الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٩

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 408

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 408
المشاهدات: 135215
تحميل: 5134


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 408 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135215 / تحميل: 5134
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 19

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و في عدم الاعتناء و الاهتمام بها و الاسترسال في الاشتغال بالسعي في كلّ ما تهواه النفس في أيّ وقت كان إضراباً عن الحقّ و هتكاً لحرمة الدين و إزراء لأوليائه فتؤل نحوسة هذه الأيّام إلى جهات من الشقاء المعنويّ منبعثة عن علل و أسباب اعتباريّة مرتبطة نوعاً من الارتباط بهذه الأيّام تفيد نوعاً من الشقاء الدينيّ على من لا يعتني بأمرها.

و أيضاً قد ورد في عدّة من هذه الروايات الاعتصام بالله بصدقة أو صوم أو دعاء أو قراءة شي‏ء من القرآن أو غير ذلك لدفع نحوسة هذه الأيّام كما عن مجالس ابن الشيخ، بإسناده‏ عن سهل بن يعقوب الملقّب بأبي نواس عن العسكريّعليه‌السلام في حديث: قلت: يا سيدي في أكثر هذه الأيّام قواطع عن المقاصد لما ذكر فيها من النحس و المخاوف فتدلّني على الاحتراز من المخاوف فيها فإنّما تدعوني الضرورة إلى التوجّه في الحوائج فيها؟ فقال لي: يا سهل إنّ لشيعتنا بولايتنا لعصمة لو سلكوا بها في لجّة البحار الغامرة و سباسب(1) البيداء الغائرة بين سباع و ذئاب و أعادي الجنّ و الإنس لآمنوا من مخاوفهم بولايتهم لنا، فثق بالله عزّوجلّ و أخلص في الولاء لأئمّتك الطاهرين و توجّه حيث شئت و اقصد ما شئت. الحديث.

ثمّ أمرهعليه‌السلام بشي‏ء من القرآن و الدعاء أن يقرأه و يدفع به النحوسة و الشأمة و يقصد ما شاء.

و في الخصال، بإسناده عن محمّد بن رياح الفلّاح قال: رأيت أبا إبراهيمعليه‌السلام يحتجم يوم الجمعة فقلت: جعلت فداك تحتجم يوم الجمعة؟ قال: أقرأ آية الكرسيّ فإذا هاج بك الدم ليلاً كان أو نهاراً فاقرأ آية الكرسيّ و احتجم.

و في الخصال، أيضاً بإسناده عن محمّد بن أحمد الدقّاق قال: كتبت إلى أبي الحسن الثانيعليه‌السلام أسأله عن الخروج يوم الأربعاء لا تدور، فكتبعليه‌السلام : من خرج يوم الأربعاء لا تدور خلافاً على أهل الطيرة وُقي من كلّ آفة و عوفي من كلّ عاهة و قضى الله له حاجته.

و كتب إليه مرّة اُخرى يسأله عن الحجامة يوم الأربعاء لا تدور،

____________________

(1) السباسب جمع سبسب: المفازة.

٨١

فكتبعليه‌السلام : من احتجم في يوم الأربعاء لا تدور خلافاً على أهل الطيرة عوفي من كلّ آفة، و وقي من كلّ عاهة، و لم(1) تخضرّ محاجمه.

و في معناها ما في تحف العقول: قال الحسين بن مسعود: دخلت على أبي الحسن عليّ بن محمّدعليه‌السلام و قد نكبت إصبعي و تلقّاني راكب و صدم كتفي، و دخلت في زحمة فخرّقوا عليّ بعض ثيابي فقلت: كفاني الله شرّك من يوم فما أيشمك. فقالعليه‌السلام لي: يا حسن هذا و أنت تغشانا ترمي بذنبك من لا ذنب له؟.

قال الحسن: فأثاب إلىّ عقلي و تبيّنت خطاي فقلت: يا مولاي أستغفر الله. فقال: يا حسن ما ذنب الأيّام حتّى صرتم تتشاءمون بها إذا جوزيتم بأعمالكم فيها؟ قال الحسن: أنا أستغفر الله أبداً، و هي توبتي يا بن رسول الله.

قال: ما ينفعكم و لكنّ الله يعاقبكم بذمّها على ما لا ذمّ عليها فيه. أ ما علمت يا حسن أنّ الله هو المثيب و المعاقب و المجازي بالأعمال عاجلاً و آجلاً؟ قلت: بلى يا مولاي. قال: لا تعد و لا تجعل للأيّام صنعاً في حكم الله. قال الحسن: بلى يا مولاي.

و الروايات السابقة - و لها نظائر في معناها - يستفاد منها أنّ الملاك في نحوسة هذه الأيّام النحسات هو تطيّر عامّة الناس بها و للتطيّر تأثير نفسانيّ كما سيأتي، و هذه الروايات تعالج نحوستها الّتي تأتيها من قبل الطيرة بصرف النفس عن الطيرة إن قوي الإنسان على ذلك، و بالالتجاء إلى الله سبحانه و الاعتصام به بقرآن يتلوه أو دعاء يدعو به إن لم يقو عليه بنفسه.

و حمل بعضهم هذه الروايات المسلّمة لنحوسة بعض الأيّام على التقيّة، و ليس بذاك البعيد فإنّ التشاؤم و التفاؤل بالأزمنة و الأمكنة و الأوضاع و الأحوال من خصائص العامّة يوجد منه عندهم شي‏ء كثير عند الامم و الطوائف المختلفة على تشتّتهم و تفرّقهم منذ القديم إلى يومنا و كان بين الناس حتّى خواصّهم في الصدر الأوّل في ذلك روايات دائرة يسندونها إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يسع لأحد أن يردّها كما في كتاب المسلسلات،

____________________

(1) هذه الجملة إشارة إلى نفي ما في عدّة من الروايات أن من احتجم في يوم الأربعاء أو يوم الأربعاء لا تدور اخضرت محاجمه، و في بعضها خيف عليه أن تخضر محاجمه.

