الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن6%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219867 / تحميل: 7011
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

( سورة الملك مكّيّة و هي ثلاثون آية)

( سورة الملك الآيات ١ - ١٤)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ١ ) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ( ٢ ) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ ( ٣ ) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ( ٤ ) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ ( ٥ ) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ٦ ) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ ( ٧ ) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ( ٨ ) قَالُوا بَلَىٰ قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ ( ٩ ) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ( ١٠ ) فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ ( ١١ ) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ( ١٢ ) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( ١٣ ) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ( ١٤ )

٢

( بيان‏)

غرض السورة بيان عموم ربوبيّته تعالى للعالمين تجاه قول الوثنيّة إنّ لكلّ شطر من العالم ربّاً من الملائكة و غيرهم و إنّه تعالى ربّ الأرباب فقط.

و لذا يعدّ سبحانه كثيراً من نعمه في الخلق و التدبير - و هو في معنى الاحتجاج على ربوبيّته - و يفتتح الكلام بتباركه و هو كثرة صدور البركات عنه، و يكرّر توصيفه بالرحمن و هو مبالغة في الرحمة الّتي هي العطيّة قبال الاستدعاء فقراً و فيها إنذار ينتهي إلى ذكر الحشر و البعث.

و تتلخّص مضامين آياتها في الدعوة إلى توحيد الربوبيّة و القول بالمعاد.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) تبارك الشي‏ء كثرة صدور الخيرات و البركات عنه.

و قوله:( الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ) يشمل بإطلاقه كلّ ملك، و جعل الملك في يده استعارة بالكناية عن كمال تسلّطه عليه و كونه متصرّفاً فيه كيف يشاء كما يتصرّف ذو اليد فيما بيده و يقلّبه كيف يشاء فهو تعالى يملك بنفسه كلّ شي‏ء من جميع جهاته، و يملك ما يملكه كلّ شي‏ء.

فتوصيفه تعالى بالّذي بيده الملك أوسع من توصيفه بالمليك في قوله:( عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ) القمر: ٥٥، و أصرح و آكد من توصيفه في قوله:( لَهُ الْمُلْكُ ) التغابن: ١.

و قوله:( وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) إشارة إلى كون قدرته غير محدودة بحدّ و لا منتهية إلى نهاية و هو لازم إطلاق الملك بحسب السياق، و إن كان إطلاق الملك و هو من صفات الفعل من لوازم إطلاق القدرة و هي من صفات الذات.

و في الآية مع ذلك إيماء إلى الحجّة على إمكان ما سيأتي من أمر المعاد.

٣

قوله تعالى: ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ) الحياة كون الشي‏ء بحيث يشعر و يريد، و الموت عدم ذلك لكنّ الموت على ما يظهر من تعليم القرآن انتقال من نشأة من نشآت الحياة إلى نشأة اُخرى كما تقدّم استفادة ذلك من قوله تعالى:( نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ - إلى قوله -فِي ما لا تَعْلَمُونَ ) الواقعة: ٦١، فلا مانع من تعلّق الخلق بالموت كالحياة.

على أنّه لو اُخذ عدميّاً كما عند العرف فهو عدم ملكة الحياة و له حظّ من الوجود يصحّح تعلّق الخلق به كالعمى من البصر و الظلمة من النور.

و قوله:( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) غاية خلقه تعالى الموت و الحياة، و البلاء الامتحان و المراد أنّ خلقكم هذا النوع من الخلق و هو أنّكم تحيون ثمّ تموتون خلق مقدّميّ امتحانيّ يمتاز به منكم من هو أحسن عملاً من غيره و من المعلوم أنّ الامتحان و التمييز لا يكون إلّا لأمر مّا يستقبلكم بعد ذلك و هو جزاء كلّ بحسب عمله.

و في الكلام مع ذلك إشارة إلى أنّ المقصود بالذات من الخلقة هو إيصال الخير من الجزاء حيث ذكر حسن العمل و امتياز من جاء بأحسنه فالمحسنون عملاً هم المقصودون بالخلقة و غيرهم مقصودون لأجلهم.

و قد ذيّل الكلام بقوله:( وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ) فهو العزيز لأنّ الملك و القدرة المطلقين له وحده فلا يغلبه غالب و ما أقدر أحداً على مخالفته إلّا بلاء و امتحاناً و سينتقم منهم و هو الغفور لأنّه يعفو عن كثير من سيّئاتهم في الدنيا و سيغفر كثيراً منها في الآخرة كما وعد.

و في التذييل بالاسمين مع ذلك تخويف و تطميع على ما يدعو إلى ذلك سياق الدعوة.

و اعلم أنّ مضمون الآية ليس مجرّد دعوى خالية عن الحجّة يراد به التلقين كما ربّما يتوهّم بل هي مقدّمة قريبة من الضرورة - أو هي ضروريّة - تستدعي الحكم

٤

بضرورة البعث للجزاء فإنّ الإنسان المتلبّس بهذه الحياة الدنيويّة الملحوقة للموت لا يخلو من أن يحصل له وصف حسن العمل أو خلافه و هو مجهّز بحسب الفطرة بما لو لا عروض عارض السوء لساقه إلى حسن العمل، و قلّما يخلو إنسان من حصول أحد الوصفين كالأطفال و من في حكمهم.

و الوصف الحاصل المترتّب على وجود الشي‏ء الساري في أغلب أفراده غاية في وجوده مقصودة في إيجاده فكما أنّ الحياة النباتيّة لشجرة كذا إذ كانت تؤدّي في الغالب إلى إثمارها ثمرة كذا يعدّ ذلك غاية لوجودها مقصودة منها كذلك حسن العمل و الصلاح غاية لخلق الإنسان، و من المعلوم أيضاً أنّ الصلاح و حسن العمل لو كان مطلوباً لكان مطلوباً لغيره لا لنفسه، و المطلوب بالذات الحياة الطيّبة الّتي لا يشوبها نقص و لا يعرضها لغو و لا تأثيم فالآية في معنى قوله:( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً ) الأنبياء: ٣٥.

قوله تعالى: ( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ) إلخ، أي مطابقة بعضها فوق بعض أو بعضها يشبه البعض - على ما احتمل - و قد مرّ في تفسير حم السجدة بعض ما يمكننا من القول فيها.

و قوله:( ما تَرى‏ فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ ) قال الراغب: الفوت بعد الشي‏ء عن الإنسان بحيث يتعذّر إدراكه، قال تعالى:( وَ إِنْ فاتَكُمْ شَيْ‏ءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ ) . قال: و التفاوت الاختلاف في الأوصاف كأنّه يفوت وصف أحدهما الآخر أو وصف كلّ واحد منهما الآخر، قال تعالى:( ما تَرى‏ فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ ) أي ليس فيها ما يخرج عن مقتضى الحكمة. انتهى.

فالمراد بنفي التفاوت اتّصال التدبير و ارتباط الأشياء بعضها ببعض من حيث الغايات و المنافع المترتّبة على تفاعل بعضها في بعض، فاصطكاك الأسباب المختلفة في الخلقة و تنازعها كتشاجر كفّتي الميزان و تصارعهما بالثقل و الخفّة و الارتفاع و الانخفاض فإنّهما في عين أنّهما تختلفان تتّفقان في إعانة من بيده الميزان فيما يريده من تشخيص وزن السلعة الموزونة.

٥

فقد رتّب الله أجزاء الخلقة بحيث تؤدّي إلى مقاصدها من غير أن يفوّت بعضها غرض بعض أو يفوت من بعضها الوصف اللازم فيه لحصول الغاية المطلوبة.

و الخطاب في( ما تَرى‏ ) خطاب عامّ لكلّ من يمكنه الرؤية و في إضافة الخلق إلى الرحمن إشارة إلى أنّ الغاية منه هي الرحمة العامّة، و تنكير( تَفاوُتٍ ) و هو في سياق النفي و إدخال( الرَّحْمنِ ) عليه لإفادة العموم.

و قوله:( فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى‏ مِنْ فُطُورٍ ) الفطور الاختلال و الوهي، و المراد بإرجاع البصر النظر ثانياً و هو كناية عن المداقّة في النظر و الإمعان فيه.

قوله تعالى: ( ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ ) الخاسئ من خسأ البصر إذا انقبض عن مهانة كما قال الراغب، و قال أيضاً: الخاسر المعيا لانكشاف قواه، و يقال للمعيا: حاسر و محسور: أمّا الحاسر فتصوّر أنّه بنفسه قد حسر قوّته، و أمّا المحسور فتصوّر أن التعب قد حسرة، و قوله عزّوجلّ:( يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ ) يصحّ أن يكون بمعنى حاسر و أن يكون بمعنى محسور. انتهى.

و قوله:( كَرَّتَيْنِ ) الكرّة الرجعة و المراد بالتثنية التكثير و التكرير، و المعنى: ثمّ ارجع البصر رجعة بعد رجعة أي رجعات كثيرة ينقلب إليك البصر منقبضة مهينة و الحال أنّه كليل مُعيا لم يجد فطوراً.

فقد اُشير في الآيتين إلى أنّ النظام الجاري في الكون نظام واحد متّصل الأجزاء مرتبط الأبعاض.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ ) إلى آخر الآية، المصابيح جمع مصباح و هو السراج سمّي الكواكب مصابيح لإنارتها و إضاءتها و قد تقدّم كلام في ذلك في تفسير سورة حم السجدة.

و قوله:( وَ جَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ ) أي و جعلنا الكواكب الّتي زيّنّا بها السماء رجوماً يرجم بها من استرق السمع من الشياطين كما قال تعالى:( إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ ) الحجر: ١٨، و قال:( إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ

٦

شِهابٌ ثاقِبٌ ) الصافّات: ١٠.

قيل: إنّ الجملة دليل أنّ المراد بالكواكب المزيّنة بها السماء مجموع الكواكب الأصليّة و الشهب السماويّة فإنّ الكواكب الأصليّة لا تزول عن مستقرّها و الكواكب و النجم يطلقان على الشهب كما يطلقان على الأجرام الأصليّة.

