الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن6%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219954 / تحميل: 7014
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً ) العذاب الصعد هو الّذي يتصعّد على المعذّب و يغلبه، و قيل: هو العذاب الشاقّ.

و الإعراض عن ذكر الله لازم عدم الاستقامة على الطريقة و هو الأصل في سلوك العذاب، و لذا وضع موضعه ليدلّ على السبب الأصليّ في دخول النار.

و هو الوجه أيضاً في الالتفات عن التكلّم مع الغير إلى الغيبة في قوله:( ذِكْرِ رَبِّهِ ) و كان مقتضى الظاهر أن يقال: ذكرنا و ذلك أنّ صفة الربوبيّة هي المبدأ الأصلي لتعذيب المعرضين عن ذكره تعالى فوضعت موضع ضمير المتكلّم مع الغير ليدلّ على المبدإ الأصليّ كما وضع الإعراض عن الذكر موضع عدم الاستقامة ليدلّ على السبب.

قيل: و قوله:( يَسْلُكْهُ ) مضمّن معنى يدخله و لذا عديّ إلى المفعول الثاني، و المعنى ظاهر.

( بحث روائي‏)

في المجمع، روى الواحديّ عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال: ما قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الجنّ و ما رآهم، انطلق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، و قد حيل بين الشياطين و بين خبر السماء فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: ما لكم: قالوا: حيل بيننا و بين خبر السماء و اُرسلت علينا الشهب قالوا: ما ذاك إلّا من شي‏ء حدث فاضربوا مشارق الأرض و مغاربها.

فمرّ النفر الّذين أخذوا نحو تهامة بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عامدين إلى سوق عكاظ و هو يصلّي بأصحابه صلاة الفجر فلمّا سمعوا القرآن استمعوا له و قالوا: هذا الّذي حال بيننا و بين خبر السماء فرجعوا إلى قومهم و قالوا:( إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً ) فأوحى الله إلى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ) .

و رواه البخاريّ و مسلم أيضاً في الصحيح.

١٢١

أقول: و روى القمّيّ في تفسيره ما يقرب منه و قد أوردنا الرواية في تفسير سورة الأحقاف في ذيل قوله:( وَ إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ ) إلخ.

لكن ظاهر روايته أنّ النفر الّذين نزلت فيهم آيات سورة الأحقاف هم النفر الّذين نزلت فيهم هذه السورة و ظاهر آيات السورتين لا يلائم ذلك فإنّ ظاهر قولهم المنقول في سورة الأحقاف:( إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى‏ (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ) الآية أنّهم كانوا مؤمنين بموسى و مصدّقين للتوراة و ظاهر آيات هذه السورة أنّهم كانوا مشركين لا يرون النبوّة و لازم ذلك تغاير الطائفتين اللّهمّ إلّا أن يمنع الظهور.

و فيه، عن علقمة بن قيس قال: قلت لعبد الله بن مسعود: من كان منكم مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة الجنّ؟ فقال: ما كان منّا معه أحد فقدناه ذات ليلة و نحن بمكّة فقلنا: اغتيل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو استطير فانطلقنا نطلبه من الشعاب فلقيناه مقبلاً من نحو حراء فقلنا: يا رسول الله أين كنت؟ لقد أشفقنا عليك، و قلنا له: بتنا الليلة بشرّ ليلة بات بها قوم حين فقدناك، فقال لنا: إنّه أتاني داعي الجنّ فذهبت أقرئهم القرآن فذهب بنا و أرانا آثارهم و آثار نيرانهم فأمّا أن يكون صحبة منّا أحد فلا.

و فيه، و عن الربيع بن أنس قال: ليس لله تعالى جدّ و إنّما قالته الجنّ بجهالة فحكاه الله سبحانه كما قالت:، و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام .

أقول: المراد بالجدّ المنفيّ عنه تعالى الحظّ و البخت.

و في الاحتجاج، عن عليّعليه‌السلام في حديث: فأقبل إليه الجنّ و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببطن النخل فاعتذروا بأنّهم ظنّوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحداً، و لقد أقبل إليه أحد و سبعون ألفاً منهم فبايعوه على الصوم و الصلاة و الزكاة و الحجّ و الجهاد و نصح المسلمين فاعتذروا بأنّهم قالوا على الله شططا.

أقول: بيعتهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الصوم و الصلاة إلخ، يصدّقها قولهم المحكيّ في أوّل السورة:( فَآمَنَّا بِهِ ) و قولهم:( وَ أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى‏ آمَنَّا بِهِ ) ، و أمّا كيفيّة عملهم بها و خاصّة بالزكاة و الجهاد فمجهولة لنا، و اعتذارهم الأوّل المذكور لا يخلو من خفاء.

١٢٢

و في تفسير القمّيّ، بإسناده إلى زرارة قال: سألت أباجعفر عن قول الله:( وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً ) قال: كان الرجل ينطلق إلى الكاهن الّذي يوحي إليه الشيطان فيقول: قل للشيطان: فلان قد عاذ بك.

و فيه في قوله تعالى:( فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَ لا رَهَقاً ) قال: البخس النقصان، و الرهق العذاب.

و سئل العالم عن مؤمني الجنّ أ يدخلون الجنّة؟ فقال: لا و لكن لله حظائر بين الجنّة و النار يكون فيها مؤمنوا الجنّ و فسّاق الشيعة.

أقول: لعلّ المراد بهذه الحظائر هي بعض درجات الجنّة الّتي هي دون جنّة الصالحين.

و اعلم أنّه ورد في بعض الروايات من طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام تطبيق ما في الآيات من الهدى و الطريقة على ولاية عليّعليه‌السلام و هي من الجري و ليست من التفسير في شي‏ء.

١٢٣

( سورة الجنّ الآيات ١٨ - ٢٨)

وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا ( ١٨ ) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ( ١٩ ) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ( ٢٠ ) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا ( ٢١ ) قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا ( ٢٢ ) إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ( ٢٣ ) حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا ( ٢٤ ) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ( ٢٥ ) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا ( ٢٦ ) إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ( ٢٧ ) لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ( ٢٨ )

( بيان‏)

في الآيات تسجيل للنبوّة و ذكر وحدانيّته تعالى و المعاد كالاستنتاج من القصّة و تختتم بالإشارة إلى عصمة الرسالة.

قوله تعالى: ( وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً ) معطوف على قوله:( أَنَّهُ اسْتَمَعَ ) إلخ، و جملة( أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ ) في موضع التعليل لقوله:( فَلا تَدْعُوا مَعَ

١٢٤

اللهِ أَحَداً ) و التقدير لا تدعوا مع الله أحداً غيره لأنّ المساجد له.

و المراد بالدعاء العبادة و قد سمّاها الله دعاء كما في قوله:( وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ ) المؤمن: ٦٠.

و قد اختلف في المراد من المساجد فقيل: المراد به الكعبة، و قيل المسجد الحرام، و قيل: المسجد الحرام و بيت المقدس، و يدفعها كون المساجد جمعاً لا ينطبق على الواحد و الاثنين.

و قيل: الحرم، و هو تهكّم لا دليل عليه، و قيل: الأرض كلّها لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : جعلت لي الأرض مسجداً و طهوراً، و فيه أنّه لا يدلّ على أزيد من جواز العبادة في أي بقعة من بقاع الأرض خلافاً لما هو المعروف عن اليهود و النصارى من عدم جواز عبادته تعالى في غير البيع و الكنائس، و أمّا تسمية بقاعها مساجد حتّى يحمل عليها عند الإطلاق فلا.

و قيل: المراد به الصلوات فلا يصلّى إلّا لله، و هو تهكّم لا دليل عليه.

و عن الإمام الجوادعليه‌السلام : أنّ المراد بالمساجد الأعضاء السبعة الّتي يسجد عليها في الصلاة و هي الجبهة و الكفّان و الركبتان و أصابع الرجلين‏، و ستوافيك روايته في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله، و نقل ذلك أيضاً عن سعيد بن جبير و الفرّاء و الزجّاج.

و الأنسب على هذا أن يكون المراد بكون مواضع السجود من الإنسان لله اختصاصها به اختصاصاً تشريعيّاً، و المراد بالدعاء السجدة لكونها أظهر مصاديق العبادة أو الصلاة بما أنّها تتضمّن السجود لله سبحانه.

و المعنى: و اُوحي إليّ أنّ أعضاء السجود يختصّ بالله تعالى فاسجدوا له بها - أو اعبدوه بها - و لا تسجدوا - أو لا تعبدوا - أحداً غيره.

قوله تعالى: ( وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ) اللبد بالكسر فالفتح جمع لبدة بالضمّ فالسكون المجتمعة المتراكمة، و المراد بعبد الله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

١٢٥

كما تدلّ عليه الآية التالية، و التعبير بعبد الله كالتمهيد لقوله في الآية التالية:( قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي ) . و الأنسب لسياق الآيات التالية أن يكون مرجع ضميري الجمع في قوله:( كادُوا يَكُونُونَ ) المشركين و قد كانوا يزدحمون عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا صلّى و قرأ القرآن يستهزؤن و يرفعون أصواتهم فوق صوته على ما نقل.

و المعنى: و أنّه لما قام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعبد الله بالصلاة كاد المشركون يكونون بازدحامهم لبداً مجتمعين متراكمين.

و قيل: الضميران للجنّ و أنّهم اجتمعوا عليه و تراكموا ينظرون إليه متعجّبين ممّا يشاهدون من عبادته و قراءته قرآناً لم يسمعوا كلاماً يماثله.

و قيل: الضميران للمؤمنين بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المجتمعين عليه اقتداء به في صلاته إذا صلّى و إنصاتاً لما يتلوه من كلام الله.

و الوجهان لا يلائمان سياق الآيات التالية تلك الملاءمة كما تقدّمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً ) أمر منه تعالى للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبيّن لهم وجه عبادته بياناً يزيل عنهم الحيرة حيث رأوا منه ما لم يكونوا رأوه من أحد غيره، و يتعجّبون حاملين له على نوع من المكيدة و المكر بأصنامهم أو خدعة بهم لأغراض اُخر دنيويّة.

