الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٩

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 408

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 408
المشاهدات: 135233
تحميل: 5134


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 408 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135233 / تحميل: 5134
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 19

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

تؤمن منهم طائفة و تكفر طائفة فإن أجاب المؤمنون استنصاره - و قد قام هو تعالى مقامه في الاستنصار إعظاماً لأمره و إعزازاً له - أيّدهم الله على عدوّهم فيصبحون ظاهرين كما ظهر أنصار عيسى و المؤمنون به.

و قد أشار تعالى إلى هذه القصّة في آخر قصص عيسىعليه‌السلام من سورة آل عمران حيث قال:( فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى‏ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ ) آل عمران: 52، إلى تمام ستّ آيات، و بالتدبّر فيها يتّضح معنى الآية المبحوث عنها.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى‏ تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ) فقالوا: لو نعلم ما هي لنبذلنّ فيه الأموال و الأنفس و الأولاد، فقال الله:( تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ - إلى قوله -ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

أقول: و هذا المعنى مرويّ من طرق أهل السنّة أيضاً.

و فيه،: في قوله تعالى:( وَ أُخْرى‏ تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ ) يعني في الدنيا بفتح القائمعليه‌السلام ، و أيضاً قال: فتح مكّة.

في الاحتجاج، عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام في حديث: و لم يخلّ أرضه من عالم بما يحتاج الخليقة إليه و متعلّم على سبيل نجاة اُولئك هم الأقلّون عدداً، و قد بيّن الله ذلك من اُمم الأنبياء، و جعلهم مثلاً لمن تأخّر مثل قوله في حواريّي عيسى حيث قال لسائر بني إسرائيل:( مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَ اشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) يعني مسلمون لأهل الفضل فضلهم و لا يستكبرون عن أمر ربّهم فما أجابه منهم إلّا الحواريّون.

٣٠١

أقول: الرواية و إن وردت في تفسير آية آل عمران لكنّها مفيدة فيما نحن فيه.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن إسحاق و ابن سعد عن عبدالله بن أبي بكر بن محمّد بن عمرو بن حزم قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للنفر الّذين لاقوه بالعقبة: أخرجوا إلىّ اثني عشر رجلاً منكم يكونوا كفلاء على قومهم كما كفلت الحواريّون لعيسى بن مريم.

٣٠٢

( سورة الجمعة مدنيّة و هي إحدى عشرة آية)

( سورة الجمعة الآيات 1 - 8)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ( 1 ) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( 2 ) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ  وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 3 ) ذَٰلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ  وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( 4 ) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا  بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ  وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 5 ) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( 6 ) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ  وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ( 7 ) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ  ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( 8 )

( بيان)

غرض السورة هو الحثّ البالغ على الاهتمام بأمر صلاة الجمعة و القيام بواجب أمرها فهي من شعائر الله المعظّمة الّتي في تعظيمها و الاهتمام بأمرها صلاح اُخريهم و دنياهم، و قد سلك تعالى إلى بيان أمره بافتتاح الكلام بتسبيحه و الثناء عليه بما منّ

٣٠٣

على قوم اُمّيّين برسول منهم اُمّيّ يتلو عليهم آياته و يزكّيهم بصالحات الأعمال و الزاكيات من الأخلاق و يعلّمهم الكتاب و الحكمة فيحمّلهم كتاب الله و معارف دينه أحسن التحميل هم و من يلحق بهم أو يخلفهم من بعدهم من المؤمنين فليحملوا ذلك أحسن الحمل، و ليحذروا أن يكونوا كاليهود حمّلوا التوراة ثمّ لم يحملوا معارفها و أحكامها فكانوا مثل الحمار يحمل أسفاراً.

ثمّ تخلّص إلى الأمر بترك البيع و السعي إلى ذكر الله إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة، و قرّعهم على ترك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائماً يخطب و الانفضاض و الانسلال إلى التجارة و اللهو، و ذلك آية عدم تحمّلهم ما حملوا من معارف كتاب الله و أحكام، و السورة مدنيّة.

قوله تعالى: ( يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) التسبيح تنزيه الشي‏ء و نسبته إلى الطهارة و النزاهة من العيوب و النقائص، و التعبير بالمضارع للدلالة على الاستمرار، و الملك هو الاختصاص بالحكم في نظام المجتمع، و القدّوس مبالغة في القدس و هو النزاهة و الطهارة، و العزيز هو الّذي لا يغلبه غالب، و الحكيم هو المتقن فعله فلا يفعل عن جهل أو جزاف.

و في الآية توطئة و تمهيد برهانيّ لما يتضمّنه قوله:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ ) إلخ، من بعثة الرسول لتكميل الناس و إسعادهم و هدايتهم بعد إذ كانوا في ضلال مبين.

و ذلك أنّه تعالى يسبّحه و ينزّهه الموجودات السماويّة و الأرضيّة بما عندهم من النقص الّذي هو متمّمه و الحاجة الّتي هو قاضيها فما من نقيصة أو حاجة إلّا و هو المرجوّ في تمامها و قضائها فهو المسبّح المنزّه عن كلّ نقص و حاجة فله أن يحكم في نظام التكوين بين خلقه بما شاء، و في نظام التشريع في عباده بما أراد، كيف لا؟ و هو ملك له أن يحكم في أهل مملكته و عليهم أن يطيعوه.

