الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن6%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219957 / تحميل: 7014
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً ) العذاب الصعد هو الّذي يتصعّد على المعذّب و يغلبه، و قيل: هو العذاب الشاقّ.

و الإعراض عن ذكر الله لازم عدم الاستقامة على الطريقة و هو الأصل في سلوك العذاب، و لذا وضع موضعه ليدلّ على السبب الأصليّ في دخول النار.

و هو الوجه أيضاً في الالتفات عن التكلّم مع الغير إلى الغيبة في قوله:( ذِكْرِ رَبِّهِ ) و كان مقتضى الظاهر أن يقال: ذكرنا و ذلك أنّ صفة الربوبيّة هي المبدأ الأصلي لتعذيب المعرضين عن ذكره تعالى فوضعت موضع ضمير المتكلّم مع الغير ليدلّ على المبدإ الأصليّ كما وضع الإعراض عن الذكر موضع عدم الاستقامة ليدلّ على السبب.

قيل: و قوله:( يَسْلُكْهُ ) مضمّن معنى يدخله و لذا عديّ إلى المفعول الثاني، و المعنى ظاهر.

( بحث روائي‏)

في المجمع، روى الواحديّ عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال: ما قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الجنّ و ما رآهم، انطلق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، و قد حيل بين الشياطين و بين خبر السماء فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: ما لكم: قالوا: حيل بيننا و بين خبر السماء و اُرسلت علينا الشهب قالوا: ما ذاك إلّا من شي‏ء حدث فاضربوا مشارق الأرض و مغاربها.

فمرّ النفر الّذين أخذوا نحو تهامة بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عامدين إلى سوق عكاظ و هو يصلّي بأصحابه صلاة الفجر فلمّا سمعوا القرآن استمعوا له و قالوا: هذا الّذي حال بيننا و بين خبر السماء فرجعوا إلى قومهم و قالوا:( إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً ) فأوحى الله إلى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ) .

و رواه البخاريّ و مسلم أيضاً في الصحيح.

١٢١

أقول: و روى القمّيّ في تفسيره ما يقرب منه و قد أوردنا الرواية في تفسير سورة الأحقاف في ذيل قوله:( وَ إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ ) إلخ.

لكن ظاهر روايته أنّ النفر الّذين نزلت فيهم آيات سورة الأحقاف هم النفر الّذين نزلت فيهم هذه السورة و ظاهر آيات السورتين لا يلائم ذلك فإنّ ظاهر قولهم المنقول في سورة الأحقاف:( إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى‏ (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ) الآية أنّهم كانوا مؤمنين بموسى و مصدّقين للتوراة و ظاهر آيات هذه السورة أنّهم كانوا مشركين لا يرون النبوّة و لازم ذلك تغاير الطائفتين اللّهمّ إلّا أن يمنع الظهور.

و فيه، عن علقمة بن قيس قال: قلت لعبد الله بن مسعود: من كان منكم مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة الجنّ؟ فقال: ما كان منّا معه أحد فقدناه ذات ليلة و نحن بمكّة فقلنا: اغتيل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو استطير فانطلقنا نطلبه من الشعاب فلقيناه مقبلاً من نحو حراء فقلنا: يا رسول الله أين كنت؟ لقد أشفقنا عليك، و قلنا له: بتنا الليلة بشرّ ليلة بات بها قوم حين فقدناك، فقال لنا: إنّه أتاني داعي الجنّ فذهبت أقرئهم القرآن فذهب بنا و أرانا آثارهم و آثار نيرانهم فأمّا أن يكون صحبة منّا أحد فلا.

و فيه، و عن الربيع بن أنس قال: ليس لله تعالى جدّ و إنّما قالته الجنّ بجهالة فحكاه الله سبحانه كما قالت:، و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام .

أقول: المراد بالجدّ المنفيّ عنه تعالى الحظّ و البخت.

و في الاحتجاج، عن عليّعليه‌السلام في حديث: فأقبل إليه الجنّ و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببطن النخل فاعتذروا بأنّهم ظنّوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحداً، و لقد أقبل إليه أحد و سبعون ألفاً منهم فبايعوه على الصوم و الصلاة و الزكاة و الحجّ و الجهاد و نصح المسلمين فاعتذروا بأنّهم قالوا على الله شططا.

أقول: بيعتهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الصوم و الصلاة إلخ، يصدّقها قولهم المحكيّ في أوّل السورة:( فَآمَنَّا بِهِ ) و قولهم:( وَ أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى‏ آمَنَّا بِهِ ) ، و أمّا كيفيّة عملهم بها و خاصّة بالزكاة و الجهاد فمجهولة لنا، و اعتذارهم الأوّل المذكور لا يخلو من خفاء.

١٢٢

و في تفسير القمّيّ، بإسناده إلى زرارة قال: سألت أباجعفر عن قول الله:( وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً ) قال: كان الرجل ينطلق إلى الكاهن الّذي يوحي إليه الشيطان فيقول: قل للشيطان: فلان قد عاذ بك.

و فيه في قوله تعالى:( فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَ لا رَهَقاً ) قال: البخس النقصان، و الرهق العذاب.

و سئل العالم عن مؤمني الجنّ أ يدخلون الجنّة؟ فقال: لا و لكن لله حظائر بين الجنّة و النار يكون فيها مؤمنوا الجنّ و فسّاق الشيعة.

أقول: لعلّ المراد بهذه الحظائر هي بعض درجات الجنّة الّتي هي دون جنّة الصالحين.

و اعلم أنّه ورد في بعض الروايات من طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام تطبيق ما في الآيات من الهدى و الطريقة على ولاية عليّعليه‌السلام و هي من الجري و ليست من التفسير في شي‏ء.

١٢٣

( سورة الجنّ الآيات ١٨ - ٢٨)

وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا ( ١٨ ) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ( ١٩ ) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ( ٢٠ ) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا ( ٢١ ) قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا ( ٢٢ ) إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ( ٢٣ ) حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا ( ٢٤ ) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ( ٢٥ ) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا ( ٢٦ ) إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ( ٢٧ ) لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ( ٢٨ )

( بيان‏)

في الآيات تسجيل للنبوّة و ذكر وحدانيّته تعالى و المعاد كالاستنتاج من القصّة و تختتم بالإشارة إلى عصمة الرسالة.

قوله تعالى: ( وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً ) معطوف على قوله:( أَنَّهُ اسْتَمَعَ ) إلخ، و جملة( أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ ) في موضع التعليل لقوله:( فَلا تَدْعُوا مَعَ

١٢٤

اللهِ أَحَداً ) و التقدير لا تدعوا مع الله أحداً غيره لأنّ المساجد له.

و المراد بالدعاء العبادة و قد سمّاها الله دعاء كما في قوله:( وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ ) المؤمن: ٦٠.

و قد اختلف في المراد من المساجد فقيل: المراد به الكعبة، و قيل المسجد الحرام، و قيل: المسجد الحرام و بيت المقدس، و يدفعها كون المساجد جمعاً لا ينطبق على الواحد و الاثنين.

و قيل: الحرم، و هو تهكّم لا دليل عليه، و قيل: الأرض كلّها لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : جعلت لي الأرض مسجداً و طهوراً، و فيه أنّه لا يدلّ على أزيد من جواز العبادة في أي بقعة من بقاع الأرض خلافاً لما هو المعروف عن اليهود و النصارى من عدم جواز عبادته تعالى في غير البيع و الكنائس، و أمّا تسمية بقاعها مساجد حتّى يحمل عليها عند الإطلاق فلا.

و قيل: المراد به الصلوات فلا يصلّى إلّا لله، و هو تهكّم لا دليل عليه.

و عن الإمام الجوادعليه‌السلام : أنّ المراد بالمساجد الأعضاء السبعة الّتي يسجد عليها في الصلاة و هي الجبهة و الكفّان و الركبتان و أصابع الرجلين‏، و ستوافيك روايته في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله، و نقل ذلك أيضاً عن سعيد بن جبير و الفرّاء و الزجّاج.

و الأنسب على هذا أن يكون المراد بكون مواضع السجود من الإنسان لله اختصاصها به اختصاصاً تشريعيّاً، و المراد بالدعاء السجدة لكونها أظهر مصاديق العبادة أو الصلاة بما أنّها تتضمّن السجود لله سبحانه.

و المعنى: و اُوحي إليّ أنّ أعضاء السجود يختصّ بالله تعالى فاسجدوا له بها - أو اعبدوه بها - و لا تسجدوا - أو لا تعبدوا - أحداً غيره.

قوله تعالى: ( وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ) اللبد بالكسر فالفتح جمع لبدة بالضمّ فالسكون المجتمعة المتراكمة، و المراد بعبد الله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

١٢٥

كما تدلّ عليه الآية التالية، و التعبير بعبد الله كالتمهيد لقوله في الآية التالية:( قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي ) . و الأنسب لسياق الآيات التالية أن يكون مرجع ضميري الجمع في قوله:( كادُوا يَكُونُونَ ) المشركين و قد كانوا يزدحمون عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا صلّى و قرأ القرآن يستهزؤن و يرفعون أصواتهم فوق صوته على ما نقل.

و المعنى: و أنّه لما قام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعبد الله بالصلاة كاد المشركون يكونون بازدحامهم لبداً مجتمعين متراكمين.

و قيل: الضميران للجنّ و أنّهم اجتمعوا عليه و تراكموا ينظرون إليه متعجّبين ممّا يشاهدون من عبادته و قراءته قرآناً لم يسمعوا كلاماً يماثله.

و قيل: الضميران للمؤمنين بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المجتمعين عليه اقتداء به في صلاته إذا صلّى و إنصاتاً لما يتلوه من كلام الله.

و الوجهان لا يلائمان سياق الآيات التالية تلك الملاءمة كما تقدّمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً ) أمر منه تعالى للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبيّن لهم وجه عبادته بياناً يزيل عنهم الحيرة حيث رأوا منه ما لم يكونوا رأوه من أحد غيره، و يتعجّبون حاملين له على نوع من المكيدة و المكر بأصنامهم أو خدعة بهم لأغراض اُخر دنيويّة.

و محصّل البيان: أنّي لست اُريد بما آتي به من العمل شيئاً من المقاصد الّتي تحسبونها و ترمونني بها و إنّما أدعو ربّي وحدة غير مشرك به أحداً و عبادة الإنسان لمن عرفه رباً لنفسه ممّا لا ينبغي أن يلام عليه أو يتعجّب منه.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا رَشَداً ) الّذي يفيده سياق الآيات الكريمة أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبيّن فيها بأمر من ربّه موقع نفسه و بالنسبة إلى ربّه و بالنسبة إلى الناس:

أمّا موقعه بالنسبة إلى ربّه فهو أنّه يدعوه و لا يشرك به أحداً و هو قوله:( قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً ) .

