الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن10%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219996 / تحميل: 7018
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

و لا يرد عليه ما قيل: إنّ نزول هذه الآيات كان حيث لا صلاة أصلاً و ذلك أنّ تشريع الفرائض الخمس اليوميّة على ما هي عليها اليوم و إن كان في ليلة المعراج و هي جميعاً عشر ركعات ثمّ زيد عليها سبع ركعات إلّا أنّ أصل الصلاة كان منذ أوائل البعثة كما يشهد به ذكرها في هذه السورة و سورتي العلق و المزّمّل، و يدلّ عليه الروايات.

و قيل: المراد بتطهير الثياب التخلّق بالأخلاق الحميدة و الملكات الفاضلة.

و في معنى تطهير الثياب أقوال اُخر أغمضنا عن نقلها لإمكان إرجاعها إلى بعض ما تقدّم من الوجوه، و أرجح الوجوه المتقدّمة أوّلها و خامسها.

قوله تعالى: ( وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) قيل: الرجز بضمّ الراء و كسرها العذاب، و المراد بهجره هجر سببه و هو الإثم و المعصية، و المعنى اهجر الإثم و المعصية.

و قيل: الرجز اسم لكلّ قبيح مستقذر من الأفعال و الأخلاق فالأمر بهجره أمر بترك كلّ ما يكرهه الله و لا يرتضيه مطلقاً، أو أمر بترك خصوص الأخلاق الرذيلة الذميمة على تقدير أن يكون المراد بتطهير الثياب ترك الذنوب و المعاصي.

و قيل: الرجز هو الصنم فهو أمر بترك عبادة الأصنام.

قوله تعالى: ( وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ) الّذي يعطيه سياق الآيات و يناسب المقام أن يكون المراد بالمنّ تكدير الصنيعة بذكرها للمنعم عليه كما في قوله تعالى:( لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى) البقرة: ٢٦٤، و قوله:( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ) الحجرات: ١٧ و المراد بالاستكثار رؤية الشي‏ء و حسبانه كثيراً لا طلب الكثرة.

و المعنى: لا تمنن امتثالك لهذه الأوامر و قيامك بالإنذار و تكبيرك ربّك و تطهيرك ثيابك و هجرك الرجز حال كونك ترى ذلك كثيرا و تعجبه - فإنّما أنت عبد لا تملك من نفسك شيئاً إلّا ما ملّكك الله و أقدرك عليه و هو المالك لما ملّكك و القادر على ما عليه أقدرك فله الأمر و عليك الامتثال -.

١٦١

و للقوم في الآية وجوه اُخر من التفسير لا تلائم السياق تلك الملاءمة فقيل المعنى لا تعط عطيّة لتعطى أكثر منها.

و قيل: المعنى لا تمنن ما أعطاك الله من النبوّة و القرآن على الناس مستكثراً به الأجر.

و قيل: أي لا تمنن إبلاغ الرسالة على اُمتك.

و قيل: المعنى لا تضعف في عملك مستكثراً لطاعاتك.

و قيل: المعنى لا تمنن بعطائك على الناس مستكثراً له.

و قيل: أي إذا أعطيت عطيّة فأعطها لربّك و اصبر حتّى يكون هو الّذي يثيبك.

و قيل: هو نهي عن الربا المحرّم أي لا تعط شيئاً طالباً أن تعطي أكثر ممّا أعطيت.

قوله تعالى: ( وَ لِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ) أي لوجه ربّك، و الصبر مطلق يشمل الصبر عند المصيبة و الصبر على الطاعة و الصبر عن المعصية، و المعنى و لوجه ربّك فاصبر عند ما يصيبك من المصيبة و الأذى في قيامك بالإنذار و امتثالك هذه الأوامر و اصبر على طاعة الله و اصبر عن معصيته، و هذا معنى جامع لمتفرّقات ما ذكروه في تفسير الآية كقول بعضهم: إنّه أمر بنفس الفعل من غير نظر إلى متعلّقه، و قول بعضهم: إنّه الصبر على أذى المشركين، و قول بعضهم: إنّه الصبر على أداء الفرائض، إلى غير ذلك.

١٦٢

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج الطيالسي و عبدالرزّاق و أحمد و عبد بن حميد و البخاريّ و مسلم و الترمذيّ و ابن الضريس و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه و ابن الأنباريّ في المصاحف عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أباسلمة بن عبدالرحمن عن أوّل ما نزل من القرآن فقال: يا أيّها المدّثّر قلت: يقولون:( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) ؟ فقال أبوسلمة: سألت جابر بن عبدالله عن ذلك، قلت له مثل ما قلت. قال جابر: لا اُحدّثك إلّا ما حدّثنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال: جاورت بحراء فلمّا قضيت جواري نوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً و نظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، و نظرت خلفي فلم أر شيئاً فرفعت رأسي فإذا الملك الّذي جاءني بحراء جالس على كرسيّ بين السماء و الأرض فجثت منه رعبا فرجعت فقلت: دثّروني دثّروني فنزلت:( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ - إلى قوله -وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) .

أقول: الحديث معارض بالأحاديث الآخر الدالّة على كون سورة اقرأ أوّل ما نزل من القرآن و يؤيّدها سياق سورة اقرأ، على أنّ قوله:( فإذا الملك الّذي جاءني بحراء) يشعر بنزول الوحي عليه قبلاً.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة: قلنا: يا رسول الله كيف نقول إذا دخلنا في الصلاة؟ فأنزل الله( وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ ) فأمرنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن نفتتح الصلاة بالتكبير.

أقول: و في الرواية شي‏ء فأبو هريرة ممّن آمن بعد الهجرة بكثير و السورة ممّا نزل في أوّل البعثة فأين كان أبوهريرة أو الصحابة يومئذ؟.

و في الخصال، عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام في حديث الأربعمائة: تشمير الثياب طهور لها قال الله تبارك و تعالى:( وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) يعني فشمّر.

١٦٣

أقول: و في المعنى عدّة أخبار مرويّة في الكافي، و المجمع، عن أبي جعفر و أبي عبدالله و أبي الحسنعليهم‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم و صحّحه و ابن مردويه عن جابر قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول:( وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) برفع الراء، و قال: هي الأوثان.

أقول: و قوله:( هي الأوثان) من كلام جابر أو غيره من رجال السند.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ) و في رواية أبي الجارود يقول: لا تعط تلتمس أكثر منها.

١٦٤

( سورة المدّثّر الآيات ٨ - ٣١)

فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ( ٨ ) فَذَٰلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ( ٩ ) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ( ١٠ ) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ( ١١ ) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا ( ١٢ ) وَبَنِينَ شُهُودًا ( ١٣ ) وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ( ١٤ ) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ( ١٥ ) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا ( ١٦ ) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ( ١٧ ) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ( ١٨ ) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ( ١٩ ) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ( ٢٠ ) ثُمَّ نَظَرَ ( ٢١ ) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ( ٢٢ ) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ( ٢٣ ) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ( ٢٤ ) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ( ٢٥ ) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ( ٢٦ ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ( ٢٧ ) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ ( ٢٨ ) لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ ( ٢٩ ) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ( ٣٠ ) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ ( ٣١ )

١٦٥

( بيان‏)

في الآيات وعيد شديد للطاعنين في القرآن الرامين له بأنّه سحر و المستهزئين لبعض ما فيه من الحقائق.

قوله تعالى: ( فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ) النقر القرع و الناقور ما ينقر فيه للتصويت، و النقر في الناقور كالنفخ في الصور كناية عن بعث الموتى و إحضارهم لفصل القضاء يوم القيامة و الجملة شرطيّة جزاؤها قوله:( فذلك ) إلخ.

قوله تعالى: ( فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ) الإشارة بقوله:( فَذلِكَ ) إلى زمان نقر الناقور و لا يبعد أن يكون المراد بيومئذ يوم إذ يرجعون إلى الله للحساب و الجزاء أو يوم إذ يرجع الخلائق إلى الله فيكون ظرفاً ليوم نقر الناقور فمن الجائز أن تعتبر قطعة من الزمان ظرفاً لبعض أجزائه كالسنة تجعل ظرفاً للشهر و الشهر يجعل ظرفاً لليوم لنوع من العناية أو يعتبر زمان متعدّداً مختلفاً باختلاف صفاته أو الحوادث الواقعة فيه ثمّ يجعل باعتبار بعض صفاته ظرفاً لنفسه باعتبار صفة اُخرى.

و المعنى فزمان نقر الناقور الواقع في يوم رجوع الخلائق إلى الله زمان عسير على الكافرين أو زمان نقر الناقور زمان عسير على الكافرين في يوم الرجوع - بناء على كون قوله:( يَوْمَئِذٍ ) قيداً لقوله:( فَذلِكَ ) أو لقوله:( يَوْمٌ ) -.

و قال في الكشّاف: فإن قلت: بم انتصب إذا و كيف صحّ أن يقع يومئذ ظرفاً ليوم عسير؟ قلت: انتصب إذا بما دلّ عليه الجزاء لأنّ المعنى إذا نقر في الناقور عسر الأمر على الكافرين، و الّذي أجاز وقوع يومئذ ظرفاً ليوم عسير أنّ المعنى فذلك وقت النقر وقوع يوم عسير لأنّ يوم القيامة يأتي و يقع حين ينقر في الناقور. انتهى.

و قال: و يجوز أن يكون يومئذ مبنيّاً مرفوع المحلّ بدلاً من ذلك، و يوم عسير خبر كأنّه قيل: فيوم النقر يوم عسير. انتهى.

١٦٦

و قوله:( غَيْرُ يَسِيرٍ ) وصف آخر ليوم مؤكّد لعسره و يفيد أنّه عسير من كلّ وجه من وجه دون وجه.

قوله تعالى: ( ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ) كلمة تهديد و قد استفاض النقل أنّ الآية و ما يتلوها إلى تمام عشرين آية نزلت في الوليد بن المغيرة، و ستأتي قصّته في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله تعالى.

و قوله:( وَحِيداً ) حال من فاعل( خَلَقْتُ ) و محصّل المعنى: دعني و من خلقته حال كوني وحيداً لا يشاركني في خلقه أحد ثمّ دبّرت أمره أحسن التدبير، و لا تحل بيني و بينه فأنا أكفيه.

و من المحتمل أن يكون حالاً من مفعول( ذَرْنِي ) . و قيل: حال من مفعول خلقت المحذوف و هو ضمير عائد إلى الموصول، و محصّل المعنى دعني و من خلقته حال كونه وحيداً لا مال له و لا بنون، و احتمل أيضاً أن يكون( وَحِيداً ) منصوباً بتقدير( أذم) و أحسن الوجوه أوّلها.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً ) أي مبسوطاً كثيراً أو ممدوداً بمدد النماء.

قوله تعالى: ( وَ بَنِينَ شُهُوداً ) أي حضوراً يشاهدهم و يتأيّد بهم، و هو عطف على قوله:( مالًا ) .

قوله تعالى: ( وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ) التمهيد التهيئة و يتجوّز به عن بسطة المال و الجاه و انتظام الاُمور.

قوله تعالى: ( ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً ) أي ثمّ يطمع أن أزيد فيما جعلت له من المال و البنين و مهّدت له من التمهيد.

