الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219923 / تحميل: 7014
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

( بيان‏)

هذا هو الفصل الثاني من الآيات يعرّف الحاقّة ببعض أشراطها و نبذة ممّا يقع فيها.

قوله تعالى: ( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ ) قد تقدّم أنّ النفخ في الصور كناية عن البعث و الإحضار لفصل القضاء، و في توصيف النفخة بالواحدة إشارة إلى مضيّ الأمر و نفوذ القدرة فلا وهن فيه حتّى يحتاج إلى تكرار النفخة، و الّذي يسبق إلى الفهم من سياق الآيات أنّها النفخة الثانية الّتي تحيي الموتى.

قوله تعالى: ( وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً ) الدكّ أشدّ الدقّ و هو كسر الشي‏ء و تبديله إلى أجزاء صغار، و حمل الأرض و الجبال إحاطة القدرة بها، و توصيف الدكّة بالواحدة للإشارة إلى سرعة تفتّتهما بحيث لا يفتقر إلى دكّة ثانية.

قوله تعالى: ( فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ) أي قامت القيامة.

قوله تعالى: ( وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ ) انشقاق الشي‏ء انفصال شطر منه من شطر آخر، و واهية من الوهي بمعنى الضعف، و قيل: من الوهي بمعنى شقّ الأديم و الثوب و نحوهما.

و يمكن أن تكون الآية أعني قوله:( وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها ) في معنى قوله:( وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا ) الفرقان: 25.

قوله تعالى: ( وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) قال الراغب: رجا البئر و السماء و غيرهما جانبها و الجمع أرجاء قال تعالى:( وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها ) انتهى، و الملك - كما قيل - يطلق على الواحد و الجمع و المراد به في

٦١

الآية الجمع.

و قوله:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) ضمير( فَوْقَهُمْ ) على ظاهر ما يقتضيه السياق للملائكة، و قيل: الضمير للخلائق.

و ظاهر كلامه أنّ للعرش اليوم حملة من الملائكة قال تعالى:( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) المؤمن: 7 و قد وردت الروايات أنّهم أربعة، و ظاهر الآية أعني قوله:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) أنّ الحملة يوم القيامة ثمانية و هل هم من الملائكة أو من غيرهم؟ الآية ساكتة عن ذلك و إن كان لا يخلو السياق من إشعار ما بأنّهم من الملائكة.

و من الممكن - كما تقدّمت الإشارة إليه - أن يكون الغرض من ذكر انشقاق السماء و كون الملائكة على أرجائها و كون حملة العرش يومئذ ثمانية بيان ظهور الملائكة و السماء و العرش للإنسان يومئذ، قال تعالى:( وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) الزمر: 75.

قوله تعالى: ( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى‏ مِنْكُمْ خافِيَةٌ ) الظاهر أنّ المراد به العرض على الله كما قال تعالى:( وعُرِضُوا عَلى‏ رَبِّكَ صَفًّا ) الكهف: 48، و العرض إراءة البائع سلعته للمشتري ببسطها بين يديه، فالعرض يومئذ على الله و هو يوم القضاء إبراز ما عند الإنسان من اعتقاد و عمل إبرازاً لا يخفى معه عقيدة خافية و لا فعلة خافية و ذلك بتبدّل الغيب شهادة و السرّ علناً قال:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) الطارق: 9، و قال:( يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى‏ عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْ‏ءٌ ) المؤمن: 16.

و قد تقدّم في أبحاثنا السابقة أنّ ما عدّ في كلامه تعالى من خصائص يوم القيامة كاختصاص الملك بالله، و كون الأمر له، و أن لا عاصم منه، و بروز الخلق له و عدم خفاء شي‏ء منهم عليه و غير ذلك، كلّ ذلك دائميّة الثبوت له تعالى، و إنّما المراد ظهور هذه الحقائق يومئذ ظهوراً لا ستر عليه و لا مرية فيه.

٦٢

فالمعنى: يومئذ يظهر أنّكم في معرض على علم الله و يظهر كلّ فعلة خافية من أفعالكم.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) قال في المجمع، هاؤم أمر للجماعة بمنزلة هاكم، تقول للواحد: هاء يا رجل، و للاثنين: هاؤما يا رجلان، و للجماعة: هاؤم يا رجال، و للمرأة: هاء يا امرأة بكسر الهمزة و ليس بعدها ياء، و للمرأتين: هاؤما، و للنساء: هاؤنّ. هذه لغة أهل الحجاز.

