الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٩

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 408

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 408
المشاهدات: 135244
تحميل: 5134


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 408 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135244 / تحميل: 5134
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 19

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قال ابن عبّاس: امتحانهنّ أن يستحلفن ما خرجت من بغض زوج، و لا رغبة عن أرض إلى أرض، و لا التماس دنيا، و ما خرجت إلّا حبّاً لله و لرسوله فاستحلفها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما خرجت بغضاً لزوجها، و لا عشقاً لرجل منّا، و ما خرجت إلّا رغبة في الإسلام فحلفت بالله الّذي لا إله إلّا هو على ذلك فأعطى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زوجها مهرها و ما أنفق عليها و لم يردّها عليه فتزوّجها عمر بن الخطّاب.

فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يردّ من جاءه من الرجال و يحبس من جاءه من النساء إذا امتحن و يعطي أزواجهنّ مهورهنّ.

قال: قال الزهريّ: و لمّا نزلت هذه الآية و فيها قوله:( وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ) طلق عمر بن الخطّاب امرأتين كانتا له بمكّة مشركتين: قريبة(1) بنت أبي اُميّة بن المغيرة فتزوّجها بعده معاوية بن أبي سفيان و هما على شركهما بمكّة، و الاُخرى اُمّ كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعيّة اُمّ عبدالله بن عمر فتزوّجها أبوجهم بن حذاقة بن غانم رجل من قومها و هما على شركهما.

و كانت عند طلحة بن عبيدالله أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبدالمطّلب ففرّق بينهما الإسلام حين نهى القرآن عن التمسّك بعصم الكوافر، و كان طلحة قد هاجر و هي بمكّة عند قومها كافرة ثمّ تزوّجها في الإسلام بعد طلحة خالد بن سعيد بن العاص بن اُميّة و كانت ممّن فرّت إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من نساء الكفار فحبسها و زوّجها خالداً.

و اُميمة بنت بشر كانت عند الثابت بن الدحداحة ففرّت منه - و هو يومئذ كافر - إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فزوّجها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سهل بن حنيف فولدت عبد الله بن سهل.

قال: قال الشعبيّ: و كانت زينب بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم امرأة أبي العاص بن الربيع فأسلمت و لحقت بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة و أقام أبوالعاص مشركاً بمكّة ثمّ أتى المدينة فأمنته زينب ثمّ أسلم فردّها عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

____________________

(1) قريبة خ.

٢٨١

قال: و قال الجبّائيّ: لم يدخل في شرط صلح الحديبيّة إلّا ردّ الرجال دون النساء و لم‏ يجز للنساء ذكر، و إنّ اُمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط جاءت مسلمة مهاجرة من مكّة فجاء أخواها إلى المدينة فسألا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ردّها عليهما فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الشرط بيننا في الرجال لا في النساء فلم يردّها عليهما.

أقول: و هذه المعاني مرويّة في روايات اُخرى من طرق أهل السنّة أورد كثيراً منها السيوطيّ في الدرّ المنثور، و روى امتحان المهاجرات كما تقدّم ثمّ عدم ردّهنّ على الكفّار و إعطائهم المهر القميّ في تفسيره.

و فيه، و قال الزهريّ: فكان جميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين راجعات عن الإسلام ستّ نسوّة: اُمّ الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شدّاد الفهريّ، و فاطمة بنت أبي اُميّة بن المغيرة اُخت اُمّ سلمة كانت تحت عمر بن الخطّاب فلمّا أراد عمر أن يهاجر أبت و ارتدّت، و بروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان، و عبدة بنت عبد العزّى بن فضلة و زوجها عمرو بن عبد ودّ، و هند بنت أبي جهل بن هشام كانت تحت هشام بن العاص بن وائل، و كلثوم بنت جرول كانت تحت عمر فأعطاهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مهور نسائهم من الغنيمة.

و في الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: لا ينبغي نكاح أهل الكتاب قلت: جعلت فداك و أين تحريمه؟ قال: قوله:( وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ) .

أقول: و الرواية مبنيّة على عموم الإمساك بالعصم للنكاح الدائم إحداثاً و إبقاء.

و فيه، بإسناده أيضاً إلى زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام : عن قول الله تعالى:( وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) فقال: هذه منسوخة بقوله:( وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ) .

أقول: و لعلّ المراد بنسخ آية الإمساك بالعصم لآية حلّيّة محصنات أهل الكتاب اختصاص آية الممتحنة بالنكاح الدائم و تخصّص آية المائدة بالنسبة إلى النكاح الدائم بها، و اختصاص ما تدلّ عليه من الحلّيّة بالنكاح المنقطع، و ليس المراد به النسخ المصطلح كيف؟ و آية الممتحنة سابقة نزولاً على آية المائدة و لا وجه لنسخ

٢٨٢

السابق للّاحق. على أنّ آية المائدة مسوقة سوق الامتنان، و ما هذا شأنه يأبى النسخ.

و في المجمع في قوله تعالى:( وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) و روى أبوالجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : أنّه منسوخ بقوله:( وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ) و بقوله:( وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ) .

