الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن10%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219922 / تحميل: 7014
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

( بيان‏)

هذا هو الفصل الثاني من الآيات يعرّف الحاقّة ببعض أشراطها و نبذة ممّا يقع فيها.

قوله تعالى: ( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ ) قد تقدّم أنّ النفخ في الصور كناية عن البعث و الإحضار لفصل القضاء، و في توصيف النفخة بالواحدة إشارة إلى مضيّ الأمر و نفوذ القدرة فلا وهن فيه حتّى يحتاج إلى تكرار النفخة، و الّذي يسبق إلى الفهم من سياق الآيات أنّها النفخة الثانية الّتي تحيي الموتى.

قوله تعالى: ( وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً ) الدكّ أشدّ الدقّ و هو كسر الشي‏ء و تبديله إلى أجزاء صغار، و حمل الأرض و الجبال إحاطة القدرة بها، و توصيف الدكّة بالواحدة للإشارة إلى سرعة تفتّتهما بحيث لا يفتقر إلى دكّة ثانية.

قوله تعالى: ( فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ) أي قامت القيامة.

قوله تعالى: ( وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ ) انشقاق الشي‏ء انفصال شطر منه من شطر آخر، و واهية من الوهي بمعنى الضعف، و قيل: من الوهي بمعنى شقّ الأديم و الثوب و نحوهما.

و يمكن أن تكون الآية أعني قوله:( وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها ) في معنى قوله:( وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا ) الفرقان: 25.

قوله تعالى: ( وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) قال الراغب: رجا البئر و السماء و غيرهما جانبها و الجمع أرجاء قال تعالى:( وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها ) انتهى، و الملك - كما قيل - يطلق على الواحد و الجمع و المراد به في

٦١

الآية الجمع.

و قوله:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) ضمير( فَوْقَهُمْ ) على ظاهر ما يقتضيه السياق للملائكة، و قيل: الضمير للخلائق.

و ظاهر كلامه أنّ للعرش اليوم حملة من الملائكة قال تعالى:( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) المؤمن: 7 و قد وردت الروايات أنّهم أربعة، و ظاهر الآية أعني قوله:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) أنّ الحملة يوم القيامة ثمانية و هل هم من الملائكة أو من غيرهم؟ الآية ساكتة عن ذلك و إن كان لا يخلو السياق من إشعار ما بأنّهم من الملائكة.

و من الممكن - كما تقدّمت الإشارة إليه - أن يكون الغرض من ذكر انشقاق السماء و كون الملائكة على أرجائها و كون حملة العرش يومئذ ثمانية بيان ظهور الملائكة و السماء و العرش للإنسان يومئذ، قال تعالى:( وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) الزمر: 75.

قوله تعالى: ( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى‏ مِنْكُمْ خافِيَةٌ ) الظاهر أنّ المراد به العرض على الله كما قال تعالى:( وعُرِضُوا عَلى‏ رَبِّكَ صَفًّا ) الكهف: 48، و العرض إراءة البائع سلعته للمشتري ببسطها بين يديه، فالعرض يومئذ على الله و هو يوم القضاء إبراز ما عند الإنسان من اعتقاد و عمل إبرازاً لا يخفى معه عقيدة خافية و لا فعلة خافية و ذلك بتبدّل الغيب شهادة و السرّ علناً قال:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) الطارق: 9، و قال:( يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى‏ عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْ‏ءٌ ) المؤمن: 16.

و قد تقدّم في أبحاثنا السابقة أنّ ما عدّ في كلامه تعالى من خصائص يوم القيامة كاختصاص الملك بالله، و كون الأمر له، و أن لا عاصم منه، و بروز الخلق له و عدم خفاء شي‏ء منهم عليه و غير ذلك، كلّ ذلك دائميّة الثبوت له تعالى، و إنّما المراد ظهور هذه الحقائق يومئذ ظهوراً لا ستر عليه و لا مرية فيه.

٦٢

فالمعنى: يومئذ يظهر أنّكم في معرض على علم الله و يظهر كلّ فعلة خافية من أفعالكم.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) قال في المجمع، هاؤم أمر للجماعة بمنزلة هاكم، تقول للواحد: هاء يا رجل، و للاثنين: هاؤما يا رجلان، و للجماعة: هاؤم يا رجال، و للمرأة: هاء يا امرأة بكسر الهمزة و ليس بعدها ياء، و للمرأتين: هاؤما، و للنساء: هاؤنّ. هذه لغة أهل الحجاز.

و تميم و قيس يقولون: هاء يا رجل مثل قول أهل الحجاز، و للاثنين: هاءا، و للجماعة: هاؤا، و للمرأة: هائي، و للنساء هاؤنّ.

و بعض العرب يجعل مكان الهمزة كافاً فيقول: هاك هاكما هاكم هاك هاكما هاكنّ، و معناه: خذ و تناول، و يؤمر بها و لا ينهى. انتهى.

و الآية و ما بعدها إلى قوله:( الْخاطِؤُنَ ) بيان تفصيليّ لاختلاف حال الناس يومئذ من حيث السعادة و الشقاء، و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) إسراء: 71 كلام في معنى إعطاء الكتاب باليمين، و الظاهر أنّ قوله:( هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) خطاب للملائكة، و الهاء في( كِتابِيَهْ ) و كذا في أواخر الآيات التالية للوقف و تسمّى هاء الاستراحة.

و المعنى: فأمّا من اُوتي كتابه بيمينه فيقول للملائكة: خذوا و اقرأوا كتابيه أي إنّها كتاب يقضي بسعادتي.

قوله تعالى: ( إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ ) الظنّ بمعنى اليقين، و الآية تعليل لما يتحصّل من الآية السابقة و محصّل التعليل إنّما كان كتابي كتاب اليمين و قاضياً بسعادتي لأنّي أيقنت في الدنيا أنّي ساُلاقي حسابي فآمنت بربّي و أصلحت عملي.

قوله تعالى: ( فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ) أي يعيش عيشة يرضاها فنسبة الرضا إلى العيشة من المجاز العقليّ.

٦٣

قوله تعالى: ( فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ - إلى قوله -الْخالِيَةِ ) أي هو في جنّة عالية قدراً فيها ما لا عين رأت و لا اُذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.

و قوله:( قُطُوفُها دانِيَةٌ ) القطوف جمع قطف بالكسر فالسكون و هو ما يجتنى من الثمر و المعنى: أثمارها قريبة منه يتناوله كيف يشاء.

و قوله:( كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ ) أي يقال لهم: كلوا و اشربوا من جميع ما يؤكل فيها و ما يشرب حال كونه هنيئاً لكم بما قدّمتم من الإيمان و العمل الصالح في الدنيا الّتي تقضّت أيّامها.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ ) و هؤلاء هم الطائفة الثانية و هم الأشقياء المجرمون يؤتون صحيفة أعمالهم بشمالهم و قد مرّ الكلام في معناه في سورة الإسراء، و هؤلاء يتمنّون أن لو لم يكونوا يؤتون كتابهم و يدرون ما حسابهم يتمنّون ذلك لما يشاهدون من أليم العذاب المعدّ لهم.

قوله تعالى: ( يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ) ذكروا أنّ ضمير( لَيْتَها ) للموتة الاُولى الّتي ذاقها الإنسان في الدنيا.

و المعنى: يا ليت الموتة الاُولى الّتي ذقتها كانت قاضية عليّ تقضي بعدمي فكنت انعدمت و لم اُبعث حيّاً فأقع في ورطة العذاب الخالد و اُشاهد ما اُشاهد.

قوله تعالى: ( ما أَغْنى‏ عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ ) كلمتا تحسّر يقولهما حيث يرى خيبة سعيه في الدنيا فإنّه كان يحسب أنّ مفتاح سعادته في الحياة هو المال و السلطان يدفعان عنه كلّ مكروه و يسلّطانه على كلّ ما يحبّ و يرضى فبذل كلّ جهده في تحصيلهما و أعرض عن ربّه و عن كلّ حقّ يدعى إليه و كذّب داعيه فلمّا شاهد تقطّع الأسباب و أنّه في يوم لا ينفع فيه مال و لا بنون ذكر عدم نفع ماله و بطلان سلطانه تحسّراً و توجّعاً و ما ذا ينفع التحسّر.؟

قوله تعالى: ( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ - إلى قوله -فَاسْلُكُوهُ ) حكاية أمره تعالى الملائكة بأخذه و إدخاله النار، و التقدير يقال للملائكة خذوه إلخ، و( فَغُلُّوهُ ) أمر من الغلّ بالفتح

٦٤

و هو الشدّ بالغلّ الّذي يجمع بين اليد و الرجل و العنق.

و قوله:( ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ) أي أدخلوه النار العظيمة و ألزموه إيّاها.

و قوله:( ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ ) السلسلة القيد، و الذرع الطول، و الذراع بُعد ما بين المرفق و رأس الأصابع و هو واحد الطول و سلوكه فيه جعله فيه، و المحصّل ثمّ اجعلوه في قيد طوله سبعون ذراعاً.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَ لا يَحُضُّ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) الحضّ التحريض و الترغيب، و الآيتان في مقام التعليل للأمر بالأخذ و الإدخال في النار أي إنّ الأخذ ثمّ التصلية في الجحيم و السلوك في السلسلة لأجل أنّه كان لا يؤمن بالله العظيم و لا يحرّض على طعام المسكين أي يساهل في أمر المساكين و لا يبالي بما يقاسونه.

قوله تعالى: ( فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ - إلى قوله -الْخاطِؤُنَ ) الحميم الصديق و الآية تفريع على قوله:( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ ) إلخ، و المحصّل: أنّه لمّا كان لا يؤمن بالله العظيم فليس له اليوم ههنا صديق ينفعه أي شفيع يشفع له إذ لا مغفرة لكافر فلا شفاعة.

و قوله:( وَ لا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ) الغسلين الغسالة و كأنّ المراد به ما يسيل من أبدان أهل النار من قيح و نحوه و الآية عطف على قوله في الآية السابقة:( حَمِيمٌ ) و متفرّع على قوله:( وَ لا يَحُضُّ ) إلخ، و المحصّل: أنّه لمّا كان لا يحرّض على طعام المسكين فليس له اليوم ههنا طعام إلّا من غسلين أهل النار.

