الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٩

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 408

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 408
المشاهدات: 135302
تحميل: 5134


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 408 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135302 / تحميل: 5134
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 19

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و أبونعيم في الدلائل من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدريّ قال: خرجنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عام الحديبيّة حتّى إذا كان بعسفان قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوشك أن يأتي قوم تحقّرون أعمالكم مع أعمالهم قلنا: من هم يا رسول الله أ قريش؟ قال: لا و لكنّهم أهل اليمن هم أرقّ أفئدة و ألين قلوبا. قلنا: أ هم خير منّا يا رسول الله؟ قال: لو كان لأحدهم جبل من ذهب فأنفقه ما أدرك مدّ أحدكم و لا نصيفه ألا إنّ هذا فصل ما بيننا و بين الناس( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ ) الآية.

أقول: روي هذا المعنى بغير واحد من الطرق بألفاظ متقاربة و هي مشتملة على الآية و يشكل بأنّ ظاهر سياق الآيات أنّها نزلت بعد الفتح و المراد به إمّا الحديبيّة أو فتح مكّة فلا تنطبق على ما قبل الفتح.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن عكرمة قال: لمّا نزلت هذه الآية( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ ) قال أبو الدحداح: و الله لاُنفقنّ اليوم نفقة اُدرك بها من قبلي و لا يسبقني بها أحد بعدي فقال: اللّهمّ كلّ شي‏ء يملكه أبوالدحداح فإنّ نصفه لله حتّى بلغ فرد نعله ثمّ قال: و هذا.

و في تفسير القمّيّ: في قوله:( يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ يَسْعى‏ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ ) قال: يقسّم النور بين الناس يوم القيامة على قدر إيمانهم يقسّم للمنافق فيكون نوره بين إبهام رجله اليسرى فينظر نوره ثمّ يقول للمؤمنين: مكانكم حتّى أقتبس من نوركم فيقول المؤمنون لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً و يضرب بينهم بسور له باب فينادون من وراء السور للمؤمنين:( أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا: بَلى‏ وَ لكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ ) قال: بالمعاصي( وَ تَرَبَّصْتُمْ وَ ارْتَبْتُمْ ) قال: أي شككتم و تربّصتم.

و قوله:( فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ ) قال: و الله ما عنى بذلك اليهود و

١٨١

النصارى و ما عنى به إلّا أهل القبلة ثمّ قال:( مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ ) قال: هي أولى بكم.

أقول: يعني بأهل القبلة المنافقين منهم.

و في الكافي، بإسناده عن أبان بن تغلب قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: تجنّبوا المنى فإنّها تذهب بهجة ما خوّلتم و تستصغرون بها مواهب الله جلّ و عزّ عندكم و تعقّبكم الحسرات فيما وهمتم به أنفسكم.

١٨٢

( سورة الحديد الآيات 16 - 24)

أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ  وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ( 16 ) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا  قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( 17 ) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ( 18 ) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ  وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ  وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( 19 ) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ  كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا  وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ  وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ( 20 ) سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ  ذَٰلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ  وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( 21 ) مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا  إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ( 22 )

١٨٣

لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ  وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ( 23 ) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ  وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( 24 )

( بيان)

جرى على وفق مقصد الكلام السابق و هو الحثّ و الترغيب في الإيمان بالله و رسوله و الإنفاق في سبيل الله و تتضمّن عتاب المؤمنين على ما يظهر من علائم قسوة القلوب منهم، و تأكيد الحثّ على الإنفاق ببيان درجة المنفقين عندالله و الأمر بالمسابقة إلى المغفرة و الجنّة و ذمّ الدنيا و أهلها الذين يبخلون و يأمرون الناس بالبخل.

و قد تغيّر السياق خلال الآيات إلى سياق عامّ يشمل المسلمين و أهل الكتاب بعد اختصاص السياق السابق بالمسلمين و سيجي‏ء توضيحه.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَ ما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ) إلى آخر الآية، يقال: أنى يأني إنى و إناء أي جاء وقته، و خشوع القلب تأثّره قبال العظمة و الكبرياء، و المراد بذكر الله ما يذكر به الله، و ما نزل من الحقّ هو القرآن النازل من عنده تعالى و( مِنَ الْحَقِّ ) بيان لما نزل، و من شأن ذكر الله تعالى عند المؤمن أن يعقّب خشوعاً كما أنّ من شأن الحقّ النازل من عنده تعالى أن يعقّب خشوعاً ممّن آمن بالله و رسله.

و قيل: المراد بذكر الله و ما نزل من الحقّ جميعاً القرآن، و على هذا فذكر القرآن بوصفيه لكون كلّ من الوصفين مستدعياً لخشوع المؤمن فالقرآن لكونه ذكر الله يستدعي الخشوع كما أنّه لكونه حقّاً نازلاً من عنده تعالى يستدعي الخشوع.

و في الآية عتاب للمؤمنين على ما عرض لقلوبهم من القسوة و عدم خشوعها لذكر الله و الحقّ النازل من عنده تعالى و تشبيه لحالهم بحال أهل الكتاب الّذين نزل عليهم

١٨٤

الكتاب و طال عليهم الأمد فقست قلوبهم.