و قوله:( كَلَّا ) ردع له، و قوله:( إِنَّهُ كانَ ) إلخ تعليل المردع، و العنيد المعاند المباهي بما عنده، قيل، ما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله و ولده حتّى هلك.

١٦٧

قوله تعالى: ( سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ) الإرهاق الغشيان بالعنف، و الصعود عقبة الجبل الّتي يشقّ مصعدها شبّه ما سيناله من سوء الجزاء و مرّ العذاب بغشيانه عقبة وعر صعبة الصعود.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ) التفكير معروف، و التقدير عن تفكير نظم معان و أوصاف في الذهن بالتقديم و التأخير و الوضع و الرفع لاستنتاج غرض مطلوب، و قد كان الرجل يهوى أن يقول في أمر القرآن شيئاً يبطل به

دعوته و يرضي به قومه المعاندين ففكّر فيه أ يقول: شعر أو كهانة أو هذرة جنون أو أسطورة فقدّر أن يقول: سحر من كلام البشر لأنّه يفرّق بين المرء و أهله و ولده و مواليه.

و قوله:( فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ) دعا عليه على ما يعطيه السياق نظير قوله:( قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) التوبة: ٣٠.

و قوله:( ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ) تكرار للدعاء تأكيداً.

قوله تعالى: ( ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ) تمثيل لحاله بعد التكفير و التقدير و هو من ألطف التمثيل و أبلغه.

فقوله:( ثُمَّ نَظَرَ ) أي ثمّ نظر بعد التفكير و التقدير نظرة من يريد أن يقضي في أمر سئل أن ينظر فيه - على ما يعطيه سياق التمثيل -.

و قوله:( ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ ) العبوس تقطيب الوجه، قال في المجمع: و عبس يعبس عبوساً إذا قبض وجهه و العبوس و التكليح و التقطيب نظائر و ضدّها الطلاقة و البشاشة، و قال: و البسور بدء التكرّه في الوجه انتهى، فالمعنى ثمّ قبض وجهه و أبداً التكرّه في وجهه بعد ما نظر.

و قوله:( ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اسْتَكْبَرَ ) الإدبار عن شي‏ء الإعراض عنه، و الاستكبار الامتناع كبراً و عتوّاً، و الأمران أعني الإدبار و الاستكبار من الأحوال الروحيّة، و إنّما رتّبا في التمثيل على النظر و العبوس و البسور و هي أحوال صوريّة محسوسة لظهورهما

١٦٨

بقوله:( إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ ) إلخ، و لذا عطف قوله:( فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ) بالفاء دون( ثُمَّ ) .

و قوله:( فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ) أي أظهر إدباره و استكباره بقوله مفرّعاً عليه:( إِنْ هذا - أي القرآن -إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ) أي يروي و يتعلّم من السحرة.

و قوله:( إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ) أي ليس بكلام الله كما يدّعيه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قيل: إنّ هذه الآية كالتأكيد للآية السابقة و إن اختلفتا معنى لأنّ المقصود منهما نفي كونه قرآناً من كلام الله، و باعتبار الاتّحاد في المقصود لم تعطف الجملة على الجملة.

قوله تعالى: ( سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَ ما أَدْراكَ ما سَقَرُ لا تُبْقِي وَ لا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ ) أي ساُدخله سقر و سقر من أسماء جهنّم في القرآن أو دركة من دركاتها، و جملة( سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ) بيان أو بدل من قوله:( سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ) .

و قوله:( وَ ما أَدْراكَ ما سَقَرُ ) تفخيم لأمرها و تهويل.

و قوله:( لا تُبْقِي وَ لا تَذَرُ ) قضيّة إطلاق النفي أن يكون المراد أنّها لا تبقي شيئاً ممّن نالته إلّا أحرقته، و لا تدع أحداً ممّن اُلقي فيها إلّا نالته بخلاف نار الدنيا الّتي ربّما تركت بعض ما اُلقي فيها و لم تحرقه، و إذا نالت إنساناً مثلاً نالت جسمه و صفاته الجسميّة و لم تنل شيئاً من روحه و صفاته الروحيّة، و أمّا سقر فلا تدع أحداً ممّن اُلقي فيها إلّا نالته قال تعالى:( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى ) المعارج: ١٧، و إذا نالته لم تبق منه شيئاً من روح أو جسم إلّا أحرقته قال تعالى:( نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ) الهمزة: ٧.

و يمكن أن يراد أنّها لا تبقيهم أحياء و لا تتركهم يموتون فيكون في معنى قوله تعالى:( الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى‏ ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى) الأعلى: ١٣.

و قيل: المعنى لا تبقي شيئاً يلقى فيها إلّا أهلكته، و إذا هلك لم تذره هالكاً

١٦٩

حتّى يعاد فيعذّب ثانياً.

و قيل: المراد أنّها لا تبقي لهم لحماً و لا تذر عظماً، و قيل غير ذلك.

قوله تعالى: ( لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ) اللوّاحة من التلويح بمعنى تغيير اللون إلى السواد و قيل: إلى الحمرة، و البشر جمع بشرة بمعنى ظاهر الجلد.

قوله تعالى: ( عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ ) يتولّون أمر عذاب المجرمين و قد اُبهم و لم يصرّح أنّهم من الملائكة أو غيرهم غير أنّ المستفاد من آيات القيامة - و تصرّح به الآية التالية - أنّهم من الملائكة.

و قد استظهر بعضهم أنّ مميّز قوله:( تِسْعَةَ عَشَرَ ) ملكاً ثمّ قال: أ لا ترى العرب و هم الفصحاء كيف فهموا منه ذلك فقد روي عن ابن عبّاس: أنّها لمّا نزلت( عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ ) قال أبوجهل لقريش: ثكلتكم اُمّهاتكم أ سمع ابن أبي كبشة يخبركم أنّ خزنة النار تسعة عشر و أنتم الدهم أ يعجز كلّ عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم؟ فقال أبو الأسد بن أسيد بن كلدة الجمحيّ و كان شديد البطش: أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين انتهى، و أنت ترى أن لا دليل في كلامه على ما يدّعيه. على أنّه سمّي الواحد من الخزنة رجلاً و لا يطلق الرجل على الملك البتّة و لا سيمّا عند المشركين الّذين قال تعالى فيهم:( وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ) الزخرف: ١٩.

قوله تعالى: ( وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً ) إلى آخر الآية. سياق الآية يشهد على أنّهم تكلّموا فيما ذكر في الآية من عدد خزّان النار فنزلت هذه الآية، و يتأيّد بذلك ما ورد من سبب النزول و سيوافيك في البحث الروائيّ التالي.

فقوله:( وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً ) المراد بأصحاب النار خزنتها الموكّلون عليها المتولّون لتعذيب المجرمين فيها كما يفيده قوله:( عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ ) و يشهد بذلك قوله بعد:( وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً ) إلخ.

و محصّل المعنى: أنّا جعلناهم ملائكة يقدرون على ما اُمروا به كما قال:

١٧٠

( عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) التحريم: ٦.

فليسوا من البشر حتّى يرجوا المجرمون أن يقاوموهم و يطيقوهم.

و قوله:( وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) الفتنة المحنة و الاختبار. ذكروا أنّ المراد بالجعل الجعل بحسب الإخبار دون الجعل بحسب التكوين فالمعنى و ما أخبرنا عن عدّتهم أنّها تسعة عشر إلّا ليكون فتنة للّذين كفروا، و يؤيّده ذيل الكلام:( لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) إلخ.

و قوله:( لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) الاستيقان وجدان اليقين في النفس أي ليوقن أهل الكتاب بأنّ القرآن النازل عليك حقّ حيث يجدون ما أخبرنا به من عدّة أصحاب النار موافقاً لما ذكر فيما عندهم من الكتاب.

و قوله:( وَ يَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً ) أي بسبب ما يجدون من تصديق أهل الكتاب ذلك.

و قوله:( وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلًا ) اللّام في( لِيَقُولَ ) للعاقبة بخلاف اللّام في( لِيَسْتَيْقِنَ ) فللتعليل بالغاية، و الفرق أنّ قولهم:( ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلًا ) تحقير و تهكّم و هو كفر لا يعدّ غاية لفعله سبحانه إلّا بالعرض بخلاف الاستيقان الّذي هو من الإيمان، و لعلّ اختلاف المعنيين هو الموجب لإعادة اللّام في قوله:( وَ لِيَقُولَ ) .

و قد فسّروا( الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) بالشّكّ و الجحود بالمنافقين و فسّروا الكافرين بالمتظاهرين بالكفر من المشركين و غيرهم.

و قولهم:( ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلًا ) أرادوا به التحقير و التهكّم يشيرون بهذا إلى قوله تعالى:( عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ ) و المثل الوصف، و المعنى ما الّذي يعنيه من وصف الخزنة بأنّهم تسعة عشر؟ فهذه العدّة القليلة كيف تقوى على تعذيب أكثر الثقلين من الجنّ و الإنس؟

١٧١

( ذنابة لما تقدّم من الكلام في النفاق‏)

ذكر بعضهم أنّ قوله تعالى:( وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) الآية - بناء على أنّ السورة بتمامها مكّيّة، و أنّ النفاق إنّما حدث بالمدينة - إخبار عمّا سيحدث من المغيّبات بعد الهجرة انتهى.

أمّا كون السورة بتمامها مكّيّة فهو المتعيّن من طريق النقل و قد ادّعي عليه إجماع المفسّرين، و ما نقل عن مقاتل أنّ قوله:( وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً ) الآية مدنيّ لم يثبت من طريق النقل، و على فرض الثبوت هو قول نظري مبنيّ على حدوث النفاق بالمدينة و الآية تخبر عنه.

و أمّا حديث حدوث النفاق بالمدينة فقد أصرّ عليه بعضهم محتجّاً عليه بأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المسلمين لم يكونوا قبل الهجرة من القوّة و نفوذ الأمر و سعة الطول بحيث يهابهم الناس أو يرجى منهم خير حتّى يتّقوهم و يظهروا لهم الإيمان و يلحقوا بجمعهم مع إبطان الكفر و هذا بخلاف حالهم بالمدينة بعد الهجرة.

و الحجّة غير تامّة - كما أشرنا إليه في تفسير سورة المنافقون في كلام حول النفاق - فإنّ علل النفاق ليست تنحصر في المخافة و الاتّقاء أو الاستدرار من خير معجّل فمن علله الطمع و لو في نفع مؤجّل و منها العصبيّة و الحميّة و منها استقرار العادة و منها غير ذلك.

و لا دليل على انتفاء جميع هذه العلل عن جميع من آمن بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة قبل الهجرة و قد نقل عن بعضهم أنّه آمن ثمّ رجع أو آمن عن ريب ثمّ صلح.

على أنّه تعالى يقول:( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَ لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَ وَ لَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ وَ لَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ ) العنكبوت: ١١.