و قوله:( لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ ) وصف لغسلين و الخاطؤن المتلبّسون بالخطيئة و الإثم.

٦٥

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، في قوله تعالى:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يحمله اليوم أربعة و يوم القيامة ثمانية.

أقول: و في تقييد الحاملين في الآية بقوله:( يَوْمَئِذٍ ) إشعار بل ظهور في اختصاص العدد بالقيامة.

و في تفسير القمّيّ، و في حديث آخر قال: حمله ثمانية أربعة من الأوّلين و أربعة من الآخرين فأمّا الأربعة من الأوّلين فنوح و إبراهيم و موسى و عيسى، و أمّا الأربعة من الآخرين فمحمّد و عليّ و الحسن و الحسينعليهم‌السلام .

أقول: و في غير واحد من الروايات أنّ الثمانية مخصوصة بيوم القيامة، و في بعضها أنّ حملة العرش - و العرش العلم - أربعة منّا و أربعة ممّن شاء الله.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّه إذا كان يوم القيامة يدعى كلّ اُناس بإمامه الّذي مات في عصره فإن أثبته اُعطي كتابه بيمينه لقوله:( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ‏ ) فمن اُوتي كتابه بيمينه فاُولئك يقرؤن كتابهم، و اليمين إثبات الإمام لأنه كتابه يقرؤه - إلى أن قال - و من أنكر كان من أصحاب الشمال الّذين قال الله:( وَ أَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ وَ حَمِيمٍ وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ) إلخ.

أقول: و في عدّة من الروايات تطبيق قوله:( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) إلخ، على عليّعليه‌السلام ، و في بعضها عليه و على شيعته، و كذا تطبيق قوله:( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ ) إلخ، على أعدائه، و هي من الجري دون التفسير.

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم و صحّحه عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لو أنّ دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن بأهل الدنيا.

و فيه، أخرج البيهقيّ في شعب الإيمان عن صعصعة بن صوحان قال: جاء أعرابي

٦٦

إلى عليّ بن أبي طالب فقال: كيف هذا الحرف: لا يأكله إلّا الخاطون؟ كلّ و الله يخطو. فتبسّم عليّ و قال: يا أعرابيّ( لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ ) قال: صدقت و الله يا أميرالمؤمنين ما كان الله ليسلم عبده.

ثمّ التفت عليّ إلى أبي الأسود فقال: إنّ الأعاجم قد دخلت في الدين كافّة فضع للناس شيئاً يستدلّون به على صلاح ألسنتهم فرسم لهم الرفع و النصب و الخفض.

و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه في الدروع الواقية في حديث عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و لو أنّ ذراعاً من السلسلة الّتي ذكرها الله في كتابه وضع على جميع جبال الدنيا لذابت عن حرّها.

٦٧

( سورة الحاقّة الآيات 38 - 52)

فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ( 38 ) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ( 39 ) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ( 40 ) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ ( 41 ) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ( 42 ) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ( 43 ) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ( 44 ) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ( 45 ) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ( 46 ) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ( 47 ) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ( 48 ) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ ( 49 ) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ( 50 ) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ( 51 ) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ( 52 )

( بيان‏)

هذا هو الفصل الثالث من آيات السورة يؤكّد ما تقدّم من أمر الحاقّة بلسان تصديق القرآن الكريم ليثبت بذلك حقّيّة ما أنبأ به من أمر القيامة.

قوله تعالى: ( فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَ ما لا تُبْصِرُونَ ) ظاهر الآية أنّه إقسام بما هو مشهود لهم و ما لا يشاهدون أي الغيب و الشهادة فهو إقسام بمجموع الخليقة و لا يشمل ذاته المتعالية فإنّ من البعيد من أدب القرآن أن يجمع الخالق و الخلق في صفّ واحد و يعظّمه تعالى و ما صنع تعظيماً مشتركاً في عرض واحد.

و في الإقسام نوع تعظيم و تجليل للمقسم به و خلقه تعالى بما أنّه خلقه جليل جميل لأنّه تعالى جميل لا يصدر منه إلّا الجميل و قد استحسن تعالى فعل نفسه و أثنى

٦٨

على نفسه بخلقه في قوله:( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ ) الم السجدة: 7، و قوله:( فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) المؤمنون: 14 فليس للموجودات منه تعالى إلّا الحسن و ما دون ذلك من مساءة فمن أنفسها و بقياس بعضها إلى بعض.

و في اختيار ما يبصرون و ما لا يبصرون للأقسام به على حقّيّة القرآن ما لا يخفى من المناسبة فإنّ النظام الواحد المتشابك أجزاؤه الجاري في مجموع العالم يقضي بتوحّده تعالى و مصير الكلّ إليه و ما يترتّب عليه من بعث الرسل و إنزال الكتب و القرآن خير كتاب سماويّ يهدي إلى الحقّ في جميع ذلك و إلى طريق مستقيم.

و ممّا تقدّم يظهر عدم استقامة ما قيل: إنّ المراد بما تبصرون و ما لا تبصرون الخلق و الخالق فإنّ السياق لا يساعد عليه، و كذا ما قيل: إنّ المراد النعم الظاهرة و الباطنة، و ما قيل: إنّ المراد الجنّ و الإنس و الملائكة أو الأجسام و الأرواح أو الدنيا و الآخرة أو ما يشاهد من آثار القدرة و ما لا يشاهد من أسرارها فاللفظ أعمّ مدلولاً من جميع ذلك.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) الضمير للقرآن، و المستفاد من السياق أنّ المراد برسول كريم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو تصديق لرسالته قبال ما كانوا يقولون إنّه شاعر أو كاهن.

و لا ضير في نسبة القرآن إلى قوله فإنّه إنّما ينسب إليه بما أنّه رسول و الرسول بما أنّه رسول لا يأتي إلّا بقول مرسلة، و قد بيّن ذلك فضل بيان بقوله بعد:( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

و قيل: المراد برسول كريم جبريل، و السياق لا يؤيّده إذ لو كان هو المراد لكان الأنسب نفي كونه ممّا نزلت به الشياطين كما فعل في سورة الشعراء.

على أنّ قوله بعد:( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ) و ما يتلوه إنّما يناسب كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المراد برسول كريم.

قوله تعالى: ( وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ) نفي أن يكون القرآن

٦٩

نظماً ألّفه شاعر و لم يقل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شعراً و لم يكن شاعراً.

و قوله:( قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ) توبيخ لمجتمعهم حيث إنّ الأكثرين منهم لم يؤمنوا و ما آمن به إلّا قليل منهم.

قوله تعالى: ( وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ) نفي أن يكون القرآن كهانة و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كاهنا يأخذ القرآن من الجنّ و هم يُلقونه إليه.

و قوله:( قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ) توبيخ أيضاً لمجتمعهم.

قوله تعالى: ( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) أي منزل من ربّ العالمين و ليس من صنع الرسول نسبه إلى الله كما تقدّمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ - إلى قوله -حاجِزِينَ ) يقال: تقوّل على فلان أي اختلق قولاً من نفسه و نسبه إليه، و الوتين - على ما ذكره الراغب - عرق يسقي الكبد و إذا انقطع مات صاحبه، و قيل: هو رباط القلب.

و المعنى:( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا ) هذا الرسول الكريم الّذي حمّلناه رسالتنا و أرسلناه إليكم بقرآن نزّلناه عليه و اختلق( بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ) و نسبه إلينا( لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ) كما يقبض على المجرم فيؤخذ بيده أو المراد قطعنا منه يده اليمنى أو المراد لانتقمنا منه بالقوّة كما في رواية القمّيّ( ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ) و قتلناه لتقوّله علينا( فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ‏ ) تحجبونه عنّا و تنجونه من عقوبتنا و إهلاكنا.

و هذا تهديد للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تقدير أن يفتري على الله كذباً و ينسب إليه شيئاً لم يقله و هو رسول من عنده أكرمه بنبوّته و اختاره لرسالته.

فالآيات في معنى قوله:( لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) إسراء: 75، و كذا قوله في الأنبياء بعد ذكر نعمه العظمى عليهم:( وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) الأنعام: 88.

فلا يرد أنّ مقتضى الآيات أنّ كلّ من ادّعى النبوّة و افترى على الله الكذب أهلكه الله و عاقبه في الدنيا أشدّ العقاب و هو منقوض ببعض مدّعي النبوّة من الكذّابين.

٧٠

و ذلك أنّ التهديد في الآية متوجّه إلى الرسول الصادق في رسالته لو تقوّل على الله و نسب إليه بعض ما ليس منه لا مطلق مدّعي النبوّة المفتري على الله في دعواه النبوّة و إخباره عن الله تعالى.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ) يذكّرهم كرامة تقواهم و معارف المبدأ و المعاد بحقائقها، و يعرّفهم درجاتهم عند الله و مقاماتهم في الآخرة و الجنّة و ما هذا شأنه لا يكون تقوّلاً و افتراء فالآية مسوقة حجّة على كون القرآن منزّهاً عن التقوّل و الفرية.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ ) ستظهر لهم يوم الحسرة.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) قد تقدّم كلام في نظيرتي الآيتين في آخر سورة الواقعة، و السورتان متّحدتان في الغرض و هو وصف يوم القيامة و متّحدتان في سياق خاتمتهما و هي الإقسام على حقّيّة القرآن المنبئ عن يوم القيامة، و قد ختمت السورتان بكون القرآن و ما أنبأ به عن وقوع الواقعة حقّ اليقين ثمّ الأمر بتسبيح اسم الربّ العظيم المنزّه عن خلق العالم باطلاً لا معاد فيه و عن أن يبطل المعارف الحقّة الّتي يعطيها القرآن في أمر المبدأ و المعاد.

٧١

( سورة المعارج مكّيّة و هي أربع و أربعون آية)

( سورة المعارج الآيات 1 - 18)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ( 1 ) لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ( 2 ) مِّنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِجِ ( 3 ) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ( 4 ) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ( 5 ) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ( 6 ) وَنَرَاهُ قَرِيبًا ( 7 ) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ( 8 ) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ( 9 ) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ( 10 ) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ( 11 ) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ( 12 ) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ( 13 ) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ ( 14 ) كَلَّا إِنَّهَا لَظَىٰ ( 15 ) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ ( 16 ) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ ( 17 ) وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ ( 18 )

( بيان‏)

الّذي يعطيه سياق السورة أنّها تصف يوم القيامة بما اُعدّ فيه من أليم العذاب للكافرين. تبتدئ السورة فتذكر سؤال سائل سأل عذاباً من الله للكافرين فتشير إلى أنّه واقع ليس له دافع قريب غير بعيد كما يحسبونه ثمّ تصف اليوم الّذي يقع فيه و العذاب الّذي اُعدّ لهم فيه و تستثني المؤمنين الّذين قاموا بوظائف الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح.