و قيل: تنفصل من الكواكب شهب تكون رجوماً للشياطين أمّا الكواكب أنفسها فليست تزول إلّا أن يريد الله إفناءها.

و هذا الوجه أوفق للأنظار العلميّة الحاضرة، و قد تقدّم بعض الكلام في معنى رمي الشياطين بالشهب.

و قوله:( وَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ ) أي و هيّأنا للشياطين و هم أشرار الجنّ عذاب النار المسعّرة المشتعلة.

قوله تعالى: ( وَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ ) لمّا أورد بعض آيات ربوبيّته تعالى عقّبها بالوعيد على من كفر بربوبيّته على ما هو شأن هذه السورة من تداخل الحجج و الوعيد و الإنذار.

و المراد بالّذين كفروا بربوبيّته أعمّ من الوثنيّين النافين لربوبيّته لغير أربابهم القائلين بأنّه تعالى ربّ الأرباب فقط، و النافين لها مطلقاً و المثبتين لربوبيّته مع التفريق بينه و بين رسله كاليهود و النصارى حيث آمنوا ببعض رسله و كفروا ببعض.

و الآية مع ذلك متّصلة بقوله:( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ) لما فيها من الإشارة إلى البعث و الجزاء متّصلة بما قبلها كالتعميم بعد التخصيص.

قوله تعالى: ( إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَ هِيَ تَفُورُ تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ) قال الراغب: الشهيق طول الزفير و هو ردّ النفس و الزفير مدّة انتهى، و الفوران كما في المجمع، ارتفاع الغليان، و التميّز: التقطّع و التفرّق، و الغيظ: شدّة الغضب، و المعنى: إذا طرح الكفّار في جهنّم سمعوا لها شهيقا - أي تجذبهم إلى داخلها كما يجذب الهواء

٧

بالشهيق إلى داخل الصدر - و هي تغلي بهم فترفعهم و تخفضهم تكاد تتلاشى من شدّة الغضب.

قوله تعالى: ( كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ) الفوج - كما قاله الراغب - الجماعة المارّة المسرعة، و في قوله:( كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ ) إشارة إلى أنّ الكفّار يلقون في النار جماعة جماعة كما يشير إليه قوله:( وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى‏ جَهَنَّمَ زُمَراً ) الزمر: ٧١، و إنّما يلقون كذلك بلحوق التابعين لمتبوعيهم في الضلال كما قال تعالى:( وَ يَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى‏ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ) الأنفال: ٣٧، و قد تقدّم بعض توضيحه في ذيل الآية من سورة الأنفال.

و الخزنة جمع خازن و هو الحافظ على الشي‏ء المدّخر و المراد بهم الملائكة الموكّلون على النار المدبّرون لأنواع عذابها قال تعالى:( عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ ) التحريم: ٦، و قال:( وَ ما أَدْراكَ ما سَقَرُ - إلى أن قال -عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً ) المدّثّر: ٣١.

و المعنى: كلّما طرح في جهنّم جماعة من جماعات الكفّار المسوقين إليها سألهم الملائكة الموكّلون على النار الحافظون لها - توبيخاً - أ لم يأتكم نذير؟ و هو النبيّ المنذر.

قوله تعالى: ( قالُوا بَلى‏ قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا ) إلى آخر الآية حكاية جوابهم لسؤال الخزنة، و فيه تصديق أنّهم قد جاءهم نذير فنسبوه إلى الكذب و اعتراف.

و قوله:( ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) بيان لتكذيبهم، و كذا قوله:( إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ ) و قيل: قوله:( إِنْ أَنْتُمْ ) إلخ، كلام الملائكة يخاطبون به الكفّار بعد جوابهم عن سؤالهم بما أجابوا، و هو بعيد من السياق، و كذا احتمال كونه من كلام الرسل الّذين كذّبوهم تحكيه الملائكة لاُولئك الكفّار.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ ) يطلق السمع و يراد به إدراك الصوت و القول بالجارحة و ربّما يراد به ما هو الغاية منه عند العقلاء و هو الالتزام بمقتضاه من الفعل و الترك، و يطلق العقل على تمييز الخير من الشرّ

٨

و النافع من الضارّ، و ربّما يراد به ما هو الغاية منه و هو الالتزام بمقتضاه من طلب الخير و النفع و اجتناب الشرّ و الضرّ، قال تعالى:( لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ) الأعراف: ١٧٩.

و أكثر ما ينتفع بالسمع عامّة الناس لقصورهم عن تعقّل دقائق الاُمور و إدراك حقيقتها و الاهتداء إلى مصالحها و مفاسدها و إنّما ينتفع بالعقل الخاصّة.

فقوله:( لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ) اُريد بالسمع استجابة دعوة الرسل و الالتزام بمقتضى قولهم و هم النصحاء الاُمناء، و بالعقل الالتزام بمقتضى ما يدعون إليه من الحقّ بتعقّله و الاهتداء العقليّ إلى أنّه حقّ و من الواجب أن يخضع الإنسان للحقّ.

و إنّما قدّم السمع على العقل لأنّ استعماله من شأن عامّة الناس و هم الأكثرون و العقل شأن الخاصّة و هم آحاد قليلون.

و المعنى: لو كنّا في الدنيا نطيع الرسل في نصائحهم و مواعظهم أو عقلنا حجّة الحقّ ما كنّا اليوم في أصحاب السعير و هم مصاحبو النار المخلّدون فيها.

و قيل: إنّما جمع بين السمع و العقل لأنّ مدار التكليف على أدلّة السمع و العقل.

قوله تعالى: ( فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ ) كانوا إنّما قالوا:( لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ ) ندامة على ما فرّطوا في جنب الله و فوّتوا على أنفسهم من الخير فاعترفوا بأنّ ما أتوا به كان تبعته دخول النار و كان عليهم أن لا يأتوا به، و هذا هو الذنب فقد اعترفوا بذنبهم.

و إنّما أفرد الذنب بناء على إرادة معنى المصدر منه و هو في الأصل مصدر.

و قوله:( فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ ) السحق تفتيت الشي‏ء كما ذكره الراغب و هو دعاء عليهم.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ ) لمّا ذكر حال الكفّار و ما يجازون به على كفرهم قابلة بحال المؤمنين بالغيب لتمام التقسيم و ذكر من وصفهم الخشية لأنّ المقام مقام الإنذار و الوعيد.

٩

و عدّ خشيتهم خشية بالغيب لكون ما آمنوا به محجوباً عنهم تحت حجب الغيب.

قوله تعالى: ( وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) رفع شبهة يمكن أن تختلج في قلوبهم مبنيّة على الاستبعاد و ذلك أنّه تعالى ساق الكلام في بيان ربوبيّته لكلّ شي‏ء المستتبعة للبعث و الجزاء و ذكر ملكه و قدرته المطلقين و خلقه و تدبيره و لم يذكر علمه المحيط بهم و بأحوالهم و أعمالهم و هو ممّا لا يتمّ البعث و الجزاء بدونه.

و كان من الممكن أن يتوهّموا أنّ الأعمال على كثرتها الخارجة عن الإحصاء لا يتأتّى ضبطها و خاصّة ما تكنّه الصدور منها فإنّ الإنسان يقيس الأشياء بنفسه و يزنها بزنة نفسه و هو غير قادر على إحصاء جزئيّات الأعمال الّتي هي حركات مختلفة متقضيّة و خاصّة أعمال القلوب المستكنّة في زواياها.

فدفعه بأنّ إظهار القول و إخفاءه سواء بالنسبة إليه تعالى فإنّه عليم بذات الصدور، و السياق يشهد أنّ المراد استواء خفايا الأعمال و جلاياها بالنسبة إليه، و إنّما ذكر أسرار القول و جهره من حيث ظهور معنى الخفاء و الظهور فيه بالجهر و الإسرار.

قوله تعالى: ( أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) استفهام إنكاريّ مأخوذ حجّة على علمه تعالى بأعمال الخلق ظاهرها و باطنها و سرّها و جهرها و ذلك أنّ أعمال الخلق - و من جملتها أعمال الإنسان الاختياريّة - و إن نسبت إلى فواعلها لكنّ الله سبحانه هو الّذي يريدها و يوجدها من طريق اختيار الإنسان و اقتضاء سائر الأسباب فهو الخالق لأعيان الأشياء و المقدّر لها آثارها كيفما كانت و الرابط بينها و بين آثارها الموصل لها إلى آثارها، قال تعالى:( اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَكِيلٌ ) الزمر: ٦٢، و قال:( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى‏ ) الأعلى: ٣، فهو سبحانه محيط بعين من خلقه و أثره و من أثره أعماله الظاهرة و الباطنة و ما أسرّه و ما جهر به و كيف يحيط به و لا يعلمه.

و في الآية إشارة إلى أنّ أحوال الأشياء و أعمالها غير خارجة عن خلقها لأنّه

١٠

تعالى استدلّ بعلمه بمن خلق على علمه بخصوصيّات أحواله و أعماله و لو لا كون الأحوال و الأعمال غير خارجة عن وجود موضوعاتها لم يتمّ الاستدلال.

على أنّ الأحوال و الأعمال من مقتضيات موضوعاتها و الّذي ينتسب إليه وجود الشي‏ء ينتسب إليه آثار وجوده.

و قوله:( وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) أي النافذ في بواطن الأشياء المطّلع على جزئيات وجودها و آثارها، و الجملة حالية تعلّل ما قبلها و الاسمان الكريمان من الأسماء الحسنى ذيّلت بهما الآية لتأكيد مضمونها.

( بحث روائي)

في الكافي، بإسناده عن سفيان بن عيينة عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ:( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) قال: ليس يعني أكثركم عملاً و لكن أصوبكم عملاً، و إنّما الإصابة خشية الله و النيّة الصادقة و الخشية.