١٢٦

و أمّا موقعه بالنسبة إليهم فهو أنّه بشر مثلهم لا يملك لهم ضرّاً و لا رشداً حتّى يضرّهم بما يريد أن يرشدهم من الخير إلى ما يريد بما عنده من القدرة، و أنّه مأمور من الله بدعوتهم أمراً ليس له إلّا أن يمتثله فلا مجير يجيره منه و لا ملجأ يلتجئ إليه لو خالف و عصى كما ليس لهم إلّا أن يطيعوا الله و رسوله و من يعص الله و رسوله فإنّ له نار جهنّم خالدين فيها أبداً، و سيعلمون إذا رأوا ما يوعدون.

و لازم هذا السياق أن يكون المراد بملك الضرّ القدرة على إيقاع الضرّ بهم فيوقعه بهم إذا أراد، و المراد بملك الرشد القدرة على إيصال النفع إليهم بإصابة الواقع أيّ إنّي لا أدّعي أنّي أقدر أن أضرّكم أو أنفعكم، و قيل: المراد بالضرّ الغيّ المقابل للرشد تعبيراً باسم المسبّب عن السبب.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَ لَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَ رِسالاتِهِ ) الإجارة إعطاء الجوار و حكمه حماية المجير للجار و منعه ممّن يقصده بسوء، و الظاهر أنّ الملتحد اسم مكان و هو المكان الّذي يعدل و ينحرف إليه للتحرّز من الشرّ، و قيل: المدخل و يتعلّق به قوله:( مِنْ دُونِهِ ) و هو كالقيد التوضيحيّ و الضمير لله و البلاغ التبليغ.

و قوله:( إِلَّا بَلاغاً ) استثناء من قوله:( مُلْتَحَداً ) و قوله:( مِنَ اللهِ ) متعلّق بمقدّر أي كائناً من الله و ليس متعلّقاً بقوله:( بَلاغاً ) لأنّه يتعدّى بعن لا بمن و لذا قال بعض من جعله متعلّقاً ببلاغاً: إنّ( من ) بمعنى عن، و المعنى على أيّ حال إلّا تبليغ ما هو تعالى عليه من الأسماء و الصفات.

و قوله:( وَ رِسالاتِهِ ) قيل: معطوف على( بَلاغاً ) و التقدير إلّا بلاغاً من الله و إلّا رسالاته و قيل: معطوف على لفظ الجلالة و من بمعنى عن، و المعنى إلّا بلاغاً عن الله و عن رسالاته.

و فيما استثني منه بلاغاً قول آخر و هو أنّه مفعول( لا أَمْلِكُ ) و المعنى لا أملك لكم ضرّاً و لا رشداً إلّا تبليغاً من الله و رسالاته، و يبعّده الفصل بين المستثنى و المستثنى منه بقوله:( لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ ) إلخ و هو كلام مستأنف.

١٢٧

و معنى الآيتين على ما قدّمنا: قل لن يجيرني من الله أحد فيمنعني منه و لن أجد من دونه مكاناً التجئ إليه إلّا تبليغاً كائناً منه و رسالاته أي إلّا أن أمتثل ما أمرني به من التبليغ منه تعالى ببيان أسمائه و صفاته و إلّا رسالاته في شرائع الدين.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يَعْصِ اللهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ) إفراد ضمير( اللهِ ) باعتبار لفظ( مِنَ ) كما أنّ جمع( خالِدِينَ ) باعتبار معناها.

و عطف الرسول على الله في قوله:( وَ مَنْ يَعْصِ اللهَ وَ رَسُولَهُ ) لكون معصيته معصية لله تعالى إذ ليس له إلّا رسالة ربّه فالردّ عليه فيما أتي به ردّ على الله سبحانه و طاعته فيما يأمر به طاعة لله قال تعالى:( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ) النساء: ٨٠.

و المراد بالمعصية - كما يشهد به سياق الآيات السابقة - معصية ما أمر به من التوحيد أو التوحيد و ما يتفرّع عليه من اُصول الدين و فروعه فلا يشمل التهديد و الوعيد بخلود النار إلّا الكافرين بأصل الدعوة دون مطلق أهل المعصية المتخلّفين عن فروع الدين فالاحتجاج بالآية على تخليد مطلق العصاة في النار في غير محلّه.

و الظاهر أنّ قوله:( وَ مَنْ يَعْصِ اللهَ ) إلى آخر الآية من كلام الله سبحانه لا من تتمّة كلام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَ أَقَلُّ عَدَداً ) لقوله:( حَتَّى ) دلالة على معنى مدخولها غاية له و مدخولها يدلّ على أنّهم كانوا يستضعفون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعدّ ناصريه - و هم المؤمنون - ضعفاء و استقلال عدده بعدّ عددهم قليلاً فالكلام يدلّ على معنى محذوف هو غايته كقولنا: لا يزالون يستضعفون ناصريك و يستقلّون عددهم حتّى إذا رأوا ما يوعدون إلخ.

و المراد بما يوعدون نار جهنّم لأنّها هي الموعودة في الآية، و الآية من كلامه تعالى يخاطب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لو كانت من كلامه و هي مصدّرة بقوله تعالى( قُلْ ) لكان من حقّ الكلام أن يقال: حتّى إذا رأيتم ما توعدون فستعلمون إلخ.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً ) الأمد الغاية الّتي ينتهي إليها، و الآية بمنزلة دفع دخل تقتضيه حالهم كأنّهم لمّا سمعوا

١٢٨

الوعيد قالوا: متى يكون ذلك فقيل له:( قُلْ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ ) إلخ.

قوله تعالى: ( عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً ) إظهار الشي‏ء على الشي‏ء إعانته و تسليطه عليه، و( عالِمُ الْغَيْبِ ) خبر لمبتدإ محذوف، و التقدير هو عالم الغيب، و مفاد الكلمة بإعانة من السياق اختصاص علم الغيب به تعالى مع استيعاب علمه كلّ غيب، و لذا أضاف الغيب إلى نفسه ثانياً فقال:( عَلى‏ غَيْبِهِ ) بوضع الظاهر موضع المضمر ليفيد الاختصاص و لو قال: فلا يظهر عليه لم يفد ذلك.

و المعنى هو عالم كلّ غيب علماً يختصّ به فلا يطلع على الغيب و هو مختصّ به أحداً من الناس فالمفاد سلب كلّي و إن أصرّ بعضهم على كونه سلباً جزئياً محصّل معناه لا يظهر على كلّ غيبه أحداً و يؤيّد ما قلنا ظاهر ما سيأتي من الآيات.

قوله تعالى: ( إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ ) استثناء من قوله:( أَحَداً ) و( مِنْ رَسُولٍ ) بيان لقوله:( مَنِ ارْتَضى‏ ) فيفيد أنّ الله تعالى يظهر رسله على ما شاء من الغيب المختصّ به فالآية إذا انضمّت إلى الآيات الّتي تخصّ علم الغيب به تعالى كقوله:( وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ ) الأنعام: ٥٩، و قوله:( وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) النحل: ٧٧، و قوله:( قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ ) النمل: ٦٥ أفاد ذلك معنى الأصالة و التبعيّة فهو تعالى يعلم الغيب لذاته و غيره يعلمه بتعليم من الله.

فهذه الآيات نظيرة الآيات المتعرّضة للتوفّي كقوله:( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ ) الزمر: ٤٢ الدالّ على الحصر، و قوله:( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) الم السجدة: ١١، و قوله:( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا ) الأنعام: ٦١ فالتوفّي منسوب إليه تعالى على نحو الأصالة و إلى الملائكة على نحو التبعيّة لكونهم أسباباً متوسّطة مسخّرة له تعالى.

قوله تعالى: ( فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً - إلى قوله -عَدَداً ) ضمير( فَإِنَّهُ ) لله تعالى، و ضميراً( يَدَيْهِ ) و( خَلْفِهِ ) للرسول، و الراصد المراقب للأمر الحارس له، و الرصد الراصد يطلق على الواحد و الجماعة و هو في الأصل مصدر،

١٢٩

و المراد بما بين يدي الرسول ما بينه و بين الناس المرسل إليهم، و بما خلفه ما بينه و بين مصدر الوحي الّذي هو الله سبحانه و قد اعتبر في هذا التصوير ما يوهمه معنى الرسالة من امتداد متوهّم يأخذ من المُرسِل - اسم فاعل - و ينتهي إلى المرسل إليه يقطعه الرسول حتّى ينتهي إلى المرسل إليه فيؤدّي رسالته، و الآية تصف طريق بلوغ الغيب إلى الرسول و هو الرسالات الّتي توحي إليه كما يشير إلى ذلك قوله:( لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ ) .

و المعنى: فإنّ الله يسلك ما بين الرسول و من اُرسل إليه و ما بين الرسول و مصدر الوحي مراقبين حارسين من الملائكة - و من المعلوم أنّ سلوك الرصد من بين يديه و من خلفه لحفظ الوحي من كلّ تخليط و تغيير بالزيادة و النقصان يقع فيه من ناحية الشياطين بلا واسطة أو معها.

و قوله:( لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ ) ضمير( لِيَعْلَمَ ) لله سبحانه، و ضميراً( قَدْ أَبْلَغُوا ) و( رَبِّهِمْ ) لقوله:( مَنِ ) باعتبار المعنى أو لرسول باعتبار الجنس، و المراد بعلمه تعالى بإبلاغهم رسالات ربّهم العلم الفعليّ و هو تحقّق الإبلاغ في الخارج على حدّ قوله:( فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) العنكبوت: ٣ و هو كثير الورود في كلامه تعالى.

و الجملة تعليل لسلوك الرصد بين يدي الرسول و من خلفه، و المعنى ليتحقّق إبلاغ رسالات ربّهم أي لتبلغ الناس رسالاته تعالى على ما هي عليه من غير تغيّر و تبدّل.

و من المحتمل أن يرجع ضميراً( بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ ) إلى( غَيْبِهِ ) فيكون الرصد الحرس مسلوكين بين يدي الغيب النازل و من خلفه إلى أن يبلغ الرسول، و يضعّفه أنّه لا يلائم قوله:( لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ ) بالمعنى الّذي تقدّم لعدم استلزام بلوغ الغيب للرسول سليماً من تعرّض الشياطين حصول العلم بإبلاغه إلى الناس.

و إلى هذا المعنى يرجع قول بعضهم إنّ الضميرين يرجعان إلى جبريل حامل

١٣٠

الوحي. و يضعفه مضافاً إلى ما مرّ عدم سبق ذكره.

و قيل: ضمير ليعلم للرسول و ضميراً( قَدْ أَبْلَغُوا ) و( رَبِّهِمْ ) للملائكة الرصد و المعنى يرصد الملائكة الوحي و يحرسونه ليعلم الرسول أنّ الملائكة قد أبلغوا إليه الوحي كما صدر فتطمئنّ نفسه أنّه سليم من تعرّض الشياطين فإنّ لازم العلم بإبلاغهم إيّاه العلم ببلوغه.