و إذا حكم و شرّع بينهم ديناً لم يكن ذلك منه لحاجة إلى تعبيدهم و نقص فيه يتمّمه بعبادتهم لأنّه قدّوس منزّه عن كلّ نقص و حاجة.

ثمّ إذا حكم و شرّع و بلّغه إيّاهم عن غنىً منه و دعاهم إليه بوساطة رسله فلم

٣٠٤

يستجيبوا دعوته و تمرّدوا عن طاعته لم يكن ذلك تعجيزاً منهم له تعالى لأنّه العزيز لا يغلبه فيما يريده غالب.

ثمّ إنّ الّذي حكم و شرّعه من الدّين بما أنّه الملك القدّوس العزيز ليس يذهب لغيً لا أثر له لأنّه حكيم على الإطلاق لا يفعل ما يفعل إلّا لمصلحة و لا يريد منهم ما يريد إلّا لنفع يعود إليهم و خير ينالونه فيستقيم به حالهم في دنياهم و اُخراهم.

و بالجملة فتشريعه الدين و إنزاله الكتاب ببعث رسول يبلّغهم ذلك بتلاوة آياته، و يزكّيهم و يعلّمهم منّ منه تعالى و فضل كما قال:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ ) إلخ.

قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ ) إلخ، الاُمّيّون جمع اُميّ و هو الّذي لا يقرأ و لا يكتب، و المراد بهم - كما قيل - العرب لقلّة من كان منهم يقرأ و يكتب و قد كان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم أي من جنسهم و هو غير كونه مرسلاً إليهم فقد كان منهم و كان مرسلاً إلى الناس كافّة.

و احتمل أن يكون المراد بالاُمّيّين غير أهل الكتاب كما قال اليهود - على ما حكى الله عنهم -:( لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ) آل عمران: 75.

و فيه أنّه لا يناسب قوله في ذيل الآية:( يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ ) إلخ، فإنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يخصّ غير العرب و غير أهل الكتاب بشي‏ء من الدعوة لم يلقه إليهم.

و احتمل أن يكون المراد بالاُمّيّين أهل مكّة لكونهم يسمّونها اُمّ القرى.

و فيه أنّه لا يناسب كون السورة مدنيّة لإيهامه كون ضمير( يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ ) راجعاً إلى المهاجرين و من أسلم من أهل مكّة بعد الفتح و أخلافهم و هو بعيد من مذاق القرآن.

و لا منافاة بين كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الاُمّيّين مبعوثاً فيهم و بين كونه مبعوثا إليهم و إلى غيرهم و هو ظاهر، و تلاوته عليهم آياته و تزكيته و تعليمه لهم الكتاب و الحكمة لنزوله بلغتهم و هو أوّل مراحل دعوته و لذا لما استقرّت الدعوة بعض الاستقرار أخذصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعو اليهود و النصارى و المجوس و كاتب العظماء و الملوك.

و كذا دعوة إبراهيم و إسماعيلعليهما‌السلام على ما حكى الله تعالى:( رَبَّنا وَ اجْعَلْنا

٣٠٥

مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ - إلى أن قال -رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ ) البقرة: 129، تشمل جميع آل إسماعيل من عرب مضر أعمّ من أهل مكّة و غيرهم، و لا ينافي كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبعوثاً إليهم و إلى غيرهم.

و قوله:( يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ ) أي آيات كتابه مع كونه اُمّياً. صفة للرسول.

و قوله:( وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ ) التزكية تفعيل من الزكاة بمعنى النموّ الصالح الّذي يلازم الخير و البركة فتزكيته لهم تنميته لهم نماء صالحاً بتعويدهم الأخلاق الفاضلة و الأعمال الصالحة فيكملون بذلك في إنسانيّتهم فيستقيم حالهم في دنياهم و آخرتهم يعيشون سعداء و يموتون سعداء.

و تعليم الكتاب بيان ألفاظ آياته و تفسير ما اُشكل من ذلك، و يقابله تعليم الحكمة و هي المعارف الحقيقيّة الّتي يتضمّنها القرآن، و التعبير عن القرآن تارة بالآيات و تارة بالكتاب للدلالة على أنّه بكلّ من هذه العناوين نعمة يمتنّ بها - كما قيل -.

و قد قدّم التزكية ههنا على تعليم الكتاب و الحكمة بخلاف ما في دعوة إبراهيمعليه‌السلام لأنّ هذه الآية تصف تربيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمؤمني اُمّته، و التزكية مقدّمة في مقام التربية على تعليم العلوم الحقّة و المعارف الحقيقيّة و أمّا ما في دعوة إبراهيمعليه‌السلام فإنّها دعاء و سؤال أن يتحقّق في ذرّيّته هذه الزكاة و العلم بالكتاب و الحكمة، و العلوم و المعارف أقدم مرتبة و أرفع درجة في مرحلة التحقّق و الاتّصاف من الزكاة الراجعة إلى الأعمال و الأخلاق.