٨٢

بإسناده عن الفضل بن الربيع قال: كنت يوماً مع مولاي المأمون فأردنا الخروج يوم الأربعاء فقال المأمون: يوم مكروه سمعت أبي الرشيد يقول: سمعت المهديّ يقول: سمعت المنصور يقول: سمعت أبي محمّد بن عليّ يقول: سمعت أبي عليّاً يقول: سمعت أبي عبدالله بن عبّاس يقول: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إنّ آخر الأربعاء في الشهر يوم نحس مستمرّ.

و أمّا الروايات الدالّة على الأيّام السعيدة من الاُسبوع و غيرها فالوجه فيها نظير ما تقدّمت إليه الإشارة في الأخبار الدالّة على نحوستها من الوجه الأوّل فإنّ في هذه الأخبار تعليل بركة ما عدّه من الأيّام السعيدة بوقوع حوادث متبرّكة عظيمة في نظر الدين كولادة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بعثته‏ و كما ورد: أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا فقال: اللّهمّ بارك لاُمّتي في بكورها يوم سبتها و خميسها، و ما ورد: أنّ الله ألان الحديد لداودعليه‌السلام يوم الثلاثاء، و أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يخرج للسفر يوم الجمعة، و أنّ الأحد من أسماء الله تعالى.

فتبيّن ممّا تقدّم على طوله أنّ الأخبار الواردة في سعادة الأيّام و نحوستها لا تدلّ على أزيد من ابتنائهما على حوادث مرتبطة بالدين توجب حسناً و قبحاً بحسب الذوق الدينيّ أو بحسب تأثير النفوس، و أمّا اتّصاف اليوم أو أيّ قطعة من الزمان بصفة الميمنة أو المشأمة و اختصاصه بخواصّ تكوينيّة عن علل و أسباب طبيعيّة تكوينيّة فلا، و ما كان من الأخبار ظاهراً في خلاف ذلك فإمّا محمول على التقيّة أو لا اعتماد عليه.

2- في سعادة الكواكب و نحوستها: و تأثير الأوضاع السماويّة في الحوادث الأرضيّة سعادة و نحوسة. الكلام في ذلك من حيث النظر العقليّ كالكلام في سعادة الأيّام و نحوستها فلا سبيل إلى إقامة البرهان على شي‏ء من ذلك كسعادة الشمس و المشتري و قران السعدين و نحوسة المرّيخ و قران النحسين و القمر في العقرب.

نعم كان القدماء من منجّمي الهند يرون للحوادث الأرضيّة ارتباطاً بالأوضاع السماويّة مطلقاً أعمّ من أوضاع الثوابت و السيّارات، و غيرهم يرى ذلك بين الحوادث

٨٣

و بين أوضاع السيّارات السبع دون الثوابت و أوردوا لأوضاعها المختلفة خواصّ و آثاراً تسمّى بأحكام النجوم يرون عند تحقّق كلّ وضع أنّه يعقّب وقوع آثاره.

و القوم بين قائل بأنّ الأجرام الكوكبيّة موجودات ذوات نفوس حيّة مريدة تفعل أفاعيلها بالعلّيّة الفاعليّة، و قائل بأنّها أجرام غير ذات نفس تؤثّر أثرها بالعلّيّة الفاعليّة، أو هي معدّات لفعله تعالى و هو الفاعل للحوادث أو أنّ الكواكب و أوضاعها علامات للحوادث من غير فاعليّة و لا إعداد، أو أنّه لا شي‏ء من هذه الارتباطات بينها و بين الحوادث حتّى على نحو العلاميّة و إنّما جرت عادة الله على أن يحدث حادثة كذا عند وضع سماويّ، كذا.

و شي‏ء من هذه الأحكام ليس بدائميّ مطّرد بحيث يلزم حكم كذا وضعاً كذا فربّما تصدق و ربّما تكذب لكنّ الّذي بلغنا من عجائب القصص و الحكايات في استخراجاتهم يعطي أنّ بين الأوضاع السماويّة و الحوادث الأرضيّة ارتباطاً ما إلّا أنّه في الجملة لا بالجملة كما أنّ بعض الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام يصدّق ذلك كذلك.

و على هذا لا يمكن الحكم البتّي بكون كوكب كذا أو وضع كذا سعداً أو نحساً و أمّا أصل ارتباط الحوادث و الأوضاع السماويّة و الأرضيّة بعضها ببعض فليس في وسع الباحث الناقد إنكار ذلك.

و أمّا القول بكون الكواكب أو الأوضاع السماويّة ذوات تأثير فيما دونها سواء قيل بكونها ذوات نفوس ناطقة أو لم يقل فليس ممّا يخالف شيئاً من ضروريّات الدين إلّا أن يقال بكونها خالقة موجدة لما دونها من غير أن ينتهي ذلك إليه تعالى فيكون شركاً لكنّه لا قائل به حتّى من وثنيّة الصابئة الّتي تعبد الكواكب، أو أن يقال بكونها مدبّرة للنظام الكونيّ مستقلّة في التدبير فيكون ربوبيّة تستعقب المعبوديّة فيكون شركاً كما عليه الصابئة عبدة الكواكب.

و أمّا الروايات الواردة في تأثير النجوم سعداً و نحساً و تصديقاً و تكذيباً فهي كثيرة جدّاً على أقسام:

منها: ما يدلّ بظاهره على تسليم السعادة و النحوسة فيها كما في الرسالة الذهبيّة،

٨٤

عن الرضاعليه‌السلام : اعلم أنّ جماعهنّ و القمر في برج الحمل أو الدلو من البروج أفضل و خير من ذلك أن يكون في برج الثور لكونه شرف القمر.

و في البحار، عن النوادر بإسناده عن حمران عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: من سافر أو تزوّج و القمر في العقرب لم ير الحسنى‏ الخبر، و في كتاب النجوم، لابن طاووس عن عليّعليه‌السلام : يكره أن يسافر الرجل في محاق الشهر و إذا كان القمر في العقرب.