و يبعّده أنّ ظاهر السياق - و يؤيّده سبق ذكر الرسول - أنّ المراد بالرسالات الرسالات الّتي حمّلها الرسول ليبلغها إلى الناس لا ما حمّلها ملك الوحي فضمير( رَبِّهِمْ ) للرسل دون الملائكة، على أنّ الآية تشير إلى الملائكة بعنوان الرصد و هو غير عنوان الرسالة و شأن الرصد الحفظ و الحراسة دون الرسالة.

و قيل: المعنى ليعلم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ الرسل قبله قد أبلغوا رسالات ربّهم، و هو وجه سخيف لا دليل عليه، و أسخف منه ما قيل: إنّ المعنى ليعلم مكذّب الرسل أنّ الرسل قد أبلغوا رسالات ربّهم إليهم.

و قوله:( وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ ) ضمير الجمع للرسل بناء على ما تقدّم من المعنى و الظاهر أنّ الجملة متمّمة لمعنى الحراسة المذكورة سابقاً فقوله:( مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ) يشير إلى رصد ما بين الرسول و المرسل إليهم، و قوله:( وَ مِنْ خَلْفِهِ ) إلى حفظ ما بينه و مصدر الوحي، و قوله:( وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ ) يشير إلى ظرف نفس الرسول و الإحاطة إحاطة علميّة فالوحي في أمن من تطرّق التغيير و التبديل فيما بين مصدر الوحي و الرسول و في نفس الرسول و في ما بين الرسول و المرسل إليهم.

و يمكن أن يكون المراد بما لديهم جميع ما له تعلّق مّا بالرسل أعمّ من مسير الوحي أو أنفسهم كما أنّ قوله:( وَ أَحْصى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ عَدَداً ) مسوق لإفادة عموم العلم بالأشياء غير أنّه العلم بعددها و تميّز بعضها من بعض.

فقد تبيّن ممّا مرّ في الآيات الثلاث:

أوّلاً: أنّ اختصاصه تعالى بعلم الغيب على نحو الأصالة بالمعنى الّذي أوضحناه فهو تعالى يعلم الغيب بذاته و غيره يعلمه بتعليم منه.

١٣١

و به يظهر أنّ ما حكي في كلامه تعالى من إنكارهم العلم بالغيب اُريد به نفي الأصالة و الاستقلال دون ما كان بوحي كقوله تعالى:( قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ) الأنعام: ٥٠، و قوله:( وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ ) الأعراف: ١٨٨ و قوله:( قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى‏ إِلَيَّ ) الأحقاف: ٩.

و ثانياً: أنّ عموم قوله:( فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً ) لمّا خصّص بقوله:( إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ ) عاد عامّاً مخصّصاً لا يأبى تخصيصاً بمخصّص آخر كما في مورد الأنبياء فإنّ الآيات القرآنيّة تدلّ على أنّهم يوحى إليهم كقوله:( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) النساء: ١٦٣ و تدلّ على أنّ الوحي من الغيب فالنبيّ ينال الغيب كما يناله الرسول هذا على تقدير أن يكون المراد بالرسول في الآية ما يقابل النبيّ و أمّا لو اُريد مطلق من أرسله الله إلى الناس و النبيّ ممّن أرسله الله إليهم كما يشهد به قوله:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ ) الآية الحجّ: ٥٢، و قوله:( وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ ) الأعراف: ٩٤ فالنبيّ خارج من عموم النفي من غير تخصيص جديد.

و كذا في مورد الإمام بالمعنى الّذي يستعمله فيه القرآن فإنّه تعالى يصفه بالصبر و اليقين كما في قوله:( وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ ) الم السجدة: ٢٤ و يعرّفهم بانكشاف الغطاء لهم كما في قوله:( وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) الأنعام: ٧٥، و قوله:( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) التكاثر: ٦ و قد تقدّم كلام في ذلك في بعض المباحث السابقة.

و أمّا الملائكة فما يحمّلونه من الوحي السماويّ قبل نزوله و كذا ما يشاهدونه من عالم الملكوت شهادة بالنسبة إليهم و إن كان غيباً بالنسبة إلينا. على أنّ قوله:( فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً ) إنّما يشمل أهل الدنيا ممّن يعيش على بسيط الأرض و إلّا لانتقض بالأموات المشاهدين لاُمور الآخرة و هي من الغيب بنصّ القرآن فلم

١٣٢

يبق تحت عموم النفي حتّى فرد واحد إذ ما من أحد إلّا و هو مبعوث ذلك يوم مجموع له الناس و ذلك يوم مشهود، و كما أنّ الأموات نشأتهم غير نشأة الدنيا كذلك نشأة الملائكة غير نشأة المادّة.

و ثالثاً: أنّ قوله:( فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ ) إلى آخر الآيتين يدلّ على أنّ الوحي الإلهيّ محفوظ من لدن صدوره من مصدر الوحي إلى بلوغه الناس مصون في طريق نزوله إلى أن يصل إلى من قصد نزوله عليه.

أمّا مصونيّته من حين صدوره من مصدره إلى أن ينتهي إلى الرسول فيكفي في الدلالة عليه قوله:( مِنْ خَلْفِهِ ) (١) و أمّا مصونيّته حين أخذ الرسول إيّاه و تلقّيه من ملك الوحي بحيث يعرفه و لا يغلط في أخذه، و مصونيّته في حفظه بحيث يعيه كما اُوحي إليه من غير أن ينساه أو يغيّره أو يبدّله، و مصونيّته في تبليغه إلى الناس من تصرف الشيطان فيه فالدليل عليه قوله:( لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ ) حيث يدلّ على أنّ الغرض الإلهيّ من سلوك الرصد أن يعلم إبلاغهم رسالات ربّهم أي أن يتحقّق في الخارج إبلاغ الوحي إلى الناس، و لازمه بلوغه إيّاهم و لو لا مصونيّة الرسول في الجهات الثلاث المذكورة جميعاً لم يتمّ الغرض الإلهي و هو ظاهر، و حيث لم يذكر تعالى للحصول على هذا الغرض طريقاً غير سلوك الرصد دلّ ذلك على أنّ الوحي محروس بالملائكة و هو عند الرسول كما أنّه محروس بهم في طريقه إلى الرسول حتّى ينتهي إليه، و يؤكّده قوله بعد:( وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ ) .

و أمّا مصونيّته في مسيره من الرسول حتّى ينتهي إلى الناس فيكفي فيه قوله:( مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ) على ما تقدّم من معناه.

أضف إلى ذلك دلالة قوله:( لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ ) بما تقدّم من تقريب دلالته.

____________________

(١) هذا بناء على رجوع الضمير إلى الرسول و أمّا بناء على احتمال رجوع الضمير إلى الغيب فالدالّ عليه مجموع ( مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ ) لكنه ضعيف كما تقدم.

١٣٣

و يتفرّع على هذا البيان أنّ الرسول مؤيّد بالعصمة في أخذ الوحي من ربّه و في حفظه و في تبليغه إلى الناس مصون من الخطإ في الجهات الثلاث جميعاً لما مرّ من دلالة الآية على أنّ ما نزّله الله من دينه على الناس من طريق الرسالة بالوحي مصون في جميع مراحله إلى أن ينتهي إلى الناس و من مراحله مرحلة أخذ الرسول للوحي و حفظه له و تبليغه إلى الناس.

و التبليغ يعمّ القول و الفعل فإنّ في الفعل تبليغاً كما في القول فالرسول معصوم من المعصية باقتراف المحرّمات و ترك الواجبات الدينيّة لأنّ في ذلك تبليغاً لما يناقض الدين فهو معصوم من فعل المعصية كما أنّه معصوم من الخطإ في أخذ الوحي و حفظه و تبليغه قولاً.

و قد تقدّمت الإشارة إلى أنّ النبوّة كالرسالة في دورانها مدار الوحي فالنبيّ كالرسول في خاصّة العصمة، و يتحصّل بذلك أنّ أصحاب الوحي سواء كانوا رسلاً أو أنبياء معصومون في أخذ الوحي و في حفظ ما اُوحي إليهم و في تبليغه إلى الناس قولاً و فعلاً.

و رابعاً: أنّ الّذي استثني في الآية من الإظهار على الغيب إظهار الرسول على ما يتوقّف عليه تحقّق إبلاغ رسالته أعمّ من أن يكون متن الرسالة كالمعارف الاعتقادية و شرائع الدين و القصص و العبر و الحكم و المواعظ أو يكون من آيات الرسالة و المعجزات الدالّة على صدق الرسول في دعواه كالّذي حكي عن بعض الرسل من الإخبار بالمغيّبات كقول صالح لقومه:( تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) هود: ٦٥، و قول عيسى لبني إسرائيل:( وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ ) آل عمران: ٤٩، و كذا ما ورد من مواعد الرسل، و ما ورد في الكتاب العزيز من الملاحم كلّ ذلك من إظهارهم على الغيب.

١٣٤

( بحث روائي‏)

عن تفسير العيّاشيّ، عن أبي جعفرعليه‌السلام : أنّه سأله المعتصم عن السارق من أيّ موضع يجب أن يقطع؟ فقال: إنّ القطع يجب أن يكون من مفصل اُصول الأصابع فتترك الكفّ.

فقال: و ما الحجّة في ذلك؟ قال: قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : السجود على سبعة أجزاء: الوجه و اليدين و الركبتين و الرجلين فإذا قطع من الكرسوع أو المرفق لم يدع له يداً يسجد عليها و قال الله:( وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ ) يعني به هذه الأعضاء السبعة الّتي يسجد عليها( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً ) و ما كان لله فلا يقطع. الحديث.

و في الكافي، بإسناده عن حمّاد بن عيسى عن أبي عبداللهعليه‌السلام في حديث: و سجد يعني أباعبداللهعليه‌السلام على ثمانية أعظم: الكفّين و الركبتين و إبهامي الرجلين و الجبهة و الأنف، و قال: سبعة منها فرض يسجد عليها و هي الّتي ذكرها الله في كتابه فقال:( وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً ) و هي الجبهة و الكفّان و الركبتان و الإبهامان و وضع الأنف على الأرض سنّة.

و عن الخرائج و الجرائح، روى محمّد بن الفضل الهاشميّ عن الرضاعليه‌السلام : أنّه نظر إلى ابن هذاب فقال: إن أنا أخبرتك أنّك ستبتلى في هذه الأيّام بدم ذي رحم لك لكنت مصدّقاً لي؟ قال: لا فإنّ الغيب لا يعلمه إلّا الله تعالى. قال: أ و ليس أنّه يقول:( عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ‏ ) فرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند الله مرتضى، و نحن ورثة ذلك الرسول الّذي أطلعه الله على ما يشاء من غيبه فعلمنا ما كان و ما يكون إلى يوم القيامة.