و قوله:( وَ لا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ) عطف على قوله:( تَخْشَعَ ) إلخ، و المعنى: أ لم يأن لهم أن تخشع قلوبهم و أن( لا يَكُونُوا ) إلخ، و الأمد الزمان، قال الراغب: الفرق بين الزمان و الأمد أنّ الأمد يقال باعتبار الغاية و الزمان عامّ في المبدأ و الغاية و لذلك قال بعضهم: إنّ المدى و الأمد يتقاربان. انتهى.

و قد أشار سبحانه بهذا الكلام إلى صيرورة قلوبهم كقلوب أهل الكتاب القاسية و القلب القاسي حيث يفقد الخشوع و التأثّر عن الحقّ ربّما خرج عن زيّ العبوديّة فلم يتأثّر عن المناهي و اقترف الإثم و الفسوق، و لذا أردف قوله:( فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ) بقوله:( وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ ) .

قوله تعالى: ( اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ) إلى آخر الآية في تعقيب عتاب المؤمنين على قسوة قلوبهم بهذا التمثيل تقوية لرجائهم و ترغيب لهم في الخشوع.

و يمكن أن يكون من تمام العتاب السابق و يكون تنبيها على أنّ الله لا يخلّي هذا الدين على ما هو عليه من الحال بل كلّما قست قلوب و حرموا الخشوع لأمر الله جاء بقلوب حيّة خاشعة له يعبد بها كما يريد.

فتكون الآية في معنى قوله:( ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَ مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَ اللهُ الْغَنِيُّ وَ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ ) سورة محمّد: 38.

و لذلك ذيل الآية بقوله:( قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) .

قوله تعالى: ( إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَ الْمُصَّدِّقاتِ وَ أَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَ لَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ) تكرار لحديث المضاعفة و الأجر الكريم للترغيب في الإنفاق في سبيل الله و قد اُضيف إلى الّذين أقرضوا الله قرضاً حسناً المصدّقون و المصدّات.

و المصدّقون و المصدّقات بتشديد الصاد و الدال المتصدّقون و المتصدّقات، و قوله:( وَ أَقْرَضُوا اللهَ ) عطف على مدخول اللّام في( الْمُصَّدِّقِينَ ) ، و المعنى: أنّ الّذين

١٨٥

تصدّقوا و الّذين أقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعف لهم ما أعطوه و لهم أجر كريم.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَ الشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) إلخ، لم يقل: آمنوا بالله و رسوله كما قال في أوّل السورة:( آمِنُوا بِاللهِ وَ رَسُولِهِ وَ أَنْفِقُوا ) و قال في آخرها:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ ) لأنّه تعالى لمّا ذكر أهل الكتاب في الآية السابقة بقوله:( وَ لا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ ) عدل عن السياق السابق إلى سياق عامّ يشمل المسلمين و أهل الكتاب جميعاً كما قال بعد:( لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ ) و أمّا الآيتان المذكورتان في أوّل السورة و آخرها فالخطاب فيهما لمؤمني هذه الاُمّة خاصّة و لذا جي‏ء فيهما بالرسول مفرداً.

و المراد بالإيمان بالله و رسله محض الإيمان الّذي لا يفارق بطبعه الطاعة و الاتّباع كما مرّت الإشارة إليه في قوله:( آمِنُوا بِاللهِ وَ رَسُولِهِ ) الآية، و المراد بقوله:( أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَ الشُّهَداءُ ) إلحاقهم بالصدّيقين و الشهداء بقرينة قوله:( عِنْدَ رَبِّهِمْ ) و قوله:( لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ ) فهم ملحقون بالطائفتين يعامل معهم معاملة الصدّيقين و الشهداء فيعطون مثل أجرهم و نورهم.

و الظاهر أنّ المراد بالصدّيقين و الشهداء هم المذكورون في قوله:( وَ مَنْ يُطِعِ اللهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً ) النساء: 69، و قد تقدّم في تفسير الآية أنّ المراد بالصدّيقين هم الّذين سرى الصدق في قولهم و فعلهم فيفعلون ما يقولون و يقولون ما يفعلون، و الشهداء هم شهداء الأعمال يوم القيامة دون الشهداء بمعنى المقتولين في سبيل الله.

فهؤلاء الّذين آمنوا بالله و رسله ملحقون بالصدّيقين و الشهداء منزّلون منزلتهم عندالله أي بحكم منه لهم أجرهم و نورهم.

و قوله:( لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ ) ضمير( لَهُمْ ) للّذين آمنوا، و ضميراً( أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ ) للصدّيقين و الشهداء أي للّذين آمنوا أجر من نوع أجر الصدّيقين و الشهداء

١٨٦

و نور من نوع نورهم، و هذا معنى قول من قال: إنّ المعنى: لهم أجر كأجرهم و نور كنورهم.