ثمّ قال: الإبقاء على العمل حتّى يخلص أشدّ من العمل.

ألا و العمل الخالص الّذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلّا الله، و النيّة أفضل من العمل ألا و إنّ النيّة هي العمل. ثمّ تلا قوله:( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى‏ شاكِلَتِهِ ) يعني على نيّته.

و في المجمع، قال أبو قتادة: سألت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قوله تعالى:( أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) ما عنى به؟ فقال: يقول: أيّكم أحسن عقلاً. ثمّ قال: أتمّكم عقلاً و أشدّكم لله خوفاً، و أحسنكم فيما أمر الله به و نهى عنه نظراً و إن كان أقلّكم تطوّعاً.

و فيه، عن ابن عمر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه تلا قوله تعالى:( تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ - إلى قوله -أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) ثمّ قال: أيّكم أحسن عقلاً، و أورع عن محارم الله و أسرع في طاعة الله.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ) قال: بعضها طبق لبعض.

١١

و فيه في قوله تعالى:( مِنْ تَفاوُتٍ ) قال: من فساد.

و فيه في قوله تعالى:( ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ ) قال: انظر في ملكوت السماوات و الأرض.

و فيه في قوله تعالى:( بِمَصابِيحَ ) قال: بالنجوم.

و فيه في قوله تعالى:( سَمِعُوا لَها شَهِيقاً ) قال: وقعاً.

و فيه في قوله تعالى:( تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ) قال: على أعداء الله.

و فيه في قوله تعالى:( وَ قالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ ) قال: قد سمعوا و عقلوا و لكنّهم لم يطيعوا و لم يقبلوا، و الدليل على أنّهم قد سمعوا و عقلوا و لم يقبلوا، قوله:( فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ ) .

أقول: يعنيعليه‌السلام أنّه يدلّ على أنّ المراد من عدم السمع و العقل عدم الإطاعة و القبول بعد السمع و العقل أنّه تعالى سمّى قولهم ذلك اعترافاً بالذنب، و لا يعدّ فعل ذنباً من فاعله إلّا بعد العلم بجهة مساءته بسمع أو عقل.

١٢

( سورة الملك الآيات ١٥ - ٢٢)

هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ( ١٥ ) أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ( ١٦ ) أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ( ١٧ ) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ( ١٨ ) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ ( ١٩ ) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ ( ٢٠ ) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ ( ٢١ ) أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ٢٢ )

( بيان‏)

في الآيات كرّة بعد كرّة بآيات التدبير الدالّة على ربوبيّته تعالى مقرونة بالإنذار و التخويف أعني قوله:( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا ) الآية، و قوله:( أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ ) الآية بعد قوله:( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ ) الآية، و قوله:( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ ) الآية، و قوله:( وَ لَقَدْ زَيَّنَّا ) الآية.

قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَ إِلَيْهِ النُّشُورُ ) الذلول من المراكب ما يسهل ركوبه من غير أن يضطرب و يجمح و المناكب جمع منكب و هو مجتمع ما بين العضد و الكتف و أستعير لسطح الأرض، قال

١٣

الراغب: و استعارته للأرض كاستعارة الظهر لها في قوله:( ما تَرَكَ عَلى‏ ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ ) و تسمية الأرض ذلولاً و جعل ظهورها مناكب لها يستقرّ عليها و يمشي فيها باعتبار انقيادها لأنواع التصرّفات الإنسانيّة من غير امتناع، و قد وجّه كونها ذلولاً ذا مناكب بوجوه مختلفة تؤل جميعها إلى ما ذكرنا.

و الأمر في قوله:( وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ) للإباحة و النشور و النشر إحياء الميّت بعد موته و أصله من نشر الصحيفة و الثوب إذا بسطهما بعد طيّهما.

و المعنى: هو الّذي جعل الأرض مطاوعة منقادة لكم يمكنكم أن تستقرّوا على ظهورها و تمشوا فيها تأكلون من رزقه الّذي قدّره لكم بأنواع الطلب و التصرّف فيها.

و قوله:( وَ إِلَيْهِ النُّشُورُ ) أي و يرجع إليه نشر الأموات بإخراجهم من الأرض و إحيائهم للحساب و الجزاء، و اختصاص رجوع النشر به كناية عن اختصاص الحكم بالنشور به و الإحياء يوم القيامة فهو ربّكم المدبّر لأمر حياتكم الدنيا بالإقرار على الأرض و الهداية إلى مآرب الحياة، و له الحكم بالنشور للحساب و الجزاء.

و في عدّ الأرض ذلولاً و البشر على مناكبها تلويح ظاهر إلى ما أدّت إليه الأبحاث العلميّة أخيراً من كون الأرض كرّة سيّارة.

قوله تعالى: ( أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ ) إنذار و تخويف بعد إقامة الحجّة و توبيخ على مساهلتهم في أمر الربوبيّة و إهمالهم أمر الشكر على نعم ربّهم بالخضوع لربوبيّته و رفض ما اختلقوه من الأنداد.

و المراد بمن في السماء الملائكة المقيمون فيها الموكّلون على حوادث الكون و إرجاع ضمير الإفراد إلى( مَنْ ) باعتبار لفظه و خسف الأرض بقوم كذا شقّها و تغييبهم في بطنها و المور على ما في المجمع التردّد في الذهاب و المجي‏ء مثل الموج.

و المعنى: ء أمنتم في كفركم بربوبيّته تعالى الملائكة المقيمين في السماء الموكلين باُمور العالم أن يشقّوا الأرض و يغيّبوكم فيها بأمر الله فإذا الأرض تضطرب ذهاباً و مجيئاً بزلزالها.

١٤

و قيل: المراد بمن في السماء هو الله سبحانه و المراد بكونه في السماء كون سلطانه و تدبيره و أمره فيها لاستحالة أن يكون تعالى في مكان أو جهة أو محاطاً بعالم من العوالم، و هذا المعنى و إن كان لا بأس به لكنّه خلاف الظاهر.

قوله تعالى: ( أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ) الحاصب الريح الّتي تأتي بالحصاة و الحجارة، و المعنى: أ أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم ريحاً ذات حصاة و حجارة كما أرسلها على قوم لوط قال تعالى:( إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ ) القمر: ٣٤.

و قوله:( فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ) النذير مصدر بمعنى الإنذار و الجملة متفرّعة على ما يفهم من سابق الكلام من كفرهم بربوبيّته تعالى و أمنهم من عذابه و المعنى ظاهر.

و قيل: النذير صفة بمعنى المنذر و المراد به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو سخيف.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ ) المراد بالنكير العقوبة و تغيير النعمة أو الإنكار، و الآية كالشاهد يستشهد به على صدق ما في قوله:( فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ) من الوعيد و التهديد.

و المعنى: و لقد كذّب الّذين من قبلهم من الاُمم الهالكة رسلي و جحدوا بربوبيّتي فكيف كان عقوبتي و تغييري النعمة عليهم أو كيف كان إنكاري ذلك عليهم حيث أهلكتهم و استأصلتهم.

و في الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله:( مِنْ قَبْلِهِمْ ) إشعاراً بسقوطهم - لجهالتهم و إهمالهم في التدبّر في آيات الربوبيّة و عدم مخافتهم من سخط ربّهم - عن تشريف الخطاب فأعرض عن مخاطبتهم فيما يلقى إليهم من المعارف إلى خطاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَ يَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ بَصِيرٌ ) المراد بكون الطير فوقهم طيرانه في الهواء، و صفيف الطير بسطه جناحه حال الطيران و قبضه قبض جناحه حاله، و الجمع في( صافَّاتٍ وَ يَقْبِضْنَ ) لكون المراد بالطير استغراق الجنس.

١٥

و قوله:( ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ ) كالجواب لسؤال مقدّر كأنّ سائلاً يسأل فيقول: ما هو المراد بإلفات نظرهم إلى صفيف الطير و قبضه فوقهم؟ فاُجيب بقوله:( ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ ) .

و قرار الطير حال الطيران في الهواء من غير سقوط و إن كان مستنداً إلى أسباب طبيعيّة كقرار الإنسان على بسيط الأرض و السمك في الماء و سائر الاُمور الطبيعيّة المستندة إلى علل طبيعيّة تنتهي إليه تعالى لكن لمّا كان بعض الحوادث غير ظاهر السبب للإنسان في بادي النظر سهل له إذا نظر إليه أن ينتقل إلى أنّ الله سبحانه هو السبب الأعلى الّذي ينتهي إليه حدوثه و وجوده، و لذا نبهّهم الله سبحانه في كلامه بإرجاع نظرهم إليها و دلالتهم على وحدانيّته في الربوبيّة.

و قد ورد في كلامه تعالى شي‏ء كثير من هذا القبيل كإمساك السماوات بغير عمد و إمساك الأرض و حفظ السفن على الماء و اختلاف الأثمار و الألوان و الألسنة و غيرها ممّا كان سببه الطبيعيّ القريب خفيّاً في الجملة يسهل للذهن الساذج الانتقال إلى استناده إليه تعالى ثمّ إذا تنبّه لوجود أسبابه القريبة بنوع من المجاهدة الفكرية وجد الحاجة بعينها في أسبابه حتّى تنتهي إليه تعالى و أنّ إلى ربّك المنتهى.

قال في الكشّاف: فإن قلت: لم قيل: و يقبضن و لم يقل: و قابضات؟ قلت: لأنّ الأصل في الطيران هو صفّ الأجنحة لأنّ الطيران في الهواء كالسباحة في الماء و الأصل في السباحة هو مدّ الأطراف و بسطها و أمّا القبض فطارئ على البسط للاستظهار به على التحرّك فجي‏ء بما هو طار غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنّهنّ صافّات و يكون منهنّ القبض تارة كما يكون من السابح. انتهى.

و هو مبنيّ على أن تكون الآية هي مجموع قوله:( صافَّاتٍ وَ يَقْبِضْنَ ) و هو الطيران، و يمكن أن يستفاد أنّ الآية عدم سقوطهنّ و هن صافّات، و آية اُخرى أنّهنّ ربّما يقبضن و لا يسقطن حينما يقبضن.