أقول: و الأخبار في هذا الباب فوق حدّ الإحصاء، و مدلولها أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذه بوحي من ربّه و أنّهم أخذوه بالوراثة منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١٣٥

( سورة المزّمّل مكّيّة و هي عشرون آية)

( سورة المزّمّل الآيات ١ - ١٩)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ( ١ ) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ( ٢ ) نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ( ٣ ) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ( ٤ ) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ( ٥ ) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ( ٦ ) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا ( ٧ ) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ( ٨ ) رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ( ٩ ) وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ( ١٠ ) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا ( ١١ ) إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا ( ١٢ ) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا ( ١٣ ) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا ( ١٤ ) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولًا ( ١٥ ) فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا ( ١٦ ) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا ( ١٧ ) السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا ( ١٨ ) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا ( ١٩ )

١٣٦

( بيان‏)

السورة تأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقيام الليل و الصلاة فيه ليستعدّ بذلك لتلقّي ثقل ما سيلقى عليه من القول الثقيل و القرآن الموحي إليه، و تأمره أن يصبر على ما يقولون فيه إنّه شاعر أو كاهن أو مجنون إلى غير ذلك و يهجرهم هجراً جميلاً، و فيها وعيد و إنذار للكفّار و تعميم الحكم لسائر المؤمنين، و في آخرها تخفيف مّا للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنين.

و السورة مكّيّة من عتائق السور النازلة في أوّل البعثة حتّى قيل: إنّها ثانية السور النازلة على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو ثالثتها.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ) بتشديد الزاي و الميم و أصله المتزمّل اسم فاعل من التزمّل بمعنى التلفّف بالثوب لنوم و نحوه، و ظاهره أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد تزمّل بثوب للنوم فنزل عليه الوحي و خوطب بالمزمّل.

و ليس في الخطاب به تهجين و لا تحسين كما توهّمه بعضهم، نعم يمكن أن يستفاد من سياق الآيات أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد قوبل في دعوته بالهزء و السخريّة و الإيذاء فاغتمّ في الله فتزمّل بثوب لينام دفعاً للهمّ فخوطب بالمزّمّل و اُمر بقيام الليل و الصلاة فيه و الصبر على ما يقولون على حدّ قوله تعالى:( اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ ) البقرة: ١٥٣ فاُفيد بذلك أنّ عليه أن يقاوم الكرب العظام و النوائب المرّة بالصلاة و الصبر لا بالتزمّل و النوم.

و قيل: المراد يا أيّها المتزمّل بعباءة النبوّة أي المتحمّل لأثقالها، و لا شاهد عليه من جهة اللفظ.

قوله تعالى: ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ) المراد بقيام اللّيل القيام فيه إلى الصلاة فالليل مفعول به توسعاً كما في قولهم: دخلت الدار، و قيل: معمول( قُمِ ) مقدّر و( اللَّيْلَ ) منصوب على الظرفيّة و التقدير قم إلى الصلاة في الليل، و قوله:( إِلَّا قَلِيلًا ) استثناء من الليل.

١٣٧

و قوله:( نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ) ظاهر السياق أنّه بدل من( اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ) المتعلّق به تكليف القيام، و ضميراً( مِنْهُ ) و( عَلَيْهِ) للنصف، و ضمير( نِصْفَهُ ) للّيل، و المعنى قم نصف الليل أو انقص من النصف قليلاً أو زد على النصف قليلاً، و الترديد بين الثلاثة للتخيير فقد خيّر بين قيام النصف و قيام أقلّ من النصف بقليل و قيام أكثر منه بقليل.

و قيل:( نِصْفَهُ ) بدل من المستثنى أعني( قَلِيلًا ) فيكون المعنى قم الليل إلّا نصفه أو انقص من النصف قليلا فقم أكثر من النصف بقليل أو زد على النصف فقم أقلّ من النصف، و تكون جملة البدل رافعاً لإبهام المستثنى بالمطابقة و لإبهام المستثنى منه بالالتزام عكس الوجه السابق.

و الوجهان و إن اتّحداً في النتيجة غير أنّ الوجه السابق أسبق إلى الذهن لأنّ الحاجة إلى رفع الإبهام عن متعلّق الحكم أقدم من الحاجة إلى رفع الإبهام عن توابعه و ملحقاته فكون قوله:( نصفه ) إلخ بدلاً من الليل و لازمه رفع إبهام متعلّق التكليف بالمطابقة أسبق إلى الذهن من كونه بدلاً من( قَلِيلًا ) .

و قيل: إنّ نصفه بدل من الليل لكنّ المراد بالقليل القليل من الليالي دون القليل من أجزاء الليل، و المعنى قم نصف الليل أو انقص منه قليلاً أو زد عليه إلّا قليلاً من الليالي و هي ليالي العذر من مرض أو غلبة نوم أو نحو ذلك، و لا بأس بهذا الوجه لكنّ الوجه الأوّل أسبق منه إلى الذهن.

و قوله:( وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ) ترتيل القرآن تلاوته بتبيين حروفه على تواليها، و الجملة معطوفة على قوله:( قُمِ اللَّيْلَ ) أي قم الليل و اقرأ القرآن بترتيل.

و الظاهر أنّ المراد بترتيل القرآن ترتيله في الصلاة أو المراد به الصلاة نفسها و قد عبّر سبحانه عن الصلاة بنظير هذا التعبير في قوله:( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى‏ غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ) إسراء: ٧٨، و قيل: المراد إيجاب قراءة القرآن دون الصلاة.

١٣٨

قوله تعالى: ( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ) الثقل كيفيّة جسمانيّة من خاصّته أنّه يشقّ حمل الجسم الثقيل و نقله من مكان إلى مكان و ربّما يستعار للمعاني إذا شقّ على النفس تحمّلها أو لم تطقها فربّما اُضيف إلى القول من جهة معناه فعدّ ثقيلاً لتضمّنه معنى يشقّ على النفس إدراكه أو لا تطيق فهمه أو تتحرّج من تلقّيه كدقائق الأنظار العلميّة إذا اُلقيت على الأفهام العامّة، أو لتضمّنه حقائق يصعب التحقّق بها أو تكاليف يشقّ الإتيان بها و المداومة عليها.

و القرآن قول إلهيّ ثقيل بكلا المعنيين: أمّا من حيث تلقّي معناه فإنّه كلام إلهي مأخوذ من ساحة العظمة و الكبرياء لا تتلقّاه إلّا نفس طاهرة من كلّ دنس منقطع عن كلّ سبب إلّا الله سبحانه، و كتاب عزيز له ظهر و بطن و تنزيل و تأويل تبياناً لكلّ شي‏ء، و قد كان ثقله مشهوداً من حال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما كان يأخذه من البرحاء و شبه الإغماء على ما وردت به الأخبار المستفيضة.

و أمّا من حيث التحقّق بحقيقة التوحيد و ما يتبعها من الحقائق الاعتقاديّة فكفى في الإشارة إلى ثقله قوله تعالى:( لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى‏ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) الحشر: ٢١، و قوله تعالى:( وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى‏ ) الرعد: ٣١.

و أمّا من حيث القيام بما يشتمل عليه من أمر الدعوة و إقامة مراسم الدين الحنيف، و إظهاره على الدين كلّه فيشهد به ما لقيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المصائب و المحن في سبيل الله و الأذى في جنب الله على ما يشهد به الآيات القرآنيّة الحاكية لما لقيه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المشركين و الكفّار و المنافقين و الّذين في قلوبهم مرض من أنواع الإيذاء و الهزء و الجفاء.

فقوله:( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ) المراد بالقول الثقيل القرآن العظيم على ما يسبق إلى الذهن من سياق هذه الآيات النازلة في أوّل البعثة، و به فسّره المفسّرون.

١٣٩

و الآية في مقام التعليل للحكم المدلول عليه بقوله:( قُمِ اللَّيْلَ ) إلخ فتفيد بمقتضى السياق - و الخطاب خاصّ بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - أنّ أمره بقيام الليل و التوجّه فيه إليه تعالى بصلاة اللّيل تهيئة له و إعداد لكرامة القرب و شرف الحضور و إلقاء قول ثقيل فقيام الليل هي السبيل المؤدّية إلى هذا الموقف الكريم و قد عدّ سبحانه صلاة الليل سبيلاً إليه في قوله الآتي:( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا ) .

و قد زاد سبحانه وعداً على ما في هذه الآية في قوله:( وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى‏ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً ) إسراء: ٧٩ و قد تقدّم معنى المقام المحمود في تفسير الآية.

و إذ كان من ثقل القرآن ثقله من حيث التحقّق بحقائقه و من حيث استجابته فيما يندب إليه من الشرائع و الأحكام فهو ثقيل على الاُمّة كما هو ثقيل عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و معنى الآية إنّا سنوحي إليك قولاً يثقل عليك و على اُمّتك أمّا ثقله عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا في التحقّق بحقائقه من الصعوبة و لما فيه من محنة الرسالة و ما يتبعها من الأذى في جنب الله و ترك الراحة و الدعة و مجاهدة النفس و الانقطاع إلى الله مضافاً إلى ما في تلقّيه من مصدر الوحي من الجهد، و أمّا ثقله على اُمّته فلأنّهم يشاركونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في لزوم التحقّق بحقائقه و اتّباع أوامره و نواهيه و رعاية حدوده كلّ طائفة منهم على قدر طاقته.

و للقوم في معنى ثقل القرآن أقوال اُخر:

منها: أنّه ثقيل بمعنى أنّه عظيم الشأن متين رصين كما يقال: هذا كلام له وزن إذا كان واقعاً موقعه.

و منها: أنّه ثقيل في الميزان يوم القيامة حقيقة أو مجازاً بمعنى كثرة الثواب عليه.

و منها: أنّه ثقيل على الكفّار و المنافقين بما له من الإعجاز و بما فيه من الوعيد.

و منها: أنّ ثقله كناية عن بقائه على وجه الدهر لأنّ الثقيل من شأنه أن يبقى و يثبت في مكانه.

و منها: غير ذلك و الوجوه المذكورة و إن كانت لا بأس بها في نفسها لكن ما تقدّم

١٤٠

من الوجه هو الظاهر السابق إلى الذهن.

قوله تعالى: ( إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلًا إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا ) الآية الاُولى في مقام التعليل لاختيار الليل وقتاً لهذه الصلاة، و الآية الثانية في مقام التعليل لترك النهار و الإعراض عنه كما أنّ الآية السابقة أعني قوله:( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ) في مقام التعليل لتشريع أصل هذه الصلاة.