أقول: و يضعّف الرواية - مضافاً إلى ضعف راويها - أنّ قوله:( وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ ) إلخ، إنّما يشمل المشركات من الوثنيّين، و قوله:( وَ الْمُحْصَناتُ ) إلخ، يفيد حلّيّة نكاح أهل الكتاب فلا تدافع بين الآيتين حتّى تنسخ إحداهما الاُخرى، و قد تقدّم آنفاً الكلام في نسخ آية الممتحنة لقوله:( وَ الْمُحْصَناتُ ) إلخ، و قد تقدّم في تفسير قوله:( وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) المائدة: 5، ما ينفع في هذا المقام.

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام :( وَ إِنْ فاتَكُمْ شَيْ‏ءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ ) فلحقن بالكفّار من أهل عهدكم فاسألوهم صداقها، و إن لحقن بكم من نسائهم شي‏ء فأعطوهم صداقها ذلكم حكم الله يحكم بينكم.

أقول: ظاهره تفسير( شَيْ‏ءٌ ) بالمرأة.

و في الكافي، بإسناده عن أبان عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: لمّا فتح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة بايع الرجال ثمّ جاءت النساء يبايعنه فأنزل الله عزّوجلّ:( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ ) إلى آخر الآية.

قالت هند: أمّا الولد فقد ربّيناهم صغاراً و قتلتهم كباراً، و قالت اُمّ حكيم بنت الحارث بن هشام و كانت عند عكرمة بن أبي جهل: يا رسول الله ما ذاك المعروف الّذي أمرنا الله أن لا نعصيك فيه؟ قال: لا تلطمن خدّاً، و لا تخمشن وجهاً، و لا تنتفن شعراً، و لا تشققن جيباً، و لا تسوّدن ثوباً، و لا تدعين بويل، فبايعهنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على هذا.

فقالت: يا رسول الله كيف نبايعك؟ قال: إنّني لا اُصافح النساء فدعا بقدح

٢٨٣

من ماء فأدخل يده ثمّ أخرجها فقال: أدخلن أيديكنّ في هذا الماء.

أقول: و الروايات مستفيضة في هذه المعاني من طرق الشيعة و أهل السنّة.

و في تفسير القمّيّ، بإسناده عن عبدالله بن سنان قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله:( وَ لا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) قال: هو ما فرض الله عليهنّ من الصلاة و الزكاة و ما أمرهنّ به من خير.

أقول: و الرواية تشهد بأنّ ما ورد في الروايات من تفسير المعروف بمثل قوله: لا تلطمن خدّاً إلخ، و في بعضها أن لا تتبرّجن تبرّج الجاهليّة الاُولى من قبيل الإشارة إلى بعض المصاديق.

٢٨٤

( سورة الصف مدنيّة و هي أربع عشرة آية)

( سورة الصفّ الآيات 1 - 9)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ  وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 1 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ( 2 ) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ( 3 ) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ ( 4 ) وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ  فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ  وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( 5 ) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ  فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ( 6 ) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَىٰ إِلَى الْإِسْلَامِ  وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 7 ) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ( 8 ) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ( 9 )

( بيان)

السورة ترغّب المؤمنين و تحرّضهم على أن يجاهدوا في سبيل الله و يقاتلوا أعداء دينه، و تنبّؤهم أنّ هذا الدين نور ساطع لله سبحانه يريد الكفّار من أهل الكتاب أن

٢٨٥

يطفؤه بأفواههم و الله متمّه و لو كره الكافرون، و مظهره على الدين كلّه و لو كره المشركون.

و أنّ هذا النبيّ الّذي آمنوا به رسول من الله أرسله بالهدى و دين الحقّ، و بشّر به عيسى بن مريمعليهما‌السلام بني إسرائيل.

فعلى المؤمنين أن يشدّوا العزم على طاعته و امتثال ما يأمرهم به من الجهاد و نصرة الله في دينه حتّى يسعدهم الله في آخرتهم و ينصرهم و يفتح لهم في دنياهم و يؤيّدهم على أعدائهم.

و عليهم أن لا يقولوا ما لا يفعلون و لا ينكصوا فيما يعدون فإنّ ذلك يستوجب مقتاً من الله تعالى و إيذاء الرسول و فيه خطر أن يزيغ الله قلوبهم كما فعل بقوم موسىعليه‌السلام لمّا آذوه و هم يعلمون أنّه رسول الله إليهم و الله لا يهدي القوم الظالمين.

و السورة مدنيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) تقدّم تفسيره، و افتتاح الكلام بالتسبيح لما فيها من توبيخ المؤمنين بقولهم ما لا يفعلون و إنذارهم بمقت الله و إزاغته قلوب الفاسقين.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ ) ( لِمَ ) مخفّف لما، و( ما ) استفهاميّة، و اللّام للتعليل، و الكلام مسوق للتوبيخ ففيه توبيخ المؤمنين على قولهم ما لا يفعلون و لا يصغي إلى قول بعض المفسّرين: أنّ المراد بالّذين آمنوا هم المنافقون و التوبيخ لهم دون المؤمنين لجلالة قدرهم.

