الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن6%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219910 / تحميل: 7013
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

و لا يرد عليه ما قيل: إنّ نزول هذه الآيات كان حيث لا صلاة أصلاً و ذلك أنّ تشريع الفرائض الخمس اليوميّة على ما هي عليها اليوم و إن كان في ليلة المعراج و هي جميعاً عشر ركعات ثمّ زيد عليها سبع ركعات إلّا أنّ أصل الصلاة كان منذ أوائل البعثة كما يشهد به ذكرها في هذه السورة و سورتي العلق و المزّمّل، و يدلّ عليه الروايات.

و قيل: المراد بتطهير الثياب التخلّق بالأخلاق الحميدة و الملكات الفاضلة.

و في معنى تطهير الثياب أقوال اُخر أغمضنا عن نقلها لإمكان إرجاعها إلى بعض ما تقدّم من الوجوه، و أرجح الوجوه المتقدّمة أوّلها و خامسها.

قوله تعالى: ( وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) قيل: الرجز بضمّ الراء و كسرها العذاب، و المراد بهجره هجر سببه و هو الإثم و المعصية، و المعنى اهجر الإثم و المعصية.

و قيل: الرجز اسم لكلّ قبيح مستقذر من الأفعال و الأخلاق فالأمر بهجره أمر بترك كلّ ما يكرهه الله و لا يرتضيه مطلقاً، أو أمر بترك خصوص الأخلاق الرذيلة الذميمة على تقدير أن يكون المراد بتطهير الثياب ترك الذنوب و المعاصي.

و قيل: الرجز هو الصنم فهو أمر بترك عبادة الأصنام.

قوله تعالى: ( وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ) الّذي يعطيه سياق الآيات و يناسب المقام أن يكون المراد بالمنّ تكدير الصنيعة بذكرها للمنعم عليه كما في قوله تعالى:( لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى) البقرة: ٢٦٤، و قوله:( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ) الحجرات: ١٧ و المراد بالاستكثار رؤية الشي‏ء و حسبانه كثيراً لا طلب الكثرة.

و المعنى: لا تمنن امتثالك لهذه الأوامر و قيامك بالإنذار و تكبيرك ربّك و تطهيرك ثيابك و هجرك الرجز حال كونك ترى ذلك كثيرا و تعجبه - فإنّما أنت عبد لا تملك من نفسك شيئاً إلّا ما ملّكك الله و أقدرك عليه و هو المالك لما ملّكك و القادر على ما عليه أقدرك فله الأمر و عليك الامتثال -.

١٦١

و للقوم في الآية وجوه اُخر من التفسير لا تلائم السياق تلك الملاءمة فقيل المعنى لا تعط عطيّة لتعطى أكثر منها.

و قيل: المعنى لا تمنن ما أعطاك الله من النبوّة و القرآن على الناس مستكثراً به الأجر.

و قيل: أي لا تمنن إبلاغ الرسالة على اُمتك.

و قيل: المعنى لا تضعف في عملك مستكثراً لطاعاتك.

و قيل: المعنى لا تمنن بعطائك على الناس مستكثراً له.

و قيل: أي إذا أعطيت عطيّة فأعطها لربّك و اصبر حتّى يكون هو الّذي يثيبك.

و قيل: هو نهي عن الربا المحرّم أي لا تعط شيئاً طالباً أن تعطي أكثر ممّا أعطيت.

قوله تعالى: ( وَ لِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ) أي لوجه ربّك، و الصبر مطلق يشمل الصبر عند المصيبة و الصبر على الطاعة و الصبر عن المعصية، و المعنى و لوجه ربّك فاصبر عند ما يصيبك من المصيبة و الأذى في قيامك بالإنذار و امتثالك هذه الأوامر و اصبر على طاعة الله و اصبر عن معصيته، و هذا معنى جامع لمتفرّقات ما ذكروه في تفسير الآية كقول بعضهم: إنّه أمر بنفس الفعل من غير نظر إلى متعلّقه، و قول بعضهم: إنّه الصبر على أذى المشركين، و قول بعضهم: إنّه الصبر على أداء الفرائض، إلى غير ذلك.

١٦٢

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج الطيالسي و عبدالرزّاق و أحمد و عبد بن حميد و البخاريّ و مسلم و الترمذيّ و ابن الضريس و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه و ابن الأنباريّ في المصاحف عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أباسلمة بن عبدالرحمن عن أوّل ما نزل من القرآن فقال: يا أيّها المدّثّر قلت: يقولون:( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) ؟ فقال أبوسلمة: سألت جابر بن عبدالله عن ذلك، قلت له مثل ما قلت. قال جابر: لا اُحدّثك إلّا ما حدّثنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال: جاورت بحراء فلمّا قضيت جواري نوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً و نظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، و نظرت خلفي فلم أر شيئاً فرفعت رأسي فإذا الملك الّذي جاءني بحراء جالس على كرسيّ بين السماء و الأرض فجثت منه رعبا فرجعت فقلت: دثّروني دثّروني فنزلت:( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ - إلى قوله -وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) .

أقول: الحديث معارض بالأحاديث الآخر الدالّة على كون سورة اقرأ أوّل ما نزل من القرآن و يؤيّدها سياق سورة اقرأ، على أنّ قوله:( فإذا الملك الّذي جاءني بحراء) يشعر بنزول الوحي عليه قبلاً.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة: قلنا: يا رسول الله كيف نقول إذا دخلنا في الصلاة؟ فأنزل الله( وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ ) فأمرنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن نفتتح الصلاة بالتكبير.

أقول: و في الرواية شي‏ء فأبو هريرة ممّن آمن بعد الهجرة بكثير و السورة ممّا نزل في أوّل البعثة فأين كان أبوهريرة أو الصحابة يومئذ؟.

و في الخصال، عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام في حديث الأربعمائة: تشمير الثياب طهور لها قال الله تبارك و تعالى:( وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) يعني فشمّر.

١٦٣

أقول: و في المعنى عدّة أخبار مرويّة في الكافي، و المجمع، عن أبي جعفر و أبي عبدالله و أبي الحسنعليهم‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم و صحّحه و ابن مردويه عن جابر قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول:( وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) برفع الراء، و قال: هي الأوثان.

أقول: و قوله:( هي الأوثان) من كلام جابر أو غيره من رجال السند.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ) و في رواية أبي الجارود يقول: لا تعط تلتمس أكثر منها.

١٦٤

( سورة المدّثّر الآيات ٨ - ٣١)

فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ( ٨ ) فَذَٰلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ( ٩ ) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ( ١٠ ) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ( ١١ ) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا ( ١٢ ) وَبَنِينَ شُهُودًا ( ١٣ ) وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ( ١٤ ) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ( ١٥ ) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا ( ١٦ ) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ( ١٧ ) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ( ١٨ ) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ( ١٩ ) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ( ٢٠ ) ثُمَّ نَظَرَ ( ٢١ ) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ( ٢٢ ) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ( ٢٣ ) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ( ٢٤ ) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ( ٢٥ ) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ( ٢٦ ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ( ٢٧ ) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ ( ٢٨ ) لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ ( ٢٩ ) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ( ٣٠ ) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ ( ٣١ )

١٦٥

( بيان‏)

في الآيات وعيد شديد للطاعنين في القرآن الرامين له بأنّه سحر و المستهزئين لبعض ما فيه من الحقائق.

قوله تعالى: ( فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ) النقر القرع و الناقور ما ينقر فيه للتصويت، و النقر في الناقور كالنفخ في الصور كناية عن بعث الموتى و إحضارهم لفصل القضاء يوم القيامة و الجملة شرطيّة جزاؤها قوله:( فذلك ) إلخ.

قوله تعالى: ( فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ) الإشارة بقوله:( فَذلِكَ ) إلى زمان نقر الناقور و لا يبعد أن يكون المراد بيومئذ يوم إذ يرجعون إلى الله للحساب و الجزاء أو يوم إذ يرجع الخلائق إلى الله فيكون ظرفاً ليوم نقر الناقور فمن الجائز أن تعتبر قطعة من الزمان ظرفاً لبعض أجزائه كالسنة تجعل ظرفاً للشهر و الشهر يجعل ظرفاً لليوم لنوع من العناية أو يعتبر زمان متعدّداً مختلفاً باختلاف صفاته أو الحوادث الواقعة فيه ثمّ يجعل باعتبار بعض صفاته ظرفاً لنفسه باعتبار صفة اُخرى.

و المعنى فزمان نقر الناقور الواقع في يوم رجوع الخلائق إلى الله زمان عسير على الكافرين أو زمان نقر الناقور زمان عسير على الكافرين في يوم الرجوع - بناء على كون قوله:( يَوْمَئِذٍ ) قيداً لقوله:( فَذلِكَ ) أو لقوله:( يَوْمٌ ) -.

و قال في الكشّاف: فإن قلت: بم انتصب إذا و كيف صحّ أن يقع يومئذ ظرفاً ليوم عسير؟ قلت: انتصب إذا بما دلّ عليه الجزاء لأنّ المعنى إذا نقر في الناقور عسر الأمر على الكافرين، و الّذي أجاز وقوع يومئذ ظرفاً ليوم عسير أنّ المعنى فذلك وقت النقر وقوع يوم عسير لأنّ يوم القيامة يأتي و يقع حين ينقر في الناقور. انتهى.

و قال: و يجوز أن يكون يومئذ مبنيّاً مرفوع المحلّ بدلاً من ذلك، و يوم عسير خبر كأنّه قيل: فيوم النقر يوم عسير. انتهى.

١٦٦

و قوله:( غَيْرُ يَسِيرٍ ) وصف آخر ليوم مؤكّد لعسره و يفيد أنّه عسير من كلّ وجه من وجه دون وجه.

