) خَلَقَ الْإِنسَانَ ( 3 ) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ( 4 ) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ( 5 ) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ( 6 ) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ( 7 ) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ( 8 ) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ( 9 ) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ ( 10 ) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ ( 11 ) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ( 12 ) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 13 ) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ( 14 ) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ ( 15 ) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 16 ) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ( 17 ) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 18 ) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ( 19 ) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ ( 20 ) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 21 ) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ( 22 ) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 23 ) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ( 24 ) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 25 ) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ( 26 ) وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ( 27 ) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 28 ) يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ( 29 ) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 30 )

١٠٤

( بيان)

تتضمّن السورة الإشارة إلى خلقه تعالى العالم بأجزائه من سماء و أرض و برّ و بحر و إنس و جنّ و نظم أجزائه نظماً ينتفع به الثقلان الإنس و الجنّ في حياتهما و ينقسم بذلك العالم إلى نشأتين: نشأة دنيا ستفنى بفناء أهلها، و نشأة اُخرى باقية تتميّز فيها السعادة من الشقاء و النعمة من النقمة.

و بذلك يظهر أنّ دار الوجود من دنياها و آخرتها ذات نظام واحد مؤتلف الأجزاء مرتبط الأبعاض قويم الأركان يصلح بعضه ببعض و يتمّ شطر منه بشطر.

فما فيه من عين و أثر، من نعمه تعالى و آلائه، و لذا يستفهمهم مرّة بعد مرّة استفهاماً مشوباً بعتاب بقوله:( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) فقد كرّرت الآية في السورة إحدى و ثلاثين مرّة.

و لذلك افتتحت السورة بذكره تعالى بصفة رحمته العامّة الشاملة للمؤمن و الكافر و الدنيا و الآخرة و اختتمت بالثناء عليه بقوله:( تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ ) .

و السورة يحتمل كونها مكّيّة أو مدنيّة و إن كان سياقها بالسياق المكّيّ أشبه و هي السورة الوحيدة في القرآن افتتحت بعد البسملة باسم من أسماء الله عزّ اسمه، و في المجمع، عن موسى بن جعفر عن آبائهعليهم‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لكلّ شي‏ء عروس و عروس القرآن سورة الرحمن جلّ ذكره، و رواه في الدرّ المنثور، عن البيهقيّ عن عليّعليه‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ ) الرحمن كما تقدّم في تفسير سورة الفاتحة صيغة مبالغة تدلّ على كثرة الرحمة ببذل النعم و لذلك ناسب أن يعمّ ما يناله المؤمن و الكافر من نعم الدنيا و ما يناله المؤمن من نعم الآخرة، و لعمومه ناسب أن يصدّر به الكلام لاشتمال الكلام في السورة على أنواع النعم الدنيويّة و الاُخرويّة الّتي ينتظم بها عالم الثقلين الإنس و الجنّ.

١٠٥

ذكروا أنّ الرحمن من الأسماء الخاصّة به تعالى لا يسمّى به غيره بخلاف مثل الرحيم و الراحم.

و قوله:( عَلَّمَ الْقُرْآنَ ) شروع في عدّ النعم الإلهيّة، و لمّا كان القرآن أعظم النعم قدراً و شأناً و أرفعها مكاناً - لأنّه كلام الله الّذي يخطّ صراطه المستقيم و يتضمّن بيان نهج السعادة الّتي هي غاية ما يأمله آمل و نهاية ما يسأله سائل - قدّم ذكر تعليمه على سائر النعم حتّى على خلق الإنس و الجن اللّذين نزل القرآن لأجل تعليمهما.

و حذف مفعول( عَلَّمَ ) الأوّل و هو الإنسان أو الإنس و الجنّ و التقدير علّم الإنسان القرآن أو علّم الإنس و الجنّ القرآن، و هذا الاحتمال الثاني و إن لم يتعرّضوا له لكنّه أقرب الاحتمالين لأنّ السورة تخاطب في تضاعيف آياتها الجنّ كالإنس و لو لا شمول التعليم في قوله:( عَلَّمَ الْقُرْآنَ ) لهم لم يتمّ ذلك.

و قيل: المفعول المحذوف محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو جبرئيل و الأنسب للسياق ما تقدّم.