و لا يخفى ما في ذكر طيران الطير في الهواء بعد ذكر جعل الأرض ذلولاً و الإنسان على مناكبها من اللطف.

١٦

قوله تعالى: ( أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ ) توبيخ و تقريع لهم في اتّخاذهم آلهة من دون الله لينصروهم و لذا التفت عن الغيبة إلى الخطاب فخاطبهم ليشتدّ عليهم التقريع.

و قوله:( أَمَّنْ هذَا الَّذِي ) إلخ، معناه بل من الّذي يشار إليه فيقال: هذا جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن أرادكم بسوء أو عذاب؟ فليس دون الله من ينصركم عليه، و فيه إشارة إلى خطإهم في اتّخاذ بعض خلق الله آلهة لينصروهم في النوائب و هم مملوكون لله لا يملكون لأنفسهم نفعاً و ضرّاً و لا لغيرهم.

و إذ لم يكن لهم جواب أجاب تعالى بقوله:( إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ ) أي أحاط بهم الغرور و غشيهم فخيّل إليهم ما يدّعون من اُلوهيّة آلهتهم.

قوله تعالى: ( أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَ نُفُورٍ ) أي بل من الّذي يشار إليه بأنّ هذا هو الّذي يرزقكم إن أمسك الله رزقه فينوب مقامه فيرزقكم؟ ثمّ أجاب سبحانه بقوله:( بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَ نُفُورٍ ) أي إنّ الحقّ قد تبيّن لهم لكنّهم لا يخضعون للحقّ بتصديقه ثمّ اتّباعه بل تمادوا في ابتعادهم من الحقّ و نفورهم منه، و لجّوا في ذلك.

قوله تعالى: ( أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى‏ وَجْهِهِ أَهْدى‏ أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) إكباب الشي‏ء على وجهه إسقاطه عليه، و قال في الكشّاف: معنى أكبّ دخل في الكبّ و صار ذا كبّ.

استفهام إنكاري عن استواء الحالين تعريضاً لهم بعد ضرب حجاب الغيبة عليهم و تحريمهم من تشريف الحضور و الخطاب بعد استقرار اللجاج فيهم، و المراد أنّهم بلجاجهم في عتوّ عجيب و نفور من الحقّ كمن يسلك سبيلاً و هو مكبّ على وجه لا يرى ما في الطريق من ارتفاع و انخفاض و مزالق و معاثر فليس هذا السائر كمن يمشي سويّا على صراط مستقيم فيرى موضع قدمه و ما يواجهه من الطريق على استقامة، و ما يقصده من الغاية و هؤلاء الكفّار سائرون سبيل الحياة و هم يعاندون الحقّ على علم به فيغمضون عن معرفة ما عليهم أن يعرفوه و العمل بما عليهم أن يعملوا به و لا

١٧

يخضعون للحقّ حتّى يكونوا على بصيرة من الأمر و يسلكوا سبيل الحياة و هم مستوون على صراط مستقيم فيأمنوا الهلاك.

و قد ظهر أنّ ما في الآية مثل عامّ يمثّل حال الكافر الجاهل اللجوج المتمادي على جهله و المؤمن المستبصر الباحث عن الحقّ.

( بحث روائي)

في الكافي، بإسناده عن سعد عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: القلب أربعة: قلب فيه نفاق و إيمان، و قلب منكوس، و قلب مطبوع، و قلب أزهر. فقلت: ما الأزهر، قال: فيه كهيئة السراج.

فأمّا المطبوع فقلب المنافق، و أمّا الأزهر فقلب المؤمن إن أعطاه شكر و إن ابتلاه صبر، و أمّا المنكوس فقلب المشرك ثمّ قرأ هذه الآية( أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى‏ وَجْهِهِ أَهْدى‏ أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) ، فأمّا القلب الّذي فيه إيمان و نفاق فقوم كانوا بالطائف فإن أدرك أحدهم أجله على نفاقه هلك و إن أدركه على إيمانه نجى.

أقول: و رواه في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن الفضيل عن سعد الخفّاف عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: إنّ القلوب أربعة، و ساق الحديث إلى آخره إلّا أنّ فيه: و قلب أزهر أنور.

و قوله:( فهم قوم كانوا بالطائف) المراد به الطائف الشيطانيّ الّذي ربّما يمسّ الإنسان قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ ) الأعراف: ٢٠١، فالمعنى أنّهم يعيشون مع طائف شيطانيّ يمسّهم حيناً بعد حين فإن أدركهم الأجل و الطائف معهم هلكوا و إن أدركهم و هم في حال الإيمان نجوا.

و اعلم أنّ هناك روايات تطبّق قوله:( أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى‏ وَجْهِهِ ) الآية على من حاد عن ولاية عليّعليه‌السلام و من يتّبعه و يواليه، و هي من الجري و الله أعلم.

١٨

( سورة الملك الآيات ٢٣ - ٣٠)

قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ ( ٢٣ ) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( ٢٤ ) وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ٢٥ ) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( ٢٦ ) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ ( ٢٧ ) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( ٢٨ ) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( ٢٩ ) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ ( ٣٠ )

( بيان‏)

آيات اُخر يذكّرهم الله تعالى بها دالّة على وحدانيّته تعالى في الخلق و التدبير مقرونة بالإنذار و التخويف، جارية على غرض السورة و هو التذكرة بالوحدانيّة مع الإنذار غير أنّه تعالى لما أشار إلى لجاجهم و عنادهم للحقّ في قوله السابق:( بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَ نُفُورٍ ) غير السياق بالإعراض عن خطابهم و الالتفات إلى خطاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمره أن يتصدّى خطابهم و يقرع أسماعهم آياته في الخلق و التدبير الدالّة على توحّده في الربوبيّة و إنذارهم بعذاب الله، و ذلك قوله:( قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ ) إلخ،

١٩

( قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ ) إلخ،( قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ ) إلخ،( قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ ) إلخ،( قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ ) إلخ،( قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً ) إلخ.

قوله تعالى: ( قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ ) الإنشاء إحداث الشي‏ء ابتداء و تربّيه.

ما في ذيل الآية من لحن العتاب في قوله:( قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ ) و قد تكرّر نظيره في غير موضع من كلامه كما في سورة المؤمنون(١) و الم السجدة(٢) يدلّ على أنّ إنشاءه تعالى الإنسان و تجهيزه بجهاز الحسّ و الفكر من أعظم نعمه تعالى الّتي لا يقدّر قدرها.

و ليس المراد بإنشائه مجرّد خلقه كيفما كان بل خلقه و إحداثه من دون سابقه في مادّته كما أشار إليه في قوله يصف خلقه طوراً بعد طور:( وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً - إلى أن قال -ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ) المؤمنون: ١٤، فصيرورة المضغة إنساناً سميعاً بصيراً متفكّراً بتركيب النفس الإنسانيّة عليها خلق آخر لا يسانخ أنواع الخلقة المادّيّة الواردة على مادّة الإنسان من أخذها من الأرض ثمّ جعلها نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة فإنّما هي أطوار مادّيّة متعاقبة بخلاف صيرورتها إنساناً ذا شعور فلا سابقة لها تماثلها أو تشابهها فهو الإنشاء.

و مثله قوله:( وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ) الروم: ٢٠ (انظر إلى موضع إذا الفجائيّة).

فقوله:( هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ ) إشارة إلى خلق الإنسان.

و قوله:( وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ ) إشارة إلى تجهيزه بجهاز الحسّ و الفكر، و الجعل إنشائيّ كجعل نفس الإنسان كما يشير إليه قوله:( وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ ) المؤمنون: ٧٨.

____________________

(١) الآية ٧٨.

(٢) الآية ٩

٢٠

فالإنسان بخصوصيّة إنشائه و كونه بحيث يسمع و يبصر يمتاز من الجماد و النبات - و الاقتصار بالسمع و البصر من سائر الحواسّ كاللمس و الذوق و الشمّ لكونهما العمدة و لا يبعد أن يكون المراد بالسمع و البصر مطلق الحواسّ الظاهرة من باب إطلاق الجزء و إرادة الكلّ - و بالفؤاد و هو النفس المتفكّرة يمتاز من سائر الحيوان.

و قوله:( قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ ) أي تشكرون قليلاً على هذه النعمة - أو النعم - العظمى فما زائدة و قليلاً مفعول مطلق تقديره تشكرون شكراً قليلاً، و قيل: ما مصدريّة و المعنى: قليلا شكركم.

قوله تعالى: ( قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) الذرء الخلق و المراد بذرئهم في الأرض خلقهم متعلّقين بالأرض فلا يتمّ لهم كمالهم إلّا بأعمال متعلّقة بالمادّة الأرضيّة بما زيّنها الله تعالى بما تنجذب إليه النفس الإنسانيّة في حياتها المعجّلة ليمتاز به الصالح من الطالح قال تعالى:( إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً ) الكهف: 8.

و قوله:( وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) إشارة إلى البعث و الجزاء و وعد جازم.

قوله تعالى: ( وَ يَقُولُونَ مَتى‏ هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) المراد بهذا الوعد الحشر الموعود، و هو استعجال منهم استهزاء.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) جواب عن قولهم:( مَتى‏ هذَا الْوَعْدُ ) إلخ، و محصّله أنّ العلم به عندالله لا يعلم به إلّا هو كما قال:( لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ) الأعراف: 187، و ليس لي إلّا أنّي نذير مبين اُمرت أن اُخبركم أنّكم إليه تحشرون و أمّا أنّه متى هو فليس لي بذلك علم.