قوله تعالى: ( ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ) كلمة تهديد و قد استفاض النقل أنّ الآية و ما يتلوها إلى تمام عشرين آية نزلت في الوليد بن المغيرة، و ستأتي قصّته في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله تعالى.

و قوله:( وَحِيداً ) حال من فاعل( خَلَقْتُ ) و محصّل المعنى: دعني و من خلقته حال كوني وحيداً لا يشاركني في خلقه أحد ثمّ دبّرت أمره أحسن التدبير، و لا تحل بيني و بينه فأنا أكفيه.

و من المحتمل أن يكون حالاً من مفعول( ذَرْنِي ) . و قيل: حال من مفعول خلقت المحذوف و هو ضمير عائد إلى الموصول، و محصّل المعنى دعني و من خلقته حال كونه وحيداً لا مال له و لا بنون، و احتمل أيضاً أن يكون( وَحِيداً ) منصوباً بتقدير( أذم) و أحسن الوجوه أوّلها.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً ) أي مبسوطاً كثيراً أو ممدوداً بمدد النماء.

قوله تعالى: ( وَ بَنِينَ شُهُوداً ) أي حضوراً يشاهدهم و يتأيّد بهم، و هو عطف على قوله:( مالًا ) .

قوله تعالى: ( وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ) التمهيد التهيئة و يتجوّز به عن بسطة المال و الجاه و انتظام الاُمور.

قوله تعالى: ( ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً ) أي ثمّ يطمع أن أزيد فيما جعلت له من المال و البنين و مهّدت له من التمهيد.

و قوله:( كَلَّا ) ردع له، و قوله:( إِنَّهُ كانَ ) إلخ تعليل المردع، و العنيد المعاند المباهي بما عنده، قيل، ما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله و ولده حتّى هلك.

١٦٧

قوله تعالى: ( سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ) الإرهاق الغشيان بالعنف، و الصعود عقبة الجبل الّتي يشقّ مصعدها شبّه ما سيناله من سوء الجزاء و مرّ العذاب بغشيانه عقبة وعر صعبة الصعود.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ) التفكير معروف، و التقدير عن تفكير نظم معان و أوصاف في الذهن بالتقديم و التأخير و الوضع و الرفع لاستنتاج غرض مطلوب، و قد كان الرجل يهوى أن يقول في أمر القرآن شيئاً يبطل به

دعوته و يرضي به قومه المعاندين ففكّر فيه أ يقول: شعر أو كهانة أو هذرة جنون أو أسطورة فقدّر أن يقول: سحر من كلام البشر لأنّه يفرّق بين المرء و أهله و ولده و مواليه.

و قوله:( فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ) دعا عليه على ما يعطيه السياق نظير قوله:( قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) التوبة: ٣٠.

و قوله:( ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ) تكرار للدعاء تأكيداً.

قوله تعالى: ( ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ) تمثيل لحاله بعد التكفير و التقدير و هو من ألطف التمثيل و أبلغه.

فقوله:( ثُمَّ نَظَرَ ) أي ثمّ نظر بعد التفكير و التقدير نظرة من يريد أن يقضي في أمر سئل أن ينظر فيه - على ما يعطيه سياق التمثيل -.

و قوله:( ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ ) العبوس تقطيب الوجه، قال في المجمع: و عبس يعبس عبوساً إذا قبض وجهه و العبوس و التكليح و التقطيب نظائر و ضدّها الطلاقة و البشاشة، و قال: و البسور بدء التكرّه في الوجه انتهى، فالمعنى ثمّ قبض وجهه و أبداً التكرّه في وجهه بعد ما نظر.

و قوله:( ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اسْتَكْبَرَ ) الإدبار عن شي‏ء الإعراض عنه، و الاستكبار الامتناع كبراً و عتوّاً، و الأمران أعني الإدبار و الاستكبار من الأحوال الروحيّة، و إنّما رتّبا في التمثيل على النظر و العبوس و البسور و هي أحوال صوريّة محسوسة لظهورهما

١٦٨

بقوله:( إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ ) إلخ، و لذا عطف قوله:( فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ) بالفاء دون( ثُمَّ ) .

و قوله:( فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ) أي أظهر إدباره و استكباره بقوله مفرّعاً عليه:( إِنْ هذا - أي القرآن -إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ) أي يروي و يتعلّم من السحرة.

و قوله:( إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ) أي ليس بكلام الله كما يدّعيه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قيل: إنّ هذه الآية كالتأكيد للآية السابقة و إن اختلفتا معنى لأنّ المقصود منهما نفي كونه قرآناً من كلام الله، و باعتبار الاتّحاد في المقصود لم تعطف الجملة على الجملة.

قوله تعالى: ( سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَ ما أَدْراكَ ما سَقَرُ لا تُبْقِي وَ لا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ ) أي ساُدخله سقر و سقر من أسماء جهنّم في القرآن أو دركة من دركاتها، و جملة( سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ) بيان أو بدل من قوله:( سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ) .

و قوله:( وَ ما أَدْراكَ ما سَقَرُ ) تفخيم لأمرها و تهويل.

و قوله:( لا تُبْقِي وَ لا تَذَرُ ) قضيّة إطلاق النفي أن يكون المراد أنّها لا تبقي شيئاً ممّن نالته إلّا أحرقته، و لا تدع أحداً ممّن اُلقي فيها إلّا نالته بخلاف نار الدنيا الّتي ربّما تركت بعض ما اُلقي فيها و لم تحرقه، و إذا نالت إنساناً مثلاً نالت جسمه و صفاته الجسميّة و لم تنل شيئاً من روحه و صفاته الروحيّة، و أمّا سقر فلا تدع أحداً ممّن اُلقي فيها إلّا نالته قال تعالى:( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى ) المعارج: ١٧، و إذا نالته لم تبق منه شيئاً من روح أو جسم إلّا أحرقته قال تعالى:( نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ) الهمزة: ٧.

و يمكن أن يراد أنّها لا تبقيهم أحياء و لا تتركهم يموتون فيكون في معنى قوله تعالى:( الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى‏ ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى) الأعلى: ١٣.

و قيل: المعنى لا تبقي شيئاً يلقى فيها إلّا أهلكته، و إذا هلك لم تذره هالكاً

١٦٩

حتّى يعاد فيعذّب ثانياً.

و قيل: المراد أنّها لا تبقي لهم لحماً و لا تذر عظماً، و قيل غير ذلك.

قوله تعالى: ( لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ) اللوّاحة من التلويح بمعنى تغيير اللون إلى السواد و قيل: إلى الحمرة، و البشر جمع بشرة بمعنى ظاهر الجلد.

قوله تعالى: ( عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ ) يتولّون أمر عذاب المجرمين و قد اُبهم و لم يصرّح أنّهم من الملائكة أو غيرهم غير أنّ المستفاد من آيات القيامة - و تصرّح به الآية التالية - أنّهم من الملائكة.

و قد استظهر بعضهم أنّ مميّز قوله:( تِسْعَةَ عَشَرَ ) ملكاً ثمّ قال: أ لا ترى العرب و هم الفصحاء كيف فهموا منه ذلك فقد روي عن ابن عبّاس: أنّها لمّا نزلت( عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ ) قال أبوجهل لقريش: ثكلتكم اُمّهاتكم أ سمع ابن أبي كبشة يخبركم أنّ خزنة النار تسعة عشر و أنتم الدهم أ يعجز كلّ عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم؟ فقال أبو الأسد بن أسيد بن كلدة الجمحيّ و كان شديد البطش: أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين انتهى، و أنت ترى أن لا دليل في كلامه على ما يدّعيه. على أنّه سمّي الواحد من الخزنة رجلاً و لا يطلق الرجل على الملك البتّة و لا سيمّا عند المشركين الّذين قال تعالى فيهم:( وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ) الزخرف: ١٩.

قوله تعالى: ( وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً ) إلى آخر الآية. سياق الآية يشهد على أنّهم تكلّموا فيما ذكر في الآية من عدد خزّان النار فنزلت هذه الآية، و يتأيّد بذلك ما ورد من سبب النزول و سيوافيك في البحث الروائيّ التالي.

فقوله:( وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً ) المراد بأصحاب النار خزنتها الموكّلون عليها المتولّون لتعذيب المجرمين فيها كما يفيده قوله:( عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ ) و يشهد بذلك قوله بعد:( وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً ) إلخ.

و محصّل المعنى: أنّا جعلناهم ملائكة يقدرون على ما اُمروا به كما قال:

١٧٠

( عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) التحريم: ٦.

فليسوا من البشر حتّى يرجوا المجرمون أن يقاوموهم و يطيقوهم.

و قوله:( وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) الفتنة المحنة و الاختبار. ذكروا أنّ المراد بالجعل الجعل بحسب الإخبار دون الجعل بحسب التكوين فالمعنى و ما أخبرنا عن عدّتهم أنّها تسعة عشر إلّا ليكون فتنة للّذين كفروا، و يؤيّده ذيل الكلام:( لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) إلخ.

و قوله:( لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) الاستيقان وجدان اليقين في النفس أي ليوقن أهل الكتاب بأنّ القرآن النازل عليك حقّ حيث يجدون ما أخبرنا به من عدّة أصحاب النار موافقاً لما ذكر فيما عندهم من الكتاب.

و قوله:( وَ يَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً ) أي بسبب ما يجدون من تصديق أهل الكتاب ذلك.