و ذلك لوفور الآيات المتضمّنة لتوبيخهم و معاتبتهم و خاصّة في الآيات النازلة في الغزوات و ما يلحق بها كاُحد و الأحزاب و حنين و صلح الحديبيّة و تبوك و الإنفاق في سبيل الله و غير ذلك، و الصالحون من هؤلاء المؤمنين إنّما صلحوا نفساً و جلّوا قدراً بالتربية الإلهيّة الّتي تتضمّنها أمثال هذه التوبيخات و العتابات المتوجّهة إليهم تدريجاً و لم يتّصفوا بذلك من عند أنفسهم.

و مورد التوبيخ و إن كان بحسب ظاهر لفظ الآية مطلق تخلّف الفعل عن القول و خلف

٢٨٦

الوعد و نقض العهد و هو كذلك لكونه من آثار مخالفة الظاهر للباطن و هو النفاق لكن سياق الآيات و فيها قوله:( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا ) و ما سيأتي من قوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى‏ تِجارَةٍ ) إلخ، و غير ذلك يفيد أنّ متعلّق التوبيخ كان هو تخلّف بعضهم عمّا وعده من الثبات في القتال و عدم الانهزام و الفرار أو تثاقلهم أو تخلّفهم عن الخروج أو عدم الإنفاق في تجهّز أنفسهم أو تجهيز غيرهم.

قوله تعالى: ( كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ ) المقت البغض الشديد، و الآية في مقام التعليل لمضمون الآية السابقة فهو تعالى يبغض من الإنسان أن يقول ما لا يفعله لأنّه من النفاق، و أن يقول الإنسان ما لا يفعله غير أن لا يفعل ما يقوله فالأوّل من النفاق و الثاني من ضعف الإرادة و وهن العزم و هو رذيلة منافية لسعادة النفس الإنسانيّة فإنّ الله بنى سعادة النفس الإنسانيّة على فعل الخير و اكتساب الحسنة من طريق الاختيار و مفتاحه العزم و الإرادة، و لا تأثير إلّا للراسخ من العزم و الإرادة، و تخلّف الفعل عن القول معلول وهن العزم و ضعف الإرادة و لا يرجى للإنسان مع ذلك خير و لا سعادة.

قوله تعالى: ( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ ) الصفّ جعل الأشياء على خطّ مستو كالناس و الأشجار. كذا قاله الراغب، و هو مصدر بمعنى اسم الفاعل و لذا لم يجمع، و هو حال من ضمير الفاعل في( يُقاتِلُونَ ) ، و المعنى: يقاتلون في سبيله حال كونهم صافّين.

و البنيان هو البناء، و المرصوص من الرصاص، و المراد به ما اُحكم من البناء بالرصاص فيقاوم ما يصادمه من أسباب الانهدام.

و الآية تعلّل خصوص المورد - و هو أن يعدوا الثبات في القتال ثمّ ينهزموا - بالالتزام كما أنّ الآية السابقة تعلّل التوبيخ على مطلق أن يقولوا ما لا يفعلون، و ذلك أنّ الله سبحانه إذا أحبّ الّذين يقاتلون فيلزمون مكانهم و لا يزولون كان لازمه أن يبغض الّذين يعدون أن يثبتوا ثمّ ينهزمون إذا حضروا معركة القتال.

قوله تعالى: ( وَ إِذْ قالَ مُوسى‏ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَ قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ

٢٨٧

اللهِ إِلَيْكُمْ ) إلخ، في الآية إشارة إلى إيذاء بني إسرائيل رسولهم موسىعليه‌السلام و لجاجهم حتّى آل إلى إزاغة الله قلوبهم. و في ذلك نهي التزامّي للمؤمنين عن أن يؤذوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيؤل أمرهم إلى ما آل إليه أمر قوم موسى من إزاغة القلوب و قد قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً ) الأحزاب: 57.

و الآية بما فيها من النهي الالتزاميّ في معنى قوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى‏ فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَ كانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَ قُولُوا قَوْلًا سَدِيداً ) الأحزاب: 70.

و سياق الآيتين و ذكر تبرئة موسىعليه‌السلام يدلّ على أنّ المراد بإيذائه بما برّأه الله منه ليس معصيتهم لأوامره و خروجهم عن طاعته إذ لا معنى حينئذ لتبرئته بل هو أنّهم وقعوا فيهعليه‌السلام و قالوا فيه ما فيه عار و شين فتأذّى فبرّأه الله ممّا قالوا و نسبوا إليه، و قوله في الآية التالية:( اتَّقُوا اللهَ وَ قُولُوا قَوْلًا سَدِيداً ) يؤيّد هذا الّذي ذكرناه.

و يؤيّد ذلك إشارته تعالى إلى بعض مصاديق إيذاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقول أو فعل في قوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى‏ طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَ لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَ لا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ - إلى أن قال -وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ - إلى أن قال -وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً ) الأحزاب: 53.

فتحصّل أنّ في قوله:( وَ إِذْ قالَ مُوسى‏ لِقَوْمِهِ ) إلخ، تلويحا إلى النهي عن إيذاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقول أو فعل على علم بذلك كما أنّ في ذيل الآية تخويفاً و إنذاراً أنّه فسق ربّما أدّى إلى إزاغته تعالى قلب من تلبّس به.

و قوله:( فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَ اللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ) الزيغ الميل عن الاستقامة و لازمه الانحراف عن الحقّ إلى الباطل.