و محصّل البيان: أنّي لست اُريد بما آتي به من العمل شيئاً من المقاصد الّتي تحسبونها و ترمونني بها و إنّما أدعو ربّي وحدة غير مشرك به أحداً و عبادة الإنسان لمن عرفه رباً لنفسه ممّا لا ينبغي أن يلام عليه أو يتعجّب منه.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا رَشَداً ) الّذي يفيده سياق الآيات الكريمة أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبيّن فيها بأمر من ربّه موقع نفسه و بالنسبة إلى ربّه و بالنسبة إلى الناس:

أمّا موقعه بالنسبة إلى ربّه فهو أنّه يدعوه و لا يشرك به أحداً و هو قوله:( قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً ) .

١٢٦

و أمّا موقعه بالنسبة إليهم فهو أنّه بشر مثلهم لا يملك لهم ضرّاً و لا رشداً حتّى يضرّهم بما يريد أن يرشدهم من الخير إلى ما يريد بما عنده من القدرة، و أنّه مأمور من الله بدعوتهم أمراً ليس له إلّا أن يمتثله فلا مجير يجيره منه و لا ملجأ يلتجئ إليه لو خالف و عصى كما ليس لهم إلّا أن يطيعوا الله و رسوله و من يعص الله و رسوله فإنّ له نار جهنّم خالدين فيها أبداً، و سيعلمون إذا رأوا ما يوعدون.

و لازم هذا السياق أن يكون المراد بملك الضرّ القدرة على إيقاع الضرّ بهم فيوقعه بهم إذا أراد، و المراد بملك الرشد القدرة على إيصال النفع إليهم بإصابة الواقع أيّ إنّي لا أدّعي أنّي أقدر أن أضرّكم أو أنفعكم، و قيل: المراد بالضرّ الغيّ المقابل للرشد تعبيراً باسم المسبّب عن السبب.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَ لَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَ رِسالاتِهِ ) الإجارة إعطاء الجوار و حكمه حماية المجير للجار و منعه ممّن يقصده بسوء، و الظاهر أنّ الملتحد اسم مكان و هو المكان الّذي يعدل و ينحرف إليه للتحرّز من الشرّ، و قيل: المدخل و يتعلّق به قوله:( مِنْ دُونِهِ ) و هو كالقيد التوضيحيّ و الضمير لله و البلاغ التبليغ.

و قوله:( إِلَّا بَلاغاً ) استثناء من قوله:( مُلْتَحَداً ) و قوله:( مِنَ اللهِ ) متعلّق بمقدّر أي كائناً من الله و ليس متعلّقاً بقوله:( بَلاغاً ) لأنّه يتعدّى بعن لا بمن و لذا قال بعض من جعله متعلّقاً ببلاغاً: إنّ( من ) بمعنى عن، و المعنى على أيّ حال إلّا تبليغ ما هو تعالى عليه من الأسماء و الصفات.

و قوله:( وَ رِسالاتِهِ ) قيل: معطوف على( بَلاغاً ) و التقدير إلّا بلاغاً من الله و إلّا رسالاته و قيل: معطوف على لفظ الجلالة و من بمعنى عن، و المعنى إلّا بلاغاً عن الله و عن رسالاته.

و فيما استثني منه بلاغاً قول آخر و هو أنّه مفعول( لا أَمْلِكُ ) و المعنى لا أملك لكم ضرّاً و لا رشداً إلّا تبليغاً من الله و رسالاته، و يبعّده الفصل بين المستثنى و المستثنى منه بقوله:( لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ ) إلخ و هو كلام مستأنف.

١٢٧

و معنى الآيتين على ما قدّمنا: قل لن يجيرني من الله أحد فيمنعني منه و لن أجد من دونه مكاناً التجئ إليه إلّا تبليغاً كائناً منه و رسالاته أي إلّا أن أمتثل ما أمرني به من التبليغ منه تعالى ببيان أسمائه و صفاته و إلّا رسالاته في شرائع الدين.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يَعْصِ اللهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ) إفراد ضمير( اللهِ ) باعتبار لفظ( مِنَ ) كما أنّ جمع( خالِدِينَ ) باعتبار معناها.

و عطف الرسول على الله في قوله:( وَ مَنْ يَعْصِ اللهَ وَ رَسُولَهُ ) لكون معصيته معصية لله تعالى إذ ليس له إلّا رسالة ربّه فالردّ عليه فيما أتي به ردّ على الله سبحانه و طاعته فيما يأمر به طاعة لله قال تعالى:( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ) النساء: ٨٠.

و المراد بالمعصية - كما يشهد به سياق الآيات السابقة - معصية ما أمر به من التوحيد أو التوحيد و ما يتفرّع عليه من اُصول الدين و فروعه فلا يشمل التهديد و الوعيد بخلود النار إلّا الكافرين بأصل الدعوة دون مطلق أهل المعصية المتخلّفين عن فروع الدين فالاحتجاج بالآية على تخليد مطلق العصاة في النار في غير محلّه.

و الظاهر أنّ قوله:( وَ مَنْ يَعْصِ اللهَ ) إلى آخر الآية من كلام الله سبحانه لا من تتمّة كلام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَ أَقَلُّ عَدَداً ) لقوله:( حَتَّى ) دلالة على معنى مدخولها غاية له و مدخولها يدلّ على أنّهم كانوا يستضعفون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعدّ ناصريه - و هم المؤمنون - ضعفاء و استقلال عدده بعدّ عددهم قليلاً فالكلام يدلّ على معنى محذوف هو غايته كقولنا: لا يزالون يستضعفون ناصريك و يستقلّون عددهم حتّى إذا رأوا ما يوعدون إلخ.

و المراد بما يوعدون نار جهنّم لأنّها هي الموعودة في الآية، و الآية من كلامه تعالى يخاطب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لو كانت من كلامه و هي مصدّرة بقوله تعالى( قُلْ ) لكان من حقّ الكلام أن يقال: حتّى إذا رأيتم ما توعدون فستعلمون إلخ.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً ) الأمد الغاية الّتي ينتهي إليها، و الآية بمنزلة دفع دخل تقتضيه حالهم كأنّهم لمّا سمعوا

١٢٨

الوعيد قالوا: متى يكون ذلك فقيل له:( قُلْ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ ) إلخ.

قوله تعالى: ( عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً ) إظهار الشي‏ء على الشي‏ء إعانته و تسليطه عليه، و( عالِمُ الْغَيْبِ ) خبر لمبتدإ محذوف، و التقدير هو عالم الغيب، و مفاد الكلمة بإعانة من السياق اختصاص علم الغيب به تعالى مع استيعاب علمه كلّ غيب، و لذا أضاف الغيب إلى نفسه ثانياً فقال:( عَلى‏ غَيْبِهِ ) بوضع الظاهر موضع المضمر ليفيد الاختصاص و لو قال: فلا يظهر عليه لم يفد ذلك.

و المعنى هو عالم كلّ غيب علماً يختصّ به فلا يطلع على الغيب و هو مختصّ به أحداً من الناس فالمفاد سلب كلّي و إن أصرّ بعضهم على كونه سلباً جزئياً محصّل معناه لا يظهر على كلّ غيبه أحداً و يؤيّد ما قلنا ظاهر ما سيأتي من الآيات.

قوله تعالى: ( إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ ) استثناء من قوله:( أَحَداً ) و( مِنْ رَسُولٍ ) بيان لقوله:( مَنِ ارْتَضى‏ ) فيفيد أنّ الله تعالى يظهر رسله على ما شاء من الغيب المختصّ به فالآية إذا انضمّت إلى الآيات الّتي تخصّ علم الغيب به تعالى كقوله:( وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ ) الأنعام: ٥٩، و قوله:( وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) النحل: ٧٧، و قوله:( قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ ) النمل: ٦٥ أفاد ذلك معنى الأصالة و التبعيّة فهو تعالى يعلم الغيب لذاته و غيره يعلمه بتعليم من الله.

فهذه الآيات نظيرة الآيات المتعرّضة للتوفّي كقوله:( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ ) الزمر: ٤٢ الدالّ على الحصر، و قوله:( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) الم السجدة: ١١، و قوله:( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا ) الأنعام: ٦١ فالتوفّي منسوب إليه تعالى على نحو الأصالة و إلى الملائكة على نحو التبعيّة لكونهم أسباباً متوسّطة مسخّرة له تعالى.

قوله تعالى: ( فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً - إلى قوله -عَدَداً ) ضمير( فَإِنَّهُ ) لله تعالى، و ضميراً( يَدَيْهِ ) و( خَلْفِهِ ) للرسول، و الراصد المراقب للأمر الحارس له، و الرصد الراصد يطلق على الواحد و الجماعة و هو في الأصل مصدر،

١٢٩

و المراد بما بين يدي الرسول ما بينه و بين الناس المرسل إليهم، و بما خلفه ما بينه و بين مصدر الوحي الّذي هو الله سبحانه و قد اعتبر في هذا التصوير ما يوهمه معنى الرسالة من امتداد متوهّم يأخذ من المُرسِل - اسم فاعل - و ينتهي إلى المرسل إليه يقطعه الرسول حتّى ينتهي إلى المرسل إليه فيؤدّي رسالته، و الآية تصف طريق بلوغ الغيب إلى الرسول و هو الرسالات الّتي توحي إليه كما يشير إلى ذلك قوله:( لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ ) .

و المعنى: فإنّ الله يسلك ما بين الرسول و من اُرسل إليه و ما بين الرسول و مصدر الوحي مراقبين حارسين من الملائكة - و من المعلوم أنّ سلوك الرصد من بين يديه و من خلفه لحفظ الوحي من كلّ تخليط و تغيير بالزيادة و النقصان يقع فيه من ناحية الشياطين بلا واسطة أو معها.

و قوله:( لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ ) ضمير( لِيَعْلَمَ ) لله سبحانه، و ضميراً( قَدْ أَبْلَغُوا ) و( رَبِّهِمْ ) لقوله:( مَنِ ) باعتبار المعنى أو لرسول باعتبار الجنس، و المراد بعلمه تعالى بإبلاغهم رسالات ربّهم العلم الفعليّ و هو تحقّق الإبلاغ في الخارج على حدّ قوله:( فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) العنكبوت: ٣ و هو كثير الورود في كلامه تعالى.

و الجملة تعليل لسلوك الرصد بين يدي الرسول و من خلفه، و المعنى ليتحقّق إبلاغ رسالات ربّهم أي لتبلغ الناس رسالاته تعالى على ما هي عليه من غير تغيّر و تبدّل.

و من المحتمل أن يرجع ضميراً( بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ ) إلى( غَيْبِهِ ) فيكون الرصد الحرس مسلوكين بين يدي الغيب النازل و من خلفه إلى أن يبلغ الرسول، و يضعّفه أنّه لا يلائم قوله:( لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ ) بالمعنى الّذي تقدّم لعدم استلزام بلوغ الغيب للرسول سليماً من تعرّض الشياطين حصول العلم بإبلاغه إلى الناس.