و قوله:( وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلًا ) اللّام في( لِيَقُولَ ) للعاقبة بخلاف اللّام في( لِيَسْتَيْقِنَ ) فللتعليل بالغاية، و الفرق أنّ قولهم:( ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلًا ) تحقير و تهكّم و هو كفر لا يعدّ غاية لفعله سبحانه إلّا بالعرض بخلاف الاستيقان الّذي هو من الإيمان، و لعلّ اختلاف المعنيين هو الموجب لإعادة اللّام في قوله:( وَ لِيَقُولَ ) .

و قد فسّروا( الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) بالشّكّ و الجحود بالمنافقين و فسّروا الكافرين بالمتظاهرين بالكفر من المشركين و غيرهم.

و قولهم:( ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلًا ) أرادوا به التحقير و التهكّم يشيرون بهذا إلى قوله تعالى:( عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ ) و المثل الوصف، و المعنى ما الّذي يعنيه من وصف الخزنة بأنّهم تسعة عشر؟ فهذه العدّة القليلة كيف تقوى على تعذيب أكثر الثقلين من الجنّ و الإنس؟

١٧١

( ذنابة لما تقدّم من الكلام في النفاق‏)

ذكر بعضهم أنّ قوله تعالى:( وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) الآية - بناء على أنّ السورة بتمامها مكّيّة، و أنّ النفاق إنّما حدث بالمدينة - إخبار عمّا سيحدث من المغيّبات بعد الهجرة انتهى.

أمّا كون السورة بتمامها مكّيّة فهو المتعيّن من طريق النقل و قد ادّعي عليه إجماع المفسّرين، و ما نقل عن مقاتل أنّ قوله:( وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً ) الآية مدنيّ لم يثبت من طريق النقل، و على فرض الثبوت هو قول نظري مبنيّ على حدوث النفاق بالمدينة و الآية تخبر عنه.

و أمّا حديث حدوث النفاق بالمدينة فقد أصرّ عليه بعضهم محتجّاً عليه بأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المسلمين لم يكونوا قبل الهجرة من القوّة و نفوذ الأمر و سعة الطول بحيث يهابهم الناس أو يرجى منهم خير حتّى يتّقوهم و يظهروا لهم الإيمان و يلحقوا بجمعهم مع إبطان الكفر و هذا بخلاف حالهم بالمدينة بعد الهجرة.

و الحجّة غير تامّة - كما أشرنا إليه في تفسير سورة المنافقون في كلام حول النفاق - فإنّ علل النفاق ليست تنحصر في المخافة و الاتّقاء أو الاستدرار من خير معجّل فمن علله الطمع و لو في نفع مؤجّل و منها العصبيّة و الحميّة و منها استقرار العادة و منها غير ذلك.

و لا دليل على انتفاء جميع هذه العلل عن جميع من آمن بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة قبل الهجرة و قد نقل عن بعضهم أنّه آمن ثمّ رجع أو آمن عن ريب ثمّ صلح.

على أنّه تعالى يقول:( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَ لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَ وَ لَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ وَ لَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ ) العنكبوت: ١١.

و الآيتان في سورة مكّيّة و هي سورة العنكبوت، و هما ناطقتان بوجود النفاق فيها و مع الغضّ عن كون السورة مكّيّة فاشتمال الآية على حديث الإيذاء في الله

١٧٢

و الفتنة أصدق شاهد على نزول الآيتين بمكّة فلم يكن بالمدينة إيذاء في الله و فتنة، و اشتمال الآية على قوله:( وَ لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ ) إلخ لا يدلّ على النزول بالمدينة فللنصر مصاديق اُخرى غير الفتح المعجّل.

و احتمال أن يكون المراد بالفتنة ما وقعت بمكّة بعد الهجرة غير ضائر فإنّ هؤلاء المفتونين بمكّة بعد الهجرة إنّما كانوا من الّذين آمنوا بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل الهجرة و إن اُوذوا بعدها.

و على مثل ذلك ينبغي أن يحمل قوله تعالى:( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى‏ حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى‏ وَجْهِهِ ) الحجّ: ١١ إن كان المراد بالفتنة العذاب و إن كانت السورة مدنيّة.

و قوله:( كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) الإشارة بذلك إلى مضمون قوله:( وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً ) إلخ.

و قوله:( وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ) علّق تعالى العلم المنفيّ بالجنود - و هي الجموع الغليظة الّتي خلقهم وسائط لإجراء أوامره - لا بخصوص عدّتهم فأفاد بإطلاقه أنّ العلم بحقيقتهم و خصوصيّات خلقتهم و عدّتهم و ما يعملونه من عمل و دقائق الحكمة في جميع ذلك يختصّ به تعالى لا يشاركه فيه أحد، فليس لأحد أن يستقلّ عدّتهم أو يستكثر أو يطعن في شي‏ء ممّا يرجع إلى صفاتهم و هو جاهل بها.

و قوله:( وَ ما هِيَ إِلَّا ذِكْرى‏ لِلْبَشَرِ ) الضمير راجع إلى ما تقدّم من قوله:( عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ ) و تأنيثه لتأنيث الخبر، و المعنى أنّ البشر لا سبيل لهم إلى العلم بجنود ربّك و إنّما أخبرنا عن خزنة النار أنّ عدّتهم تسعة عشر ليكون ذكرى لهم يتّعظون بها.

و قيل: الضمير للجنود، و قيل: لسقر، و قيل للسورة، و قيل: لنار الدنيا و هو أسخف الأقوال.

و في الآية دلالة على أنّ الخطابات القرآنيّة لعامّة البشر.

١٧٣

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ - إلى قوله -وَحِيداً ) فإنّها نزلت في الوليد بن المغيرة و كان شيخاً كبيراً مجرّباً من دهاة العرب، و كان من المستهزئين برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقعد في الحجر و يقرأ القرآن فاجتمعت قريش إلى الوليد بن المغيرة فقالوا: يا أبا عبد شمس ما هذا الّذي يقول محمّد؟ أ شعر هو أم كهانة أم خطب؟ فقال: دعوني أسمع كلامه فدنا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا محمّد أنشدني من شعرك قال: ما هو شعر و لكنّه كلام الله الّذي ارتضاه لملائكته و أنبيائه و رسله فقال: اُتل عليّ منه شيئاً!

فقرأ عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حم السجدة فلمّا بلغ قوله:( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ ) قال: فاقشعرّ الوليد و قامت كلّ شعرة في رأسه و لحيته، و مرّ إلى بيته و لم يرجع إلى قريش من ذلك.

فمشوا إلى أبي جهل فقالوا: يا أبا الحكم إنّ أبا عبد شمس صبا إلى دين محمّد أ ما تراه لم يرجع إلينا فغدا أبو جهل إلى الوليد فقال: يا عمّ نكست رؤسنا و فضحتنا و أشمتّ بنا عدوّنا و صبوت إلى دين محمّد، فقال: ما صبوت إلى دينه و لكنّي سمعت كلاماً صعباً تقشعرّ منه الجلود فقال له أبوجهل: أ خطب هو؟ قال: لا إنّ الخطب كلام متّصل و هذا كلام منثور و لا يشبه بعضه بعضاً. قال: أ فشعر هو؟ قال: لا أمّا إنّي لقد سمعت أشعار العرب بسيطها و مديدها و رملها و رجزها و ما هو بشعر. قال: فما هو؟ قال: دعني اُفكّر فيه.

فلمّا كان من الغد قالوا له: يا أعبد شمس ما تقول فيما قلناه؟ قال: قولوا: هو سحر فإنّه آخذ بقلوب الناس فأنزل على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك:( ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ) .

١٧٤

و إنّما سمّي وحيداً لأنّه قال لقريش: أنا أتوحّد لكسوة البيت سنة و عليكم في جماعتكم سنة، و كان له مال كثير و حدائق، و كان له عشر بنين بمكّة، و كان له عشرة عبيد عند كلّ عبد ألف دينار يتّجر بها و تلك القنطار في ذلك الزمان، و يقال: إنّ القنطار جلد ثور مملوّء ذهباً.

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم و صحّحه و البيهقيّ في الدلائل من طريق عكرمة عن ابن عبّاس أنّ الوليد بن المغيرة جاء إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقرأ عليه القرآن فكأنّه رقّ له فبلغ ذلك أباجهل فأتاه فقال: يا عمّ إنّ قومك يريدون أن يجعلوا لك مالاً ليعطوه لك فإنّك أتيت محمّداً لتصيب ممّا عنده. قال: قد علمت قريش أنّي من أكثرها مالاً.

قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنّك منكر أو أنّك كاره له، قال: و ما ذا أقول فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر منّي لا برجزه و لا بقصيده و لا بأشعار الجنّ و الله ما يشبه الّذي يقول شيئاً من هذا، و و الله إنّ لقوله الّذي يقوله حلاوة و إنّ عليه لطلاوة، و إنّه لمثمر أعلاه، و مغدق أسفله، و إنّه ليعلو و لا يعلى، و إنّه ليحطم ما تحته.

قال: لا يرضى عنك قومك حتّى تقول فيه قال: دعني حتّى اُفكّر فلمّا فكّر قال ما هو إلّا سحر يؤثر يأثره عن غيره فنزلت:( ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ) .

و في المجمع، روى العيّاشيّ بإسناده عن زرارة و حمران و محمّد بن مسلم عن أبي عبدالله و أبي جعفرعليهما‌السلام أنّ الوحيد ولد الزنا. قال زرارة: ذكر لأبي جعفرعليه‌السلام عن أحد بني هشام أنّه قال في خطبته: أنا ابن الوحيد فقال: ويله لو علم ما الوحيد ما فخر بها فقلنا له، و ما هو؟ قال، من لا يعرف له أب.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و ابن المنذر و الترمذيّ و ابن أبي الدنيا في صفة النار و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن حيّان و الحاكم و صحّحه و البيهقيّ في البعث

١٧٥

عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال، الصعود جبل في النار يصعد فيه الكافر سبعين خريفاً ثمّ يهوي و هو كذلك فيه أبداً.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى،( ثُمَّ عَبَسَ ) قال، عبس وجهه( وَ بَسَرَ ) قال، ألقى شدقه(١) .