٧٢

و هذا السياق يشبه سياق السور المكّيّة غير أنّ المنقول عن بعضهم أنّ قوله:( وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ) مدني و الاعتبار يؤيّده لأنّ ظاهره الزكاة و قد شرّعت بالمدينة بعد الهجرة، و كون هذه الآية مدنيّة يستتبع كون الآيات الحافّة بها الواقعة تحت الاستثناء و هي أربع عشرة آية (قوله:إِلَّا الْمُصَلِّينَ - إلى قوله -فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ‏ ) مدنيّة لما في سياقها من الاتّحاد و استلزام البعض للبعض.

و مدنيّة هذه الآيات الواقعة تحت الاستثناء تستدعي ما استثنيت منه و هو على الأقل ثلاث آيات (قوله:إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً - إلى قوله -مَنُوعاً ).

على أنّ قوله:( فَما لِلَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ) متفرّع على ما قبله تفرّعاً ظاهراً و هو ما بعده إلى آخر السورة ذو سياق واحد فتكون هذه الآيات أيضاً مدنيّة.

و من جهة اُخرى مضامين هذا الفصل من الآيات تناسب حال المنافقين الحافّين حول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن اليمين و عن الشمال عزين و هم الرادّون لبعض ما أنزل الله من الحكم و خاصّة قوله:( أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ ) إلخ، و قوله:( عَلى‏ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ ) إلخ على ما سيجي‏ء، و موطن ظهور هذا النفاق المدينة لا مكّة، و لا ضير في التعبير عن هؤلاء بالّذين كفروا فنظير ذلك موجود في سورة التوبة و غيرها.

على أنّهم رووا أنّ السورة نزلت في قول القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) الأنفال: 32 و قد تقدّم في تفسير الآية أنّ سياقها و الّتي بعدها سياق مدنيّ لا مكّي. لكنّ المرويّ عن الصادقعليه‌السلام أنّ المراد بالحقّ المعلوم في الآية حق يسمّيه صاحب المال في ماله غير الزكاة المفروضة.

و لا عبرة بما نسب إلى اتّفاق المفسّرين أنّ السورة مكّيّة على أنّ الخلاف ظاهر و كذا ما نسب إلى ابن عبّاس أنّها نزلت بعد سورة الحاقّة.

قوله تعالى: ( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) السؤال بمعنى الطلب و الدعاء، و لذا عدّي بالباء كما في قوله:( يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ ) الدخان: 55 و قيل: الفعل مضمّن معنى الاهتمام و الاعتناء و لذا عدّي بالباء، و قيل: الباء زائدة للتأكيد،

٧٣

و مآل الوجوه واحد و هو طلب العذاب من الله كفراً و عتوّاً.

و قيل: الباء بمعنى عن كما في قوله:( فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ) الفرقان: 59، و فيه أنّ كونها في الآية المستشهد بها بمعنى عن ممنوع. على أنّ سياق الآيات التالية و خاصّة قوله:( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا ) لا يلائم كون السؤال بمعنى الاستفسار و الاستخبار.

فالآية تحكي سؤال العذاب و طلبه عن بعض من كفر طغياناً و كفراً، و قد وصف العذاب المسؤل من الأوصاف بما يدلّ على إجابة الدعاء بنوع من التهكّم و التحقير و هو قوله:( واقِعٍ ) و قوله:( لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) .

و المعنى سأل سائل من الكفّار عذاباً للكافرين من الله سيصيبهم و يقع عليهم لا محالة و لا دافع له أي إنّه واقع عليهم سأل أو لم يسأل ففيه جواب تحقيريّ و إجابة لمسؤله تهكّماً.

قوله تعالى: ( لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) للكافرين متعلّق بعذاب و صفة له، و كذا قوله:( لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) و قد مرّت الإشارة إلى معنى الآية.

قوله تعالى: ( مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ ) الجارّ و المجرور متعلّق بقوله:( دافِعٌ ) أي ليس له دافع من جانب الله و من المعلوم أنّه لو اندفع لم يندفع إلّا من جانب الله سبحانه، و من المحتمل أن يتعلّق بقوله:( بِعَذابٍ ) .

و المعارج جمع معرج و فسّروه بالمصاعد و هي الدرجات و هي مقامات الملكوت الّتي يعرج إليها الملائكة عند رجوعهم إلى الله سبحانه على ما يفسّره قوله بعد:( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ ) إلخ فله سبحانه معارج الملكوت و مقاماتها المترتّبة علوّاً و شرفاً الّتي تعرج فيها الملائكة و الروح بحسب قربهم من الله و ليست بمقامات وهميّة اعتباريّة.

و قيل: المراد بالمعارج الدرجات الّتي يصعد فيها الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح قال تعالى:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) الفاطر 10، و قال:( وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى‏ مِنْكُمْ ) الحجّ: 37.

و قيل: المراد به مقامات القرب الّتي يعرج إليها المؤمنون بالإيمان و العمل

٧٤

الصالح قال تعالى:( هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَ اللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ ) آل عمران: 163 و قال:( لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ ) الأنفال: 4 و قال:( رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ ) المؤمن: 15.

و الحقّ أنّ مآل الوجهين إلى الوجه الأوّل، و الدرجات المذكورة حقيقيّة ليست بالوهميّة الاعتباريّة.

قوله تعالى: ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) المراد بهذا اليوم يوم القيامة على ما يفيده سياق الآيات التالية.

و المراد بكون مقدار هذا اليوم خمسين ألف سنة على ما ذكروا أنّه بحيث لو وقع في الدنيا و انطبق على الزمان الجاري فيها كان مقداره من الزمان خمسين ألف سنة من سني الدنيا.

و المراد بعروج الملائكة و الروح إليه يومئذ رجوعهم إليه تعالى عند رجوع الكلّ إليه فإنّ يوم القيامة يوم بروز سقوط الوسائط و تقطّع الأسباب و ارتفاع الروابط بينها و بين مسبّباتها و الملائكة وسائط موكّلة على اُمور العالم و حوادث الكون فإذا تقطّعت الأسباب عن مسبّباتها و زيّل الله بينهم و رجع الكلّ إلى الله عزّ اسمه رجعوا إليه و عرجوا معارجهم فحفّوا من حول عرش ربّهم و صفّوا قال تعالى:( وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) الزمر 75، و قال:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا ) النبأ: 38.

و الظاهر أنّ المراد بالروح الروح الّذي هو من أمره تعالى كما قال:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) إسراء: 85 و هو غير الملائكة كما هو ظاهر قوله تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) النحل: 2.

فلا يعبأ بما قيل: إنّ المراد بالروح جبرئيل و إن اُطلق عليه الروح الأمين و روح القدس في قوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) الشعراء: 194 و قوله:( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ ) النحل: 103 فإنّ المقيّد غير المطلق.

قوله تعالى: ( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا ) لمّا كان سؤال السائل للعذاب عن تعنّت

٧٥

و استكبار و هو ممّا يشقّ تحمّله أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر و وصفه بالجميل - و الجميل من الصبر ما ليس فيه شائبة الجزع و الشكوى - و علّله بأنّ اليوم بما فيه من العذاب قريب.

قوله تعالى: ( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً ) ضميراً( يَرَوْنَهُ ) و( نَراهُ ) للعذاب أو ليوم القيامة بما فيه من العذاب الواقع و يؤيّد الأوّل قوله فيما بعد:( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) إلخ.

و المراد بالرؤية الاعتقاد بنوع من العناية المجازيّة و رؤيتهم ذلك بعيداً ظنّهم أنّه بعيد من الإمكان فإنّ سؤال العذاب من الله سبحانه استكباراً عن دينه و ردّاً لحكمه لا يجامع الإيمان بالمعاد و إن تفوّه به السائل، و رؤيته تعالى ذلك قريباً علمه بتحقّقه و كلّ ما هو آت قريب.

و في الآيتين تعليل أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر الجميل فإنّ تحمّل الأذى و الصبر على المكاره يهون على الإنسان إذا استيقن أنّ الفرج قريب و تذكّر ذلك فالكلام في معنى قولنا فاصبر على تعنّتهم و استكبارهم في سؤالهم العذاب صبراً جميلاً لا يشوبه جزع و شكوى فإنّا نعلم أنّ العذاب قريب على خلاف ما يستبعدونه، و علمنا لا يتخلّف عن الواقع بل هو نفس الواقع.

قوله تعالى: ( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) المهل المذاب من المعدنيّات كالنحاس و الذهب و غيرهما، و قيل: درديّ الزيت، و قيل: عكر القطران(1) .

و الظرف متعلّق بقوله:( واقِعٍ ) على ما يفيده السياق.

قوله تعالى: ( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ ) العهن مطلق الصوف، و لعلّ المراد المنفوش منه كما في قوله تعالى:( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) القارعة: 5.

و قيل: هو الصوف الأحمر، و قيل: المصبوغ ألواناً لأنّ الجبال ذات ألوان مختلفة فمنها جدد بيض و حمر و غرابيب سود(2) .

____________________

(1) أي ردية و خبيثه‏.

(2) كما في الآية من سورة فاطر.

٧٦

قوله تعالى: ( وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) الحميم القريب الّذي تهتمّ بأمره و تشفق عليه.

إشارة إلى شدّة اليوم فالإنسان يومئذ تشغله نفسه عن غيره حتّى أنّ الحميم لا يسأل حميمه عن حاله لاشتغاله بنفسه.

قوله تعالى: ( يُبَصَّرُونَهُمْ ) الضميران للأحماء المعلوم من السياق و التبصير الإراءة و الإيضاح أي يُرى و يوضح الأحماء للأحماء فلا يسألونهم عن حالهم اشتغالاً بأنفسهم.

و الجملة مستأنفة في معنى الجواب عن سؤال مقدّر كأنّه لمّا قيل: لا يسأل حميم حميماً سئل فقيل: هل يرى الأحماء يومئذ أحماءهم؟ فاُجيب: يبصّرونهم و يمكن أن يكون( يُبَصَّرُونَهُمْ ) صفة( حَمِيماً ) .