و يمكن حمل أمثال هذه الروايات على التقيّة على ما قيل، أو على مقارنة الطيرة العامّة كما ربّما يشعر به ما في عدّة من الروايات من الأمر بالصدقة لدفع النحوسة كما في نوادر الراونديّ، بإسناده عن موسى بن جعفر عن أبيه عن جدّه في حديث: إذا أصبحت فتصدّق بصدقة تذهب عنك نحس ذلك اليوم، و إذا أمسيت فتصدّق بصدقة تذهب عنك نحس تلك الليلة الخبر، و يمكن أن يكون ذلك لارتباط خاصّ بين الوضع السماويّ و الحادثة الأرضيّة بنحو الاقتضاء.

و منها: ما يدلّ على تكذيب تأثيرات النجوم في الحوادث و النهي الشديد عن الاعتقاد بها و الاشتغال بعلمها كما في نهج البلاغة: المنجّم كالكاهن و الكاهن كالساحر و الساحر كالكافر و الكافر في النار. و يظهر من أخبار اُخر تصدّقها و تجوّز النظر فيها أنّ النهي عن الاشتغال بها و البناء عليها إنّما هو فيما اعتقد لها استقلال في التأثير لتأديته إلى الشرك كما تقدّم.

و منها: ما يدلّ على كونه حقّاً في نفسه غير أنّ قليله لا ينفع و كثيره لا يدرك كما في‏ الكافي، بإسناده عن عبدالرحمن بن سيابة قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : جعلت فداك إنّ الناس يقولون: إنّ النجوم لا يحلّ النظر فيها و هو يعجبني فإن كانت تضرّ بديني فلا حاجة لي في شي‏ء يضرّ بديني، و إن كانت لا تضرّ بديني فو الله إنّي لأشتهيها و أشتهي النظر فيها. فقال: ليس كما يقولون لا يضرّ بدينك ثمّ قال: إنّكم تنظرون في شي‏ء منها كثيرة لا يدرك و قليله لا ينتفع به. الخبر.

و في البحار، عن كتاب النجوم لابن طاووس عن معاوية بن حكيم عن محمّد بن زياد عن محمّد بن يحيى الخثعميّ قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن النجوم حقّ هي؟ قال لي:

٨٥

نعم فقلت له: و في الأرض من يعلمها؟ قال: نعم و في الأرض من يعلمها: و في عدّة من الروايات: ما يعلمها إلّا أهل بيت من الهند و أهل بيت من العرب: و في بعضها: من قريش.

و هذه الروايات تؤيّد ما قدّمناه من أنّ بين الأوضاع و الأحكام ارتباطاً مّا في الجملة.

نعم‏ ورد في بعض هذه الروايات: أنّ الله أنزل المشتري على الأرض في صورة رجل فلقي رجلاً من العجم فعلّمه النجوم حتّى ظنّ أنّه بلغ ثمّ قال له انظر أين المشتري؟ فقال: ما أراه في الفلك و ما أدري أين هو؟ فنحّاه و أخذ بيد رجل من الهند فعلّمه حتّى ظنّ أنّه قد بلغ و قال: انظر إلى المشتري أين هو؟ فقال: إنّ حسابي ليدلّ على أنّك أنت المشتري قال: فشهق شهقة فمات و ورث علمه أهله فالعلم هناك. الخبر، و هو أشبه بالموضوع.

3- في التفأل و التطير: و هما الاستدلال بحادث من الحوادث على الخير و ترقّبه و هو التفأل أو على الشرّ و هو التطيّر و كثيراً مّا يؤثّران و يقع ما يترقّب منهما من خير أو شرّ و خاصّة في الشرّ و ذلك تأثير نفسانيّ.

و قد فرّق الإسلام بين التفأل و التطيّر فأمر بالتفأل و نهى عن التطيّر، و في ذلك تصديق لكون ما فيهما من التأثير تأثيراً نفسانيّاً.

أمّا التفأل ففيما روي‏ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تفألوا بالخير تجدوه‏، و كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كثير التفأل نقل عنه ذلك في كثير من مواقفه(1) .

و أمّا التطيّر فقد ورد في مواضع من الكتاب نقله عن اُمم الأنبياء في دعواتهم لهم حيث كانوا يظهرون لأنبيائهم أنّهم اطّيروا بهم فلا يؤمنون، و أجاب عن ذلك أنبياؤهم‏

____________________

(1) كما ورد في قصّة الحديبيّة: جاء سهيل بن عمرو فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم): قد سهل عليكم أمركم. و كما في قصّة كتابه الى خسرو برويز يدعوه الى الإسلام فمزق كتابه و أرسل إليه قبضة من تراب فتفأل (صلّى الله عليه وآله وسلّم) منه أنّ المؤمنين سيملكون أرضهم.

٨٦

بما حاصله أنّ التطيّر لا يقلّب الحقّ باطلاً و لا الباطل حقّاً، و أنّ الأمر إلى الله سبحانه لا إلى الطائر الّذي لا يملك لنفسه شيئاً فضلاً عن أن يملك لغيره الخير و الشرّ و السعادة و الشقاء قال تعالى:( قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَ لَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ ) يس: 19، أي ما يجرّ إليكم الشرّ هو معكم لا معنا، و قال:( قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَ بِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ ) النمل: 47، أي الّذي يأتيكم به الخير أو الشرّ عندالله فهو الّذي يقدّر فيكم ما يقدّر لا أنا و من معي فليس لنا من الأمر شي‏ء.

و قد وردت أخبار كثيرة في النهي عن الطيّرة و في دفع شؤمها بعدم الاعتناء أو بالتوكّل و الدعاء، و هي تؤيّد ما قدّمناه من أنّ تأثيرها من التأثيرات النفسانيّة ففي الكافي، بإسناده عن عمرو بن حريث قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : الطيّرة على ما تجعلها إن هوّنتها تهونّت، و إن شدّدتها تشدّدت، و إن لم تجعلها شيئاً لم تكن شيئاً. و دلالة الحديث على كون تأثيرها من التأثيرات النفسانيّة ظاهرة، و مثله الحديث المرويّ من طرق أهل السنّة: ثلاث لا يسلم منها أحد: الطيّرة و الحسد و الظنّ. قيل: فما نصنع؟ قال: إذا تطيّرت فامض، و إذا حسدت فلا تبغ، و إذا ظننت فلا تحقّق.

