الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن10%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219979 / تحميل: 7018
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

السببيّة لأنّ الخير إذا وقع في محلّ غير صالح قاومه المحلّ بما فيه من الفساد فأفسده فانقلب شرّاً، و قد قال تعالى في صفة القرآن:( وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً ) إسراء: ٨٢.

قوله تعالى: ( وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ ) إلخ ذكر مغفرته تعالى غاية لدعوته و الأصل (دعوتهم ليؤمنوا فتغفر لهم) لأنّ الغرض الإشارة إلى أنّه كان ناصحاً لهم في دعوته و لم يرد إلّا ما فيه خير دنياهم و عقباهم.

و قوله:( جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ ) كناية عن استنكافهم عن الاستماع إلى دعوته، و قوله:( وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ ) أي غطوا بها رؤسهم و وجوههم لئلّا يروني و لا يسمعوا كلامي و هو كناية عن التنفّر و عدم الاستماع إلى قوله.

و قوله:( وَ أَصَرُّوا وَ اسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً ) أي و ألحّوا على الامتناع من الاستماع و استكبروا عن قبول دعوتي استكباراً عجيباً.

قوله تعالى: ( ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ) ( ثُمَّ ) للتراخي بحسب رتبة الكلام و الجهار النداء بأعلى الصوت.

قوله تعالى: ( ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً ) الإعلان و الإسرار متقابلان و هما الإظهار و الإخفاء، و ظاهر السياق أنّ مرجع ضمير لهم في الموضعين واحد فالمعنى دعوتهم سرّاً و علانية فتارة علانية و تارة سرّاً سالكاً في دعوتي كلّ مذهب ممكن و سائراً في كلّ مسير مرجوّ.

قوله تعالى: ( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً - إلى قوله -أَنْهاراً ) علل أمرهم بالاستغفار بقوله:( إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً ) دلالة على أنّه تعالى كثير المغفرة و هي مضافاً إلى كثرتها منه سنّة مستمرّة له تعالى.

و قوله:( يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً ) مجزوم في جواب الأمر، و المراد بالسماء السحاب، و المدرار كثير الدرور بالأمطار.

و قوله:( وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ ) الأمداد إلحاق المدد و هو ما يتقوّى به

١٠١

الممد على حاجته، و الأموال و البنون أقرب الأعضاد الابتدائيّة الّتي يستعين بها المجتمع الإنسانيّ على حوائجه الحيويّة.

و قوله:( وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً ) هما من قسم الأموال غير أنّهما لكونهما من أبسط ضروريّات المعاش خصّاً بالذكر.

و الآيات - كما ترى - تعدّ النعم الدنيويّة و تحكي عنهعليه‌السلام أنّه يعد قومه توافر النعم و تواترها عليهم إن استغفروا ربّهم فلمغفرة الذنوب أثر بالغ في رفع المصائب و النقمات العامّة و انفتاح أبواب النعم من السماء و الأرض أي أنّ هناك ارتباطاً خاصّاً بين صلاح المجتمع الإنسانيّ و فساده و بين الأوضاع العامّة الكونيّة المربوطة بالحياة الإنسانيّة و طيب عيشه و نكده.

كما يدلّ عليه قوله تعالى:( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ) الروم: ٤١، و قوله:( وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ) الشورى: ٣٠، و قوله:( وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ ) الأعراف: ٩٤، و قد تقدّم في تفسير الآيات ما لا يخلو من نفع في هذا المقام.

قوله تعالى: ( ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً ) استفهام إنكاريّ و الوقار - كما في المجمع - بمعنى العظمة اسم من التوقير بمعنى التعظيم، و الرجاء مقابل الخوف و هو الظنّ بما فيه مسرّة، و المراد به في الآية مطلق الاعتقاد على ما قيل، و قيل: المراد به الخوف للملازمة بينهما.

و المعنى: أيّ سبب حصل لكم حال كونكم لا تعتقدون أو لا تخافون لله عظمة توجب أن تعبدوه.

و الحقّ أنّ المراد بالرجاء معناه المعروف و هو ما يقابل الخوف و نفيه كناية عن اليأس فكثيراً ما يكنّى به عنه يقال: لا أرجو فيه خيراً أي أنا آيس من أن يكون فيه خير، و الوقار الثبوت و الاستقرار و التمكّن و هو الأصل في معناه كما صرّح به في المجمع، و وقاره تعالى ثبوته و استقراره في الربوبيّة المستتبع لاُلوهيّته و معبوديّته.

١٠٢

كأنّ الوثنيّين طلبوا ربّاً له وقار في الربوبيّة لعبدوه فيئسوا منه تعالى فعبدوا غيره و هو كذلك فإنّهم يرون أنّه تعالى لا يحيط به أفهامنا فلا سبيل للتوجّه العبادي إليه، و العبادة أداء لحقّ الربوبيّة الّتي يتفرّع عليها تدبير الأمر و تدبير اُمور العالم مفوّض إلى أصناف الملائكة و الجنّ فهم أربابنا الّذين يجب علينا عبادتهم ليكونوا شفعاء لنا عند الله، و أمّا هو تعالى فليس له إلّا الإيجاد إيجاد الأرباب و مربوبيهم جميعاً دون التدبير.

و الآية أعني قوله:( ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً ) و ما يتلوها إلى تمام سبع آيات مسوقة لإثبات وقاره تعالى في الربوبيّة و حجّة قاطعة في نفي ما لفّقوه لوجوب عبادة غيره من الملائكة و غيرهم لاستناد تدبير العالم إليهم، و يتبيّن به إمكان التوجّه العبادي إليه تعالى.

و محصّل الحجّة: ما الّذي دعاكم إلى نفي ربوبيّته تعالى المستتبع للاُلوهيّة و المعبوديّة و اليأس عن وقاره؟ و أنتم تعلمون أنّه تعالى خلقكم و خلق العالم الّذي تعيشون فيه طوراً من الخلق لا ينفكّ عن هذا النظام الجاري فيه، و ليس تدبير الكون و من فيه من الإنسان إلّا التطوّرات المخلوقة في أجزائه و النظام الجاري فيه فكونه تعالى خالقاً هو كونه مالكاً مدبّراً فهو الربّ لا ربّ سواه فيجب أن يتّخذ إلهاً معبوداً.

و يتبيّن به صحّة التوجّه إليه تعالى بالعبادة فإنّا نعرفه بصفاته الكريمة من الخلق و الرزق و الرحمة و سائر صفاته الفعلية فلنا أن نتوجّه إليه بما نعرفه من صفاته(١) .

قوله تعالى: ( وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً ) حال من فاعل( لا تَرْجُونَ ) و الأطوار جمع طور و هو حدّ الشي‏ء و حاله الّتي هو عليها.

____________________

(١) و إنّما أخذناه بما نعرفه من صفاته الفعليّة لأنّ من المنسوب إليهم أنّهم ينكرون صفاته الذاتيّة و يفسّرونها بسلب النقائص فمعنى كونه حيّاً قديراً عليماً عندهم أنّه ليس بميت و لا عاجز و لا جاهل على أنّ الآيات أيضاً تصفه بالصفات الفعليّة، منه.

١٠٣

و محصّل المعنى - لا ترجون لله وقاراً في ربوبيّة - و الحال أنّه أنشأكم طوراً بعد طور يستعقب طوراً آخر فأنشأ الواحد منكم تراباً ثمّ نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة ثمّ جنينا ثمّ طفلاً ثمّ شاباً ثمّ شيخاً و أنشأ جمعكم مختلفة الأفراد في الذكورة و الاُنوثة و الألوان و الهيئات و القوّة و الضعف إلى غير ذلك، و هل هذا إلّا التدبير فهو مدبّر أمركم فهو ربّكم.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ) مطابقة السماوات السبع بعضها لبعض كون بعضها فوق بعض أو تطابقهنّ و تماثلهنّ على الاحتمالين المتقدّمين في تفسير أوائل سورة الملك.

و المراد بالرؤية العلم، و توصيف السماوات السبع - و الكلام مسوق سوق الحجّة - يدلّ على أنّهم كانوا يرون كونها سبعاً و يسلّمون ذلك فاحتجّ عليهم بالمسلّم عندهم.

و كيف كان فوقوع حديث السماوات السبع في كلام نوح دليل على كونه مأثوراً من الأنبياءعليهم‌السلام من أقدم العهود.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً ) الآيات - كما يشهد به سياقها - مسوقة لبيان وقوع التدبير الإلهيّ على الإنسان بما يفيض عليه من النعم حتّى تثبت ربوبيّته فتجب عبادته.

و على هذا فكون الشمس سراجاً هو كونها مضيئة لعالمنا و لولاها لانغمرنا في ظلمة ظلماء، و كون القمر نوراً هو كونه منوّراً لأرضنا بنور مكتسب من الشمس فليس منوّراً بنفسه حتّى يعدّ سراجاً.

و أمّا أخذ السماوات ظرفاً للقمر في قوله:( وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً ) فالمراد به كما قيل كونه في حيّزهنّ و إن كان في واحدة منها كما تقول: إنّ في هذه الدور لبئراً و إن كانت في واحدة منها لأنّ ما كان في إحداهنّ كان فيهنّ و كما تقول: أتيت بني تميم و إنّما أتيت بعضهم.

١٠٤

قوله تعالى: ( وَ اللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ) أي أنبتكم إنبات النبات و ذلك أنّ الإنسان تنتهي خلقته إلى عناصر أرضيّة تركّبت تركّباً خاصّاً به يغتذي و ينمو و يولّد المثل، و هذه حقيقة النبات، فالكلام مسوق سوق الحقيقة من غير تشبيه و استعارة.

قوله تعالى: ( ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَ يُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً ) الإعادة فيها بالإماتة و الإقبار، و الإخراج للجزاء يوم القيامة فالآية و الّتي قبلها قريبتا المعنى من قوله تعالى:( فِيها تَحْيَوْنَ وَ فِيها تَمُوتُونَ وَ مِنْها تُخْرَجُونَ ) الأعراف: ٢٥.