و تميم و قيس يقولون: هاء يا رجل مثل قول أهل الحجاز، و للاثنين: هاءا، و للجماعة: هاؤا، و للمرأة: هائي، و للنساء هاؤنّ.

و بعض العرب يجعل مكان الهمزة كافاً فيقول: هاك هاكما هاكم هاك هاكما هاكنّ، و معناه: خذ و تناول، و يؤمر بها و لا ينهى. انتهى.

و الآية و ما بعدها إلى قوله:( الْخاطِؤُنَ ) بيان تفصيليّ لاختلاف حال الناس يومئذ من حيث السعادة و الشقاء، و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) إسراء: 71 كلام في معنى إعطاء الكتاب باليمين، و الظاهر أنّ قوله:( هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) خطاب للملائكة، و الهاء في( كِتابِيَهْ ) و كذا في أواخر الآيات التالية للوقف و تسمّى هاء الاستراحة.

و المعنى: فأمّا من اُوتي كتابه بيمينه فيقول للملائكة: خذوا و اقرأوا كتابيه أي إنّها كتاب يقضي بسعادتي.

قوله تعالى: ( إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ ) الظنّ بمعنى اليقين، و الآية تعليل لما يتحصّل من الآية السابقة و محصّل التعليل إنّما كان كتابي كتاب اليمين و قاضياً بسعادتي لأنّي أيقنت في الدنيا أنّي ساُلاقي حسابي فآمنت بربّي و أصلحت عملي.

قوله تعالى: ( فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ) أي يعيش عيشة يرضاها فنسبة الرضا إلى العيشة من المجاز العقليّ.

٦٣

قوله تعالى: ( فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ - إلى قوله -الْخالِيَةِ ) أي هو في جنّة عالية قدراً فيها ما لا عين رأت و لا اُذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.

و قوله:( قُطُوفُها دانِيَةٌ ) القطوف جمع قطف بالكسر فالسكون و هو ما يجتنى من الثمر و المعنى: أثمارها قريبة منه يتناوله كيف يشاء.

و قوله:( كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ ) أي يقال لهم: كلوا و اشربوا من جميع ما يؤكل فيها و ما يشرب حال كونه هنيئاً لكم بما قدّمتم من الإيمان و العمل الصالح في الدنيا الّتي تقضّت أيّامها.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ ) و هؤلاء هم الطائفة الثانية و هم الأشقياء المجرمون يؤتون صحيفة أعمالهم بشمالهم و قد مرّ الكلام في معناه في سورة الإسراء، و هؤلاء يتمنّون أن لو لم يكونوا يؤتون كتابهم و يدرون ما حسابهم يتمنّون ذلك لما يشاهدون من أليم العذاب المعدّ لهم.

قوله تعالى: ( يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ) ذكروا أنّ ضمير( لَيْتَها ) للموتة الاُولى الّتي ذاقها الإنسان في الدنيا.

و المعنى: يا ليت الموتة الاُولى الّتي ذقتها كانت قاضية عليّ تقضي بعدمي فكنت انعدمت و لم اُبعث حيّاً فأقع في ورطة العذاب الخالد و اُشاهد ما اُشاهد.

قوله تعالى: ( ما أَغْنى‏ عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ ) كلمتا تحسّر يقولهما حيث يرى خيبة سعيه في الدنيا فإنّه كان يحسب أنّ مفتاح سعادته في الحياة هو المال و السلطان يدفعان عنه كلّ مكروه و يسلّطانه على كلّ ما يحبّ و يرضى فبذل كلّ جهده في تحصيلهما و أعرض عن ربّه و عن كلّ حقّ يدعى إليه و كذّب داعيه فلمّا شاهد تقطّع الأسباب و أنّه في يوم لا ينفع فيه مال و لا بنون ذكر عدم نفع ماله و بطلان سلطانه تحسّراً و توجّعاً و ما ذا ينفع التحسّر.؟

قوله تعالى: ( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ - إلى قوله -فَاسْلُكُوهُ ) حكاية أمره تعالى الملائكة بأخذه و إدخاله النار، و التقدير يقال للملائكة خذوه إلخ، و( فَغُلُّوهُ ) أمر من الغلّ بالفتح

٦٤

و هو الشدّ بالغلّ الّذي يجمع بين اليد و الرجل و العنق.

و قوله:( ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ) أي أدخلوه النار العظيمة و ألزموه إيّاها.