فقوله:( إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلًا ) الناشئة إمّا مصدر كالعاقبة و العافية بمعنى النشأة و هي الحدوث و التكوّن، و إمّا اسم فاعل من النشأة مضاف إلى موصوفه و كيف كان فالمراد بها الليل و إطلاق الحادثة على الليل كإطلاقها على سائر أجزاء الخلقة و ربّما قيل: إنها الصلاة في الليل و وطؤ الأرض وضع القدم عليها، و كونها أشدّ وطأ كناية عن كونها أثبت قدماً لصفاء النفس و عدم تكدّرها بالشواغل النهارية و قيل: الوطء مواطاة القلب اللسان و اُيّد بقراءة( أَشَدُّ وَطْئاً ) و المراد بكونها أقوم قيلاً كونها أثبت قولاً و أصوب لحضور القلب و هدوّ الأصوات.

و المعنى إنّ حادثة الليل أو الصلاة في الليل هي أثبت قدماً - أو أشدّ في مواطاة القلب اللسان و أثبت قولاً و أصوب لما أنّ الله جعل الليل سكنا يستتبع انقطاع الإنسان عن شواغل المعيشة إلى نفسه و فراغ باله.

و قوله:( إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا ) السبح المشي السريع في الماء و السبح الطويل في النهار كناية عن الغور في مهمّات المعاش و أنواع التقلّب في قضاء حوائج الحياة.

و المعنى إنّ لك في النهار مشاغل كثيرة تشتغل بها مستوعبة لا تدع لك فراغاً تشتغل فيه بالتوجّه التامّ إلى ربّك و الانقطاع إليه بذكره فعليك بالليل و الصلاة فيه.

و قيل: المعنى إنّ لك في النهار فراغاً لنومك و تدبير أمر معاشك و التصرّف في حوائجك فتهجّد في الليل.

و قيل: المعنى إنّ لك في النهار فراغاً فإن فاتك من الليل شي‏ء أمكنك أن تتداركه في النهار و تقضيه فيه فالآية في معنى قوله:( وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ

١٤١

خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً ) الفرقان: 62.

و الّذي قدّمناه من المعنى أنسب للمقام.

قوله تعالى: ( وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ) الظاهر أنّه يصف صلاة الليل فهو كالعطف التفسيريّ على قوله:( وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ) و على هذا فالمراد بذكر اسم الربّ تعالى الذكر اللفظي بمواطاة من القلب و كذا المراد بالتبتّل التبتّل مع اللّفظ.

و قيل: الآية تعميم بعد التخصيص و المراد بالذكر دوام ذكره تعالى ليلاً و نهاراً على أيّ وجه كان من تسبيح و تحميد و صلاة و قراءة قرآن و غير ذلك، و إنّما فسّر الذكر بالدوام لأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينسه تعالى حتّى يؤمر بذكره، و المراد الدوام العرفيّ دون الحقيقيّ لعدم إمكانه. انتهى.

و فيه أنّه إن أراد بالذكر الذكر اللفظيّ فعدم نسيانهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّه تعالى لا ينافي أمره بالذكر اللفظي، و إن أراد ما يعمّ الذكر القلبيّ فهو ممنوع و لو سلّم ففيه أوّلاً أنّ عدم نسيانهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّه إلى حين الخطاب لا ينافي أمره بذكره بعده و ثانياً أنّ عدّه الدوام الحقيقيّ غير ممكن و حمل الدوام على العرفيّ وهم ناش عن عدم تحصيل المعنى على ما هو عليه فالله جلّ ذكره مذكور للإنسان لا يغيب عنه و لا لحظة سواء تنبّه عليه الإنسان أو غفل عنه. و من الممكن أن يعرّفه الله نفسه بحيث لا يغفل عنه و لا في حال قال تعالى:( فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ هُمْ لا يَسْأَمُونَ ) حم السجدة: 38 و قال:( يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ ) الأنبياء: 20 و قد تقدّم في تفسير الآيتين و آخر سورة الأعراف أنّ ذلك لا يختصّ بالملائكة.

و بالجملة قوله:( وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ ) أمر بذكر اسم من أسمائه أو لفظ الجلالة خاصّة و قيل: المراد به البسملة.

و في قوله:( رَبِّكَ ) التفات عن التكلّم مع الغير في قوله:( إِنَّا سَنُلْقِي ) إلى الغيبة و لعلّ الوجه فيه إيقاظ ذلّة العبوديّة الّتي هي الرابطة بين العبد و ربّه،

١٤٢

بذكر صفة الربوبيّة.

و قوله:( وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ) فسّر التبتّل بالانقطاع أي و انقطع إلى الله، و من المرويّ عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ التبتّل رفع اليد إلى الله و التضرّع إليه، و هذا المعنى أنسب بناء على حمل الذكر على الذكر اللفظيّ كما تقدّم.

و( تَبْتِيلًا ) مفعول مطلق ظاهراً و كان مقتضى الظاهر أن يقال: و تبتّل إليه تبتّلاً فالعدول إلى التبتيل قيل: لتضمين تبتّل معنى بتّل، و المعنى و قطّع نفسك من غيره إليه تقطيعاً أو احمل نفسك على رفع اليد إليه و التضرّع حملاً، و قيل: لمراعاة الفواصل.

قوله تعالى: ( رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ) وصف مقطوع عن الوصفيّة و التقدير هو ربّ المشرق و المغرب، و ربّ المشرق و المغرب في معنى ربّ العالم كلّه فإنّ المشرق و المغرب جهتان نسبيّتان تشملان جهات العالم المشهود كلّها، و إنّما اختصّاً بالذكر لمناسبة ما تقدّم من ذكر الليل و النهار المرتبطين بالشروق و الغروب.

و إنّما لم يقتصر في الإشارة إلى ربوبيّته تعالى بقوله السابق:( رَبِّكَ ) للإيذان بأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مأمور باتّخاذه ربّاً لأنّه ربّه و ربّ العالم كلّه لا لأنّه ربّه وحده كما ربّما كان الرجل من الوثنيّين يتّخذ صنماً لنفسه فحسب غير ما اتّخذه غيره من الأصنام و لو كان اتّخاذهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له تعالى ربّاً من هذا القبيل أو احتمل ذلك لم تصحّ دعوته إلى التوحيد.

و ليكون قوله:( رَبِّكَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ ) - و هو في معنى ربّ العالم كلّه - توطئة و تمهيداً لقوله بعده:( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) يعلّل به توحيد الاُلوهيّة فإنّ الاُلوهيّة و هي المعبوديّة من فروع الربوبيّة الّتي هي الملك و التدبير كما تقدّم مراراً فهو تعالى الإله وحده لا إله إلّا هو لأنّه الربّ وحده لا ربّ إلّا هو.

و قوله:( فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ) أي في جميع اُمورك، و توكيل الوكيل هو إقامة الإنسان غيره مقام نفسه بحيث تقوم إرادته مقام إرادته و عمله مقام عمله فاتّخاذه تعالى

١٤٣

وكيلاً أن يرى الإنسان الأمر كلّه له و إليه تعالى أمّا في الاُمور الخارجيّة و الحوادث الكونيّة فأن لا يرى لنفسه و لا لشي‏ء من الأسباب الظاهريّة استقلالاً في التأثير فلا مؤثّر في الوجود بحقيقة معنى التأثير إلّا الله فلا يتعلّق بتأثير سبب من الأسباب برضىّ أو سخط أو سرور أو أسف و غير ذلك بل يتوسّل إلى مقاصده و مآربه بما عرّفه الله من الأسباب من غير أن يطمئنّ إلى استقلالها في التأثير و يرجع الظفر بالمطلوب إلى الله ليختار له ما يرتضيه.

و أمّا الاُمور الّتي لها تعلّق بالعمل من العبادات و المعاملات فأن يجعل إرادته تابعة لإرادة ربّه التشريعيّة فيعمل على حسب ما يريده الله تعالى منه فيما شرّع من الشريعة.

و من هنا يظهر أنّ لقوله:( فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ) ارتباطاً بقوله:( وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ ) إلخ و ما تقدّم عليه من الأوامر التشريعيّة كما أنّ له ارتباطاً بما تأخّر عنه من قوله( وَ اصْبِرْ ) و قوله( اهْجُرْهُمْ ) و قوله:( وَ ذَرْنِي ) .

قوله تعالى: ( وَ اصْبِرْ عَلى‏ ما يَقُولُونَ وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا ) معطوف هو و ما بعده على مدخول الفاء في قوله:( فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًاًا ) فالمعنى اتّخذه وكيلاً و لازم اتّخاذه وكيلاً أن تصبر على ما يقولون ممّا فيه إيذاؤك و الاستهزاء بك و رميك بما ليس فيك كقولهم: افترى على الله، كاهن شاعر، مجنون، أساطير الأوّلين و غير ذلك ممّا يقصّه القرآن.

و أن تهجرهم هجراً جميلاً، و المراد بالهجر الجميل على ما يعطيه السياق أن يعاملهم بحسن الخلق و الدعوة إلى الحقّ بالمناصحة، و لا يواجه قولهم بما في وسعه من المقابلة بالمثل، و الآية لا تدافع آية القتال فلا وجه لقول من قال: إنّها منسوخة بآية القتال.

قوله تعالى: ( وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلًا ) تهديد للكفّار يقال: دعني و فلاناً و ذرني و فلاناً أي لا تحل بيني و بينه حتّى أنتقم منه.

و المراد بالمكذّبين اُولي النعمة الكفّار المذكورون في الآية السابقة أو رؤساؤهم

١٤٤

المتبوعون، و الجمع بين توصيفهم بالمكذّبين و توصيفهم باُولي النعمة للإشارة إلى علّة ما يهدّدهم به من العذاب فإنّ تكذيبهم بالدعوة الإلهيّة و هم متنعّمون بنعمة ربّهم كفران منهم بالنعمة و جزاء الكفران سلب النعمة و تبديلها من النقمة.

و المراد بالقليل الّذي يمهّلونه الزمان القليل الّذي يمكثون في الأرض حتّى يرجعوا إلى ربّهم فيحاسبهم و يجازيهم قال تعالى:( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً ) المعارج: 7، و قال:( مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ ) آل عمران: 197.

و الآية بظاهرها عامّة، و قيل: وعيد لهم بوقعة بدر و ليس بظاهر، و في الآية التفات عن الغيبة في( رَبِّكَ ) إلى التكلّم وحده في( ذَرْنِي ) و لعلّ الوجه فيه تشديد التهديد بنسبة الأمر إليه سبحانه نفسه ثمّ التفت في قوله:( إِنَّ لَدَيْنا ) إلى التكلّم مع الغير للدلالة على العظمة.

قوله تعالى: ( إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَ جَحِيماً ) تعليل لقوله:( ذَرْنِي ) إلخ و الأنكال القيود، قال الراغب يقال: نكل عن الشي‏ء ضعف و عجز، و نكلته قيّدته و النكل - بالكسر فالسكون - قيد الدابّة و حديدة اللجام لكونهما مانعين، و الجمع الأنكال انتهى، و قال: الجحمة شدّة تأجّج النار و منه الجحيم، انتهى.