و إزاغته تعالى إمساك رحمته و قطع هدايته عنهم كما يفيده التعليل بقوله:( وَ

٢٨٨

اللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ) حيث علّل الإزاغة بعدم الهداية، و هي إزاغة على سبيل المجازاة و تثبيت للزيغ الّذي تلبّسوا به أوّلاً بسبب فسقهم المستدعي للمجازاة كما قال تعالى:( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ) البقرة: 26، و ليس بإزاغة بدئيّة و إضلال ابتدائيّ لا يليق بساحة قدسه تعالى.

و من هنا يظهر فساد ما قيل: إنّه لا يجوز أن يكون المراد بقوله:( أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ ) الإزاغة عن الإيمان لأنّ الله تعالى لا يجوز أن يزيغ أحداً عن الإيمان، و أيضاً كون المراد به الإزاغة عن الإيمان يخرج الكلام عن الفائدة لأنّهم إذا زاغوا عن الإيمان فقد صاروا كفّاراً فلا معنى لقوله: أزاغهم الله عن الإيمان.

وجه الفساد أنّ قوله: لا يجوز له تعالى أن يزيغ أحداً عن الإيمان ممنوع بإطلاقه فإنّ الملاك فيه لزوم الظلم و إنّما يلزم فيما كان من الإزاغة و الإضلال ابتدائيّاً و أمّا ما كان على سبيل المجازاة و حقيقته إمساك الرحمة و قطع الهداية لتسبيب العبد لذلك بفسقه و إعراضه عن الرحمة و الهداية فلا دليل على منعه لا عقلاً و لا نقلاً.

و أمّا قوله: إنّ الكلام يخرج بذلك عن الفائدة فيدفعه أنّ الّذي ينسب من الزيغ إلى العبد و يحصل معه الكفر تحقّق ما له بالفسق و الّذي ينسب إليه تعالى تثبيت الزيغ في قلب العبد و الطبع عليه به فزيغ العبد عن الإيمان بسبب فسقه و حصول الكفر بذلك لا يغني عن تثبيت الله الزيغ و الكفر في قلبه على سبيل المجازاة.

قوله تعالى: ( وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) تقدّم في صدر الكلام أنّ هذه الآية و الّتي قبلها و الآيات الثلاث بعدها مسوقة لتسجيل أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسول معلوم الرسالة عند المؤمنين أرسله الله بالهدى و دين الحقّ ليظهره على الدين كلّه و لو كره الكافرون من أهل الكتاب، و ما جاء به من الدين نور ساطع من عندالله يريد المشركون ليطفؤه بأفواههم و الله متمّ نوره و لو كره المشركون.

فعلى المؤمنين أن لا يؤذوهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هم يعلمون أنّه رسول الله إليهم، و أن ينصروه و يجاهدوا في سبيل ربّهم لإحياء دينه و نشر كلمته.

٢٨٩

و من ذلك يعلم أنّ قوله:( وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ ) إلخ، كالتوطئة لما سيذكر من كون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسولاً مبشّراً به من قبل أرسله الله بالهدى و دين الحقّ و دينه نوره تعالى يهتدي به الناس.

و الّذي حكاه تعالى عن عيسى بن مريمعليهما‌السلام أعني قوله:( يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) ملخّص دعوته و قد آذن بأصل دعوته بقوله:( إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ ) فأشار إلى أنّه لا شأن له إلّا أنّه حامل رسالة من الله إليهم، ثمّ بيّن متن ما اُرسل إليهم لأجل تبليغه في رسالته بقوله:( مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ ) إلخ.

فقوله:( مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ ) بيان أنّ دعوته لا تغاير دين التوراة و لا تناقض شريعتها بل تصدّقها و لم تنسخ من أحكامها إلّا يسيراً و النسخ بيان انتهاء أمد الحكم و ليس بإبطال، و لذا جمععليه‌السلام بين تصديق التوراة و نسخ بعض أحكامها فيما حكاه الله تعالى من قوله:( وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ) آل عمران: 50، و لم يبيّن لهم إلّا بعض ما يختلفون فيه كما في قوله المحكي:( قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَ أَطِيعُونِ ) الزخرف: 63.

و قوله:( وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) إشارة إلى الشطر الثاني من رسالتهعليه‌السلام و قد أشار إلى الشطر الأوّل بقوله:( مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ ) .

و من المعلوم أنّ البشرى هي الخبر الّذي يسرّ المبشّر و يفرحه و لا يكون إلّا بشي‏ء من الخير يوافيه و يعود إليه، و الخير المترقّب من بعثة النبيّ و دعوته هو انفتاح باب من الرحمة الإلهيّة على الناس فيه سعادة دنياهم و عقباهم من عقيدة حقّة أو عمل صالح أو كليهما، و البشرى بالنبيّ بعد النبيّ و بالدعوة الجديدة بعد حلول دعوة سابقة و استقرارها و الدعوة الإلهيّة واحدة لا تبطل بمرور الدهور و تقضّي الأزمنة و اختلاف الأيّام و الليالي إنّما تتصوّر إذا كانت الدعوة الجديدة أرقى فيما تشتمل عليه من العقائد الحقّة و الشرائع المعدّلة لأعمال المجتمع و أشمل لسعادة الإنسان في

٢٩٠

دنياه و عقباه.