و قوله:( ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ ) السلسلة القيد، و الذرع الطول، و الذراع بُعد ما بين المرفق و رأس الأصابع و هو واحد الطول و سلوكه فيه جعله فيه، و المحصّل ثمّ اجعلوه في قيد طوله سبعون ذراعاً.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَ لا يَحُضُّ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) الحضّ التحريض و الترغيب، و الآيتان في مقام التعليل للأمر بالأخذ و الإدخال في النار أي إنّ الأخذ ثمّ التصلية في الجحيم و السلوك في السلسلة لأجل أنّه كان لا يؤمن بالله العظيم و لا يحرّض على طعام المسكين أي يساهل في أمر المساكين و لا يبالي بما يقاسونه.

قوله تعالى: ( فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ - إلى قوله -الْخاطِؤُنَ ) الحميم الصديق و الآية تفريع على قوله:( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ ) إلخ، و المحصّل: أنّه لمّا كان لا يؤمن بالله العظيم فليس له اليوم ههنا صديق ينفعه أي شفيع يشفع له إذ لا مغفرة لكافر فلا شفاعة.

و قوله:( وَ لا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ) الغسلين الغسالة و كأنّ المراد به ما يسيل من أبدان أهل النار من قيح و نحوه و الآية عطف على قوله في الآية السابقة:( حَمِيمٌ ) و متفرّع على قوله:( وَ لا يَحُضُّ ) إلخ، و المحصّل: أنّه لمّا كان لا يحرّض على طعام المسكين فليس له اليوم ههنا طعام إلّا من غسلين أهل النار.

و قوله:( لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ ) وصف لغسلين و الخاطؤن المتلبّسون بالخطيئة و الإثم.

٦٥

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، في قوله تعالى:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يحمله اليوم أربعة و يوم القيامة ثمانية.

أقول: و في تقييد الحاملين في الآية بقوله:( يَوْمَئِذٍ ) إشعار بل ظهور في اختصاص العدد بالقيامة.

و في تفسير القمّيّ، و في حديث آخر قال: حمله ثمانية أربعة من الأوّلين و أربعة من الآخرين فأمّا الأربعة من الأوّلين فنوح و إبراهيم و موسى و عيسى، و أمّا الأربعة من الآخرين فمحمّد و عليّ و الحسن و الحسينعليهم‌السلام .

أقول: و في غير واحد من الروايات أنّ الثمانية مخصوصة بيوم القيامة، و في بعضها أنّ حملة العرش - و العرش العلم - أربعة منّا و أربعة ممّن شاء الله.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّه إذا كان يوم القيامة يدعى كلّ اُناس بإمامه الّذي مات في عصره فإن أثبته اُعطي كتابه بيمينه لقوله:( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ‏ ) فمن اُوتي كتابه بيمينه فاُولئك يقرؤن كتابهم، و اليمين إثبات الإمام لأنه كتابه يقرؤه - إلى أن قال - و من أنكر كان من أصحاب الشمال الّذين قال الله:( وَ أَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ وَ حَمِيمٍ وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ) إلخ.

أقول: و في عدّة من الروايات تطبيق قوله:( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) إلخ، على عليّعليه‌السلام ، و في بعضها عليه و على شيعته، و كذا تطبيق قوله:( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ ) إلخ، على أعدائه، و هي من الجري دون التفسير.

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم و صحّحه عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لو أنّ دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن بأهل الدنيا.

و فيه، أخرج البيهقيّ في شعب الإيمان عن صعصعة بن صوحان قال: جاء أعرابي

٦٦

إلى عليّ بن أبي طالب فقال: كيف هذا الحرف: لا يأكله إلّا الخاطون؟ كلّ و الله يخطو. فتبسّم عليّ و قال: يا أعرابيّ( لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ ) قال: صدقت و الله يا أميرالمؤمنين ما كان الله ليسلم عبده.

ثمّ التفت عليّ إلى أبي الأسود فقال: إنّ الأعاجم قد دخلت في الدين كافّة فضع للناس شيئاً يستدلّون به على صلاح ألسنتهم فرسم لهم الرفع و النصب و الخفض.

و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه في الدروع الواقية في حديث عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و لو أنّ ذراعاً من السلسلة الّتي ذكرها الله في كتابه وضع على جميع جبال الدنيا لذابت عن حرّها.

٦٧

( سورة الحاقّة الآيات 38 - 52)

فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ( 38 ) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ( 39 ) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ( 40 ) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ ( 41 ) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ( 42 ) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ( 43 ) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ( 44 ) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ( 45 ) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ( 46 ) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ( 47 ) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ( 48 ) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ ( 49 ) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ( 50 ) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ( 51 ) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ( 52 )

( بيان‏)

هذا هو الفصل الثالث من آيات السورة يؤكّد ما تقدّم من أمر الحاقّة بلسان تصديق القرآن الكريم ليثبت بذلك حقّيّة ما أنبأ به من أمر القيامة.