قوله تعالى: ( وَ طَعاماً ذا غُصَّةٍ وَ عَذاباً أَلِيماً ) قال في المجمع: الغصّة تردّد اللقمة في الحلق و لا يسيغها آكلها يقال: غصّ بريقه يغصّ غصصاً، و في قلبه غصّة من كذا و هي كاللدغة الّتي لا يسوغ معها الطعام و الشراب، انتهى.

و الآيتان تذكران نقم الآخرة الّتي بدّلت منها نعم الدنيا جزاء لكفرانهم بنعم الله.

قوله تعالى: ( يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا ) ظرف للعذاب الموعود في الآيتين السابقتين، قال الراغب: الرجف الاضطراب الشديد يقال: رجفت الأرض و البحر انتهى. و في المجمع: الكثيب الرمل المجتمع الكثير، و هلت أهيله هيلاً فهو مهيل إذا حرّك أسفله فسال أعلاه انتهى، و المعنى ظاهر.

١٤٥

قوله تعالى: ( إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى‏ فِرْعَوْنَ رَسُولًا ) إنذار للمكذّبين اُولي النعمة من قومهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ما أوعد مطلق المكذّبين اُولي النعمة بما أعدّ لهم من العذاب يوم القيامة بقياس حالهم إلى حال فرعون المستكبر على الله و رسوله المستذلّ لرسول الله و من آمن معه من قومه ثمّ قرع أسماعهم بما انتهى إليه أمر فرعون من أخذ الله له أخذاً وبيلاً فليتّعظوا و ليأخذوا حذرهم.

و في الآية التفات عن الغيبة إلى الخطاب كأنّ المتكلّم لما أوعدهم بالعذاب على الغيبة هاج به الوجد على اُولئك المكذّبين بما يلقون أنفسهم بأيديهم إلى الهلاك الأبديّ لسفاهة رأيهم فشافههم بالإنذار ليرتفع عن أنفسهم أيّ شكّ و ترديد و تتمّ عليهم الحجّة و لعلّهم يتّقون، و لذا عقّب قياسهم إلى فرعون و قياس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى موسىعليه‌السلام و الإشارة إلى عقابه أمر فرعون بقوله( فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً ) إلخ.

فقوله:( إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ) إشارة إلى تصديق رسالة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبله تعالى و شهادته على أعمالهم بتحمّلها في الدنيا و تأديتها يوم القيامة، و قد تقدّم البحث عن معنى شهادة الأعمال في الآيات المشتملة عليها مراراً، و في الإشارة إلى شهادتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نوع زجر لهم عن عصيانه و مخالفته و تكذيبه.

و قوله:( كَما أَرْسَلْنا إِلى‏ فِرْعَوْنَ رَسُولًا ) هو موسى بن عمرانعليه‌السلام .

قوله تعالى: ( فَعَصى‏ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا ) أي شديداً ثقيلاً. إشارة إلى عاقبة أمر فرعون في عصيانه موسىعليه‌السلام ، و في التعبير عن موسى بالرسول إشارة إلى أنّ السبب الموجب لأخذ فرعون مخالفته أمر رسالته لا نفس موسى بما أنّه موسى، و إذا كان السبب هو مخالفة الرسالة فليحذروا مخالفة رسالة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

كما أنّ وضع الظاهر موضع الضمير في قوله:( فَعَصى‏ فِرْعَوْنُ ) للإيماء إلى أنّ ما كان له من العزّة و العلوّ في الأرض و التبجّح بكثرة العدّة و سعة المملكة و نفوذ المشيّة لم يغن عنه شيئاً و لم يدفع عنه عذاب الله فما الظنّ بهؤلاء المكذّبين؟ و هم كما قال الله:( جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ ) ص: 11.

١٤٦

قوله تعالى: ( فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً ) نسبة الاتّقاء إلى اليوم من المجاز العقليّ و المراد اتّقاء العذاب الموعود فيه، و عليه فيوماً مفعول به لتتّقون، و قيل: مفعول( تَتَّقُونَ ) محذوف و( يَوْماً ) ظرف له و التقدير فكيف تتّقون العذاب الكائن في يوم، و قيل: المفعول محذوف و( يَوْماً ) ظرف للاتّقاء و قيل غير ذلك.

و قوله:( يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً ) الشيب جمع أشيب مقابل الشابّ، و جعل الولدان شيباً كناية عن شدّة اليوم لا عن طوله.

قوله تعالى: ( السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا ) إشارة بعد إشارة إلى شدّة اليوم، و الانفطار الانشقاق و تذكير الصفة لكون السماء جائز الوجهين يذكّر و يؤنّث، و ضمير( بِهِ ) لليوم، و الباء بمعنى في أو للسببيّة، و المعنى السماء منشقّة في ذلك اليوم أو بسبب ذلك اليوم أي بسبب شدّته.

و قوله:( كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا ) استئناف لتسجيل ما تقدّم من الوعيد و أنّه حتم مقضيّ و نسبة الوعد إلى ضميره تعالى لعلّه للإشعار بأن لا يصلح لهذا الوعد إلّا الله تعالى فيكفي فيه الضمير من غير حاجة إلى ذكره باسمه.

قوله تعالى: ( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا ) الإشارة بهذه إلى الآيات السابقة بما تشتمل عليه من القوارع و الزواجر، و التذكرة الموعظة الّتي يذكر بها ما يعمل عليه.

و قوله:( فَمَنْ شاءَ ) مفعول( شاءَ ) محذوف و المعروف في مثل هذا المورد أن يقدّر المفعول من جنس الجواب و السياق يلائمه، و التقدير فمن شاء أن يتّخذ إلى ربّه سبيلاً اتّخذ إلخ، و قيل: المقدّر الاتّعاظ، و المراد باتّخاذ السبيل إليه اتّخاذ السبيل إلى التقرّب منه، و السبيل هو الإيمان و الطاعة هذا ما ذكره المفسّرون.

و من الممكن أن تكون هذه إشارة إلى ما تقدّم في صدر السورة من الآيات النادبة إلى قيام الليل و التهجّد فيه، و الآية مسوقة لتوسعة الخطاب و تعميمه لغير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المؤمنين بعد ما كان خطاب صدر الصورة مختصّاً بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

١٤٧

و الدليل على هذا التعميم قوله:( فَمَنْ شاءَ ) إلخ.

و يؤيّد ما ذكرنا وقوع هذه الآية( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ ) إلخ بعينها في سورة الدهر بعد ما اُشير إلى صلاة الليل بقوله تعالى:( وَ سَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ) و يستنتج من ذلك أنّ صلاة الليل سبيل خاصّة تهدي العبد إلى ربّه.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج البزّار و الطبرانيّ في الأوسط و أبونعيم في الدلائل عن جابر قال: اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا: سمّوا هذا الرجل اسماً يصدر الناس عنه فقالوا: كاهن. قالوا ليس بكاهن. قالوا: مجنون. قالوا: ليس بمجنون. قالوا ساحر. قالوا: ليس بساحر. قالوا: يفرّق بين الحبيب و حبيبه فتفرّق المشركون على ذلك.

فبلغ ذلك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتزمّل في ثيابه و تدثّر فيها فأتاه جبريل فقال: يا أيّها المزّمّل يا أيّها المدّثّر.

أقول: آخر الرواية لا يخلو من شي‏ء حيث إنّ ظاهرها نزول السورتين معاً. على أنّ القرآن حتّى في سورة المدّثّر يحكي تسميتهم لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بألقاب السوء كالكاهن و الساحر و المجنون و الشاعر و لم يذكر فيها قولهم: يفرّق بين الحبيب و حبيبه.

و فيه، أخرج عبدالله بن أحمد في كتاب الزهد و محمّد بن نصر في كتاب الصلاة عن عائشة قالت: كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قلّما ينام من الليل لما قال الله له:( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ) .

و في الكشّاف، عن عائشة: أنّها سألت: ما كان تزميله؟ قالت: كان مرطاً طوله أربع عشرة ذراعاً نصفه عليّ و أنا نائمة و نصفه عليه و هو يصلّي. فسئلت: ما كان؟ قالت: و الله ما كان خزّاً و لا قزّاً و لا مرعزّيّاً و لا إبريسماً و لا صوفاً. كان سداه شعراً و لحمته وبراً.

أقول: الرواية مرمية بالوضع فإنّ السورة من العتائق النازلة بمكّة، و عائشة إنّما بنى عليها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة بعد الهجرة.

١٤٨

و عن جوامع الجامع، روي: أنّه قد دخل على خديجة و قد جئث فرقاً(1) فقال: زمّلوني فبينا هو على ذلك إذ ناداه جبريل:( يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ) .

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لمّا نزلت( يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ) مكث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على هذه الحال عشر سنين يقوم اللّيل كما أمره الله و كانت طائفة من أصحابه يقومون معه فأنزل الله بعد عشر سنين( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ - إلى قوله -وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) فخفّف الله عنهم بعد عشر سنين.

أقول: و روي نزول آية التخفيف بعد سنة و روي أيضاً نزولها بعد ثمانية أشهر، و لم يكن قيام الليل واجباً على غير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما اُشير إليه بقوله تعالى:( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ ) الآية كما تقدّم، و يؤيّده ما في الرواية من قوله:( و طائفة من أصحابه) .

و في التهذيب، بإسناده عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله تعالى:( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ) قال: أمره الله أن يصلّي كلّ ليلة إلّا أن تأتي عليه ليلة من اللّيالي لا يصلّي فيها شيئاً.

أقول: الرواية تشير إلى أحد الوجوه في الآية.

و في المجمع: و قيل: إنّ نصفه بدل من القليل فيكون بياناً للمستثنى، و يؤيّد هذا القول‏ ما روي عن الصادقعليه‌السلام قال: القليل النصف أو انقص من القليل قليلاً أو زد على القليل قليلاً.

و في الدرّ المنثور، أخرج العسكريّ في المواعظ عن عليّعليه‌السلام أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن قول الله:( وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ) قال: بيّنه تبييناً، و لا تنثره نثر الدقل، و لا تهذّه هذّ الشعر، قفوا عند عجائبه، و حرّكوا به القلوب، و لا يكن همّ أحدكم آخر السورة.

أقول: و روي هذا المعنى في اُصول الكافي، بإسناده عن عبدالله بن سليمان عن الصادق

____________________

(1) جئث الرجل ثقل عند القيام أو عند حمل شي‏ء ثقيل و الفرق: الفزع و الخوف.

١٤٩

عن عليّعليه‌السلام و لفظ بيّنه تبييناً و لا تهذّه هذّ الشعر، و لا تنثره نثر الرمل، و لكن أفرغوا(1) قلوبكم القاسية و لا يكن هم أحدكم آخر السورة.

و فيه، أخرج ابن أبي شيبة عن طاووس قال: سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيّ الناس أحسن قراءة قال الّذي إذا سمعته يقرأ رأيت أنّه يخشى الله.