و من ردي‏ءً التفسير قول بعضهم: إنّ معنى قوله:( يُبَصَّرُونَهُمْ ) يبصّر الملائكة الكفّار، و ما قيل: إنّ المعنى يبصّر المؤمنون أعداءهم من الكفّار و ما هم فيه من العذاب فيشمتون بهم، و ما قيل: إنّ المعنى يبصّر أتباع الضلالة رؤساءهم. و هي جميعاً وجوه لا دليل عليها.

قوله تعالى: ( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَ صاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ ) قال في المجمع: المودّة مشتركة بين التمنّي و بين المحبّة يقال: وددت الشي‏ء أي تمنّيته و وددته أي أحببته أودّ فيهما جميعاً. انتهى، و يمكن أن يكون استعماله بمعنى التمنّي من باب التضمين.

و قال: و الافتداء الضرر عن الشي‏ء ببدل منه انتهى، و قال: الفصيلة الجماعة المنقطعة عن جملة القبيلة برجوعها إلى اُبوّة خاصّة عن اُبوّة عامّة. انتهى، و ذكر بعضهم أنّ الفصيلة عشيرته الأقربين الّذين فصل عنهم كالآباء الأدنين.

و سياق هذه الآيات سياق الإضراب و الترقّي بالنسبة إلى قوله:( وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) فيفيد أنّ المجرم يبلغ به شدّة العذاب إلى أن يتمنّى أن يفتدي من العذاب بأحبّ أقاربه و أكرمهم عليه بنيه و صاحبته و أخيه و فصيلته و جميع من في الأرض ثمّ ينجيه الافتداء فيودّ ذلك فضلاً عن عدم سؤاله عن حال حميمه.

٧٧

و المعنى( يَوَدُّ ) و يتمنّى( الْمُجْرِمُ ) و هو المتلبّس بالأجرام أعمّ من الكافر( لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ ) و هذا هو الّذي يتمنّاه، و الجملة قائمة مقام مفعول يودّ.( بِبَنِيهِ ) الّذين هم أحبّ الناس عنده( وَ صاحِبَتِهِ ) الّتي كانت سكنا له و كان يحبّها و ربّما قدّمها على أبويه( وَ أَخِيهِ ) الّذي كان شقيقه و ناصره( وَ فَصِيلَتِهِ ) من عشيرته الأقربين( الَّتِي تُؤْوِيهِ ) و تضمّه إليها( وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) من اُولي العقل( ثُمَّ يُنْجِيهِ ) هذا الافتداء.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّها لَظى‏ نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى) كلّا للردع، و ضمير( إِنَّها ) لجهنّم أو للنار و سمّيت لظى لكونها تتلظّى و تشتعل، و النزّاعة اسم مبالغة من النزع بمعنى الاقتلاع، و الشوى الأطراف كاليد و الرجل يقال: رماه فأشواه أي أصاب شواه كذا قال الراغب، و إيعاء المال إمساكه في وعاء.

فقوله:( كَلَّا ) ردع لتمنّيه النجاة من العذاب بالافتداء و قد علّل الردع بقوله:( إِنَّها لَظى) إلخ و محصّله أنّ جهنّم نار مشتعلة محرقة للأطراف شأنها أنّها تطلب المجرمين لتعذّبهم فلا تصرف عنهم بافتداء كائناً ما كان.

فقوله:( إِنَّها لَظى‏ ) أي نار صفتها الاشتعال لا تنعزل عن شأنها و لا تخمد، و قوله:( نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ ) أي صفتها إحراق الأطراف و اقتلاعها لا يبطل ما لها من الأثر فيمن تعذّبه.

و قوله:( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى‏ ) أي تطلب من أدبر عن الدعوة الإلهيّة إلى الإيمان بالله و أعرض عن عبادته تعالى و جمع المال فأمسكه في وعائه و لم ينفق منه للسائل و المحروم.

و هذا المعنى هو المناسب لسياق الاستثناء الآتي و ذكر الصلاة و الإنفاق فيه.

٧٨

( بحث روائي‏)

في المجمع، حدّثنا السيّد أبوالحمد قال: حدّثنا الحاكم أبوالقاسم الحسكاني و ساق السند عن جعفر بن محمّد الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: لما نصب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا و قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، طار ذلك في البلاد فقدم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النعمان بن الحارث الفهريّ.

فقال: أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله و أنّك رسول الله و أمرتنا بالجهاد و الحجّ و الصوم و الصلاة و الزكاة فقبلناها ثمّ لم ترض حتّى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعليّ مولاه، فهذا شي‏ء منك أو أمر من عند الله؟ فقال: و الله الّذي لا إله إلّا هو إنّ هذا من الله.

فولى النعمان بن الحارث و هو يقول: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله و أنزل الله تعالى:( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) .

أقول: و هذا المعنى مروي بغير طريق من طرق الشيعة، و قد ردّ الحديث بعضهم بأنّه موضوع لكون سورة المعارج مكّيّة، و قد عرفت الكلام في مكّيّة السورة.

و في الدرّ المنثور، أخرج الفاريابيّ و عبد بن حميد و النسائيّ و ابن أبي حاتم و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه عن ابن عبّاس في قوله:( سَأَلَ سائِلٌ ) قال هو النضر بن الحارث قال: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدّيّ: في قوله:( سَأَلَ سائِلٌ ) قال. نزلت بمكّة في النضر بن الحارث و قد قال:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية و كان عذابه يوم بدر.

أقول: و هذا المعنى مرويّ أيضاً عن غير السدّيّ، و في بعض رواياتهم أنّ

٧٩

القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية هو الحارث بن علقمة رجل من عبد الدار، و في بعضها أنّ سائل العذاب هو أبوجهل بن هشام سأله يوم بدر و لازمه مدنيّة السورة و المعتمد على أيّ حال نزول السورة بعد قول القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية و قد تقدّم كلام في سياق الآية.

و في أمالي الشيخ، بإسناده إلى أبي عبداللهعليه‌السلام في حديث: ألا فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا فإنّ في القيامة خمسين موقفاً كلّ موقف مثل ألف سنة ممّا تعدّون ثمّ تلا هذه الآية( فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) .

أقول: و روي هذا المعنى في روضة الكافي، عن حفص بن غياث عنهعليه‌السلام .

و في المجمع، روى أبوسعيد الخدريّ قال: قيل لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أطول هذا اليوم فقال: و الّذي نفس محمّد بيده إنّه ليخفّ على المؤمن حتّى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدنيا.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن عدّة من الجوامع عن أبي سعيد عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) قال: الرصاص الذائب و النحاس كذلك تذوب السماء.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( يُبَصَّرُونَهُمْ ) يقول: يعرّفونهم ثمّ لا يتساءلون.

و فيه في قوله تعالى:( نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ ) قال: تنزع عينه و تسودّ وجهه.

و فيه في قوله تعالى:( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى ) قال: تجرّه إليها.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

من الوجه هو الظاهر السابق إلى الذهن.

قوله تعالى: ( إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلًا إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا ) الآية الاُولى في مقام التعليل لاختيار الليل وقتاً لهذه الصلاة، و الآية الثانية في مقام التعليل لترك النهار و الإعراض عنه كما أنّ الآية السابقة أعني قوله:( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ) في مقام التعليل لتشريع أصل هذه الصلاة.

فقوله:( إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلًا ) الناشئة إمّا مصدر كالعاقبة و العافية بمعنى النشأة و هي الحدوث و التكوّن، و إمّا اسم فاعل من النشأة مضاف إلى موصوفه و كيف كان فالمراد بها الليل و إطلاق الحادثة على الليل كإطلاقها على سائر أجزاء الخلقة و ربّما قيل: إنها الصلاة في الليل و وطؤ الأرض وضع القدم عليها، و كونها أشدّ وطأ كناية عن كونها أثبت قدماً لصفاء النفس و عدم تكدّرها بالشواغل النهارية و قيل: الوطء مواطاة القلب اللسان و اُيّد بقراءة( أَشَدُّ وَطْئاً ) و المراد بكونها أقوم قيلاً كونها أثبت قولاً و أصوب لحضور القلب و هدوّ الأصوات.

و المعنى إنّ حادثة الليل أو الصلاة في الليل هي أثبت قدماً - أو أشدّ في مواطاة القلب اللسان و أثبت قولاً و أصوب لما أنّ الله جعل الليل سكنا يستتبع انقطاع الإنسان عن شواغل المعيشة إلى نفسه و فراغ باله.

و قوله:( إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا ) السبح المشي السريع في الماء و السبح الطويل في النهار كناية عن الغور في مهمّات المعاش و أنواع التقلّب في قضاء حوائج الحياة.

و المعنى إنّ لك في النهار مشاغل كثيرة تشتغل بها مستوعبة لا تدع لك فراغاً تشتغل فيه بالتوجّه التامّ إلى ربّك و الانقطاع إليه بذكره فعليك بالليل و الصلاة فيه.

و قيل: المعنى إنّ لك في النهار فراغاً لنومك و تدبير أمر معاشك و التصرّف في حوائجك فتهجّد في الليل.

و قيل: المعنى إنّ لك في النهار فراغاً فإن فاتك من الليل شي‏ء أمكنك أن تتداركه في النهار و تقضيه فيه فالآية في معنى قوله:( وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ

١٤١

خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً ) الفرقان: ٦٢.

و الّذي قدّمناه من المعنى أنسب للمقام.

قوله تعالى: ( وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ) الظاهر أنّه يصف صلاة الليل فهو كالعطف التفسيريّ على قوله:( وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ) و على هذا فالمراد بذكر اسم الربّ تعالى الذكر اللفظي بمواطاة من القلب و كذا المراد بالتبتّل التبتّل مع اللّفظ.

و قيل: الآية تعميم بعد التخصيص و المراد بالذكر دوام ذكره تعالى ليلاً و نهاراً على أيّ وجه كان من تسبيح و تحميد و صلاة و قراءة قرآن و غير ذلك، و إنّما فسّر الذكر بالدوام لأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينسه تعالى حتّى يؤمر بذكره، و المراد الدوام العرفيّ دون الحقيقيّ لعدم إمكانه. انتهى.