قوله تعالى: ( فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَ ما لا تُبْصِرُونَ ) ظاهر الآية أنّه إقسام بما هو مشهود لهم و ما لا يشاهدون أي الغيب و الشهادة فهو إقسام بمجموع الخليقة و لا يشمل ذاته المتعالية فإنّ من البعيد من أدب القرآن أن يجمع الخالق و الخلق في صفّ واحد و يعظّمه تعالى و ما صنع تعظيماً مشتركاً في عرض واحد.

و في الإقسام نوع تعظيم و تجليل للمقسم به و خلقه تعالى بما أنّه خلقه جليل جميل لأنّه تعالى جميل لا يصدر منه إلّا الجميل و قد استحسن تعالى فعل نفسه و أثنى

٦٨

على نفسه بخلقه في قوله:( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ ) الم السجدة: 7، و قوله:( فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) المؤمنون: 14 فليس للموجودات منه تعالى إلّا الحسن و ما دون ذلك من مساءة فمن أنفسها و بقياس بعضها إلى بعض.

و في اختيار ما يبصرون و ما لا يبصرون للأقسام به على حقّيّة القرآن ما لا يخفى من المناسبة فإنّ النظام الواحد المتشابك أجزاؤه الجاري في مجموع العالم يقضي بتوحّده تعالى و مصير الكلّ إليه و ما يترتّب عليه من بعث الرسل و إنزال الكتب و القرآن خير كتاب سماويّ يهدي إلى الحقّ في جميع ذلك و إلى طريق مستقيم.

و ممّا تقدّم يظهر عدم استقامة ما قيل: إنّ المراد بما تبصرون و ما لا تبصرون الخلق و الخالق فإنّ السياق لا يساعد عليه، و كذا ما قيل: إنّ المراد النعم الظاهرة و الباطنة، و ما قيل: إنّ المراد الجنّ و الإنس و الملائكة أو الأجسام و الأرواح أو الدنيا و الآخرة أو ما يشاهد من آثار القدرة و ما لا يشاهد من أسرارها فاللفظ أعمّ مدلولاً من جميع ذلك.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) الضمير للقرآن، و المستفاد من السياق أنّ المراد برسول كريم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو تصديق لرسالته قبال ما كانوا يقولون إنّه شاعر أو كاهن.

و لا ضير في نسبة القرآن إلى قوله فإنّه إنّما ينسب إليه بما أنّه رسول و الرسول بما أنّه رسول لا يأتي إلّا بقول مرسلة، و قد بيّن ذلك فضل بيان بقوله بعد:( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

و قيل: المراد برسول كريم جبريل، و السياق لا يؤيّده إذ لو كان هو المراد لكان الأنسب نفي كونه ممّا نزلت به الشياطين كما فعل في سورة الشعراء.

على أنّ قوله بعد:( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ) و ما يتلوه إنّما يناسب كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المراد برسول كريم.

قوله تعالى: ( وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ) نفي أن يكون القرآن

٦٩

نظماً ألّفه شاعر و لم يقل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شعراً و لم يكن شاعراً.

و قوله:( قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ) توبيخ لمجتمعهم حيث إنّ الأكثرين منهم لم يؤمنوا و ما آمن به إلّا قليل منهم.

قوله تعالى: ( وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ) نفي أن يكون القرآن كهانة و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كاهنا يأخذ القرآن من الجنّ و هم يُلقونه إليه.

و قوله:( قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ) توبيخ أيضاً لمجتمعهم.

قوله تعالى: ( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) أي منزل من ربّ العالمين و ليس من صنع الرسول نسبه إلى الله كما تقدّمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ - إلى قوله -حاجِزِينَ ) يقال: تقوّل على فلان أي اختلق قولاً من نفسه و نسبه إليه، و الوتين - على ما ذكره الراغب - عرق يسقي الكبد و إذا انقطع مات صاحبه، و قيل: هو رباط القلب.

و المعنى:( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا ) هذا الرسول الكريم الّذي حمّلناه رسالتنا و أرسلناه إليكم بقرآن نزّلناه عليه و اختلق( بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ) و نسبه إلينا( لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ) كما يقبض على المجرم فيؤخذ بيده أو المراد قطعنا منه يده اليمنى أو المراد لانتقمنا منه بالقوّة كما في رواية القمّيّ( ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ) و قتلناه لتقوّله علينا( فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ‏ ) تحجبونه عنّا و تنجونه من عقوبتنا و إهلاكنا.