____________________

(١) زاوية الفم.

١٧٦

( سورة المدّثّر الآيات ٣٢ - ٤٨)

كَلَّا وَالْقَمَرِ ( ٣٢ ) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ( ٣٣ ) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ( ٣٤ ) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ ( ٣٥ ) نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ ( ٣٦ ) لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ( ٣٧ ) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ( ٣٨ ) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ ( ٣٩ ) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ ( ٤٠ ) عَنِ الْمُجْرِمِينَ ( ٤١ ) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ( ٤٢ ) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ( ٤٣ ) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ( ٤٤ ) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ( ٤٥ ) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ( ٤٦ ) حَتَّىٰ أَتَانَا الْيَقِينُ ( ٤٧ ) فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ( ٤٨ )

( بيان‏)

في الآيات تنزيه للقرآن الكريم عمّا رموه به، و تسجيل أنّه إحدى الآيات الإلهيّة الكبرى فيه إنذار البشر كافّة و في اتّباعه فكّ نفوسهم عن رهانة أعمالهم الّتي تسوقهم إلى سقر.

قوله تعالى: ( كَلَّا ) ردع و إنكار لما تقدّم قال في الكشّاف: إنكار بعد أن جعلها ذكرى أن يكون لهم ذكرى لأنّهم لا يتذكّرون، أو ردع لمن ينكر أن يكون إحدى الكبر نذيراً. انتهى. فعلى الأوّل إنكار لما تقدّم و على الثاني ردع لما سيأتي، و هناك وجه آخر سيوافيك.

قوله تعالى: ( وَ الْقَمَرِ وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَ الصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ ) قسم بعد قسم، و إدبار الليل مقابل إقباله، و إسفار الصبح انجلاؤه و انكشافه.

١٧٧

قوله تعالى: ( إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ ) ذكروا أنّ الضمير لسقر، و الكبر جمع كبري، و المراد بكون سقر إحدى الكبر أنّها إحدى الدواهي الكبر لا يعادلها غيرها من الدواهي كما يقال: هو أحد الرجال أي لا نظير له بينهم، و الجملة جواب للقسم.

و المعنى اُقسم بكذا و كذا إنّ سقر لإحدى الدواهي الكبر - أكبرها - إنذاراً للبشر.

و لا يبعد أن يكون( كَلَّا ) ردعاً لقوله في القرآن:( إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ) و يكون ضمير( إِنَّها ) للقرآن بما أنّه آيات أو من باب مطابقة اسم إنّ لخبرها.

و المعنى: ليس كما قال اُقسم بكذا و كذا أنّ القرآن - آياته - لإحدى الآيات الإلهيّة الكبرى إنذاراً للبشر.

و قيل: الجملة( إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ ) تعليل للردع، و القسم معترض للتأكيد لا جواب له أو جوابه مقدّر يدلّ عليه كلّا.

قوله تعالى: ( نَذِيراً لِلْبَشَرِ ) مصدر بمعنى الإنذار منصوب للتمييز، و قيل: حال ممّا يفهم من سياق قوله:( إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ ) أي كبرت و عظمت حالكونها إنذاراً أي منذرة.

و قيل فيه وجوه اُخر لا يعبأ بها كقول بعضهم: إنّه صفة للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الآية متّصلة بأوّل السورة و التقدير قم نذيراً للبشر فأنذر، و قول بعضهم: صفة له تعالى.

قوله تعالى: ( لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ) تعميم للإنذار و( لِمَنْ شاءَ ) بدل من البشر، و( أَنْ يَتَقَدَّمَ ) إلخ مفعول( شاءَ ) و المراد بالتقدّم و التأخّر: الاتّباع للحقّ و مصداقه الإيمان و الطاعة، و عدم الاتّباع و مصداقه الكفر و المعصية.

و المعنى: نذيراً لمن اتّبع منكم الحقّ و لمن لم يتّبع أي لجميعكم من غير استثناء.

و قيل:( أَنْ يَتَقَدَّمَ ) في موضع الرفع على الابتداء و( لِمَنْ شاءَ ) خبره كقولك لمن توضّأ أن يصلّي، و المعنى مطلق لمن شاء التقدّم أو التأخّر أن يتقدّم أو يتأخّر، و

١٧٨

هو كقوله.( فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ) و المراد بالتقدّم و التأخّر السبق إلى الخير و التخلّف عنه انتهى.

قوله تعالى: ( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) الباء بمعنى مع أو للسببيّة أو للمقابلة و( رَهِينَةٌ ) بمعنى الرهن على ما ذكره الزمخشريّ قال في الكشّاف: رهينة ليست بتأنيث رهين في قوله:( كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ ) لتأنيث النفس لأنّه لو قصدت لقيل: رهين لأنّ فعيلاً بمعنى مفعول يستوي فيه المذكّر و المؤنّث، و إنّما هي اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم كأنّه قيل: كلّ نفس بما كسبت رهن. انتهى.

و كأنّ العناية في عدّ كلّ نفس رهينة أنّ لله عليها حقّ العبوديّة بالإيمان و العمل الصالح فهي رهينة محفوظة محبوسة عند الله حتّى توفّي دينه و تؤدّي حقّه تعالى فإن آمنت و صلحت فكّت و اُطلقت، و إن كفرت و أجرمت و ماتت على ذلك كانت رهينة محبوسة دائماً، و هذا غير كونها رهين عملها ملازمة لما اكتسبت من خير و شرّ كما تقدّم في قوله تعالى:( كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ ) الطور: ٢١.

و الآية في مقام بيان وجه التعميم المستفاد من قوله:( نَذِيراً لِلْبَشَرِ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ) فإنّ كون النفس الإنسانيّة رهينة بما كسبت يوجب على كلّ نفس أن تتّقي النار الّتي ستحبس فيها إن أجرمت و لم تتّبع الحقّ.

قوله تعالى: ( إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ ) هم الّذين يؤتون كتابهم بأيمانهم يوم الحساب و هم أصحاب العقائد الحقّة و الأعمال الصالحة من متوسّطي المؤمنين، و قد تكرّر ذكرهم و تسميتهم بأصحاب اليمين في مواضع من كلامه تعالى، و على هذا فالاستثناء متّصل.

و المتحصّل من مجموع المستثنى منه و المستثنى انقسام النفوس ذوات الكسب إلى نفوس رهينة بما كسبت و هي نفوس المجرمين، و نفوس مفكوكة من الرهن مطلقة و هي نفوس أصحاب اليمين، و أمّا السابقون المقرّبون و هم الّذين ذكرهم الله في مواضع من كلامه و عدّهم ثالثة الطائفتين و غيرهما كما في قوله تعالى:( وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً

١٧٩

- إلى أن قال -وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) الواقعة: ١١، فهؤلاء قد استقرّوا في مستقرّ العبوديّة لا يملكون نفساً و لا عمل نفس فنفوسهم لله و كذلك أعمالهم فلا يحضرون و لا يحاسبون قال تعالى:( فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافّات: ١٢٨، فهم خارجون عن المقسم رأساً.

و عن بعضهم تفسير أصحاب اليمين بالملائكة، و عن بعضهم التفسير بأطفال المسلمين و عن بعضهم أنّهم الّذين كانوا عن يمين آدم يوم الميثاق، و عن بعضهم أنّهم الّذين سبقت لهم من الله الحسنى، و هي وجوه ضعيفة غير خفيّة الضعف.

قوله تعالى: ( فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ) ( فِي جَنَّاتٍ ) خبر لمبتدإ محذوف و تنوين جنّات للتعظيم، و التقدير هم في جنّات لا يدرك وصفها، و يمكن أن يكون حالاً من أصحاب اليمين.

و قوله:( يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ) أي يتساءل جمعهم عن جمع المجرمين.

و قوله:( ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ) أي ما أدخلكم في سقر بيان لتساؤلهم من بيان الجملة بالجملة، أو بتقدير القول أي قائلين ما سلككم في سقر.

قوله تعالى: ( قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ) ضمير الجمع للمجرمين، و المراد بالصلاة التوجّه العبادي الخاصّ إلى الله سبحانه فلا يضرّه اختلاف الصلاة كمّاً و كيفاً باختلاف الشرائع السماويّة الحقّة.

قوله تعالى: ( وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ) المراد بإطعام المسكين الإنفاق على فقراء المجتمع بما يقوم به صلبهم و يرتفع به حاجتهم، و إطعام المسكين إشارة إلى حقّ الناس عملاً كما أنّ الصلاة إشارة إلى حقّ الله كذلك.

قوله تعالى: ( وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ ) المراد بالخوض الاشتغال بالباطل قولاً أو فعلاً و الغور فيه.

قوله تعالى: ( وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ) و هو يوم الجزاء فهذه خصال أربع من طبع المجرم أن يبتلي بها كلّاً أو بعضاً، و لمّا كان المجيب عن التساؤل جمع المجرمين صحّت نسبة الجميع إلى الجميع و إن كان بعضهم مبتلى ببعضها دون بعض.

١٨٠

قوله تعالى: ( حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ ) قيد للتكذيب، و فسّروا اليقين بالموت لكونه ممّا لا شكّ فيه فالمعنى و كنّا في الدنيا نكذّب بيوم الجزاء حتّى أتانا الموت فانقطعت به الحياة الدنيا أي كنّا نكذّب به ما دامت الحياة.