و في قوله:( وَ يُخْرِجُكُمْ ) دون أن يقول: ثمّ يخرجكم إيماء إلى أنّ الإعادة و الإخراج كالصنع الواحد و الإعادة مقدّمة للإخراج، و الإنسان في حالتي الإعادة و الإخراج في دار الحقّ كما أنّه في الدنيا في دار الغرور.

قوله تعالى: ( وَ اللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً ) أي كالبساط يسهل لكم التقلّب من جانب إلى جانب، و الانتقال من قطر إلى قطر.

قوله تعالى: ( لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً ) السبل جمع سبيل بمعنى الطريق و الفجاج جمع فجّ بمعنى الطريق الواسعة، و قيل: الطريق الواقعة بين الجبلين.

قوله تعالى: ( قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَ اتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلَّا خَساراً ) رجوع منهعليه‌السلام إلى شكواه من قومه إلى ربّه بعد ما ذكر تفصيل دعوته لهم و ما ألقاه من القول إليهم من قوله:( ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ) إلى آخر الآيات.

و شكواه السابق له قوله:( فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً ) بعد ما أخبر بإجمال دعوته بقوله:( رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَ نَهاراً ) .

و في الآية دلالة على أنّ العظماء المترفين من قومهعليه‌السلام كانوا يصدّون الناس عنه و يحرّضونهم على مخالفته و إيذائه.

١٠٥

و معنى قوله:( لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلَّا خَساراً ) - و قد عدّ المال و الولد في سابق كلامه من النعم - أنّ المال و الولد الّذين هما من نعمك و كان يجب عليهم شكرهما لم يزيداهم إلّا كفراً و أورثهم ذلك خسراناً من رحمتك.

قوله تعالى: ( وَ مَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً ) الكبّار اسم مبالغة من الكبر.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَ لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لا سُواعاً وَ لا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً ) توصية منهم بالتمسّك بآلهتهم و عدم ترك عبادتها.

و ودّ و سواع و يغوث و يعوق و نسر خمس من آلهتهم لهم اهتمام تامّ بعبادتهنّ و لذا خصّوها بالذكر مع الوصيّة بمطلق الآلهة، و لعلّ تصدير ودّ و ذكر سواع و يغوث بلا المؤكّدة للنفي لكونها أعظم أمراً عندهم من يعوق و نسر و الله أعلم.

قوله تعالى: ( وَ قَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا ) ضمير( أَضَلُّوا ) للرؤساء المتبوعين و يتأيّد به أنّهم هم المحدّث عنهم في قوله:( وَ مَكَرُوا ) ( وَ قالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ) و قيل: الضمير للأصنام فهم المضلّون، و لا يخلو من بعد.

و قوله:( وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا ) دعاء من نوح على الظالمين بالضلال و المراد به الضلال مجازاة دون الضلال الابتدائيّ فهو دعاء منه أن يجازيهم الله بكفرهم و فسقهم مضافاً إلى ما سيحكي عنه من دعائه عليهم بالهلاك.

( بحث روائي‏)

في نهج البلاغة: و قد جعل الله سبحانه الاستغفار سبباً لدرور الرزق و رحمة الخلق فقال سبحانه:( اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ ) فرحم الله امرأ استقبل توبته، و استقال خطيئته، و بادر منيّته‏.

١٠٦

أقول: و الروايات في استفادة سببيّة الاستغفار لسعة الرزق و الأمداد بالأولاد من هذه الآيات كثيرة.

و في الخصال، عن عليّعليه‌السلام في حديث الأربعمائة: أكثر الاستغفار تجلب الرزق.

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله تعالى:( لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً ) قال؟ لا تخافون لله عظمة.

أقول: و قد روي هذا المعنى من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله تعالى:( سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ) يقول بعضها فوق بعض.

و فيه في قوله تعالى:( رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَ اتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلَّا خَساراً ) قال: اتّبعوا الأغنياء.

و في الدرّ المنثور، أخرج البخاريّ و ابن المنذر و ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: صارت الأصنام و الأوثان الّتي كانت في قوم نوح في العرب بعد.

أمّا ودّ فكانت لكلب في دومة الجندل، و أمّا سواع فكانت لهذيل، و أمّا يغوث فكانت لمراد ثمّ لبني غطيف عند سبأ، و أمّا يعوق فكانت لهمدان، و أمّا نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع.

و كانوا أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلمّا هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم الّتي كانوا يجلسون أنصاباً و سمّوها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتّى إذا هلك اُولئك و نسخ العلم عبدت.

أقول: لعلّ المراد بصيرورة تلك الأصنام الّتي كانت لقوم نوح إلى العرب مطابقة ما عند العرب لما كان عندهم في الأسماء أو في الأوصاف و الأسماء، و أمّا انتقال تلك الأصنام بأشخاصهنّ إلى العرب فبعيد غايته.

١٠٧

و روي القصّة أيضاً في علل الشرائع، بإسناده عن جعفر بن محمّدعليه‌السلام كما في الرواية.

و في روضة الكافي، بإسناده عن المفضّل عن أبي عبداللهعليه‌السلام في حديث: فعمل نوح سفينته في مسجد الكوفة بيده فأتي بالخشب من بعد حتّى فرغ منها.

قال: فالتفت عن يساره و أشار بيده إلى موضع دار الداريّين و هو موضع دار ابن حكيم، و ذاك فرات اليوم، فقال لي يا مفضّل و هنا نصبت أصنام قوم نوح: يغوث و يعوق و نسر.

١٠٨

( سورة نوح الآيات ٢٥ - ٢٨)

مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللهِ أَنصَارًا ( ٢٥ ) وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ( ٢٦ ) إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ( ٢٧ ) رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا ( ٢٨ )

( بيان‏)

تتضمّن الآيات هلاك القوم و تتمّة دعاء نوحعليه‌السلام عليهم.

قوله تعالى: ( مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً ) إلخ( مِنْ ) لابتداء الغاية تفيد بحسب المورد التعليل و( مِمَّا ) زائدة لتأكيد أمر الخطايا و تفخيمه، و الخطيئات المعاصي و الذنوب، و تنكير النار للتفخيم.

و المعنى: من أجل معاصيهم و ذنوبهم اُغرقوا بالطوفان فأدخلوا - أدخلهم الله - ناراً لا يقدّر عذابها بقدر، و من لطيف نظم الآية الجمع بين الإغراق بالماء و إدخال النار.

و المراد بالنار نار البرزخ الّتي يعذّب بها المجرمون بين الموت و البعث دون نار الآخرة، و الآية من أدلّة البرزخ إذ ليس المراد أنّهم اُغرقوا و سيدخلون النار يوم القيامة، و لا يعبأ بما قيل: إنّ من الجائز أن يراد بها نار الآخرة.

و قوله:( فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً ) أي ينصرونهم في صرف الهلاك و العذاب عنهم. تعريض لأصنامهم و آلهتهم.

قوله تعالى: ( وَ قالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ) الديّار

١٠٩

نازل الدار، و الآية تتمّة دعائهعليه‌السلام عليهم، و كان قوله:( مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا ) إلخ معترضاً واقعاً بين فقرتي الدعاء للإشارة إلى أنّهم اُهلكوا لما عدّ نوح من خطيئاتهم و لتكون كالتمهيد لسؤاله الهلاك فيتبيّن أنّ إغراقهم كان استجابة لدعائه، و أنّ العذاب استوعبهم عن آخرهم.

قوله تعالى: ( إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً ) تعليل لسؤال إهلاكهم عن آخرهم مفاده أن لا فائدة في بقائهم لا لمن دونهم من المؤمنين فإنّهم يضلّونهم، و لا فيمن يلدونه من الأولاد فإنّهم لا يلدون إلّا فاجراً كفّاراً - و الفجور الفسق الشنيع و الكفّار المبالغ في الكفر -.

و قد استفادعليه‌السلام ما ذكره من صفتهم من الوحي الإلهيّ على ما تقدّم في تفسير قصّة نوح من سورة هود.

قوله تعالى: ( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ ) إلخ المراد بمن دخل بيته مؤمناً المؤمنون به من قومه، و بالمؤمنين و المؤمنات عامّتهم إلى يوم القيامة.

و قوله:( وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً ) التبار الهلاك، و الظاهر أنّ المراد بالتبار ما يوجب عذاب الآخرة و هو الضلال و هلاك الدنيا بالغرق، و قد تقدّماً جميعاً في دعائه، و هذا الدعاء آخر ما نقل من كلامهعليه‌السلام في القرآن الكريم.

١١٠

( سورة الجنّ مكّيّة و هي ثمان و عشرون آية)

( سورة الجنّ الآيات ١ - ١٧)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ( ١ ) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ( ٢ ) وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا ( ٣ ) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللهِ شَطَطًا ( ٤ ) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِبًا ( ٥ ) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ( ٦ ) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللهُ أَحَدًا ( ٧ ) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا ( ٨ ) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا ( ٩ ) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ( ١٠ ) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ( ١١ ) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا ( ١٢ ) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَىٰ آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا ( ١٣ ) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ( ١٤ ) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ( ١٥ ) وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا ( ١٦ ) لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ( ١٧ )

١١١

( بيان‏)

تشير السورة إلى قصّة نفر من الجنّ استمعوا القرآن فآمنوا به و أقرّوا باُصول معارفه، و تتخلّص منها إلى تسجيل نبوّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و الإشارة إلى وحدانيّته تعالى في ربوبيّته و إلى المعاد، و السورة مكّيّة بشهادة سياقها.

قوله تعالى: ( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ ) أمر للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقصّ القصّة لقومه، و الموحي هو الله سبحانه، و مفعول( اسْتَمَعَ ) القرآن حذف لدلالة الكلام عليه، و النفر الجماعة من ثلاثة إلى تسعة على المشهور، و قيل: بل إلى أربعين.

و العجب بفتحتين ما يدعو إلى التعجّب منه لخروجه عن العادة الجارية في مثله، و إنّما وصفوا القرآن بالعجب لأنّه كلام خارق للعادة في لفظه و معناه أتى به رجل اُمّيّ ما كان يقرأ و لا يكتب.

و الرشد إصابة الواقع و هو خلاف الغيّ، و هداية القرآن إلى الرشد دعوته إلى عقائد و أعمال تتضمّن للمتلبّس بها سعادته الواقعيّة.