و الآيتان في سورة مكّيّة و هي سورة العنكبوت، و هما ناطقتان بوجود النفاق فيها و مع الغضّ عن كون السورة مكّيّة فاشتمال الآية على حديث الإيذاء في الله

١٧٢

و الفتنة أصدق شاهد على نزول الآيتين بمكّة فلم يكن بالمدينة إيذاء في الله و فتنة، و اشتمال الآية على قوله:( وَ لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ ) إلخ لا يدلّ على النزول بالمدينة فللنصر مصاديق اُخرى غير الفتح المعجّل.

و احتمال أن يكون المراد بالفتنة ما وقعت بمكّة بعد الهجرة غير ضائر فإنّ هؤلاء المفتونين بمكّة بعد الهجرة إنّما كانوا من الّذين آمنوا بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل الهجرة و إن اُوذوا بعدها.

و على مثل ذلك ينبغي أن يحمل قوله تعالى:( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى‏ حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى‏ وَجْهِهِ ) الحجّ: ١١ إن كان المراد بالفتنة العذاب و إن كانت السورة مدنيّة.

و قوله:( كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) الإشارة بذلك إلى مضمون قوله:( وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً ) إلخ.

و قوله:( وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ) علّق تعالى العلم المنفيّ بالجنود - و هي الجموع الغليظة الّتي خلقهم وسائط لإجراء أوامره - لا بخصوص عدّتهم فأفاد بإطلاقه أنّ العلم بحقيقتهم و خصوصيّات خلقتهم و عدّتهم و ما يعملونه من عمل و دقائق الحكمة في جميع ذلك يختصّ به تعالى لا يشاركه فيه أحد، فليس لأحد أن يستقلّ عدّتهم أو يستكثر أو يطعن في شي‏ء ممّا يرجع إلى صفاتهم و هو جاهل بها.

و قوله:( وَ ما هِيَ إِلَّا ذِكْرى‏ لِلْبَشَرِ ) الضمير راجع إلى ما تقدّم من قوله:( عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ ) و تأنيثه لتأنيث الخبر، و المعنى أنّ البشر لا سبيل لهم إلى العلم بجنود ربّك و إنّما أخبرنا عن خزنة النار أنّ عدّتهم تسعة عشر ليكون ذكرى لهم يتّعظون بها.

و قيل: الضمير للجنود، و قيل: لسقر، و قيل للسورة، و قيل: لنار الدنيا و هو أسخف الأقوال.

و في الآية دلالة على أنّ الخطابات القرآنيّة لعامّة البشر.

١٧٣

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ - إلى قوله -وَحِيداً ) فإنّها نزلت في الوليد بن المغيرة و كان شيخاً كبيراً مجرّباً من دهاة العرب، و كان من المستهزئين برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقعد في الحجر و يقرأ القرآن فاجتمعت قريش إلى الوليد بن المغيرة فقالوا: يا أبا عبد شمس ما هذا الّذي يقول محمّد؟ أ شعر هو أم كهانة أم خطب؟ فقال: دعوني أسمع كلامه فدنا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا محمّد أنشدني من شعرك قال: ما هو شعر و لكنّه كلام الله الّذي ارتضاه لملائكته و أنبيائه و رسله فقال: اُتل عليّ منه شيئاً!

فقرأ عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حم السجدة فلمّا بلغ قوله:( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ ) قال: فاقشعرّ الوليد و قامت كلّ شعرة في رأسه و لحيته، و مرّ إلى بيته و لم يرجع إلى قريش من ذلك.

فمشوا إلى أبي جهل فقالوا: يا أبا الحكم إنّ أبا عبد شمس صبا إلى دين محمّد أ ما تراه لم يرجع إلينا فغدا أبو جهل إلى الوليد فقال: يا عمّ نكست رؤسنا و فضحتنا و أشمتّ بنا عدوّنا و صبوت إلى دين محمّد، فقال: ما صبوت إلى دينه و لكنّي سمعت كلاماً صعباً تقشعرّ منه الجلود فقال له أبوجهل: أ خطب هو؟ قال: لا إنّ الخطب كلام متّصل و هذا كلام منثور و لا يشبه بعضه بعضاً. قال: أ فشعر هو؟ قال: لا أمّا إنّي لقد سمعت أشعار العرب بسيطها و مديدها و رملها و رجزها و ما هو بشعر. قال: فما هو؟ قال: دعني اُفكّر فيه.

فلمّا كان من الغد قالوا له: يا أعبد شمس ما تقول فيما قلناه؟ قال: قولوا: هو سحر فإنّه آخذ بقلوب الناس فأنزل على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك:( ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ) .

١٧٤

و إنّما سمّي وحيداً لأنّه قال لقريش: أنا أتوحّد لكسوة البيت سنة و عليكم في جماعتكم سنة، و كان له مال كثير و حدائق، و كان له عشر بنين بمكّة، و كان له عشرة عبيد عند كلّ عبد ألف دينار يتّجر بها و تلك القنطار في ذلك الزمان، و يقال: إنّ القنطار جلد ثور مملوّء ذهباً.

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم و صحّحه و البيهقيّ في الدلائل من طريق عكرمة عن ابن عبّاس أنّ الوليد بن المغيرة جاء إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقرأ عليه القرآن فكأنّه رقّ له فبلغ ذلك أباجهل فأتاه فقال: يا عمّ إنّ قومك يريدون أن يجعلوا لك مالاً ليعطوه لك فإنّك أتيت محمّداً لتصيب ممّا عنده. قال: قد علمت قريش أنّي من أكثرها مالاً.

قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنّك منكر أو أنّك كاره له، قال: و ما ذا أقول فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر منّي لا برجزه و لا بقصيده و لا بأشعار الجنّ و الله ما يشبه الّذي يقول شيئاً من هذا، و و الله إنّ لقوله الّذي يقوله حلاوة و إنّ عليه لطلاوة، و إنّه لمثمر أعلاه، و مغدق أسفله، و إنّه ليعلو و لا يعلى، و إنّه ليحطم ما تحته.

قال: لا يرضى عنك قومك حتّى تقول فيه قال: دعني حتّى اُفكّر فلمّا فكّر قال ما هو إلّا سحر يؤثر يأثره عن غيره فنزلت:( ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ) .

و في المجمع، روى العيّاشيّ بإسناده عن زرارة و حمران و محمّد بن مسلم عن أبي عبدالله و أبي جعفرعليهما‌السلام أنّ الوحيد ولد الزنا. قال زرارة: ذكر لأبي جعفرعليه‌السلام عن أحد بني هشام أنّه قال في خطبته: أنا ابن الوحيد فقال: ويله لو علم ما الوحيد ما فخر بها فقلنا له، و ما هو؟ قال، من لا يعرف له أب.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و ابن المنذر و الترمذيّ و ابن أبي الدنيا في صفة النار و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن حيّان و الحاكم و صحّحه و البيهقيّ في البعث

١٧٥

عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال، الصعود جبل في النار يصعد فيه الكافر سبعين خريفاً ثمّ يهوي و هو كذلك فيه أبداً.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى،( ثُمَّ عَبَسَ ) قال، عبس وجهه( وَ بَسَرَ ) قال، ألقى شدقه(١) .

____________________

(١) زاوية الفم.

١٧٦

( سورة المدّثّر الآيات ٣٢ - ٤٨)

كَلَّا وَالْقَمَرِ ( ٣٢ ) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ( ٣٣ ) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ( ٣٤ ) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ ( ٣٥ ) نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ ( ٣٦ ) لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ( ٣٧ ) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ( ٣٨ ) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ ( ٣٩ ) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ ( ٤٠ ) عَنِ الْمُجْرِمِينَ ( ٤١ ) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ( ٤٢ ) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ( ٤٣ ) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ( ٤٤ ) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ( ٤٥ ) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ( ٤٦ ) حَتَّىٰ أَتَانَا الْيَقِينُ ( ٤٧ ) فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ( ٤٨ )

( بيان‏)

في الآيات تنزيه للقرآن الكريم عمّا رموه به، و تسجيل أنّه إحدى الآيات الإلهيّة الكبرى فيه إنذار البشر كافّة و في اتّباعه فكّ نفوسهم عن رهانة أعمالهم الّتي تسوقهم إلى سقر.

قوله تعالى: ( كَلَّا ) ردع و إنكار لما تقدّم قال في الكشّاف: إنكار بعد أن جعلها ذكرى أن يكون لهم ذكرى لأنّهم لا يتذكّرون، أو ردع لمن ينكر أن يكون إحدى الكبر نذيراً. انتهى. فعلى الأوّل إنكار لما تقدّم و على الثاني ردع لما سيأتي، و هناك وجه آخر سيوافيك.

قوله تعالى: ( وَ الْقَمَرِ وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَ الصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ ) قسم بعد قسم، و إدبار الليل مقابل إقباله، و إسفار الصبح انجلاؤه و انكشافه.

١٧٧

قوله تعالى: ( إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ ) ذكروا أنّ الضمير لسقر، و الكبر جمع كبري، و المراد بكون سقر إحدى الكبر أنّها إحدى الدواهي الكبر لا يعادلها غيرها من الدواهي كما يقال: هو أحد الرجال أي لا نظير له بينهم، و الجملة جواب للقسم.

و المعنى اُقسم بكذا و كذا إنّ سقر لإحدى الدواهي الكبر - أكبرها - إنذاراً للبشر.

و لا يبعد أن يكون( كَلَّا ) ردعاً لقوله في القرآن:( إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ) و يكون ضمير( إِنَّها ) للقرآن بما أنّه آيات أو من باب مطابقة اسم إنّ لخبرها.

و المعنى: ليس كما قال اُقسم بكذا و كذا أنّ القرآن - آياته - لإحدى الآيات الإلهيّة الكبرى إنذاراً للبشر.

و قيل: الجملة( إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ ) تعليل للردع، و القسم معترض للتأكيد لا جواب له أو جوابه مقدّر يدلّ عليه كلّا.

قوله تعالى: ( نَذِيراً لِلْبَشَرِ ) مصدر بمعنى الإنذار منصوب للتمييز، و قيل: حال ممّا يفهم من سياق قوله:( إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ ) أي كبرت و عظمت حالكونها إنذاراً أي منذرة.

و قيل فيه وجوه اُخر لا يعبأ بها كقول بعضهم: إنّه صفة للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الآية متّصلة بأوّل السورة و التقدير قم نذيراً للبشر فأنذر، و قول بعضهم: صفة له تعالى.

قوله تعالى: ( لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ) تعميم للإنذار و( لِمَنْ شاءَ ) بدل من البشر، و( أَنْ يَتَقَدَّمَ ) إلخ مفعول( شاءَ ) و المراد بالتقدّم و التأخّر: الاتّباع للحقّ و مصداقه الإيمان و الطاعة، و عدم الاتّباع و مصداقه الكفر و المعصية.

و المعنى: نذيراً لمن اتّبع منكم الحقّ و لمن لم يتّبع أي لجميعكم من غير استثناء.

و قيل:( أَنْ يَتَقَدَّمَ ) في موضع الرفع على الابتداء و( لِمَنْ شاءَ ) خبره كقولك لمن توضّأ أن يصلّي، و المعنى مطلق لمن شاء التقدّم أو التأخّر أن يتقدّم أو يتأخّر، و

١٧٨

هو كقوله.( فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ) و المراد بالتقدّم و التأخّر السبق إلى الخير و التخلّف عنه انتهى.