و قوله:( وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) ( إِنْ ) مخفّفة من الثقيلة و المراد أنّهم كانوا من قبل بعثة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ضلال مبين، و الآية تحميد بعد تسبيح و مسوقة للامتنان كما سيأتي.

قوله تعالى: ( وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) عطف على الاُمّيّين و ضمير( مِنْهُمْ ) راجع إليهم و( من ) للتبعيض و المعنى: بعث في الاُمّيّين و في آخرين منهم لم يلحقوا بهم بعد و هو العزيز الّذي لا يغلب في إرادته الحكيم الّذي

٣٠٦

لا يلغو و لا يجازف في فعله.

قوله تعالى: ( ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) الإشارة بذلك إلى بعث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - و قد فخّم أمره بالإشارة البعيدة - فهوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المخصوص بالفضل، و المعنى: ذلك البعث و كونه يتلو آيات الله و يزكّي الناس و يعلمهم الكتاب و الحكمة من فضل الله و عطائه يعطيه من تعلّقت به مشيّته و قد شاء أن يعطيه محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الله ذوالفضل العظيم كذا قال المفسّرون.

و من الممكن أن تكون الإشارة بذلك إلى البعث بما له من النسبة إلى أطرافه من المرسل و المرسل إليهم، و المعنى: ذلك البعث من فضل الله يؤتيه من يشاء و قد شاء أن يخصّ بهذا الفضل محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاختاره رسولاً، و اُمّته فاختارهم لذلك فجعله منهم و أرسله إليهم.

و الآية و الآيتان قبلها أعني قوله:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ - إلى قوله -الْعَظِيمِ ) مسوقة سوق الامتنان.

قوله تعالى: ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً ) إلخ، قال الراغب: السفر - بالفتح فالسكون - كشف الغطاء و يختصّ ذلك بالأعيان نحو سفر العمامة عن الرأس و الخمار عن الوجه - إلى أن قال - و السفر - بالكسر فالسكون - الكتاب الّذي يسفر عن الحقائق قال تعالى:( كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً ) انتهى.

و المراد بتحميل التوراة تعليمها، و المراد بحملها العمل بها على ما يؤيّده السياق و يشهد به ما في ذيل الآية من قوله:( بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ ) ، و المراد بالّذين حمّلوا التوراة ثمّ لم يحملوها اليهود الّذين أنزل الله التوراة على رسولهم موسىعليه‌السلام فعلّمهم ما فيها من المعارف و الشرائع فتركوها و لم يعملوا بها فحمّلوها و لم يحملوها فضرب الله لهم مثل الحمار يحمل أسفاراً و هو لا يعرف ما فيها من المعارف و الحقائق فلا يبقى له من حملها إلّا التعب بتحمّل ثقلها.

و وجه اتّصال الآية بما قبلها أنّه تعالى لمّا افتتح الكلام بما منّ به على المسلمين

٣٠٧

من بعث نبيّ اُمّيّ من بين الاُمّيّين يتلو عليهم آيات كتابه و يزكّيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة فيخرجهم من ظلمات الضلال إلى نور الهدى و من حضيض الجهل إلى أوج العلم و الحكمة و سيشير تعالى في آخر السورة إشارة عتاب و توبيخ إلى ما صنعوه من الانفضاض و الانسلال إلى اللهو و التجارة و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائم يخطبهم يوم الجمعة و هو من الاستهانة بما هو من أعظم المناسك الدينيّة و يكشف أنّهم لم يقدروها حقّ قدرها و لا نزّلوها منزلتها.

فاعترض الله سبحانه بهذا المثل و ذكّرهم بحال اليهود حيث حمّلوا التوراة ثمّ لم يحملوها فكانوا كالحمار يحمل أسفاراً و لا ينتفع بما فيها من المعرفة و الحكمة، فعليهم أن يهتمّوا بأمر الدين و يراقبوا الله في حركاتهم و سكناتهم و يعظّموا رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يوقّروه و لا يستهينوا بما جاء به، و ليحذروا أن يحلّ بهم من سخطه تعالى ما حلّ باليهود حيث لم يعملوا بما علموا فعدّهم الله جهلة ظالمين و شبّههم بالحمار يحمل أسفاراً.

و في روح المعاني،: وجه ارتباط الآية بما قبلها تضمّنها الإشارة إلى أنّ ذلك الرسول المبعوث قد بعثه الله تعالى بما نعته به في التوراة و على السنة أنبياء بني إسرائيل كأنّه قيل: هو الّذي بعث المبشّر به في التوراة المنعوت فيها بالنبيّ الاُمّيّ المبعوث إلى اُمّة اُمّيّين، مثل من جاءه نعته فيها و علمه ثمّ لم يؤمن به مثل الحمار. انتهى.

و أنت خبير بأنّه تحكّم لا دليل عليه من جهة السياق.