و إلى هذا المعنى يرجع قول بعضهم إنّ الضميرين يرجعان إلى جبريل حامل

١٣٠

الوحي. و يضعفه مضافاً إلى ما مرّ عدم سبق ذكره.

و قيل: ضمير ليعلم للرسول و ضميراً( قَدْ أَبْلَغُوا ) و( رَبِّهِمْ ) للملائكة الرصد و المعنى يرصد الملائكة الوحي و يحرسونه ليعلم الرسول أنّ الملائكة قد أبلغوا إليه الوحي كما صدر فتطمئنّ نفسه أنّه سليم من تعرّض الشياطين فإنّ لازم العلم بإبلاغهم إيّاه العلم ببلوغه.

و يبعّده أنّ ظاهر السياق - و يؤيّده سبق ذكر الرسول - أنّ المراد بالرسالات الرسالات الّتي حمّلها الرسول ليبلغها إلى الناس لا ما حمّلها ملك الوحي فضمير( رَبِّهِمْ ) للرسل دون الملائكة، على أنّ الآية تشير إلى الملائكة بعنوان الرصد و هو غير عنوان الرسالة و شأن الرصد الحفظ و الحراسة دون الرسالة.

و قيل: المعنى ليعلم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ الرسل قبله قد أبلغوا رسالات ربّهم، و هو وجه سخيف لا دليل عليه، و أسخف منه ما قيل: إنّ المعنى ليعلم مكذّب الرسل أنّ الرسل قد أبلغوا رسالات ربّهم إليهم.

و قوله:( وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ ) ضمير الجمع للرسل بناء على ما تقدّم من المعنى و الظاهر أنّ الجملة متمّمة لمعنى الحراسة المذكورة سابقاً فقوله:( مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ) يشير إلى رصد ما بين الرسول و المرسل إليهم، و قوله:( وَ مِنْ خَلْفِهِ ) إلى حفظ ما بينه و مصدر الوحي، و قوله:( وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ ) يشير إلى ظرف نفس الرسول و الإحاطة إحاطة علميّة فالوحي في أمن من تطرّق التغيير و التبديل فيما بين مصدر الوحي و الرسول و في نفس الرسول و في ما بين الرسول و المرسل إليهم.

و يمكن أن يكون المراد بما لديهم جميع ما له تعلّق مّا بالرسل أعمّ من مسير الوحي أو أنفسهم كما أنّ قوله:( وَ أَحْصى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ عَدَداً ) مسوق لإفادة عموم العلم بالأشياء غير أنّه العلم بعددها و تميّز بعضها من بعض.

فقد تبيّن ممّا مرّ في الآيات الثلاث:

أوّلاً: أنّ اختصاصه تعالى بعلم الغيب على نحو الأصالة بالمعنى الّذي أوضحناه فهو تعالى يعلم الغيب بذاته و غيره يعلمه بتعليم منه.

١٣١

و به يظهر أنّ ما حكي في كلامه تعالى من إنكارهم العلم بالغيب اُريد به نفي الأصالة و الاستقلال دون ما كان بوحي كقوله تعالى:( قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ) الأنعام: ٥٠، و قوله:( وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ ) الأعراف: ١٨٨ و قوله:( قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى‏ إِلَيَّ ) الأحقاف: ٩.

و ثانياً: أنّ عموم قوله:( فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً ) لمّا خصّص بقوله:( إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ ) عاد عامّاً مخصّصاً لا يأبى تخصيصاً بمخصّص آخر كما في مورد الأنبياء فإنّ الآيات القرآنيّة تدلّ على أنّهم يوحى إليهم كقوله:( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) النساء: ١٦٣ و تدلّ على أنّ الوحي من الغيب فالنبيّ ينال الغيب كما يناله الرسول هذا على تقدير أن يكون المراد بالرسول في الآية ما يقابل النبيّ و أمّا لو اُريد مطلق من أرسله الله إلى الناس و النبيّ ممّن أرسله الله إليهم كما يشهد به قوله:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ ) الآية الحجّ: ٥٢، و قوله:( وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ ) الأعراف: ٩٤ فالنبيّ خارج من عموم النفي من غير تخصيص جديد.

و كذا في مورد الإمام بالمعنى الّذي يستعمله فيه القرآن فإنّه تعالى يصفه بالصبر و اليقين كما في قوله:( وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ ) الم السجدة: ٢٤ و يعرّفهم بانكشاف الغطاء لهم كما في قوله:( وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) الأنعام: ٧٥، و قوله:( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) التكاثر: ٦ و قد تقدّم كلام في ذلك في بعض المباحث السابقة.

و أمّا الملائكة فما يحمّلونه من الوحي السماويّ قبل نزوله و كذا ما يشاهدونه من عالم الملكوت شهادة بالنسبة إليهم و إن كان غيباً بالنسبة إلينا. على أنّ قوله:( فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً ) إنّما يشمل أهل الدنيا ممّن يعيش على بسيط الأرض و إلّا لانتقض بالأموات المشاهدين لاُمور الآخرة و هي من الغيب بنصّ القرآن فلم

١٣٢

يبق تحت عموم النفي حتّى فرد واحد إذ ما من أحد إلّا و هو مبعوث ذلك يوم مجموع له الناس و ذلك يوم مشهود، و كما أنّ الأموات نشأتهم غير نشأة الدنيا كذلك نشأة الملائكة غير نشأة المادّة.

و ثالثاً: أنّ قوله:( فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ ) إلى آخر الآيتين يدلّ على أنّ الوحي الإلهيّ محفوظ من لدن صدوره من مصدر الوحي إلى بلوغه الناس مصون في طريق نزوله إلى أن يصل إلى من قصد نزوله عليه.

أمّا مصونيّته من حين صدوره من مصدره إلى أن ينتهي إلى الرسول فيكفي في الدلالة عليه قوله:( مِنْ خَلْفِهِ ) (١) و أمّا مصونيّته حين أخذ الرسول إيّاه و تلقّيه من ملك الوحي بحيث يعرفه و لا يغلط في أخذه، و مصونيّته في حفظه بحيث يعيه كما اُوحي إليه من غير أن ينساه أو يغيّره أو يبدّله، و مصونيّته في تبليغه إلى الناس من تصرف الشيطان فيه فالدليل عليه قوله:( لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ ) حيث يدلّ على أنّ الغرض الإلهيّ من سلوك الرصد أن يعلم إبلاغهم رسالات ربّهم أي أن يتحقّق في الخارج إبلاغ الوحي إلى الناس، و لازمه بلوغه إيّاهم و لو لا مصونيّة الرسول في الجهات الثلاث المذكورة جميعاً لم يتمّ الغرض الإلهي و هو ظاهر، و حيث لم يذكر تعالى للحصول على هذا الغرض طريقاً غير سلوك الرصد دلّ ذلك على أنّ الوحي محروس بالملائكة و هو عند الرسول كما أنّه محروس بهم في طريقه إلى الرسول حتّى ينتهي إليه، و يؤكّده قوله بعد:( وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ ) .

و أمّا مصونيّته في مسيره من الرسول حتّى ينتهي إلى الناس فيكفي فيه قوله:( مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ) على ما تقدّم من معناه.

أضف إلى ذلك دلالة قوله:( لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ ) بما تقدّم من تقريب دلالته.

____________________

(١) هذا بناء على رجوع الضمير إلى الرسول و أمّا بناء على احتمال رجوع الضمير إلى الغيب فالدالّ عليه مجموع ( مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ ) لكنه ضعيف كما تقدم.

١٣٣

و يتفرّع على هذا البيان أنّ الرسول مؤيّد بالعصمة في أخذ الوحي من ربّه و في حفظه و في تبليغه إلى الناس مصون من الخطإ في الجهات الثلاث جميعاً لما مرّ من دلالة الآية على أنّ ما نزّله الله من دينه على الناس من طريق الرسالة بالوحي مصون في جميع مراحله إلى أن ينتهي إلى الناس و من مراحله مرحلة أخذ الرسول للوحي و حفظه له و تبليغه إلى الناس.

و التبليغ يعمّ القول و الفعل فإنّ في الفعل تبليغاً كما في القول فالرسول معصوم من المعصية باقتراف المحرّمات و ترك الواجبات الدينيّة لأنّ في ذلك تبليغاً لما يناقض الدين فهو معصوم من فعل المعصية كما أنّه معصوم من الخطإ في أخذ الوحي و حفظه و تبليغه قولاً.

و قد تقدّمت الإشارة إلى أنّ النبوّة كالرسالة في دورانها مدار الوحي فالنبيّ كالرسول في خاصّة العصمة، و يتحصّل بذلك أنّ أصحاب الوحي سواء كانوا رسلاً أو أنبياء معصومون في أخذ الوحي و في حفظ ما اُوحي إليهم و في تبليغه إلى الناس قولاً و فعلاً.

و رابعاً: أنّ الّذي استثني في الآية من الإظهار على الغيب إظهار الرسول على ما يتوقّف عليه تحقّق إبلاغ رسالته أعمّ من أن يكون متن الرسالة كالمعارف الاعتقادية و شرائع الدين و القصص و العبر و الحكم و المواعظ أو يكون من آيات الرسالة و المعجزات الدالّة على صدق الرسول في دعواه كالّذي حكي عن بعض الرسل من الإخبار بالمغيّبات كقول صالح لقومه:( تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) هود: ٦٥، و قول عيسى لبني إسرائيل:( وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ ) آل عمران: ٤٩، و كذا ما ورد من مواعد الرسل، و ما ورد في الكتاب العزيز من الملاحم كلّ ذلك من إظهارهم على الغيب.

١٣٤

( بحث روائي‏)

عن تفسير العيّاشيّ، عن أبي جعفرعليه‌السلام : أنّه سأله المعتصم عن السارق من أيّ موضع يجب أن يقطع؟ فقال: إنّ القطع يجب أن يكون من مفصل اُصول الأصابع فتترك الكفّ.

فقال: و ما الحجّة في ذلك؟ قال: قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : السجود على سبعة أجزاء: الوجه و اليدين و الركبتين و الرجلين فإذا قطع من الكرسوع أو المرفق لم يدع له يداً يسجد عليها و قال الله:( وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ ) يعني به هذه الأعضاء السبعة الّتي يسجد عليها( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً ) و ما كان لله فلا يقطع. الحديث.