و في معناه ما في الكافي، عن القمّيّ عن أبيه عن النوفليّ عن السكونيّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كفّارة الطيرة التوكّل. الخبر و ذلك أنّ في التوكّل إرجاع أمر التأثير إلى الله تعالى، فلا يبقى للشي‏ء أثر حتّى يتضرّر به، و في معناه ما ورد من طرق أهل السنّة على ما في نهاية ابن الأثير: الطيرة شرك و ما منّا إلّا و لكنّ الله يذهبه بالتوكّل.

و في المعنى السابق ما روي عن موسى بن جعفرعليه‌السلام أنّه قال: الشؤم للمسافر في طريقه سبعة أشياء: الغراب الناعق عن يمينه، و الكلب الناشر لذنبه، و الذئب العاوي الّذي يعوي في وجه الرجل و هو مقع على ذنبه ثمّ يرتفع ثمّ ينخفض ثلاثاً، و الظبي السانح عن يمين إلى شمال، و البومة الصارخة، و المرأة الشمطاء تلقى فرجها، و الأتان العضبان يعني الجدعاء، فمن أوجس في نفسه منهنّ شيئاً فليقل: اعتصمت بك يا ربّ

٨٧

من شرّ ما أجد في نفسي فيعصم من ذلك.(1)

و يلحق بهذا البحث الكلامي في نحوسة سائر الاُمور المعدودة عند العامّة مشؤمة نحسة كالعطاس مرّة واحدة عند العزم على أمر و غير ذلك و قد وردت في النهي عن التطيّر بها و التوكّل عند ذلك روايات في أبواب متفرّقة، و في النبويّ المرويّ من طرق الفريقين: لا عدوى(2) ، و لا طيرة، و لا هامة، و لا شؤم، و لا صفر، و لا رضاع بعد فصال، و لا تعرّب بعد هجرة، و لا صمت يوماً إلى الليل، و لا طلاق قبل نكاح، و لا عتق قبل ملك، و لا يتم بعد إدراك.

قوله تعالى: ( كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ) النذر إمّا مصدر كما قيل و المعنى: كذّبت ثمود بإنذار نبيّهم صالحعليه‌السلام ، و إمّا جمع نذير بمعنى المنذر، و المعنى: كذّبت ثمود بالأنبياء لأنّ تكذيبهم بالواحد منهم تكذيب منهم بالجميع لأنّ رسالتهم واحدة لا اختلاف فيها فيكون في معنى قوله:( كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ) الشعراء: 141، و إمّا جمع نذير بمعنى الإنذار و مرجعه إلى أحد المعنيين السابقين.

قوله تعالى: ( فَقالُوا أَ بَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ ) تفريع على التكذيب و السعر جمع سعير بمعنى النار المشتعلة، و احتمل أن يكون بمعنى الجنون و هو أنسب للسياق، و الظاهر أنّ المراد بالواحد الواحد العدديّ، و المعنى: كذّبوا به فقالوا: أ بشراً من نوعنا و هو شخص واحد لا عدّة له و لا جموع معه نتّبعه

____________________

(1) الخبر على ما في البحار مذكور في الكافي و الخصال و المحاسن و الفقيه و ما في المتن مطابق لبعض نسخ الفقيه.

(2) العدوى مصدر كالأعداء بمعنى تجاوز مرض المريض منه الى غيره كما يقال في الجرب و الوباء و الجدري و غيرها، و المراد بنفي العدوى كما يفيده مورد الرواية أن يكون العدوى مقتضى المرض من غير انتساب الى مشية الله تعالى، و الهامّة ما كان أهل الجاهلية يزعمون أن روح القتيل تصير طائراً يأوي الى قبره و يصيح و يشتكي العطش حتّى يؤخذ بثأره، و الصفر هو التصغير عند سقاية الحيوان و غيره.

٨٨

إنّا إذاً مستقرّون في ضلال عجيب و جنون.

فيكون هذا القول توجيهاً منهم لعدم اتّباعهم لصالح لفقده العدّة و القوّة و هم قد اعتادوا على اتّباع من عنده ذلك كالملوك و العظماء و قد كان صالحعليه‌السلام يدعوهم إلى طاعة نفسه و رفض طاعة عظمائهم كما يحكيه الله سبحانه عنه بقوله:( فَاتَّقُوا اللهَ وَ أَطِيعُونِ وَ لا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ) الشعراء: 151.

و لو اُخذ الواحد واحداً نوعيّاً كان المعنى: أ بشراً هو واحد منّا أي هو مثلنا و من نوعنا نتّبعه؟ و كانت الآية التالية مفسّرة لها.

قوله تعالى: ( أَ أُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ) الاستفهام كسابقه للإنكار و المعنى: أ اُنزل الوحي عليه و اختصّ به من بيننا و لا فضل له علينا؟ لا يكون ذلك أبداً، و التعبير بالإلقاء دون الإنزال و نحوه للإشعار بالعجلة كما قيل.

و من المحتمل أن يكون المراد نفي أن يختصّ بإلقاء الذكر من بينهم و هو بشر مثلهم فلو كان الوحي حقّاً و جاز أن ينزل على البشر لنزل على البشر كلّهم فما باله اختصّ بما من شأنه أن يرزقه الجميع؟ فتكون الآية في معنى قولهم له كما في سورة الشعراء:( ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ) الشعراء: 154.

و قوله:( بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ) أي شديد البطر متكبّر يريد أن يتعظّم علينا بهذا الطريق.

قوله تعالى: ( سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ ) حكاية قوله سبحانه لصالحعليه‌السلام كالآيتين بعدها.

و المراد بالغد العاقبة من قولهم: إنّ مع اليوم غدا، يشير سبحانه به إلى ما سينزل عليهم من العذاب فيعلمون عند ذلك علم عيان من هو الكذّاب الأشر صالح أو هم؟.