و فيه أنّه إن أراد بالذكر الذكر اللفظيّ فعدم نسيانهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّه تعالى لا ينافي أمره بالذكر اللفظي، و إن أراد ما يعمّ الذكر القلبيّ فهو ممنوع و لو سلّم ففيه أوّلاً أنّ عدم نسيانهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّه إلى حين الخطاب لا ينافي أمره بذكره بعده و ثانياً أنّ عدّه الدوام الحقيقيّ غير ممكن و حمل الدوام على العرفيّ وهم ناش عن عدم تحصيل المعنى على ما هو عليه فالله جلّ ذكره مذكور للإنسان لا يغيب عنه و لا لحظة سواء تنبّه عليه الإنسان أو غفل عنه. و من الممكن أن يعرّفه الله نفسه بحيث لا يغفل عنه و لا في حال قال تعالى:( فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ هُمْ لا يَسْأَمُونَ ) حم السجدة: ٣٨ و قال:( يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ ) الأنبياء: ٢٠ و قد تقدّم في تفسير الآيتين و آخر سورة الأعراف أنّ ذلك لا يختصّ بالملائكة.

و بالجملة قوله:( وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ ) أمر بذكر اسم من أسمائه أو لفظ الجلالة خاصّة و قيل: المراد به البسملة.

و في قوله:( رَبِّكَ ) التفات عن التكلّم مع الغير في قوله:( إِنَّا سَنُلْقِي ) إلى الغيبة و لعلّ الوجه فيه إيقاظ ذلّة العبوديّة الّتي هي الرابطة بين العبد و ربّه،

١٤٢

بذكر صفة الربوبيّة.

و قوله:( وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ) فسّر التبتّل بالانقطاع أي و انقطع إلى الله، و من المرويّ عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ التبتّل رفع اليد إلى الله و التضرّع إليه، و هذا المعنى أنسب بناء على حمل الذكر على الذكر اللفظيّ كما تقدّم.

و( تَبْتِيلًا ) مفعول مطلق ظاهراً و كان مقتضى الظاهر أن يقال: و تبتّل إليه تبتّلاً فالعدول إلى التبتيل قيل: لتضمين تبتّل معنى بتّل، و المعنى و قطّع نفسك من غيره إليه تقطيعاً أو احمل نفسك على رفع اليد إليه و التضرّع حملاً، و قيل: لمراعاة الفواصل.

قوله تعالى: ( رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ) وصف مقطوع عن الوصفيّة و التقدير هو ربّ المشرق و المغرب، و ربّ المشرق و المغرب في معنى ربّ العالم كلّه فإنّ المشرق و المغرب جهتان نسبيّتان تشملان جهات العالم المشهود كلّها، و إنّما اختصّاً بالذكر لمناسبة ما تقدّم من ذكر الليل و النهار المرتبطين بالشروق و الغروب.

و إنّما لم يقتصر في الإشارة إلى ربوبيّته تعالى بقوله السابق:( رَبِّكَ ) للإيذان بأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مأمور باتّخاذه ربّاً لأنّه ربّه و ربّ العالم كلّه لا لأنّه ربّه وحده كما ربّما كان الرجل من الوثنيّين يتّخذ صنماً لنفسه فحسب غير ما اتّخذه غيره من الأصنام و لو كان اتّخاذهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له تعالى ربّاً من هذا القبيل أو احتمل ذلك لم تصحّ دعوته إلى التوحيد.

و ليكون قوله:( رَبِّكَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ ) - و هو في معنى ربّ العالم كلّه - توطئة و تمهيداً لقوله بعده:( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) يعلّل به توحيد الاُلوهيّة فإنّ الاُلوهيّة و هي المعبوديّة من فروع الربوبيّة الّتي هي الملك و التدبير كما تقدّم مراراً فهو تعالى الإله وحده لا إله إلّا هو لأنّه الربّ وحده لا ربّ إلّا هو.

و قوله:( فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ) أي في جميع اُمورك، و توكيل الوكيل هو إقامة الإنسان غيره مقام نفسه بحيث تقوم إرادته مقام إرادته و عمله مقام عمله فاتّخاذه تعالى

١٤٣

وكيلاً أن يرى الإنسان الأمر كلّه له و إليه تعالى أمّا في الاُمور الخارجيّة و الحوادث الكونيّة فأن لا يرى لنفسه و لا لشي‏ء من الأسباب الظاهريّة استقلالاً في التأثير فلا مؤثّر في الوجود بحقيقة معنى التأثير إلّا الله فلا يتعلّق بتأثير سبب من الأسباب برضىّ أو سخط أو سرور أو أسف و غير ذلك بل يتوسّل إلى مقاصده و مآربه بما عرّفه الله من الأسباب من غير أن يطمئنّ إلى استقلالها في التأثير و يرجع الظفر بالمطلوب إلى الله ليختار له ما يرتضيه.

و أمّا الاُمور الّتي لها تعلّق بالعمل من العبادات و المعاملات فأن يجعل إرادته تابعة لإرادة ربّه التشريعيّة فيعمل على حسب ما يريده الله تعالى منه فيما شرّع من الشريعة.

و من هنا يظهر أنّ لقوله:( فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ) ارتباطاً بقوله:( وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ ) إلخ و ما تقدّم عليه من الأوامر التشريعيّة كما أنّ له ارتباطاً بما تأخّر عنه من قوله( وَ اصْبِرْ ) و قوله( اهْجُرْهُمْ ) و قوله:( وَ ذَرْنِي ) .

قوله تعالى: ( وَ اصْبِرْ عَلى‏ ما يَقُولُونَ وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا ) معطوف هو و ما بعده على مدخول الفاء في قوله:( فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًاًا ) فالمعنى اتّخذه وكيلاً و لازم اتّخاذه وكيلاً أن تصبر على ما يقولون ممّا فيه إيذاؤك و الاستهزاء بك و رميك بما ليس فيك كقولهم: افترى على الله، كاهن شاعر، مجنون، أساطير الأوّلين و غير ذلك ممّا يقصّه القرآن.

و أن تهجرهم هجراً جميلاً، و المراد بالهجر الجميل على ما يعطيه السياق أن يعاملهم بحسن الخلق و الدعوة إلى الحقّ بالمناصحة، و لا يواجه قولهم بما في وسعه من المقابلة بالمثل، و الآية لا تدافع آية القتال فلا وجه لقول من قال: إنّها منسوخة بآية القتال.

قوله تعالى: ( وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلًا ) تهديد للكفّار يقال: دعني و فلاناً و ذرني و فلاناً أي لا تحل بيني و بينه حتّى أنتقم منه.

و المراد بالمكذّبين اُولي النعمة الكفّار المذكورون في الآية السابقة أو رؤساؤهم

١٤٤

المتبوعون، و الجمع بين توصيفهم بالمكذّبين و توصيفهم باُولي النعمة للإشارة إلى علّة ما يهدّدهم به من العذاب فإنّ تكذيبهم بالدعوة الإلهيّة و هم متنعّمون بنعمة ربّهم كفران منهم بالنعمة و جزاء الكفران سلب النعمة و تبديلها من النقمة.

و المراد بالقليل الّذي يمهّلونه الزمان القليل الّذي يمكثون في الأرض حتّى يرجعوا إلى ربّهم فيحاسبهم و يجازيهم قال تعالى:( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً ) المعارج: ٧، و قال:( مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ ) آل عمران: ١٩٧.

و الآية بظاهرها عامّة، و قيل: وعيد لهم بوقعة بدر و ليس بظاهر، و في الآية التفات عن الغيبة في( رَبِّكَ ) إلى التكلّم وحده في( ذَرْنِي ) و لعلّ الوجه فيه تشديد التهديد بنسبة الأمر إليه سبحانه نفسه ثمّ التفت في قوله:( إِنَّ لَدَيْنا ) إلى التكلّم مع الغير للدلالة على العظمة.

قوله تعالى: ( إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَ جَحِيماً ) تعليل لقوله:( ذَرْنِي ) إلخ و الأنكال القيود، قال الراغب يقال: نكل عن الشي‏ء ضعف و عجز، و نكلته قيّدته و النكل - بالكسر فالسكون - قيد الدابّة و حديدة اللجام لكونهما مانعين، و الجمع الأنكال انتهى، و قال: الجحمة شدّة تأجّج النار و منه الجحيم، انتهى.

قوله تعالى: ( وَ طَعاماً ذا غُصَّةٍ وَ عَذاباً أَلِيماً ) قال في المجمع: الغصّة تردّد اللقمة في الحلق و لا يسيغها آكلها يقال: غصّ بريقه يغصّ غصصاً، و في قلبه غصّة من كذا و هي كاللدغة الّتي لا يسوغ معها الطعام و الشراب، انتهى.

و الآيتان تذكران نقم الآخرة الّتي بدّلت منها نعم الدنيا جزاء لكفرانهم بنعم الله.

قوله تعالى: ( يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا ) ظرف للعذاب الموعود في الآيتين السابقتين، قال الراغب: الرجف الاضطراب الشديد يقال: رجفت الأرض و البحر انتهى. و في المجمع: الكثيب الرمل المجتمع الكثير، و هلت أهيله هيلاً فهو مهيل إذا حرّك أسفله فسال أعلاه انتهى، و المعنى ظاهر.

١٤٥

قوله تعالى: ( إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى‏ فِرْعَوْنَ رَسُولًا ) إنذار للمكذّبين اُولي النعمة من قومهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ما أوعد مطلق المكذّبين اُولي النعمة بما أعدّ لهم من العذاب يوم القيامة بقياس حالهم إلى حال فرعون المستكبر على الله و رسوله المستذلّ لرسول الله و من آمن معه من قومه ثمّ قرع أسماعهم بما انتهى إليه أمر فرعون من أخذ الله له أخذاً وبيلاً فليتّعظوا و ليأخذوا حذرهم.

و في الآية التفات عن الغيبة إلى الخطاب كأنّ المتكلّم لما أوعدهم بالعذاب على الغيبة هاج به الوجد على اُولئك المكذّبين بما يلقون أنفسهم بأيديهم إلى الهلاك الأبديّ لسفاهة رأيهم فشافههم بالإنذار ليرتفع عن أنفسهم أيّ شكّ و ترديد و تتمّ عليهم الحجّة و لعلّهم يتّقون، و لذا عقّب قياسهم إلى فرعون و قياس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى موسىعليه‌السلام و الإشارة إلى عقابه أمر فرعون بقوله( فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً ) إلخ.