قوله تعالى: ( خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ ) ذكر خلق الإنسان و سيذكر خصوصيّة خلقه بقوله:( خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ ) ، و الإنسان من أعجب مخلوقات الله تعالى أو هو أعجبها يظهر ذلك بقياس وجوده إلى وجود غيره من المخلوقات و التأمل فيما خطّ له من طريق الكمال في ظاهره و باطنه و دنياه و آخرته، قال تعالى:( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) التين: 6.

و قوله:( عَلَّمَهُ الْبَيانَ ) البيان الكشف عن الشي‏ء و المراد به الكلام الكاشف عمّا في الضمير، و هو من أعجب النعم و تعليمه للإنسان من عظيم العناية الإلهيّة المتعلّقة به فليس الكلام مجرّد إيجاد صوت ما باستخدام الرية و قصبتها و الحلقوم و لا ما يحصل من التنوّع في الصوت الخارج من الحلقوم باعتماده على مخارج الحروف المختلفة في الفم.

بل يجعل الإنسان بإلهام باطنيّ من الله سبحانه الواحد من هذه الأصوات المعتمدة على مخرج من مخارج الفم المسمّى حرفاً أو المركّب من عدّة من الحروف علامة مشيرة إلى

١٠٦

مفهوم من المفاهيم يمثّل به ما يغيب عن حسّ السامع و إدراكه فيقدر به على إحضار أيّ وضع من أوضاع العالم المشهود و إن جلّ ما جلّ أو دقّ ما دقّ من موجود أو معدوم ماض أو مستقبل، ثمّ على إحضار أيّ وضع من أوضاع المعاني غير المحسوسة الّتي ينالها الإنسان بفكره و لا سبيل للحسّ إليها يحضرها جميعاً لسامعه و يمثّلها لحسّه كأنّه يشخّصها له بأعيانها.

و لا يتمّ للإنسان اجتماعه المدني و لا تقدّم في حياته هذا التقدّم الباهر إلّا بتنبّهه لوضع الكلام و فتحه بذلك باب التفهيم و التفهّم، و لو لا ذلك لكان هو و الحيوان العجم سواء في جمود الحياة و ركودها.

و من أقوى الدليل على أنّ اهتداء الإنسان إلى البيان بإلهام إلهيّ له أصل في التكوين اختلاف اللغات باختلاف الاُمم و الطوائف في الخصائص الروحيّة و الأخلاق النفسانيّة و بحسب اختلاف المناطق الطبيعيّة الّتي يعيشون فيها، قال تعالى:( وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ ) الروم: 22.

و ليس المراد بقوله:( عَلَّمَهُ الْبَيانَ ) أنّ الله سبحانه وضع اللغات ثمّ علّمها الإنسان بالوحي إلى نبيّ من الأنبياء أو بالإلهام فإنّ الإنسان بوقوعه في ظرف الاجتماع مندفع بالطبع إلى اعتبار التفهيم و التفهّم بالإشارات و الأصوات و هو التكلّم و النطق لا يتمّ له الاجتماع المدنيّ دون ذلك.

على أنّ فعله تعالى هو التكوين و الإيجاد و الرابطة بين اللفظ و معناه اللغويّ وضعيّة اعتباريّة لا حقيقيّة خارجيّة بل الله سبحانه خلق الإنسان و فطره فطرة تؤدّيه إلى الاجتماع المدنيّ ثمّ إلى وضع اللغة بجعل اللفظ علامة للمعنى بحيث إذا ألقي اللفظ إلى سامعه فكأنّما يلقى إليه المعنى ثمّ إلى وضع الخطّ بجعل الأشكال المخصوصة علائم للألفاظ فالخطّ مكمّل لغرض الكلام، و هو يمثّل الكلام كما أنّ الكلام يمثّل المعنى.

و بالجملة البيان من أعظم النعم و الآلاء الربّانيّة الّتي تحفظ لنوع الإنسان موقفه الإنسانيّ و تهديه إلى كلّ خير.

١٠٧

هذا ما هو الظاهر المتبادر من الآيتين، و لهم في معناهما أقوال: فقيل: الإنسان هو آدمعليه‌السلام و البيان الأسماء الّتي علّمه الله إيّاها، و قيل: الإنسان محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و البيان القرآن أو تعليمه المؤمنين القرآن، و قيل: البيان الخير و الشرّ علّمهما الإنسان، و قيل: سبيل الهدى و سبيل الضلال إلى غير ذلك و هي أقوال بعيدة عن الفهم.