و في الكافي، بإسناده عن حمّاد بن عيسى عن أبي عبداللهعليه‌السلام في حديث: و سجد يعني أباعبداللهعليه‌السلام على ثمانية أعظم: الكفّين و الركبتين و إبهامي الرجلين و الجبهة و الأنف، و قال: سبعة منها فرض يسجد عليها و هي الّتي ذكرها الله في كتابه فقال:( وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً ) و هي الجبهة و الكفّان و الركبتان و الإبهامان و وضع الأنف على الأرض سنّة.

و عن الخرائج و الجرائح، روى محمّد بن الفضل الهاشميّ عن الرضاعليه‌السلام : أنّه نظر إلى ابن هذاب فقال: إن أنا أخبرتك أنّك ستبتلى في هذه الأيّام بدم ذي رحم لك لكنت مصدّقاً لي؟ قال: لا فإنّ الغيب لا يعلمه إلّا الله تعالى. قال: أ و ليس أنّه يقول:( عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ‏ ) فرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند الله مرتضى، و نحن ورثة ذلك الرسول الّذي أطلعه الله على ما يشاء من غيبه فعلمنا ما كان و ما يكون إلى يوم القيامة.

أقول: و الأخبار في هذا الباب فوق حدّ الإحصاء، و مدلولها أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذه بوحي من ربّه و أنّهم أخذوه بالوراثة منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١٣٥

( سورة المزّمّل مكّيّة و هي عشرون آية)

( سورة المزّمّل الآيات ١ - ١٩)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ( ١ ) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ( ٢ ) نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ( ٣ ) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ( ٤ ) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ( ٥ ) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ( ٦ ) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا ( ٧ ) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ( ٨ ) رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ( ٩ ) وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ( ١٠ ) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا ( ١١ ) إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا ( ١٢ ) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا ( ١٣ ) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا ( ١٤ ) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولًا ( ١٥ ) فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا ( ١٦ ) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا ( ١٧ ) السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا ( ١٨ ) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا ( ١٩ )

١٣٦

( بيان‏)

السورة تأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقيام الليل و الصلاة فيه ليستعدّ بذلك لتلقّي ثقل ما سيلقى عليه من القول الثقيل و القرآن الموحي إليه، و تأمره أن يصبر على ما يقولون فيه إنّه شاعر أو كاهن أو مجنون إلى غير ذلك و يهجرهم هجراً جميلاً، و فيها وعيد و إنذار للكفّار و تعميم الحكم لسائر المؤمنين، و في آخرها تخفيف مّا للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنين.

و السورة مكّيّة من عتائق السور النازلة في أوّل البعثة حتّى قيل: إنّها ثانية السور النازلة على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو ثالثتها.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ) بتشديد الزاي و الميم و أصله المتزمّل اسم فاعل من التزمّل بمعنى التلفّف بالثوب لنوم و نحوه، و ظاهره أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد تزمّل بثوب للنوم فنزل عليه الوحي و خوطب بالمزمّل.

و ليس في الخطاب به تهجين و لا تحسين كما توهّمه بعضهم، نعم يمكن أن يستفاد من سياق الآيات أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد قوبل في دعوته بالهزء و السخريّة و الإيذاء فاغتمّ في الله فتزمّل بثوب لينام دفعاً للهمّ فخوطب بالمزّمّل و اُمر بقيام الليل و الصلاة فيه و الصبر على ما يقولون على حدّ قوله تعالى:( اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ ) البقرة: ١٥٣ فاُفيد بذلك أنّ عليه أن يقاوم الكرب العظام و النوائب المرّة بالصلاة و الصبر لا بالتزمّل و النوم.

و قيل: المراد يا أيّها المتزمّل بعباءة النبوّة أي المتحمّل لأثقالها، و لا شاهد عليه من جهة اللفظ.

قوله تعالى: ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ) المراد بقيام اللّيل القيام فيه إلى الصلاة فالليل مفعول به توسعاً كما في قولهم: دخلت الدار، و قيل: معمول( قُمِ ) مقدّر و( اللَّيْلَ ) منصوب على الظرفيّة و التقدير قم إلى الصلاة في الليل، و قوله:( إِلَّا قَلِيلًا ) استثناء من الليل.

١٣٧

و قوله:( نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ) ظاهر السياق أنّه بدل من( اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ) المتعلّق به تكليف القيام، و ضميراً( مِنْهُ ) و( عَلَيْهِ) للنصف، و ضمير( نِصْفَهُ ) للّيل، و المعنى قم نصف الليل أو انقص من النصف قليلاً أو زد على النصف قليلاً، و الترديد بين الثلاثة للتخيير فقد خيّر بين قيام النصف و قيام أقلّ من النصف بقليل و قيام أكثر منه بقليل.

و قيل:( نِصْفَهُ ) بدل من المستثنى أعني( قَلِيلًا ) فيكون المعنى قم الليل إلّا نصفه أو انقص من النصف قليلا فقم أكثر من النصف بقليل أو زد على النصف فقم أقلّ من النصف، و تكون جملة البدل رافعاً لإبهام المستثنى بالمطابقة و لإبهام المستثنى منه بالالتزام عكس الوجه السابق.

و الوجهان و إن اتّحداً في النتيجة غير أنّ الوجه السابق أسبق إلى الذهن لأنّ الحاجة إلى رفع الإبهام عن متعلّق الحكم أقدم من الحاجة إلى رفع الإبهام عن توابعه و ملحقاته فكون قوله:( نصفه ) إلخ بدلاً من الليل و لازمه رفع إبهام متعلّق التكليف بالمطابقة أسبق إلى الذهن من كونه بدلاً من( قَلِيلًا ) .

و قيل: إنّ نصفه بدل من الليل لكنّ المراد بالقليل القليل من الليالي دون القليل من أجزاء الليل، و المعنى قم نصف الليل أو انقص منه قليلاً أو زد عليه إلّا قليلاً من الليالي و هي ليالي العذر من مرض أو غلبة نوم أو نحو ذلك، و لا بأس بهذا الوجه لكنّ الوجه الأوّل أسبق منه إلى الذهن.

و قوله:( وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ) ترتيل القرآن تلاوته بتبيين حروفه على تواليها، و الجملة معطوفة على قوله:( قُمِ اللَّيْلَ ) أي قم الليل و اقرأ القرآن بترتيل.

و الظاهر أنّ المراد بترتيل القرآن ترتيله في الصلاة أو المراد به الصلاة نفسها و قد عبّر سبحانه عن الصلاة بنظير هذا التعبير في قوله:( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى‏ غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ) إسراء: ٧٨، و قيل: المراد إيجاب قراءة القرآن دون الصلاة.

١٣٨

قوله تعالى: ( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ) الثقل كيفيّة جسمانيّة من خاصّته أنّه يشقّ حمل الجسم الثقيل و نقله من مكان إلى مكان و ربّما يستعار للمعاني إذا شقّ على النفس تحمّلها أو لم تطقها فربّما اُضيف إلى القول من جهة معناه فعدّ ثقيلاً لتضمّنه معنى يشقّ على النفس إدراكه أو لا تطيق فهمه أو تتحرّج من تلقّيه كدقائق الأنظار العلميّة إذا اُلقيت على الأفهام العامّة، أو لتضمّنه حقائق يصعب التحقّق بها أو تكاليف يشقّ الإتيان بها و المداومة عليها.

و القرآن قول إلهيّ ثقيل بكلا المعنيين: أمّا من حيث تلقّي معناه فإنّه كلام إلهي مأخوذ من ساحة العظمة و الكبرياء لا تتلقّاه إلّا نفس طاهرة من كلّ دنس منقطع عن كلّ سبب إلّا الله سبحانه، و كتاب عزيز له ظهر و بطن و تنزيل و تأويل تبياناً لكلّ شي‏ء، و قد كان ثقله مشهوداً من حال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما كان يأخذه من البرحاء و شبه الإغماء على ما وردت به الأخبار المستفيضة.

و أمّا من حيث التحقّق بحقيقة التوحيد و ما يتبعها من الحقائق الاعتقاديّة فكفى في الإشارة إلى ثقله قوله تعالى:( لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى‏ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) الحشر: ٢١، و قوله تعالى:( وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى‏ ) الرعد: ٣١.

و أمّا من حيث القيام بما يشتمل عليه من أمر الدعوة و إقامة مراسم الدين الحنيف، و إظهاره على الدين كلّه فيشهد به ما لقيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المصائب و المحن في سبيل الله و الأذى في جنب الله على ما يشهد به الآيات القرآنيّة الحاكية لما لقيه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المشركين و الكفّار و المنافقين و الّذين في قلوبهم مرض من أنواع الإيذاء و الهزء و الجفاء.

فقوله:( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ) المراد بالقول الثقيل القرآن العظيم على ما يسبق إلى الذهن من سياق هذه الآيات النازلة في أوّل البعثة، و به فسّره المفسّرون.

١٣٩

و الآية في مقام التعليل للحكم المدلول عليه بقوله:( قُمِ اللَّيْلَ ) إلخ فتفيد بمقتضى السياق - و الخطاب خاصّ بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - أنّ أمره بقيام الليل و التوجّه فيه إليه تعالى بصلاة اللّيل تهيئة له و إعداد لكرامة القرب و شرف الحضور و إلقاء قول ثقيل فقيام الليل هي السبيل المؤدّية إلى هذا الموقف الكريم و قد عدّ سبحانه صلاة الليل سبيلاً إليه في قوله الآتي:( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا ) .

و قد زاد سبحانه وعداً على ما في هذه الآية في قوله:( وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى‏ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً ) إسراء: ٧٩ و قد تقدّم معنى المقام المحمود في تفسير الآية.

و إذ كان من ثقل القرآن ثقله من حيث التحقّق بحقائقه و من حيث استجابته فيما يندب إليه من الشرائع و الأحكام فهو ثقيل على الاُمّة كما هو ثقيل عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و معنى الآية إنّا سنوحي إليك قولاً يثقل عليك و على اُمّتك أمّا ثقله عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا في التحقّق بحقائقه من الصعوبة و لما فيه من محنة الرسالة و ما يتبعها من الأذى في جنب الله و ترك الراحة و الدعة و مجاهدة النفس و الانقطاع إلى الله مضافاً إلى ما في تلقّيه من مصدر الوحي من الجهد، و أمّا ثقله على اُمّته فلأنّهم يشاركونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في لزوم التحقّق بحقائقه و اتّباع أوامره و نواهيه و رعاية حدوده كلّ طائفة منهم على قدر طاقته.