قوله تعالى: ( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) الباء بمعنى مع أو للسببيّة أو للمقابلة و( رَهِينَةٌ ) بمعنى الرهن على ما ذكره الزمخشريّ قال في الكشّاف: رهينة ليست بتأنيث رهين في قوله:( كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ ) لتأنيث النفس لأنّه لو قصدت لقيل: رهين لأنّ فعيلاً بمعنى مفعول يستوي فيه المذكّر و المؤنّث، و إنّما هي اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم كأنّه قيل: كلّ نفس بما كسبت رهن. انتهى.

و كأنّ العناية في عدّ كلّ نفس رهينة أنّ لله عليها حقّ العبوديّة بالإيمان و العمل الصالح فهي رهينة محفوظة محبوسة عند الله حتّى توفّي دينه و تؤدّي حقّه تعالى فإن آمنت و صلحت فكّت و اُطلقت، و إن كفرت و أجرمت و ماتت على ذلك كانت رهينة محبوسة دائماً، و هذا غير كونها رهين عملها ملازمة لما اكتسبت من خير و شرّ كما تقدّم في قوله تعالى:( كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ ) الطور: ٢١.

و الآية في مقام بيان وجه التعميم المستفاد من قوله:( نَذِيراً لِلْبَشَرِ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ) فإنّ كون النفس الإنسانيّة رهينة بما كسبت يوجب على كلّ نفس أن تتّقي النار الّتي ستحبس فيها إن أجرمت و لم تتّبع الحقّ.

قوله تعالى: ( إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ ) هم الّذين يؤتون كتابهم بأيمانهم يوم الحساب و هم أصحاب العقائد الحقّة و الأعمال الصالحة من متوسّطي المؤمنين، و قد تكرّر ذكرهم و تسميتهم بأصحاب اليمين في مواضع من كلامه تعالى، و على هذا فالاستثناء متّصل.

و المتحصّل من مجموع المستثنى منه و المستثنى انقسام النفوس ذوات الكسب إلى نفوس رهينة بما كسبت و هي نفوس المجرمين، و نفوس مفكوكة من الرهن مطلقة و هي نفوس أصحاب اليمين، و أمّا السابقون المقرّبون و هم الّذين ذكرهم الله في مواضع من كلامه و عدّهم ثالثة الطائفتين و غيرهما كما في قوله تعالى:( وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً

١٧٩

- إلى أن قال -وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) الواقعة: ١١، فهؤلاء قد استقرّوا في مستقرّ العبوديّة لا يملكون نفساً و لا عمل نفس فنفوسهم لله و كذلك أعمالهم فلا يحضرون و لا يحاسبون قال تعالى:( فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافّات: ١٢٨، فهم خارجون عن المقسم رأساً.

و عن بعضهم تفسير أصحاب اليمين بالملائكة، و عن بعضهم التفسير بأطفال المسلمين و عن بعضهم أنّهم الّذين كانوا عن يمين آدم يوم الميثاق، و عن بعضهم أنّهم الّذين سبقت لهم من الله الحسنى، و هي وجوه ضعيفة غير خفيّة الضعف.

قوله تعالى: ( فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ) ( فِي جَنَّاتٍ ) خبر لمبتدإ محذوف و تنوين جنّات للتعظيم، و التقدير هم في جنّات لا يدرك وصفها، و يمكن أن يكون حالاً من أصحاب اليمين.

و قوله:( يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ) أي يتساءل جمعهم عن جمع المجرمين.

و قوله:( ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ) أي ما أدخلكم في سقر بيان لتساؤلهم من بيان الجملة بالجملة، أو بتقدير القول أي قائلين ما سلككم في سقر.

قوله تعالى: ( قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ) ضمير الجمع للمجرمين، و المراد بالصلاة التوجّه العبادي الخاصّ إلى الله سبحانه فلا يضرّه اختلاف الصلاة كمّاً و كيفاً باختلاف الشرائع السماويّة الحقّة.

قوله تعالى: ( وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ) المراد بإطعام المسكين الإنفاق على فقراء المجتمع بما يقوم به صلبهم و يرتفع به حاجتهم، و إطعام المسكين إشارة إلى حقّ الناس عملاً كما أنّ الصلاة إشارة إلى حقّ الله كذلك.

قوله تعالى: ( وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ ) المراد بالخوض الاشتغال بالباطل قولاً أو فعلاً و الغور فيه.

قوله تعالى: ( وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ) و هو يوم الجزاء فهذه خصال أربع من طبع المجرم أن يبتلي بها كلّاً أو بعضاً، و لمّا كان المجيب عن التساؤل جمع المجرمين صحّت نسبة الجميع إلى الجميع و إن كان بعضهم مبتلى ببعضها دون بعض.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الموقف التاسع:

شروطهعليه‌السلام على المأمون لقبول ولاية العهد، وهي:

((أن لا يولي أحداً، ولا يعزل أحداً، ولا ينقض رسماً، ولا يغير شيئاً مما هو قائم، ويكون في الأمر مشيراً من بعيد)) (١) ، فأجابه المأمون إلى ذلك كله!!!.

وفي ذلك تضييع لجملة من أهداف المأمون.. إذ إن:

١ ـ السلبية تعني الاتهام:

فإن من الطبيعي أن تثير سلبيته هذه الكثير من التساؤلات لدى الناس، ولسوف تكون سبباً في وضع علامات استفهام كبيرة، حول الحكم، والحكام. وكل أعمالهم وتصرفاتهم، إذ إن السلبية إنما تعني: أن نظام الحكم لا يصلح حتى للتعاون معه، بأي نحو من أنحاء التعاون، وإلا فلماذا يرفض ـ حتى ولي العهد ـ التعاون مع نظام هو ولي العهد فيه، ويأبى التأييد لأي من تصرفاته وأعماله؟!.

____________

(١) الفصول المهمة، لابن الصباغ المالكي ص ٢٤١، ونور الأبصار من ص ١٤٣، وعيون أخبار الرضا ج ١ ص ٢٠، و ج ٢ ص ١٨٣، ومواضع أخرى، ومناقب آل أبي طالب ج ٤ ص ٣٦٣، وعلل الشرايع ج ١، ص ٢٣٨، وإعلام الورى ص ٣٢٠، والبحار ج ٤٩ ص ٣٤ و ٣٥، وغيرها، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٩، وإرشاد المفيد ص ٣١٠، وأمالي الصدوق ص ٤٣، وأصول الكافي ص ٤٨٩، وروضة الواعظين ج ١ ص ٢٦٨، ٢٦٩، ومعادن الحكمة ص ١٨٠، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥.

٣٠١

٢ ـ رفض الاعتراف بشرعية ذلك النظام:

ولقد قدمنا: أن من جملة أهداف المأمون هو أن يحصل من الإمامعليه‌السلام على اعتراف ضمني بشرعية حكمه وخلافته، كما صرح هو نفسه بذلك (وليعترف بالملك، والخلافة لنا).

والإمام.. بشروطه تلك يكون قد رفض الاعتراف بشرعية النظام القائم. بأي نحو من أنحاء الاعتراف، ولم يعد قبوله بولاية العهد يمثل اعترافا بذلك، ولا يدل على أن ذلك الحكم يمثل الحكم الإسلامي الأصيل.

هذا.. وقد عضد شروطه هذه، بسلوكه السلبي مع المأمون، والهيئة الحاكمة، طيلة فترة ولاية العهد، يضاف إلى ذلك تصريحاته المتكررة، التي تحدثنا عنها فيما سبق.

٣ ـ النظام القائم لا يمثل وجهة نظره في الحكم:

والأهم من كل ذلك: أن شروطه هذه كانت بمثابة الرفض القاطع لتحمل المسؤولية عن أي تصرف يصدر من الهيئة الحاكمة. وليس للناس ـ بعد هذا ـ أن ينظروا إلى تصرفات وأعمال المأمون وحزبه، على أنها تحظى برضى الإمامعليه‌السلام وموافقته. ولا يمكن لها ـ من ثم ـ أن تعكس وجهة نظرهعليه‌السلام في الحكم ورأيه في أساليبه، التي هي في الحقيقة وجهة نظر الإسلام الصحيح فيه. الإسلام.. الذي يعتبر الأئمةعليه‌السلام الممثلين الحقيقيين له، في سائر الظروف، ومختلف المجالات..

وانطلاقاً مما تقدم: نراهعليه‌السلام يرفض ما كان يعرضه عليه المأمون، من: كتابة بتولية أو عزل إلى أي إنسان.. ويرفض أيضاً: أن يؤم الناس في الصلاة مرتين.. إلى آخر ما سيأتي بيانه.

وفي كل مرة كان يرفض فيها مطالب المأمون هذه نراه يحتج عليه بشروطه تلك، فلا يجد المأمون الحيلة لما يريده، وتضيع الفرصة من يده، ولا بد من ملاحظة: أنه عندما أصر عليه المأمون بأن يؤم الناس في الصلاة، ورأىعليه‌السلام : أنه لا بد له من قبول ذلك ـ نلاحظ ـ: أنه اشترط عليه أن يخرج كما كان يخرج جده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا كما يخرج الآخرون..

٣٠٢

ولم يكن المأمون يدرك مدى أهمية هذا الشرط، ولا عرف أهداف الإمام من وراء اشتراطه هذا، فقال له ولعله بدون اكتراث: أخرج كيف شئت.. وكانت نتيجة ذلك.. أنهعليه‌السلام قد أفهم الناس جميعاً:

أن سلوكه وأسلوبه، وحتى مفاهيمه، تختلف عن كل أساليب ومفاهيم وسلوك الآخرين. وأن خطه هو خط محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنهاجه هو منهاج عليعليه‌السلام ، ربيب الوحي، وغذي النبوة، وليس هو خط المأمون وسواه من الحكام، الذين اعتاد الناس عليهم، وعلى تصرفاتهم وأعمالهم.

ولم يعد يستطيع المأمون، أن يفهم الناس: أن الحاكم: من كان، ومهما كان، هذا هو سلوكه، وهذه هي تصرفاته. وأن كل شخصية: من ومهما كانت، وإن كانت قبل أن تصل إلى الحكم تتخذ العدل، والحرية: والمساواة، وغير ذلك شعارات لها، إلا أنها عندما تصل إلى الحكم، لا يمكن إلا أن تكون قاسية ظالمة، مستأثرة بكل شيء، ومستهترة بكل شيء، ولذا فليس من مصلحة الناس أن يتطلعوا إلى حكم أفضل مما هو قائم، حتى ولو كان ذلك هو حكم الإمامعليه‌السلام المعروف بعلمه وتقواه وفضله الخ.. فضلاً عن غيره من العلويين أو من غيرهم ـ لم يعد يستطيع أن يقول ذلك ـ لأن الواقع الخارجي قد أثبت عكس ذلك تماماً، إذ قد رأينا: كيف أن الإمامعليه‌السلام بشروطه تلك، وبسائر مواقفه من المأمون ونظام حكمه.. يضيع على المأمون هذه الفرصة، ولم تجده محاولاته فيما بعد شيئاً، بل إن كثيراً منها كان سوءا ووبالاً عليه، كما سيأتي.