قوله تعالى: ( إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَ اصْطَبِرْ ) في مقام التعليل لما أخبر من أنّهم سينزل عليهم العذاب و المفاد أنّهم سينزل عليهم العذاب لأنّا فاعلون كذا و كذا، و الفتنة الامتحان و الابتلاء، و المعنى: إنّا مرسلون - على طريق الإعجاز -

٨٩

الناقة الّتي يسألونها امتحاناً لهم فانتظرهم و اصبر على أذاهم.

قوله تعالى: ( وَ نَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ ) ضمير الجمع الأوّل للقوم و الثاني للقوم و الناقة على سبيل التغليب، و القسمة بمعنى المقسوم، و الشرب النصيب من شرب الماء، و المعنى: و خبّرهم بعد إرسال الناقة أنّ الماء مقسوم بين القوم و بين الناقة كلّ نصيب من الشرب يحضر عنده صاحبه فيحضر القوم عند شربهم و الناقة عند شربها قال تعالى:( قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَ لَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ) الشعراء: 155.

قوله تعالى: ( فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى‏ فَعَقَرَ ) المراد بصاحبهم عاقر الناقة، و التعاطي التناول و المعنى: فنادى القوم عاقر الناقة لعقرها فتناول عقرها فعقرها و قتلها.

قوله تعالى: ( فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ) المحتظر صاحب الحظيرة و هي كالحائط يعمل ليجعل فيه الماشية، و هشيم المحتظر الشجر اليابس و نحوه يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا ) إلخ تقدّم تفسيره.

قوله تعالى: ( كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ ) تقدّم تفسيره في نظيره.

قوله تعالى: ( إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ ) الحاصب الريح الّتي تأتي بالحجارة و الحصباء، و المراد بها الريح الّتي اُرسلت فرمتهم بسجّيل منضود.

و قال في مجمع البيان: سحر إذا كان نكرة يراد به سحر من الأسحار يقال: رأيت زيداً سحراً من الأسحار فإذا أردت سحر يومك قلت: أتيته بسحر - بالفتح - و أتيته سحر - من غير تنوين - انتهى، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ ) ( نِعْمَةً ) مفعول له من( نَجَّيْناهُمْ ) أي نجّيناهم ليكون نعمة من عندنا نخصّهم بها لأنّهم كانوا شاكرين لنا و جزاء الشكر لنا النجاة.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ ) ضمير الفاعل في( أَنْذَرَهُمْ ) للوطعليه‌السلام ، و البطشة الأخذة الشديدة بالعذاب، و التماري الإصرار على الجدال

٩٠

و إلقاء الشكّ، و النذر الإنذار، و المعنى: اُقسم لقد خوّفهم لوط أخذنا الشديد فجادلوا في إنذاره و تخويفه.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَ نُذُرِ ) مراودته عن ضيفه طلبهم منه أن يسلّم إليهم أضيافه و هم الملائكة، و طمس أعينهم محوها، و قوله:( فَذُوقُوا عَذابِي وَ نُذُرِ ) التفات إلى خطابهم تشديداً و تقريعاً، و النذر مصدر اُريد به ما يتعلّق به الإنذار و هو العذاب، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ ) قال في مجمع البيان: و قوله:( بُكْرَةً ) ظرف زمان فإذا كان معرفة بأن تريد بكرة يومك تقول: أتيته بكرة و غدوة لم تصرّفهما فبكرة هنا - و قد نوّن - نكرة، و المراد باستقرار العذاب حلوله بهم و عدم تخلّفه عنهم.

قوله تعالى: ( فَذُوقُوا عَذابِي - إلى قوله -مِنْ مُدَّكِرٍ ) تقدّم تفسيره.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ ) المراد بالنذر الإنذار، و قوله:( كَذَّبُوا بِآياتِنا ) مفصول من غير عطف لكونه جواباً لسؤال مقدّر كأنّه لمّا قيل:( وَ لَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ ) قيل: فما فعلوا؟ فاُجيب بقوله:( كَذَّبُوا بِآياتِنا ) ، و فرّع عليه قوله:( فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ ) .

( بحث روائي)

في روح المعاني في قوله تعالى:( وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ) : أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس: لو لا أنّ الله يسّره على لسان الآدميّين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلّم بكلام الله تعالى.

قال: و أخرج الديلميّ مرفوعاً عن أنس مثله. ثمّ قال: و لعلّ خبر أنس إن صحّ ليس تفسيراً للآية.

أقول: و ليس من البعيد أن يكون المراد المعنى الثاني الّذي قدّمناه في تفسير الآية.

٩١

و في تفسير القمّيّ في قوله:( فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ ) قال: صبّ بلا قطر( وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ ) قال: ماء السماء و ماء الأرض( عَلى‏ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَ حَمَلْناهُ ) يعني نوحاً( عَلى‏ ذاتِ أَلْواحٍ وَ دُسُرٍ ) قال: الألواح السفينة و الدسر المسامير.

و فيه في قوله تعالى:( فَنادَوْا صاحِبَهُمْ ) قال: قدار الّذي عقر الناقة، و قوله:( كَهَشِيمِ ) قال: الحشيش و النبات.

و في الكافي، بإسناده عن أبي يزيد عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في حديث يذكر فيه قصّة قوم لوط قال: فكابروه يعني لوطاً حتّى دخلوا البيت فصاح به جبرئيل فقال: يا لوط دعهم فلمّا دخلوا أهوى جبرئيل بإصبعه نحوهم فذهبت أعينهم و هو قول الله عزّوجلّ:( فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ ) .

٩٢

( سورة القمر الآيات 43 - 55)

أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ ( 43 ) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ ( 44 ) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ( 45 ) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ ( 46 ) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ( 47 ) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ( 48 ) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ( 49 ) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ( 50 ) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ( 51 ) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ( 52 ) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ ( 53 ) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ( 54 ) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ( 55 )

( بيان)

الآيات في معنى أخذ النتيجة ممّا اُعيد ذكره من الأنباء الّتي فيها مزدجر و هي نبأ الساعة المذكور أوّلاً ثمّ أنباء الاُمم الهالكة المذكورة ثانياً فهي تنعطف أوّلاً على أنباء الاُمم الهالكة فتخاطب قوم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ كفّاركم ليسوا خيراً من اُولئك الاُمم الطاغية الجبّارة و قد أهلكهم الله على أذلّ وجه و أهونه و لا لكم براءة مكتوبة من عذاب الله، و لا أنّ جمعكم ينفعكم في الذبّ عن العقاب. ثمّ تنعطف إلى ما مرّ من نبإ الساعة بأنّها موعدهم الصعب أن أجرموا و كذّبوا و الساعة أدهى و أمرّ، ثمّ تشير إلى موطن المتّقين يومئذ و عند ذلك تختتم السورة.