قوله تعالى: ( الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بِحُسْبانٍ ) الحسبان مصدر بمعنى الحساب، و الشمس مبتدأ و القمر معطوف عليه، و بحسبان خبره، و الجملة خبر بعد خبر لقوله:( الرَّحْمنُ ) و التقدير الشمس و القمر يجريان بحساب منه على ما قدّر لهما من نوع الجري.

قوله تعالى: ( وَ النَّجْمُ وَ الشَّجَرُ يَسْجُدانِ ) قالوا: المراد بالنجم ما ينجم من النبات و يطلع من الأرض و لا ساق له، و الشجر ما له ساق من النبات، و هو معنى حسن يؤيّده الجمع و القرن بين النجم و الشجر و إن كان ربّما أوهم سبق ذكر الشمس و القمر كون المراد بالنجم هو الكواكب.

و سجود النجم و الشجر انقيادهما للأمر الإلهي بالنشوء و النموّ على حسب ما قدّر لهما كما قيل، و أدقّ منه أنّهما يضربان في التراب باُصولهما و أعراقهما لجذب ما يحتاجان إليه من المواد العنصريّة الّتي يغتذيان بها و هذا السقوط على الأرض إظهاراً للحاجة إلى المبدأ الّذي يقضي حاجتهما و هو في الحقيقة الله الّذي يربّيهما كذلك سجود منهما له تعالى.

و الكلام في إعراب قوله:( وَ النَّجْمُ وَ الشَّجَرُ يَسْجُدانِ ) و هو معطوف على الآية السابقة كالكلام في قوله:( الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بِحُسْبانٍ ) و التقدير و النجم و الشجر يسجدان له.

قال في الكشّاف: فإن قلت: كيف اتّصلت هاتان الجملتان بالرحمن يعني قوله:( الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ - إلى قوله -يَسْجُدانِ ) ؟ قلت: استغني فيهما عن الوصل اللفظيّ بالوصل المعنويّ لما علم أنّ الحسبان حسبانه و السجود له لا لغيره.

و قال في وجه إخلاء الآيات السابقة( خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بِحُسْبانٍ ) عن العاطف ما محصّله أنّ هذه الجمل الاُول واردة على سنن التعديد ليكون كلّ واحدة من الجمل مستقلّة في تفريع الّذين أنكروا الرحمن و آلاءه كما يبكّت

١٠٨

منكر أيادي المنعم عليه من الناس بتعديدها عليه فيقال: زيد أغناك بعد فقر، أعزّك بعد ذلّ، كثّرك بعد قلّة، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد فما تنكر من إحسانه؟.

ثمّ ردّ الكلام إلى منهاجه بعد التبكيت في وصل ما يحب وصله للتناسب و التقارب بالعاطف فقيل:( وَ النَّجْمُ وَ الشَّجَرُ يَسْجُدانِ وَ السَّماءَ رَفَعَها ) إلخ، انتهى.

قوله تعالى: ( وَ السَّماءَ رَفَعَها وَ وَضَعَ الْمِيزانَ ) المراد بالسماء إن كان جهة العلو فرفعها خلقها مرفوعة لا رفعها بعد خلقها و إن كان ما في جهة العلو من الأجرام فرفعها تقدير محالّها بحيث تكون مرفوعة بالنسبة إلى الأرض بالفتق بعد الرتق كما قال تعالى:( أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ) الأنبياء: 30، و الرفع على أيّ حال رفع حسّيّ.

و إن كان المراد ما يشمل منازل الملائكة الكرام و مصادر الأمر الإلهيّ و الوحي فالرفع معنويّ أو ما يشمل الحسّيّ و المعنويّ.

و قوله:( وَ وَضَعَ الْمِيزانَ ) المراد بالميزان كلّ ما يوزن أي يقدّر به الشي‏ء أعمّ من أن يكون عقيدة أو قولاً أو فعلاً و من مصاديقه الميزان الّذي يوزن به الأثقال، قال تعالى:( لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) الحديد: 25.

فظاهره مطلق ما يميّز به الحقّ من الباطل و الصدق من الكذب و العدل من الظلم و الفضيلة من الرذيلة على ما هو شأن الرسول أن يأتي به من عند ربّه.