و المعنى: يا أيّها الرسول قل للناس: أُوحِيَ - أي أوحى الله - إليّ أنّه استمع القرآن جماعة من الجنّ فقالوا - لقومهم لمّا رجعوا إليهم - إنّا سمعنا كلاماً مقروّاً خارقاً للعادة يهدي إلى معارف من عقائد و أعمال في التلبّس بها إصابة الواقع و الظفر بحقيقة السعادة.

( كلام في الجنّ‏)

الجنّ نوع من الخلق مستورون من حواسّنا يصدّق القرآن الكريم بوجودهم و يذكر أنّهم بنوعهم مخلوقون قبل نوع الإنسان، و أنّهم مخلوقون من النار كما أنّ الإنسان مخلوق من التراب قال تعالى:( وَ الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ ) الحجر: ٢٧.

١١٢

و أنّهم يعيشون و يموتون و يبعثون كالإنسان قال تعالى:( أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ ) الأحقاف: ١٨.

و أنّ فيهم ذكوراً و إناثاً يتكاثرون بالتوالد و التناسل قال تعالى:( وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ ) الجنّ: ٦.

و أنّ لهم شعوراً و إرادة و أنّهم يقدرون على حركات سريعة و أعمال شاقّة كما في قصص سليمانعليه‌السلام و تسخير الجنّ له و قصّة ملكة سبأ.

و أنّهم مكلّفون كالإنسان، منهم مؤمنون و منهم كفّار، و منهم صالحون و آخرون طالحون، قال تعالى:( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) الذاريات: ٥٤ و قال تعالى:( إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ) الجنّ: ٢ و قال:( وَ أَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَ مِنَّا الْقاسِطُونَ ) الجنّ: ١٤ و قال:( وَ أَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَ مِنَّا دُونَ ذلِكَ ) الجنّ: ١١ و قال تعالى:( قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى‏ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَ إِلى‏ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ ) الأحقاف: ٣١ إلى غير ذلك من خصوصيّات أحوالهم الّتي تشير إليها الآيات القرآنيّة.

و يظهر من كلامه تعالى أنّ إبليس من الجنّ و أنّ له ذرّيّة و قبيلاً قال تعالى:( كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) الكهف: ٥٠ و قال تعالى:( أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي ) الكهف: ٥٠ و قال تعالى:( إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ ) الأعراف: ٢٧.

قوله تعالى: ( فَآمَنَّا بِهِ وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً ) إخبار عن إيمانهم بالقرآن و تصديقهم بأنّه حقّ، و قوله:( وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً ) تأكيد لمعنى إيمانهم به أنّ إيمانهم بالقرآن إيمان بالله الّذي أنزله فهو ربّهم، و أنّ إيمانهم به تعالى إيمان توحيد لا يشركون به أحداً أبداً.

قوله تعالى: ( وَ أَنَّهُ تَعالى‏ جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَ لا وَلَداً ) فسّر الجدّ بالعظمة و فسّر بالحظّ، و الآية في معنى التأكيد لقولهم:( وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً ) .

و القراءة المشهورة( أَنَّهُ ) بالفتح، و قرئ بالكسر في هذه الآية و فيما بعدها من

١١٣

الآيات - اثنا عشر مورداً - إلى قوله:( وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا ) فبالفتح و هو الأرجح لظهور سياق الآيات في أنّها مقولة قول الجنّ.

و أمّا قراءة الفتح فوجهها لا يخلو من خفاء، و قد وجّهها بعضهم بأنّ الجملة( وَ أَنَّهُ ) إلخ معطوفة على الضمير المجرور في قوله:( فَآمَنَّا بِهِ ) و التقدير و آمنّا بأنّه تعالى جدّ ربّنا إلخ فهو إخبار منهم بالإيمان بنفي الصاحبة و الولد منه تعالى على ما يقول به الوثنيّون.

و هذا إنّما يستقيم على قول الكوفيّين من النحاة بجواز العطف على الضمير المتّصل المجرور، و أمّا على قول البصريّين منهم من عدم جوازه فقد وجّهه بعضهم كما عن الفرّاء و الزّجّاج و الزمخشريّ بأنّها معطوفة على محلّ الجارّ و المجرور و هو النصب فإنّ قوله:( فَآمَنَّا بِهِ ) في معنى صدّقناه، و التقدير و صدّقنا أنّه تعالى جدّ ربّنا إلخ، و لا يخفى ما فيه من التكلّف.

و وجّهه بعضهم بتقدير حرف الجرّ في الجملة المعطوفة و ذلك مطّرد في أن و أنّ، و التقدير آمنّا به و بأنّه تعالى جدّ ربّنا إلخ.

و يرد على الجميع أعمّ من العطف على الضمير المجرور أو على محلّه أو بتقدير حرف الجرّ أنّ المعنى إنّما يستقيم حينئذ في قوله:( وَ أَنَّهُ تَعالى‏ جَدُّ رَبِّنا ) إلخ، و قوله:( وَ أَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا ) إلخ، و أمّا بقيّة الآيات المصدّرة بأنّ كقوله:( وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ ) إلخ، و قوله:( وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ ) إلخ، و قوله:( وَ أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ ) فلا يصحّ قطعاً فلا معنى لأن يقال: آمنّا أو صدّقنا أنّا ظنّنا أن لن تقول الإنس و الجنّ على الله شططا، أو يقال: آمنّا أو صدّقنا أنّه كان رجال من الإنس يعوذون إلخ، أو يقال: آمنّا أو صدّقنا أنّا لمسنا السماء إلخ.

و لا يندفع الإشكال إلّا بالمصير إلى ما ذكره بعضهم أنّه إذا وجّه الفتح في الآيتين الأوّليّين بتقدير الإيمان أو التصديق فليوجّه في كلّ من الآيات الباقية بما يناسبها من التقدير.

١١٤

و وجّه بعضهم الفتح بأنّ قوله:( وَ أَنَّهُ تَعالى‏ ) إلخ و سائر الآيات المصدّرة بأنّ معطوفة على قوله:( أَنَّهُ اسْتَمَعَ ) إلخ.

و لا يخفى فساده فإنّ محصّله أنّ الآيات في مقام الإخبار عمّا اُوحي إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أقوالهم و قد اُخبر عن قولهم: إنّا سمعنا قرآناً عجباً فآمنّا به بعنوان أنّه إخبار عن قولهم ثمّ حكى سائر أقوالهم بألفاظها فالمعنى اُوحي إليّ أنّه استمع نفر من الجنّ فقالوا إنّا سمعنا كذا و كذا و اُوحي إليّ أنّه تعالى جدّ ربّنا إلخ و اُوحي إليّ أنّه كان يقول سفيهنا إلى آخر الآيات.

فيرد عليه أنّ ما وقع في صدر الآيات من لفظة( أَنَّهُ ) و( أَنَّهُمْ ) و( أَنَّا ) إن لم يكن جزء من لفظهم المحكيّ كان زائداً مخلّاً بالكلام، و إن كان جزء من كلامهم المحكيّ بلفظه لم يكن المحكيّ من مجموع أنّ و ما بعدها كلاماً تامّاً و احتاج إلى تقدير ما يتمّ به كلاماً حتّى تصحّ الحكاية، و لم ينفع في ذلك عطفه على قوله:( أَنَّهُ اسْتَمَعَ ) شيئاً فلا تغفل.

قوله تعالى: ( وَ أَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً ) السفه - على ما ذكره الراغب - خفّة النفس لنقصان العقل، و الشطط القول البعيد من الحقّ.

و الآية أيضاً في معنى التأكيد لقولهم:( لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً ) و مرادهم بسفيههم من سبقهم من مشركي الجنّ، و قيل: المراد إبليس و هو من الجنّ، و هو بعيد من سياق قوله:( كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا ) إلخ.

قوله تعالى: ( وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً ) اعتراف منهم بأنّهم ظنّوا أنّ الإنس و الجنّ صادقون فيما يقولون و لا يكذبون على الله فلمّا وجدوهم مشركين و سمعوهم ينسبون إليه تعالى الصاحبة و الولد أذعنوا به و قلّدوهم فيما يقولون فأشركوا مثلهم حتّى سمعوا القرآن فانكشف لهم الحقّ، و فيه تكذيب منهم للمشركين من الإنس و الجنّ.

قوله تعالى: ( وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً ) قال الراغب: العوذ الالتجاء إلى الغير، و قال: رهقه الأمر غشيه بقهر انتهى.

١١٥

و فسّر الرهق بالإثم، و بالطغيان، و بالخوف، و بالشرّ، و بالذلّة و الضعف، و هي تفاسير بلازم المعنى.

و المراد بعوذ الإنس بالجنّ - على ما قيل: أنّ الرجل من العرب كان إذا نزل الوادي في سفره ليلاً قال: أعوذ بعزيز هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه، و نقل عن مقاتل أنّ أوّل من تعوذ بالجنّ قوم من اليمن ثمّ بنو حنيفة ثمّ فشا في العرب.

و لا يبعد أن يكون المراد بالعوذ بالجنّ الاستعانة بهم في المقاصد من طريق الكهانة، و إليه يرجع ما نقل عن بعضهم أنّ المعنى كان رجال من الإنس يعوذون برجال من أجل الجنّ و من معرّتهم و أذاهم.

و الضميران في قوله:( فَزادُوهُمْ ) أوّلهما لرجال من الإنس و ثانيهما لرجال من الجنّ و المعنى فزاد رجال الإنس رجال الجنّ رهقاً بالتجائهم إليهم فاستكبر رجال الجنّ و طغوا و أثموا، و يجوز العكس بأن يكون الضمير الأوّل لرجال الجنّ و الثاني لرجال الإنس، و المعنى فزاد رجال الجنّ رجال الإنس رهقاً أي إثماً و طغياناً أو ذلّة و خوفاً.

قوله تعالى: ( وَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً ) ضمير( أنهم ) لرجال من الإنس، و الخطاب في( ظَنَنْتُمْ ) لقومهم من الجنّ، و المراد بالبعث بعث الرسول بالرسالة فالمشركون ينكرون ذلك، و قيل: المراد به الإحياء بعد الموت، و سياق الآيات التالية يؤيّد الأوّل.