و هذا تهديد للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تقدير أن يفتري على الله كذباً و ينسب إليه شيئاً لم يقله و هو رسول من عنده أكرمه بنبوّته و اختاره لرسالته.

فالآيات في معنى قوله:( لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) إسراء: 75، و كذا قوله في الأنبياء بعد ذكر نعمه العظمى عليهم:( وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) الأنعام: 88.

فلا يرد أنّ مقتضى الآيات أنّ كلّ من ادّعى النبوّة و افترى على الله الكذب أهلكه الله و عاقبه في الدنيا أشدّ العقاب و هو منقوض ببعض مدّعي النبوّة من الكذّابين.

٧٠

و ذلك أنّ التهديد في الآية متوجّه إلى الرسول الصادق في رسالته لو تقوّل على الله و نسب إليه بعض ما ليس منه لا مطلق مدّعي النبوّة المفتري على الله في دعواه النبوّة و إخباره عن الله تعالى.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ) يذكّرهم كرامة تقواهم و معارف المبدأ و المعاد بحقائقها، و يعرّفهم درجاتهم عند الله و مقاماتهم في الآخرة و الجنّة و ما هذا شأنه لا يكون تقوّلاً و افتراء فالآية مسوقة حجّة على كون القرآن منزّهاً عن التقوّل و الفرية.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ ) ستظهر لهم يوم الحسرة.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) قد تقدّم كلام في نظيرتي الآيتين في آخر سورة الواقعة، و السورتان متّحدتان في الغرض و هو وصف يوم القيامة و متّحدتان في سياق خاتمتهما و هي الإقسام على حقّيّة القرآن المنبئ عن يوم القيامة، و قد ختمت السورتان بكون القرآن و ما أنبأ به عن وقوع الواقعة حقّ اليقين ثمّ الأمر بتسبيح اسم الربّ العظيم المنزّه عن خلق العالم باطلاً لا معاد فيه و عن أن يبطل المعارف الحقّة الّتي يعطيها القرآن في أمر المبدأ و المعاد.

٧١

( سورة المعارج مكّيّة و هي أربع و أربعون آية)

( سورة المعارج الآيات 1 - 18)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ( 1 ) لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ( 2 ) مِّنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِجِ ( 3 ) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ( 4 ) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ( 5 ) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ( 6 ) وَنَرَاهُ قَرِيبًا ( 7 ) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ( 8 ) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ( 9 ) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ( 10 ) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ( 11 ) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ( 12 ) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ( 13 ) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ ( 14 ) كَلَّا إِنَّهَا لَظَىٰ ( 15 ) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ ( 16 ) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ ( 17 ) وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ ( 18 )

( بيان‏)

الّذي يعطيه سياق السورة أنّها تصف يوم القيامة بما اُعدّ فيه من أليم العذاب للكافرين. تبتدئ السورة فتذكر سؤال سائل سأل عذاباً من الله للكافرين فتشير إلى أنّه واقع ليس له دافع قريب غير بعيد كما يحسبونه ثمّ تصف اليوم الّذي يقع فيه و العذاب الّذي اُعدّ لهم فيه و تستثني المؤمنين الّذين قاموا بوظائف الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح.

٧٢

و هذا السياق يشبه سياق السور المكّيّة غير أنّ المنقول عن بعضهم أنّ قوله:( وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ) مدني و الاعتبار يؤيّده لأنّ ظاهره الزكاة و قد شرّعت بالمدينة بعد الهجرة، و كون هذه الآية مدنيّة يستتبع كون الآيات الحافّة بها الواقعة تحت الاستثناء و هي أربع عشرة آية (قوله:إِلَّا الْمُصَلِّينَ - إلى قوله -فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ‏ ) مدنيّة لما في سياقها من الاتّحاد و استلزام البعض للبعض.

و مدنيّة هذه الآيات الواقعة تحت الاستثناء تستدعي ما استثنيت منه و هو على الأقل ثلاث آيات (قوله:إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً - إلى قوله -مَنُوعاً ).

على أنّ قوله:( فَما لِلَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ) متفرّع على ما قبله تفرّعاً ظاهراً و هو ما بعده إلى آخر السورة ذو سياق واحد فتكون هذه الآيات أيضاً مدنيّة.