و ربّما قيل: إنّ الآية مسوقة لبيان أنّهم صدّيقون و شهداء على الحقيقة من غير إلحاق و تنزيل فهم هم لهم أجرهم و نورهم، و لعلّ السياق لا يساعد عليه.

و ربّما قيل: إنّ قوله:( وَ الشُّهَداءُ ) ليس عطفاً على قوله:( الصِّدِّيقُونَ ) بل استئناف و( الشُّهَداءُ ) مبتدأ خبره( عِنْدَ رَبِّهِمْ ) و خبره الآخر( لَهُمْ أَجْرُهُمْ ) فقد قيل: و الّذين آمنوا بالله و رسله اُولئك هم الصدّيقون، و قد تمّ الكلام ثمّ استؤنف و قيل:( وَ الشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) كما قيل:( بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) آل عمران: 169، و المراد بالشهداء المقتولون في سبيل الله، ثمّ تمّم الكلام بقوله:( لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ ) .

و قوله:( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ ) أي لا يفارقونها و هم فيها دائمين.

و قد تعرّض سبحانه في الآية لشأن الملحقين بالصدّيقين و الشهداء و هم خيار الناس و الناجون قطعاً، و الكفّار المكذّبين لآياته و هم شرار الناس و الهالكون قطعاً و بقي فريق بين الفريقين و هم المؤمنون المقترفون للمعاصي و الذنوب على طبقاتهم في التمرّد على الله و رسوله، و هذا دأب القرآن في كثير من موارد التعرّض لشأن الناس يوم القيامة.

و ذلك ليكون بعثاً لقريحتي الخوف و الرجاء في ذلك الفريق المتخلّل بين الخيار و الشرار فيميلوا إلى السعادة و يختاروا النجاة على الهلاك.

و لذلك أعقب الآية بذمّ الحياة الدنيا الّتي تعلّق بها هؤلاء الممتنعون من الإنفاق في سبيل الله ثمّ بدعوتهم إلى المسابقة إلى المغفرة و الجنّة ثمّ بالإشارة إلى أنّ ما يصيبهم من المصيبة في أموالهم و أنفسهم مكتوبة في كتاب سابق و قضاء متقدّم فليس ينبغي لهم أن يخافوا الفقر في الإنفاق في سبيل الله، فيبخلوا و يمسكوا أو يخافوا الموت في الجهاد في سبيل الله فيتخلّفوا و يقعدوا.

قوله تعالى: ( اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ

١٨٧

تَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ ) إلخ، اللعب عمل منظوم لغرض خيالي كلعب الأطفال، و اللهو ما يشغل الإنسان عمّا يهمّه، و الزينة بناء نوع و ربّما يراد به ما يتزيّن به و هي ضمّ شي‏ء مرغوب فيه إلى شي‏ء آخر ليرغب فيه بما اكتسب به من الجمال، و التفاخر المباهاة بالأنساب و الأحساب، و التكاثر في الأموال و الأولاد.

و الحياة الدنيا عرض زائل و سراب باطل لا يخلو من هذه الخصال الخمس المذكورة: اللعب و اللهو و الزينة و التفاخر و التكاثر و هي الّتي يتعلّق بها هوى النفس الإنسانيّة ببعضها أو بجميعها و هي اُمور وهميّة و أعراض زائلة لا تبقى للإنسان و ليست و لا واحدة منها تجلب للإنسان كمالاً نفسيّاً و لا خيراً حقيقيّاً.

و عن شيخنا البهائيّ رحمه الله أنّ الخصال الخمس المذكورة في الآية مترتّبة بحسب سني عمر الإنسان و مراحل حياته فيتولّع أوّلاً باللعب و هو طفل أو مراهق ثمّ إذا بلغ و اشتدّ عظمه تعلّق باللهو و الملاهي ثمّ إذا بلغ أشدّه اشتغل بالزينة من الملابس الفاخرة و المراكب البهيّة و المنازل العالية و تولّه للحسن و الجمال ثمّ إذا اكتهل أخذ بالمفاخرة بالأحساب و الأنساب ثمّ إذا شاب سعى في تكثير المال و الولد.

و قوله:( كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً ) مثل لزينة الحياة الدنيا الّتي يتعلّق بها الإنسان غروراً ثمّ لا يلبث دون أن يسلبها.

و الغيث المطر و الكفّار جمع كافر بمعنى الحارث، و يهيج من الهيجان و هو الحركة، و الحطام الهشيم المتكسّر من يابس النبات.

و المعنى: أنّ مثل الحياة الدنيا في بهجتها المعجبة ثمّ الزوال كمثل مطر أعجب الحرّاث نباته الحاصل بسببه ثمّ يتحرّك إلى غاية ما يمكنه من النموّ فتراه مصفرّ اللّون ثمّ يكون هشيماً متكسّراً - متلاشياً تذروه الرياح -.