و قيل: المراد بالميزان العدل أي وضع الله العدل بينكم لتسوّوا به بين الأشياء بإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه.

و قيل: المراد الميزان الّذي يوزن به الأثقال و المعنى الأوّل أوسع و أشمل.

قوله تعالى: ( أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَ لا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ ) الظاهر أنّ المراد بالميزان الميزان المعروف و هو ميزان الأثقال، فقوله:( أَلَّا تَطْغَوْا ) إلخ على تقدير أن يراد بالميزان في الآية السابقة أيضاً ميزان الأثقال، و هو بيان وضع

١٠٩

الميزان، و المعنى أنّ معنى وضعنا الميزان بينكم هو أن اعدلوا في وزن الأثقال و لا تطغوا فيه.

و على تقدير أن يراد به مطلق التقدير الحقّ أو العدل هو استخراج حكم جزئيّ من حكم كلّيّ، و المعنى أنّ لازم ما وضعناه من التقدير الحقّ أو العدل بينكم هو أن تزنوا الأثقال بالقسط و لا تطغوا فيه.

و على أيّ حال الظاهر أنّ( إن ) في قوله:( أَلَّا تَطْغَوْا ) تفسيريّة، و( لا تطغوا ) نهي عن الطغيان في الميزان و( أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ ) أمر معطوف عليه، و القسط العدل و( لا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ ) نهي آخر مبيّن لقوله:( أَلَّا تَطْغَوْا ) إلخ، و مؤكّد له. و الإخسار في الميزان التطفيف به بزيادة أو نقيصة بحيث يخسر البائع أو المشتري.

و أمّا جعل( الْمِيزانِ ) ناصبة و( أَلَّا تَطْغَوْا ) نفياً، و التقدير: لئلّا تطغوا، فيحتاج إلى تكلّف توجيه في عطف الإنشاء على الإخبار في قوله:( وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ ) إلخ.

قوله تعالى: ( وَ الْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ ) الأنام الناس، و قيل: الإنس و الجنّ، و قيل: كلّ ما يدبّ على الأرض، و في التعبير في الأرض بالوضع قبال التعبير في السماء بالرفع لطف ظاهر.

قوله تعالى: ( فِيها فاكِهَةٌ وَ النَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ ) المراد بالفاكهة الثمرة غير التمر، و الأكمام جمع كمّ بضمّ الكاف و كسرها وعاء التمر و هو الطلع، و أمّا كمّ القميص فهو مضموم الكاف لا غير كما قيل.

قوله تعالى: ( وَ الْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَ الرَّيْحانُ ) معطوف على قوله:( فاكِهَةٌ ) أي و فيها الحبّ و الريحان، و الحبّ ما يقتات به كالحنطة و الشعير و الاُرز، و العصف ما هو كالغلاف للحبّ و هو قشره، و فسّر بورق الزرع مطلقاً و بورق الزرع اليابس، و الريحان النبات الطيّب الرائحة.

قوله تعالى: ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) الآلاء جمع إلى بمعنى النعمة.

و الخطاب في الآية لعامّة الثقلين: الجنّ و الإنس و يدلّ على ذلك توجيه الخطاب إليهما صريحاً فيما سيأتي من قوله:( سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ ) و قوله:( يا مَعْشَرَ

١١٠

الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ ) إلخ، و قوله:( يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ ) إلخ، فلا يصغي إلى قول من قال: إنّ الخطاب في الآية للذكر و الاُنثى من بني آدم، و لا إلى قول من قال: إنّه من خطاب الواحد بخطاب الاثنين و يفيد تكرّر الخطاب نحو يا شرطيّ إضرباً عنقه أي اضرب عنقه اضرب عنقه.

و توجيه الخطاب إلى عالمي الجنّ و الإنس هو المصحّح لعدّ ما سنذكره من شدائد يوم القيامة و عقوبات المجرمين من أهل النار من آلائه و نعمه تعالى، فإنّ سوق المسيئين و أهل الشقوة في نظام الكون إلى ما تقتضيه شقوتهم و مجازاتهم بتبعات أعمالهم من لوازم صلاح النظام العامّ الجاري في الكلّ الحاكم على الجميع فذلك نعمة بالقياس إلى الكلّ و إن كان نقمة بالنسبة إلى طائفة خاصّة منهم و هم المجرمون و هذا نظير ما نجده في السنن و القوانين الجارية في المجتمعات فإنّ التشديد على أهل البغي و الفساد ممّا يتوقّف عليه حياة المجتمع و بقاؤه و ليس يتنعّم به أهل الصلاح خاصّة كما أنّ إثابة أهل الصلاح بالثناء الجميل و الأجر الحسن كذلك.