و قيل: المراد به اليقين الحاصل بحقّيّة يوم الجزاء بمشاهدة آيات الآخرة و معاينة الحياة البرزخيّة حين الموت و بعده، و هو معنى حسن.

قوله تعالى: ( فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ ) تقدّم في بحث الشفاعة أنّ في الآية دلالة على أنّ هناك شافعين يشفعون فيشفّعون لكن لا تنفع هؤلاء شفاعتهم لأنّهم محرومون من نيلها.

و قد أوردنا جملة من أخبار الشفاعة في الجزء الأوّل من الكتاب.

١٨١

( سورة المدّثّر الآيات 49 - 56)

فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ( 49 ) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ ( 50 ) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ ( 51 ) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفًا مُّنَشَّرَةً ( 52 ) كَلَّا بَل لَّا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ ( 53 ) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ( 54 ) فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ ( 55 ) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَىٰ وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ( 56 )

( بيان‏)

في معنى الاستنتاج ممّا تقدّم من الوعيد و الوعد اُورد في صورة التعجّب من إعراضهم عن تذكرة القرآن و تنفّرهم عن الحقّ الصريح كأنّه قيل: فإذا كان كذلك فعليهم أن يجيبوا دعوة الحقّ و يتذكّروا بالتذكرة فمن العجب أنهم معرضون عن ذلك كلّا بل لا يؤمنون بالرسالة و يريد كلّ امرئ منهم أن ينزل عليه كتاب من الله. كلّا بل لا يخافون الآخرة فلا يرتدعون عن وعيد.

ثمّ يعرض عليهم التذكرة عرضاً فهم على خيرة من القبول و الردّ فإن شاؤا قبلوا و إن شاؤا ردّوا، لكن عليهم أن يعلموا أنّهم غير مستقلّين في مشيّتهم و ليسوا بمعجزين لله سبحانه فليس لهم أن يذكروا إلّا أن يشاء الله، و حكم القدر جار فيهم البتّة.

قوله تعالى: ( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ) تفريع على ما تقدّم من التذكرة و الموعظة، و الاستفهام للتعجيب، و( لَهُمْ ) متعلّق بمحذوف و التقدير فما كان لهم: و( مُعْرِضِينَ ) حال من ضمير( لَهُمْ ) و( عَنِ التَّذْكِرَةِ ) متعلّق بمعرضين.

١٨٢

و المعنى: فإذا كان كذلك فأيّ شي‏ء كان - عرض - للمشركين الّذين يكذّبون بتذكرة القرآن حال كونهم معرضين عنها أي كان من الواجب عليهم أن يصدّقوا و يؤمنوا لكنّهم أعرضوا عنها و هو من العجب.

قوله تعالى: ( كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ) تشبيه لهم من حيث حالهم في الإعراض عن التذكرة، و الحمر جمع حمار، و المراد الحمر الوحشيّة و الاستنفار بمعنى النفرة و القسورة الأسد و الصائد، و قد فسّر بكلّ من المعنيين.

و المعنى: معرضين عن التذكرة كأنّهم حمر وحشيّة نفرت من أسد أو من الصائد.

قوله تعالى: ( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) المراد بالصحف المنشّرة الكتاب السماويّ المشتمل على الدعوة الحقّة.

و في الكلام إضراب عمّا ذكر من إعراضهم، و المعنى ليس إعراضهم عن التذكرة لمجرّد النفرة بل يريد كلّ امرئ منهم أن ينزّل عليه كتاب من عند الله مشتمل على ما تشتمل عليه دعوة القرآن.

و هذه النسبة إليهم كناية عن استكبارهم على الله سبحانه أنّهم إنّما يقبلون دعوته و لا يردّونها لو دعا كلّ واحد منهم بإنزال كتاب سماويّ إليه مستقلّاً و أمّا الدعوة من طريق الرّسالة فليسوا يستجيبونها و إن كانت حقّة مؤيّدة بالآيات البيّنة.

فالآية في معنى ما حكاه الله سبحانه من قولهم:( لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى‏ مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ) الأنعام: 124، و في معنى قول الاُمم لرسلهم:( إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ) على ما قرّرنا من حجّتهم على نفي رسالة الرسل.

و قيل: إنّ الآية في معنى قولهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي حكاه الله في قوله:( وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ) إسراء: 93.

و يدفعه أنّ مدلول الآية أن ينزل على كلّ واحد منهم صحف منشّرة غير ما ينزل على غيره لا نزول كتاب واحد من السماء على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرؤه الجميع كما هو مدلول آية الإسراء.

١٨٣

و قيل: المراد نزول كتب من السماء عليهم بأسمائهم أن آمنوا بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و قيل: المراد أن ينزل عليهم كتب من السماء بالبراءة من العذاب و إسباغ النعمة حتّى يؤمنوا و إلّا بقوا على كفرهم و قيل غير ذلك.

و هي جميعاً معان بعيدة من السياق و التعويل على ما تقدّم.

قوله تعالى: ( كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ ) ردع لهم بما يريدونه من نزول كتاب سماويّ على كلّ واحد منهم فإنّ دعوة الرسالة مؤيّدة بآيات بيّنة و حجج قاطعة لا تدع ريباً لمرتاب فالحجّة تامّة قائمة على الرسول و غيره على حدّ سواء من غير حاجة إلى أن يؤتى كلّ واحد من الناس المدعوّين صحفاً منشّرة.

على أنّ الرسالة تحتاج من طهارة الذات و صلاحيّة النفس إلى ما يفقده نفوس سائر الناس كما هو مدلول جوابه تعالى في سورة الأنعام عن قولهم:( لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى‏ مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ) بقوله:( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) .

و قوله:( بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ ) إضراب عن قوله:( يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ ) إلخ، و المراد أنّ اقتراحهم نزول كتاب على كلّ امرئ منهم قول ظاهريّ منهم يريدون به صرف الدعوة عن أنفسهم، و السبب الحقيقيّ لكفرهم و تكذيبهم بالدعوة أنّهم لا يخافون الآخرة، و لو خافوها لآمنوا و لم يقترحوا آية بعد قيام الحجّة بظهور الآيات البيّنات.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ) ردع ثان لاقتراحهم نزول كتاب سماويّ لكلّ امرئ منهم، و المعنى لا ننزل كتاباً كذلك إنّ القرآن تذكرة و موعظة نعظهم به لا نريد به أزيد من ذلك، و أثر ذلك ما أعدّ للمطيع و العاصي عندنا من الجزاء.

قوله تعالى: ( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) أي فمن شاء اتّعظ به فإنّما هي دعوة في ظرف الاختيار من غير إكراه.

قوله تعالى: ( وَ ما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) دفع لما يمكن أن يتوهّموه من قوله تعالى:( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) أنّ الأمر إليهم و أنّهم

١٨٤

مستقلّون في إرادتهم و ما يترتّب عليها من أفعالهم فإن لم يشاؤا الذكر و لم يذكروا غلبوه تعالى فيما أراد و أعجزوه فيما شاء من ذكرهم.

و المحصّل من الدفع أنّ حكم القدر جاء في أفعالهم كغيرها من الحوادث، و تذكّرهم إن تذكّروا و إن كان فعلاً اختياريّاً صادراً عنهم باختيارهم من غير إكراه فالمشيّة الإلهيّة متعلّقة به بما هو اختياريّ بمعنى أنّ الله تعالى يريد بإرادة تكوينيّة أن يفعل الإنسان الفعل الفلانيّ بإرادته و اختياره فالفعل اختياريّ ممكن بالنسبة إلى الإنسان و هو بعينه متعلّق الإرادة الإلهيّة ضروريّ التحقّق بالنسبة إليها و لولاها لم يتحقّق.

و قوله:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) أي أهل لأن يتّقى منه لأنّ له الولاية المطلقة على كلّ شي‏ء، و بيده سعادة الإنسان و شقاوته، و أهل لأن يغفر لمن اتّقاه لأنّه غفور رحيم.

و الجملة أعني قوله:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) صالحة لتعليل ما تقدّم من الدعوة في قوله:( إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) و هو ظاهر، و لتعليل قوله:( وَ ما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) فإنّ كونه تعالى أهل التقوى و أهل المغفرة لا يتمّ إلّا بكونه ذا إرادة نافذة فيهم سارية في أعمالهم فليسوا بمخلّين و ما يهوونه و هم معجزون لله بتمرّدهم و استكبارهم.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله تعالى:( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) و ذلك أنّهم قالوا: يا محمّد قد بلغنا أنّ الرجل من بني إسرائيل كان يذنب الذنب فيصبح و ذنبه مكتوب عند رأسه و كفّارته.

فنزل جبرئيل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قال: يسألك قومك سنّة بني إسرائيل

١٨٥

في الذنوب فإن شاؤا فعلنا ذلك بهم و أخذناهم بما كنّا نأخذ بني إسرائيل فزعموا أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كره ذلك لقومه.

أقول: و القصّة لا تلائم لحن الآية و الرواية لا تخلو من إيماء إلى ضعف القصّة.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن السدّيّ عن أبي صالح قال: قالوا: إن كان محمّد صادقاً فليصبح تحت رأس كلّ رجل منّا صحيفة فيها براءته و أمنته من النار فنزلت:( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) .

أقول: سياق الآيات و ما فيها من الردع لا يلائم القصّة.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن مجاهد( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) قال: إلى فلان بن فلان من ربّ العالمين يصبح عند رأس كلّ رجل صحيفة موضوعة يقرؤها.