و بهذا البيان يظهر أنّ معنى قولهعليه‌السلام :( وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي ) إلخ، يفيد كون ما أتى به النبيّ أحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرقى و أكمل ممّا تضمّنته التوراة و بعث به عيسىعليه‌السلام و هوعليه‌السلام متوسّط رابط بين الدعوتين.

و يعود معنى كلامه:( إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً ) إلخ، إلى أنّي رسول من الله إليكم أدعو إلى شريعة التوراة و منهاجها - و لاُحلّ لكم بعض الّذي حرّم عليكم - و هي شريعة سيكملها الله ببعث نبيّ يأتي من بعدي اسمه أحمد.

و هو كذلك فإمعان التأمّل في المعارف الإلهيّة الّتي يدعو إليها الإسلام يعطي أنّها أدقّ ممّا في غيره من الشرائع السماويّة السابقة و خاصّة ما يندب إليه من التوحيد الّذي هو أصل الاُصول الّذي يبتني عليه كلّ حكم و يعود إليه كلّ من المعارف الحقيقيّة و قد تقدّم شطر من الكلام فيه في المباحث السابقة من الكتاب.

و كذا الشرائع و القوانين العمليّة الّتي لم تدع شيئاً ممّا دقّ و جلّ من أعمال الإنسان الفرديّة و الاجتماعيّة إلّا عدلته و حدّت حدوده و قرّرته على أساس التوحيد و وجّهته إلى غرض السعادة.

و إلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ ) الأعراف: 157، و آيات اُخرى يصف القرآن.

و الآية أعني قوله:( وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي ) و إن كانت مصرّحة بالبشارة لكنّها لا تدلّ على كونها مذكورة في كتابهعليه‌السلام غير أنّ آية الأعراف المنقولة آنفاً:( يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ ) و كذا قوله في صفة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ ) الآية: الفتح: 29، يدلّان على ذلك.

و قوله:( اسْمُهُ أَحْمَدُ ) دلالة السياق على تعبير عيسىعليه‌السلام عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأحمد و على كونه اسماً له يعرف به عند الناس كما كان يسمّى بمحمّد ظاهرة لا سترة عليها.

٢٩١

و يدلّ عليه قول حسّان:

صلّى الإله و من يحفّ بعرشه

و الطيّبون على المبارك أحمد

و من أشعار أبي طالب قوله:

و قالوا لأحمد أنت امرؤ

خلوف اللسان ضعيف السبب

ألا إنّ أحمد قد جاءهم

بحقّ و لم يأتهم بالكذب

و قوله مخاطباً للعبّاس و حمزة و جعفر و عليّ يوصيهم بنصر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

كونوا فدى لكم أمي و ما ولدت

في نصر أحمد دون الناس أتراسا

و من شعره فيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد سمّاه باسمه الآخر محمّد:

أ لم تعلموا أنا وجدنا محمّداً

نبياً كموسى خطّ في أوّل الكتب

و يستفاد من البيت أنّهم عثروا على وجود البشارة بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الكتب السماويّة الّتي كانت عند أهل الكتاب يومئذ ذاك.

و يؤيّده أيضاً إيمان جماعة من أهل الكتاب من اليهود و النصارى و فيهم قوم من علمائهم كعبد الله بن سلام و غيره و قد كانوا يسمعون هذه الآيات القرآنيّة الّتي تذكر البشارة بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ذكره في التوراة و الإنجيل فتلقّوه بالقبول و لم يكذّبوه و لا أظهروا فيه شيئاً من الشكّ و الترديد.

و أمّا خلوّ الأناجيل الدائرة اليوم عن بشارة عيسى بما فيها من الصراحة فالقرآن - و هو آية معجزة باقية - في غنى عن تصديقها، و قد تقدّم البحث عن سندها و اعتبارها في الجزء الثالث من الكتاب.

و قوله:( فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ ) ضمير( جاء ) لأحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و ضمير( جاءَهُمْ ) لبني إسرائيل أو لهم و لغيرهم، و المراد بالبيّنات البشارة و معجزة القرآن و سائر آيات النبوّة.

و المعنى: فلمّا جاء أحمد المبشّر به بني إسرائيل أو أتاهم و غيرهم بالآيات البيّنة الّتي منها بشارة عيسىعليه‌السلام قالوا هذا سحر مبين، و قرئ هذا ساحر مبين.

و قيل: ضمير( جاء ) لعيسىعليه‌السلام ، و السياق لا يلائمه.

٢٩٢

قوله تعالى: ( وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى‏ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَ هُوَ يُدْعى‏ إِلَى الْإِسْلامِ ) إلخ، الاستفهام للإنكار و هو ردّ لقولهم:( هذا سِحْرٌ مُبِينٌ ) فإنّ معناه أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس برسول و أنّ ما بلّغه من دين الله ليس منه تعالى.

و المراد بالإسلام الدين الّذي يدعو إليه رسول الله بما أنّه تسليم لله فيما يريده و يأمر به من اعتقاد و عمل، و لا ريب أنّ مقتضى ربوبيّته و اُلوهيّته تعالى تسليم عباده له تسليماً مطلقاً فلا ريب أنّ الدين الّذي هو الإسلام لله دينه الحقّ الّذي يجب أن يدان به فدعوى أنّه باطل ليس من الله افتراء على الله.