فما في النار من عذاب و عقاب لأهلها و ما في الجنّة من كرامة و ثواب آلاء و نعم على معشر الجنّ و الإنس كما أنّ الشمس و القمر و السماء المرفوعة و الأرض الموضوعة و النجم و الشجر و غيرها آلاء و نعم على أهل الدنيا.

و يظهر من الآية أنّ للجنّ تنعّماً في الجملة بهذه النعم المعدودة في خلال الآيات كما للإنس و إلّا لم يصحّ إشراكهم مع الإنس في التوبيخ.

قوله تعالى: ( خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ ) الصلصال الطين اليابس الّذي يتردّد منه الصوت إذا وطئ، و الفخّار الخزف.

و المراد بالإنسان نوعه و المراد بخلقه من صلصال كالفخّار انتهاء خلقه إليه، و قيل: المراد بالإنسان آدمعليه‌السلام .

قوله تعالى: ( وَ خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ ) المارج هو اللهب الخالص من النار، و قيل: اللهب المختلط بسواد، و الكلام في الجانّ كالكلام في الإنسان فالمراد به نوع الجنّ، و عدّهم مخلوقين من النار باعتبار انتهاء خلقتهم إليها، و قيل: المراد

١١١

بالجانّ أبوالجنّ.

قوله تعالى: ( رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ) المراد بالمشرقين مشرق الصيف و مشرق الشتاء، و بذلك تحصل الفصول الأربعة و تنتظم الأرزاق، و قيل: المراد بالمشرقين مشرق الشمس و القمر و بالمغربين مغرباهما.

قوله تعالى: ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ ) المرج الخلط و المرج الإرسال، يقال: مرجه أي خلطه و مرجه أي أرسله و المعنى الأوّل أظهر، و الظاهر أنّ المراد بالبحرين العذب الفرات و الملح الاُجاج، قال تعالى:( وَ ما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها ) فاطر: 12.

و أمثل ما قيل في الآيتين أنّ المراد بالبحرين جنس البحر المالح الّذي يغمر قريباً من ثلاثة أرباع الكرة الأرضيّة من البحار المحيطة، و غير المحيطة و البحر العذب المدّخر في مخازن الأرض الّتي تنفجر الأرض عنها فتجري العيون و الأنهار الكبيرة فتصبّ في البحر المالح، و لا يزالان يلتقيان، و بينهما حاجز و هو نفس المخازن الأرضيّة و المجاري يحجز البحر المالح أن يبغي على البحر العذب فيغشيه و يبدّله بحراً مالحا و تبطل بذلك الحياة، و يحجز البحر العذب أن يزيد في الانصباب على البحر المالح فيبدّله ماءً عذباً فتبطل بذلك مصلحة ملوحته من تطهير الهواء و غيره.

و لا يزال البحر المالح يمدّ البحر العذب بالأمطار الّتي تأخذها منه السحب فتمطر على الأرض و تدّخرها المخازن الأرضيّة و البحر العذب يمدّ البحر المالح بالانصباب عليه.

فمعنى الآيتين - و الله أعلم - خلط البحرين العذب الفرات و الملح الاُجاج حال كونهما مستمرّين في تلاقيهما بينهما حاجز لا يطغيان بأن يغمر أحدهما الآخر فيذهب بصفته من العذوبة و الملوحة فيختلّ نظام الحياة و البقاء.

قوله تعالى: ( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ ) أي من البحرين العذب و المالح جميعاً و ذلك من فوائدهما الّتي ينتفع بها الإنسان، و قد تقدّم فيه الكلام في تفسير قوله

١١٢

تعالى:( وَ ما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ ) الآية فاطر: 12.

قوله تعالى: ( وَ لَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ ) الجواري جمع جارية و هي السفينة، و المنشئات اسم مفعول من الإنشاء و هو إحداث الشي‏ء و تربيته، و الأعلام جمع علم بفتحتين و هو الجبل.