هذا على ما يفيده وقوع الآية في سياق الجواب عن السؤال عن وقت الحشر، و على هذا تكون اللام في العلم للعهد، و المراد العلم بوقت الحشر، و أمّا لو كانت للجنس على ما تفيده جملة( إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ ) في نفسها فالمعنى: إنّما حقيقة العلم عندالله و لا يحاط بشي‏ء منه إلّا بإذنه كما قال:( وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما

٢١

شاءَ ) البقرة: 255، و لم يشأ أن أعلم من ذلك إلّا أنّه سيقع و اُنذركم به و أمّا أنّه متى يقع فلا علم لي به.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) إلخ، الزلفة القرب و المراد به القريب أو هو من باب زيد عدل، و ضمير( رَأَوْهُ ) للوعد و قيل للعذاب و المعنى: فلمّا رأوا الوعد المذكور قريباً قد أشرف عليهم ساء ذلك وجوه الّذين كفروا به فظهر في سيماهم أثر الخيبة و الخسران.

و قوله:( وَ قِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ ) قيل تدعون و تدّعون بمعنى واحد كتدخرون و تدّخرون و المعنى: و قيل لهم: هذا هو الوعد الّذي كنتم تسألونه و تستعجلون به بقولكم: متى هذا الوعد، و ظاهر السياق أنّ القائل هم الملائكة بأمر من الله، و قيل القائل من الكفّار يقوله بعضهم لبعض.

قوله تعالى: ( قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَ مَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ) ( إِنْ ) شرطيّة شرطها قوله:( أَهْلَكَنِيَ اللهُ ) و جزاؤها قوله:( فَمَنْ يُجِيرُ ) إلخ، و المعنى: قل لهم أخبروني إن أهلكني الله و من معي من المؤمنين أو رحمنا فلم يهلكنا فمن الّذي يجير و يعيد الكافرين - و هم أنتم كفرتم بالله فاستحققتم أليم العذاب - من عذاب أليم يهدّدهم تهديداً قاطعاً أي إنّ هلاكي و من معي و بقاؤنا برحمة ربّي لا ينفعكم شيئاً في العذاب الّذي سيصيبكم قطعاً بكفركم بالله.

قيل: إنّ كفّار مكّة كانوا يدعون على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و على المؤمنين بالهلاك فأمرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول لهم إن أهلكنا الله تعالى أو أبقانا فأمرنا إلى الله و نرجو الخير من رحمته و أمّا أنتم فما تصنعون؟ من يجيركم من أليم العذاب على كفركم بالله.؟

قوله تعالى: ( قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) الضمير للّذي يدعو إلى توحيده و هم يدعونه عليه، و المعنى: قل الّذي أدعوكم إلى توحيده و تدعونه عليّ و على من معي هو الرحمن الّذي عمّت نعمته كلّ شي‏ء آمنّا به و عليه توكّلنا من غير أن نميل و نعتمد على شي‏ء دونه فستعلمون أيّها الكفّار من هو في ضلال مبين؟ نحن أم أنتم.؟

٢٢

قال في الكشّاف: فإن قيل: لم اُخّر مفعول( آمَنَّا ) و قدّم مفعول( تَوَكَّلْنا ) ؟ قلت: لوقوع آمنّا تعريضاً بالكافرين حين ورد عقيب ذكرهم كأنّه قيل: آمنّا و لم نكفر كما كفرتم، ثمّ قال: و عليه توكّلنا خصوصاً لم نتّكل على ما أنتم متّكلون عليه من رجالكم و أموالكم.

قوله تعالى: ( قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ ) الغور ذهاب الماء و نضوبه في الأرض و المراد به الغائر، و المعين الظاهر الجاري من الماء، و المعنى: أخبروني إن صار ماؤكم غائراً ناضباً في الأرض فمن يأتيكم بماء ظاهر جار.

و هناك روايات تطبّق الآيات على ولاية عليّعليه‌السلام و محادّته، و هي من الجري و ليست بمفسّرة.

٢٣

( سورة القلم مكّيّة و هي اثنتان و خمسون آية)

( سورة القلم الآيات 1 - 33)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ( 1 ) مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ( 2 ) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ( 3 ) وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ( 4 ) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ( 5 ) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ ( 6 ) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ( 7 ) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ( 8 ) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ( 9 ) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ ( 10 ) هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ( 11 ) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ( 12 ) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ ( 13 ) أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ( 14 ) إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ( 15 ) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ( 16 ) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ( 17 ) وَلَا يَسْتَثْنُونَ ( 18 ) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ ( 19 ) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ( 20 ) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ ( 21 ) أَنِ اغْدُوا عَلَىٰ حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ ( 22 ) فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ( 23 ) أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ ( 24 ) وَغَدَوْا عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ ( 25 ) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ( 26 ) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ( 27 ) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ ( 28 ) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ( 29 ) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ

٢٤

يَتَلَاوَمُونَ ( 30 ) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ ( 31 ) عَسَىٰ رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ ( 32 ) كَذَٰلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( 33 )

( بيان‏)

السورة تعزّى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إثر ما رماه المشركون بالجنون و تطيّب نفسه بالوعد الجميل و الشكر على خلقه العظيم و تنهاه نهياً بالغاً عن طاعتهم و مداهنتهم، و تأمره أمراً أكيداً بالصبر لحكم ربّه.

و سياق آياتها على الجملة سياق مكّيّ، و نقل عن ابن عباس و قتادة أنّ صدرها إلى قوله:( سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ) - ستّة عشرة آية - مكّيّ، و ما بعده إلى قوله:( لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) - سبع عشرة آية - مدنيّ، و ما بعده إلى قوله:( يَكْتُبُونَ ) - خمس عشرة آية - مكّيّ، و ما بعده إلى آخر السورة - أربع آيات - مدنيّ.

و لا يخلو من وجه بالنسبة إلى الآيات السبع عشرة( إِنَّا بَلَوْناهُمْ - إلى قوله -لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) فإنّها أشبه بالمدنيّة منها بالمكّيّة.

قوله تعالى: ( ن ) تقدّم الكلام في الحروف المقطّعة الّتي في أوائل السور في تفسير سورة الشورى.

قوله تعالى: ( وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ ) القلم معروف، و السطر بالفتح فالسكون و ربّما يستعمل بفتحتين - كما في المفردات - الصفّ من الكتابة، و من الشجر المغروس و من القوم الوقوف و سطر فلان كذا كتب سطراً سطراً.

أقسم سبحانه بالقلم و ما يسطرون به و ظاهر السياق أنّ المراد بذلك مطلق القلم و مطلق ما يسطرون به و هو المكتوب فإنّ القلم و ما يسطر به من الكتابة من أعظم النعم الإلهيّة الّتي اهتدى إليها الإنسان يتلو الكلام في ضبط الحوادث الغائبة عن الأنظار

٢٥

و المعاني المستكنّة في الضمائر، و به يتيسّر للإنسان أن يستحضر كلّ ما ضرب مرور الزمان أو بعد المكان دونه حجاباً.

و قد امتنّ الله سبحانه على الإنسان بهدايته إليهما و تعليمهما له فقال في الكلام( خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ ) الرحمن: 4 و قال في القلم:( عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ) العلق: 5.

فإقسامه تعالى بالقلم و ما يسطرون إقسام بالنعمة، و قد أقسم تعالى في كلامه بكثير من خلقه بما أنّه رحمة و نعمة كالسماء و الأرض و الشمس و القمر و الليل و النهار إلى غير ذلك حتّى التين و الزيتون.

و قيل:( ما ) في قوله:( وَ ما يَسْطُرُونَ ) مصدريّة و المراد به الكتابة.

و قيل: المراد بالقلم القلم الأعلى الّذي في الحديث أنّه أوّل ما خلق الله و بما يسطرون ما يسطره الحفظة و الكرام الكاتبون و احتمل أيضاً أن يكون الجمع في( يَسْطُرُونَ ) للتعظيم لا للتكثير و هو كما ترى، و احتمل أن يكون المراد ما يسطرون فيه و هو اللوح المحفوظ و احتمل أن يكون المراد بالقلم و ما يسطرون أصحاب القلم و مسطوراتهم و هي احتمالات واهية.

قوله تعالى: ( ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ) مقسم عليه و الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و الباء في( بِنِعْمَةِ ) للسببية أو المصاحبة أي ما أنت بمجنون بسبب النعمة - أو مع النعمة - الّتي أنعمها عليك ربّك.

و السياق يؤيّد أنّ المراد بهذه النعمة النبوّة فإنّ دليل النبوّة يدفع عن النبيّ كلّ اختلال عقليّ حتّى تستقيم الهداية الإلهيّة اللّازمة في نظام الحياة الإنسانيّة، و الآية تردّ ما رموه به من الجنون كما يحكي عنهم في آخر السورة( وَ يَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ) .

و قيل: المراد بالنعمة فصاحتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عقله الكامل و سيرته المرضيّة و براءته من كلّ عيب و اتّصافه بكلّ مكرمة فظهور هذه الصفات فيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينافي حصول الجنون فيه و ما قدّمناه أقطع حجّة و الآية و ما يتلوها كما ترى تعزية للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تطييب

٢٦

لنفسه الشريفة و تأييد له كما أنّ فيها تكذيباً لقولهم.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ) الممنون من المنّ بمعنى القطع يقال: منّه لسير منّاً إذا قطعه و أضعفه لا من المنّة بمعنى تثقيل النعمة قولاً.

و المراد بالأجر أجر الرسالة عندالله سبحانه، و فيه تطييب لنفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أنّ له على تحمّل رسالة الله أجراً غير مقطوع و ليس يذهب سدىً.