أقول: ما في الرواية يقبل الانطباق على الرواية السابقة و على ما قدّمناه من معنى الآية.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن قتادة في قوله تعالى:( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) قال: قد قال قائلون من الناس لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن سرّك أن نتابعك فأتنا بكتاب خاصّة يأمرنا باتّباعك.

أقول: الرواية قابلة التطبيق لما في تفسير الآية من القول بأنّ الآية في معنى قوله تعالى:( وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ ) الآية و قد تقدّم ما فيه.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) قال: هو أهل أن يتّقى و أهل أن يغفر.

و في التوحيد، بإسناده إلى أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) قال: قال الله عزّوجلّ: أنا أهل أن اُتّقى و لا يشرك بي عبدي شيئاً و أنا أهل إن لم يشرك بي عبدي شيئاً أن اُدخله الجنّة.

١٨٦

و قال: إنّ الله تبارك و تعالى أقسم بعزّته و جلاله أن لا يعذّب أهل توحيده بالنار.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن عبدالله بن دينار قال: سمعت أباهريرة و ابن عمر و ابن عبّاس يقولون: سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قول الله:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) قال: يقول الله: أنا أهل أن اُتّقى فلا يُجعل معي شريك فإذا اتّقيت و لم يجعل معي شريك فأنا أهل أن أغفر ما سوى ذلك.

أقول: و في معناه غير واحد من الروايات عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١٨٧

( سورة القيامة مكّيّة و هي أربعون آية)

( سورة القيامة الآيات 1 - 15)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ( 1 ) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ( 2 ) أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ( 3 ) بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ( 4 ) بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ( 5 ) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ( 6 ) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ( 7 ) وَخَسَفَ الْقَمَرُ ( 8 ) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ( 9 ) يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ( 10 ) كَلَّا لَا وَزَرَ ( 11 ) إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ( 12 ) يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ( 13 ) بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ( 14 ) وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ ( 15 )

( بيان‏)

يطوف بيان السورة حول القيامة الكبرى فتنبئ بوقوع يوم القيامة أوّلاً ثمّ تصفه ببعض أشراطه تارة، و بإجمال ما يجري على الإنسان اُخرى، و ينبئ أنّ المساق إليه يبدأ من يوم الموت، و تختتم بالاحتجاج على القدرة على الإعادة بالقدرة على الابتداء.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ ) إقسام بيوم القيامة سواء قيل بكون( لا أُقْسِمُ ) كلمة قسم أو بكون لا زائدة أو نافية على اختلاف الأقوال.

قوله تعالى: ( وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) إقسام ثان على ما يقتضيه السياق و مشاكلة اللفظ فلا يعبأ بما قيل: أنّه نفي الأقسام و ليس بقسم، و المراد اُقسم بيوم

١٨٨

القيامة و لا اُقسم بالنفس اللوّامة.

و المراد بالنفس اللوّامة نفس المؤمن الّتي تلومه في الدنيا على المعصية و التثاقل في الطاعة و تنفعه يوم القيامة.

و قيل: المراد به النفس الإنسانيّة أعمّ من المؤمنة الصالحة و الكافرة الفاجرة فإنّها تلوم الإنسان يوم القيامة أمّا الكافرة فإنّها تلومه على كفره و فجوره، و أمّا المؤمنة فإنّها تلومه على قلّة الطاعة و عدم الاستكثار من الخير.

و قيل. المراد نفس الكافر الّتي تلومه يوم القيامة على ما قدّمت من كفر و معصية قال تعالى:( وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ ) يونس: 54.

و لكلّ من الأقوال وجه.

و جواب القسم محذوف يدلّ عليه الآيات التالية، و التقدير ليبعثنّ، و إنّما حذف للدلالة على تفخيم اليوم و عظمة أمره قال تعالى:( ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ) الأعراف: 187 و قال:( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى‏ كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) طه: 15 و قال:( عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ) النبأ: 1.

قوله تعالى: ( أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ) الحسبان الظنّ، و جمع العظام كناية عن الإحياء بعد الموت، و الاستفهام للتوبيخ، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( بَلى‏ قادِرِينَ عَلى‏ أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ ) أي بلى نجمعها( و قادِرِينَ ) حال من فاعل مدخول بلى المقدّر، و البنان أطراف الأصابع و قيل: الأصابع و تسوية البنان تصويرها على ما هي عليها من الصور، و المعنى بلى نجمعها و الحال أنّا قادرون على أن نصوّر بنانه على صورها الّتي هي عليها بحسب خلقنا الأوّل.

و تخصيص البنان بالذكر - لعلّه - للإشارة إلى عجيب خلقها بما لها من الصور و خصوصيّات التركيب و العدد تترتّب عليها فوائد جمّة لا تكاد تحصى من أنواع القبض و البسط و الأخذ و الردّ و سائر الحركات اللطيفة و الأعمال الدقيقة و الصنائع الظريفة الّتي يمتاز بها الإنسان من سائر الحيوان مضافاً إلى ما عليها من الهيئات و الخطوط الّتي لا يزال ينكشف للإنسان منها سرّ بعد سرّ.

١٨٩

و قيل: المراد بتسوية البنان جعل أصابع اليدين و الرجلين مستوية شيئاً واحداً من غير تفريق كخفّ البعير و حافر الحمار، و المعنى قادرين على أن نجعلها شيئاً واحداً فلا يقدر الإنسان حينئذ على ما يقدر عليه مع تعدّد الأصابع من فنون الأعمال، و الوجه المتقدّم أرجح.

قوله تعالى: ( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) قال الراغب: الفجر شقّ الشي‏ء شقّاً واسعاً. قال: و الفجور شقّ ستر الديانة يقال: فجر فجوراً فهو فاجر و جمعه فجّار و فجرة. انتهى، و أمام ظرف مكان أستعير لمستقبل الزمان، و المراد من فجوره أمامه فجوره مدى عمره و ما دام حيّاً، و ضمير( أَمامَهُ ) للإنسان.

و قوله:( لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) تعليل سادّ مسدّ معلّله و هو التكذيب بالبعث و الإحياء بعد الموت، و( بَلْ ) إضراب عن حسبانه عدم البعث و الإحياء بعد الموت.

و المعنى: أنّه لا يحسب أن لن نجمع عظامه بل يريد أن يكذّب بالبعث ليفجر مدى عمره إذ لا موجب للإيمان و التقوى لو لم يكن هناك بعث للحساب و الجزاء.

هذا ما يعطيه السياق في معنى الآية، و لهم وجوه اُخر ذكروها في معنى الآية بعيدة لا تلائم السياق أغمضنا عن ذكرها.

و ذكر الإنسان في الآية من وضع الظاهر موضع الضمير و النكتة فيه زيادة التوبيخ و المبالغة في التقريع، و قد كرّر ذلك في الآية و ما يتلوها من الآيات أربع مرّات.

قوله تعالى: ( يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ ) الظاهر أنّه بيان لقوله:( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) فيفيد التعليل و أنّ السائل في مقام التكذيب و السؤال سؤال تكذيب إذ من الواجب على من دعي إلى الإيمان و التقوى، و اُنذر بهذا النبإ العظيم مع دلالة الآيات البيّنة و قيام الحجج القاطعة أن يتّخذ حذره و يتجهّز بالإيمان و التقوى و يتهيّأ للقاء اليوم قريباً كان أو بعيداً فكلّ ما هو آت قريب لا أن يسأل متى تقوم الساعة؟ و أيّان يوم القيامة؟ فليس إلّا سؤال مكذّب مستهزئ.

قوله تعالى: ( فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَ خَسَفَ الْقَمَرُ وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ ) ذكر

١٩٠

جملة من أشراط الساعة، و بريق البصر تحيّره في إبصاره و دهشته، و خسوف القمر زوال نوره.

قوله تعالى: ( يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ) أي أين موضع الفرار، و قوله:( أَيْنَ الْمَفَرُّ ) مع ظهور السلطنة الإلهيّة له و علمه بأن لا مفرّ و لا فرار يومئذ من باب ظهور ملكاته يومئذ فقد كان في الدنيا يسأل عن المفرّ إذا وقع في شدّة أو هدّدته مهلكة و ذلك كإنكارهم الشرك يومئذ و حلفهم كذباً قال تعالى:( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَ اللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) الأنعام: 23، و قال:( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ ) المجادلة: 18.

قوله تعالى: ( كَلَّا لا وَزَرَ ) ردع عن طلبهم المفرّ، و الوزر الملجأ من جبل أو حصن أو غيرهما، و هو من كلامه تعالى لا من تمام كلام الإنسان.

قوله تعالى: ( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ) الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و تقديم( إِلى‏ رَبِّكَ‏ ) و هو متعلّق بقوله:( الْمُسْتَقَرُّ ) يفيد الحصر فلا مستقرّ إلى غيره فلا وزر و لا ملجأ يلتجأ إليه فيمنع عنه.

و ذلك أنّ الإنسان سائر إليه تعالى كما قال:( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) الانشقاق: 6 و قال:( إِنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الرُّجْعى‏ ) العلق: 8 و قال:( وَ أَنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الْمُنْتَهى‏ ) النجم: 42، فهو ملاقي ربّه راجع و منته إليه لا حاجب يحجبه عنه و لا مانع يمنعه منه و أمّا الحجاب الّذي يشير إليه قوله:( كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) المطفّفين: 15 فسياق الآيتين يعطي أنّ المراد به حجاب الحرمان من الكرامة لا حجاب الجهل أو الغيبة.

و يمكن أن يكون المراد بكون مستقرّه إليه رجوع أمر ما يستقرّ فيه من سعادة أو شقاوة و جنّة أو نار إلى مشيّته تعالى فمن شاء جعله في الجنّة و هم المتّقون و من شاء جعله في النار و هم المجرمون قال تعالى:( يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ ) المائدة: 40.