و من جهة اُخرى مضامين هذا الفصل من الآيات تناسب حال المنافقين الحافّين حول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن اليمين و عن الشمال عزين و هم الرادّون لبعض ما أنزل الله من الحكم و خاصّة قوله:( أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ ) إلخ، و قوله:( عَلى‏ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ ) إلخ على ما سيجي‏ء، و موطن ظهور هذا النفاق المدينة لا مكّة، و لا ضير في التعبير عن هؤلاء بالّذين كفروا فنظير ذلك موجود في سورة التوبة و غيرها.

على أنّهم رووا أنّ السورة نزلت في قول القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) الأنفال: 32 و قد تقدّم في تفسير الآية أنّ سياقها و الّتي بعدها سياق مدنيّ لا مكّي. لكنّ المرويّ عن الصادقعليه‌السلام أنّ المراد بالحقّ المعلوم في الآية حق يسمّيه صاحب المال في ماله غير الزكاة المفروضة.

و لا عبرة بما نسب إلى اتّفاق المفسّرين أنّ السورة مكّيّة على أنّ الخلاف ظاهر و كذا ما نسب إلى ابن عبّاس أنّها نزلت بعد سورة الحاقّة.

قوله تعالى: ( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) السؤال بمعنى الطلب و الدعاء، و لذا عدّي بالباء كما في قوله:( يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ ) الدخان: 55 و قيل: الفعل مضمّن معنى الاهتمام و الاعتناء و لذا عدّي بالباء، و قيل: الباء زائدة للتأكيد،

٧٣

و مآل الوجوه واحد و هو طلب العذاب من الله كفراً و عتوّاً.

و قيل: الباء بمعنى عن كما في قوله:( فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ) الفرقان: 59، و فيه أنّ كونها في الآية المستشهد بها بمعنى عن ممنوع. على أنّ سياق الآيات التالية و خاصّة قوله:( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا ) لا يلائم كون السؤال بمعنى الاستفسار و الاستخبار.

فالآية تحكي سؤال العذاب و طلبه عن بعض من كفر طغياناً و كفراً، و قد وصف العذاب المسؤل من الأوصاف بما يدلّ على إجابة الدعاء بنوع من التهكّم و التحقير و هو قوله:( واقِعٍ ) و قوله:( لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) .

و المعنى سأل سائل من الكفّار عذاباً للكافرين من الله سيصيبهم و يقع عليهم لا محالة و لا دافع له أي إنّه واقع عليهم سأل أو لم يسأل ففيه جواب تحقيريّ و إجابة لمسؤله تهكّماً.

قوله تعالى: ( لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) للكافرين متعلّق بعذاب و صفة له، و كذا قوله:( لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) و قد مرّت الإشارة إلى معنى الآية.

قوله تعالى: ( مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ ) الجارّ و المجرور متعلّق بقوله:( دافِعٌ ) أي ليس له دافع من جانب الله و من المعلوم أنّه لو اندفع لم يندفع إلّا من جانب الله سبحانه، و من المحتمل أن يتعلّق بقوله:( بِعَذابٍ ) .

و المعارج جمع معرج و فسّروه بالمصاعد و هي الدرجات و هي مقامات الملكوت الّتي يعرج إليها الملائكة عند رجوعهم إلى الله سبحانه على ما يفسّره قوله بعد:( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ ) إلخ فله سبحانه معارج الملكوت و مقاماتها المترتّبة علوّاً و شرفاً الّتي تعرج فيها الملائكة و الروح بحسب قربهم من الله و ليست بمقامات وهميّة اعتباريّة.

و قيل: المراد بالمعارج الدرجات الّتي يصعد فيها الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح قال تعالى:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) الفاطر 10، و قال:( وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى‏ مِنْكُمْ ) الحجّ: 37.

و قيل: المراد به مقامات القرب الّتي يعرج إليها المؤمنون بالإيمان و العمل

٧٤

الصالح قال تعالى:( هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَ اللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ ) آل عمران: 163 و قال:( لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ ) الأنفال: 4 و قال:( رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ ) المؤمن: 15.

و الحقّ أنّ مآل الوجهين إلى الوجه الأوّل، و الدرجات المذكورة حقيقيّة ليست بالوهميّة الاعتباريّة.

قوله تعالى: ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) المراد بهذا اليوم يوم القيامة على ما يفيده سياق الآيات التالية.

و المراد بكون مقدار هذا اليوم خمسين ألف سنة على ما ذكروا أنّه بحيث لو وقع في الدنيا و انطبق على الزمان الجاري فيها كان مقداره من الزمان خمسين ألف سنة من سني الدنيا.