و عن بعضهم أنّ هذه الآية و الّتي قبلها ليستا من كلام الجنّ بل كلامه تعالى معترضاً بين الآيات المتضمّنة لكلام الجنّ، و عليه فضمير( أَنَّهُمْ ) للجنّ و خطاب( ظَنَنْتُمْ ) للناس، و فيه أنّه بعيد من السياق.

قوله تعالى: ( وَ أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَ شُهُباً ) لمس السماء الاقتراب منها بالصعود إليها، و الحرس - على ما قيل - اسم جمع لحارس و لذا وصف بالمفرد و المراد بالحرس الشديد الحفّاظ الأقوياء في دفع من يريد الاستراق

١١٦

منها و لذا شفّع بالشهب و هي سلاحهم.

قوله تعالى: ( وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً ) يفيد انضمام صدر الآية إلى الآية السابقة أنّ مل‏ء السماء بالحرس الشديد و الشهب ممّا حدث أخيراً و أنّهم كانوا من قبل يقعدون من السماء مقاعد لاستماع كلام الملائكة و يفيد ذيل الآية بالتفريع على جميع ما تقدّم أنّ من يستمع الآن منّا بالقعود منها مقعداً للسمع يجد له شهاباً من صفته أنّه راصد له يرميه به الحرس.

فيتحصّل من مجموع الآيتين الإخبار بأنّهم عثروا على حادثة سماوية جديدة مقارنة لنزول القرآن و بعثة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هي منع الجنّ من تلقّي أخبار السماء باستراق السمع.

و من عجيب الاستدلال ما عن بعضهم أنّ في الآيتين ردّا على من زعم أنّ الرجم حدث بعد مبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لظهور قوله:( مُلِئَتْ حَرَساً ) في أنّ الحادث هو المل‏ء و كثرة الحرس لا أصل الحرس، و ظهور قوله:( نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ ) في أنّا كنّا نجد فيها بعض المقاعد خالياً من الحرس و الشهب، و الآن ملئت المقاعد كلّها فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً.

و يدفعه أنّه لو كان المراد بالآيتين هو الإخبار عن مل‏ء السماء بالحرس و تكثير عددهم بحيث لا يوجد فيها مقاعد خالية منهم و قد كانت توجد قبل ذلك كان الواجب أن يتوجّه النفي في قوله:( فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً ) إلى السمع عن جميع المقاعد قبال إثبات السمع من بعض تلك المقاعد لا نفي مجرّد السمع.

سلّمنا أنّ المراد نفي السمع على الإطلاق و هو يكفي في ذلك لكن تعلّق الغرض في الكلام بالإخبار عن الامتلاء بالحرس مع كون بعض المقاعد خالية عنهم قبل ذلك، و كذا تقييد قوله:( فَمَنْ يَسْتَمِعِ ) إلخ، بقوله:( الْآنَ ) يدلّ على حدوث أمر جديد في رجم الجنّ و هو استيعاب الرجم لهم في أيّ مقعد قعدوا و المنع من السمع مطلقاً بعد ما كانوا يستمعون من بعض المقاعد من غير منع، و هذا المقدار كاف للمدّعي فيما يدّعيه.

١١٧

و ليتنبّه أنّ مدلول الآية حدوث رجم الجنّ بشهاب رصد و هو غير حدوث الشهاب السماويّ و هو ظاهر فلا ورود لما قيل: أنّ الشهب السماويّة كانت من الحوادث الجوّيّة الموجودة قبل زمن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و نزول القرآن.

وجه عدم الورود أنّ الّذي يظهر من القرآن حدوث رجم الشياطين من الجنّ بالشهب من غير تعرّض لحدوث أصل الشهب، و قد تقدّم في تفسير أوّل سورة الصافّات بعض ما يتعلّق بهذا المقام.

قوله تعالى: ( وَ أَنَّا لا نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً ) الرشد بفتحتين و الرشد بالضمّ فالسكون خلاف الغيّ و تنكير( رَشَداً ) لإفادة النوع أي نوعاً من الرشد.

هذا منهم إظهار للجهل و التحيّر فيما شاهدوه من أمر الرجم و منع شياطين الجنّ من الاطّلاع على أخبار السماء غير أنّهم تنبّهوا على أنّ ذلك لأمر ما يرجع إلى أهل الأرض إمّا خير أو شرّ و إذا كان خيراً فهو نوع هدى لهم و سعادة و لذا بدّلوا الخير و هو المقابل للشرّ من الرشد، و يؤيّده قولهم:( أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ ) المشعر بالرحمة و العناية.

و قد صرّحوا بالفاعل لإرادة الرشد و حذفوه في جانب الشرّ أدباً و لا يراد شرّ من جانبه تعالى إلّا لمن استحقّه.

قوله تعالى: ( وَ أَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَ مِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً ) الصلاح مقابل الطلاح، و المراد بدون ذلك ما يقرب منه رتبة - على ما قيل -، و الظاهر أنّ دون بمعنى غير، و يؤيّده قوله:( كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً ) الدالّ على التفرّق و التشتّت و الطرائق جمع طريقة و هي الطريق المطروقة المسلوكة، و القدد القطع جمع قدّة بمعنى قطعة من القدّ بمعنى القطع و صفت الطرائق بالقدد لأنّ كلّ واحدة منها مقطوعة عن غيرها تنتهي بسالكها إلى غاية غير ما ينتهي به إليه غيرها، و إلى هذا المعنى يرجع تفسير القدد بالطرائق المتفرّقة المتشتّتة.

و الظاهر أنّ المراد بقوله:( الصَّالِحُونَ ) الصالحون بحسب الطبع الأوّلي في

١١٨

المعاشرة و المعاملة دون الصالحين بحسب الإيمان، و لو كان المراد صلاح الإيمان لكان الأنسب أن يذكر بعد ما سيجي‏ء من حديث إيمانهم لمّا سمعوا الهدى.

و ذكر بعضهم أنّ قوله:( طَرائِقَ قِدَداً ) منصوب على الظرفيّة أي في طرائق قدد و هي المذاهب المتفرّقة المتشتّتة، و قال آخرون إنّه على تقدير مضاف أي ذوي طرائق، و لا يبعد أن يكون من الاستعارة بتشبيههم أنفسهم في الاختلاف و التباين بالطرق المقطوع بعضها من بعض الموصلة إلى غايات متشتّتة.

و المعنى: و أنّا منّا الصالحون طبعاً و منّا غير ذلك كنّا في مذاهب مختلفة أو ذوي مذاهب مختلفة أو كالطرق المقطوعة بعضها عن بعض.

قوله تعالى: ( وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً ) الظنّ هو العلم اليقينيّ، و الأنسب أن يكون المراد بقوله:( لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ ) إعجازه تعالى بالغلبة عليه فيما يشاء فيها و ذلك بالإفساد في الأرض و إخلال النظام الّذي يجري فيها فإنّ إفسادهم لو أفسدوا من القدر، و المراد بقوله:( وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً ) إعجازه تعالى بالهرب منه إذا طلبهم حتّى يفوتوه فلا يقدر على الظفر بهم.

و قيل: المعنى لن نعجزه تعالى كائنين في الأرض و لن نعجزه هرباً إلى السماء أي لن نعجزه لا في الأرض و لا في السماء هذا و هو كما ترى.

قوله تعالى: ( وَ أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى‏ آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَ لا رَهَقاً ) المراد بالهدى القرآن باعتبار ما يتضمّنه من الهدى، و البخس النقص على سبيل الظلم، و الرهق غشيان المكروه.

و الفاء في قوله:( فَمَنْ يُؤْمِنْ ) للتفريع و هو من تفريع العلّة على المعلول لإفادة الحجّة في إيمانهم بالقرآن من دون ريث و لا مهل.

و محصّل المعنى: أنّا لمّا سمعنا القرآن الّذي هو الهدى بادرنا إلى الإيمان به من دون مكث لأنّ من آمن به فقد آمن بربّه و من يؤمن بربّه فلا يخاف نقصاناً في خير أو غشياناً من مكروه حتّى يكفّ عن المبادرة و الاستعجال و يتروّى في الإقدام عليه لئلّا يقع في بخس أو رهق.

١١٩

قوله تعالى: ( وَ أَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَ مِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً ) المراد بالإسلام تسليم الأمر لله تعالى فالمسلمون المسلمون له الأمر المطيعون له فيما يريده و يأمر به، و القاسطون هم المائلون إلى الباطل قال في المجمع: القاسط هو العادل عن الحقّ و المقسط العادل إلى الحقّ، انتهى.

و المعنى: أنّا معشر الجنّ منقسمون إلى من يسلّم لأمر الله مطيعين له، و إلى من يعدل عن التسليم لأمر الله و هو الحقّ.

و قوله:( فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً ) تحرّي الشي‏ء توخّيه و قصده، و المعنى فالّذين أسلموا فاُولئك قصدوا إصابة الواقع و الظفر بالحقّ.

قوله تعالى: ( أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً ) فيعذّبون بتسعّرهم و اشتعالهم بأنفسهم كالقاسطين من الإنس قال تعالى:( فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ ) البقرة: ٢٦.

و قد عدّ كثير منهم قوله:( فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ - إلى قوله -جَهَنَّمَ حَطَباً ) تتمّة لكلام الجنّ يخاطبون به قومهم و قيل: إنّه من كلامه تعالى يخاطب به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ) ( أَنْ ) مخفّفة من الثقيلة، و المراد بالطريقة طريقة الإسلام، و الاستقامة عليها لزومها و الثبات على ما تقتضيه من الإيمان بالله و آياته.

و الماء الغدق الكثير منه، و لا يبعد أن يستفاد من السياق أنّ قوله:( لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً ) مثل اُريد به التوسعة في الرزق، و يؤيّده قوله بعده:( لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ) .

و المعنى: و أنّه لو استقاموا أي الجنّ و الإنس على طريقة الإسلام لله لرزقناهم رزقاً كثيراً لنمتحنهم في رزقهم فالآية في معنى قوله:( وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ ) الأعراف: ٩٦.