فقوله:( إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ) إشارة إلى تصديق رسالة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبله تعالى و شهادته على أعمالهم بتحمّلها في الدنيا و تأديتها يوم القيامة، و قد تقدّم البحث عن معنى شهادة الأعمال في الآيات المشتملة عليها مراراً، و في الإشارة إلى شهادتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نوع زجر لهم عن عصيانه و مخالفته و تكذيبه.

و قوله:( كَما أَرْسَلْنا إِلى‏ فِرْعَوْنَ رَسُولًا ) هو موسى بن عمرانعليه‌السلام .

قوله تعالى: ( فَعَصى‏ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا ) أي شديداً ثقيلاً. إشارة إلى عاقبة أمر فرعون في عصيانه موسىعليه‌السلام ، و في التعبير عن موسى بالرسول إشارة إلى أنّ السبب الموجب لأخذ فرعون مخالفته أمر رسالته لا نفس موسى بما أنّه موسى، و إذا كان السبب هو مخالفة الرسالة فليحذروا مخالفة رسالة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

كما أنّ وضع الظاهر موضع الضمير في قوله:( فَعَصى‏ فِرْعَوْنُ ) للإيماء إلى أنّ ما كان له من العزّة و العلوّ في الأرض و التبجّح بكثرة العدّة و سعة المملكة و نفوذ المشيّة لم يغن عنه شيئاً و لم يدفع عنه عذاب الله فما الظنّ بهؤلاء المكذّبين؟ و هم كما قال الله:( جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ ) ص: ١١.

١٤٦

قوله تعالى: ( فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً ) نسبة الاتّقاء إلى اليوم من المجاز العقليّ و المراد اتّقاء العذاب الموعود فيه، و عليه فيوماً مفعول به لتتّقون، و قيل: مفعول( تَتَّقُونَ ) محذوف و( يَوْماً ) ظرف له و التقدير فكيف تتّقون العذاب الكائن في يوم، و قيل: المفعول محذوف و( يَوْماً ) ظرف للاتّقاء و قيل غير ذلك.

و قوله:( يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً ) الشيب جمع أشيب مقابل الشابّ، و جعل الولدان شيباً كناية عن شدّة اليوم لا عن طوله.

قوله تعالى: ( السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا ) إشارة بعد إشارة إلى شدّة اليوم، و الانفطار الانشقاق و تذكير الصفة لكون السماء جائز الوجهين يذكّر و يؤنّث، و ضمير( بِهِ ) لليوم، و الباء بمعنى في أو للسببيّة، و المعنى السماء منشقّة في ذلك اليوم أو بسبب ذلك اليوم أي بسبب شدّته.

و قوله:( كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا ) استئناف لتسجيل ما تقدّم من الوعيد و أنّه حتم مقضيّ و نسبة الوعد إلى ضميره تعالى لعلّه للإشعار بأن لا يصلح لهذا الوعد إلّا الله تعالى فيكفي فيه الضمير من غير حاجة إلى ذكره باسمه.

قوله تعالى: ( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا ) الإشارة بهذه إلى الآيات السابقة بما تشتمل عليه من القوارع و الزواجر، و التذكرة الموعظة الّتي يذكر بها ما يعمل عليه.

و قوله:( فَمَنْ شاءَ ) مفعول( شاءَ ) محذوف و المعروف في مثل هذا المورد أن يقدّر المفعول من جنس الجواب و السياق يلائمه، و التقدير فمن شاء أن يتّخذ إلى ربّه سبيلاً اتّخذ إلخ، و قيل: المقدّر الاتّعاظ، و المراد باتّخاذ السبيل إليه اتّخاذ السبيل إلى التقرّب منه، و السبيل هو الإيمان و الطاعة هذا ما ذكره المفسّرون.

و من الممكن أن تكون هذه إشارة إلى ما تقدّم في صدر السورة من الآيات النادبة إلى قيام الليل و التهجّد فيه، و الآية مسوقة لتوسعة الخطاب و تعميمه لغير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المؤمنين بعد ما كان خطاب صدر الصورة مختصّاً بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

١٤٧

و الدليل على هذا التعميم قوله:( فَمَنْ شاءَ ) إلخ.

و يؤيّد ما ذكرنا وقوع هذه الآية( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ ) إلخ بعينها في سورة الدهر بعد ما اُشير إلى صلاة الليل بقوله تعالى:( وَ سَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ) و يستنتج من ذلك أنّ صلاة الليل سبيل خاصّة تهدي العبد إلى ربّه.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج البزّار و الطبرانيّ في الأوسط و أبونعيم في الدلائل عن جابر قال: اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا: سمّوا هذا الرجل اسماً يصدر الناس عنه فقالوا: كاهن. قالوا ليس بكاهن. قالوا: مجنون. قالوا: ليس بمجنون. قالوا ساحر. قالوا: ليس بساحر. قالوا: يفرّق بين الحبيب و حبيبه فتفرّق المشركون على ذلك.

فبلغ ذلك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتزمّل في ثيابه و تدثّر فيها فأتاه جبريل فقال: يا أيّها المزّمّل يا أيّها المدّثّر.

أقول: آخر الرواية لا يخلو من شي‏ء حيث إنّ ظاهرها نزول السورتين معاً. على أنّ القرآن حتّى في سورة المدّثّر يحكي تسميتهم لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بألقاب السوء كالكاهن و الساحر و المجنون و الشاعر و لم يذكر فيها قولهم: يفرّق بين الحبيب و حبيبه.

و فيه، أخرج عبدالله بن أحمد في كتاب الزهد و محمّد بن نصر في كتاب الصلاة عن عائشة قالت: كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قلّما ينام من الليل لما قال الله له:( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ) .

و في الكشّاف، عن عائشة: أنّها سألت: ما كان تزميله؟ قالت: كان مرطاً طوله أربع عشرة ذراعاً نصفه عليّ و أنا نائمة و نصفه عليه و هو يصلّي. فسئلت: ما كان؟ قالت: و الله ما كان خزّاً و لا قزّاً و لا مرعزّيّاً و لا إبريسماً و لا صوفاً. كان سداه شعراً و لحمته وبراً.

أقول: الرواية مرمية بالوضع فإنّ السورة من العتائق النازلة بمكّة، و عائشة إنّما بنى عليها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة بعد الهجرة.

١٤٨

و عن جوامع الجامع، روي: أنّه قد دخل على خديجة و قد جئث فرقاً(١) فقال: زمّلوني فبينا هو على ذلك إذ ناداه جبريل:( يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ) .

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لمّا نزلت( يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ) مكث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على هذه الحال عشر سنين يقوم اللّيل كما أمره الله و كانت طائفة من أصحابه يقومون معه فأنزل الله بعد عشر سنين( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ - إلى قوله -وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) فخفّف الله عنهم بعد عشر سنين.

أقول: و روي نزول آية التخفيف بعد سنة و روي أيضاً نزولها بعد ثمانية أشهر، و لم يكن قيام الليل واجباً على غير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما اُشير إليه بقوله تعالى:( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ ) الآية كما تقدّم، و يؤيّده ما في الرواية من قوله:( و طائفة من أصحابه) .

و في التهذيب، بإسناده عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله تعالى:( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ) قال: أمره الله أن يصلّي كلّ ليلة إلّا أن تأتي عليه ليلة من اللّيالي لا يصلّي فيها شيئاً.

أقول: الرواية تشير إلى أحد الوجوه في الآية.

و في المجمع: و قيل: إنّ نصفه بدل من القليل فيكون بياناً للمستثنى، و يؤيّد هذا القول‏ ما روي عن الصادقعليه‌السلام قال: القليل النصف أو انقص من القليل قليلاً أو زد على القليل قليلاً.

و في الدرّ المنثور، أخرج العسكريّ في المواعظ عن عليّعليه‌السلام أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن قول الله:( وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ) قال: بيّنه تبييناً، و لا تنثره نثر الدقل، و لا تهذّه هذّ الشعر، قفوا عند عجائبه، و حرّكوا به القلوب، و لا يكن همّ أحدكم آخر السورة.

أقول: و روي هذا المعنى في اُصول الكافي، بإسناده عن عبدالله بن سليمان عن الصادق

____________________

(١) جئث الرجل ثقل عند القيام أو عند حمل شي‏ء ثقيل و الفرق: الفزع و الخوف.

١٤٩

عن عليّعليه‌السلام و لفظ بيّنه تبييناً و لا تهذّه هذّ الشعر، و لا تنثره نثر الرمل، و لكن أفرغوا(١) قلوبكم القاسية و لا يكن هم أحدكم آخر السورة.

و فيه، أخرج ابن أبي شيبة عن طاووس قال: سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيّ الناس أحسن قراءة قال الّذي إذا سمعته يقرأ رأيت أنّه يخشى الله.

و في اُصول الكافي، بإسناده عن عليّ بن أبي حمزة قال قال أبوعبداللهعليه‌السلام : إنّ القرآن لا يقرأ هذرمة(٢) و لكن يرتّل ترتيلاً فإذا مررت بآية فيها ذكر الجنّة فقف عندها و اسأل الله عزّوجلّ الجنّة، و إذا مررت بآية فيها ذكر النار فقف عندها و تعوّذ بالله من النار.

و في المجمع، في معنى الترتيل عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: هو أن تتمكّث فيه و تحسن به صوتك.

و فيه، روي عن اُمّ سلمة أنّها قالت: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقطع قراءته آية آية.

و فيه، عن أنس قال: كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمدّ صوته مدّاً.

و فيه، سأل الحارث بن هشام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس و هو أشدّ علي فيفصم(٣) عنّي و قد وعيت ما قال و أحياناً يتمثّل الملك رجلاً فأعي ما يقول.

قالت عائشة: إنّه كان ليوحي إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو على راحلته فتضرب بجرانها.

قالت: و لقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه و إنّ جبينه ليرفضّ عرقاً.

و عن تفسير العيّاشيّ، بإسناده عن عيسى بن عبيد عن أبيه عن جدّه عن عليّعليه‌السلام قال: كان القرآن ينسخ بعضه بعضاً، و إنّما يؤخذ من أمر رسول الله

____________________

(١) أفرغ الإناء: أخلاه.