و ربّما اُخذ المنّ بمعنى ذكر المنعم إنعامه على المنعم عليه بحيث يثقل عليه و يكدّر عيشه بتقريب أنّ ما يعطيه الله أجر في مقابل عمله فهو يستحقّه عليه تعالى فلا منّه عليه و هو غير سديد فإنّ كلّ عامل مملوك لله سبحانه بحقيقة معنى الملك بذاته و صفاته و أعماله فما يعطيّه العبد من ذلك فهو موهبة و عطيّة و ما يملكه العبد من ذلك فإنّما يملكه بتمليك الله و هو المالك لما ملّكه من قبل و من بعد فهو تفضّل منه تعالى و لئن سمّى ما يعطيه بإزاء العمل أجراً و سمّى ما بينه و بين عبده من مبادلة العمل و الأجر معاملة فذلك تفضّل آخر فللّه سبحانه المنّة على جميع خلقه و الرسول و من دونه فيه سواء.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) الخلق هو الملكة النفسانيّة الّتي تصدر عنها الأفعال بسهولة و ينقسم إلى الفضيلة و هي الممدوحة كالعفّة و الشجاعة، و الرذيلة و هي المذمومة كالشره و الجبن لكنه إذا اُطلق فهم منه الخلق الحسن.

قال الراغب: و الخلق - بفتح الخاء - و الخلق - بضمّ الخاء - في الأصل واحد كالشَرب و الشُرب و الصرم و الصُرم لكن خصّ الخلق - بالفتح - بالهيئات و الأشكال و الصور المدركة بالبصر، و خصّ الخلق - بالضمّ - بالقوى و السجايا المدركة بالبصيرة قال تعالى:( وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) انتهى.

و الآية و إن كانت في نفسها تمدح حسن خلقهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تعظّمه غير أنّها بالنظر إلى خصوص السياق ناظرة إلى أخلاقه الجميلة الاجتماعيّة المتعلّقة بالمعاشرة كالثبات على الحقّ و الصبر على أذى الناس و جفاء أجلافهم و العفو و الإغماض و سعة البذل و الرفق و المداراة و التواضع و غير ذلك، و قد أوردنا في آخر الجزء السادس من الكتاب

٢٧

ما روي في جوامع أخلاقهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و ممّا تقدّم يظهر أنّ ما قيل: إنّ المراد بالخلق الدين و هو الإسلام غير مستقيم إلّا بالرجوع إلى ما تقدّم.

قوله تعالى: ( فَسَتُبْصِرُ وَ يُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ ) تقريع على محصّل ما تقدّم أي فإذا لم تكن مجنوناً بل متلبّساً بالنبوّة و متخلّقاً بالخلق و لك عظيم الأجر من ربّك فسيظهر أمر دعوتك و ينكشف على الأبصار و البصائر من المفتون بالجنون؟ أنت أو المكذّبون الرامون لك بالجنون.

و قيل: المراد ظهور عاقبة أمر الدعوة له و لهم في الدنيا أو في الآخرة؟ الآية تقبل الحمل على كلّ منها. و لكلّ قائل، و لا مانع من الجمع فإنّ الله تعالى أظهر نبيّه عليهم و دينه على دينهم، و رفع ذكرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و محا أثرهم في الدنيا و سيذوقون وبال أمرهم غداً و يعلمون(1) أنّ الله هو الحقّ المبين يوم هم(2) على النار يفتنون ذوقوا فتنتكم هذا الّذي كنتم به تستعجلون.

و قوله:( بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ ) الباء زائدة للصلة، و المفتون اسم مفعول من الفتنة بمعنى الابتلاء يريد به المبتلى بالجنون و فقدان العقل، و المعنى: فستبصر و يبصرون أيّكم المفتون المبتلى بالجنون؟ أنت أم هم.؟

و قيل: المفتون مصدر على زنة مفعول كمعقول و ميسور و معسور في قولهم: ليس له معقول، و خذ ميسوره، و دع معسوره، و الباء في( بِأَيِّكُمُ ) بمعنى في و المعنى: فستبصر و يبصرون في أي الفريقين الفتنة.

قوله تعالى: ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) لمّا اُفيد بما تقدّم من القول أنّ هناك ضلالاً و اهتداء، و اُشير إلى أنّ الرامين للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجنون هم المفتونون الضالّون و سيظهر أمرهم و أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

____________________

(1) النور: 35.

(2) الذاريات: 14

٢٨

مهتد و كان ذلك ببيان من الله سبحانه أكّد ذلك بأنّ الله أعلم بمن ضلّ عن سبيله و هو أعلم بالمهتدين لأنّ السبيل سبيله و هو أعلم بمن هو في سبيله و من ليس فيه و إليه أمر الهداية.

قوله تعالى: ( فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ) تفريع على المحصّل من معنى الآيات السابقة و في المكذّبين معنى العهد و المراد بالطاعة مطلق الموافقة عملاً أو قولاً، و المعنى: فإذا كان هؤلاء المكذّبون لك مفتونين ضالّين فلا تطعهم.

قوله تعالى: ( وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ) الإدهان من الدهن يراد به التليين أي ودّ و أحبّ هؤلاء المكذّبون أن تليّنهم بالاقتراب منهم في دينك فيليّنوك بالاقتراب منك في دينهم، و محصّله أنّهم ودّوا أن تصالحهم و يصالحوك على أن يتسامح كلّ منكم بعض المسامحة في دين الآخر كما قيل: إنّهم عرضوا عليه أن يكفّ عن ذكر آلهتهم فيكفّوا عنه و عن ربّه.

و بما تقدّم ظهر أنّ متعلّق مودّتهم مجموع( لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ) و أنّ الفاء في( فَيُدْهِنُونَ ) للتفريع لا للسببيّة.

قوله تعالى: ( وَ لا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ - إلى قوله -زَنِيمٍ ) الحلّاف كثير الحلف، و لازم كثرة الحلف و الإقسام في كلّ يسير و خطير و حقّ و باطل أن لا يحترم الحالف شيئاً ممّا يقسم به، و إذا كان حلفه بالله فهو لا يستشعر عظمة الله عزّ اسمه و كفى به رذيلة.

و المهين من المهانة بمعنى الحقارة و المراد به حقارة الرأي، و قيل: هو المكثار في الشرّ، و قيل: هو الكذّاب.

و الهمّاز مبالغة من الهمز و المراد به العيّاب و الطعّان، و قيل: الطعّان بالعين و الإشارة و قيل: كثير الاغتياب.

و المشّاء بنميم النميم: السعاية و الإفساد، و المشّاء به هو نقّال الحديث من قوم إلى قوم على وجه الإفساد بينهم.

و المنّاع للخير كثير المنع لفعل الخير أو للخير الّذي ينال أهله.

٢٩

و المعتدي من الاعتداء و هو المجاوزة للحدّ ظلماً.

و الأثيم هو الّذي كثر إثمه حتّى استقرّ فيه من غير زوال و الإثم هو العمل السيّئ الّذي يبطئ الخير.

و العتلّ بضمّتين هو الفظّ الغليظ الطبع، و فسّر بالفاحش السيّئ الخلق، و بالجافي الشديد الخصومة بالباطل، و بالأكول المنوع للغير، و بالّذي يعتلّ الناس و يجرّهم إلى حبس أو عذاب.

و الزنيم هو الّذي لا أصل له، و قيل: هو الدعيّ الملحق بقوم و ليس منهم، و قيل: هو المعروف باللؤم، و قيل: هو الّذي له علامة في الشرّ يعرف بها و إذا ذكر الشرّ سبق هو إلى الذهن، و المعاني متقاربة.

فهذه صفات تسع رذيلة وصف الله بها بعض أعداء الدين ممّن كان يدعو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الطاعة و المداهنة، و هي جماع الرذائل.

و قوله:( عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ ) معناه أنّه بعد ما ذكر من مثالبه و رذائله عتلّ زنيم قيل: و فيه دلالة على أنّ هاتين الرذيلتين أشدّ معايبه.

و الظاهر أنّ فيه إشارة إلى أنّ له خبائث من الصفات لا ينبغي معها أن يطاع في أمر الحقّ و لو اُغمض عن تلك الصفات فإنّه فظّ خشن الطبع لا أصل له لا ينبغي أن يعبأ بمثله في مجتمع بشريّ فليطرد و لا يطع في قول و لا يتّبع في فعل.

قوله تعالى: ( أَنْ كانَ ذا مالٍ وَ بَنِينَ ) الظاهر أنّه بتقدير لام التعليل و هو متعلّق بفعل محصّل من مجموع الصفات الرذيلة المذكورة أي هو يفعل كذا و كذا لأن كان ذا مال و بنين فبطر بذلك و كفر بنعمة الله و تلبّس بكلّ رذيلة خبيثة بدل أن يشكر الله على نعمته و يصلح نفسه، فالآية في إفادة الذمّ و التهكّم تجري مجرى قوله:( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ ) .

و قيل: إنّه متعلّق بقوله السابق( لا تُطِعْ ) ، و المعنى: لا تطعه لكونه ذا مال و بنين أي لا يحملك كونه ذا مال و بنين على طاعته، و المعنى المتقدّم أقرب و أوسع.

قيل: و لا يجوز تعلّقه بقوله:( قالَ ) في الشرطيّة التالية لأنّ ما بعد الشرط

٣٠

لا يعمل فيما قبله عند النحاة.

قوله تعالى: ( إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) الأساطير جمع اُسطورة و هي القصّة الخرافيّة، و الآية تجري مجرى التعليل لقوله السابق:( لا تُطِعْ ) .

قوله تعالى: ( سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ) الوسم و السمة وضع العلامة، و الخرطوم الأنف، و قيل: إنّ في إطلاق الخرطوم على أنفه و إنّما يطلق في الفيل و الخنزير تهكّماً، و في الآية وعيد على عداوته الشديدة لله و رسوله و ما نزّله على رسوله.

و الظاهر أنّ الوسم على الأنف اُريد به نهاية إذلاله بذلّة ظاهرة يعرفه بها كلّ من رآه فإنّ الأنف ممّا يظهر فيه العزّة و الذلّة كما يقال: شمخ فلان بأنفه و حمي فلان أنفه و أرغمت أنفه و جدع أنفه.

و الظاهر أنّ الوسم على الخرطوم ممّا سيقع يوم القيامة لا في الدنيا و إن تكلّف بعضهم في توجيه حمله على فضاحته في الدنيا.