٩٣

قوله تعالى: ( أَ كُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ ) الظاهر أنّه خطاب لقوم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مسلم و كافر على ما تشعر به الإضافة في( كُفَّارُكُمْ ) و الخيريّة هي الخيريّة في زينة الدنيا و زخارف حياتها كالمال و البنين أو من جهة الأخلاق العامّة في مجتمعهم كالسخاء و الشجاعة و الشفقة على الضعفاء، و الإشارة باُولئكم إلى الأقوام المذكورة أنباؤهم: قوم نوح و عاد و ثمود و قوم لوط و آل فرعون، و الاستفهام للإنكار.

و المعنى: ليس الّذين كفروا منكم خيراً من اُولئكم الاُمم المهلكين المعذّبين حتّى يشملهم العذاب دونكم.

و يمكن أن يكون خطاب( أَ كُفَّارُكُمْ ) لخصوص الكفّار بعناية أنّهم قوم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و فيهم كفّار و هم هم.

و قوله:( أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ ) ظاهره أيضاً عموم الخطاب، و الزبر جمع زبور و هو الكتاب، و قد ذكروا أنّ المراد بالزبر الكتب السماويّة المنزلة على الأنبياء، و المعنى: بل أ لكم براءة في الكتب السماويّة الّتي نزلت من عندالله أنّكم في أمن من العذاب و المؤاخذة و إن كفرتم و أجرمتم و اقترفتم ما شئتم من الذنوب.

قوله تعالى: ( أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ) الجميع المجموع و المراد به وحدة مجتمعهم من حيث الإرادة و العمل، و الانتصار الانتقام أو التناصر كما في خطابات يوم القيامة:( ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ ) الصافّات: 25، و المعنى: بل أ يقولون أي الكفّار نحن قوم مجتمعون متّحدون ننتقم ممّن أرادنا بسوء أو ينصر بعضنا بعضاً فلا ننهزم.

قوله تعالى: ( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) اللّام في( الْجَمْعُ ) للعهد الذكريّ و في( الدُّبُرَ ) للجنس، و تولّي الدبّر الإدبار، و المعنى: سيهزم الجمع الّذي يتبجّحون به و يولّون الأدبار و يفرّون.

و في الآية إخبار عن مغلوبيّة و انهزام لجمعهم، و دلالة على أنّ هذه المغلوبيّة انهزام منهم في حرب سيقدمون عليها، و قد وقع ذلك في غزاة بدر، و هذا من ملاحم القرآن الكريم.

٩٤

قوله تعالى: ( بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَ السَّاعَةُ أَدْهى‏ وَ أَمَرُّ ) ( أَدْهى) اسم تفضيل من الدهاء و هو عظم البليّة المنكرة الّتي ليس إلى التخلّص منها سبيل، و( أَمَرُّ ) اسم تفضيل من المرارة ضدّ الحلاوة، و في الآية إضراب عن إيعادهم بالانهزام و العذاب الدنيويّ إلى إيعادهم بما سيجري عليهم في الساعة و قد اُشير إلى نبإها في أوّل الأنباء الزاجرة، و الكلام يفيد الترقّي.

و المعنى: و ليس الانهزام و العذاب الدنيويّ تمام عقوبتهم بل الساعة الّتي أشرنا إلى نبإها هي موعدهم و الساعة أدهى من كلّ داهية و أمرّ من كلّ مرّ.

قوله تعالى: ( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ ) جمع سعير و هي النار المسعّرة و في الآية تعليل لما قبلها من قوله:( وَ السَّاعَةُ أَدْهى‏ وَ أَمَرُّ) ، و المعنى: إنّما كانت الساعة أدهى و أمرّ لهم لأنّهم مجرمون و المجرمون في ضلال عن موطن السعادة و هو الجنّة و نيران مسعّرة.

قوله تعالى: ( يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى‏ وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ) السحب جرّ الإنسان على وجهه، و( يَوْمَ ) ظرف لقوله:( فِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ ) ، و( سَقَرَ ) من أسماء جهنّم و مسّها هو إصابتها لهم بحرّها و عذابها.

و المعنى: كونهم في ضلال و سعر في يوم يجرّون في النار على وجوههم يقال لهم: ذوقوا ما تصيبكم جهنّم بحرّها و عذابها.

قوله تعالى: ( إِنَّا كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ ) ( كُلَّ شَيْ‏ءٍ ) منصوب بفعل مقدّر يدلّ عليه( خَلَقْناهُ ) و التقدير خلقنا كلّ شي‏ء خلقناه، و( بِقَدَرٍ ) متعلّق بقوله:( خَلَقْناهُ ) و الباء للمصاحبة، و المعنى: إنّا خلقنا كلّ شي‏ء مصاحباً لقدر.

و قدر الشي‏ء هو المقدار الّذي لا يتعدّاه و الحدّ و الهندسة الّتي لا يتجاوزه في شي‏ء من جانبي الزيادة و النقيصة، قال تعالى:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الحجر: 21، فلكلّ شي‏ء حدّ محدود في خلقه لا يتعدّاه و صراط ممدود في وجوده يسلكه و لا يتخطّاه.