(٢) الهذرمة: الإسراع في القراءة.

(٣) الفصم: القطع.

١٥٠

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بآخره.

و كان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة نسخت ما قبلها و لم ينسخها شي‏ء لقد نزلت عليه و هو على بغلة شهباء و ثقل عليها الوحي حتّى وقفت و تدلّى بطنها حتّى رأيت سرّتها تكاد تمسّ الأرض.

أقول: إن صحّت الرواية كان ظهور أثر ثقل الوحي على الناقة أو البغلة من قبيل تجسّم المعاني و كثيراً ما يوجد مثله فيما نقل من المعجزات و كرامات الأولياء، و أمّا اتّصاف الوحي و هو كلام بالثقل المادّيّ فغير معقول.

و في التهذيب، بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ:( إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلًا ) قال: يعني بقوله:( وَ أَقْوَمُ قِيلًا ) قيام الرجل عن فراشه يريد به الله عزّوجلّ لا يريد به غيره.

أقول: و رواه أيضاً بسندين آخرين في التهذيب و العلل عن هشام عنهعليه‌السلام .

و في المجمع في قوله تعالى:( إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ ) الآية: و المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام أنّهما قالا: هي القيام في آخر اللّيل.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن المنذر عن حسين بن عليّ أنّه رؤي يصلّي بين المغرب و العشاء فقيل له في ذلك؟ فقال: إنّهما من الناشئة.

و في المجمع: في قوله تعالى:( وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ) وروى محمّد بن مسلم و زرارة و حمران عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام أنّ التبتّل هذا رفع اليدين في الصلاة. و في رواية أبي بصير قال: هو رفع يدك إلى الله و تضرّعك.

أقول: و ينطبق على قنوت الصلاة، و في رواية هو رفع اليدين و تحريك السبّابتين، و في رواية الإيماء بالإصبع و في رواية الدعاء بإصبع واحدة يشير بها.

و فيه في قوله تعالى:( وَ طَعاماً ذا غُصَّةٍ ) الآية: عن عبدالله بن عمر: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمع قارئاً يقرأ هذا فصعق.

و في تفسير القمّيّ في قوله:( وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا ) قال: مثل الرمل ينحدر.

١٥١

( سورة المزّمّل آية ٢٠)

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٢٠ )

( بيان‏)

آية مبنيّة على التخفيف فيما أمر به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صدر السورة من قيام الليل و الصلاة فيه ثمّ عمّم الحكم لسائر المؤمنين بقوله:( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ ) الآية.

و لسان الآية هو التخفيف بما تيسّر من القرآن من غير نسخ لأصل الحكم السابق بالمنع عن قيام ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه.

و قد ورد في غير واحد من الأخبار أنّ الآية مكّيّة نزلت بعد ثمانية أشهر أو سنة أو عشر سنين من نزول آيات صدر السورة لكن يوهنه اشتمال الآية على قوله تعالى:( وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً ) فإنّ ظاهره أنّ المراد

١٥٢

بالزكاة - و قد ذكرت قبلها الصلاة و بعدها الإنفاق المستحبّ - هو الزكاة المفروضة و إنّما فرضت الزكاة بالمدينة بعد الهجرة.

و قول بعضهم: إنّ الزكاة فرضت بمكّة من غير تعيين الأنصباء و الّذي فرض بالمدينة تعيين الأنصباء، تحكّم من غير دليل، و كذا قول بعضهم: إنّه من الممكن أن تكون الآية ممّا تأخّر حكمه عن نزوله.

على أنّ في الآية ذكراً من القتال إذ يقول:( وَ آخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) و لم يكن من مصلحة الدعوة الحقّة يومئذ ذاك و الظرف ذلك الظرف أن يقع في متنها ذكر من القتال بأيّ وجه كان، فالظاهر أنّ الآية مدنيّة و ليست بمكّيّة و قد مال إليه بعضهم.

قوله تعالى: ( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى‏ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ ) إلى آخر الآية. الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و في التعبير بقوله:( رَبَّكَ ) تلويح إلى شمول الرحمة و العناية الإلهيّة، و كذا في قوله:( يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ) إلخ مضافاً إلى ما فيه من لائحة الشكر قال تعالى:( وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ) الدهر: ٢٢.

و قوله:( تَقُومُ أَدْنى‏ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ ) أدنى اسم تفضيل من الدنوّ بمعنى القرب، و قد جرى العرف على استعمال أدنى فيما يقرب من الشي‏ء و هو أقلّ فيقال: إنّ عدّتهم أدنى من عشرة إذا كانوا تسعة مثلاً دون ما لو كانوا أحد عشر فمعنى قوله:( أَدْنى‏ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ ) أقرب من ثلثيه و أقلّ بقليل.

و الواو العاطفة في قوله:( وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ ) لمطلق الجمع و المراد أنّه يعلم أنّك تقوم في بعض الليالي أدنى من ثلثي الليل و في بعضها نصفه و في بعضها ثلثه.

و قوله:( وَ طائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ) المراد المعيّة في الإيمان و( مِنْ ) للتبعيض فالآية تدلّ على أنّ بعضهم كان يقوم الليل كما كان يقومه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . و قيل( من ) بيانيّة، و هو كما ترى.

و قوله:( وَ اللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ ) في مقام التعليل لقوله:( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ ) و المعنى و كيف لا يعلم و هو الله الّذي إليه الخلق و التقدير ففي تعيين قدر اللّيل و النهار

١٥٣

تعيين ثلثهما و نصفهما و ثلثيهما، و نسبة تقدير اللّيل و النهار إلى اسم الجلالة دون اسم الربّ و غيره لأنّ التقدير من شؤن الخلق و الخلق إلى الله الّذي إليه ينتهي كلّ شي‏ء.

و قوله:( عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) الإحصاء تحصيل مقدار الشي‏ء و عدده و الإحاطة به، و ضمير( لَنْ تُحْصُوهُ ) للتقدير أو للقيام مقدار ثلث الليل أو نصفه أو أدنى من ثلثيه، و إحصاء ذلك مع اختلاف الليالي طولاً و قصراً في أيّام السنة ممّا لا يتيسّر لعامّة المكلّفين و يشتدّ عسراً لمن نام أوّل اللّيل و أراد القيام بأحد المقادير الثلاثة دون أن يحتاط بقيام جميع اللّيل أو ما في حكمه.

فالمراد بقوله:( عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ ) علمه تعالى بعدم تيسّر إحصاء المقدار الّذي اُمروا بقيامه من اللّيل لعامّة المكلّفين.

و المراد بقوله:( فَتابَ عَلَيْكُمْ ) توبته تعالى و رجوعه إليهم بمعنى انعطاف الرحمة الإلهيّة عليهم بالتخفيف فللّه سبحانه توبة على عباده ببسط رحمته عليهم و أثرها توفيقهم للتوبة أو لمطلق الطاعة أو رفع بعض التكاليف أو التخفيف قال تعالى:( ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ) التوبة: ١١٨.

كما أنّ له توبة عليهم بمعنى الرجوع إليهم بعد توبتهم و أثرها مغفرة ذنوبهم، و قد تقدّمت الإشارة إليه.

و المراد بقوله:( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) التخفيف في قيام اللّيل من حيث المقدار لعامّة المكلّفين تفريعاً على علمه تعالى أنّهم لن يُحصوه.

و لازم ذلك التوسعة في التكليف بقيام اللّيل من حيث المقدار حتّى يسع لعامّة المكلّفين الشاقّ عليهم إحصاؤه دون النسخ بمعنى كون قيام الثلث أو النصف أو الأدنى من الثلثين لمن استطاع ذلك بدعة محرّمة و ذلك أنّ الإحصاء المذكور إنّما لا يتيسّر لمجموع المكلّفين لا لجميعهم و لو امتنع لجميعهم و لم يتيسّر لأحدهم لم يشرّع من أصله و لا يكلّف الله نفساً إلّا وسعها.

على أنّه تعالى يصدّق لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و طائفة من الّذين معه قيام الثلث و النصف

١٥٤

و الأدنى من الثلثين و ينسب عدم التمكّن من الإحصاء إلى الجميع و هم لا محالة هم القائمون و غيرهم فالحكم إنّما كان شاقّاً على المجموع من حيث المجموع دون كلّ واحد فوسّع في التكليف بقوله:( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) و سهّل الأمر بالتخفيف ليكون لعامّة المكلّفين فيه نصيب مع بقاء الأصل المشتمل عليه صدر السورة على حاله لمن تمكّن من الإحصاء و إرادة، و الحكم استحبابيّ لسائر المؤمنين و إن كان ظاهر ما للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الخطاب الوجوب كما تقدّمت الإشارة إليه.

و للقوم في كون المراد بقيام اللّيل الصلاة فيه أو قراءة القرآن خارج الصلاة، و على الأوّل في كونه واجباً على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنين أو مستحبّاً للجميع أو واجباً على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستحبّاً لغيره ثمّ في نسخ الحكم بالتخفيف بما تيسّر بهذه الآية أو تبديل الصلاة من قراءة ما تيسّر من القرآن أقوال لا كثير جدوى في التعرّض لها و البحث عنها.

و قوله:( عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى‏ وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَ آخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) إشارة إلى مصلحة اُخرى مقتضية للتخفيف في أمر القيام ثلث اللّيل أو نصفه أو أدنى من ثلثيه، وراء كونه شاقّاً على عامّة المكلّفين بالصفة المذكورة أوّلاً فإنّ الإحصاء المذكور للمريض و المسافر و المقاتل مع ما هم عليه من الحال شاقّ عسير جدّاً.

و المراد بالضرب في الأرض للابتغاء من فضل الله طلب الرزق بالمسافرة من أرض إلى أرض للتجارة.

و قوله:( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً ) تكرار للتخفيف تأكيداً، و ضمير( مِنْهُ ) للقرآن، و المراد الإتيان بالصلاة على ما يناسب سعة الوقت الّذي قاموا فيه.

و المراد بالصلاة المأمور بإقامتها الفريضة فإن كانت الآية مدنيّة فالفرائض الخمس اليوميّة و إن كانت مكّيّة فبحسب ما كانت مفروضة من الصلاة، و المراد بالزكاة الزكاة المفروضة، و المراد بإقراضه تعالى غير الزكاة من الإنفاقات الماليّة في سبيل الله.