قوله تعالى: ( قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) احتجاج على اليهود يظهر به كذبهم في دعواهم أنّهم أولياء الله و أحبّاؤه، و قد حكى الله تعالى ما يدلّ على ذلك عنهم بقوله:( وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى‏ نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ ) المائدة: 18، و قوله:( قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ ) البقرة: 94، و قوله:( وَ قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً ) البقرة: 111.

و محصّل المعنى: قل لليهود مخاطباً لهم يا أيّها الّذين تهوّدوا إن كنتم اعتقدتم

٣٠٨

أنّكم أولياء لله من دون الناس إن كنتم صادقين في دعواكم فتمنّوا الموت لأنّ الوليّ يحبّ لقاء وليّه و من أيقن أنّه وليّ لله وجبت له الجنّة و لا حاجب بينه و بينها إلّا الموت أحبّ الموت و تمنّى أن يحلّ به فيدخل دار الكرامة و يتخلّص من هذه الحياة الدنيّة الّتي ما فيها إلّا الهمّ و الغمّ و المحنة و المصيبة.

قيل: و في قوله:( أَوْلِياءُ لِلَّهِ ) من غير إضافة إشارة إلى أنّه دعوى منهم من غير حقيقة.

قوله تعالى: ( وَ لا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) أخبر تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّهم لا يتمنّونه أبداً بعد ما أمره أن يعرض عليهم تمنّي الموت.

و قد علّل عدم تمنّيهم الموت بما قدّمت أيديهم و هو كناية عن الظلم و الفسوق، فمعنى الآية: و لا يتمنّون الموت أبداً بسبب ما قدّمته أيديهم من الظلم فكانوا ظالمين و الله عليم بالظالمين يعلم أنّهم لا يحبّون لقاءه لأنّهم أعداؤه لا ولاية بينه و بينهم و لا محبّة.

و الآيتان في معنى قوله تعالى:( قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) البقرة: 95.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى‏ عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) الفاء في قوله:( فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ) في معنى جواب الشرط، و فيه وعيد لهم بأنّ الموت الّذي يكرهونه كراهة أن يؤاخذوا بوبال أعمالهم فإنّه سيلاقيهم لا محالة ثمّ يردّون إلى ربّهم الّذي خرجوا من زيّ عبوديّته بمظالمهم و عادوه بأعمالهم و هو عالم بحقيقة أعمالهم ظاهرها و باطنها فإنّه عالم الغيب و الشهادة فينبّئهم بحقيقة أعمالهم و تبعاتها السيّئة و هي أنواع العذاب.

ففي الآية إيذانهم أوّلاً: أنّ فرارهم من الموت خطأ منهم فإنّه سيدركهم و يلاقيهم، و ثانياً: أنّ كراهتهم لقاء الله خطأ آخر فإنّهم مردودون إليه محاسبون على أعمالهم السيّئة، و ثالثاً: أنّه تعالى لا يخفى عليه شي‏ء من أعمالهم ظاهرها و باطنها و لا يحيق به

٣٠٩

مكرهم فإنّه عالم الغيب و الشهادة.

ففي الآية إشارة أوّلاً: إلى أنّ الموت حقّ مقضيّ كما قال:( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ) الأنبياء: 35، و قال:( نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) الواقعة: 60.

و ثانياً: أنّ الرجوع إلى الله لحساب الأعمال حقّ لا ريب فيه.

و ثالثاً: أنّهم سيوقفون على حقيقة أعمالهم فيوفّونها.

و رابعاً: أنّه تعالى لا يخفى عليه شي‏ء من أعمالهم و للإشارة إلى ذلك بدّل اسم الجلالة من قوله:( عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ ) .

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ ) عن أبيه عن ابن أبي عمير عن معاوية بن عمّار عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في الآية قال: كانوا يكتبون و لكن لم يكن معهم كتاب من عندالله و لا بعث إليهم رسول فنسبهم الله إلى الاُمّيّين.

و فيه في قوله تعالى:( وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ) قال: دخلوا الإسلام بعدهم.

و في المجمع، و روي: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ هذه الآية فقيل له: من هؤلاء؟ فوضع يده على كتف سلمان و قال: لو كان الإيمان بالثريّا لنالته رجال من هؤلاء.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن عدّة من جوامع الحديث منها صحيح البخاريّ و مسلم و الترمذيّ و النسائيّ عن أبي هريرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و فيه: فوضع يده على رأس سلمان الفارسيّ و قال: و الّذي نفسي بيده لو كان العلم بالثريّا لناله رجال من هؤلاء.

و روي أيضاً عن سعيد بن منصور و ابن مردويه عن قيس بن سعد بن عبادة: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لو أنّ الإيمان بالثريّا لناله رجال من أهل فارس.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها

٣١٠

كَمَثَلِ الْحِمارِ ) قال: الحمار يحمل الكتب و لا يعلم ما فيها و لا يعمل به كذلك بنو إسرائيل قد حمّلوا مثل الحمار لا يعلمون ما فيه و لا يعملون.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و الطبرانيّ عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من تكلّم يوم الجمعة و الإمام يخطب فهو كالحمار يحمل أسفاراً و الّذي يقول له: أنصت ليس له جمعة.