و المراد بعروج الملائكة و الروح إليه يومئذ رجوعهم إليه تعالى عند رجوع الكلّ إليه فإنّ يوم القيامة يوم بروز سقوط الوسائط و تقطّع الأسباب و ارتفاع الروابط بينها و بين مسبّباتها و الملائكة وسائط موكّلة على اُمور العالم و حوادث الكون فإذا تقطّعت الأسباب عن مسبّباتها و زيّل الله بينهم و رجع الكلّ إلى الله عزّ اسمه رجعوا إليه و عرجوا معارجهم فحفّوا من حول عرش ربّهم و صفّوا قال تعالى:( وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) الزمر 75، و قال:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا ) النبأ: 38.

و الظاهر أنّ المراد بالروح الروح الّذي هو من أمره تعالى كما قال:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) إسراء: 85 و هو غير الملائكة كما هو ظاهر قوله تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) النحل: 2.

فلا يعبأ بما قيل: إنّ المراد بالروح جبرئيل و إن اُطلق عليه الروح الأمين و روح القدس في قوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) الشعراء: 194 و قوله:( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ ) النحل: 103 فإنّ المقيّد غير المطلق.

قوله تعالى: ( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا ) لمّا كان سؤال السائل للعذاب عن تعنّت

٧٥

و استكبار و هو ممّا يشقّ تحمّله أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر و وصفه بالجميل - و الجميل من الصبر ما ليس فيه شائبة الجزع و الشكوى - و علّله بأنّ اليوم بما فيه من العذاب قريب.

قوله تعالى: ( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً ) ضميراً( يَرَوْنَهُ ) و( نَراهُ ) للعذاب أو ليوم القيامة بما فيه من العذاب الواقع و يؤيّد الأوّل قوله فيما بعد:( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) إلخ.

و المراد بالرؤية الاعتقاد بنوع من العناية المجازيّة و رؤيتهم ذلك بعيداً ظنّهم أنّه بعيد من الإمكان فإنّ سؤال العذاب من الله سبحانه استكباراً عن دينه و ردّاً لحكمه لا يجامع الإيمان بالمعاد و إن تفوّه به السائل، و رؤيته تعالى ذلك قريباً علمه بتحقّقه و كلّ ما هو آت قريب.

و في الآيتين تعليل أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر الجميل فإنّ تحمّل الأذى و الصبر على المكاره يهون على الإنسان إذا استيقن أنّ الفرج قريب و تذكّر ذلك فالكلام في معنى قولنا فاصبر على تعنّتهم و استكبارهم في سؤالهم العذاب صبراً جميلاً لا يشوبه جزع و شكوى فإنّا نعلم أنّ العذاب قريب على خلاف ما يستبعدونه، و علمنا لا يتخلّف عن الواقع بل هو نفس الواقع.

قوله تعالى: ( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) المهل المذاب من المعدنيّات كالنحاس و الذهب و غيرهما، و قيل: درديّ الزيت، و قيل: عكر القطران(1) .

و الظرف متعلّق بقوله:( واقِعٍ ) على ما يفيده السياق.

قوله تعالى: ( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ ) العهن مطلق الصوف، و لعلّ المراد المنفوش منه كما في قوله تعالى:( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) القارعة: 5.

و قيل: هو الصوف الأحمر، و قيل: المصبوغ ألواناً لأنّ الجبال ذات ألوان مختلفة فمنها جدد بيض و حمر و غرابيب سود(2) .

____________________

(1) أي ردية و خبيثه‏.

(2) كما في الآية من سورة فاطر.

٧٦

قوله تعالى: ( وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) الحميم القريب الّذي تهتمّ بأمره و تشفق عليه.

إشارة إلى شدّة اليوم فالإنسان يومئذ تشغله نفسه عن غيره حتّى أنّ الحميم لا يسأل حميمه عن حاله لاشتغاله بنفسه.

قوله تعالى: ( يُبَصَّرُونَهُمْ ) الضميران للأحماء المعلوم من السياق و التبصير الإراءة و الإيضاح أي يُرى و يوضح الأحماء للأحماء فلا يسألونهم عن حالهم اشتغالاً بأنفسهم.

و الجملة مستأنفة في معنى الجواب عن سؤال مقدّر كأنّه لمّا قيل: لا يسأل حميم حميماً سئل فقيل: هل يرى الأحماء يومئذ أحماءهم؟ فاُجيب: يبصّرونهم و يمكن أن يكون( يُبَصَّرُونَهُمْ ) صفة( حَمِيماً ) .