و عدّ الجواري مملوكة له تعالى مع كونها من صنع الإنسان لأنّ الأسباب العاملة في إنشائها من خشب و حديد و سائر أجزائها الّتي تتركّب منها و الإنسان الّذي يركّبها و شعوره و فكره و إرادته كلّ ذلك مخلوق له و مملوك فما ينتجه عملها من ملكه.

فهو تعالى المنعم بها للإنسان ألهمه طريق صنعها و المنافع المترتّبة عليها و سبيل الانتفاع بمنافعها الجمّة.

قوله تعالى: ( كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَ يَبْقى‏ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ ) ضمير( عَلَيْها ) للأرض أي كلّ ذي شعور و عقل على الأرض سيفنى و فيه تسجيل الزوال و الدثور على الثقلين.

و إنّما أتى باللفظ الدالّ على اُولي العقل - كلّ من عليها - و لم يقل: كلّ ما عليها كذلك لأنّ الكلام مسرود في السورة لتعداد نعمه و آلائه تعالى للثقلين في نشأتيهم الدنيا و الآخرة.

و ظهور قوله:( فانٍ ) في الاستقبال كما يستفاد أيضاً من السياق يعطي أنّ قوله:( كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ) يشير إلى انقطاع أمد النشأة الدنيا و ارتفاع حكمها بفناء من عليها و هم الثقلان و طلوع النشأة الاُخرى عليهم، و كلاهما أعني فناء من عليها و طلوع نشأة الجزاء عليهم من النعم و الآلاء لأنّ الحياة الدنيا حياة مقدّميّة لغرض الآخرة و الانتقال من المقدّمة إلى الغرض و الغاية نعمة.

و بذلك يندفع قول من قال: أيّ نعمة في الفناء حتّى يجعل من النعم و يعدّ من الآلاء.

و محصّل الجواب أنّ حقيقة هذا الفناء الرجوع إلى الله بالانتقال من الدنيا كما

١١٣

تفسّره آيات كثيرة في كلامه تعالى و ليس هو الفناء المطلق.

و قوله:( وَ يَبْقى‏ وَجْهُ رَبِّكَ ) وجه الشي‏ء ما يستقبل به غيره و يقصده به غيره، و هو فيه سبحانه صفاته الكريمة الّتي تتوسّط بينه و بين خلقه فتنزل بها عليهم البركات من خلق و تدبير كالعلم و القدرة و السمع و البصر و الرحمة و المغفرة و الرزق و قد تقدّم في تفسير سورة الأعراف كلام مبسوط في كون أسمائه و صفاته تعالى وسائط بينه و بين خلقه.

و قوله:( ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ ) في الجلال شي‏ء من معنى الاعتلاء و الترفّع المعنويّ على الغير فيناسب من الصفات ما فيه شائبة الدفع و المنع كالعلوّ و التعالي و العظمة و الكبرياء و التكبّر و الإحاطة و العزّة و الغلبة.

و يبقى للإكرام من المعنى ما فيه نعت البهاء و الحسن الّذي يجذب الغير و يُولّهه كالعلم و القدرة و الحياة و الرحمة و الجود و الجمال و الحسن و نحوها و تسمّى صفات الجمال كما تسمّى القسم الأوّل صفات الجلال و تسمّى الأسماء أيضاً على حسب ما فيها من صفات الجمال أو الجلال بأسماء الجمال أو الجلال.

فذو الجلال و الإكرام اسم من الأسماء الحسنى جامع بمفهومه بين أسماء الجمال و أسماء الجلال جميعاً.

و المسمّى به بالحقيقة هو الذات المقدّسة كما في قوله في آخر السورة:( تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ ) لكن اُجرى في هذه الآية( وَ يَبْقى‏ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ ) على الوجه، و هو إمّا لكونه وصفاً مقطوعاً عن الوصفيّة للمدح، و التقدير هو ذو الجلال و الإكرام، و إمّا لأنّ المراد بالوجه كما تقدّم هو صفته الكريمة و اسمه المقدّس و إجراء الاسم على الاسم مآله إلى إجراء الاسم على الذات.

و معنى الآية على تقدير أن يراد بالوجه ما يستقبل به الشي‏ء غيره و هو الاسم - و من المعلوم أنّ بقاء الاسم(1) فرع بقاء المسمّى -: و يبقى ربّك عزّ اسمه بما له من

____________________

(1) المراد بالاسم ما يحكي عنه الاسم اللفظيّ دون اللفظ الحاكي.