أقول: و فيه تأييد لما قدّمناه في وجه اتّصال الآية بما قبلها.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا ) الآية، قال: إنّ في التوراة مكتوب: أولياء الله يتمنّون الموت.

و في الكافي، بإسناده عن عبدالله بن سنان عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: جاء رجل إلى أبي ذرّ فقال: يا أبا ذرّ ما لنا نكره الموت؟ فقال: لأنّكم عمّرتم الدنيا و خرّبتم الآخرة فتكرهون أن تنقلوا من عمران إلى خراب‏

( كلام في معنى تعليم الحكمة)

لا محيص للإنسان في حياته المحدودة الّتي يعمرها في هذه النشأة من سنّة يستنّ بها فيما يريد و يكره، و يجري عليها في حركاته و سكناته و بالجملة جميع مساعيه في الحياة.

و تتبع هذه السنّة في نوعها ما عند الإنسان من الرأي في حقيقة الكون العامّ و حقيقة نفسه و ما بينهما من الربط، و يدلّ على ذلك ما نجد من اختلاف السنن و الطرائق في الاُمم باختلاف آرائهم في حقيقة نشأة الوجود و الإنسان الّذي هو جزء منها.

فمن لا يرى لما وراء المادّة وجوداً، و يقصر الوجود في المادّيّ، و ينهي الوجود إلى الاتّفاق، و يرى الإنسان مركّباً مادّيّاً محدود الحياة بين التولّد و الموت لا يرى لنفسه من السعادة إلّا سعادة المادّة و لا غاية له في أعماله إلّا المزايا المادّيّة من مال و ولد

٣١١

و جاه و غير ذلك، و لا بغية له إلّا التمتّع بأمتعة الدنيا و الظفر بلذائذها المادّيّة أو ما يرجع إليها و تنتهي جميعاً إلى الموت الّذي هو عنده انحلال للتركيب و بطلان.

و من يرى كينونة العالم عن سبب فوقه منزّه عن المادّة، و أنّ وراء الدار داراً و بعد الدنيا آخرة نجده يخالف في سنّته و طريقته الطائفة المتقدّم ذكرها فيتوخّى في أعماله وراء سعادة الدنيا سعادة الاُخرى و يختلف صور أعمالهم و غاياتهم و آراؤهم مع الطائفة الاُولى.

و يختلف سنن هؤلاء باختلافهم أنفسهم فيما بينهم كاختلاف سنن الوثنيّين من البرهميّين و البوذيّين و غيرهم و الملّيّين من المجوسيّة و الكليميّة و المسيحيّة و المسلمين فلكلّ وجهة هو مولّيها.

و بالجملة الملّيّ يراعي في مساعيه جانب ما يراه لنفسه من الحياة الخالدة المؤبّدة و يذعن من الآراء بما يناسب ذلك كادّعائه أنّه يجب على الإنسان أن يمهّد لعالم البقاء و أن يتوجّه إلى ربّه، و أن لا يفرط في الاشتغال بعرض الحياة الدنيا الفانية و غير الملّيّ الخاضع للمادّة يلوي إلى خلاف ذلك، هذا كلّه ممّا لا ريب فيه.

غير أنّ الإنسان لمّا كان بحسب طبعه المادّيّ رهيناً للمادّة متردّداً بين الأسباب الظاهريّة فاعلا بها منفعلاً عنها لا يزال يدفعه سبب إلى سبب لا فراغ له من ذلك، يرى - بحسب ما يخيّل إليه - أنّ الأصالة لحياته الدنيويّة المنقطعة، و أنّها و ما تنتهي إليه من المقاصد و المزايا هي الغاية الأخيرة و الغرض الأقصى من وجوده الّذي يجب عليه أن يسعى لتحصيل سعادته.

فالحياة الدنيا هي الحياة و ما عند أهلها من القنية و النعمة و المنية و القوّة و العزّة هي هي بحقيقة معنى الكلمة، و ما يعدّونه فقراً و نقمة و حرماناً و ضعفاً و ذلّة و رزيّة و مصيبة و خسراناً هي هي و بالجملة كلّ ما تهواه النفس من خير معجّل أو نفع مقطوع فهو عندهم خير مطلق و نفع مطلق، و كلّ ما لا تهواه فهو شرّ أو ضرّ.

فمن كان منهم من غير أهل الملّة جرى على هذه الآراء و لا خبر عنده عمّا وراء ذلك، و من كان منهم من أهل الملّة جرى عليها عملاً و هو معترف بخلافها قولاً فلا يزال

٣١٢

في تدافع بين قوله و فعله قال تعالى:( كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا ) البقرة: 20.

و الّذي تندب إليه الدعوة الإسلاميّة من الاعتقاد و العمل هو ما يطابق مقتضى الفطرة الإنسانيّة الّتي فطر عليها الإنسان و تثبت عليه خلقته كما قال:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) الروم: 30.