و من هنا يظهر أنّ قوله:( وَ هُوَ يُدْعى‏ إِلَى الْإِسْلامِ ) يتضمّن الحجّة على كون قولهم:( هذا سِحْرٌ مُبِينٌ ) افتراء على الله.

و الافتراء ظلم لا يرتاب العقل في كونه ظلماً و ينهى عنه الشرع و يعظم الظلم بعظمة من وقع عليه فإذا كان هو الله سبحانه كان أعظم الظلم فلا أظلم ممّن افترى على الله الكذب.

و المعنى: و لا أظلم ممّن افترى على الله الكذب - بنفي نسبة دين الله إليه - و الحال أنّه يدعى إلى دين الإسلام الّذي لا يتضمّن إلّا التسليم لله فيما أراد و لا ريب أنّه من الله، و الله لا يهدي القوم الظالمين.

قوله تعالى: ( يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ ) إلخ، إطفاء النور إبطاله و إذهاب شروقه، و إطفاء النور بالأفواه إنّما هو بالنفخ بها.

و قد وقعت الآية في سورة التوبة و فيها:( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ ) قال الراغب: قال تعالى:( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ ) ( يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ ) و الفرق بين الموضعين أنّ في قوله:( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا ) يقصدون إطفاء نور الله، و في قوله:( لِيُطْفِؤُا ) يقصدون أمراً يتوصّلون به إلى إطفاء نور الله. انتهى و محصّله أن متعلّق الإرادة في قوله:( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ ) نفس الإطفاء، و في قوله:( يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ ) السبب الموصل إلى الإطفاء و هو النفخ بالأفواه و الإطفاء غرض و غاية.

٢٩٣

و الآية و ما يتلوها كالشارح لمعنى ما تقدّم في الآية السابقة من ظلمهم برمي الدعوة بالسحر و عدم هدايته تعالى لهم بما أنّهم ظالمون، و المحصّل أنّهم يريدون إطفاء نور الله بنفخة أفواههم لكنّ الله لا يهديهم إلى مقصدهم بل يتمّ نوره و يظهر دينه على الدين كلّه.

فقوله:( يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ ) أي بالنفخ بالأفواه كما يطفأ الشمعة بالنفخة كناية عن أنّهم زعموا أنّ نور الله و هو دينه نور ضعيف كنور الشمعة يطفأ بأدنى نفخة فرموه بالسحر و انقطاع نسبته إلى الله.

و قد أخطأوا في مزعمتهم فهو نور الله الّذي لا يطفأ و قد شاء أن يتمّه و لو كره الكافرون و الله بالغ أمره، و هو قوله:( وَ اللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ) .

قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏ وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) الإضافة في( دِينِ الْحَقِّ ) بيانيّة كما قيل، و الظاهر أنّها في الأصل إضافة لاميّة بعناية لطيفة هي أنّ لكلّ من الحقّ و الباطل دينا يقتضيه و يختصّ به، و قد ارتضى الله تعالى الدين الّذي للحقّ - و هو الحقّ تعالى - فأرسل رسوله.

و إظهار شي‏ء على غيره نصرته و تغليبه عليه، و المراد بالدين كلّه كلّ سبيل مسلوك غير سبيل الله الّذي هو الإسلام و الآية في مقام تعليل قوله في الآية السابقة:( وَ اللهُ مُتِمُّ نُورِهِ ) ، و المعنى: و الله متمّ نوره لأنّه هو الّذي أرسل رسوله بنوره الّذي هو الهدى و دين الحقّ ليجعله غالباً على جميع الأديان و لو كره المشركون من أهل الأوثان.

و يستفاد من الآيتين أنّ دين الحقّ نور الله في الأرض كما يستفاد ذلك من قوله:( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ ) الآية النور: 35، و قد تقدّم في تفسير الآية.

٢٩٤

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ ) قال: يصطفّون كالبنيان الّذي لا يزول.

و في المجمع في قوله تعالى:( وَ إِذْ قالَ مُوسى‏ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَ قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ ) روي في قصّة قارون أنّه دسّ إليه امرأة و زعم أنّه زنى بها، و رموه بقتل هارون.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) الآية قال: و سأل بعض اليهود لعنهم الله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لم سمّيت أحمد و محمّداً و بشيراً و نذيراً؟ فقال: أمّا محمّد فإنّي في الأرض محمود، و أمّا أحمد فإنّي في السماء أحمد منّي في الأرض، و أمّا البشير فاُبشّر من أطاع الله بالجنّة، و أمّا النذير فاُنذر من عصى الله بالنار.

و في الدرّ المنثور، في الآية أخرج ابن مردويه عن العرياض بن سارية سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إنّي عبدالله في اُمّ الكتاب و خاتم النبيّين و إنّ آدم لمنجدل في طينته و سوف انبّئكم تأويل ذلك، أنا دعوة إبراهيم، و بشارة عيسى قومه و رؤيا اُمّي الّتي رأت أنّه خرج منها نور أضاء له قصور الشام.