١٥٥

و عطف الأمر بإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة و الإقراض للتلويح إلى أنّ التكاليف الدينيّة على حالها في وجوب الاهتمام بها و الاعتناء بأمرها، فلا يتوهّمنّ متوهّم سريان التخفيف و المسامحة في جميع التكاليف فالآية نظيرة قوله في آية النجوى:( فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا اللهَ وَ رَسُولَهُ ) المجادلة: ١٣.

و قوله:( وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَ أَعْظَمَ أَجْراً ) ( مِنْ خَيْرٍ ) بيان للموصول، و المراد بالخير مطلق الطاعة أعمّ من الواجبة و المندوبة، و( هُوَ ) ضمير فصل أو تأكيد للضمير في( تَجِدُوهُ ) .

و المعنى: و الطاعة الّتي تقدّمونها لأنفسكم - أي لتعيشوا بها في الآخرة - تجدونها عند الله - أي في يوم اللقاء - خيراً من كلّ ما تعملون أو تتركون و أعظم أجرا.

و قوله:( وَ اسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ختم الكلام بالأمر بالاستغفار، و في قوله:( إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) إشعار بوعد المغفرة و الرحمة، و لا يبعد أن يكون المراد بالاستغفار الإتيان بمطلق الطاعات لأنّها وسائل يتوسّل بها إلى مغفرة الله فالإتيان بها استغفار.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله تعالى:( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى‏ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ ) ففعل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك و بشّر الناس به فاشتدّ ذلك عليهم و( عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ ) و كان الرجل يقوم و لا يدري متى ينتصف اللّيل و متى يكون الثلثان، و كان الرجل يقوم حتّى يصبح مخافة أن لا يحفظه.

فأنزل الله( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ - إلى قوله -عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ ) يقول: متى يكون النصف و الثلث نسخت هذه الآية( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) ، و

١٥٦

اعلموا أنّه لم يأت نبيّ قطّ إلّا خلا بصلاة اللّيل، و لا جاء نبيّ قطّ بصلاة اللّيل في أوّل اللّيل.

أقول: محصّل الرواية أنّ صدر السورة توجب صلاة اللّيل و ذيلها تنسخها، و روي ما يقرب منه من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس و غيره، و قد تقدّم ما يتعلّق به في البيان السابق.

و في المجمع، روى الحاكم أبوالقاسم إبراهيم الحسكانيّ بإسناده عن الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عبّاس في قوله تعالى:( وَ طائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ) قال: عليّ و أبوذرّ.

و فيه في قوله تعالى:( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ) روي عن الرضا عن أبيه عن جدّهعليهم‌السلام قال: ما تيسّر منه لكم فيه خشوع القلب و صفاء السرّ.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و الطبرانيّ و ابن مردويه عن ابن عبّاس عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ) قال: مائة آية.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما من جالب يجلب طعاماً إلى بلد من بلاد المسلمين فيبيعه بسعر يومه إلّا كانت منزلته عند الله منزلة الشهيد. ثمّ قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَ آخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) .

و في تفسير القمّيّ، بإسناده عن زرعة عن سماعة قال: سألته عن قول الله:( وَ أَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً ) قال: هو غير الزكاة.

و في الخصال، عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام في حديث الأربعمائة: أكثروا الاستغفار تجلبوا الرزق، و قدّموا ما استطعتم من عمل الخير تجدوه غداً.

أقول: ذيله مأخوذ من قوله تعالى:( وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَ أَعْظَمَ أَجْراً ) .

١٥٧

( سورة المدّثّر مكّيّة و هي ستّ و خمسون آية)

( سورة المدّثّر الآيات ١ - ٧)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ( ١ ) قُمْ فَأَنذِرْ ( ٢ ) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ( ٣ ) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ( ٤ ) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ( ٥ ) وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ( ٦ ) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ( ٧ )

( بيان‏)

تتضمّن السورة أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإنذار في سياق يلوح منه كونه من أوامر أوائل البعثة ثمّ الإشارة إلى عظم شأن القرآن الكريم و جلالة قدره، و الوعيد الشديد على من يواجهه بالإنكار و الرمي بالسحر، و ذمّ المعرضين عن دعوته.

و السورة مكّيّة من العتائق النازلة في أوائل البعثة و ظهور الدعوة حتّى قيل: إنّها أوّل سورة نزلت من القرآن و إن كان يكذّبه نفس آيات السورة الصريحة في سبق قراءتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القرآن على القوم و تكذيبهم به و إعراضهم عنهم و رميهم له بأنّه سحر يؤثر.

و لذا مال بعضهم إلى أنّ النازل أوّلاً هي الآيات السبع الواقعة في أوّل السورة و لازمه كون السورة غير نازلة دفعة و هو و إن كان غير بعيد بالنظر إلى متن الآيات السبع لكن يدفعه سياق أوّل سورة العلق الظاهر في كونه أوّل ما نزل من القرآن.

و احتمل بعضهم أن تكون السورة أوّل ما نزل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند الأمر بإعلان الدعوة بعد إخفائها مدّة في أوّل البعثة فهي في معنى قوله:( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) الحجر: ٩٤، و بذلك جمع بين ما ورد من أنّها أوّل ما نزل، و ما ورد أنّها نزلت بعد سورة العلق، و ما ورد أنّ سورتي المزّمّل و المدّثّر نزلتا معاً، و هذا القول لا يتعدّى طور الاحتمال.

١٥٨

و كيف كان فالمتيقّن أنّ السورة من أوائل ما نزل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من السور القرآنيّة، و الآيات السبع الّتي نقلناها تتضمّن الأمر بالإنذار و سائر الخصال الّتي تلزمه ممّا وصّاه الله به.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) المدّثّر بتشديد الدالّ و الثاء أصله المتدثّر اسم فاعل من التدثّر بمعنى التغطّي بالثياب عند النوم.

و المعنى: يا أيّها المتغطّي بالثياب للنوم خطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد كان على هذه الحال فخوطب بوصف مأخوذ من حاله تأنيساً و ملاطفة نظير قوله:( يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ) .

و قيل: المراد بالتدثّر تلبّسهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنبوّة بتشبيهها بلباس يتحلّى به و يتزيّن و قيل: المراد به اعتزالهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و غيبته عن النظر فهو خطاب له بما كان عليه في غار حراء، و قيل: المراد به الاستراحة و الفراغ فكأنّه قيل لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أيّها المستريح الفارغ قد انقضى زمن الراحة و أقبل زمن متاعب التكاليف و هداية الناس.

و هذه الوجوه و إن كانت في نفسها لا بأس بها لكنّ الّذي يسبق إلى الذهن هو المعنى الأوّل.

قوله تعالى: ( قُمْ فَأَنْذِرْ ) الظاهر أنّ المراد به الأمر بالإنذار من غير نظر إلى من ينذر فالمعنى افعل الإنذار، و ذكر بعضهم أنّ مفعول الفعل محذوف، و التقدير أنذر عشيرتك الأقربين لمناسبته لابتداء الدعوة كما ورد في سورة الشعراء.

و ذكر آخرون أنّ المفعول المحذوف عامّ و هو جميع الناس لقوله:( وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ ) سبأ: ٢٨.

و لم يذكر التبشير مع الإنذار مع أنّهما كالمتلازمين في تمام الدعوة لأنّ السورة ممّا نزل في ابتداء الدعوة و الإنذار هو الغالب إذ ذاك.

قوله تعالى: ( وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ ) أي أنسب ربّك إلى الكبرياء و العظمة اعتقاداً و عملاً قولاً و فعلاً و هو تنزيهه تعالى من أن يعادله أو يفوقه شي‏ء فلا شي‏ء يشاركه أو يغلبه أو يمانعه، و لا نقص يعرضه، و لا وصف يحده.

١٥٩

و لذا ورد عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ معنى التكبير: الله أكبر من أن يوصف، فهو تعالى أكبر من كلّ وصف نصفه به حتّى من هذا الوصف، و هذا هو المناسب للتوحيد الإسلاميّ الّذي يفوق ما نجده من معنى التوحيد في سائر الشرائع السماوية.

و هذا الّذي ذكرناه هو الفرق بين كلمتي التكبير و التسبيح - الله أكبر و سبحان الله - فسبحان الله تنزيه له تعالى عن كلّ وصف عدميّ مبنيّ على النقص كالموت و العجز و الجهل و غير ذلك، و الله أكبر تنزيه مطلق له تعالى عن كلّ وصف نصفه به أعمّ من أن يكون عدميّاً أو وجوديّاً حتّى من نفس هذا الوصف لما أنّ كلّ مفهوم محدود في نفسه لا يتعدّى إلى غيره من المفاهيم و هو تعالى لا يحيط به حدّ، فافهم ذلك.

و قيل: المراد الأمر بالتكبير في الصلاة.

و التعبير عنه تعالى بربّك لا يخلو من إشعار بأنّ توحيده تعالى يومئذ كان يختصّ بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال في الكشّاف، في قوله:( فَكَبِّرْ ) و دخلت الفاء لمعنى الشرط كأنّه قيل: و ما كان فلا تدع تكبيره.

قوله تعالى: ( وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) قيل: كناية عن إصلاح العمل، و لا يخلو من وجه فإنّ العمل بمنزلة الثياب للنفس بما لها من الاعتقاد فالظاهر عنوان الباطن، و كثيراً ما يكنّى في كلامهم عن صلاح العمل بطهارة الثياب.

و قيل: كناية عن تزكية النفس و تنزيهها عن الذنوب و المعاصي.

و قيل: المراد تقصير الثياب لأنّه أبعد من النجاسة و لو طالت و انجرّت على الأرض لم يؤمن أن تتنجّس.

و قيل: المراد تطهير الأزواج من الكفر و المعاصي لقوله تعالى:( هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ ) البقرة: ١٨٧.

و قيل: الكلام على ظاهره و المراد تطهير الثياب من النجاسات للصلاة و الأقرب على هذا أن يجعل قوله:( وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ ) إشارة إلى تكبير الصلاة و تكون الآيتان مسوقتين لتشريع أصل الصلاة مقارناً للأمر بالدعوة.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568