و للقوم في معنى ثقل القرآن أقوال اُخر:

منها: أنّه ثقيل بمعنى أنّه عظيم الشأن متين رصين كما يقال: هذا كلام له وزن إذا كان واقعاً موقعه.

و منها: أنّه ثقيل في الميزان يوم القيامة حقيقة أو مجازاً بمعنى كثرة الثواب عليه.

و منها: أنّه ثقيل على الكفّار و المنافقين بما له من الإعجاز و بما فيه من الوعيد.

و منها: أنّ ثقله كناية عن بقائه على وجه الدهر لأنّ الثقيل من شأنه أن يبقى و يثبت في مكانه.

و منها: غير ذلك و الوجوه المذكورة و إن كانت لا بأس بها في نفسها لكن ما تقدّم

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

قوله تعالى: ( إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ ) استثناء من المفعول المحذوف لقوله السابق:( فَذَكِّرْ ) و التقدير فذكّر الناس إلّا من تولّى منهم عن التذكرة و كفر إذ تذكرته لغو لا فائدة فيها، و معلوم أنّ التولّي و الكفر إنّما يكون بعد التذكرة فالمنفيّ بالاستثناء هو التذكرة بعد التذكرة كأنّه قيل: ذكّرهم و أدم التذكرة إلّا لمن ذكّرته فتولّى عنها و كفر، فليس عليك إدامة تذكرته بل أعرض عنه فيعذّبه الله العذاب الأكبر.

فقوله:( فَذَكِّرْ - إلى أن قال -إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) في معنى قوله:( فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى‏ - إلى أن قال -وَ يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) الأعلى: 12 و قد تقدّم بيانه.

و قيل: الاستثناء من ضمير( عَلَيْهِمْ ) في قوله:( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) و المعنى لست عليهم بمتسلّط إلّا على من تولّى منهم عن التذكرة و أقام على الكفر فسيُسلّطك الله عليه و يأمرك بالجهاد فتقاتله فتقتله.

و قيل: الاستثناء منقطع و المعنى لست عليهم بمتسلّط لكنّ من تولّى و كفر منهم يعذّبه الله العذاب الأكبر، و ما قدّمناه من الوجه أرجح و أقرب.

قوله تعالى: ( فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) هو عذاب جهنّم فالآية كما تقدّم محاذية لقوله في سورة الأعلى( الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى‏ ) .

قوله تعالى: ( إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ) الإياب الرجوع و( إِلَيْنا ) خبر إنّ و إنّما قدّم للتأكيد و لرعاية الفواصل دون الحصر إذ لا قائل برجوع الناس إلى غير الله سبحانه و الآية في مقام التعليل للتعذيب المذكور في الآية السابقة.

قوله تعالى: ( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ) الكلام فيه كالكلام في الآية السابقة.

٤٠١

( بحث روائي‏)

في المجمع، و قال أبوعبداللهعليه‌السلام : كلّ ناصب و إن تعبّد و اجتهد يصير إلى هذه الآية( عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى‏ ناراً حامِيَةً ) .

أقول: و رواه في ثواب الأعمال، مسنداً و لفظه: كلّ ناصب و إن تعبّد و اجتهد يصير إلى هذه الغاية( عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى‏ ناراً حامِيَةً ) .

و فيه، عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الضريع شي‏ء في النار يشبه الشوك أمرّ من الصبر و أنتن من الجيفة و أشدّ حرّاً من النار سمّاه الله الضريع.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً ) قال: الهزل و الكذب.

و فيه،: في قوله تعالى:( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) قال: بحافظ و لا كاتب عليهم.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و عبد بن حميد و مسلم و الترمذيّ و النسائيّ و ابن ماجة و ابن جرير و الحاكم و ابن مردويه و البيهقيّ في الأسماء و الصفات عن جابر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اُمرت أن اُقاتل الناس حتّى يقولوا: لا إله إلّا الله فإذا قالوها عصموا منيّ دماءهم و أموالهم إلّا بحقّها و حسابهم على الله ثمّ قرأ( فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) .

أقول: لا دلالة في الرواية على كون الاستثناء من ضمير( عَلَيْهِمْ ) و هو ظاهر.

و فيه، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ ) يريد من لم يتّعظ و لم يصدّقك و جحد ربوبيّتي و كفر نعمتي( فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) يريد الغليظ الشديد الدائم( إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ) يريد مصيرهم( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ) يريد جزاءهم.

و في النهج: و سئلعليه‌السلام : كيف يحاسب الله الخلق على كثرتهم؟ قال: كما يرزقهم على كثرتهم. قيل: فكيف يحاسبهم و لا يرونه؟ قال: كما يرزقهم و لا يرونه.

٤٠٢

و فيه، قال الصادقعليه‌السلام : كلّ اُمّة يحاسبها إمام زمانها، و يعرف الأئمّة أولياءهم و أعداءهم بسيماهم و هو قوله:( وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ‏ ) الحديث.

أقول: قد تقدّم توضيح معنى الحديث في تفسير الآية من سورة الأعراف، و روي هذا المعنى في البصائر، عن الصادقعليه‌السلام مسنداً و في الكافي، عن الباقر و الكاظمعليهما‌السلام و في الفقيه، عن الهاديعليه‌السلام في الزيارة الجامعة.

٤٠٣

( سورة الفجر مكّيّة و هي ثلاثون آية)

( سورة الفجر الآيات 1 - 30)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ ( 1 ) وَلَيَالٍ عَشْرٍ ( 2 ) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ( 3 ) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ( 4 ) هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ ( 5 ) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ( 6 ) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ( 7 ) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ( 8 ) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ( 9 ) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ( 10 ) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ( 11 ) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ( 12 ) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ( 13 ) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ( 14 ) فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ( 15 ) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ( 16 ) كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ( 17 ) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ ( 18 ) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا ( 19 ) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ( 20 ) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ( 21 ) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ( 22 ) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ ( 23 ) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ( 24 ) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ( 25 ) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ( 26 ) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ( 27 ) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ( 28 ) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ( 29 ) وَادْخُلِي جَنَّتِي ( 30 )

٤٠٤

( بيان‏)

في السورة ذمّ التعلّق بالدنيا المتعقّب للطغيان و الكفران و إيعاد أهله بأشدّ عذاب الله في الدنيا و الآخرة فتبيّن أنّ الإنسان لقصور نظره و سوء فكره يرى أنّ ما آتاه الله من نعمه من كرامته على الله و أنّ ما يتلبّس به من الفقر و العدم من هوانه فيطغى و يفسد في الأرض إذا وجد و يكفر إذا فقد و قد اشتبه عليه الأمر فما يصيبه من القدرة و الثروة و من الفقر و ضيق المعاش امتحان و ابتلاء إلهيّ ليظهر به ما ذا يقدّم من دنياه لاُخراه.

فليس الأمر على ما يتوهّمه الإنسان و يقوله بل الأمر كما سيتذكره إذا وقع الحساب و حضر العذاب أنّ ما أصابه من فقر أو غنى أو قوّة أو ضعف كان امتحاناً إلهيّاً و كان يمكنه أن يقدّم من يومه لغده فلم يفعل و آثر العقاب على الثواب فليس ينال الحياة السعيدة في الآخرة إلّا النفس المطمئنّة إلى ربّها المسلمة لأمره الّتي لا تتزلزل بعواصف الابتلاءات و لا يطغيه الوجدان و لا يكفره الفقدان.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( وَ الْفَجْرِ وَ لَيالٍ عَشْرٍ وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ) الفجر الصبح و الشفع الزوج، قال الراغب: الشفع ضمّ الشي‏ء إلى مثله و يقال للمشفوع شفع. انتهى. و سري الليل مضيّه و إدباره، و الحجر العقل فقوله:( وَ الْفَجْرِ ) إقسام بالصبح و كذا الحال فيما عطف عليه من ليال و الشفع و الوتر و اللّيل.

و لعلّ ظاهر قوله:( وَ الْفَجْرِ ) أنّ المراد به مطلق الفجر و لا يبعد أيضاً أن يراد به فجر يوم النحر و هو عاشر ذي الحجّة.

و قيل: المراد فجر ذي الحجّة، و قيل: فجر المحرّم أوّل السنة و قيل: فجر يوم الجمعة، و قيل فجر ليلة جمع، و قيل: المراد به صلاة الفجر، و قيل: النهار كلّه

٤٠٥

و قيل: فجر العيون من الصخور و غيرها و هي وجوه رديّة.

و قوله:( وَ لَيالٍ عَشْرٍ ) لعلّ المراد بها الليالي العشر من أوّل ذي الحجّة إلى عاشرها و التنكير للتفخيم.

و قيل: المراد بها الليالي العشر من آخر شهر رمضان، و قيل: الليالي العشر من أوّله، و قيل الليالي العشر من أوّل المحرّم، و قيل: المراد عبادة ليال عشر على تقدير أن يراد بالفجر صلاة الفجر.

و قوله( وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ ) يقبل الانطباق على يوم التروية و يوم عرفة و هو الأنسب على تقدير أن يراد بالفجر و ليال عشر فجر ذي الحجّة و العشر الأوّل من لياليها.

و قيل: المراد صلاتاً الشفع و الوتر في آخر الليل، و قيل: مطلق الصلاة فمنها شفع و منها وتر، و قيل: الشفع يوم النحر و الوتر يوم عرفة، و قيل: الشفع جميع الخلق لأنّه قال:( وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً ) النبأ: 8 و الوتر هو الله تعالى، و على هذه الأقوال روايات ستوافيك في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله.

و قيل: المراد الزوج و الفرد من العدد، و في الإقسام بهما تذكير بالعدد لما في ضبط المقادير به من عظيم النعمة من الله سبحانه، و قيل: الشفع و الوتر جميع المخلوقات لأنّ الأشياء إمّا زوج و إمّا فرد، و قيل: الوتر آدم شفع بزوجته، و قيل: الشفع الأيّام و الليالي و الوتر اليوم الّذي لا ليل بعده و هو يوم القيامة، و قيل: الشفع الصفا و المروة و الوتر البيت الحرام، و قيل: الشفع أيّام عاد و الوتر لياليها، و قيل: الشفع أبواب الجنّة و هي ثمانية و الوتر أبواب جهنّم و هي سبعة إلى غير ذلك و هي كثيرة أنّهاها بعضهم إلى ستّة و ثلاثين قولاً و لا يخلو أكثرها من تحكّم.