و الآية في مقام التعليل لما في الآيتين السابقتين من عذاب المجرمين يوم القيامة

٩٥

كأنّه قيل: لما ذا جوزي المجرمون بالضلال و السعر يوم القيامة و اُذيقوا مسّ سقر؟ فاُجيب بقوله:( إِنَّا كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ ) و محصّله أنّ لكلّ شي‏ء قدراً و من القدر في الإنسان أنّ الله سبحانه خلقه نوعاً متكاثر الأفراد بالتناسل اجتماعيّاً في حياته الدنيا يتزوّد من حياته الدنيا الداثرة لحياته الآخرة الباقية، و قدّر أن يرسل إليهم رسولاً يدعوهم إلى سعادة الدنيا و الآخرة فمن استجاب الدعوة فاز بالسعادة و دخل الجنّة و جاور ربّه، و من ردّها و أجرم فهو في ضلال و سعر.

و من الخطإ أن يقال: إنّ الجواب عن السؤال بهذا النحو من المصادرة الممنوعة في الاحتجاج فإنّ السؤال عن مجازاته تعالى إيّاهم بالنار لإجرامهم في معنى السؤال عن تقديره ذلك، فمعنى السؤال: لم قدّر الله للمجرمين المجازاة بالنار؟ و معنى الجواب: أنّ الله قدّر للمجرمين المجازاة بالنار، أو معنى السؤال: لم يدخلهم الله النار؟ و معنى الجواب: أنّ الله يدخلهم النار و ذلك مصادرة بيّنة.

و ذلك لأنّ بين فعلنا و بين فعله تعالى فرقاً فإنّا نتّبع في أفعالنا القوانين و الاُصول الكلّيّة المأخوذة من الكون الخارجيّ و الوجود العينيّ، و هي الحاكمة علينا في إرادتنا و أفعالنا، فإذا أكلنا لجوع أو شربنا لعطش فإنّما نريد بذلك الشبع و الريّ لما حصّلنا من الكون الخارجيّ أنّ الأكل يفيد الشبع و الشرب يفيد الريّ و هو الجواب لو سئلنا عن الفعل.

و بالجملة أفعالنا تابعة للقواعد الكلّيّة و الضوابط العامّة المنتزعة عن الوجود العينيّ المتفرّعة عليه، و أمّا فعله تعالى فهو نفس الوجود العينيّ، و الاُصول العقليّة الكلّيّة مأخوذة منه متأخّرة عنه محكومة له فلا تكون حاكمة فيه متقدّمة عليه، قال تعالى:( لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ ) الأنبياء: 23، و قال:( إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ ) الحجّ: 18، و قال:( الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ) آل عمران: 60.

فلا سؤال عن فعله تعالى بلم بمعنى السؤال عن السبب الخارجيّ إذ لا سبب دونه يعينه في فعله، و لا بمعنى السؤال عن الأصل الكلّيّ العقليّ الّذي يصحّح فعله إذ الاُصول العقليّة منتزعة عن فعله متأخّرة عنه.

٩٦

نعم وقع في كلامه سبحانه تعليل الفعل بأحد ثلاثة أوجه:

أحدها: تعليل الفعل بما يترتّب عليه من الغايات و الفوائد العائدة إلى الخلق لا إليه، لكنّه تعليل للفعل لا لكونه فعلاً له سبحانه بل لكونه أمراً واقعاً في صف الأسباب و المسبّبات كما في قوله تعالى:( وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى‏ ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْباناً وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) المائدة: 82، و قال:( وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ - إلى أن قال -ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ ) البقرة: 61.

الثاني: تعليل فعله تعالى بشي‏ء من أسمائه و صفاته المناسبة له كتعليله تعالى مضامين كثير من الآيات في كلامه بمثل قوله:( إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ( وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ( وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) إلى غير ذلك و هو شائع في القرآن الكريم، و إذا أجدت التأمّل في موارده وجدتها من تعليل الفعل بما له من صفة خاصّة بصفة عامّة لفعله تعالى فإنّ أسماءه تعالى الفعليّة منتزعة عن فعله العامّ فتعليل فعل خاصّ بصفة من صفاته و اسم من أسمائه تعليل الوجه الخاصّ في الفعل بالوجه العامّ فيه كقوله تعالى:( وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَ إِيَّاكُمْ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) العنكبوت: 60، يعلّل قضاء حاجة الدوابّ و الإنسان إلى الرزق المسؤل بلسان حاجتها بأنّه سميع عليم أي إنّه خلق كلّ شي‏ء و الحال أنّ مسائلهم مسموعة له و أحوالهم معلومة عنده و هما صفتا فعله العامّ، و قوله:( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) البقرة: 37، يعلّل توبته على آدم بأنّه توّاب رحيم أي صفة فعله هي التوبة و الرحمة.

الثالث: تعليل فعله الخاصّ بفعله العامّ و مرجعه في الحقيقة إلى الوجه الثاني كقوله:( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ - إلى أن قال -إِنَّا كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ ) فإنّ القدر و هو كون الشي‏ء محدوداً لا يتخطّى حدّه في مسير وجوده فعل عامّ له تعالى لا يخلو عنه شي‏ء من الخلق فتعليل العذاب بالقدر من تعليل فعله الخاصّ بفعله العامّ و بيان أنّه مصداق من مصاديق القدر إذ كان من المقدّر في الإنسان أن لو أجرم

٩٧

بردّ دعوة النبوّة عذّب و دخل النار يوم القيامة، و كقوله:( وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى‏ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ) مريم: 71، يعلّل الورود بالقضاء و هو فعل له عامّ و الورود خاصّ بالنسبة إليه.

فتبيّن أنّ ما في كلامه من تعليل فعل من أفعاله إنّما هو من تعليل الفعل الخاصّ بصفته العامّة و العلّة علّة للإثبات لا للثبوت، و ليس من المصادرة في شي‏ء.

قوله تعالى: ( وَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) قال في المجمع: اللمح النظر بالعجلة و هو خطف البصر. انتهى.

و المراد بالأمر ما يقابل النهي لكنّه الأمر التكوينيّ بإرادة وجود الشي‏ء، قال تعالى:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) يس: 82 فهو كلمة كن و لعلّه لكونه كلمة اعتبر الخبر مؤنّثاً فقيل:( إِلَّا واحِدَةٌ ) .