٤ ـ لا مجال بعد للمأمون لتنفيذ مخططاته:

ولعل من الواضح: أن شروطه تلك قد مكنته من أن يقطع الطريق على المأمون، ولا يمكنه من استغلال الظروف لتنفيذ بقية حلقات مؤامرته، إذ لم يعد بإمكانه أن يصر على الإمام أن يقوم بأعمال تنافي وتضر بقضيته هو، وقضية العلويين، ومن ثم تؤثر على الأمة بأسرها.. وعدا عن ذلك فإن هذه الشروط، قد حفظت لهعليه‌السلام حياته في حمام سرخس، حيث كان المأمون قد حاك مؤامرته للتخلص من وزيره وولي عهده مرة واحدة، كما سيأتي بيانه.. مما يعني أن سلبيتهعليه‌السلام مع النظام كانت أمراً لابد منه، إذا أراد أن لا يعرض نفسه إلى مشاكل، وأخطار هو في غنى عنها.. والذي أمن له هذه السلبية ليس إلا شروطه تلك، التي جعلت من لعبة ولاية العهد لعبة باهتة مملة لا حياة فيها، ولا رجاء..

٣٠٣

ولعل الأهم من كل ذلك.. أنها ضيعت على المأمون الكثير من أهدافه من البيعة، التي صرح الإمامعليه‌السلام أنه كان عارفاً بها، ولم يكن له خيار في تحملها، والصبر عليها، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

وعدا عن ذلك كله أن تعاونه مع النظام إنما يعني أن يحاول تصحيح السلوك، وتلافي الأخطاء، التي كان يقع فيها الحكم، والهيئة الحاكمة. وذلك معناه أن ينقلب جهاز الحكم كله ضد الإمام، ويجد المأمون ـ من ثم ـ العذر، والفرصة لتصفيتهعليه‌السلام من أهون سبيل، فشروطه تلك أبعدت عنه الخطر ـ إلى حد ما ـ الذي كان يتهدده من قبل المأمون وأشياعه، وجعلته ـ كما قلنا ـ في منأى ومأمن من كل مؤامراتهم ومخططاتهم.

٥ ـ الإمام.. لا ينفذ إرادات الحكم:

ولعل من الأهمية بمكان.. أن نشير إلى أنهعليه‌السلام كان يريد بشروطه تلك أن يفهم المأمون: أنه ليس على استعداد لتنفيذ إرادات الحكم، والحاكم، ولا على استعداد لأن يقتنع بالتشريفات، والأمور الشكلية، فإنه.. بصفته القائد والمنقذ الحقيقي للأمة، لا يمكن أن يرضى بديلاً عن أن ينقذ الأمة، ويرتفع بها من مستواها الذي أوصلها إليه الطواغيت والظلمة، الذين جلسوا في مكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأوصيائهعليهم‌السلام ، وحكموا بغير ما أنزل الله.

إنه يريد أن يخدم الأمة، ويحقق لها مكاسب تضمن لها الحياة الفضلى، والعيش الكريم، ولا يريد أن يخدم نفسه، ويحقق مكاسب شخصيته على حساب الآخرين، ولذلك فهو لا يستطيع أن يقتنع بالسطحيات والشكليات التي لا تسمن، ولا تغني من جوع..

٦ ـ لا زهد أكثر من هذا:

إنه مضافاً إلى أن مجرد رفض الإمام كلا عرضي المأمون: الخلافة، وولاية العهد، دليل قاطع على زهده فيه. فإن هذه الشروط كان لها عظيم الفائدة، وجليل الأثر في الإظهار لكل أحد أن الإمام ليس رجل دنيا، ولا طالب جاه ومقام. وما أراده المأمون من إظهار الإمام على أنه لم يزهد بالدنيا، وإنما الدنيا هي التي زهدت فيه.. لم يكن إلا هباء اشتدت به الريح في يوم عاصف.. ولم تفلح بعد محاولات المأمون وعمله الدائب، من أجل تشويه الإمام والنيل من كرامته.

٣٠٤

ولقد قدمنا: أن الإمامعليه‌السلام قد واجه نفس المأمون بحقيقة نواياه، وأفهمه أن خداعه لن ينطلي عليه، ولن تخفى عليه مقاصده، ولذا فإن من الأفضل والأسلم له أن يكف عن كل مؤامراته ومخططاته.. وإلا فإنه إذا ما أراد إجبار الإمام على التعاون معه، فلسوف يجد أنهعليه‌السلام على استعداد لفضحه، وكشف حقيقته وواقعه أمام الملأ، وإفهام الناس السبب الذي من أجله يجهد المأمون ليزج بالإمامعليه‌السلام في مجالات لا يرغب، بل واشترط عليه أن لا يزج فيها ـ كما فعل في مناسبات عديدة ـ الأمر الذي لن يكون أبداً في صالح المأمون، ونظام حكمه..

ومن هنا رأيناهعليه‌السلام يجيب الريان عندما سأله عن سر قبوله بولاية العهد، وإظهاره الزهد بالدنيا ـ يجيبه ـ: ببيان أنه مجبر على هذا الأمر، ويذكره بالشروط هذه، التي يعني أنه قد دخل فيه دخول خارج منه، كما تقدم..

وهكذا.. وبعد أن كانعليه‌السلام سلبياً مع النظام، وبعد رفضه لكلا عرضي المأمون، وبعد أن اشترط هذه الشروط للدخول في ولاية العهد، فليس من السهل على المأمون، ولا على أي إنسان آخر أن ينسب إليهعليه‌السلام : أنه رجل دنيا فقط، وأنه ليس زاهدا في الدنيا، وإنما هي التي زهدت فيه.

وعلى كل حال: ورغم كل محاولات المأمون تلك.. فقد استطاع الإمامعليه‌السلام ، بفضل وعيه، ويقظته، وإحكام خطته: أن يبقى القمة الشامخة للزهد، والورع، والنزاهة، والطهر، وكل الفضائل الإنسانية، وإلى الأبد.

الموقف العاشر:

موقفهعليه‌السلام في صلاتي العيد.. ففي إحداهما:

(بعث المأمون له يسأله: أن يصلي بالناس صلاة العيد، ويخطب، لتطمئن قلوب الناس، ويعرفوا فضله، وتقر قلوبهم على هذه الدولة المباركة، فبعث إليه الرضاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال:((قد علمت ما كان بيني وبينك من الشرط في دخولي في هذا الأمر، فأعفني من الصلاة بالناس، فقال المأمون: إنما أريد بهذا أن يرسخ في قلوب العامة، والجند، والشاكرية هذا الأمر، فتطمئن قلوبهم، ويقروا بما فضلك الله تعالى به..

٣٠٥

ولم يزل يراده الكلام في ذلك. فلما ألح عليه قال:يا أمير المؤمنين، إن أعفيتني من ذلك، فهو أحب إلي، وإن لم تعفني خرجت كما كان يخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكما خرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام )) قال المأمون: أخرج كيف شئت..

وأمر المأمون القواد، والحجاب، والناس: أن يبكروا إلى باب أبي الحسنعليه‌السلام ، فقعد الناس لأبي الحسن في الطرقات، والسطوح: من الرجال، والنساء، والصبيان، وصار جميع القواد، والجند إلى بابهعليه‌السلام ، فوقفوا على دوابهم حتى طلعت الشمس.

فلما طلعت الشمس قام الرضاعليه‌السلام فاغتسل، وتعمم بعمامة بيضاء من قطن، وألقى طرفاً منها على صدره، وطرفاً بين كتفيه، ومس شيئاً من الطيب، وتشمر. ثم قال لجميع مواليه:((افعلوا مثل ما فعلت)) .

ثم أخذ بيده عكازة، وخرج، ونحن بين يديه، وهو حاف قد شمر سراويله إلى نصف الساق، وعليه ثياب مشمرة..

فلما قام، ومشينا بين يديه، رفع رأسه إلى السماء، وكبر أربع تكبيرات، فخيل إلينا: أن الهواء والحيطان تجاوبه، والقواد والناس على الباب، قد تزينوا، ولبسوا السلاح، وتهيئوا بأحسن هيئة..

فلما طلعنا عليهم بهذه الصورة: حفاة، قد تشمرنا. وطلع الرضا وقف وقفة على الباب، وقال:((.. الله أكبر، الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام، والحمد لله على ما أبلانا)) . ورفع بذلك صوته، ورفعنا أصواتنا.

فتزعزعت مرو بالبكاء، فقالها: ثلاث مرات، فلما رآه القواد والجند على تلك الصورة، وسمعوا تكبيره سقطوا كلهم من الدواب إلى الأرض، ورموا بخفافهم، وكان أحسنهم حالاً من كان معه سكين قطع بها شرابة جاجيلته ونزعها، وتحفى.. وصارت مرو ضجة واحدة، ولم يتمالك الناس من البكاء والضجة.

فكان أبو الحسن يمشي، ويقف في كل عشر خطوات وقفة يكبر الله أربع مرات: فيتخيل إلينا: أن السماء، والأرض، والحيطان تجاوبه.

وبلغ المأمون ذلك، فقال له الفضل بن سهل ذو الرئاستين: يا أمير المؤمنين: إن بلغ الرضا المصلى على هذا السبيل افتتن به الناس، وخفنا كلنا على دمائنا، فالرأي أن تسأله أن يرجع..

٣٠٦

فبعث المأمون إلى الإمام يقول له: إنه قد كلفه شططا، وأنه ما كان يحب أن يتعبه، ويطلب منه: أن يصلي بالناس من كان يصلي بهم..

فدعا أبو الحسن بخفه، فلبسه، ورجع.

واختلف أمر الناس في ذلك اليوم، ولم ينتظم في صلاتهم إلخ..)(١) .

ولقد قال البحري يصف هذه الحادثة والظاهر أنه يمين بن معاوية العائشي الشاعر على ما في تاج العروس:

ذكـروا بطلعتك النبي، فهللوا

لما طلعت من الصفوف وكبروا

حتى انتهيت إلى المصلى لابساً

نـور الهدى يبدو عليك فيظهر

ومـشيت مشية خاشع متواضع

لـله، ولا يـزهى، ولا يـتكبر

ولـوان مـشتاقا تكلف غير ما

في وسعه لمشى إليك المنبر(٢)

ومما يلاحظ هنا: أنه في هذه المرة أرسل إليه من يطلب منه أن يرجع. ولكننا في مرة أخرى نراه يسارع بنفسه، ويصلي بالناس، رغم تظاهره بالمرض..

وعلى كل حال.. فإننا وإن كنا قد تحدثنا في هذا الفصل، وفي فصل: ظروف البيعة وسنتحدث فيما يأتي عن بعض ما يتعلق بهذه الرواية، إلا أننا سوف نشير هنا إلى نقطتين فقط.. وهما:

١ ـ الأثر العاطفي، والقاعدة الشعبية:

فنلاحظ: أننا حتى بعد مرور اثني عشر قرنا على هذه الواقعة، لا نملك أنفسنا ونحن نقرأ وقائعها، من الانفعال والتأثر بها، فكيف إذن كانت حال أولئك الذين قدر لهم أن يشهدوا ذلك الموقف العظيم؟!.