قوله تعالى: ( إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ - إلى قوله -كَالصَّرِيمِ ) البلاء الاختبار و إصابة المصيبة، و الصرم قطع الثمار من الأشجار، و الاستثناء عزل البعض من حكم الكلّ و أيضاً الاستثناء قول إن شاء الله عند القطع بقول و ذلك أنّ الأصل فيه الاستثناء فالأصل في قولك: أخرج غداً إن شاء الله هو أخرج غداً إلّا أن يشاء الله أن لا أخرج، و الطائف العذاب الّذي يأتي بالليل، و الصريم الشجر المقطوع ثمره، و قيل: الليل الأسود، و قيل: الرمل المقطوع من سائر الرمل و هو لا ينبت شيئاً و لا يفيد فائدة.

الآيات أعني قوله:( إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ ) إلى تمام سبع عشرة آية وعيد لمكذّبي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الرامين له بالجنون، و في التشبيه و التنظير دلالة على أنّ هؤلاء المكذّبين معذّبون لا محالة و العذاب الواقع عليهم قائم على ساقه، غير أنّهم غافلون و سيعلمون، فهم مولعون اليوم بجمع المال و تكثير البنين

٣١

مستكبرون بها معتمدون عليها و على سائر الأسباب الظاهريّة الّتي توافقهم و تشايع أهواءهم من غير أن يشكروا ربّهم على هذه النعم و يسلكوا سبيل الحقّ و يعبدوا ربّهم حتّى يأتيهم الأجل و يفاجئهم عذاب الآخرة أو عذاب دنيويّ من عنده كما فاجأهم يوم بدر فيروا انقطاع الأسباب عنهم و أنّ المال و البنين سدىً لا ينفعهم شيئاً كما شاهد نظير ذلك أصحاب الجنّة من جنّتهم و سيندمون على صنيعهم و يرغبون إلى ربّهم و لا يرد ذلك عذاب الله كما ندم أصحاب الجنّة و تلاوموا و رغبوا إلى ربّهم فلم ينفعهم ذلك شيئاً كذلك العذاب و لعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون، هذا على تقدير اتّصال الآيات بما قبلها و نزولها معها.

و أمّا على ما رووا أنّ الآيات نزلت في القحط و السنة الّذي أصاب أهل مكّة و قريشاً إثر دعاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم بقوله: اللّهمّ اشدد وطأتك على مضر و اجعلها عليهم سنين كسني يوسف، فالمراد بالبلاء إصابتهم بالقحط و تناظر قصّتهم قصّة أصحاب الجنّة غير أنّ في انطباق ما في آخر قصّتهم من قوله:( فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ ) إلخ، على قصّة أهل مكّة خفاء.

و كيف كان فالمعنى:( إِنَّا بَلَوْناهُمْ ) أصبناهم بالبليّة( كَما بَلَوْنا ) و أصبنا بالبليّة( أَصْحابَ الْجَنَّةِ ) و كانوا قوماً من اليمن و جنّتهم فيها و سيأتي إن شاء الله قصّتهم في البحث الروائيّ الآتي( إِذْ ) ظرف لبلونا( أَقْسَمُوا ) و حلفوا( لَيَصْرِمُنَّها ) أي ليقطعنّ و يقطفنّ ثمار جنّتهم( مُصْبِحِينَ ) داخلين في الصباح و كأنّهم ائتمروا و تشاوروا ليلاً فعزموا على الصرم صبيحة ليلتهم( وَ لا يَسْتَثْنُونَ ) لم يقولوا إلّا أن يشاء الله اعتماداً على أنفسهم و اتّكاء على ظاهر الأسباب. أو المعنى: قالوا و هم لا يعزلون نصيباً من ثمارهم للفقراء و المساكين.

( فَطافَ عَلَيْها ) على الجنّة( طائِفٌ ) أي بلاء يطوف عليها و يحيط بها ليلاً( مِنْ ) ناحية( رَبِّكَ، فَأَصْبَحَتْ ) و صارت الجنّة( كَالصَّرِيمِ ) و هو الشجر المقطوع ثمره أو المعنى: فصارت الجنّة كالليل الأسود لمّا اسودّت بإحراق النار الّتي أرسلها الله إليها أو المعنى: فصارت الجنّة كالقطعة من الرمل لا نبات بها و لا فائدة.

٣٢

قوله تعالى: ( فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ - إلى قوله -قادِرِينَ ) التنادي نداء بعض القوم بعضاً، و الإصباح الدخول في الصباح، و صارمين من الصرم بمعنى قطع الثمار من الشجرة، و المراد به في الآية القاصدون لقطع الثمار، و الحرث الزرع و الشجر، و الخفت الإخفاء و الكتمان، و الحرد المنع و قادرين من القدر بمعنى التقدير.

و المعنى:( فَتَنادَوْا ) أي فنادى بعض القوم بعضاً( مُصْبِحِينَ ) أي و الحال أنّهم داخلون في الصباح( أَنِ اغْدُوا عَلى‏ حَرْثِكُمْ ) تفسير للتنادي أي بكّروا مقبلين على جنّتكم - فاغدوا أمر بمعنى بكّروا مضمّن معنى أقبلوا و لذا عدّي بعلى و لو كان غير مضمّن عدّي بإلى كما في الكشّاف -( إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ ) أي قاصدين عازمين على الصرم و القطع.

( فانطلقوا ) و ذهبوا إلى جنّتهم( وَ هُمْ يَتَخافَتُونَ ) أي و الحال أنّهم يأتمرون فيما بينهم بطريق المخافتة و المكاتمة( أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا ) أي الجنّة( الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ ) أي أخفوا ورودكم الجنّة للصرم من المساكين حتّى لا يدخلوا عليكم فيحملكم ذلك على عزل نصيب من الثمر المصروم لهم( وَ غَدَوْا ) و بكّروا إلى الجنّة( عَلى‏ حَرْدٍ ) أي على منع للمساكين( قادِرِينَ ) مقدّرين في أنفسهم أنّهم سيصرمونها و لا يساهمون المساكين بشي‏ء منها.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ) أي فلمّا رأوا الجنّة و شاهدوها و قد أصبحت كالصريم بطواف طائف من عندالله قالوا: إنّا لضالّون عن الصواب في غدوّنا إليها بقصد الصرم و منع المساكين.

و قيل: المراد إنّا لضالّون طريق جنّتنا و ما هي بها.

و قوله:( بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ) إضراب عن سابقه أي ليس مجرّد الضلال عن الصواب بل حرمنا الزرع.

قوله تعالى: ( قالَ أَوْسَطُهُمْ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ - إلى قوله -راغِبُونَ ) أي( قالَ أَوْسَطُهُمْ ) أي أعدلهم طريقاً و ذلك أنّه ذكّرهم بالحقّ و إن تبعهم في العمل

٣٣

و قيل: المراد أوسطهم سنّا و ليس بشي‏ء( أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ ) و قد كان قال لهم ذلك و إنّما لم يذكر قبل في القصّة إيجازاً بالتعويل على ذكره ههنا.

( لَوْ لا تُسَبِّحُونَ ) المراد بتسبيحهم له تعالى تنزيههم له من الشركاء حيث اعتمدوا على أنفسهم و على سائر الأسباب الظاهريّة فأقسموا ليصرمنّها مصبحين و لم يستثنوا لله مشيّة فعزلوه تعالى عن السببيّة و التأثير و نسبوا التأثير إلى أنفسهم و سائر الأسباب الظاهريّة، و هو إثبات للشريك، و لو قالوا: لنصرمنّها مصبحين إلّا أن يشاء الله كان معنى ذلك نفي الشركاء و أنّهم إن لم يصرموا كان لمشيّة من الله و إن صرموا كان ذلك بإذن من الله فللّه الأمر وحده لا شريك له.

و قيل: المراد بتسبيحهم لله ذكر الله تعالى و توبتهم إليه حيث نووا أن يصرموها و يحرموا المساكين منها، و له وجه على تقدير أن يراد بالاستثناء عزل نصيب من الثمار للمساكين.

قوله تعالى: ( قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ ) تسبيح منهم لله سبحانه إثر توبيخ أوسطهم لهم، أي ننزّه الله تنزيهاً من الشركاء الّذين أثبتناهم فيما حلفنا عليه فهو ربّنا الّذي يدبّر بمشيّته اُمورنا لأنّا كنّا ظالمين في إثباتنا الشركاء فهو تسبيح و اعتراف بظلمهم على أنفسهم في إثبات الشركاء.

و على القول الآخر توبة و اعتراف بظلمهم على أنفسهم و على المساكين.

قوله تعالى: ( فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ ) أي يلوم بعضهم بعضاً على ما ارتكبوه من الظلم.

قوله تعالى: ( قالُوا يا وَيْلَنا - إلى قوله -راغِبُونَ ) الطغيان تجاوز الحدّ و ضمير( مِنْها ) للجنّة باعتبار ثمارها و المعنى: قالوا يا ويلنا إنّا كنّا متجاوزين حدّ العبوديّة إذ أثبتنا شركاء لربّنا و لم نوحّده، و نرجو من ربّنا أن يبدلنا خيراً من هذه الجنّة الّتي طاف عليها طائف منه لأنّا راغبون إليه معرضون عن غيره.

قوله تعالى: ( كَذلِكَ الْعَذابُ وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) العذاب مبتدأ مؤخّر، و كذلك خبر مقدّم أي إنّما يكون العذاب على ما وصفناه في قصّة

٣٤

أصحاب الجنّة و هو أنّ الإنسان يمتحن بالمال و البنين فيطغى مغترّاً بذلك فيستغني بنفسه و ينسى ربّه و يشرك بالأسباب الظاهريّة و بنفسه و يجترئ على المعصية و هو غافل عمّا يحيط به من وبال عمله و يهيّؤ له من العذاب كذلك حتّى إذا فاجأه العذاب و برز له بأهول وجوهه و أمرّها انتبه من نومة الغفلة و تذكّر ما جاءه من النصح قبلاً و ندم على ما فرّط بالطغيان و الظلم و سأل الله أن يعيد عليه النعمة فيشكر كما انتهى إليه أمر أصحاب الجنّة، ففي ذلك إعطاء الضابط بالمثال.