و قوله:( وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ ) أي يمضي فهو كقوله:( وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ) المدّثر: 33 و ظاهره أنّ اللّام للجنس فالمراد به مطلق آخر الليل، و قيل: المراد به ليلة المزدلفة و هي ليلة النحر الّتي يسري فيها الحاجّ من عرفات إلى المزدلفة فيجتمع فيها على طاعة الله ثمّ يغدوا منها إلى منى و هو كما ترى و خاصّة على القول بكون المراد بليال

٤٠٦

عشر هو الليالي العشر الأوائل منها.

و قوله:( هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ) الإشارة بذلك إلى ما تقدّم من القسم، و الاستفهام للتقرير، و المعنى أنّ في ذلك الّذي قدّمناه قسماً كافياً لمن له عقل يفقه به القول و يميّز الحقّ من الباطل، و إذا أقسم الله سبحانه بأمر - و لا يقسم إلّا بما له شرف و منزلة - كان من القول الحقّ المؤكّد الّذي لا ريب في صدقه.

و جواب الأقسام المذكورة محذوف يدلّ عليه ما سيذكر من عذاب أهل الطغيان و الكفران في الدنيا و الآخرة و ثواب النفوس المطمئنّة، و أنّ إنعامه تعالى على من أنعم عليه و إمساكه عنه فيمن أمسك إنّما هو ابتلاء و امتحان.

و حذف الجواب و الإشارة إليه على طريق التكنية أوقع و آكد في باب الإنذار و التبشير.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ ) هم عاد الاُولى قوم هود تكرّرت قصّتهم في القرآن الكريم و اُشير إلى أنّهم كانوا بالأحقاف، و قد قدّمنا ما يتحصّل من قصصهم في القرآن الكريم في تفسير سورة هود.

قوله تعالى: ( إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ ) العماد و جمعه عمد ما يعتمد عليه الأبنية، و ظاهر الآيتين أنّ إرم كانت مدينة لهم معمورة عديمة النظير ذات قصور عالية و عمد ممدّدة، و قد انقطعت أخبار القوم عهدهم و انمحت آثارهم، فلا سبيل إلى الحصول على تفصيل حالهم تطمئنّ إليها النفس إلّا ما قصّة القرآن الكريم من إجمال قصّتهم أنّهم كانوا بعد قوم نوح قاطنين بالأحقاف و كانوا ذوي بسطة في الخلق اُولي قوّة و بطش شديد، و كان لهم تقدّم و رقي في المدنيّة و الحضارة لهم بلاد عامرة و أراض خصبة ذات جنّات و نخيل و زروع و مقام كريم و قد تقدّمت القصّة.

و قيل: المراد بإرم قوم عاد - و هو في الأصل اسم أبيهم سمّوا باسم أبيهم كما يقال: قريش و يراد به القرشيّون و يطلق إسرائيل و يراد به بنو إسرائيل - و المراد بكونهم ذات عماد كونهم اُولي قوّة و سطوة.

٤٠٧

و المعنى: أ لم تر كيف فعل ربّك بقوم عاد الّذين هم قوم إرم ذوو القوّة و الشدّة الّذين لم يخلق مثلهم في بسطة الجسم و القوّة و البطش في البلاد أو في أقطار الأرض و لا يخلو من بعد من ظاهر اللفظ.

و أبعد منه ما قيل: إنّ المراد بكونهم ذات العماد أنّهم كانوا أهل عمد سيّارة في الربيع فإذا هاج النبت رجعوا إلى منازلهم.

و من الأساطير قصّة جنّة إرم المشهورة المرويّة عن وهب بن منبّه و كعب الأحبار.

قوله تعالى: ( وَ ثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ ) الجوب القطع أي قطعوا صخر الجبال بنحتها بيوتاً فهو في معنى قوله:( وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً ) الشعراء: 149.

قوله تعالى: ( وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ ) هو فرعون موسى، و سمّي ذا الأوتاد - على ما في بعض الروايات - لأنّه كان إذا أراد أن يعذّب رجلاً بسطه على الأرض و وتد يديه و رجليه بأربعة أوتاد في الأرض و ربّما بسطه على خشب و فعل به ذلك، و يؤيّده ما حكاه الله من قوله يهدّد السحرة إذ آمنوا بموسى:( وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ) طه: 71 فإنّهم كانوا يوتّدون يدي المصلوب و رجليه على خشبة الصليب.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ ) صفة للمذكورين من عاد و ثمود و فرعون، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ ) صبّ الماء معروف و صبّ سوط العذاب كناية عن التعذيب المتتابع المتواتر الشديد، و تنكير عذاب للتفخيم.

و المعنى فأنزل ربّك على كلّ من هؤلاء الطاغين المكثرين للفساد إثر طغيانهم و إكثارهم الفساد عذاباً شديداً متتابعاً متوالياً لا يوصف.

قوله تعالى: ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) المرصاد المكان الّذي يرصد منه و يرقب و كونه تعالى على المرصاد استعارة تمثيليّة شبّه فيها حفظه تعالى لأعمال عباده بمن

٤٠٨

يقعد على المرصاد يرقب من يراد رقوبه فيأخذه حين يمرّ به و هو لا يشعر فالله سبحانه رقيب يرقب أعمال عباده حتّى إذا طغوا و أكثروا الفساد أخذهم بأشدّ العذاب.

و في الآية تعليل ما تقدّم من حديث تعذيب الطغاة المكثرين للفساد من الماضين و في قوله:( رَبَّكَ ) بإضافة الربّ إلى ضمير الخطاب تلويح إلى أنّ سنّة العذاب جارية في اُمّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما جرت عليه في الاُمم الماضين.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) متفرّع على ما قبله، فيه تفصيل حال الإنسان إذا اُوتي من نعم الدنيا أو حرم كأنّه قيل: إنّ الإنسان تحت رقوب إلهيّ يرصده ربّه هل يصلح أو يفسد؟ و يبتليه و يمتحنه فيما آتاه من نعمة أو حرمة هذا هو الأمر في نفسه و أمّا الإنسان فإنّه إذا أنعم الله عليه بنعمة حسب أنّ ذلك إكرام إلهيّ له أن يفعل بها ما يشاء فيطغى و يكثر الفساد، و إذا أمسك و قدر عليه رزقه حسب أنّه إهانة إلهيّة فيكفر و يجزع.

فقوله:( فَأَمَّا الْإِنْسانُ ) المراد به النوع بحسب الطبع الأوّليّ فاللّام للجنس دون الاستغراق.

و قوله:( إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ ) أي امتحنه و اختبره، و العامل في الظرف محذوف تقديره كائنا إذا إلخ و قيل: العامل فيه( فَيَقُولُ ) .

و قوله:( فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ ) تفسير للابتلاء، و المراد بالإكرام و التنعيم الصوريّان و إن شئت فقل: الإكرام و التنعيم حدوثاً لا بقاء أي إنّه تعالى أكرمه و آتاه النعمة ليشكره و يعبده لكنّه جعلها نقمة على نفسه تستتبع العذاب.

و قوله:( فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) أي جعلني على كرامة منه بالنعم الّتي آتانيها و إن شئت فقل: القدرة و الجدة الموهوبتان إكرام و تنعيم حدوثاً و بقاء فلي أن أفعل ما أشاء.

و الجملة أعني قوله:( فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) حكاية ما يراه الإنسان بحسب الطبع، و قول الإنسان:( رَبِّي أَكْرَمَنِ ) الظاهر في نسبة التدبير إلى الله سبحانه

٤٠٩

- و لا يقول به الوثنيّة و المنكرون للصانع - مبنيّ على اعترافه بحسب الفطرة به تعالى و إن استنكف عنه لساناً، و أيضاً لرعاية المقابلة مع قوله:( إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ ) .

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ ) أي و أمّا إذا ما امتحنه و اختبره فضيق عليه رزقه فيقول ربّي أذلّني و استخفّ بي.

و يظهر من مجموع الآيتين أوّلاً حيث كرّر الابتلاء و أثبته في صورتي التنعيم و الإمساك عنه أنّ إيتاء النعم و الإمساك عنه جميعاً من الابتلاء و الامتحان الإلهيّ كما قال:( وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً ) الأنبياء: 35 لا كما يراه الإنسان.

و ثانياً أنّ إيتاء النعم بما أنّه فضل و رحمة إكرام إن لم يبدّلها الإنسان نقما على نفسه.

و ثالثاً أنّ الآيتين معاً تفيدان أنّ الإنسان يرى سعادته في الحياة هي التنعّم في الدنيا بنعم الله تعالى و هو الكرامة عنده و الحرمان منه شقاء عنده و الحال أنّ الكرامة هي في التقرّب إليه تعالى بالإيمان و العمل الصالح سواء في ذلك الغنى و الفقر و أي وجدان و فقدان فإنّما ذلك بلاء و امتحان.

و لهم في معنى الآيتين وجوه اُخر تركنا التعرّض لها لقلّة الجدوى.

قوله تعالى: ( كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَ لا تَحَاضُّونَ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) ردع لقولهم: إنّ الكرامة هي في الغنى و التنعّم، و في الفقر و الفقدان هوان و مذلّة، و المعنى ليس كما تقولون و إنّما إيتاؤه تعالى النعمة و إمساكه عنه كلّ ذلك ابتلاء و امتحان يختبر به حال الإنسان من حيث عبوديّته.

و في قوله:( بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ) إلخ إضراب يؤكّد الردع بذكر بعض التنعّم الّذي لا يجامع الكرامة البتّة كعدم إكرامهم اليتيم بأكل تراثه و منعه منه و عدم التحريض على إطعام المسكين حبّاً للمال فالفطرة الإنسانيّة لا يرتاب في أن لا كرامة في غنى هذا شأنه.

و في الإضراب مضافاً إلى أصل الردع تقريع و لتشديد هذا التقريع وقع الالتفات من الغيبة إلى الخطاب.

٤١٠

فقوله:( بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ) عدم إكرامه حرمانه من تراث أبيه - كما كانوا يحرمون صغار الأولاد من الإرث - و تركه صفر الكفّ بلغ به الجهد ما بلغ كما تؤيّده الآية التالية( وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ ) إلخ.

و قوله:( وَ لا تَحَاضُّونَ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) أصله و لا تتحاضّون، و هو تحريض بعضهم بعضاً على التصدّق على المساكين المعدمين، و منشأه حبّ المال كما في الآية الآتية( وَ تُحِبُّونَ الْمالَ ) إلخ.

قوله تعالى: ( وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا ) اللمّ أكل الإنسان نصيب نفسه و غيره و أكله ما يجده من دون أن يميّز الطيّب من الخبيث، و الآية تفسير لعدم إكرامهم اليتيم كما تقدّم.