و الآية من كلامه تعالى معطوف على قوله في أوّل السورة:( أَنَّهُ اسْتَمَعَ ) إلخ.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

و يندفع بهذا الوجه الاعتراض على ما استدلّ به على المعاد من إطلاق القدرة كما سيجي‏ء، و محصّله أنّ إطلاق القدرة إنّما ينفع فيما كان ممكناً لكن إعادة الإنسان بعينه محال فإنّ الإنسان المخلوق ثانياً مثل الإنسان الدنيويّ المخلوق أوّلاً لا شخصه الّذي خلق أوّلاً و مثل الشي‏ء غير الشي‏ء لا عينه.

وجه الاندفاع أنّ شخصيّة الشخص من الإنسان بنفسه لا ببدنه و النفس محفوظة فإذا خلق البدن و تعلّقت به النفس كان هو الإنسان الدنيويّ بشخصه و إن كان البدن بالقياس إلى البدن مع الغضّ عن النفس، مثلاً لا عيناً.

قوله تعالى: ( فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ ) أي ما هو مبدأ خلقه؟ و ما هو الّذي صيّره الله إنساناً؟

و الجملة متفرّعة على الآية السابقة و ما تدلّ عليه بفحواها بحسب السياق و محصّل المعنى و إذ كانت كلّ نفس محفوظة بذاتها و عملها من غير أن تفنى أو ينسى عملها فليذعن الإنسان أن سيرجع إلى ربّه و يجزي بما عمل و لا يستبعد ذلك و لينظر لتحصيل هذا الإذعان إلى مبدإ خلقه و يتذكّر أنّه خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب و الترائب.

فالّذي بدأ خلقه من ماء هذه صفته يقدر على رجعه و إحيائه بعد الموت.

و في الإتيان بقوله:( خُلِقَ ) مبنيّاً للمفعول و ترك ذكر الفاعل و هو الله سبحانه إيماء إلى ظهور أمره، و نظيره قوله:( خُلِقَ مِنْ ماءٍ ) إلخ.

قوله تعالى: ( خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ ) الدفق تصبّب الماء و سيلانه بدفع و سرعة و الماء الدافق هو المنيّ و الجملة جواب عن استفهام مقدّر يهدي إليه قوله:( مِمَّ خُلِقَ ) .

قوله تعالى: ( يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ ) الصلب الظهر، و الترائب جمع تريبة و هي عظم الصدر.

و قد اختلفت كلماتهم في الآية و ما قبلها اختلافاً عجيباً، و الظاهر أنّ المراد بقوله:( بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ ) البعض المحصور من البدن بين جداري عظام الظهر و

٣٨١

عظام الصدر(1) .

قوله تعالى: ( إِنَّهُ عَلى‏ رَجْعِهِ لَقادِرٌ ) الرجع الإعادة، و ضمير( إِنَّهُ ) له تعالى و اكتفى بالإضمار مع أنّ المقام مقام الإظهار لظهوره نظير قوله:( خُلِقَ ) مبنيّاً للمفعول.

و المعنى أنّ الّذي خلق الإنسان من ماء صفته تلك الصفة، على إعادته و إحيائه بعد الموت - و إعادته مثل بدئه - لقادر لأنّ القدرة على الشي‏ء قدرة على مثله إذ حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد.

قوله تعالى: ( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) ظرف للرجع، و السريرة ما أسرّه الإنسان و أخفاه في نفسه، و البلاء الاختبار و التعرّف و التصفّح.

فالمعنى يوم يختبر ما أخفاه الإنسان و أسرّه من العقائد و آثار الأعمال خيرها و شرّها فيميّز خيرها من شرّها و يجزي الإنسان به فالآية في معنى قوله تعالى:( إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ) البقرة: 284.

قوله تعالى: ( فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَ لا ناصِرٍ ) أي لا قدرة له في نفسه يمتنع بها من عذاب الله و لا ناصر له يدفع عنه ذلك أي لا قدرة هناك يدفع عنه الشرّ لا من نفسه و لا من غيره.

قوله تعالى: ( وَ السَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَ الْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ ) إقسام بعد إقسام لتأكيد أمر القيامة و الرجوع إلى الله.

و المراد بكون السماء ذات رجع ما يظهر للحسّ من سيرها بطلوع الكواكب بعد غروبها و غروبها بعد طلوعها، و قيل: رجعها أمطارها، و المراد بكون الأرض ذات صدع تصدّعها و انشقاقها بالنبات، و مناسبة القسمين لما اُقسم عليه من الرجوع بعد الموت و الخروج من القبور ظاهرة.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ ) الفصل إبانة أحد الشيئين من

____________________

(1) و قد أورد المراغي في تفسيره في ذيل الآية عن بعض الأطباء توجيهاً دقيقاً علميّاً لهذه الآية من أراده فليراجعه.

٣٨٢

الآخر حتّى يكون بينهما فرجة، و التعبير بالفصل - و المراد الفاصل - للمبالغة كزيد عدل و الهزل خلاف الجدّ.

و الآيتان جواب القسم، و ضمير( إِنَّهُ ) للقرآن و المعنى اُقسم بكذا و كذا إنّ القرآن لقول فاصل بين الحقّ و الباطل و ليس هو كلاماً لا جدّ فيه فما يُحقّه حقّ لا ريب فيه و ما يبطله باطل لا ريب فيه فما أخبركم به من البعث و الرجوع حقّ لا ريب فيه.

و قيل: الضمير لما تقدّم من خبر الرجوع و المعاد، و الوجه السابق أوجه.

قوله تعالى: ( إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَ أَكِيدُ كَيْداً ) أي الكفّار يحتالون بكفرهم و إنكارهم المعاد احتيالاً يريدون به إطفاء نور الله و إبطال دعوتك، و احتال عليهم بعين أعمالهم بالاستدراج و الإملاء و الإضلال بالطبع على قلوبهم و جعل الغشاوة على سمعهم و أبصارهم احتيالاً أسوقهم به إلى عذاب يوم القيامة.

قوله تعالى: ( فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ) التمهيل و الإمهال بمعنى واحد غير أنّ باب التفعيل يفيد التدريج و الإفعال يفيد الدفعة، و الرويد القليل.

و المعنى: إذا كان منهم كيد و منّي كيد عليهم بعين ما يكيدون به و الله غالب على أمره، فانتظر بهم و لا تعاجلهم انتظر بهم قليلاً فسيأتيهم ما اُوعدهم به فكلّ ما هو آت قريب.

و في التعبير أوّلاً بمهّل الظاهر في التدريج و ثانياً مع التقييد برويداً بأمهل الظاهر في الدفعة لطف ظاهر.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ ) قال: الملائكة.

و فيه: في قوله تعالى:( خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ ) قال: النطفة الّتي تخرج بقوّة.

و فيه: في قوله تعالى:( يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ ) قال: الصلب الرجل

٣٨٣

و الترائب المرأة، و هو صدرها.

أقول: الرواية على إضمارها و إرسالها لا تخلو من شي‏ء.

و فيه: في قوله تعالى:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) قال: يكشف عنها.

و في المجمع، روي مرفوعاً عن أبي الدرداء قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ضمن الله خلقه أربع خصال: الصلاة، و الزكاة، و صوم شهر رمضان، و الغسل من الجنابة، و هي السرائر الّتي قال الله تعالى: يوم تبلى السرائر.

أقول: و لعلّه من قبيل ذكر بعض المصاديق كما تؤيّده الرواية التالية.

و فيه، عن معاذ بن جبل قال: سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما هذه السرائر الّتي ابتلى الله بها العباد في الآخرة؟ فقال: سرائركم هي أعمالكم من الصلاة و الصيام و الزكاة و الوضوء و الغسل من الجنابة و كلّ مفروض لأنّ الأعمال كلّها سرائر خفيّة فإن شاء الرجل قال: صلّيت و لم يصلّ و إن شاء قال: توضّيت و لم يتوضّ فذلك قوله:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) .

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَ لا ناصِرٍ ) قال: ما له من قوّة يهوي بها على خالقه، و لا ناصر من الله ينصره إن أراد به سوءا.

و فيه: في قوله تعالى:( وَ السَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ ) قال: ذات المطر( وَ الْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ ) أي ذات النبات.

و في المجمع:( إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ) يعني أنّ القرآن يفصل بين الحقّ و الباطل بالبيان عن كلّ واحد منهما، و روي ذلك عن الصادقعليه‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و الدارميّ و الترمذيّ و محمّد بن نصر و ابن الأنباريّ في المصاحف عن الحارث الأعور قال: دخلت المسجد فإذا الناس قد وقعوا في الأحاديث فأتيت عليّاً فأخبرته فقال: أ و قد فعلوها؟

سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إنّها ستكون فتنة. قلت: فما المخرج منها يا رسول الله قال: كتاب الله فيه نبأ من قبلكم و خبر من بعدكم، و حكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبّار قصمه الله، من ابتغى الهوى في غيره أضلّه الله، و هو حبل الله

٣٨٤

المتين، و هو الذكر الحكيم، و هو الصراط المستقيم، هو الّذي لا تزيغ به الأهواء، و لا يشبع منه العلماء، و لا تلتبس منه الألسن، و لا يخلق من الردّ، و لا تنقضي عجائبه هو الّذي لم ينته الجنّ إذ سمعته حتّى قالوا( إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ ) . من قال به صدق، و من حكم به عدل، و من عمل به اُجر، و من دعي إليه هدي إلى صراط مستقيم.

أقول: و روي ما يقرب منه عن معاذ بن جبل عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و رواه مختصراً عن ابن مردويه عن عليّعليه‌السلام .

٣٨٥

( سورة الأعلى مكّيّة و هي تسع عشرة آية)

( سورة الأعلى الآيات 1 - 19)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ( 1 ) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ ( 2 ) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ( 3 ) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَىٰ ( 4 ) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَىٰ ( 5 ) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ ( 6 ) إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ ( 7 ) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ ( 8 ) فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَىٰ ( 9 ) سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ ( 10 ) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ( 11 ) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَىٰ ( 12 ) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ ( 13 ) قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ ( 14 ) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ ( 15 ) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ( 16 ) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ( 17 ) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ ( 18 ) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ ( 19 )

( بيان‏)

أمرٌ بتوحيده تعالى على ما يليق بساحته المقدّسة و تنزيه ذاته المتعالية من أن يذكر مع اسمه اسم غيره أو يسند إلى غيره ما يجب أن يسند إليه كالخلق و التدبير و الرزق و وعد لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتأييده بالعلم و الحفظ و تمكينه من الطريقة الّتي هي أسهل و أيسر للتبليغ و أنسب للدعوة.