____________

(١) قد ذكرنا بعض مصادر هذه الرواية في فصل: ظروف البيعة.. فراجع..

(٢) مناقب آل أبي طالب. لابن شهر آشوب ج ٤ ص ٣٧٢، ولكن هذا الشعر ينسب أيضاً للبحتري في المتوكل عندما خرج لصلاة العيد.. وانتحال الشعر، وكذلك الاستشهاد بشعر الآخرين، في المواضع المناسبة ظاهرة شائعة في تلك الفترة ومن يدري فلعل الشعر للبحتري ونسب للبحري أو لعله للبحري وانتحله أو نسب للبحتري، ولعل البحتري قد صحف وصار: البحري.. ولعل العكس.

٣٠٧

وغني عن البيان هنا: أن شأن هذه الواقعة هو شأن واقعة نيشابور، من حيث دلالتها دلالة قاطعة على كل ما كان للرضا من عظمة وتقدير في نفوس الناس وقلوبهم، وعلى مدى اتساع القاعدة الشعبية لهعليه‌السلام ..

٢ ـ لماذا يجازف المأمون بإرجاعهعليه‌السلام :

وإذا كان هدف المأمون من الإصرار على الإمام بأن يصلي بالناس هو أن يخدع الخراسانيين والجند والشاكرية، ويجعلهم يطمئنون على دولته المباركة فإنه من الواضح أيضاً أن إرجاع المأمون للإمامعليه‌السلام في مثل تلك الحالة، وذلك التجمع الهائل، وتلك الثورة العاطفية في النفوس، كان ينطوي على مجازفة ومخاطرة لم تكن لتخفى على المأمون، وأشياعه، حيث لا بد وأن يثير تصرفه هذا حنق تلك الجماهير التي كانت في قمة الهيجان العاطفي، ويؤكد كراهيتها له.. وعلى الأقل لن تكون مرتاحة لتصرفه هذا على كل حال.

وبعد هذا.. فإنه إذا كان المأمون يخشى من مجرد إقامة الإمام للصلاة.. فلا معنى لأن يلح عليه هو بقبولها.. وكذلك لا معنى لأن يخشى ذلك الهيجان العاطفي، وتلك الحالة الروحية، التي أثارها فعل الإمامعليه‌السلام وتصرفه في هذا الموقف.. فذلك إذن ما لم يكن يخافه ويخشاه.. فمن أي شيء خاف المأمون إذن؟! إنه كان يخشى ما هو أعظم وأبعد أثراً، وأشد خطراً.. إنه خشي من أن الرضا إذا ما صعد المنبر، وخطب الناس، بعد أن هيأهم نفسيا، وأثارهم عاطفيا إلى هذا الحد ـ خشي ـ أن يأتي بمتمم لكلامه الذي أورده في نيشابور:((وأنا من شروطها..)) وأنه ظهر إليهم على الهيئة التي كان يخرج عليها النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووصيه عليعليه‌السلام وهو أمر جديد عليهم.. ما من شأنه أن يجعل المأمون وأشياعه لا يأمنون بعد على أنفسهم، كما ذكر الفضل بن سهل.. ولسوف يحول الإمام مرواً من معقل للعباسيين والمأمون، وعاصمة، وحصن قوي لهم ضد أعدائهم ـ من العرب وغيرهم ـ سوف يحولها إلى حصن لأعداء العباسيين والمأمون، حصن لأئمة أهل البيت. ففضل المأمون: أن يختار إرجاعهعليه‌السلام عن الصلاة، لأنه رأى أن ذلك هو أهون الشرين، وأقل الضررين..

ولقد جرب المأمون الرضا أكثر من مرة، وأصبح يعرف أنه مستعد لأن يعلن رأيه صراحة في أي موقف تؤاتيه فيه الفرصة، ويقتضي الأمر فيه ذلك. ولم ينس بعد موقفه في نيشابور، ولا ما كتبه في وثيقة العهد، ولا غير ذلك من مواقفهعليه‌السلام وتصريحاته في مختلف الأحوال والظروف..

٣٠٨

الموقف الحادي عشر:

وأخيراً.. فقد كان سلوك الإمامعليه‌السلام العام، سواء بعد عقد ولاية العهد له، أو قبلها. يمثل ضربة لكل خطط المأمون ومؤامراته، ذلك السلوك المثالي، الذي لم يتأثر بزبارج الحكم وبهارجه.. ويكفي أن نذكر هنا ما وضعه به إبراهيم بن العباس، كاتب القوم وعاملهم، حيث قال: (ما رأيت أبا الحسن جفا أحداً بكلامه قط، وما رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه. وما رد أحداً عن حاجة يقدر عليها، ولا مد رجليه بين يدي جليس له قط. ولا اتكأ بن يدي جليس له قط، ولا شتم أحداً من مواليه ومماليكه قط، ولا رأيته تفل قط، ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط، بل كان ضحكه التبسم. وكان إذا خلا، ونصبت مائدته أجلس معه على مائدته مماليكه، حتى البواب والسائس.

وكان قليل النوم بالليل، يحيى أكثر لياليه من أولها إلى الصبح. وكان كثير الصيام، فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر، ويقول:((ذلك صوم الدهر)) . وكان كثير المعروف والصدقة في السر، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة، فمن زعم أنه رأى مثله في فضله، فلا تصدقوه..)(١) .

وهذه الصفات بلا شك قد أسهمت إسهاماً كبيراً في أن يكون الإمامعليه‌السلام هو الأرضى في الخاصة والعامة، وأن تنفذ كتبه في المشرق والمغرب، إلى غير ذلك مما تقدم..

الحكم ليس امتيازاً وإنما هو مسؤولية:

وقد اعترض عليه بعض أصحابه، عندما رآه يأكل مع خدمه وغلمانه، حتى البواب والسائس، فأجابهعليه‌السلام :((مه، إن الرب تبارك وتعالى واحد، والأم واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال..)) (٢) .

وقال له أحدهم: أنت والله خير الناس، فقال له الإمام:((لا تحلف يا هذا، خير مني من كان أتقى لله تعالى. وأطوع له، والله ما

____________

(١) كلام إبراهيم بن العباس هذا معروف ومشهور، تجده في كثير من كتب التاريخ والرواية، ولذا فلا نرى أننا بحاجة إلى تعداد مصادره.

(٢) البحار ج ٤٩ ص ١٠١، والكافي الكليني، ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

٣٠٩

نسخت هذه الآية: ( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ.. ) )) (١) .

وقال لإبراهيم العباسي إنه لا يرى أن قرابته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجعله خيراً من عبد أسود، إلا أن يكون له عمل صالح فيفضله به(٢) .

وقال رجل له: ما على وجه الأرض أشرف منك إباء. فقال:((التقوى شرفتهم، وطاعة الله أحظتهم))( ٣) .

وما نريد أن نشير إليه ونؤكد عليه هنا، هو أنهعليه‌السلام يريد بذلك أن يفهم الملأ: أن الحكم لا يعطي للشخص ـ من كان، ومهما كان ـ امتيازاً، ولا يجعل له من الحقوق ما ليس لغيره، وإنما الامتياز ـ فقط ـ بالتقوى والفضائل الأخلاقية.. وكل شخص حتى الحاكم سوف يلقى جزاء أعماله: إن خيراً فخير، وإن شرا فشر، وعليه فما يراه الناس من سلوك الحكام، ليس هو السلوك الذي يريده الله، وتحكم به النواميس الأخلاقية، والإنسانية. والامتيازات التي يجعلونها لأنفسهم، ويستبيحون بها ما ليس من حقهم لا يقرها شرع، ولا يحكم بها قانون..

وبكلمة مختصرة: إن الإمامعليه‌السلام يرى: أن الحكم ليس امتيازاً، وإنما هو مسؤولية.

وعلى كل حال.. فإن سلوك الإمامعليه‌السلام ، لخير دليل على ما كان يتمتع به من المزايا الأخلاقية، والفضائل النفسية.. ويكفي أنه لم يظهر منهعليه‌السلام طيلة الفترة التي عاشها في الحكم إلا ما ازداد به فضلاً بينهم، ومحلاً في نفوسهم، على حد تعبير أبي الصلت. وعلى حد تعبير شخص آخر: أقام بينهم لا يشركهم في مأثم من مآثم الحكم.. بل لقد كان لوجوده أثر كبير في تصحيح جملة من الأخطاء والانحرافات التي اعتادها الحكام آنئذٍ.. حتى لقد استطاع أن يؤثر على نفس المأمون، ويمنعه من الشراب والغناء، طيلة الفترة التي عاشها معه، إلى آخر ما هنالك، مما لسنا هنا في صدد تتبعه واستقصائه.

____________

(١) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

(٢) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٧.

(٣) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٦. ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

٣١٠

وفي نهاية المطاف نقول:

وحسبنا هنا ما ذكرنا من الأمثلة، التي نحسب أنها تكفي لأن تلقي ضوءاً كاشفاً على الخطة التي اتبعها الإمامعليه‌السلام في مواجهة خطط المأمون ومؤامراته.. تلك الخطة التي كانت تكفي لأن لا تبقى الصورة التي أرادها المأمون في أذهان الناس، ولا مبرر للشكوك لأن تبقى تراود نفوسهم.

ولقد نجحت تلك الخطة نجاحا أذهل المأمون، وأعوانه، وجعلهم يتصرفون بلا روية، ويقعون بالمتناقضات.. حتى لقد أشرف المأمون منه على الهلاك. حسبما صرح به المأمون نفسه. وكانت النتيجة أن دبر فيه المأمون بما يحسم عنه مواد بلائه، كما وعد حميد بن مهران، وجماعة من العباسيين.

القسم الرابع

من خلال الأحداث

١ ـ مع بعض خطط المأمون..

٢ ـ كاد المريب أن يقول خذوني.

٣ ـ ما يقال حول وفاة الإمام..

٤ ـ دعبل والمأمون.

٥ ـ كلمة ختامية.

مع بعض خطط المأمون

التوجيهات الراضية غير مقبولة:

كل ما تقدم يلقي لنا ضوءاً على بعض نوايا المأمون مع الإمامعليه‌السلام ، وعلى كثير من الأحداث التي اكتنفت ذلك الحدث التاريخي الهام.

وإننا حتى لو سلمنا جدلاً، وغضضنا النظر عن كل تلك الأسئلة، وعلامات الاستفهام التي يمكن استخلاصها مما تقدم.. فإننا لا نستطيع ـ مع ذلك ـ أن نعتبر البيعة صادرة عن حسن نية، وسلامة طوية.

٣١١

ولا أن نقبل بالتوجيهات الراضية عن تصرفاته، طيلة فترة ولاية العهد، وبعدها تجاه الإمام، الذي كان يكبر المأمون بـ (٢٢‍) سنة، والذي كان مجبراً على قبول هذا الأمر، ومهددا بالقتل إن لم يقبل. ولم يتركه وشأنه ما دام أنه لا يريد أن يتقلد هذا الشرف الذي تتهافت النفوس عليه، وتزهق الأرواح من أجله.