قوله تعالى: ( وَ تُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا ) الجمّ الكثير العظيم، و الآية تفسّر عدم تحاضّهم على طعام المسكين كما تقدّم.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ) الدكّ هو الدقّ الشديد، و المراد بالظرف حضور يوم القيامة.

ردع ثان عمّا يقوله الإنسان في حالي الغنى و الفقر، و قوله:( إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ ) إلخ في مقام التعليل للردع، و محصّل المعنى ليس كما يقوله الإنسان فإنّه سيتذكّر إذا قامت القيامة إنّ الحياة الدنيا و ما فيها من الغنى و الفقر و أضرابهما لم تكن مقصودة بالذات بل كانت ابتلاء و امتحاناً من الله تعالى يميّز به السعيد من الشقيّ و يهيّئ الإنسان فيها ما يعيش به في الآخرة و قد التبس عليه الأمر فحسبها كرامة مقصودة بالذات فاشتغل بها و لم يقدّم لحياته الآخرة شيئاً فيتمنّى عند ذلك و يقول: يا ليتني قدّمت لحياتي و لن يصرف التمنّي عنه شيئاً من العذاب.

قوله تعالى: ( وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) نسبة المجي‏ء إليه تعالى من المتشابه الّذي يحكمه قوله تعالى:( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ) الشورى: 11 و ما ورد في آيات القيامة من خواصّ اليوم كتقطّع الأسباب و ارتفاع الحجب عنهم و ظهور أنّ الله هو الحقّ المبين.

٤١١

و إلى ذلك يرجع ما ورد في الروايات أنّ المراد بمجيئه تعالى مجي‏ء أمره قال تعالى:( وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) الانفطار: 19، و يؤيّد هذا الوجه بعض التأييد قوله تعالى( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ ) البقرة: 210 إذا انضمّ إلى قوله:( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ ) النحل: 33 و عليه فهناك مضاف محذوف و التقدير جاء أمر ربّك أو نسبة المجي‏ء إليه تعالى من المجاز العقليّ.

و الكلام في نسبة المجي‏ء إلى الملائكة و كونهم صفّا صفّا كما مرّ.

قوله تعالى: ( وَ جِي‏ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ) إلى آخر الآية لا يبعد أن يكون المراد بالمجي‏ء بجهنّم إبرازها لهم كما في قوله تعالى:( وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى‏ ) النازعات: 36 و قوله:( وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ ) الشعراء: 91، و قوله:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق: 22.

و قوله:( يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ) أي يتذكّر أجلى التذكّر أنّ ما كان يؤتاه في الحياة الدنيا من خير أو شرّ كان من ابتلاء الله و امتحانه و أنّه قصر في أمره، هذا ما يفيده السياق.

و قوله:( وَ أَنَّى لَهُ الذِّكْرى) أي و من أين له الذكرى كناية عن عدم انتفاعه بها فإنّ الذكرى إنّما تنفع فيما أمكنه أن يتدارك ما فرّط فيه بتوبة و عمل صالح و اليوم يوم الجزاء لا يوم الرجوع و العمل.

قوله تعالى: ( يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي ) أي لحياتي هذه و هي الحياة الآخرة أو المراد الحياة الحقيقيّة و هي الحياة الآخرة على ما نبّه تعالى عليه بقوله:( وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) العنكبوت: 64.

و المراد بالتقديم للحياة تقديم العمل الصالح للحياة الآخرة و ما في الآية تمنّ يتمنّاه الإنسان عند ما يتذكّر يوم القيامة و يشاهد أنّه لا ينفعه.

قوله تعالى: ( فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَ لا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ ) ضميراً عذابه

٤١٢

و وثاقه لله تعالى و المعنى فيومئذ لا يعذّب عذاب الله أحد من الخلق و لا يوثق وثاق الله أحد من الخلق أي إنّ عذابه و وثاقه تعالى يومئذ فوق عذاب الخلق و وثاقهم، تشديد في الوعيد.

و قرئ( لا يُعَذِّبُ ) بفتح الذال و( وَ لا يُوثِقُ ) بفتح الثاء بالبناء للمفعول و ضميراً عذابه و وثاقه على هذا للإنسان و المعنى لا يعذّب أحد يومئذ مثل عذاب الإنسان و لا يوثق أحد يومئذ مثل وثاقه.

قوله تعالى: ( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ) الّذي يعطيه سياق المقابلة بين هذه النفس بما ذكر لها من الأوصاف و عيّن لها من حسن المنقلب و بين الإنسان المذكور قبل بما ذكر له من وصف التعلّق بالدنيا و الطغيان و الفساد و الكفران، و ما اُوعد من سوء المصير هو أنّ النفس المطمئنّة هي الّتي تسكن إلى ربّها و ترضى بما رضي به فترى نفسها عبداً لا يملك لنفسه شيئاً من خير أو شرّ أو نفع أو ضرّ و يرى الدنيا دار مجاز و ما يستقبله فيها من غنى أو فقر أو أيّ نفع و ضرّ ابتلاء و امتحاناً إلهيّاً فلا يدعوه تواتر النعم عليه إلى الطغيان و إكثار الفساد و العلوّ و الاستكبار، و لا يوقعه الفقر و الفقدان في الكفر و ترك الشكر بل هو في مستقرّ من العبوديّة لا ينحرف عن مستقيم صراطه بإفراط أو تفريط.

قوله تعالى: ( ارْجِعِي إِلى‏ رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً ) خطاب ظرفه جميع يوم القيامة من لدن إحيائها إلى استقرارها في الجنّة بل من حين نزول الموت إلى دخول جنّة الخلد و ليس خطاباً واقعاً بعد الحساب كما ذكره بعضهم.

و توصيفها بالراضية لأنّ اطمئنانها إلى ربّها يستلزم رضاها بما قدّر و قضى تكويناً أو حكم به تشريعاً فلا تسخطها سانحة و لا تزيغها معصية، و إذا رضي العبد من ربّه رضي الربّ منه إذ لا يسخطه تعالى إلّا خروج العبد من زيّ العبوديّة فإذا لزم طريق العبوديّة استوجب ذلك رضى ربّه و لذا عقّب قوله( راضِيَةً ) بقوله:( مَرْضِيَّةً ) .

قوله تعالى: ( فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَ ادْخُلِي جَنَّتِي ) تفريع على قوله:( ارْجِعِي

٤١٣

إِلى‏ رَبِّكِ ) و فيه دلالة على أنّ صاحب النفس المطمئنّة في زمرة عباد الله حائز مقام العبوديّة.

و ذلك أنّه لمّا اطمأنّ إلى ربّه انقطع عن دعوى الاستقلال و رضي بما هو الحقّ من ربّه فرأى ذاته و صفاته و أفعاله ملكاً طلقاً لربّه فلم يرد فيما قدّر و قضى و لا فيما أمر و نهي إلّا ما أراده ربّه، و هذا ظهور العبوديّة التامّة في العبد ففي قوله:( فَادْخُلِي فِي عِبادِي ) تقرير لمقام عبوديّتها.

و في قوله:( وَ ادْخُلِي جَنَّتِي ) تعيين لمستقرّها، و في إضافة الجنّة إلى ضمير التكلّم تشريف خاصّ، و لا يوجد في كلامه تعالى إضافة الجنّة إلى نفسه تعالى و تقدّس إلّا في هذه الآية.

( بحث روائي‏)

في المجمع: في قوله تعالى:( وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ ) ، و قيل: الشفع الخلق لأنّه قال:( وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً ) و الوتر الله تعالى: عن عطيّة العوفيّ و أبي صالح و ابن عبّاس و مجاهد و هي رواية أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قيل: الشفع و الوتر الصلاة منها شفع و منها وتر: و هي رواية عن ابن حصين عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قيل: الشفع يوم النحر و الوتر يوم عرفة: عن ابن عبّاس و عكرمة و الضحّاك، و هي رواية جابر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الوجه فيه أنّ يوم النحر يشفّع بيوم نفر بعده و يتفرّد يوم عرفة بالموقف، و قيل: الشفع يوم التروية و الوتر يوم عرفة: و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام .

أقول: الروايات الثلاث المشار إليها مرويّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طرق أهل السنّة و يمكن الجمع بينها بأنّ المراد مطلق الشفع و الوتر و الروايات من قبيل الإشارة إلى بعض المصاديق.

و في تفسير القمّيّ:( وَ لَيالٍ عَشْرٍ ) قال: عشر ذي الحجّة( وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ ) قال: الشفع ركعتان و الوتر ركعة، و في حديث: الشفع الحسن و الحسين و الوتر أمير

٤١٤

المؤمنينعليهم‌السلام ( وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ ) قال: هي ليلة جمع.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( لِذِي حِجْرٍ ) يقول: لذي عقل.

و في العلل، بإسناده إلى أبان الأحمر قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ ) لأيّ شي‏ء سمّي ذا الأوتاد؟ فقال: لأنّه كان إذا عذّب رجلاً بسطه على الأرض على وجهه و مدّ يديه و رجليه فأوتدها بأربعة أوتاد في الأرض. و ربّما بسطه على خشب منبسط فوتّد رجليه و يديه بأربعة أوتاد ثمّ تركه على حاله حتّى يموت فسمّاه الله عزّوجلّ فرعون ذا الأوتاد.

و في المجمع: في قوله تعالى:( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) وروي عن عليّعليه‌السلام أنّه قال: إنّ معناه أنّ ربّك قادر أن يجزي أهل المعاصي جزاءهم.

أقول: بناء الرواية على أخذ الجملة استعارة تمثيليّة.

و فيه، عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال: المرصاد قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة عبد.

و عن الغوالي، عن الصادقعليه‌السلام في حديث في تفسير قوله تعالى:( وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) إنّما ظنّ بمعنى استيقن أنّ الله تعالى لن يضيّق عليه رزقه أ لا تسمع قول الله تعالى:( وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ) أي ضيّق عليه.

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ) قال: هي الزلزلة.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل تدرون ما تفسير هذه الآية( كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ - إلى قوله -وَ جِي‏ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ) قال: إذا كان يوم القيامة تقاد جهنّم بسبعين ألف زمام بيد سبعين ألف ملك فتشرد شردة لو لا أنّ الله حبسها لأحرقت السماوات و الأرض.