و من المعلوم أنّ الفطرة لا تهتدي علماً و لا تميل عملاً إلّا إلى ما فيه كمالها الواقعيّ و سعادتها الحقيقيّة فما تهتدي إليه من الاعتقادات الأصليّة في المبدأ و المعاد و ما يتفرّع عليها من الآراء و العقائد الفرعيّة علوم و آراء حقّة لا تتعدّى سعادة الإنسان و كذا ما تميل إليه من الأعمال.

و لذا سمّى الله تعالى هذا الدين المبنيّ على الفطرة بدين الحقّ في مواضع من كلامه كقوله:( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏ وَ دِينِ الْحَقِّ ) الصفّ: 9. و قال في القرآن المتضمّن لدعوته:( يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ) الأحقاف: 30.

و ليس الحقّ إلّا الرأي و الاعتقاد الّذي يطابقه الواقع و يلازمه الرشد من غير غيّ، و هذا هو الحكمة - الرأي الّذي اُحكم في صدقه فلا يتخلّله كذب، و في نفعه فلا يعقّبه ضرر - و قد أشار تعالى إلى اشتمال الدعوة على الحكمة بقوله:( وَ أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ ) النساء: 113، و وصف كلامه المنزل بها فقال:( وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ) يس: 2، و عدّ رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معلماً للحكمة في مواضع من كلامه كقوله:( وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ ) الجمعة: 2.

فالتعليم القرآنيّ الّذي تصدّاه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المبيّن لما نزل من عند الله من تعليم الحكمة و شأنه بيان ما هو الحقّ في اُصول الاعتقادات الباطلة الخرافيّة الّتي دبّت في أفهام الناس من تصوّر عالم الوجود و حقيقة الإنسان الّذي هو جزء منه - كما تقدّمت الإشارة إليه - و ما هو الحقّ في الاعتقادات الفرعيّة المترتّبة على تلك الاُصول ممّا كان مبدأ للأعمال الإنسانيّة و عناوين لغاياتها و مقاصدها.

٣١٣

فالناس - مثلاً - يرون أنّ الأصالة لحياتهم المادّيّة حتّى قال قائلهم:( ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ) الجاثية: 24، و القرآن ينبّههم بقوله:( وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ ) العنكبوت: 64، و يرون أنّ العلل و الأسباب هي المولّدة للحوادث الحاكمة فيها من حياة و موت و صحّة و مرض و غنى و فقر و نعمة و نقمة و رزق و حرمان( بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ ) سبأ: 33، و القرآن يذكّرهم بقوله:

( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ ) الأعراف: 54، و قوله:( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) يوسف: 67، و غير ذلك من آيات الحكمة، و يرون أنّ لهم الاستقلال في المشيّة يفعلون ما يشاؤن و القرآن يخطّئهم بقوله:( وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) الإنسان: 30، و يرون أنّ لهم أن يطيعوا و يعصوا و يهدوا و يهتدوا و القرآن ينبّئهم بقوله:( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) القصص: 56.

و يرون أنّ لهم قوّة و القرآن ينكر ذلك بقوله:( أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ) البقرة: 165. و يرون أنّ لهم عزّة بمال و بنين و أنصار و القرآن يحكم بخلافه بقوله:( أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ) النساء: 139. و قوله:( وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) المنافقون: 8.

و يرون أنّ القتل في سبيل الله موت و انعدام و القرآن يعدّه حياة إذ يقول:( وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ ) البقرة: 154، إلى غير ذلك من التعاليم القرآنيّة الّتي اُمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يدعو بها الناس قال:( ادْعُ إِلى‏ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ ) النحل: 125.

و هي علوم و آراء جمّة صوّرت الحياة الدنيا خلافها في نفوس الناس و زيّنة فنبّه تعالى لها في كتابه و أمر بتعليمها رسوله و ندب المؤمنين أن يتواصوا بها كما قال:( إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ ) العصر: 3، و قال:( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَ ما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ ) البقرة: 269.

٣١٤

فالقرآن بالحقيقة يقلب الإنسان في قالب من حيث العلم و العمل حديث و يصوغه صوغاً جديداً فيحيي حياة لا يتعقّبها موت أبداً، و إليه الإشارة بقوله تعالى:( اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ ) الأنفال: 24، و قوله:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ) الأنعام: 122.

و قد بيّنا وجه الحكمة في كلّ من آياتها عند التعرّض لتفسيرها على قدر مجال البحث في الكتاب.

و ممّا تقدّم يتبيّن فساد قول من قال: إنّ تفسير القرآن تلاوته، و إنّ التعمّق في مداليل آيات القرآن من التأويل الممنوع فما أبعده من قول.

٣١٥

( سورة الجمعة الآيات 9 - 11)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ  ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( 9 ) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( 10 ) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا  قُلْ مَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ مِّنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ  وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( 11 )

( بيان‏)

تأكيد إيجاب صلاة الجمعة و تحريم البيع عند حضورها و فيها عتاب لمن انفضّ إلى اللّهو و التجارة عند ذلك و استهجان لفعلهم.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى‏ ذِكْرِ اللهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ ) إلخ، المراد بالنداء للصلاة من يوم الجمعة الأذان كما في قوله:( وَ إِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَ لَعِباً ) المائدة: 58.