و في اُصول الكافي، بإسناده عن عليّ بن أبي حمزة قال قال أبوعبداللهعليه‌السلام : إنّ القرآن لا يقرأ هذرمة(2) و لكن يرتّل ترتيلاً فإذا مررت بآية فيها ذكر الجنّة فقف عندها و اسأل الله عزّوجلّ الجنّة، و إذا مررت بآية فيها ذكر النار فقف عندها و تعوّذ بالله من النار.

و في المجمع، في معنى الترتيل عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: هو أن تتمكّث فيه و تحسن به صوتك.

و فيه، روي عن اُمّ سلمة أنّها قالت: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقطع قراءته آية آية.

و فيه، عن أنس قال: كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمدّ صوته مدّاً.

و فيه، سأل الحارث بن هشام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس و هو أشدّ علي فيفصم(3) عنّي و قد وعيت ما قال و أحياناً يتمثّل الملك رجلاً فأعي ما يقول.

قالت عائشة: إنّه كان ليوحي إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو على راحلته فتضرب بجرانها.

قالت: و لقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه و إنّ جبينه ليرفضّ عرقاً.

و عن تفسير العيّاشيّ، بإسناده عن عيسى بن عبيد عن أبيه عن جدّه عن عليّعليه‌السلام قال: كان القرآن ينسخ بعضه بعضاً، و إنّما يؤخذ من أمر رسول الله

____________________

(1) أفرغ الإناء: أخلاه.

(2) الهذرمة: الإسراع في القراءة.

(3) الفصم: القطع.

١٥٠

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بآخره.

و كان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة نسخت ما قبلها و لم ينسخها شي‏ء لقد نزلت عليه و هو على بغلة شهباء و ثقل عليها الوحي حتّى وقفت و تدلّى بطنها حتّى رأيت سرّتها تكاد تمسّ الأرض.

أقول: إن صحّت الرواية كان ظهور أثر ثقل الوحي على الناقة أو البغلة من قبيل تجسّم المعاني و كثيراً ما يوجد مثله فيما نقل من المعجزات و كرامات الأولياء، و أمّا اتّصاف الوحي و هو كلام بالثقل المادّيّ فغير معقول.

و في التهذيب، بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ:( إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلًا ) قال: يعني بقوله:( وَ أَقْوَمُ قِيلًا ) قيام الرجل عن فراشه يريد به الله عزّوجلّ لا يريد به غيره.

أقول: و رواه أيضاً بسندين آخرين في التهذيب و العلل عن هشام عنهعليه‌السلام .

و في المجمع في قوله تعالى:( إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ ) الآية: و المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام أنّهما قالا: هي القيام في آخر اللّيل.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن المنذر عن حسين بن عليّ أنّه رؤي يصلّي بين المغرب و العشاء فقيل له في ذلك؟ فقال: إنّهما من الناشئة.

و في المجمع: في قوله تعالى:( وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ) وروى محمّد بن مسلم و زرارة و حمران عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام أنّ التبتّل هذا رفع اليدين في الصلاة. و في رواية أبي بصير قال: هو رفع يدك إلى الله و تضرّعك.

أقول: و ينطبق على قنوت الصلاة، و في رواية هو رفع اليدين و تحريك السبّابتين، و في رواية الإيماء بالإصبع و في رواية الدعاء بإصبع واحدة يشير بها.

و فيه في قوله تعالى:( وَ طَعاماً ذا غُصَّةٍ ) الآية: عن عبدالله بن عمر: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمع قارئاً يقرأ هذا فصعق.

و في تفسير القمّيّ في قوله:( وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا ) قال: مثل الرمل ينحدر.

١٥١

( سورة المزّمّل آية 20)

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 20 )

( بيان‏)

آية مبنيّة على التخفيف فيما أمر به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صدر السورة من قيام الليل و الصلاة فيه ثمّ عمّم الحكم لسائر المؤمنين بقوله:( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ ) الآية.

و لسان الآية هو التخفيف بما تيسّر من القرآن من غير نسخ لأصل الحكم السابق بالمنع عن قيام ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه.

و قد ورد في غير واحد من الأخبار أنّ الآية مكّيّة نزلت بعد ثمانية أشهر أو سنة أو عشر سنين من نزول آيات صدر السورة لكن يوهنه اشتمال الآية على قوله تعالى:( وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً ) فإنّ ظاهره أنّ المراد

١٥٢

بالزكاة - و قد ذكرت قبلها الصلاة و بعدها الإنفاق المستحبّ - هو الزكاة المفروضة و إنّما فرضت الزكاة بالمدينة بعد الهجرة.

و قول بعضهم: إنّ الزكاة فرضت بمكّة من غير تعيين الأنصباء و الّذي فرض بالمدينة تعيين الأنصباء، تحكّم من غير دليل، و كذا قول بعضهم: إنّه من الممكن أن تكون الآية ممّا تأخّر حكمه عن نزوله.

على أنّ في الآية ذكراً من القتال إذ يقول:( وَ آخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) و لم يكن من مصلحة الدعوة الحقّة يومئذ ذاك و الظرف ذلك الظرف أن يقع في متنها ذكر من القتال بأيّ وجه كان، فالظاهر أنّ الآية مدنيّة و ليست بمكّيّة و قد مال إليه بعضهم.

قوله تعالى: ( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى‏ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ ) إلى آخر الآية. الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و في التعبير بقوله:( رَبَّكَ ) تلويح إلى شمول الرحمة و العناية الإلهيّة، و كذا في قوله:( يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ) إلخ مضافاً إلى ما فيه من لائحة الشكر قال تعالى:( وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ) الدهر: 22.

و قوله:( تَقُومُ أَدْنى‏ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ ) أدنى اسم تفضيل من الدنوّ بمعنى القرب، و قد جرى العرف على استعمال أدنى فيما يقرب من الشي‏ء و هو أقلّ فيقال: إنّ عدّتهم أدنى من عشرة إذا كانوا تسعة مثلاً دون ما لو كانوا أحد عشر فمعنى قوله:( أَدْنى‏ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ ) أقرب من ثلثيه و أقلّ بقليل.

و الواو العاطفة في قوله:( وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ ) لمطلق الجمع و المراد أنّه يعلم أنّك تقوم في بعض الليالي أدنى من ثلثي الليل و في بعضها نصفه و في بعضها ثلثه.

و قوله:( وَ طائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ) المراد المعيّة في الإيمان و( مِنْ ) للتبعيض فالآية تدلّ على أنّ بعضهم كان يقوم الليل كما كان يقومه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . و قيل( من ) بيانيّة، و هو كما ترى.

و قوله:( وَ اللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ ) في مقام التعليل لقوله:( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ ) و المعنى و كيف لا يعلم و هو الله الّذي إليه الخلق و التقدير ففي تعيين قدر اللّيل و النهار

١٥٣

تعيين ثلثهما و نصفهما و ثلثيهما، و نسبة تقدير اللّيل و النهار إلى اسم الجلالة دون اسم الربّ و غيره لأنّ التقدير من شؤن الخلق و الخلق إلى الله الّذي إليه ينتهي كلّ شي‏ء.

و قوله:( عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) الإحصاء تحصيل مقدار الشي‏ء و عدده و الإحاطة به، و ضمير( لَنْ تُحْصُوهُ ) للتقدير أو للقيام مقدار ثلث الليل أو نصفه أو أدنى من ثلثيه، و إحصاء ذلك مع اختلاف الليالي طولاً و قصراً في أيّام السنة ممّا لا يتيسّر لعامّة المكلّفين و يشتدّ عسراً لمن نام أوّل اللّيل و أراد القيام بأحد المقادير الثلاثة دون أن يحتاط بقيام جميع اللّيل أو ما في حكمه.

فالمراد بقوله:( عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ ) علمه تعالى بعدم تيسّر إحصاء المقدار الّذي اُمروا بقيامه من اللّيل لعامّة المكلّفين.

و المراد بقوله:( فَتابَ عَلَيْكُمْ ) توبته تعالى و رجوعه إليهم بمعنى انعطاف الرحمة الإلهيّة عليهم بالتخفيف فللّه سبحانه توبة على عباده ببسط رحمته عليهم و أثرها توفيقهم للتوبة أو لمطلق الطاعة أو رفع بعض التكاليف أو التخفيف قال تعالى:( ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ) التوبة: 118.

كما أنّ له توبة عليهم بمعنى الرجوع إليهم بعد توبتهم و أثرها مغفرة ذنوبهم، و قد تقدّمت الإشارة إليه.

و المراد بقوله:( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) التخفيف في قيام اللّيل من حيث المقدار لعامّة المكلّفين تفريعاً على علمه تعالى أنّهم لن يُحصوه.

و لازم ذلك التوسعة في التكليف بقيام اللّيل من حيث المقدار حتّى يسع لعامّة المكلّفين الشاقّ عليهم إحصاؤه دون النسخ بمعنى كون قيام الثلث أو النصف أو الأدنى من الثلثين لمن استطاع ذلك بدعة محرّمة و ذلك أنّ الإحصاء المذكور إنّما لا يتيسّر لمجموع المكلّفين لا لجميعهم و لو امتنع لجميعهم و لم يتيسّر لأحدهم لم يشرّع من أصله و لا يكلّف الله نفساً إلّا وسعها.

على أنّه تعالى يصدّق لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و طائفة من الّذين معه قيام الثلث و النصف

١٥٤

و الأدنى من الثلثين و ينسب عدم التمكّن من الإحصاء إلى الجميع و هم لا محالة هم القائمون و غيرهم فالحكم إنّما كان شاقّاً على المجموع من حيث المجموع دون كلّ واحد فوسّع في التكليف بقوله:( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) و سهّل الأمر بالتخفيف ليكون لعامّة المكلّفين فيه نصيب مع بقاء الأصل المشتمل عليه صدر السورة على حاله لمن تمكّن من الإحصاء و إرادة، و الحكم استحبابيّ لسائر المؤمنين و إن كان ظاهر ما للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الخطاب الوجوب كما تقدّمت الإشارة إليه.

و للقوم في كون المراد بقيام اللّيل الصلاة فيه أو قراءة القرآن خارج الصلاة، و على الأوّل في كونه واجباً على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنين أو مستحبّاً للجميع أو واجباً على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستحبّاً لغيره ثمّ في نسخ الحكم بالتخفيف بما تيسّر بهذه الآية أو تبديل الصلاة من قراءة ما تيسّر من القرآن أقوال لا كثير جدوى في التعرّض لها و البحث عنها.

و قوله:( عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى‏ وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَ آخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) إشارة إلى مصلحة اُخرى مقتضية للتخفيف في أمر القيام ثلث اللّيل أو نصفه أو أدنى من ثلثيه، وراء كونه شاقّاً على عامّة المكلّفين بالصفة المذكورة أوّلاً فإنّ الإحصاء المذكور للمريض و المسافر و المقاتل مع ما هم عليه من الحال شاقّ عسير جدّاً.