١١٤

الجلال و الإكرام من غير أن يؤثّر فناؤهم فيه أثراً أو يُغيّر منه شيئاً.

و على تقدير أن يراد بالوجه ما يقصده به غيره و مصداقه كلّ ما ينتسب إليه تعالى فيكون مقصوداً بنحو للمتوجّه إليه كأنبيائه و أوليائه و دينه و ثوابه و قربه و سائر ما هو من هذا القبيل فالمعنى: و يبقى بعد فناء أهل الدنيا ما هو عنده تعالى و هو من صقعه و ناحيته كأنواع الجزاء و الثواب و القرب منه، قال تعالى:( ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ اللهِ باقٍ ) النحل: 96.

و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) القصص: 88 من الكلام بعض ما لا يخلو من نفع في المقام.

قوله تعالى: ( يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) سؤالهم سؤال حاجة فهم في حاجة من جميع جهاتهم إليه تعالى متعلّقوا الوجودات به متمسّكون بذيل غناه و جوده، قال تعالى:( أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَ اللهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) فاطر: 15، و قال في هذا المعنى من السؤال:( وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ ) إبراهيم: 34.

و قوله:( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) تنكير( شَأْنٍ ) للدلالة على التفرّق و الاختلاف فالمعنى: كلّ يوم هو تعالى في شأن غير ما في سابقه و لاحقه من الشأن فلا يتكرّر فعل من أفعاله مرّتين و لا يماثل شأن من شؤنه شأناً آخر من جميع الجهات و إنّما يفعل على غير مثال سابق و هو الإبداع، قال تعالى:( بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) البقرة: 117.

و معنى ظرفيّة اليوم إحاطته تعالى في مقام الفعل على الأشياء فهو سبحانه في كلّ زمان و ليس في زمان و في كلّ مكان و ليس في مكان و مع كلّ شي‏ء و لا يداني شيئاً.

١١٥

( بحث روائي)

في الكافي، روى محمّد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله قال: لمّا قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الرحمن على الناس سكتوا فلم يقولوا شيئاً، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الجنّ كانوا أحسن جواباً منكم لمّا قرأت عليهم( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) قالوا: لا و لا بشي‏ء من آلاء ربّنا نكذّب.

أقول: و روي هذا المعنى في الدرّ المنثور، عن عدّة من أصحاب الجوامع - و صحّحه - عن ابن عمر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في العيون، بإسناده عن الرضاعليه‌السلام : فيما سأل الشامي عليّاًعليه‌السلام و فيه: سأله عن اسم أبي الجنّ فقال: شؤمان و هو الّذي خلق من مارج من نار.

و في الاحتجاج، عن عليّعليه‌السلام في حديث: و أمّا قوله:( رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ) فإنّ مشرق الشتاء على حدّة و مشرق الصيف على حدّة. أ ما تعرف ذلك من قرب الشمس و بعدها؟:

أقول: و روى هذا المعنى القمّيّ في تفسيره، مرسلاً مضمراً.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس: في قوله:( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ ) قال: عليّ و فاطمة( بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ ) قال: النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ ) قال: الحسن و الحسين.

أقول: و رواه أيضاً عن ابن مردويه عن أنس بن مالك مثله، و رواه في مجمع البيان، عن سلمان الفارسيّ و سعيد بن جبير و سفيان الثوريّ. و هو من البطن.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ) قال من على وجه الأرض( وَ يَبْقى‏ وَجْهُ رَبِّكَ ) قال: دين ربّك، و قال عليّ بن الحسينعليه‌السلام : نحن الوجه الّذي يؤتى الله منه.

و في مناقب ابن شهرآشوب قوله:( وَ يَبْقى‏ وَجْهُ رَبِّكَ ) قال الصادقعليه‌السلام : نحن وجه الله.

١١٦

أقول: و في معنى هاتين الروايتين غيرهما، و قد تقدّم ما يوجّه به تفسير الوجه بالدين و بالإمام.

و في الكافي، في خطبة لعليّعليه‌السلام : الحمد لله الّذي لا يموت و لا ينقضي عجائبه لأنّه كلّ يوم هو في شأن من إحداث بديع لم يكن.