و في العيون، بإسناده إلى صفوان بن يحيى صاحب السابريّ قال: سألني أبوقرّة صاحب الجاثليق أن اُوصله إلى الرضاعليه‌السلام فاستأذنته في ذلك، قال: أدخله عليّ فلمّا دخل عليه قبّل بساطه و قال: هكذا علينا في ديننا أن نفعل بأشراف أهل زماننا.

ثمّ قال: أصلحك الله ما تقول في فرقة ادّعت دعوى فشهدت لهم فرقة اُخرى معدّلون؟ قال: الدعوى لهم، قال: فادّعت فرقة اُخرى دعوى فلم يجدوا شهوداً من غيرهم؟ قال: لا شي‏ء لهم.

قال: فإنّا نحن ادّعينا أنّ عيسى روح الله و كلمته فوافقنا على ذلك

٢٩٥

المسلمون، و ادّعى المسلمون أنّ محمّداً نبيّ فلم نتابعهم عليه، و ما أجمعنا عليه خير ممّا افترقنا فيه.

فقال أبوالحسنعليه‌السلام ما اسمك؟ قال: يوحنا، قال: يا يوحنّا إنّا آمنّا بعيسى روح الله و كلمته الّذي كان يؤمن بمحمّد و يبشّر به و يقرّ على نفسه أنّه عبد مربوب فإن كان عيسى الّذي هو عندك روح الله و كلمته ليس هو الّذي آمن بمحمّد و بشّر به و لا هو الّذي أقرّ لله بالعبوديّة فنحن منه براء فأين اجتمعنا؟ فقام و قال لصفوان بن يحيى: قم فما كان أغنانا عن هذا المجلس.

أقول: كأنّه يريد بقوله: قم فما كان أغنانا عن هذا المجلس، أنّ دخولهعليه‌السلام لم يفده فائدة حيث لم ينجح ما أتى به من الحجّة.

و في كمال الدين، بإسناده إلى يعقوب بن شعيب عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: كان بين عيسى و محمّد (صلّي الله عليهما) خمس مائة عام منها مائتان و خمسون عاما ليس فيها نبيّ و لا عالم ظاهر، قلت: فما كانوا؟ قال: كانوا متمسّكين بدين عيسىعليه‌السلام ، قلت: فما كانوا؟ قال: كانوا مؤمنين. ثمّ قال: و لا يكون إلّا و فيها عالم.

أقول: المراد بالعالم الإمام الّذي هو الحجّة، و هناك روايات واردة في قوله تعالى:( يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ ) ، و قوله:( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏ وَ دِينِ الْحَقِّ ) تذكر أنّ النور و الهدى و دين الحقّ ولاية أميرالمؤمنينعليه‌السلام و هي من الجري و التطبيق أو من البطن و ليست بمفسّرة، و عدّ الفصل بين المسيح و بين محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمس مائة عام يخالف ما عليه مشهور التاريخ لكنّ المحقّقين ذكروا أنّ في التاريخ الميلاديّ اختلالاً و قد مرّت إشارة ما إلى ذلك في الجزء الثالث من الكتاب.

٢٩٦

( سورة الصفّ الآيات 10 - 14)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( 10 ) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ  ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( 11 ) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ  ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 12 ) وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا  نَصْرٌ مِّنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ  وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( 13 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ  قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ  فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ  فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ( 14 )

( بيان)

دعوة للمؤمنين إلى الإيمان بالله و رسوله و الجهاد في سبيل الله و وعد جميل بالمغفرة و الجنّة في الآخرة و بالنصر و الفتح في الدنيا، و دعوة لهم إلى أن يثبتوا على نصرهم لله و وعد جميل بالتأييد.

و المعنيان هما الغرض الأقصى في السورة و الآيات السابقة كالتوطئة و التمهيد بالنسبة إليهما.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى‏ تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ

٢٩٧

أَلِيمٍ ) الاستفهام للعرض و هو في معنى الأمر.

و التجارة - على ما ذكره الراغب - التصرّف في رأس المال طلباً للربح، و لا يوجد في كلام العرب تاء بعده جيم إلّا هذه اللّفظة.

فقد اُخذ الإيمان و الجهاد في الآية تجارة رأس مالها النفس و ربحها النجاة من عذاب أليم، و الآية في معنى قوله:( إِنَّ اللهَ اشْتَرى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ - إلى أن قال -فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ ) التوبة: 111.

و قد فخّم تعالى أمر هذه التجارة حيث قال:( عَلى‏ تِجارَةٍ ) أي تجارة جليلة القدر عظيمة الشأن، و جعل الربح الحاصل منها النجاة من عذاب أليم لا يقدّر قدره.

و مصداق هذه النجاة الموعودة المغفرة و الجنّة، و لذا بدّل ثانياً النجاة من العذاب من قوله:(( يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ ) إلخ، و أمّا النصر و الفتح الموعودان فهما خارجان عن النجاة الموعودة، و لذا فصلهما عن المغفرة و الجنّة فقال:( وَ أُخْرى‏ تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ‏ ) فلا تغفل.