و المراد بالضرب في الأرض للابتغاء من فضل الله طلب الرزق بالمسافرة من أرض إلى أرض للتجارة.

و قوله:( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً ) تكرار للتخفيف تأكيداً، و ضمير( مِنْهُ ) للقرآن، و المراد الإتيان بالصلاة على ما يناسب سعة الوقت الّذي قاموا فيه.

و المراد بالصلاة المأمور بإقامتها الفريضة فإن كانت الآية مدنيّة فالفرائض الخمس اليوميّة و إن كانت مكّيّة فبحسب ما كانت مفروضة من الصلاة، و المراد بالزكاة الزكاة المفروضة، و المراد بإقراضه تعالى غير الزكاة من الإنفاقات الماليّة في سبيل الله.

١٥٥

و عطف الأمر بإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة و الإقراض للتلويح إلى أنّ التكاليف الدينيّة على حالها في وجوب الاهتمام بها و الاعتناء بأمرها، فلا يتوهّمنّ متوهّم سريان التخفيف و المسامحة في جميع التكاليف فالآية نظيرة قوله في آية النجوى:( فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا اللهَ وَ رَسُولَهُ ) المجادلة: 13.

و قوله:( وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَ أَعْظَمَ أَجْراً ) ( مِنْ خَيْرٍ ) بيان للموصول، و المراد بالخير مطلق الطاعة أعمّ من الواجبة و المندوبة، و( هُوَ ) ضمير فصل أو تأكيد للضمير في( تَجِدُوهُ ) .

و المعنى: و الطاعة الّتي تقدّمونها لأنفسكم - أي لتعيشوا بها في الآخرة - تجدونها عند الله - أي في يوم اللقاء - خيراً من كلّ ما تعملون أو تتركون و أعظم أجرا.

و قوله:( وَ اسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ختم الكلام بالأمر بالاستغفار، و في قوله:( إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) إشعار بوعد المغفرة و الرحمة، و لا يبعد أن يكون المراد بالاستغفار الإتيان بمطلق الطاعات لأنّها وسائل يتوسّل بها إلى مغفرة الله فالإتيان بها استغفار.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله تعالى:( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى‏ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ ) ففعل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك و بشّر الناس به فاشتدّ ذلك عليهم و( عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ ) و كان الرجل يقوم و لا يدري متى ينتصف اللّيل و متى يكون الثلثان، و كان الرجل يقوم حتّى يصبح مخافة أن لا يحفظه.

فأنزل الله( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ - إلى قوله -عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ ) يقول: متى يكون النصف و الثلث نسخت هذه الآية( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) ، و

١٥٦

اعلموا أنّه لم يأت نبيّ قطّ إلّا خلا بصلاة اللّيل، و لا جاء نبيّ قطّ بصلاة اللّيل في أوّل اللّيل.

أقول: محصّل الرواية أنّ صدر السورة توجب صلاة اللّيل و ذيلها تنسخها، و روي ما يقرب منه من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس و غيره، و قد تقدّم ما يتعلّق به في البيان السابق.

و في المجمع، روى الحاكم أبوالقاسم إبراهيم الحسكانيّ بإسناده عن الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عبّاس في قوله تعالى:( وَ طائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ) قال: عليّ و أبوذرّ.

و فيه في قوله تعالى:( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ) روي عن الرضا عن أبيه عن جدّهعليهم‌السلام قال: ما تيسّر منه لكم فيه خشوع القلب و صفاء السرّ.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و الطبرانيّ و ابن مردويه عن ابن عبّاس عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ) قال: مائة آية.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما من جالب يجلب طعاماً إلى بلد من بلاد المسلمين فيبيعه بسعر يومه إلّا كانت منزلته عند الله منزلة الشهيد. ثمّ قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَ آخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) .

و في تفسير القمّيّ، بإسناده عن زرعة عن سماعة قال: سألته عن قول الله:( وَ أَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً ) قال: هو غير الزكاة.

و في الخصال، عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام في حديث الأربعمائة: أكثروا الاستغفار تجلبوا الرزق، و قدّموا ما استطعتم من عمل الخير تجدوه غداً.

أقول: ذيله مأخوذ من قوله تعالى:( وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَ أَعْظَمَ أَجْراً ) .

١٥٧

( سورة المدّثّر مكّيّة و هي ستّ و خمسون آية)

( سورة المدّثّر الآيات 1 - 7)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ( 1 ) قُمْ فَأَنذِرْ ( 2 ) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ( 3 ) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ( 4 ) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ( 5 ) وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ( 6 ) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ( 7 )

( بيان‏)

تتضمّن السورة أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإنذار في سياق يلوح منه كونه من أوامر أوائل البعثة ثمّ الإشارة إلى عظم شأن القرآن الكريم و جلالة قدره، و الوعيد الشديد على من يواجهه بالإنكار و الرمي بالسحر، و ذمّ المعرضين عن دعوته.

و السورة مكّيّة من العتائق النازلة في أوائل البعثة و ظهور الدعوة حتّى قيل: إنّها أوّل سورة نزلت من القرآن و إن كان يكذّبه نفس آيات السورة الصريحة في سبق قراءتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القرآن على القوم و تكذيبهم به و إعراضهم عنهم و رميهم له بأنّه سحر يؤثر.

و لذا مال بعضهم إلى أنّ النازل أوّلاً هي الآيات السبع الواقعة في أوّل السورة و لازمه كون السورة غير نازلة دفعة و هو و إن كان غير بعيد بالنظر إلى متن الآيات السبع لكن يدفعه سياق أوّل سورة العلق الظاهر في كونه أوّل ما نزل من القرآن.

و احتمل بعضهم أن تكون السورة أوّل ما نزل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند الأمر بإعلان الدعوة بعد إخفائها مدّة في أوّل البعثة فهي في معنى قوله:( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) الحجر: 94، و بذلك جمع بين ما ورد من أنّها أوّل ما نزل، و ما ورد أنّها نزلت بعد سورة العلق، و ما ورد أنّ سورتي المزّمّل و المدّثّر نزلتا معاً، و هذا القول لا يتعدّى طور الاحتمال.

١٥٨

و كيف كان فالمتيقّن أنّ السورة من أوائل ما نزل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من السور القرآنيّة، و الآيات السبع الّتي نقلناها تتضمّن الأمر بالإنذار و سائر الخصال الّتي تلزمه ممّا وصّاه الله به.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) المدّثّر بتشديد الدالّ و الثاء أصله المتدثّر اسم فاعل من التدثّر بمعنى التغطّي بالثياب عند النوم.

و المعنى: يا أيّها المتغطّي بالثياب للنوم خطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد كان على هذه الحال فخوطب بوصف مأخوذ من حاله تأنيساً و ملاطفة نظير قوله:( يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ) .

و قيل: المراد بالتدثّر تلبّسهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنبوّة بتشبيهها بلباس يتحلّى به و يتزيّن و قيل: المراد به اعتزالهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و غيبته عن النظر فهو خطاب له بما كان عليه في غار حراء، و قيل: المراد به الاستراحة و الفراغ فكأنّه قيل لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أيّها المستريح الفارغ قد انقضى زمن الراحة و أقبل زمن متاعب التكاليف و هداية الناس.

و هذه الوجوه و إن كانت في نفسها لا بأس بها لكنّ الّذي يسبق إلى الذهن هو المعنى الأوّل.

قوله تعالى: ( قُمْ فَأَنْذِرْ ) الظاهر أنّ المراد به الأمر بالإنذار من غير نظر إلى من ينذر فالمعنى افعل الإنذار، و ذكر بعضهم أنّ مفعول الفعل محذوف، و التقدير أنذر عشيرتك الأقربين لمناسبته لابتداء الدعوة كما ورد في سورة الشعراء.

و ذكر آخرون أنّ المفعول المحذوف عامّ و هو جميع الناس لقوله:( وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ ) سبأ: 28.

و لم يذكر التبشير مع الإنذار مع أنّهما كالمتلازمين في تمام الدعوة لأنّ السورة ممّا نزل في ابتداء الدعوة و الإنذار هو الغالب إذ ذاك.

قوله تعالى: ( وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ ) أي أنسب ربّك إلى الكبرياء و العظمة اعتقاداً و عملاً قولاً و فعلاً و هو تنزيهه تعالى من أن يعادله أو يفوقه شي‏ء فلا شي‏ء يشاركه أو يغلبه أو يمانعه، و لا نقص يعرضه، و لا وصف يحده.

١٥٩

و لذا ورد عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ معنى التكبير: الله أكبر من أن يوصف، فهو تعالى أكبر من كلّ وصف نصفه به حتّى من هذا الوصف، و هذا هو المناسب للتوحيد الإسلاميّ الّذي يفوق ما نجده من معنى التوحيد في سائر الشرائع السماوية.

و هذا الّذي ذكرناه هو الفرق بين كلمتي التكبير و التسبيح - الله أكبر و سبحان الله - فسبحان الله تنزيه له تعالى عن كلّ وصف عدميّ مبنيّ على النقص كالموت و العجز و الجهل و غير ذلك، و الله أكبر تنزيه مطلق له تعالى عن كلّ وصف نصفه به أعمّ من أن يكون عدميّاً أو وجوديّاً حتّى من نفس هذا الوصف لما أنّ كلّ مفهوم محدود في نفسه لا يتعدّى إلى غيره من المفاهيم و هو تعالى لا يحيط به حدّ، فافهم ذلك.

و قيل: المراد الأمر بالتكبير في الصلاة.

و التعبير عنه تعالى بربّك لا يخلو من إشعار بأنّ توحيده تعالى يومئذ كان يختصّ بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال في الكشّاف، في قوله:( فَكَبِّرْ ) و دخلت الفاء لمعنى الشرط كأنّه قيل: و ما كان فلا تدع تكبيره.

قوله تعالى: ( وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) قيل: كناية عن إصلاح العمل، و لا يخلو من وجه فإنّ العمل بمنزلة الثياب للنفس بما لها من الاعتقاد فالظاهر عنوان الباطن، و كثيراً ما يكنّى في كلامهم عن صلاح العمل بطهارة الثياب.

و قيل: كناية عن تزكية النفس و تنزيهها عن الذنوب و المعاصي.

و قيل: المراد تقصير الثياب لأنّه أبعد من النجاسة و لو طالت و انجرّت على الأرض لم يؤمن أن تتنجّس.

و قيل: المراد تطهير الأزواج من الكفر و المعاصي لقوله تعالى:( هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ ) البقرة: 187.

و قيل: الكلام على ظاهره و المراد تطهير الثياب من النجاسات للصلاة و الأقرب على هذا أن يجعل قوله:( وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ ) إشارة إلى تكبير الصلاة و تكون الآيتان مسوقتين لتشريع أصل الصلاة مقارناً للأمر بالدعوة.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568