و في تفسير القمّيّ في الآية قال: يحيي و يميت و يزيد و ينقص.

و في المجمع، عن أبي الدرداء عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في قوله:( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) قال: من شأنه أن يغفر ذنباً، و يفرّج كرباً، و يرفع قوماً، و يضع آخرين.

أقول: و رواه عنه في الدرّ المنثور، و روي ما في معناه عن ابن عمر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لفظه: يغفر ذنباً و يفرّج كرباً.

١١٧

( سورة الرحمن الآيات 31 - 78)

سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ ( 31 ) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 32 ) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا  لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ ( 33 ) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 34 ) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ ( 35 ) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 36 ) فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ( 37 ) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 38 ) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ ( 39 ) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 40 ) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ ( 41 ) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 42 ) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ ( 43 ) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ( 44 ) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 45 ) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ( 46 ) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 47 ) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ( 48 ) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 49 ) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ( 50 ) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 51 ) فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ( 52 ) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 53 ) مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ  وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ( 54 ) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 55 ) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ

١١٨

وَلَا جَانٌّ ( 56 ) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 57 ) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ( 58 ) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 59 ) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ( 60 ) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 61 ) وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ( 62 ) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 63 ) مُدْهَامَّتَانِ ( 64 ) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 65 ) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ ( 66 ) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 67 ) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ( 68 ) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 69 ) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ( 70 ) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 71 ) حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ( 72 ) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 73 ) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ ( 74 ) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 75 ) مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ ( 76 ) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 77 ) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ( 78 )

( بيان)

هذا هو الفصل الثاني من آيات السورة يصف نشأة الثقلين الثانية و هي نشأة الرجوع إلى الله و جزاء الأعمال و يعدّ آلاء الله تعالى عليهم كما كانت الآيات السابقة فصلاً أولا يصف النشأة الاُولى و يعدّ آلاء الله فيها عليهم.

قوله تعالى: ( سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ ) يقال: فرغ فلان لأمر كذا إذا كان مشتغلاً قبلاً باُمور ثمّ تركها و قصر الاشتغال بذاك الأمر اهتماماً به.

فمعنى( سَنَفْرُغُ لَكُمْ ) سنطوي بساط النشأة الاُولى و نشتغل بكم، و تبيّن الآيات

١١٩

التالية أنّ المراد بالاشتغال بهم بعثهم و حسابهم و مجازاتهم بأعمالهم خيراً أو شرّاً فالفراغ لهم استعارة بالكناية عن تبدّل النشأة.

و لا ينافي الفراغ لهم كونه تعالى لا يشغله شأن عن شأن فإنّ الفراغ المذكور ناظر إلى تبدّل النشأة و كونه لا يشغله شأن عن شأن ناظر إلى إطلاق القدرة و سعتها كما لا ينافي كونه تعالى كلّ يوم هو في شأن الناظر إلى اختلاف الشؤن كونه تعالى لا يشغله شأن عن شأن.

و الثقلان الجنّ و الإنس، و إرجاع ضمير الجمع في( لَكُمْ ) و( إِنِ اسْتَطَعْتُمْ ) و غيرهما إليهما لكونهما جمعاً ذا أفراد.

قوله تعالى: ( يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا ) إلخ، الخطاب - على ما يفيده السياق - من خطابات يوم القيامة و هو خطاب تعجيزي.

و المراد بالاستطاعة القدرة، و بالنفوذ من الأقطار الفرار، و الأقطار جمع قطر و هو الناحية.

و المعنى: يا معشر الجنّ و الإنس - و قّدم الجنّ لأنّهم على الحركات السريعة أقدر - إن قدرتم أن تفرّوا بالنفوذ من نواحي السماوات و الأرض و الخروج من ملك الله و التخلّص من مؤاخذته ففرّوا و انفذوا.

و قوله:( لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ ) أي لا تقدرون على النفوذ إلّا بنوع من السلطة على ذلك و ليس لكم و السلطان القدرة الوجوديّة، و السلطان البرهان أو مطلق الحجّة، و السلطان الملك.

و قيل: المراد بالنفوذ المنفيّ في الآية النفوذ العلميّ في السماوات و الأرض من أقطارهما، و قد عرفت أنّ السياق لا يلائمه.

قوله تعالى: ( يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَ نُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ ) الشواظ - على ما ذكره الراغب - اللهب الّذي لا دخان فيه، و يقرب منه ما في المجمع، أنّه اللهب

١٢٠