و قوله:( وَ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَ رِضْوانٌ ) سبق المغفرة على الرضوان لتطهير المحلّ ليحلّ به الرضوان، و توصيف المغفرة بكونه من الله دون العذاب

١٨٨

لا يخلو من إيماء إلى أنّ المطلوب بالقصد الأوّل هو المغفرة و أمّا العذاب فليس بمطلوب في نفسه و إنّما يتسبّب إليه الإنسان بخروجه عن زيّ العبوديّة كما قيل.

و قوله:( وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ ) أي متاعٌ التمتّع منه هو الغرور به، و هذا للمتعلّق المغرور بها.

و الكلام أعني قوله:( وَ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَ رِضْوانٌ ) إشارة إلى وجهي الحياة الآخرة ليأخذ السامع حذره فيختار المغفرة و الرضوان على العذاب، ثمّ في قوله:( وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ ) تنبيه و إيقاظ لئلّا تغرّه الحياة الدنيا بخاصّة غروره.

قوله تعالى: ( سابِقُوا إِلى‏ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ ) إلخ المسابقة هي المغالبة في السبق للوصول إلى غرض بأن يريد كلّ من المسابقين جعل حركته أسرع من حركة صاحبه ففي معنى المسابقة ما يزيد على معنى المسارعة فإنّ المسارعة الجدّ في تسريع الحركة و المسابقة الجدّ في تسريعها بحيث تزيد في السرعة على حركة صاحبه.

و على هذا فقوله:( سابِقُوا إِلى‏ مَغْفِرَةٍ ) إلخ، يتضمّن من التكليف ما هو أزيد ممّا يتضمّنه قوله:( سارِعُوا إِلى‏ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) آل عمران: 133.

و يظهر به عدم استقامة ما قيل: إنّ آية آل عمران في السابقين المقرّبين و الآية الّتي نحن فيها في عامّة المؤمنين حيث لم يذكر فيها إلّا الإيمان بالله و رسله بخلاف آية آل عمران فإنّها مذيّلة بجملة الأعمال الصالحة، و لذا أيضاً وصف الجنّة الموعودة هناك بقوله:( عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ ) بخلاف ما ههنا حيث قيل:( عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ ) فدلّ على أنّ جنّة اُولئك أوسع من جنّة هؤلاء.

وجه عدم الاستقامة ما عرفت أنّ المكلّف به في الآية المبحوث عنها معنى فوق ما كلّف به في آية آل عمران. على أنّ اللّام في( السَّماءِ ) للجنس فتنطبق على( السَّماواتُ ) في تلك الآية.

١٨٩

و تقديم المغفرة على الجنّة في الآية لأنّ الحياة في الجنّة حياة طاهرة في عالم الطهارة فيتوقّف التلبّس بها على زوال قذارات الذنوب و أوساخها.

و المراد بالعرض السعة دون العرض المقابل للطول و هو معنى شائع، و الكلام كأنّه مسوق للدلالة على انتهائها في السعة.

و قيل: المراد بالعرض ما يقابل الطول و الاقتصار على ذكر العرض أبلغ من ذكر الطول معه فإنّ العرض أقصر الامتدادين و إذا كان كعرض السماء و الأرض كان طولها أكثر من طولهما.

و لا يخلو الوجه من تحكّم إذ لا دليل على مساواة طول السماء و الأرض لعرضهما ثمّ على زيادة طول الجنّة على عرضها حتّى يلزم زيادة طول الجنّة على طولهما و الطول قد يساوي العرض كما في المربّع و الدائرة و سطح الكرة و غيرها و قد يزيد عليه.

و قوله:( أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَ رُسُلِهِ ) قد عرفت في ذيل قوله:( آمَنُوا بِاللهِ وَ رُسُلِهِ ) و قوله:( لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَ رُسُلِهِ ) أنّ المراد بالإيمان بالله و رسله هو مرتبة عالية من الإيمان تلازم ترتّب آثاره عليه من الأعمال الصالحة و اجتناب الفسوق و الإثم.

و بذلك يظهر أنّ قول بعضهم: إنّ في الآية بشارة لعامّة المؤمنين حيث قال:( أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَ رُسُلِهِ ) و لم يقيّد الإيمان بشي‏ء من العمل الصالح و نحوه غير سديد فإنّ خطاب الآية و إن كان بظاهر لفظه يعمّ الكافر و المؤمن الصالح و الطالح لكنّ وجه الكلام إلى المؤمنين يدعوهم إلى الإيمان الّذي يصاحب العمل الصالح، و لو كان المراد بالإيمان بالله و رسله مجرّد الإيمان و لو لم يصاحبه عمل صالح و كانت الجنّة معدّة لهم و الآية تدعو إلى السباق إلى المغفرة و الجنّة كان خطاب( سابِقُوا ) متوجّها إلى الكفّار فإنّ المؤمنين قد سبقوا و سياق الآيات يأباه.

و قوله:( ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ) و قد شاء أن يؤتيه الّذين آمنوا بالله و رسله، و قد تقدّم بيان أنّ ما يؤتيه الله من الأجر لعباده المؤمنين فضل منه تعالى من

١٩٠

غير أن يستحقّوه عليه.