و سياق الآيات في صدر السورة سياق مكّيّ و أمّا ذيلها أعني قوله:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ) إلخ فقد ورد من طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام و كذا من طريق أهل السنّة

٣٨٦

أنّ المراد به زكاة الفطرة و صلاة العيد و من المعلوم أنّ الصوم و ما يتبعه من زكاة الفطرة و صلاة العيد إنّما شرعت بالمدينة بعد الهجرة فتكون آيات الذيل نازلة بالمدينة.

فالسورة صدرها مكّيّ و ذيلها مدنيّ، و لا ينافي ذلك ما جاء في الآثار أنّ السورة مكّيّة فإنّه لا يأبى الحمل على صدر السورة.

قوله تعالى: ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) أمر بتنزيه اسمه تعالى و تقديسه، و إذ علّق التنزيه على الاسم - و ظاهر اللفظ الدالّ على المسمّى - و الاسم إنّما يقع في القول فتنزيهه أن لا يذكر معه ما هو تعالى منزّه عنه كذكر الآلهة و الشركاء و الشفعاء و نسبة الربوبيّة إليهم و كذكر بعض ما يختصّ به تعالى كالخلق و الإيجاد و الرزق و الإحياء و الإماتة و نحوها و نسبته إلى غيره تعالى أو كذكر بعض ما لا يليق بساحة قدسه تعالى من الأفعال كالعجز و الجهل و الظلم و الغفلة و ما يشبهها من صفات النقص و الشين و نسبته إليه تعالى.

و بالجملة تنزيه اسمه تعالى أن يجرّد القول عن ذكر ما لا يناسب ذكره ذكر اسمه تعالى و هو تنزيهه تعالى في مرحلة القول الموافق لتنزيهه في مرحلة الفعل.

و هو يلازم التوحيد الكامل بنفي الشرك الجليّ كما في قوله:( وَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ إِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) الزمر: 45 و قوله:( وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى‏ أَدْبارِهِمْ نُفُوراً ) إسراء: 46.

و في إضافة الاسم إلى الربّ و الربّ إلى ضمير الخطاب تأييد لما قدّمناه فإنّ المعنى سبّح اسم ربّك الّذي اتّخذته ربّاً و أنت تدعو إلى أنّه الربّ الإله فلا يقعنّ في كلامك مع ذكر اسمه بالربوبيّة ذكر من غيره بحيث ينافي تسمّيه بالربوبيّة على ما عرّف نفسه لك.

و قوله:( الْأَعْلَى ) و هو الّذي يعلو كلّ عال و يقهر كلّ شي‏ء صفة( رَبِّكَ ) دون الاسم و يعلّل بمعناه الحكم أي سبّح اسمه لأنّه أعلى.

٣٨٧

و قيل: معنى( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) قل: سبحان ربّي الأعلى كما عن ابن عبّاس و نسب إليه أيضاً أنّ المعنى صلّ.

و قيل: المراد بالاسم المسمّى و المعنى نزّهه تعالى عن كلّ ما لا يليق بساحة قدسه من الصفات و الأفعال.

و قيل: إنّه ذكر الاسم و المراد به تعظيم المسمّى و استشهد عليه بقول لبيد، إلى الحول ثمّ اسم السلام عليكما. فالمعنى سبّح ربّك الأعلى.

و قيل: المراد تنزيه أسمائه تعالى عمّا لا يليق بأن لا يؤوّل ممّا ورد منها اسم من غير مقتض، و لا يبقى على ظاهره إذا كان ما وضع له لا يصحّ له تعالى، و لا يطلقه على غيره تعالى إذا كان مختصّاً كاسم الجلالة و لا يتلفّظ به في محلّ لا يناسبه كبيت الخلاء، و على هذا القياس.

و ما قدّمناه من المعنى أوسع و أشمل و أنسب لسياق قوله الآتي( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) ( وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى‏ فَذَكِّرْ ) فإنّ السياق سياق البعث إلى التذكرة و التبليغ فبدأ أوّلاً بإصلاح كلامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تجريده عن كلّ ما يشعر بجليّ الشرك و خفيّه بأمره بتنزيه اسم ربّه، و وعد ثانياً بإقرائه بحيث لا ينسى شيئاً ممّا اُوحي إليه و تسهيل طريقة التبليغ عليه ثمّ اُمر بالتذكير و التبليغ فافهم.

قوله تعالى: ( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ) خلق الشي‏ء جمع أجزائه، و تسويته جعلها متساوية بحيث يوضع كلّ في موضعه الّذي يليق به و يعطى حقّه كوضع كلّ عضو من أعضاء الإنسان فيما يناسبه من الموضع.

و الخلق و التسوية و إن كانا مطلقين لكنّهما إنّما يشملان ما فيه تركيب أو شائبة تركيب من المخلوقات.

و الآية إلى تمام أربع آيات تصف التدبير الإلهيّ و هي برهان على ربوبيّته تعالى المطلقة.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى‏ ) أي جعل الأشياء الّتي خلقها على مقادير مخصوصة و حدود معيّنة في ذواتها و صفاتها و أفعالها لا تتعدّاها و جهّزها بما يناسب

٣٨٨

ما قدّر لها فهداها إلى ما قدّر فكلّ يسلك نحو ما قدّر له بهداية ربّانيّة تكوينيّة كالطفل يهتدي إلى ثدي اُمّه و الفرخ إلى زقّ اُمّه و أبيه، و الذكر إلى الاُنثى و ذي النفع إلى نفعه و على هذا القياس.

قال تعالى:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الحجر: 21، و قال:( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) عبس: 20 و قال:( لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها ) البقرة: 148.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى‏ ) المرعى ما ترعاه الدوابّ فالله تعالى هو الّذي أخرجها أي أنبتها.

قوله تعالى: ( فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى‏ ) الغثاء ما يقذفه السيل على جانب الوادي من الحشيش و النبات، و المراد هنا - كما قيل - اليابس من النبات، و الأحوى الأسود.

و إخراج المرعى لتغذّي الحيوان ثمّ جعله غثاء أحوى من مصاديق التدبير الربوبيّ و دلائله كما أنّ الخلق و التسوية و التقدير و الهداية كذلك.

قوله تعالى: ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى‏ إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى‏ ) قال في المفردات: و القراءة ضمّ الحروف و الكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل، و ليس يقال ذلك لكلّ جمع لا يقال: قرأت القوم إذا جمعتهم، و يدلّ على ذلك أنّه لا يقال للحرف الواحد إذا تفوّه به قراءة، انتهى، و قال في المجمع: و الإقراء أخذ القراءة على القارئ بالاستماع لتقويم الزلل، و القارئ التالي. انتهى.

و ليس إقراؤه تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القرآن مثل إقراء بعضنا بعضاً باستماع المقري لما يقرؤه القارئ و إصلاح ما لا يحسنه أو يغلط فيه فلم يعهد من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقرأ شيئاً من القرآن فلا يحسنه أو يغلط فيه عن نسيان للوحي ثمّ يقرأ فيصلح بل المراد تمكينه من قراءة القرآن كما اُنزل من غير أن يغيّره بزيادة أو نقص أو تحريف بسبب النسيان.

فقوله:( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى‏ ) وعدٌ منه لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يمكّنه من العلم

٣٨٩

بالقرآن و حفظه على ما اُنزل بحيث يرتفع عنه النسيان فيقرؤه كما اُنزل و هو الملاك في تبليغ الوحي كما اُوحي إليه.

و قوله:( إِلَّا ما شاءَ اللهُ ) استثناء مفيد لبقاء القدرة الإلهيّة على إطلاقها و أنّ هذه العطيّة و هي الإقراء بحيث لا تنسى لا ينقطع عنه سبحانه بالإعطاء بحيث لا يقدر بعد على إنسائك بل هو باق على إطلاق قدرته له أن يشاء إنساءك متى شاء و إن كان لا يشاء ذلك فهو نظير الاستثناء الّذي في قوله:( وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) هود: 108 و قد تقدّم توضيحه.

و ليس المراد بالاستثناء إخراج بعض أفراد النسيان من عموم النفي و المعنى سنقرئك فلا تنسى شيئاً إلّا ما شاء الله أن تنساه و ذلك أنّ كلّ إنسان على هذه الحال يحفظ أشياء و ينسى أشياء فلا معنى لاختصاصه بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلحن الامتنان مع كونه مشتركاً بينه و بين غيره فالوجه ما قدّمناه.

و الآية بسياقها لا تخلو من تأييد لما قيل: إنّه كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي يقرؤه مخافة أن ينساه فكان لا يفرغ جبريل من آخر الوحي حتّى يتكلّم هو بأوّله فلمّا نزلت هذه الآية لم ينس بعده شيئاً.

و يقرب من الاعتبار أن تكون هذه الآية أعني قوله:( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى‏ ) نازلة أوّلاً ثمّ قوله:( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) القيامة: 19 ثمّ قوله:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ) طه: 114.

و قوله:( إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى) الجهر كمال ظهور الشي‏ء لحاسّة البصر كقوله:( فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً ) النساء: 153، أو لحاسّة السمع كقوله:( إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ ) الأنبياء: 110، و المراد بالجهر الظاهر للإدراك بقرينة مقابلته لقوله:( وَ ما يَخْفى‏ ) من غير تقييده بسمع أو بصر.

و الجملة في مقام التعليل لقوله:( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) و المعنى سنصلح لك بالك

٣٩٠

في تلقّي الوحي و حفظه لأنّا نعلم ظاهر الأشياء و باطنها فنعلم ظاهر حالك و باطنها و ما أنت عليه من الاهتمام بأمر الوحي و الحرص على طاعته فيما أمر به.