و الّذي يفيده السياق أنّ المراد بكون الأمر واحدة أنّه لا يحتاج في مضيّه و تحقّق متعلّقه إلى تعدّد و تكرار بل أمر واحد بإلقاء كلمة كن يتحقّق به المتعلّق المراد كلمح بالبصر من غير تأنّ و مهل حتّى يحتاج إلى الأمر ثانياً و ثالثاً.

و تشبيه الأمر من حيث تحقّق متعلّقه بلمح بالبصر لا لإفادة أنّ زمان تأثيره قصير كزمان تحقّق اللمح بالبصر بل لإفادة أنّه لا يحتاج في تأثيره إلى مضيّ زمان و لو كان قصيراً فإنّ التشبيه باللّمح بالبصر في الكلام يكنّى به عن ذلك، فأمره تعالى و هو إيجاده و إرادة وجوده لا يحتاج في تحقّقه إلى زمان و لا مكان و لا حركة كيف لا؟ و نفس الزمان و المكان و الحركة إنّما تحقّقت بأمره تعالى.

و الآية و إن كانت بحسب مؤدّاها في نفسها تعطي حقيقة عامّة في خلق الأشياء و أنّ وجودها من حيث إنّه فعل الله سبحانه كلمح بالبصر و إن كان من حيث إنّه وجود لشي‏ء كذا تدريجيّاً حاصلاً شيئاً فشيئاً.

إلّا أنّها بحسب وقوعها في سياق إيعاد الكفّار بعذاب يوم القيامة ناظرة إلى إتيان الساعة و أنّ أمراً واحداً منه تعالى يكفي في قيام الساعة و تجديد الخلق بالبعث و النشور فتكون متمّمة لما اُقيم من الحجّة بقوله:( إِنَّا كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ ) .

٩٨

فيكون مفاد الآية الاُولى أنّ عذابهم بالنار على وفق الحكمة و لا محيص عنه بحسب الإرادة الإلهيّة لأنّه من القدر، و مفاد هذه الآية أنّ تحقّق الساعة الّتي يعذّبون فيها بمضيّ هذه الإرادة و تحقّق متعلّقها لا مؤنة فيه عليه سبحانه لأنّه يكفي فيه أمر واحد منه تعالى كلمح بالبصر.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) الأشياع جمع شيعة و المراد - كما قيل - الأشباه و الأمثال في الكفر و تكذيب الأنبياء من الاُمم الماضية.

و المراد بالآية و الآيتين بعدها تأكيد الحجّة السابقة الّتي اُقيمت على شمول العذاب لهم لا محالة.

و محصّل المعنى: أن ليس ما أنذرناكم به من عذاب الدنيا و عذاب الساعة مجرّد خبر أخبرناكم به و لا قول ألقيناه إليكم فهذه أشياعكم من الاُمم الماضية شرع فيهم بذلك فقد أهلكناهم و هو عذابهم في الدنيا و سيلقون عذاب الآخرة فإنّ أعمالهم مكتوبة مضبوطة في كتب محفوظة عندنا سنحاسبهم بها و نجازيهم بما عملوا.

قوله تعالى: ( وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَ كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ) الزبر كتب الأعمال و تفسيره باللوح المحفوظ سخيف، و المراد بالصغير و الكبير صغير الأعمال و كبيرها على ما يفيده السياق.

قوله تعالى: ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَهَرٍ ) أي في جنّات عظيمة الشأن بالغة الوصف و نهر كذلك، قيل: المراد بالنهر الجنس، و قيل: النهر بمعنى السعة.

قوله تعالى: ( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ) المقعد المجلس، المليك صيغة مبالغة للملك على ما قيل، و ليس من إشباع كسر لام الملك، و المقتدر القادر العظيم القدرة و هو الله سبحانه.

و المراد بالصدق صدق المتّقين في إيمانهم و عملهم اُضيف إليه المقعد لملابسة مّا و يمكن أن يراد به كون مقامهم و ما لهم فيه صدقاً لا يشوبه كذب فلهم حضور لا غيبة معه، و قرب لا بعد معه، و نعمة لا نقمة معها، و سرور لا غمّ معه، و بقاء لا فناء معه.

و يمكن أن يراد به صدق هذا الخبر من حيث إنّه تبشير و وعد جميل للمتقين،

٩٩

و على هذا ففيه نوع مقابلة بين وصف عاقبة المتّقين و المجرمين حيث اُوعد المجرمون بالعذاب و الضلال و قرّر ذلك بأنّه من القدر و لن يتخلّف، و وعد المتّقون بالثواب و الحضور عند ربّهم المليك المقتدر و قرّر ذلك بأنّه صدق لا كذب فيه.

( بحث روائي)

في كمال الدين، بإسناده إلى عليّ بن سالم عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن الرقى أ تدفع من القدر شيئاً؟ فقال: هي من القدر.

و قال: إنّ القدريّة مجوس هذه الاُمّة و هم الّذين أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه من سلطانه و فيهم نزلت هذه الآية:( يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى‏ وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ ) .

أقول: المراد بالقدريّة النافون للقدر و هم المعتزلة القائلون بالتفويض، و قوله: إنّهم مجوس هذه الاُمّة ذلك لقولهم: إنّ خالق الأفعال الاختياريّة هو الإنسان و الله خالق لما وراء ذلك فأثبتوا إلهين اثنين كما أثبتت المجوس إلهين اثنين: خالق الخير و خالق الشرّ.

و قوله: أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه من سلطانه، و ذلك أنّهم قالوا بخلق الإنسان لأفعاله فراراً عن القول بالجبر المنافي للعدل فأخرجوا الله من سلطانه على أعمال عباده بقطع نسبتها عنه تعالى.

و قوله: و فيهم نزلت هذه الآية، إلخ، المراد به جري الآيات فيهم دون كونهم سبباً للنزول و مورداً له لما عرفت في تفسير الآيات من كونها عامّة بحسب السياق، و في نزول الآيات فيهم روايات اُخرى مرويّة عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام ، و من طرق أهل السنّة أيضاً روايات في هذا المعنى عن ابن عبّاس و ابن عمر و محمّد بن كعب و غيرهم.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

١٠٠