و قوله:( وَ اللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) إشارة إلى عظمة فضله، و أنّ ما يثيبهم به من المغفرة و الجنّة من عظيم فضله.

قوله تعالى: ( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها ) إلخ، المصيبة الواقعة الّتي تصيب الشي‏ء مأخوذة من إصابة السهم الغرض و هي بحسب المفهوم أعمّ من الخير و الشرّ لكن غلب استعمالها في الشرّ فالمصيبة هي النائبة، و المصيبة الّتي تصيب في الأرض كالجدب و عاهة الثمار و الزلزلة المخرّبة و نحوها، و الّتي تصيب في الأنفس كالمرض و الجرح و الكسر و القتل و الموت، و البرء و البروء الخلق من العدم، و ضمير( نَبْرَأَها ) للمصيبة، و قيل: للأنفس، و قيل: للأرض، و قيل: للجميع من الأرض و الأنفس و المصيبة، و يؤيّد الأوّل أنّ المقام مقام بيان ما في الدنيا من المصائب الموجبة لنقص الأموال و الأنفس الّتي تدعوهم إلى الإمساك عن الإنفاق و التخلّف عن الجهاد.

و المراد بالكتاب اللوح المكتوب فيه ما كان و ما يكون و ما هو كائن إلى يوم القيامة كما تدلّ عليه الآيات و الروايات و إنّما اقتصر على ذكر ما يصيب في الأرض و في أنفسهم من المصائب لكون الكلام فيها.

قيل: إنّما قيّد المصيبة بما في الأرض و في الأنفس لأنّ مطلق المصائب غير مكتوبة في اللوح لأنّ اللوح متناه و الحوادث غير متناهية و لا يكون المتناهي ظرفاً لغير المتناهي.

و الكلام مبنيّ على أنّ المراد باللوح لوح فلزّي أو نحوه منصوب في ناحية من نواحي الجوّ مكتوب فيه الحوادث بلغة من لغاتنا بخطّ يشبه خطوطنا، و قد مرّ كلام في معنى اللوح و القلم و سيجي‏ء له تتمّة.

و قيل: المراد بالكتاب علمه تعالى و هو خلاف الظاهر إلّا أن يراد به أنّ الكتاب المكتوب فيه الحوادث من مراتب علمه الفعليّ.

و ختم الآية بقوله:( إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) للدلالة على أنّ تقدير الحوادث

١٩١

قبل وقوعها و القضاء عليها بقضاء لا يتغيّر لا صعوبة فيه عليه تعالى.

قوله تعالى: ( لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى‏ ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ ) إلخ، تعليل راجع إلى الآية السابقة و هو تعليل للإخبار عن كتابة الحوادث قبل وقوعها لا لنفس الكتابة، و الأسى الحزن، و المراد بما فات و ما آتى النعمة الفائتة و النعمة المؤتاة.

و المعنى: أخبرناكم بكتابة الحوادث قبل حدوثها و تحقّقها لئلّا تحزنوا بما فاتكم من النعم و لا تفرحوا بما أعطاكم الله منها لأنّ الإنسان إذا أيقن أنّ الّذي أصابه مقدّر كائن لا محالة لم يكن ليخطئه و أنّ ما اُوتيه من النعم وديعة عنده إلى أجل مسمّى لم يعظم حزنه إذا فاته و لا فرحه إذا اُوتيه.

قيل: إنّ اختلاف الإسناد في قوليه:( ما فاتَكُمْ ) و( بِما آتاكُمْ ) حيث اُسند الفوت إلى نفس الأشياء و الإيتاء إلى الله سبحانه لأنّ الفوات و العدم ذاتيّ للأشياء فلو خلّيت و نفسها لم تبق بخلاف حصولها و بقائها فإنّه لا بدّ من استنادهما إلى الله تعالى.

و قوله:( وَ اللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ) المختال من أخذته الخيلاء و هي التكبّر عن تخيّل فضيلة تراءت له من نفسه - على ما ذكره الراغب - و الفخور الكثير الفخر و المباهاة و الاختيال و الفخر ناشئان عن توهّم الإنسان أنّه يملك ما اُوتيه من النعم باستحقاق من نفسه، و هو مخالف لما هو الحقّ من استناد ذلك إلى تقدير من الله لا لاستقلال من نفس الإنسان فهما من الرذائل و الله لا يحبّها.

قوله تعالى:: ( الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ) وصف لكلّ مختال فخور يفيد تعليل عدم حبّه تعالى. و الوجه في بخلهم الاحتفاظ للمال الّذي يعتمد عليه اختيالهم و فخرهم و الوجه في أمرهم الناس بالبخل أنّهم يحبّونه لأنفسهم فيحبّونه لغيرهم، و لأنّ شيوع السخاء و الجود بين الناس و إقبالهم على الإنفاق في سبيل الله يوجب أن يعرفوا بالبخل المذموم.

و قوله:( وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) أي و من يعرض عن الإنفاق و لم يتّعظ بعظة الله و لا اطمأنّ قلبه بما بيّنه من صفات الدنيا و نعت الجنّة و تقدير الاُمور فإنّ الله هو الغنيّ فلا حاجة له إلى إنفاقهم، و المحمود في أفعاله.