نعم.. إننا لا نستطيع أن نسلم بذلك، ونحن نرى منه تلك التصرفات والمواقف المشبوهة، بل والمفضوحة تجاه الإمامعليه‌السلام ، والتي لا تبقي مجالاً للشك في حقيقة نواياه وأهدافه من كل ما أقدم وما كان عاقداً العزم على الإقدام عليه..

وهذا الفصل معقود للحديث عن بعض تلك التصرفات، ومن أجل بيان تلك الخطط.

المأمون يفضح نفسه:

وقد تعجب إذا قلنا لك: إن المأمون نفسه يصرح ببعض خططه، التي كانت تصرفاته تدور في فلكها، ويعلن بعض الدوافع، ويبوح ببعض النوايا تجاه الإمام، وبالنسبة لقضية ولاية العهد فإليك ما أجاب به حميد بن مهران، وجمعاً من العباسيين، عندما عاتبوه ولاموه على ما أقدم عليه، من البيعة للرضاعليه‌السلام يقول المأمون:

(.. قد كان هذا الرجل مستتراً عنا، يدعو إلى نفسه، فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا، وليعتقد فيه المفتونون به بأنه ليس مما ادعى في قليل ولا كثير، وأن هذا الأمر لنا دونه.

وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال: أن ينفتق علينا منه ما لا نسده، ويأتي علينا ما لا نطيقه..

والآن.. فإذ قد فعلنا به ما فعلنا، وأخطأنا في أمره بما أخطأنا. وأشرفنا من الهلاك بالتنويه باسمه على ما أشرفنا، فليس يجوز التهاون في أمره. ولكننا نحتاج إلى أن نضع منه قليلاً، قليلاً، حتى نصوره عند الرعية بصورة من لا يستحق هذا الأمر، ثم ندبر فيه بما يحسم عنا مواد بلائه..).

ثم طلب منه حميد بن مهران: أن يسمح له بمجادلة الإمامعليه‌السلام ، ليفحمه، وينزله منزلته، ويبين للناس قصوره، وعجزه، فقال المأمون: (لا شيء أحب إلي من هذا).

٣١٢

ثم كانت النتيجة عكس ما كان يتوقعه المأمون والعباسيون، وأشياعهم وباءوا كلهم بالفشل الذريع، والخيبة القاتلة(١) .

والذي يعنينا الحديث عنه هنا:

هو قوله: وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال.. إلى آخر ما نقلناه عنه آنفاً، فإنها أوضحت أن المأمون الذي كان يخشى الإمام خشية شديدة، كان يخطط أولاً إلى أخذ زمام المبادرة من الإمام، وتحاشي الاصطدام معه ثم كان يخطط بعد ذلك إلى الوضع منهعليه‌السلام قليلاً قليلاً إلى آخر ما تقدم..

ولا يرد: أن كلام المأمون مع حميد بن مهران ظاهره: أنه لم يكن يريد في بادئ الأمر الحط من الإمامعليه‌السلام ، وإنما بدا له ذلك حين قوي مركز الإمامعليه‌السلام ، واستحكم أمره.. لا يرد ذلك..

لأن كلامه هذا لا ينفي أنه كان يريد من أول الأمر ذلك. بل هو يؤكد ذلك. لأنه يصرح فيه: أنه إنما قدم على ما أقدم عليه، عندما رأى افتتان الناس بهعليه‌السلام ، فأراد أن يعمل عملا يفقد الإمامعليه‌السلام مركزه، ويقضي على كل نشاطاته، ويذهب بماله من القدرة والنفوذ نهائياً، وإلى الأبد.

ولقد تحدثنا فيما سبق عن بعض تصرفاته التي تدور في فلك خطط تلك مثل: فرضه للرقابة على الإمامعليه‌السلام ، والتضييق عليه، فلا يصل إليه إلا من أحب، وعزله عن شيعته ومواليه، وأيضاً تفريقه الناس عنه، عندما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس، وكذلك قضية صلاة العيد، وغير ذلك ما تقدم.

____________

(١) راجع: شرح ميمية أبي فراس ص ١٩٦، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٧٠، والبحار ج ٤٩ ص ١٨٣، ومسند الإمام الرضا ج ٢ ص ٩٦.

٣١٣

نزيد هنا بعض الأمور الأخرى، التي وإن كان قد سبق الحديث عن بعضها، ولكنه كان حديثا من زاوية أخرى، ومن أجل استفادة أمور غير الأمور التي نحاول استفادتها منها هنا. وذلك أمر طبيعي، ولا يكون تكراراً ما دام أن الواقعة الواحدة قد يكون لها دلالات متعددة، وإفادات مختلفة.. ولذا فإننا نقول:

لماذا على البصرة فالأهواز:

إن من جملة الأمور التي كانت من جملة خطط المأمون للتأثير على مكانة الإمامعليه‌السلام وحتى على معنوياته النفسية.. الطريق الذي أمر رجاء ابن أبي الضحاك(١) قرابة الفضل بن سهل، والذي كان من قواد المأمون، وولاته ـ أمره ـ بسلوكه، عندما أرسله ليأتي بالإمامعليه‌السلام من المدينة إلى مرو مهما كلفه الأمر..

فقد أمره: أن يجعل طريقه بالإمام (على البصرة، والأهواز، ففارس. وحذره كثيراً من المرور على طريق الكوفة، والجبل، وقم)(٢) .

____________

(١) وذكر أبو الفرج، والمفيد: أن المرسل هو الجلودي، ولكن الصحيح هو الذي ذكرناه.. إذ من الخطأ أن يرسله المأمون لإحضار الرضاعليه‌السلام ، لأن ذلك يضر بقضيته، ويفسد عليه ما كان دبره، لأنه موجب لسوء ظن الرضاعليه‌السلام ، والعلويين، وسائر الناس، وتنبههم مبكرا لحقيقة الأمر، وواقع القضية.

وذلك لأن الجلودي هو الذي أمره الرشيد: أن يغير على دور آل أبي طالب، ويسلب نساءهم إلخ ما تقدم.. كما أنه كان عدواً متجاهراً للإمامعليه‌السلام ، وقد سجنه المأمون بسبب معارضته للبيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد! ولعل سر خطأهم هو أن الجلودي كان والياً على المدينة من قبل المأمون، حين استقدام المأمون للإمام إلى مرو، حسبما جاء في كتاب: الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ٣٥.

(٢) تهذيب التهذيب ج ٧ ص ٣٨٧، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١٧٦، وينابيع المودة ص ٣٨٤، والخرائج والجرائح طبعة حجرية ص ٢٣٦. وإثبات الوصية ص ٢٠٥.

وإعلام الورى ص ٣٢٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩، ١٨٠، والكافي ج ١ ص ٤٨٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٤٠ والبحار ج ٤٩ ص ٩١، ٩٢ ١١٨ و ١٣٤، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٥، وغير ذلك كثير.

٣١٤

بل لقد ورد: أن المأمون قد كتب إلى الرضا نفسه، يقول له: (لا تأخذ على طريق الجبل وقم. وخذ على طريق البصرة، فالأهواز، ففارس..)(١) .

وسر ذلك واضح، فإن أهل الكوفة، وقم، كانوا معروفين بالتشيع للعلويين(٢) وأهل البيت، ومرور الإمام عليه‌السلام من هذين البلدين، وخصوصاً الكوفة، التي كانت تعتبر من المراكز الحساسة جداً في الدولة.. سوف يكون من نتيجته: أن يستقبله أهلها بما يليق بشأنه: من الإجلال، والإعزاز والتكريم.

____________

(١) أصول الكافي ج ١ ص ٤٨٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩ و ١٨٠، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥، ومعادن الحكمة ص ١٨٠، وإثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٤، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٧٣، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٤.

(٢) تشيع أهل الكوفة وقم أشهر من أن يحتاج إلى بيان، أو إقامة برهان.. لكننا نورد ـ مع ذلك ـ بعض الشواهد، تبصرة للقارئ، فنقول: أما الكوفة: فقد تقدم قول محمد بن علي العباسي أنها وسوادها شيعة علي وولده.. وفي الطبري، وابن الأثير، وغيرهما تجد قول عبد الله بن علي للمنصور، عندما استشاره في أمر محمد بن عبد الله بن الحسن: (.. ارتحل الساعة حتى تأتي الكوفة، فاجثم على أكتافهم، فإنهم شيعة أهل هذا البيت، وأنصاره الخ)، وفي قضية وفاة السيد الحميري، التي ذكرها المرزباني في كتابه أخبار السيد الحميري دلالة واضحة على تشيع الكوفيين، وانحراف البصريين..

ولأجل ذلك نرى المأمون يستقبل وفدا من أهل الكوفة في منتهى الغلظة والجفاء، فراجع مروج الذهب ج ٣ ص ٤٢١. وفي البداية والنهاية ج ١٠ ص ٩٣: أن المنصور قد اعترف بأن لإبراهيم بن عبد الله بن الحسن في الكوفة مئة ألف سيف مغمدة، وأعرب عن مخاوفه من تشيع أهل الكوفة للعلويين، وولائهم لهم.. بل إننا لا نستبعد أن يكون بناء المنصور لبغداد هو من أجل أن يبتعد عن الكوفة، وأهلها، ويأمن على نفسه، قال البلاذري في فتوح البلدان ص ٤٠٥: (أخذ المنصور أهل الكوفة بحفر خندقها. وألزم كل امرئ للنفقة عليه أربعين درهما. وكان ذاما لهم. لميلهم إلى الطالبيين، وإرجافهم بالسلطان..) وقد تقدم أنه عندما ذهب إليهم العباس بن موسى، أخو الإمام الرضاعليه‌السلام يدعوهم للبيعة، لم يجبه إلا البعض منهم، وقال له آخرون: (إن كنت تدعو للمأمون، ثم من بعده لأخيك، فلا حاجة لنا في دعوتك. وإن كنت تدعو إلى أخيك، أو بعض أهل بيتك، أو إلى نفسك أجبناك..).

وعلى كل حال.. فقد كانت الكوفة مصدرا لثورات كثيرة على الأمويين والعباسيين على حد سواء، تلك الثورات التي كانت كلها تقريباً بقيادة علوي، أو داعية إلى علوي..

ولم ينس المأمون بعد ثورة أبي السرايا التي كادت تغير الموازين، وتقلب مجريات الأحداث.. إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه. =

٣١٥

= وأما تشيع القميين، فذلك أعرف وأشهر. وقضيتهم مع جبة دعبل التي أهداه إياه الإمام لا يكاد يجهلها أحد. وعندما طلب المأمون من الريان أن يحدث بفضائل عليعليه‌السلام ، وأجاب بأنه لا يحسن شيئاً، قال المأمون: (سبحان الله! ما أجد أحداً يعينني على هذا الأمر لقد هممت أن أجعل أهل قم شعاري ودثاري).