١٩١

و يمكن أن يراد به أنّ استقرارهم يومئذ إلى حكمه تعالى فهو النافذ فيهم لا غير قال تعالى:( كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) القصص: 88.

قوله تعالى: ( يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَ أَخَّرَ ) المراد بما قدّم و أخّر ما عمله من حسنة أو سيّئة في أوّل عمره و آخره أو ما قدّمه على موته من حسنة أو سيّئة و ما أخّر من سنّة حسنة سنّها أو سنّة سيّئة فيثاب بالحسنات و يعاقب على السيّئات.

و قيل: المراد بما قدّم ما عمله من حسنة أو سيّئة فيثاب على الأوّل و يعاقب على الثاني، و بما أخّر ما تركه من حسنة أو سيّئة فيعاقب على الأوّل و يثاب على الثاني، و قيل، المراد ما قدّم من المعاصي و ما أخّر من الطاعات، و قيل، ما قدّم من طاعة الله و أخّر من حقّه فضيّعه، و قيل: ما قدّم من ماله لنفسه و ما ترك لورثته و هي وجوه ضعيفة بعيدة عن الفهم.

قوله تعالى: ( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ‏ ) إضراب عن قوله،( يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ‏ ) إلخ، و البصيرة رؤية القلب و الإدراك الباطنيّ و إطلاقها على الإنسان من باب زيد عدل أو التقدير الإنسان ذو بصيرة على نفسه.

و قيل: المراد بالبصيرة الحجّة كما في قوله تعالى،( ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بَصائِرَ ) إسراء: 102 و الإنسان نفسه حجّة على نفسه يومئذ حيث يسأل عن سمعه و بصره و فؤاده و يشهد عليه سمعه و بصره و جلده و يتكلّم يداه و رجلاه، قال تعالى:( إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا ) إسراء: 36، و قال( شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ ) حم السجدة: 20. و قال،( وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ ) يس: 65.

و قوله:( وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ‏ ) المعاذير جمع معذرة و هي ذكر موانع تقطع عن الفعل المطلوب، و المعنى هو ذو بصيرة على نفسه و لو جادل عن نفسه و اعتذر بالمعاذير لصرف العذاب عنها.

١٩٢

و قيل: المعاذير جمع معذار و هو الستر، و المعنى و إن أرخى الستور ليخفي ما عمل فإنّ نفسه شاهدة عليه و مآل الوجهين واحد.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) قال: نفس آدم الّتي عصت فلامها الله عزّوجلّ.

أقول: و في انطباقها على الآية خفاء.

و فيه، في قوله:( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) قال: يقدّم الذنب و يؤخّر التوبة و يقول: سوف أتوب.

و فيه، في قوله:( فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ ) قال: يبرق البصر فلا يقدر أن يطرف.

و فيه، في قوله تعالى:( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ‏ ) قال: يعلم ما صنع و إن اعتذر.

و في الكافي، بإسناده عن عمر بن يزيد قال: إنّي لأتعشّى مع أبي عبداللهعليه‌السلام و تلا هذه الآية( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ‏ ) ، ثمّ قال: يا أبا حفص ما يصنع الإنسان أن يعتذر إلى الناس بخلاف ما يعلم الله منه؟ إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول: من أسرّ سريرة ألبسه الله رداها إن خيراً فخير و إن شرّاً فشرّ.

و في المجمع، و روى العيّاشيّ بإسناده عن محمّد بن مسلم عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: ما يصنع أحدكم أن يظهر حسناً و يستر سيّئاً؟ أ ليس إذا رجع إلى نفسه يعلم أنّه ليس كذلك؟ و الله سبحانه يقول:( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) إنّ السريرة إذا صلحت قويت العلانية.

أقول: و رواه في اُصول الكافي، بإسناده عن فضل أبي العبّاس عنهعليه‌السلام .

و فيه، عن العيّاشيّ عن زرارة قال، سألت أباعبداللهعليه‌السلام ما حدّ المرض الّذي يفطر صاحبه؟ قال،( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) هو أعلم بما يطيق.

أقول: و رواه في الفقيه، أيضاً.

١٩٣

( سورة القيامة الآيات 16 - 40)

لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ( 16 ) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ( 17 ) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ( 18 ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ( 19 ) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ( 20 ) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ ( 21 ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ( 22 ) إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ( 23 ) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ( 24 ) تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ( 25 ) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ( 26 ) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ( 27 ) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ( 28 ) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ( 29 ) إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ( 30 ) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّىٰ ( 31 ) وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ( 32 ) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ ( 33 ) أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ ( 34 ) ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ ( 35 ) أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ( 36 ) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ ( 37 ) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ ( 38 ) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ ( 39 ) أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ ( 40 )

( بيان‏)

تتمّة صفة يوم القيامة باعتبار حال الناس فيه و انقسامهم إلى طائفة ناضرة الوجوه مبتهجين و اُخرى باسرة الوجوه عابسين آيسين من النجاة، و الإشارة إلى أنّ هذا

١٩٤

المساق تبتدئ من حين نزول الموت ثمّ الإشارة إلى أنّ الإنسان لا يترك سدىً فالّذي خلقه أوّلاً قادر على أن يحييه ثانياً و به تختتم السورة.

قوله تعالى: ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ‏ - إلى قوله -ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) الّذي يعطيه سياق الآيات الأربع بما يحفّها من الآيات المتقدّمة و المتأخّرة الواصفة ليوم القيامة أنّها معترضة متضمّن أدباً إلهيّاً كلّف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتأدّب به حينما يتلقّى ما يوحى إليه من القرآن الكريم فلا يبادر إلى قراءة ما لم يقرأ بعد و لا يحرّك به لسانه و ينصت حتّى يتمّ الوحي.

فالآيات الأربع في معنى قوله تعالى:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) طه: 114.

فالكلام في هذه الآيات يجري مجرى قول المتكلّم منّا أثناء حديثه لمخاطبه إذا بادر إلى تتميم بعض كلام المتكلّم باللفظة و اللفظتين قبل أن يلفظ بها المتكلم و ذلك يشغله عن التجرّد للإنصات فيقطع المتكلّم حديثه و يعترض و يقول لا تعجل بكلامي و أنصت لتفقه ما أقول لك ثمّ يمضي في حديثه.

فقوله:( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ‏ ) الخطاب فيه للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و الضميران للقرآن الّذي يوحى إليه أو للوحي، و المعنى لا تحرّك بالوحي لسانك لتأخذه عاجلاً فتسبقنا إلى قراءة ما لم نقرأ بعد فهو كما مرّ في معنى قوله:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) طه: 114.

و قوله:( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ‏ ) القرآن ههنا مصدر كالفرقان و الرجحان، و الضميران للوحي، و المعنى لا تعجل به إذ علينا أن نجمع ما نوحيه إليك بضمّ بعض أجزائه إلى بعض و قراءته عليك فلا يفوتنا شي‏ء منه حتّى يحتاج إلى أن تسبقنا إلى قراءة ما لم نوحه بعد.

و قيل: المعنى إنّ علينا أن نجمعه في صدرك بحيث لا يذهب عليك شي‏ء من معانيه و أن نثبت قراءته في لسانك بحيث تقرأه متى شئت و لا يخلو من بعد.

و قوله:( فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏ ) أي فإذا أتممنا قراءته عليك وحياً فاتّبع

١٩٥

قراءتنا له و اقرأ بعد تمامها.

و قيل: المراد باتّباع قرآنه اتّباعه ذهناً بالإنصات و التوجّه التامّ إليه و هو معنى لا بأس به.

و قيل: المراد فاتّبع في الأوامر و النواهي قرآنه، و قيل: المراد اتّباع قراءته بالتكرار حتّى يرسخ في الذهن و هما معنيان بعيدان.

و قوله:( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) أي علينا إيضاحه عليك بعد ما كان علينا جمعه و قرآنه فثمّ للتأخير الرتبيّ لأنّ البيان مترتّب على الجمع و القراءة رتبة.

و قيل، المعنى ثمّ إنّ علينا بيانه للناس بلسانك نحفظه في ذهنك عن التغيّر و الزوال حتّى تقرأه على الناس.

و قال بعضهم في معنى هذه الآيات إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحرّك لسانه عند الوحي بما اُلقي إليه من القرآن مخافة أن ينساه فنهي عن ذلك بالآيات و اُمر بالإنصات حتّى يتمّ الوحي فضمير( لا تُحَرِّكْ بِهِ‏ ) للقرآن أو الوحي باعتبار ما قرأ عليه منه لا باعتبار ما لم يقرأ بعد.

و فيه أنّه لا يلائم سياق الآيات، تلك الملاءمة نظراً إلى ما فيها من النهي عن العجل و الأمر باتّباع قرآنه تعالى بعد ما قرأ، و كذا قوله،( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ‏ ) فذلك كلّه أظهر فيما تقدّم منها في هذا المعنى.

و عن بعضهم في معنى هذه الآيات، الّذي اختاره أنّه لم يرد القرآن، و إنّما أراد قراءة العباد لكتبهم يوم القيامة يدلّ على ذلك ما قبله و ما بعده، و ليس فيه شي‏ء يدلّ على أنّه القرآن و لا شي‏ء من أحكام الدنيا.

و في ذلك تقريع و توبيخ له حين لا تنفعه العجلة يقول: لا تحرّك لسانك بما تقرأه من صحيفتك الّتي فيها أعمالك يعني اقرأ كتابك و لا تعجل فإنّ هذا الّذي هو على نفسه بصيرة إذا رأى سيّئاته ضجر و استعجل فيقال له توبيخاً: لا تعجل و تثبّت لتعلم الحجّة عليك فإنّا نجمعها لك فإذا جمعناه فاتّبع ما جمع عليك بالانقياد

١٩٦

لحكمه و الاستسلام للتبعة فيه فإنّه لا يمكنك إنكاره ثمّ إنّ علينا بيانه لو أنكرت. انتهى.