و قوله:( وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) لأنّه ناش عن قهر إلهي لا يقوم له شي‏ء لا رجاء للتخلّص منه و لو بالموت و الفناء كما في شدائد الدنيا، محيط بالإنسان من جميع أقطار وجوده لا كعذاب الدنيا دائم لا انتهاء لأمده كما في الابتلاءات الدنيويّة.

( بحث روائي)

في المعاني، بإسناده عن سفيان بن سعيد الثوريّ عن الصادقعليه‌السلام في تفسير الحروف المقطّعة في القرآن قال: و أمّا ن فهو نهر في الجنّة قال الله عزّوجلّ: اجمد فجمد فصار مداداً ثمّ قال للقلم: اكتب فسطر القلم في اللوح المحفوظ ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة فالمداد مداد من نور و القلم قلم من نور و اللوح لوح من نور.

قال سفيان: فقلت له: يا بن رسول الله بيّن أمر اللوح و القلم و المداد فضل بيان و علّمني ممّا علّمك الله فقال: يا ابن سعيد لو لا أنّك أهل للجواب ما أجبتك فنون ملك يؤدّي إلى القلم و هو ملك، و القلم يؤدّي إلى اللّوح و هو ملك، و اللّوح يؤدّي إلى إسرافيل و إسرافيل يؤدّي إلى ميكائيل و ميكائيل يؤدّي إلى جبرائيل و جبرائيل يؤدّي إلى الأنبياء و الرسل. قال: ثمّ قال: قم يا سفيان فلا آمن عليك.

و فيه، بإسناده عن إبراهيم الكرخيّ قال: سألت جعفر بن محمّدعليه‌السلام عن اللّوح و القلم قال: هما ملكان.

٣٥

و فيه، بإسناده عن الأصبغ بن نباتة عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام :( ن وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ ) القلم قلم من نور و كتاب من نور في لوح محفوظ يشهده المقرّبون و كفى بالله شهيداً.

أقول: و في المعاني المتقدّمة روايات اُخرى عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، و قد تقدّم في ذيل قوله تعالى:( هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ) الجاثية: 29، حديث القمّيّ عن عبدالرحيم القصير عن الصادقعليه‌السلام في اللّوح و القلم و فيه: ثمّ ختم على فم القلم فلم ينطق بعد ذلك و لا ينطق أبداً و هو الكتاب المكنون الّذي منه النسخ كلّها.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير عن معاوية بن قرّة عن أبيه قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( ن وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ ) قال: لوح من نور و قلم من نور يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة.

أقول: و في معناه روايات اُخر، و قوله: يجري بما هو كائن إلخ، أي منطبق على متن الكائنات من دون أن يتخلّف شي‏ء منها عمّا كتب هناك و نظيره ما في رواية أبي هريرة: ثمّ ختم علي في القلم فلم ينطق و لا ينطق إلى يوم القيامة.

و في المعاني، بإسناده عن أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ:( وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) قال: هو الإسلام.

و في تفسير القمّيّ، عن أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ) قال: على دين عظيم.

أقول: يريد اشتمال الدين و الإسلام على كمال الخُلق و استنانهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به، و في الرواية المعروفة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بعثت لاُتمّم مكارم الأخلاق.

و في المجمع، بإسناده عن الحاكم بإسناده عن الضحّاك قال: لمّا رأت قريش تقديم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاً و إعظامه له نالوا من علي و قالوا: قد افتتن به محمّد فأنزل الله تعالى:( ن وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ ) قسم أقسم الله به( ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَ إِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ (يعني القرآن) - إلى قوله -

٣٦

بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ) وهم النفر الّذين قالوا ما قالوا( وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) يعني عليّ بن أبي طالب.

أقول: و رواه في تفسير البرهان، عن محمّد بن العبّاس بإسناده إلى الضحّاك و ساق نحواً ممّا مرّ و في آخره: و سبيله عليّ بن أبي طالب.

و فيه في قوله تعالى:( وَ لا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ ) إلخ، قيل: يعني الوليد بن المغيرة عرض على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المال ليرجع عن دينه، و قيل: يعني الأخنس بن شريق عن عطاء، و قيل: يعني الأسود بن عبد يغوث: عن مجاهد.

أقول: و في ذلك روايات في الدرّ المنثور و غيره تركنا إيرادها من أرادها فليراجع جوامع الروايات.

و فيه، عن شدّاد بن أوس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يدخل الجنّة جوّاظ و لا جعظريّ و لا عتلّ زنيم. قلت: فما الجوّاظ؟ قال: كلّ جمّاع منّاع. قلت: فما الجعظريّ؟ قال: الفظّ الغليظ. قلت: فما العتلّ الزنيم؟ قال: كلّ رحيب الجوف سيّي‏ء الخلق أكول شروب غشوم ظلوم زنيم.

و فيه، في معنى الزنيم: قيل: هو الّذي لا أصل له.

و فيه، في تفسير القمّيّ في قوله:( عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ ) قال: العتلّ العظيم الكفر الزنيم الدعيّ.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ ) إنّ أهل مكّة ابتلوا بالجوع كما ابتلي أصحاب الجنّة و هي كانت في الدنيا و كانت باليمن يقال له الرضوان على تسعة أميال من صنعاء.

و فيه، بإسناده إلى ابن عبّاس: أنّه قيل له إنّ قوماً من هذه الاُمّة يزعمون أنّ العبد يذنب فيحرم به الرزق، فقال ابن عبّاس: فو الله الّذي لا إله إلّا هو هذا أنور في كتاب الله من الشمس الضاحية ذكره الله في سورة ن و القلم.

إنّه كان شيخ و كان له جنّة و كان لا يدخل إلى بيته ثمرة منها و لا إلى منزله حتّى يعطي كلّ ذي حقّ حقّه فلمّا قبض الشيخ ورثه بنوه و كان له خمس من البنين

٣٧

فحملت جنّتهم في تلك السنة الّتي هلك فيها أبوهم حملاً لم يكن حملته قبل ذلك فراحوا الفتية إلى جنّتهم بعد صلاة العصر فأشرفوا على ثمرة و رزق فاضل لم يعاينوا مثله في حياة أبيهم.

فلمّا نظروا إلى الفضل طغوا و بغوا و قال بعضهم لبعض: إنّ أبانا كان شيخاً كبيراً قد ذهب عقله و خرف فهلمّوا نتعاقد فيما بيننا أن لا نعطي أحداً من فقراء المسلمين في عامنا شيئاً حتّى نستغني و يكثر أموالنا ثمّ نستأنف الصنيعة فيما استقبل من السنين المقبلة فرضي بذلك منهم أربعة و سخط الخامس و هو الّذي قال الله:( قالَ أَوْسَطُهُمْ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ ) .

فقال الرجل: يا ابن عبّاس كان أوسطهم في السنّ؟ فقال: لا بل كان أصغرهم سنّاً و أكبرهم عقلاً و أوسط القوم خير القوم، و الدليل عليه في القرآن قوله: إنكم يا اُمّة محمّد أصغر الاُمم و خير الاُمم قوله عزّوجلّ:( وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) .

قال لهم أوسطهم: اتّقوا و كونوا على منهاج أبيكم تسلموا و تغنموا فبطشوا به و ضربوه ضرباً مبرحاً فلمّا أيقن الأخ منهم أنّهم يريدون قتله دخل معهم في مشورتهم كارهاً لأمرهم غير طائع.

فراحوا إلى منازلهم ثمّ حلفوا بالله ليصرمنّ إذا أصبحوا و لم يقولوا إن شاء الله فابتلاهم الله بذلك الذنب و حال بينهم و بين ذلك الرزق الّذي كانوا أشرفوا عليه فأخبر عنهم في الكتاب فقال:( إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَ لا يَسْتَثْنُونَ فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَ هُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ) قال: كالمحترق.

فقال الرجل: يا ابن عبّاس ما الصريم؟ قال: الليل المظلم، ثمّ قال: لا ضوء له و لا نور.

فلمّا أصبح القوم( فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلى‏ حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ ) قال:( فَانْطَلَقُوا وَ هُمْ يَتَخافَتُونَ ) قال الرجل: و ما التخافت يا ابن عبّاس؟ قال: يتشاورون

٣٨

فيشاور بعضهم بعضاً لكيلاً يسمع أحد غيرهم فقالوا:( لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَ غَدَوْا عَلى‏ حَرْدٍ قادِرِينَ ) في أنفسهم أن يصرموها و لا يعلمون ما قد حلّ بهم من سطوات الله و نقمته.

( فَلَمَّا رَأَوْها ) و ما قد حلّ بهم( قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ) فحرمهم الله ذلك الرزق بذنب كان منهم و لم يظلمهم شيئاً.

( قالَ أَوْسَطُهُمْ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ ) قال: يلومون أنفسهم فيما عزموا عليه( قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ عَسى‏ رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى‏ رَبِّنا راغِبُونَ ) فقال الله:( كَذلِكَ الْعَذابُ وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) .

أقول: و قد ورد ما يقرب من مضمون هذا الحديث و الّذي قبله في روايات اُخر و في بعض الروايات أنّ الجنّة كانت لرجل من بني إسرائيل ثمّ مات و ورثه بنوه فكان من أمرهم ما كان.

٣٩

( سورة القلم الآيات 34 - 52)

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( 34 ) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ( 35 ) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ( 36 ) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ( 37 ) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ ( 38 ) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ ( 39 ) سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَٰلِكَ زَعِيمٌ ( 40 ) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ( 41 ) يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ( 42 ) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ( 43 ) فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ( 44 ) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ( 45 ) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ ( 46 ) أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ( 47 ) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ ( 48 ) لَّوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ ( 49 ) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ( 50 ) وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ( 51 ) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ( 52 )

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568