و في قوله:( إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ ) إلخ التفات من التكلّم مع الغير إلى الغيبة و النكتة فيه الإشارة إلى حجّة الاستثناء فإفاضة العلم و الحفظ للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما لا يسلب القدرة على خلافه و لا يحدّها منه تعالى لأنّه الله المستجمع لجميع صفات الكمال و منها القدرة المطلقة ثمّ جرى الالتفات في قوله:( إِنَّهُ يَعْلَمُ ) إلخ لمثل النكتة.

قوله تعالى: ( وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى‏ ) اليسرى - مؤنث أيسر - و هو وصف قائم مقام موصوفة المحذوف أي الطريقة اليسرى و التيسير التسهيل أي و نجعلك بحيث تتّخذ دائماً أسهل الطرق للدعوة و التبليغ قولاً و فعلاً فتهدي قوماً و تتمّ الحجّة على آخرين و تصبر على أذاهم.

و كان مقتضى الظاهر أن يقال: و نيسّر لك اليسرى كما قال:( وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي ) طه: 26 و إنّما عدل عن ذلك إلى قوله:( وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى‏ ) لأنّ الكلام في تجهيزه تعالى نفس النبيّ الشريفة و جعله إيّاها صالحة لتأدية الرسالة و نشر الدعوة. على ما في نيسّر اليسرى من إيهام تحصيل الحاصل.

فالمراد جعلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صافي الفطرة حقيقاً على اختيار الطريقة اليسرى الّتي هي طريقة الفطرة فالآية في معنى قوله حكاية عن موسى:( حَقِيقٌ عَلى‏ أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ ) الأعراف: 105.

قوله تعالى: ( فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى‏ ) تفريع على ما تقدّم من أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتنزيه اسم ربّه و وعده إقراء الوحي بحيث لا ينسى و تيسيره لليسرى و هي الشرائط الضروريّة الّتي يتوقّف عليها نجاح الدعوة الدينيّة.

و المعنى إذ تمّ لك الأمر بامتثال ما أمرناك به و إقرائك فلا تنسى و تيسيرك لليسرى فذكّر إن نفعت الذكرى.

و قد اشترط في الأمر بالتذكرة أن تكون نافعة و هو شرط على حقيقته فإنّها إذا

٣٩١

لم تنفع كانت لغواً و هو تعالى يجلّ عن أن يأمر باللّغو فالتذكرة لمن يخشى لأوّل مرّة تفيد ميلا من نفسه إلى الحقّ و هو نفعها و كذا التذكرة بعد التذكرة كما قال:( سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى‏ ) و التذكرة للأشقى الّذي لا خشية في قلبه لأوّل مرّة تفيد تمام الحجّة عليه و هو نفعها و يلازمها تجنّبه و تولّيه عن الحقّ كما قال:( يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى‏ ) و التذكرة بعد التذكرة له لا تنفع شيئاً و لذا اُمر بالإعراض عن ذلك قال تعالى:( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ) النجم: 29.

و قيل: الشرط شرط صوريّ غير حقيقيّ و إنّما هو إخبار عن أنّ الذكرى نافعة لا محالة في زيادة الطاعة و الانتهاء عن المعصية كما يقال: سله إن نفع السؤال و لذا قال بعضهم( إن ) ( إِنْ ) في الآية بمعنى قد، و قال آخرون: إنّها بمعنى إذ.

و فيه أنّ كون الذكرى نافعة مفيدة دائماً حتّى فيمن يعاند الحقّ - و قد تمّت عليه الحجّة - ممنوع كيف؟ و قد قيل فيهم:( سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللهُ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ وَ عَلى‏ سَمْعِهِمْ وَ عَلى‏ أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ) البقرة: 7.

و قيل: إنّ في الكلام إيجازاً بالحذف، و التقدير فذكّر إن نفعت الذكرى و إن لم تنفع و ذلك لأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث للتذكرة و الإعذار فعليه أن يذكّر نفع أو لم ينفع فالآية من قبيل قوله:( وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ) النحل: 81 أي و البرد.

و فيه أنّ وجوب التذكرة عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى فيما لا يترتّب عليها أثراً أصلاً ممنوع.

و قيل: إنّ الشرط مسوق للإشارة إلى استبعاد النفع في تذكرة هؤلاء المذكورين نعياً عليهم كأنّه قيل: افعل ما اُمرت به لتوجر و إن لم ينتفعوا به.

و فيه أنّه يردّه قوله تعالى بعده بلا فصل:( سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى‏ ) .

قوله تعالى: ( سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى‏ ) أي سيتذكّر و يتّعظ بالقرآن من في قلبه شي‏ء من خشية الله و خوف عقابه.

قوله تعالى: ( يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى‏ ) الضمير للذكرى و المراد بالأشقى بقرينة

٣٩٢

المقابلة من ليس في قلبه شي‏ء من خشية الله تعالى، و تجنّب الشي‏ء التباعد عنه، و المعنى و سيتباعد عن الذكرى من لا يخشى الله.

قوله تعالى: ( الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) الظاهر أنّ المراد بالنار الكبرى نار جهنّم و هي نار كبري بالقياس إلى نار الدنيا، و قيل: المراد بها أسفل دركات جهنّم و هي أشدّها عذاباً.

قوله تعالى: ( ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى‏ ) ثمّ للتراخي بحسب رتبة الكلام، و المراد من نفي الموت و الحياة عنه معاً نفي النجاة نفياً مؤبّداً فإنّ النجاة بمعنى انقطاع العذاب بأحد أمرين إمّا بالموت حتّى ينقطع عنه العذاب بانقطاع وجوده و إمّا يتبدّل صفة الحياة من الشقاء إلى السعادة و من العذاب إلى الراحة فالمراد بالحياة في الآية الحياة الطيّبة على حدّ قولهم في الحرض: لا حيّ فيرجى و لا ميّت فينسى.

قوله تعالى: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) التزكّي هو التطهّر و المراد به التطهّر من ألواث التعلّقات الدنيويّة الصارفة عن الآخرة بدليل قوله بعد( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ) إلخ، و الرجوع إلى الله بالتوجّه إليه تطهّر من الإخلاد إلى الأرض، و الإنفاق في سبيل الله تطهّر من لوث التعلّق الماليّ حتّى أنّ وضوء الصلاة تمثيل للتطهّر عمّا كسبته الوجوه و الأيدي و الأقدام.

و قوله:( وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) الظاهر أنّ المراد بالذكر الذكر اللفظيّ، و بالصلاة التوجّه الخاصّ المشروع في الإسلام.

و الآيتان بحسب ظاهر مدلولهما على العموم لكن ورد في المأثور عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّهما نزلتا في زكاة الفطر و صلاة العيد و كذا من طرق أهل السنّة.

قوله تعالى: ( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ) إضراب بالخطاب لعامّة الناس على ما يدعو إليه طبعهم البشريّ من التعلّق التامّ بالدنيا و الاشتغال بتعميرها، و الإيثار الاختيار، و قيل: الخطاب للكفّار، و الكلام على أيّ حال مسوق للعتاب و الالتفات لتأكيده.

٣٩٣

قوله تعالى: ( وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقى‏ ) عدّ الآخرة أبقى بالنسبة إلى الدنيا مع أنّها باقية أبديّة في نفسها لأنّ المقام مقام الترجيح بين الدنيا و الآخرة و يكفي في الترجيح مجرّد كون الآخرة خيراً و أبقى بالنسبة إلى الدنيا و إن قطع النظر عن كونها باقية أبديّة.

قوله تعالى: ( إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى‏ صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ ) الإشارة بهذا إلى ما بين في قوله:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ) إلى تمام أربع آيات، و قيل: هذا إشارة إلى مضمون قوله:( وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقى‏ ) .

قيل: و في إبهام الصحف و وصفها بالتقدّم أوّلاً ثمّ بيانها و تفسيرها بصحف إبراهيم و موسى ثانياً ما لا يخفى من تفخيم شأنها و تعظيم أمرها.

( بحث روائي‏)

في تفسير العيّاشيّ، عن عقبة بن عامر الجهنيّ قال: لمّا نزلت:( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اجعلوها في ركوعكم، و لمّا نزل( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) قال: اجعلوها في سجودكم.

أقول: و رواه أيضاً في الدرّ المنثور، عن أحمد و أبي داود و ابن ماجة و ابن المنذر و ابن مردويه عن عقبة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في تفسير القمّيّ:( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) قال: قل سبحان ربّي الأعلى( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى‏ ) قال: قدّر الأشياء بالتقدير الأوّل ثمّ هدى إليها من يشاء.

و فيه: في قوله تعالى:( وَ الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى‏ ) قال: أي النبات. و في قوله:( غُثاءً أَحْوى‏ ) قال: يصير هشيماً بعد بلوغه و يسودّ.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستذكر القرآن مخافة أن ينساه فقيل له: كفيناك ذلك و نزلت:( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى‏ ) .

٣٩٤

و في الفقيه: و سئل الصادقعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ) قال قال: من أخرج الفطرة قيل له: و( ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) قال: خرج إلى الجبانة(1) فصلّى.

أقول: و روي هذا المعنى أيضاً عن حمادّ عن جرير عن أبي بصير و زرارة عنهعليه‌السلام و رواه القمّيّ في تفسيره، مرسلاً مضمراً.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدريّ قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) ثمّ يقسّم الفطرة قبل أن يغدو إلى المصلّى يوم الفطر.

أقول: و روي أيضاً نزول الآيتين في زكاة الفطرة و صلاة العيد بطريقين عن أبي سعيد موقوفاً، و كذا بطريقين عن ابن عمر و بطريق عن نائلة بن الأصقع و بطريقين عن أبي العالية و بطريق عن عطاء و بطريق عن محمّد بن سيرين و بطريق عن إبراهيم النخعي و كذا عن عمرو بن عوف عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في الخصال، عن عتبة بن عمرو الليثيّ عن أبي ذرّ في حديث قلت: يا رسول الله فما في الدنيا ممّا أنزل الله عليك شي‏ء ممّا كان في صحف إبراهيم و موسى؟ قال: يا أبا ذرّ اقرأ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقى‏ إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى‏ صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ ) .

أقول: يؤيّد الحديث كون الإشارة بهذا إلى مجموع الآيات الأربع كما تقدّم.