و يدفعه أنّ المعترضة لا تحتاج في تمام معناها إلى دلالة ممّا قبلها و ما بعدها عليه على أنّ مشاكلة قوله:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) في سياقه لهذه الآيات تؤيّد مشاكلتها له في المعنى.

و عن بعضهم أنّ الآيات الأربع متّصلة بما تقدّم من حديث يوم القيامة، و خطاب( لا تُحَرِّكْ‏ ) للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و ضمير( بِهِ) ليوم القيامة، و المعنى لا تتفوّه بالسؤال عن وقت القيامة أصلاً و لو كنت غير مكذّب و لا مستهزئ( لِتَعْجَلَ بِهِ‏ ) أي بالعلم به( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ‏ ) أي من الواجب في الحكمة أن نجمع من نجمعه فيه و نوحي شرح وصفه إليك في القرآن( فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏ ) أي إذا قرأنا ما يتعلّق به فاتّبع ذلك بالعمل بما يقتضيه من الاستعداد له( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) أي إظهار ذلك بالنفخ في الصور انتهى ملخّصاً و هو كما ترى.

و قد تقدّم في تفسير قوله:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ ) إنّ هذا النهي عن العجل بالقرآن يؤيّد ما ورد في الروايات أنّ للقرآن نزولاً على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دفعة غير نزوله تدريجاً.

قوله تعالى: ( كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ ) خطاب للناس و ليس من تعميم الخطاب السابق في شي‏ء لأنّ خطاب( لا تُحَرِّكْ‏ ) اعتراضيّ غير مرتبط بشي‏ء من طرفيه.

و قوله:( كَلَّا ) ردع عن قوله السابق:( يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ) و قوله:( بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ) - أي الحياة العاجلة و هي الحياة الدنيا -( وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ ) أي تتركون الحياة الآخرة، و ما في الكلام من الإضراب إضراب عن حسبان عدم الإحياء بعد الموت نظير الإضراب في قوله:( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) .

قوله تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) وصف ليوم القيامة بانقسام الوجوه فيه إلى قسمين: ناضرة و باسرة، و نضرة الوجه و اللون و الشجر و نحوها و نضارتها

١٩٧

حسنها و بهجتها.

و المعنى: نظراً إلى ما يقابله من قوله:( وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ ) إلخ وجوه يوم إذ تقوم القيامة حسنة متهلّلة ظاهرة المسرّة و البشاشة قال تعالى:( تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ) المطفّفين: 24، و قال:( وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً ) الدهر: 11.

و قوله:( إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) خبر بعد خبر لوجوه، و( إِلى‏ رَبِّها ) متعلّق بناظرة قدّم عليها لإفادة الحصر أو الأهمّيّة.

و المراد بالنظر إليه تعالى ليس هو النظر الحسّيّ المتعلّق بالعين الجسمانيّة المادّيّة الّتي قامت البراهين القاطعة على استحالته في حقّه تعالى بل المراد النظر القلبيّ و رؤية القلب بحقيقة الإيمان على ما يسوق إليه البرهان و يدلّ عليه الأخبار المأثورة عن أهل العصمةعليهم‌السلام و قد أوردنا شطراً منها في ذيل تفسير قوله تعالى:( قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ) الأعراف: 143، و قوله تعالى:( ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) النجم: 11.

فهؤلاء قلوبهم متوجّهة إلى ربّهم لا يشغلهم عنه سبحانه شاغل من الأسباب لتقطّع الأسباب يومئذ، و لا يقفون موقفاً من مواقف اليوم و لا يقطعون مرحلة من مراحله إلّا و الرحمة الإلهيّة شاملة لهم( وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ) النمل: 89 و لا يشهدون مشهداً من مشاهد الجنّة و لا يتنعّمون بشي‏ء من نعيمها إلّا و هم يشاهدون ربّهم به لأنّهم لا ينظرون إلى شي‏ء و لا يرون شيئاً إلّا من حيث إنّه آية لله سبحانه و النظر إلى الآية من حيث إنّها آية و رؤيتها نظر إلى ذي الآية و رؤية له.

و من هنا يظهر الجواب عمّا اُورد على القول بأنّ تقديم( إِلى‏ رَبِّها ) على( ناظِرَةٌ ) يفيد الحصر و الاختصاص، أنّ من الضروريّ أنّهم ينظرون إلى غيره تعالى كنعم الجنّة.

و الجواب أنّهم لمّا لم يحجبوا عن ربّهم كان نظرهم إلى كلّ ما ينظرون إليه إنّما هو بما أنّه آية، و الآية بما أنّها آية لا تحجب ذا الآية و لا تحول بينه و بين

١٩٨

الناظر إليه فالنظر إلى الآية نظر إلى ذي الآية فهؤلاء لا ينظرون في الحقيقة إلّا إلى ربّهم.

و أمّا ما اُجيب به عنه أنّ تقديم( إِلى‏ رَبِّها ) لرعاية الفواصل و لو سلّم أنّه للاختصاص فالنظر إلى غيره في جنب النظر إليه لا يعدّ نظراً، و لو سلّم فالنظر إليه تعالى في بعض الأحوال لا في جميعها.

فلا يخلو من تكلّف التقييد من غير مقيّد على أنّه أسند النظر إلى الوجوه لا إلى العيون أو الأبصار و وجوه أهل الجنّة إلى ربّهم دائماً من غير أن يواجهوا بها غيره.

قوله تعالى: ( وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ ) فسّر البسور بشدّة العبوس و الظنّ بالعلم و( فاقِرَةٌ ) صفة محذوفة الموصوف أي فعله فاقرة، و الفاقرة من فقره إذا أصاب فقار ظهره، و قيل: من فقرت البعير إذا وسمت أنفه بالنار.

و المعنى: و وجوه يومئذ شديدة العبوس تعلم أنّه يفعل بها فعلة تقصم ظهورها أو تسم اُنوفها بالنار، و احتمل أن يكون تظنّ خطاباً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما أنّه سامع و الظنّ بمعناه المعروف.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ ) ردع عن حبّهم العاجلة و إيثارها على الآخرة كأنّه قيل: ارتدعوا عن ذلك فليس يدوم عليكم و سينزل عليكم الموت فتساقون إلى ربّكم و فاعل( بَلَغَتِ ) محذوف يدلّ عليه السياق كما في قوله تعالى:( فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ) الواقعة: 83 و التقدير إذا بلغت النفس التراقي.

و التراقي العظام المكتنفة للنحر عن يمين و شمال جمع ترقوة، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ قِيلَ مَنْ راقٍ‏ ) اسم فاعل من الرقى أي قال من حضره من أهله و أصدقائه من يرقيه و يشفيه؟ كلمة يأس، و قيل: المعنى قال بعض الملائكة لبعض: من يرقى بروحه من الملائكة أ ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب.؟

قوله تعالى: ( وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ ) أي و علم الإنسان المحتضر من مشاهدة هذه

١٩٩

الأحوال أنّه مفارقته للعاجلة الّتي كان يحبّها و يؤثرها على الآخرة.

قوله تعالى: ( وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ) ظاهره أنّ المراد به التفاف ساق المحتضر بساقه ببطلان الحياة السارية في أطراف البدن عند بلوغ الروح التراقي.

و قيل: المراد به التفاف شدّة أمر الآخرة بأمر الدنيا، و قيل: التفاف حال الموت بحال الحياة، و قيل: التفاف ساق الدنيا و هي شدّة كرب الموت بساق الآخرة و هي شدّة هول المطّلع.

و لا دليل من جهة اللفظ على شي‏ء من هذه المعاني نعم من الممكن أن يقال: إنّ المراد بالتفاف الساق بالساق غشيان الشدائد و تعاقبها عليه واحدة بعد اُخرى من حينه ذلك إلى يوم القيامة فينطبق على كلّ من المعاني.

قوله تعالى: ( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ) المساق مصدر ميميّ بمعنى السوق، و المراد بكون السوق يومئذ إليه تعالى أنّه الرجوع إليه، و عبّر بالمساق للإشارة إلى أن لا خيرة للإنسان في هذا المسير و لا مناص له عنه فهو مسوق مسيّر من يوم موته و هو قوله:( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ) حتّى يرد على ربّه يوم القيامة و هو قوله:( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ) و لو كان تقديم( إِلى‏ رَبِّكَ ) لإفادة الحصر أفاد انحصار الغاية في الرجوع إليه تعالى.

و قيل: الكلام على تقدير مضاف و تقديم( إِلى‏ رَبِّكَ ) لإفادة الحصر و التقدير إلى حكم ربّك يومئذ المساق أي يساق ليحكم الله و يقضي فيه بحكمه، أو التقدير إلى موعد ربّك و هو الجنّة و النار، و قيل: المراد برجوع المساق إليه تعالى أنّه تعالى هو السائق لا غير، و الوجه ما تقدّم.

قوله تعالى: ( فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلَّى وَ لكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلى‏ أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ) الضمائر راجعة إلى الإنسان المذكور في قوله:( أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ ) إلخ، و المراد بالتصديق المنفيّ تصديق الدعوة الحقّة الّتي يتضمّنها القرآن الكريم، و بالتصلية المنفيّة التوجّه العباديّ إليه تعالى بالصلاة الّتي هي عمود الدين.

و التمطّي - على ما في المجمع - تمدّد البدن من الكسل و أصله أن يلوي

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568