و الجمعة بضمّتين أو بالضمّ فالسكون أحد أيّام الاُسبوع و كان يسمّى أوّلاً يوم العروبة ثمّ غلب عليه اسم الجمعة، و المراد بالصلاة من يوم الجمعة صلاة الجمعة المشرّعة يومها، و السعي هو المشي بالإسراع، و المراد بذكر الله الصلاة كما في قوله:( وَ لَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ) العنكبوت: 45، على ما قيل و قيل: المراد به الخطبة قبل الصلاة و قوله:( وَ ذَرُوا الْبَيْعَ ) أمر بتركه، و المراد به على ما يفيده السياق النهي عن الاشتغال

٣١٦

بكلّ عمل يشغل عن صلاة الجمعة سواء كان بيعاً أو غيره و إنّما علّق النهي بالبيع لكونه من أظهر مصاديق ما يشغل عن الصلاة.

و المعنى: يا أيّها الّذين آمنوا إذا اُذّن لصلاة الجمعة يومها فجدّوا في المشي إلى الصلاة و اتركوا البيع و كلّ ما يشغلكم عنها.

و قوله:( ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) حثّ و تحريض لهم لما اُمر به من الصلاة و ترك البيع.

قوله تعالى: ( فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ ) إلخ، المراد بقضاء الصلاة إقامة صلاة الجمعة، و الانتشار في الأرض التفرّق فيها، و ابتغاء فضل الله طلب الرزق نظراً إلى مقابلته ترك البيع في الآية السابقة لكن تقدّم أنّ المراد ترك كلّ ما يشغل عن صلاة الجمعة، و على هذا فابتغاء فضل الله طلب مطلق عطيّته في التفرّق لطلب رزقه بالبيع و الشرى، و طلب ثوابه بعيادة مريض و السعي في حاجة مسلم و زيارة أخ في الله، و حضور مجلس علم و نحو ذلك.

و قوله:( فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ ) أمر واقع بعد الحظر فيفيد الجواز و الإباحة دون الوجوب و كذا قوله:( وَ ابْتَغُوا، وَ اذْكُرُوا ) .

و قوله:( وَ اذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) المراد بالذكر أعمّ من الذكر اللفظيّ فيشمل ذكره تعالى قلباً بالتوجّه إليه باطناً، و الفلاح النجاة من كلّ شقاء، و هو في المورد بالنظر إلى ما تقدّم من حديث التزكية و التعليم و ما في الآية التالية من التوبيخ و العتاب الشديد، الزكاة و العلم و ذلك أنّ كثرة الذكر يفيد رسوخ المعنى المذكور في النفس و انتقاشه في الذهن فتنقطع به منابت الغفلة و يورث التقوى الدينيّ الّذي هو مظنّة الفلاح قال تعالى:( وَ اتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) آل عمران: 200.

قوله تعالى: ( وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَ تَرَكُوكَ قائِماً ) إلخ، الانفضاض - على ما ذكره الراغب - استعارة عن الانفضاض بمعنى انكسار الشي‏ء و تفرّق بعضه من بعض.

و قد اتّفقت روايات الشيعة و أهل السنّة على أنّه ورد المدينة عير معها تجارة

٣١٧

و ذلك يوم الجمعة و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائم يخطب فضربوا بالطبل و الدفّ لإعلام الناس فانفضّ أهل المسجد إليهم و تركوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائماً يخطب فنزلت الآية. فالمراد باللهو استعمال المعازف و آلات الطرب ليجتمع الناس للتجارة، و ضمير( إِلَيْها ) راجع إلى التجارة لأنّها كانت المقصودة في نفسها و اللهو مقصود لأجلها، و قيل: الضمير لأحدهما كأنّه قيل: انفضّوا إليه و انفضّوا إليها و ذلك أنّ كلّاً منهما سبب لانفضاض الناس إليه و تجمّعهم عليه، و لذا ردّد بينهما و قال:( تِجارَةً أَوْ لَهْواً ) و لم يقل: تجارة و لهواً و الضمير يصلح للرجوع إلى كلّ منهما لأنّ اللهو في الأصل مصدر يجوز فيه الوجهان التذكير و التأنيث.

و لذا أيضاً عدّ( ما عِنْدَ اللهِ ) خيراً من كلّ منهما بحياله فقال:( مِنَ اللهْوِ وَ مِنَ التِّجارَةِ ) و لم يقل: من اللّهو و التجارة.

و قوله:( قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَ مِنَ التِّجارَةِ وَ اللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) أمر للنبيّ أن ينبّههم على خطإهم فيما فعلوا - و ما أفظعه - و المراد بما عندالله الثواب الّذي يستعقبه سماع الخطبة و الموعظة.

و المعنى قل لهم: ما عندالله من الثواب خير من اللّهو و من التجارة لأنّ ثوابه تعالى خير حقيقيّ دائم غير منقطع، و ما في اللّهو و التجارة من الخير أمر خياليّ زائل باطل و ربّما استتبع سخطه تعالى كما في اللّهو.