قوله تعالى: ( تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ ) إلخ، استئناف بيانيّ يفسّر التجارة المعروضة عليهم كأنّه قيل: ما هذه التجارة؟ فقيل:( تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجاهِدُونَ ) إلخ، و قد أخذ الإيمان بالرسول مع الإيمان بالله للدلالة على وجوب طاعته فيما أمر به و إلّا فالإيمان لا يعدّ إيماناً بالله إلّا مع الإيمان برسالة الرسول قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَ رُسُلِهِ - إلى أن قال -أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا ) النساء: 151.

و قوله:( ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أي ما ذكر من الإيمان و الجهاد خير لكم إن كنتم من أهل العلم و أمّا الجهلة فلا يعتدّ بأعمالهم.

و قيل: المراد تعلمون خيريّة ذلك إن كنتم من أهل العلم و الفقه.

٢٩٨

قوله تعالى: ( يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) إلخ، جواب للشرط المقدّر المفهوم من الآية السابقة أي إن تؤمنوا بالله و رسوله و تجاهدوا في سبيله يغفر لكم، إلخ.

و قد اُطلقت الذنوب المتعلّقة بها المغفرة فالمغفور جميع الذنوب و الاعتبار يساعده إذ هذه المغفرة مقدّمة الدخول في جنّة الخلد و لا معنى لدخولها مع بقاء بعض الذنوب على حاله، و لعلّه للإشارة إلى هذه النكتة عقّبها بقوله:( وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ) أي جنّات ثبات و استقرار فكونها محلّ ثبات و موضع قرار يلوّح أنّ المغفرة تتعلّق بجميع الذنوب.

مضافاً إلى ما فيه من مقابلة النفس المبذولة و هي متاع قليل معجّل بجنّات عدن الّتي هي خالدة فتطيب بذلك نفس المؤمن و تقوى إرادته لبذل النفس و تضحيتها و اختيار البقاء على الفناء.

ثمّ زاد في تأكيد ذلك بقوله:( ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

قوله تعالى: ( وَ أُخْرى‏ تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ ) إلخ، عطف على قوله:( يَغْفِرْ لَكُمْ ) إلخ، و( أُخْرى) وصف قائم مقام الموصوف و هو خبر لمبتدء محذوف، و قوله:( نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ ) بيان لاُخرى، و التقدير و لكم نعمة أو خصلة اُخرى تحبّونها و هي نصر من الله و فتح قريب عاجل.

و قوله:( وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) معطوف على الأمر المفهوم من سابق الكلام كأنّه قيل:( قل يا أيّها الّذين آمنوا هل أدلّكم) إلخ، و بشّر المؤمنين.

و تحاذي هذه البشرى ما في قوله:( إِنَّ اللهَ اشْتَرى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ - إلى أن قال -فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ ) التوبة: 111، و به يظهر أنّ الّذي اُمر أن يبشّروا به مجموع ما يؤتيهم الله من الأجر في الآخرة و الدنيا لا خصوص النصر و الفتح.

هذا كلّه ما يعطيه السياق في معنى الآية و إعراب أجزائها، و قد ذكر فيها اُمور

٢٩٩

اُخرى لا يساعد عليها السياق تلك المساعدة أغمضنا عن ذكرها، و احتمل أن يكون قوله:( وَ بَشِّرِ ) إلخ استئنافاً.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ ) إلخ، أي اتّسموا بهذه السمة و دوموا و اثبتوا عليها فالآية في معنى الترقّي بالنسبة إلى قوله السابق:( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى‏ تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ) و مآل المعنى: اتّجروا بأنفسكم و أموالكم فانصروا الله بالإيمان و الجهاد في سبيله و دوموا و اثبتوا على نصره.

و المراد بنصرتهم لله أن ينصروا نبيّه في سلوك السبيل الّذي يسلكه إلى الله على بصيرة كما قال:( قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى‏ بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي ) يوسف: 108.

و الدليل على هذا المعنى تنظيره تعالى قوله:( كُونُوا أَنْصارَ اللهِ ) بقوله بعده:( كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ ) فكون الحواريّين أنصار الله معناه كونهم أنصاراً لعيسى بن مريمعليهما‌السلام في سلوكه سبيل الله و توجّهه إلى الله و هو التوحيد و إخلاص العبادة لله سبحانه فمحاذاة قولهم:( نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ ) لقوله:( مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ ) و مطابقته له تقتضي اتّحاد معنى الكلمتين بحسب المراد فكون هؤلاء المخاطبين بقوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ ) أنصاراً لله معناه كونهم أنصاراً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نشر الدعوة و إعلاء كلمة الحقّ بالجهاد، و هو الإيمان بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و طاعته فيما يأمر و ينهى عن قول جازم و عمل صادق - كما هو مؤدّى سياق آيات السورة.

و قوله:( فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ كَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى‏ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ ) إشارة إلى ما جرى عليه و انتهى إليه أمر استنصار عيسى و تلبية الحواريّين حيث تفرّق الناس إلى طائفة مؤمنة و اُخرى كافرة فأيّد الله المؤمنين على عدوّهم و هم الكفّار فأصبحوا ظاهرين بعد ما كانوا مستخفين مضطهدين.

و فيه تلويح إلى أنّ اُمّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجري فيهم ما جرى في اُمّة عيسىعليه‌السلام

٣٠٠