١٩٢

و الآيات الثلاث أعني قوله:( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ - إلى قوله -الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) كما ترى حثّ على الإنفاق و ردع عن البخل و الإمساك بتزهيدهم عن الأسى بما فاتهم و الفرح بما آتاهم لأنّ الاُمور مقدّرة مقضيّة مكتوبة في كتاب معيّنة قبل أن يبرأها الله سبحانه.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور: في قوله تعالى:( أَ لَمْ يَأْنِ ) الآية: أخرج ابن المبارك و عبدالرزّاق و ابن المنذر عن الأعمش قال: لمّا قدم أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة فأصابوا من لين العيش ما أصابوا بعد ما كان بهم من الجهد فكأنّهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا فنزلت:( أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) .

أقول: هذه أعدل الروايات في نزول السورة و هناك‏ رواية عن ابن مسعود قال: ما كان بين إسلامنا و بين أن عاتبنا الله بهذه( أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ ) إلّا أربع سنين‏، و ظاهره كون السورة مكّيّة، و في معناه ما ورد أنّ عمر آمن بعد نزول هذه السورة و قد عرفت أنّ سياق آيات السورة تأبى إلّا أن تكون مدنيّة، و يمكن حمل رواية ابن مسعود على كون آية( أَ لَمْ يَأْنِ ) إلخ، أو هي و الّتي تتلوها ممّا نزل بمكّة دون باقي آيات السورة.

و في رواية عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : استبطأ الله قلوب المهاجرين بعد سبع عشرة من نزول القرآن فأنزل الله( أَ لَمْ يَأْنِ ) الآية، و لازمه نزول السورة سنة أربع أو خمس من الهجرة، و في رواية اُخرى عن ابن عبّاس قال: إنّ الله استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن فقال:( أَ لَمْ يَأْنِ ) إلخ، و لازمه نزول السورة أيّام الهجرة، و الروايتان أيضاً لا تلائمان سياق آياتها.

و فيه، أخرج ابن جرير عن البراء بن عازب قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: مؤمنوا اُمّتي شهداء، ثمّ تلا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَ الشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) .

١٩٣

و في تفسير العيّاشي، بإسناده عن منهال القصّاب قال: لأبي عبداللهعليه‌السلام : ادع الله أن يرزقني الشهادة فقال: إنّ المؤمن شهيد و قرأ هذه الآية.

أقول: و في معناه روايات اُخرى و ظاهر بعضها كهذه الرواية تفسير الشهادة بالقتل في سبيل الله.

في تفسير القمّيّ، بإسناده عن حفص بن غياث قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : جعلت فداك فما حدّ الزهد في الدنيا؟ فقال: قد حدّه الله في كتابه فقال عزّوجلّ:( لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى‏ ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ ) .

و في نهج البلاغة، قالعليه‌السلام : الزهد كلّه بين كلمتين من القرآن قال الله تعالى:( لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى‏ ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ ) و من لم يأس على الماضي و لم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه.

أقول: و الأساس الّذي يبتنيان عليه عدم تعلّق القلب بالدنيا، و في الحديث المعروف: حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة.

١٩٤

( سورة الحديد الآيات 25 - 29)

لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ  وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ  إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ( 25 ) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ  فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ  وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ( 26 ) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا  فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ  وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ( 27 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ  وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 28 ) لِّئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللهِ  وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ  وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( 29 )

١٩٥

( بيان)

ثمّ إنّه تعالى إثر ما أشار إلى قسوة قلوب المؤمنين و تثاقلهم و فتورهم في امتثال التكاليف الدينيّة و خاصّة في الإنفاق في سبيل الله، الّذي به قوام أمر الجهاد و شبّههم بأهل الكتاب حيث قست قلوبهم لمّا طال عليهم الأمد.

ذكر أنّ الغرض الإلهيّ من إرسال الرسل و إنزال الكتاب و الميزان معهم أن يقوم الناس بالقسط، و أن يعيشوا في مجتمع عادل، و قد أنزل الحديد ليمتحن عباده في الدفاع عن مجتمعهم الصالح و بسط كلمة الحقّ في الأرض مضافاً إلى ما في الحديد من منافع ينتفعون بها.

ثمّ ذكر أنّه أرسل نوحاً و إبراهيمعليهما‌السلام و جعل في ذرّيّتهما النبوّة و الكتاب و أتبعهم بالرسول بعد الرسول فاستمرّ الأمر في كلّ من الاُمم على إيمان بعضهم و اهتدائه و كثير منهم فاسقون، ثمّ ختم الكلام في السورة بدعوتهم إلى تكميل إيمانهم ليؤتوا كفلين من الرحمة.