ولعل تشيع أهل قم هذا هو الذي دفع بالمأمون لأن يوجه إليهم عامله علي بن هشام، لينكل بهم، ويحاربهم حتى يهزمهم، ويدخل البلد، ويهدم سورها، ويجعل على أهلها مبلغ سبعة ملايين درهم، بدلا من مليونين، وهو ما لم يكن يدفعه أي بلد آخر يضاهي بلدهم في عدد السكان وغير ذلك من المميزات، فكيف بالسبعة.. ومع أنه كان قد خفض الخراج عن السواد، وبعد البلدان الأخرى، فلما سمعوا بذلك طالبوا بتخفيض الخراج عنهم أيضاً، ففعل ذلك.. وكان تخفيضه عنهم بزيادة المليونين إلى سبعة، كما قلنا.. راجع في تفصيل ذلك: الطبري ج ١١ ص ١٠٩٣، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ٢١٢، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٥٥، والنجوم الزاهرة ج ٢ ص، ١٩٠ وتاريخ التمدن الإسلامي مجلد ١ جزء ٢ ص ٣٣٧، وفتوح البلدان للبلاذري ص ٤٤٠، وتجارب الأمم ج ٦ ص ٤٦٠.

٣١٦

ولا شك أن الإمامعليه‌السلام سوف يستطيع أن يستقطب المزيد من الناس، ويؤثر عليهم بما حباه الله من الفضائل والكمالات الأخلاقية، وبما آتاه الله من العلم والحكمة، والورع والتقوى، الذي سار ذكره في الآفاق، حتى لا يكاد يجهله أحد.. وإذا كان أهل نيشابور، بل وحتى أهل مرو، معقل العباسيين والمأمون، قد كان منهم تجاه الإمام ما لا يجهله أحد. حتى إنهم كانوا بين صارخ، وباك ومتمرغ في التراب إلخ.. وحتى لقد خاف المأمون وأشياعه على دمائهم ـ إذا كان هؤلاء هكذا ـ فكيف ترى سوف تكون حالة أهل الكوفة وقم، معقلي العلويين، والمحبين لأهل البيت، والمتفانين فيهم، لو أنهم رأوا الإمامعليه‌السلام بينهم، وبالقرب منهم..

يقول الراوندي في ذلك: (إن المأمون أمر رجاء بن أبي الضحاك: أن لا يمر بالإمام عن طريق الكوفة، لئلا يفتتن به أهلها..)(١) !.

والمأمون لا يريد أن يفتتن الناس بالإمام، وإنما الذي يريده هو عكس ذلك تماماً.. إنه يريد أن يضع من الإمام لا أن يرفع.

أما أهل البصرة: فعثمانية، يدينون بالكف، ويقولون: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل.. بل لقد كانت البصرة معقلاً مهما للعباسيين، الذين حرق دورهم زيد النار، ابن الإمام الكاظمعليه‌السلام ، كما قدمنا، ولهذا نلاحظ: أن دور البصريين في التشيع لم يكن يضارع دور غيرهم، لا روائياً، ولا كلامياً..

وأما ما ربما يحتمله البعض: من أن المأمون كان يأمل أن يخرج من البصرة، أو غيرها من يخلصه من الإمامعليه‌السلام نهائياً.. فلا أرى أنه يتفق مع أهداف وأغراض المأمون، التي كان يرمي إليها من وراء لعبته تلك..

____________

(١) الخرائج والجرائح، طبعة حجرية ص ٢٣٦.

٣١٧

الإمام يرفض كل مشاركة تعرض عليه:

إنه برغم شروط الإمام على المأمون، والتي أشرنا إليها فيما سبق، فإننا نرى المأمون كل مدة يحاول أن يجري اختبارا للإمام، ليعرف حقيقة نواياه، وأنه هل أصبح له طمع بالخلافة، وطموح لها(١) ، ليعجل عليه بما يحسم عنه مواد بلائه.. أم لا. فكان يأتي كل مدة إليه، يطلب منه أن يولي فلانا، أو أن يعزل فلاناً، أو أن يصلي بالناس.. بل لقد طلب منه بعد مقتل الفضل أن يساعده في إدارة شؤون الخلافة(٢) بحجة أنه يعجز وحده أن يقوم بأعباء الحكم. ويدير دفة السلطان!

هذا.. إن لم نقل: أنه كان يريد من وراء ذلك: أن يجعل ذلك ذريعة للقضاء على الإمام، بحجة أنه نقض الشرط، وليكون بذلك قد قضى على العلويين جميعاً، وإلى الأبد.

أو على الأقل كان يريد بذلك: أن يوجد للإمام أعداء في الأوساط ذات القوة والنفوذ..

وأياً ما كانت نوايا المأمون وأهدافه، فإن الإمامعليه‌السلام كان يرفض ذلك كله بكل عزم وإصرار، ويذكره بالشروط تلك، ويقول له:((إن وفيت لي وفيت لك)) . وهذا تهديد صريح له من الإمامعليه‌السلام . ولا نعجب كثيراً ـ بعد أن اتضحت لنا نوايا المأمون وأهدافه ـ إذا رأينا المأمون يتحمل هذا التهديد، بل ويخضع له، ويقول: (بل أفي لك)!.

وهكذا.. فقد كان الإمامعليه‌السلام يضيع على المأمون ما كان يحسب أنه فرصة مؤاتية له، ولا يمكنه من معرفة ما يريد معرفته، ولا من تنفيذ ما يريد تنفيذه.

____________

(١) وما أشبه الليلة بالبارحة، فقد رأينا الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، يسأل ابن عباس عن عليعليه‌السلام : إن كان لا يزال يطمح إلى الخلافة، ويأمل فيها.. أم لا!.

(٢) الكافي ج ٨ ص ١٥١، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٨ و ٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٤ و ١٦٦ و ١٦٧ والبحار ج ٤٩ ص ١٤٤ و ١٥٥ و ١٧١، وغير ذلك.

٣١٨

الاختبار لشعبية الإمامعليه‌السلام :

كما أنه كان كل مدة يقوم بعملية اختبار لشعبية الإمامعليه‌السلام ، ولمدى ما يتمتع به من تأييد في الأوساط الشعبية، ليعرف إن كان أصبحعليه‌السلام يشكل خطراً حقيقياً، ليعجل بالقضاء عليه أم لا.. فكان كل مدة يكلفه بأن يؤم الناس بالصلاة للعيد. أو ما شاكل.. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى ما يعتمر قلب المأمون من الخوف والخشية منهعليه‌السلام . (راجع: السبب الثالث من فصل البيعة، والموقف العاشر في فصل: خطة الإمامعليه‌السلام ).

سؤال.. وجوابه:

ولعلك تقول: إذا كان المأمون يخشى الإمامعليه‌السلام إلى هذا الحد، لما يعلمه من نفوذه ومكانته، فلماذا لا يتخلص منه بذلك الأسلوب التقليدي الذي انتهجه أسلافه من الأمويين، والعباسيين، وتبعهم عليه هو فيما بعد، وكذلك من أتى بعده.. وذلك بأن يدس إليه شربة من السم، وهو في المدينة، من دون أن يحتاج إلى اشخاصه إلى مرو، والبيعة له بولاية العهد، وتزويجه ابنته، إلى غير ذلك من الأمور التي من شأنها أن تعزز من مركز الإمام، وترفع من شأنه، وتوجه إليه الأنظار والقلوب، حتى يضطر في نهاية الأمر لأن يعود إلى ما جرت عليه عادة أسلافه، وأتباعه..

ولكن الجواب على هذا قد اتضح مما قدمناه، فإن المأمون لم يكن يريد في بادئ الأمر موت الإمام، ولا كان يستطيع أن يفعل ذلك.

ولو أن ذلك كان قد حدث لوقع المأمون في ورطة، لها أول وليس لها آخر، حيث إنه كان بأمس الحاجة إلى حياة الإمامعليه‌السلام ، وذلك لما قدمناه من الأسباب والظروف التي كانت تحتم على المأمون أن يلعب لعبته تلك، التي وإن كانت تنطوي على مخاطرة جريئة، إلا أنه كان ـ كما قدمنا ـ قد رسم الخطة، وأحكم التدبير للتخلص من الإمامعليه‌السلام بمجرد أن يحقق مآربه، وأهدافه، بالطريقة التي لا تثير شك أحد، ولا توجب تهمة أحد، وقد حدث ذلك بالفعل، كما سيمر علينا..

وأما كتمه لفضائل الإمامعليه‌السلام :

ومن جملة الأمور التي كانت تدور في فلك خطة المأمون، التي لخصها بأنه يريد الوضع من الإمام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ محاولاته كتم فضائل الإمامعليه‌السلام ومزاياه عن الناس ما استطاع إلى ذلك سبيلاً..

٣١٩

وقد تقدم: أنه عندما سأل رجاء بن أبي الضحاك، الذي تولى إشخاص الرضاعليه‌السلام من المدينة إلى مرو، عن حال الرضاعليه‌السلام في الطريق، فأخبره عما شاهده من عبادتهعليه‌السلام ، وزهده وتقواه، وما ظهر له من الدلائل والبراهين، قال له المأمون: (.. بلى يا ابن أبي الضحاك، هذا خير أهل الأرض، وأعلمهم، وأعبدهم، فلا تخبر أحداً بما شهدت منه، لئلا يظهر فضله إلا على لساني..)!.

وهكذا: فإن المأمون وإن استطاع أن يمرر الكثير، إلا أنه لم يكن يجد بداً في كثير من الأحيان من أن يظهر على حقيقته وواقعه. وهذا هو أحد تلك المواقف التي مرت وسيمر معنا بعضها، والتي اضطر فيها المأمون لأن يكشف عن وجهه الحقيقي،.. وإن كان قد حاول ـ مع ذلك ـ أن يتستر بما لا يسمن ولا يغني من جوع.

ولا أعتقد أن المأمون كان يجهل: أن ما يأتي به لم يكن لينطلي كله على أعين الناس، بل كان يعلم ذلك حق العلم، ولكن كما يقولون: (الغريق يتشبث بالطحلب).

ولكن.. بالرغم من محاولات المأمون تلك.. فإننا نرى أن فضائل الإمام ومزاياه كانت كالعرف الطيب، لم تزل تظهر، وتنتشر وتذاع.. بل ولعل محاولات المأمون تلك التي كانت ترمي للحط من الإمام وإسقاطه، قد أسهمت كثيراً وساعدت على إظهار فضائله، وشيوعها، كما سيتضح.

الشائعات الكاذبة!

وكان بالإضافة إلى ما تقدم يحاول ترويج شائعات كاذبة، من شأنها أن تنفر الناس من العلويين عامة، ومن الإمامعليه‌السلام ، وسائر الأئمةعليهم‌السلام خاصة.

فهذا أبو الصلت يسأل الإمامعليه‌السلام فيقول: (يا ابن رسول الله، ما شيء يحكيه الناس عنكم؟!.

قالعليه‌السلام :((ما هو؟!.

قال: يقولون: إنكم تدعون: أن الناس لكم عبيد!.

قالعليه‌السلام :يا عبد السلام، إذا كان الناس كلهم عبيدنا ـ على ما حكوه ـ فممن نبيعهم)) ؟! إلخ(١) .

____________

(١) مسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٥، والبحار ج ٤٩ ص ١٧٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٨٤.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568