أقول: و هو مرويّ أيضاً عن أبي سعيد و ابن مسعود و من طرق الشيعة في أمالي

٤١٥

الشيخ، بإسناده عن داود بن سليمان عن الرضا عن آبائه عن عليّعليه‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في العيون، في باب ما جاء عن الرضا من أخبار التوحيد بإسناده عن عليّ بن فضال عن أبيه قال: سألت الرضاعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) فقال: إنّ الله سبحانه لا يوصف بالمجي‏ء و الذهاب تعالى عن الانتقال إنّما يعني بذلك و جاء أمر ربّك.

و في الكافي، بإسناده عن سدير الصيرفيّ قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : جعلت فداك يا ابن رسول الله هل يكره المؤمن على قبض روحه؟ قال: لا و الله إنّه إذا أتاه ملك الموت ليقبض روحه جزع عند ذلك فيقول ملك الموت: يا وليّ الله لا تجزع فوالّذي بعث محمّداً لأنّي أبرّ بك و أشفق عليك من والد رحيم لو حضرك، افتح عينيك فانظر.

قال: و يمثّل له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أميرالمؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمّة من ذرّيّتهمعليهم‌السلام فيقال له: هذا رسول الله و أميرالمؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمّةعليهم‌السلام رفقاؤك.

قال: فيفتح عينيه فينظر فينادي روحه مناد من قبل ربّ العزّة فيقول: يا أيّتها النفس المطمئنّة إلى محمّد و أهل بيته ارجعي إلى ربّك راضية بالولاية مرضيّة بالثواب فادخلي في عبادي يعني محمّداً و أهل بيته و ادخلي جنّتي فما من شي‏ء أحبّ إليه من استلال روحه و اللحوق بالمنادي.

أقول: و روى هذا المعنى القمّيّ في تفسيره و البرقيّ في المحاسن.

٤١٦

( سورة البلد مكّيّة و هي عشرون آية)

( سورة البلد الآيات 1 - 20)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ( 1 ) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ( 2 ) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ( 3 ) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ( 4 ) أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ( 5 ) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا ( 6 ) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ ( 7 ) أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ ( 8 ) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ( 9 ) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ( 10 ) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ( 11 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ( 12 ) فَكُّ رَقَبَةٍ ( 13 ) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ( 14 ) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ( 15 ) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ( 16 ) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ( 17 ) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ( 18 ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ( 19 ) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ ( 20 )

( بيان‏)

تذكر السورة أنّ خلقة الإنسان مبنيّة على التعب و المشقّة فلا تجد شأناً من شؤن الحياة إلّا مقروناً بمرارة الكدّ و التعب من حين يلج في جثمانه الروح إلى أن يموت فلا راحة له عارية من التعب و المشقّة و لا سعادة له خالصة من الشقاء و المشأمة إلّا في الدار الآخرة عند الله.

فليتحمّل ثقل التكاليف الإلهيّة بالصبر على الطاعة و عن المعصية و ليجدّ في نشر الرحمة على المبتلين بنوائب الدهر كاليتم و الفقر و المرض و أضرابها حتّى يكون

٤١٧

من أصحاب الميمنة و إلّا فآخرته كاُولاه و هو من أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة.

و سياق آيات السورة، يشبه السياق المكّيّ فيؤيّد به كون السورة مكّيّة و قد ادّعى بعضهم عليه الإجماع، و قيل: السورة مدنيّة و السياق لا يساعد عليه، و قيل: مدنيّة إلّا أربع آيات من أوّلها و سيأتي في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ ) ذكروا أنّ المراد بهذا البلد مكّة و تؤيّده مكّيّة سياق السورة و قوله:( وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ ) خاصّة بناء على كون المراد بوالد هو إبراهيمعليه‌السلام على ما سيجي‏ء.

قوله تعالى: ( وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ) حال من هذا البلد، و وضع الظاهر موضع الضمير في قوله:( بِهذَا الْبَلَدِ ) للدلالة على عظم شأنه و الاعتناء بأمره و هو البلد الحرام، و الحلّ مصدر كالحلول بمعنى الإقامة و الاستقرار في مكان و المصدر بمعنى الفاعل.

و المعنى اُقسم بهذا البلد و الحال أنك حالٌ به مقيم فيه و في ذلك تنبيه على تشرّف مكّة بحلولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها و كونها مولده و مقامه.

و قيل: الجملة معترضة بين القسم و المقسم به و المراد بالحلّ المستحلّ الّذي لا حرمة له قال في الكشاف: و اعترض بين القسم و المقسم عليه بقوله:( وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ) يعني و من المكابدة أنّ مثلك على عظم حرمتك يستحلّ بهذا البلد الحرام كما يستحلّ الصيد في غير الحرم - عن شرحبيل - يحرّمون أن يقتلوا بها صيداً و يعضدوا(1) بها شجرة و يستحلّون إخراجك و قتلك، و فيه تثبيت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بعث على‏ احتمال ما كان يكابد من أهل مكّة و تعجيب من حالهم في عداوته انتهى.

ثمّ قال: أو سلّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقسم ببلده أنّ الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد و اعترض بأن وعده فتح مكّة تتميماً للتسلية و التنفيس عنه فقال:( وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ) يعني و أنت حلّ به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل و الأسر إلى آخر ما قال، و محصّله تفسير الحلّ بمعنى المحلّ ضدّ المحرم، و المعنى و سنحلّ لك يوم فتح مكّة حيناً فنقاتل و تقتل فيه من شئت.

____________________

(1) عضد الشجرة: قطعها و نثر ورقها للإبل. و شرحبيل راوي الحديث.

٤١٨

قوله تعالى: ( وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ ) لزوم نوع من التناسب و الارتباط بين القسم و المقسم عليه يستدعي أن يكون المراد بوالد و ما ولد من بينه و بين البلد المقسم به نسبة ظاهرة و ينطبق على إبراهيم و ولده إسماعيلعليهما‌السلام و هما السببان الأصليّان لبناء بلدة مكّة و البانيان للبيت الحرام قال تعالى:( وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ ) البقرة: 127 و إبراهيمعليه‌السلام هو الّذي سأل الله أن يجعل مكّة بلداً آمنا قال تعالى:( وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ) إبراهيم: 35. و تنكير( والِدٍ ) للتعظيم و التفخيم، و التعبير بقوله( وَ ما وَلَدَ ) دون أن يقال: و من ولد، للدلالة على التعجيب من أمره مدحاً كما في قوله:( وَ اللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ ) آل عمران: 36.

و المعنى و اُقسم بوالد عظيم الشأن هو إبراهيم و ما ولد من ولد عجيب أمره مبارك أثره و هو إسماعيل ابنه و هما البانيان لهذا البلد فمفاد الآيات الثلاث الإقسام بمكّة المشرّفة و بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي هو حلّ فيها و بإبراهيم و إسماعيل اللّذين بنياها.

و قيل: المراد بالوالد إبراهيم و بما ولد جميع أولاده من العرب.

و فيه أنّ من البعيد أن يقارن الله سبحانه بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إبراهيمعليه‌السلام و بين أمثال أبي لهب و أبي جهل و غيرهم من أئمّة الكفر فيقسم بهم جميعاً في سياق، و قد تبرّأ إبراهيمعليه‌السلام ممّن لم يتّبعه من بنيه على التوحيد إذ قال فيما حكاه الله:( وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) إبراهيم: 36.

فعلى من يفسّر ما ولد بأولاد إبراهيم أن يخصّهم بالمسلمين من ذرّيّته كما في دعاء إبراهيم و إسماعيل عند بنائهما الكعبة على ما حكاه الله:( رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا ) البقرة: 128.

و قيل: المراد بوالد و ما ولد، آدمعليه‌السلام و ذرّيّته جميعاً بتقريب أنّ المقسم عليه بهذه الأقسام خلق الإنسان في كبد و قد سنّ الله في خلق هذا النوع و إبقاء وجوده سنّة الولادة فقد أقسم في هذه الآيات بمحصول هذه السنّة و هو الوالد و ما ولد على أنّ الإنسان في كدّ و تعب بحسب نوع خلقته من حين يحيى إلى حين يموت.

٤١٩

و هذا الوجه في نفسه لا بأس به لكن يبقى عليه بيان المناسبة بين بلدة مكّة و بين والد و كلّ مولود في الجمع بينهما في الأقسام.

و قيل: المراد بهما آدم و الصالحون من ذرّيّته، و كأنّ الوجه فيه تنزيهه تعالى من أن يقسم بأعدائه الطغاة و المفسدين من الكفّار و الفسّاق.

و قيل: المراد بهما كلّ والد و كلّ مولود و قيل: من يلد و من لا يلد منهم بأخذ( ما ) في( ما وَلَدَ ) نافية لا موصولة.

و قيل: المراد بوالد هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بما ولد اُمّته لأنّه بمنزلة الأب لاُمّته و هي وجوه بعيدة.

قوله تعالى: ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ ) الكبد الكدّ و التعب، و الجملة جواب القسم فاشتمال الكبد على خلق الإنسان و إحاطة الكدّ و التعب به في جميع شؤن حياته ممّا لا يخفى على ذي لبّ فليس يقصد نعمة من نعم الدنيا إلّا خالصة في طيبها محضة في هنائها و لا ينال شيئاً منها إلّا مشوبة بما ينغّص العيش مقرونة بمقاساة و مكابدة مضافاً إلى ما يصيبه من نوائب الدهر و يفاجئه من طوارق الحدثان.

قوله تعالى: ( أَ يَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ) بمنزلة النتيجة لحجّة الآية السابقة تقريرها أنّ الإنسان لمّا كانت خلقته مبنيّة على كبد مظروفة له لا ينال قطّ شيئاً ممّا يريد إلّا دون ما يريد أو غير ما يريد فهو محاط في خلقه مغلوب في إرادته مقهور فيما قدّر له من الأمر و الّذي يغلبه في إرادته و يقهره على التلبّس بما قدّر له و هو الله سبحانه يقدر عليه من كلّ جهة فله أن يتصرّف فيه بما شاء و يأخذه إذا أراد.

فليس للإنسان أن يحسب أن لن يقدر عليه أحد فيدعوه ذلك إلى أن يعلو على الله و يستكبر عن عبادته أو يعطيه في بعض ما أمر به كالإنفاق في سبيله فيستكثره و يمتنّ به على الله أو يمكر به تعالى بعد ما عمله رياء و سمعة عملاً لوجه الكريم فيقول: أهلكت مالاً لبدا.

قوله تعالى: ( يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً ) اللبد الكثير، سياق الآية و ما يتلوها من الآيات إلى آخر السورة مشعر بأنه كان هناك بعض من أظهر الإسلام أو مال إليه

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568