و في البصائر، بإسناده عن أبي بصير قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : عندنا الصحف الّتي قال الله:( صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ ) قلت: الصحف هي الألواح؟ قال: نعم.

أقول: و رواه أيضاً بطريق آخر عن أبي بصير عنهعليه‌السلام و الظاهر أنّ المراد بكون الصحف هي الألواح كونها هي التوراة المعبّر عنها في مواضع من القرآن بالألواح كقوله تعالى:( وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) الأعراف: 145 و قوله:( وَ أَلْقَى

____________________

(1) الجبانة: الصحراء

٣٩٥

الْأَلْواحَ ) الأعراف: 150 و قوله:( أَخَذَ الْأَلْواحَ ) الأعراف: 154.

و في المجمع، روي عن أبي ذرّ أنّه قال: قلت: يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: مائة ألف نبيّ و أربعة و عشرون ألفاً قلت: يا رسول الله كم المرسلون منهم؟ قال: ثلاث مائة و ثلاثة عشر و بقيّتهم أنبياء. قلت: كان آدم نبيّاً؟ قال: نعم كلّمة الله و خلقه بيده.

يا أبا ذرّ أربعة من الأنبياء عرب: هود و صالح و شعيب و نبيّك.

قلت: يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟ قال: مائة و أربعة كتب اُنزل منها على آدم عشرة صحف، و على شيث خمسين صحيفة، و على اُخنوخ و هو إدريس ثلاثين صحيفة و هو أوّل من خطّ بالقلم و على إبراهيم عشر صحائف و التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان.

أقول: و روي ذلك في الدرّ المنثور، عن عبد بن حميد و ابن مردويه و ابن عساكر عن أبي ذرّ غير أنّه لم يذكر صحف آدم و ذكر لموسى عشر صحف قبل التوراة.

٣٩٦

( سورة الغاشية مكّيّة و هي ستّ و عشرون آية)

( سورة الغاشية الآيات 1 - 26)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ( 1 ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ( 2 ) عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ ( 3 ) تَصْلَىٰ نَارًا حَامِيَةً ( 4 ) تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ( 5 ) لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ ( 6 ) لَّا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ ( 7 ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ ( 8 ) لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ ( 9 ) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ( 10 ) لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً ( 11 ) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ ( 12 ) فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ ( 13 ) وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ ( 14 ) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ ( 15 ) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ( 16 ) أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ( 17 ) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ( 18 ) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ( 19 ) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ( 20 ) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ ( 21 ) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ( 22 ) إِلَّا مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ ( 23 ) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ ( 24 ) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ( 25 ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم ( 26 )

( بيان‏)

سورة إنذار و تبشير تصف الغاشية و هي يوم القيامة الّذي يحيط بالناس تصفه بحال الناس فيه من حيث انقسامهم فريقين: السعداء و الأشقياء و استقرارهم فيما اُعدّ لهم من الجنّة و النار و تنتهي إلى أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يذكّر الناس بفنون من التدبير الربوبيّ

٣٩٧

في العالم الدالّة على ربوبيّته تعالى لهم و رجوعهم إليه لحساب أعمالهم.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ ) استفهام بداعي التفخيم و الإعظام، و المراد بالغاشية يوم القيامة سمّيت بذلك لأنّها تغشى الناس و تحيط بهم كما قال:( وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ) الكهف: 47، أو لأنّها تغشى الناس بأهوالها بغتة كما قيل، أو لأنّها تغشى وجوه الكفّار بالعذاب.

قوله تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ ) أي مذلّلة بالغمّ و العذاب يغشاها، و الخشوع إنّما هو لأرباب الوجوه و إنّما نسب إلى الوجوه لأنّ الخشوع و المذلّة يظهر فيها.

قوله تعالى: ( عامِلَةٌ ناصِبَةٌ ) النصب التعب و( عامِلَةٌ ) خبر بعد خبر لوجوه، و كذا قوله:( ناصِبَةٌ ) و( تَصْلى) و( تُسْقى) و( لَيْسَ لَهُمْ ) و المراد من عملها و نصبها بقرينة مقابلتهما في صفة أهل الجنّة الآتية بقوله:( لِسَعْيِها راضِيَةٌ ) عملها في الدنيا و نصبها في الآخرة فإنّ الإنسان إنّما يعمل ما يعمل في الدنيا ليسعد به و يظفر بالمطلوب لكن عملهم خبط باطل لا ينفعهم شيئاً كما قال تعالى:( وَ قَدِمْنا إِلى‏ ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً ) الفرقان: 23 فلا يعود إليهم من عملهم إلّا النصب و التعب بخلاف أهل الجنّة فإنّهم لسعيهم الّذي سعوه في الدنيا راضون لما ساقهم إلى الجنّة و الراحة.

و قيل: المراد أنّها عاملة في النار ناصبة فيها فهي تعالج أنواع العذاب الّذي تعذّب به و تتعب لذلك.

و قيل: المراد أنّها عاملة في الدنيا بالمعاصي ناصبة في النار يوم القيامة.

قوله تعالى: ( تَصْلى‏ ناراً حامِيَةً ) أي تلزم ناراً في نهاية الحرارة.

قوله تعالى: ( تُسْقى‏ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ) أي حارّة بالغة في حرارتها.

قوله تعالى: ( ليسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَ لا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ‏ ) قيل: الضريع نوع من الشوك يقال له: الشبرق و أهل الحجاز يسمّونه الضريع إذا يبس و هو أخبث طعام و أبشعه لا ترعاه دابّة، و لعلّ تسمية ما في النار به لمجرّد المشابهة شكلاً و خاصّة.

٣٩٨

قوله تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ ) من النعومة فيكون كناية عن البهجة و السرور الظاهر على البشرة كما قال:( تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ) المطفّفين: 24، أو من النعمة أي متنعّمة. قيل: و لم يعطف على قوله:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ ) إشارة إلى كمال البينونة بين حالي الفريقين.

قوله تعالى: ( لِسَعْيِها راضِيَةٌ ) اللّام للتقوية، و المراد بالسعي سعيها في الدنيا بالعمل الصالح، و المعنى رضيت سعيها و هو عملها الصالح حيث جوزيت به جزاءً حسناً.

قوله تعالى: ( فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ - إلى قوله -وَ زَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ) المراد بعلوّها ارتفاع درجاتها و شرفها و جلالتها و غزارة عيشها فإنّ فيها حياة لا موت معها، و لذّة لا ألم يشوبها و سروراً لا غمّ و لا حزن يداخله لهم فيها فوق ما يشاؤن.

و قوله:( لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً ) أي لا تسمع تلك الوجوه في الجنّة كلمة ساقطة لا فائدة فيها.

و قوله:( فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ ) المراد بالعين جنسها فقد عدّ تعالى فيها عيوناً في كلامه كالسلسبيل و الشراب الطهور و غيرهما.

و قوله:( فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ ) السرر جمع سرير و في ارتفاعها جلالة القاعد عليها،( وَ أَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ ) الأكواب جمع كوب و هو الإبريق لا خرطوم له و لا عروة يتّخذ فيه الشراب( وَ نَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ ) النمارق جمع نمرقة و هي الوسادة و كونها مصفوفة وضعها في المجلس بحيث يتّصل بعضها ببعض على هيئة المجالس الفاخرة في الدنيا( وَ زَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ) الزرابيّ جمع زريبة مثلّثة الزاي و هي البساط الفاخر و بثّها بسطها للقعود عليها.

قوله تعالى: ( أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ) بعد ما فرغ من وصف الغاشية و بيان حال الفريقين، المؤمنين و الكفّار عقّبه بإشارة إجماليّة إلى التدبير الربوبيّ الّذي يفصح عن ربوبيّته تعالى المقتضية لوجوب عبادته و لازم ذلك حساب الأعمال و جزاء المؤمن بإيمانه و الكافر بكفره و الظرف الّذي فيه ذلك هو الغاشية.

٣٩٩

و قد دعاهم أوّلاً أن ينظروا إلى الإبل كيف خلقت؟ و كيف صوّر الله سبحانه أرضاً عادمة للحياة فاقدة للشعور بهذه الصورة العجيبة في أعضائها و قواها و أفاعيلها فسخّرها لهم ينتفعون من ركوبها و حملها و لحمها و ضرعها و جلدها و وبرها حتّى بولها و بعرتها فهل هذا كله توافق اتّفاقيّ غير مطلوب بحياله.؟

و تخصيص الإبل بالذكر من جهة أنّ السورة مكّيّة و أوّل من تتلى عليهم الإعراب و اتّخاذ الآبال من أركان عيشتهم.

قوله تعالى: ( وَ إِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ) و زيّنت بالشمس و القمر و سائر النجوم الزواهر بما فيها من المنافع لأهل الأرض و قد جعل دونها الهواء الّذي يضطرّ إليه الحيوان في تنفّسه.

قوله تعالى: ( وَ إِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ) و هي أوتاد الأرض المانعة من مورها و مخازن الماء الّتي تتفجّر منها العيون و الأنهار و محافظ للمعادن.

قوله تعالى: ( وَ إِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ) أي بسطت و سوّيت فصلحت لسكنى الإنسان و سهل فيها النقل و الانتقال و أغلب التصرّفات الصناعيّة الّتي للإنسان.

فهذه تدبيرات كلّيّة مستندة إليه تعالى بلا ريب فيه فهو ربّ السماء و الأرض ما بينهما فهو ربّ العالم الإنسانيّ يجب عليهم أن يتّخذوه ربّاً و يوحّدوه و يعبدوه و أمامهم الغاشية و هو يوم الحساب و الجزاء.

قوله تعالى: ( فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ) تفريع على ما تقدّم و المعنى إذا كان الله سبحانه هو ربّهم لا ربّ سواه و أمامهم يوم الحساب و الجزاء لمن آمن منهم أو كفر فذكّرهم بذلك.

و قوله:( إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ) بيان أنّ وظيفته - و هو رسول - التذكرة رجاء أن يستجيبوا و يؤمنوا من غير إكراه و إلجاء.

قوله تعالى: ( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) المصيطر - و أصله المسيطر - المتسلّط، و الجملة بيان و تفسير لقوله:( إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ) .

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568