و قيل: خير مستعمل في الآية مجرّداً عن معنى التفضيل كما في قوله تعالى:( أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) يوسف: 39، و هو شائع في الاستعمال.

و في الآية أعني قوله:( وَ إِذا رَأَوْا ) التفات من الخطاب إلى الغيبة، و النكتة فيه تأكيد ما يفيده السياق من العتاب و استهجان الفعل بالإعراض عن تشريفهم بالخطاب و تركهم في مقام الغيبة لا يواجههم ربّهم بوجهه الكريم.

و يلوّح إلى هذا الإعراض قوله:( قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ ) حيث لم يشر إلى من يقول له، و لم يقل: قل لهم كما ذكرهم بضميرهم أوّلاً من غير سبق مرجعه فقال:( وَ إِذا رَأَوْا ) و اكتفى بدلالة السياق.

٣١٨

و خير الرازقين من أسمائه تعالى الحسنى كالرزّاق و قد تقدّم الكلام في معنى الرزق فيما تقدّم.

( بحث روائي‏)

في الفقيه، روي: أنّه كان بالمدينة إذا أذّن المؤذّن يوم الجمعة نادى مناد: حرّم البيع لقول الله عزّوجلّ:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى‏ ذِكْرِ اللهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ ) .

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن المنذر عن ميمون بن مهران و لفظه كان بالمدينة إذا أذّن المؤذّن من يوم الجمعة ينادون في الأسواق: حرّم البيع حرّم البيع.

و تفسير القمّيّ و قوله:( فَاسْعَوْا إِلى‏ ذِكْرِ اللهِ ) قال: الإسراع في المشي، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في الآية يقال: فاسعوا أي امضوا، و يقال: اسعوا اعملوا لها و هو قصّ الشارب و نتف الإبط و تقليم الأظفار و الغسل و لبس أنظف الثياب و التطيّب للجمعة فهو السعي يقول الله:( وَ مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَ سَعى‏ لَها سَعْيَها وَ هُوَ مُؤْمِنٌ ) .

أقول: يريد أنّ السعي ليس هو الإسراع في المشي فحسب.

و في المجمع، و روى أنس عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: في قوله:( فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ ) الآية ليس بطلب الدنيا و لكن عيادة مريض و حضور جنازة و زيارة أخ في الله.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن ابن جرير عن أنس عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عن ابن مردويه عن ابن عبّاس عنه (صلّي الله عليه وسلّم).

و فيه، و روي عن أبي عبداللهعليه‌السلام أنّه قال: الصلاة يوم الجمعة و الانتشار يوم السبت.

أقول: و في هذا المعنى روايات اُخر.

٣١٩

و فيه، و روى عمر بن يزيد عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّي لأركب في الحاجة الّتي كفاها الله ما أركب فيها إلّا التماس أن يراني الله أضحي في طلب الحلال أ ما تسمع قول الله عزّ اسمه:( فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ ) ؟

أ رأيت لو أنّ رجلاً دخل بيتاً و طيّن عليه بابه ثمّ قال: رزقي ينزل عليّ أ كان يكون هذا؟ أما إنّه أحد الثلاثة الّذين لا يستجاب لهم.

قال: قلت: من هؤلاء؟ قال: رجل يكون عنده المرأة فيدعو عليها فلا يستجاب له لأنّ عصمتها في يده لو شاء أن يخلّي سبيلها، و الرجل يكون له الحقّ على الرجل فلا يشهد عليه فيجحده حقّه فيدعو عليه فلا يستجاب له لأنّه ترك ما اُمر به، و الرجل يكون عنده الشي‏ء فيجلس في بيته و لا ينتشر و لا يطلب و لا يلتمس حتّى يأكله ثمّ يدعو فلا يستجاب له.

و فيه، قال جابر بن عبدالله: أقبل عير و نحن نصلّي مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانفضّ الناس إليها فما بقي غير اثني عشر رجلاً أنا فيهم فنزلت الآية( وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً ) .

و عن عوالي اللئالي، روى مقاتل بن سليمان قال: بينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحية الكلبيّ من الشام بتجارة، و كان إذا قدم لم يبق في المدينة عاتق(1) إلّا أتته، و كان يقدم - إذا قدم - بكلّ ما يحتاج إليه الناس من دقيق و برّ و غيره ثمّ ضرب الطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج الناس فيبتاعون منه.

فقدم ذات جمعة، و كان قبل أن يسلم، و رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخطب على المنبر فخرج الناس فلم يبق في المسجد إلّا اثنا عشر فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو لا هؤلاء لسوّمت عليهم الحجارة من السماء و أنزل الله الآية في سورة الجمعة.

أقول: و القصّة مرويّة بطرق كثيرة من طرق الشيعة و أهل السنّة و اختلفت الأخبار في عدد من بقي منهم في المسجد بين سبعة إلى أربعين.

و فيه( انْفَضُّوا ) أي تفرّقوا، و روي عن أبي عبداللهعليه‌السلام أنّه قال: انصرفوا

____________________

(1) العاتق: الجارية أوائل ما أدركت.

٣٢٠