قوله تعالى: ( لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) إلخ، استئناف يتبيّن به معنى تشريع الدين بإرسال الرسل و إنزال الكتاب و الميزان و أنّ الغرض من ذلك قيام الناس بالقسط و امتحانهم بذلك و بإنزال الحديد ليتميّز من ينصر الله بالغيب و يتبيّن أن أمر الرسالة لم يزل مستمرّاً بين الناس و لم يزالوا يهتدي من كلّ اُمّة بعضهم و كثير منهم فاسقون.

فقوله:( لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ ) أي بالآيات البيّنات الّتي يتبيّن بها أنّهم مرسلون من جانب الله سبحانه من المعجزات الباهرة و البشارات الواضحة و الحجج القاطعة.

و قوله:( وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ ) و هو الوحي الّذي يصلح أن يكتب فيصير كتاباً، المشتمل على معارف الدين من اعتقاد و عمل و هو خمسة: كتاب نوح و كتاب

١٩٦

إبراهيم و التوراة و الإنجيل و القرآن.

و قوله:( وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) فسّروا الميزان بذي الكفّتين الّذي يوزن به الأثقال، و أخذوا قوله:( لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) غاية متعلّقة بإنزال الميزان و المعنى: و أنزلنا الميزان ليقوم الناس بالعدل في معاملاتهم فلا يخسروا باختلال الأوزان و النسب بين الأشياء فقوام حياة الإنسان بالاجتماع، و قوام الاجتماع بالمعاملات الدائرة بينهم و المبادلات في الأمتعة و السلع و قوام المعاملات في ذوات الأوزان بحفظ النسب بينها و هو شأن الميزان.

و لا يبعد - و الله أعلم - أن يراد بالميزان الدين فإنّ الدين هو الّذي يوزن به عقائد أشخاص الإنسان و أعمالهم، و هو الّذي به قوام حياة الناس السعيدة مجتمعين و منفردين، و هذا المعنى أكثر ملائمة للسياق المتعرّض لحال الناس من حيث خشوعهم و قسوة قلوبهم و جدّهم و مساهلتهم في أمر الدين. و قيل: المراد بالميزان هنا العدل و قيل: العقل.

و قوله:( وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ ) الظاهر أنّه كقوله تعالى:( وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ) الزمر: 6، و قد تقدّم في تفسير الآية أنّ تسمية الخلق في الأرض إنزالاً إنّما هو باعتبار أنّه تعالى يسمّي ظهور الأشياء في الكون بعد ما لم يكن إنزالاً لها من خزائنه الّتي عنده و من الغيب إلى الشهادة قال تعالى:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الحجر: 21.

و قوله:( فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ ) البأس هو الشدّة في التأثير و يغلب استعماله في الشدّة في الدفاع و القتال، و لا تزال الحروب و المقاتلات و أنواع الدفاع ذات حاجة شديدة إلى الحديد و أقسام الأسلحة المعمولة منه منذ تنبّه البشر له و استخرجه.

و أمّا ما فيه من المنافع للناس فلا يحتاج إلى البيان فله دخل في جميع شعب الحياة و ما يرتبط بها من الصنائع.

و قوله:( وَ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ) غاية معطوفة على محذوف و

١٩٧

التقدير و أنزلنا الحديد لكذا و ليعلم الله من ينصره إلخ، و المراد بنصره و رسله الجهاد في سبيله دفاعاً عن مجتمع الدين و بسطاً لكلمة الحقّ، و كون النصر بالغيب كونه في حال غيبته منهم أو غيبتهم منه، و المراد بعلمه بمن ينصره و رسله تميّزهم ممّن لا ينصر.

و ختم الآية بقوله:( إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) و كأنّ وجهه الإشارة إلى أنّ أمره تعالى لهم بالجهاد إنّما هو ليتميّز الممتثل منهم من غيره لا لحاجة منه تعالى إلى ناصر ينصره أنّه تعالى قويّ لا سبيل للضعف إليه عزيز لا سبيل للذلّة إليه.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَ إِبْراهِيمَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ ) شروع في الإشارة إلى أنّ الاهتداء و الفسق جاريان في الاُمم الماضية حتّى اليوم فلم تصلح اُمّة من الاُمم بعامّة أفرادها بل لم يزل كثير منهم فاسقين.

و ضمير( فَمِنْهُمْ ) و( فَمِنْهُمْ ) للذرّيّة و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى‏ آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَ قَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ ) في المجمع: التقفية جعل الشي‏ء في إثر شي‏ء على الاستمرار فيه، و لهذا قيل لمقاطع الشعر قواف إذ كانت تتبع البيت على أثره مستمرّة في غيره على منهاجه. انتهى.

و ضمير( عَلى‏ آثارِهِمْ ) لنوح و إبراهيم و السابقين من ذرّيّتهما، و الدليل عليه أنّه لا نبيّ بعد نوح إلّا من ذرّيّته لأنّ النسل بعده له. على أنّ عيسى من ذرّيّة إبراهيم قال تعالى في نوح:( وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ ) الصافّات: 77، و قال:( وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ - إلى أن قال -وَ عِيسى‏ ) الأنعام: 85، فالمراد بقوله:( ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى‏ آثارِهِمْ بِرُسُلِنا ) إلخ، التقفية باللّاحقين من ذرّيّتهما على آثارهما و السابقين من ذرّيّتهما.

و في قوله:( عَلى‏ آثارِهِمْ ) إشارة إلى أنّ الطريق المسلوك واحد يتبع فيه بعضهم أثر بعض.

و قوله:( وَ قَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَ جَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ

١٩٨

اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَ رَحْمَةً ) الرأفة و الرحمة - على ما قالوا - مترادفان، و نقل عن بعضهم أنّ الرأفة يقال في درء الشرّ و الرحمة في جلب الخير.

و الظاهر أنّ المراد بجعل الرأفة و الرحمة في قلوب الّذين اتّبعوه توفيقهم للرأفة و الرحمة فيما بينهم فكانوا يعيشون على المعاضدة و المسالمة كما وصف الله سبحانه الّذين مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرحمة إذ قال:( رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ) الفتح: 29، و قيل: المراد بجعل الرأفة و الرحمة في قلوبهم الأمر بهما و الترغيب فيهما و وعد الثواب عليهما.

و قوله:( وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ ) الرهبانيّة من الرهبة و هي الخشية، و يطلق عرفاً على انقطاع الإنسان من الناس لعبادة الله خشية منه، و الابتداع إتيان ما لم يسبق إليه في دين أو سنّة أو صنعة، و قوله:( ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ ) في معنى الجواب عن سؤال مقدّر كأنّه قيل: ما معنى ابتداعهم لها؟ فقيل: ما كتبناها عليهم.

و المعنى: أنّهم ابتدعوا من عند أنفسهم رهبانيّة من غير أن نشرّعه نحن لهم.

و قوله:( إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها ) استثناء منقطع معناه ما فرضناها عليهم لكنّهم وضعوها من عند أنفسهم ابتغاء لرضوان الله و طلباً لمرضاته فما حافظوا عليها حقّ محافظتها بتعدّيهم حدودها.

و فيه إشارة إلى أنّها كانت مرضيّة عنده تعالى و إن لم يشرّعها بل كانوا هم المبتدعين لها.

و قوله:( فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ ) إشارة إلى أنّهم كالسابقين من اُمم الرسل منهم مؤمنون مأجورون على إيمانهم و كثير منهم فاسقون، و الغلبة للفسق.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ ) إلخ، أمر الّذين آمنوا بالتقوى و الإيمان بالرسول مع أنّ الّذين استجابوا الدعوة فآمنوا بالله آمنوا برسوله أيضاً دليل على أنّ المراد بالإيمان بالرسول الاتّباع التامّ و الطاعة الكاملة لرسوله فيما يأمر به و ينهى عنه سواء كان ما يأمر به أو ينهى عنه حكماً من الأحكام الشرعيّة أو صادراً عنه بما له من ولاية اُمور الاُمّة كما قال

١٩٩

تعالى:( فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) النساء: 65.

فهذا إيمان بعد إيمان و مرتبة فوق مرتبة الإيمان الّذي ربّما يتخلّف عنه أثره فلا يترتّب عليه لضعفه، و بهذا يناسب قوله:( يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ ) و الكفل الحظّ و النصيب فله ثواب على ثواب كما أنّه إيمان على إيمان.

و قيل: المراد بإيتاء كفلين من الرحمة إيتاؤهم أجرين كمؤمني أهل الكتاب كأنّه قيل: يؤتكم ما وعد من آمن من أهل الكتاب من الأجرين لأنّكم مثلهم في الإيمان بالرسل المتقدّمين و بخاتمهمعليهم‌السلام لا تفرّقون بين أحد من رسله.

و قوله:( وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ) قيل: يعني يوم القيامة و هو النور الّذي اُشير إليه بقوله:( يَسْعى‏ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ ) .

و فيه أنّه تقييد من غير دليل بل لهم نورهم في الدنيا و هو المدلول عليه بقوله تعالى:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ) الأنعام: 122، و نورهم في الآخرة و هو المدلول عليه بقوله:( يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ يَسْعى‏ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ ) الآية: 12 من السورة و غيره.

ثمّ كمّل تعالى وعده بإيتائهم كفلين من رحمته و جعل نور يمشون به بالمغفرة فقال:( وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

قوله تعالى: ( لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ ) ظاهر السياق أنّ في الآية التفاتاً من خطاب المؤمنين إلى خطاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و المراد بالعلم مطلق الاعتقاد كالزعم، و( أَنَّ ) مخففة من الثقيلة، و ضمير( يَقْدِرُونَ ) للمؤمنين، و في الكلام تعليل لمضمون الآية السابقة.

و المعنى: إنّما أمرناهم بالإيمان بعد الإيمان و وعدناهم كفلين من الرحمة و جعل النور و المغفرة لئلا يعتقد أهل الكتاب أنّ المؤمنين لا يقدرون على شي‏ء من فضل الله بخلاف المؤمنين من أهل الكتاب حيث يؤتون أجرهم مرّتين أن آمنوا.

٢٠٠