و من ردي‏ءً التفسير قول بعضهم: إنّ معنى قوله:( يُبَصَّرُونَهُمْ ) يبصّر الملائكة الكفّار، و ما قيل: إنّ المعنى يبصّر المؤمنون أعداءهم من الكفّار و ما هم فيه من العذاب فيشمتون بهم، و ما قيل: إنّ المعنى يبصّر أتباع الضلالة رؤساءهم. و هي جميعاً وجوه لا دليل عليها.

قوله تعالى: ( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَ صاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ ) قال في المجمع: المودّة مشتركة بين التمنّي و بين المحبّة يقال: وددت الشي‏ء أي تمنّيته و وددته أي أحببته أودّ فيهما جميعاً. انتهى، و يمكن أن يكون استعماله بمعنى التمنّي من باب التضمين.

و قال: و الافتداء الضرر عن الشي‏ء ببدل منه انتهى، و قال: الفصيلة الجماعة المنقطعة عن جملة القبيلة برجوعها إلى اُبوّة خاصّة عن اُبوّة عامّة. انتهى، و ذكر بعضهم أنّ الفصيلة عشيرته الأقربين الّذين فصل عنهم كالآباء الأدنين.

و سياق هذه الآيات سياق الإضراب و الترقّي بالنسبة إلى قوله:( وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) فيفيد أنّ المجرم يبلغ به شدّة العذاب إلى أن يتمنّى أن يفتدي من العذاب بأحبّ أقاربه و أكرمهم عليه بنيه و صاحبته و أخيه و فصيلته و جميع من في الأرض ثمّ ينجيه الافتداء فيودّ ذلك فضلاً عن عدم سؤاله عن حال حميمه.

٧٧

و المعنى( يَوَدُّ ) و يتمنّى( الْمُجْرِمُ ) و هو المتلبّس بالأجرام أعمّ من الكافر( لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ ) و هذا هو الّذي يتمنّاه، و الجملة قائمة مقام مفعول يودّ.( بِبَنِيهِ ) الّذين هم أحبّ الناس عنده( وَ صاحِبَتِهِ ) الّتي كانت سكنا له و كان يحبّها و ربّما قدّمها على أبويه( وَ أَخِيهِ ) الّذي كان شقيقه و ناصره( وَ فَصِيلَتِهِ ) من عشيرته الأقربين( الَّتِي تُؤْوِيهِ ) و تضمّه إليها( وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) من اُولي العقل( ثُمَّ يُنْجِيهِ ) هذا الافتداء.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّها لَظى‏ نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى) كلّا للردع، و ضمير( إِنَّها ) لجهنّم أو للنار و سمّيت لظى لكونها تتلظّى و تشتعل، و النزّاعة اسم مبالغة من النزع بمعنى الاقتلاع، و الشوى الأطراف كاليد و الرجل يقال: رماه فأشواه أي أصاب شواه كذا قال الراغب، و إيعاء المال إمساكه في وعاء.

فقوله:( كَلَّا ) ردع لتمنّيه النجاة من العذاب بالافتداء و قد علّل الردع بقوله:( إِنَّها لَظى) إلخ و محصّله أنّ جهنّم نار مشتعلة محرقة للأطراف شأنها أنّها تطلب المجرمين لتعذّبهم فلا تصرف عنهم بافتداء كائناً ما كان.

فقوله:( إِنَّها لَظى‏ ) أي نار صفتها الاشتعال لا تنعزل عن شأنها و لا تخمد، و قوله:( نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ ) أي صفتها إحراق الأطراف و اقتلاعها لا يبطل ما لها من الأثر فيمن تعذّبه.

و قوله:( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى‏ ) أي تطلب من أدبر عن الدعوة الإلهيّة إلى الإيمان بالله و أعرض عن عبادته تعالى و جمع المال فأمسكه في وعائه و لم ينفق منه للسائل و المحروم.

و هذا المعنى هو المناسب لسياق الاستثناء الآتي و ذكر الصلاة و الإنفاق فيه.

٧٨

( بحث روائي‏)

في المجمع، حدّثنا السيّد أبوالحمد قال: حدّثنا الحاكم أبوالقاسم الحسكاني و ساق السند عن جعفر بن محمّد الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: لما نصب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا و قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، طار ذلك في البلاد فقدم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النعمان بن الحارث الفهريّ.

فقال: أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله و أنّك رسول الله و أمرتنا بالجهاد و الحجّ و الصوم و الصلاة و الزكاة فقبلناها ثمّ لم ترض حتّى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعليّ مولاه، فهذا شي‏ء منك أو أمر من عند الله؟ فقال: و الله الّذي لا إله إلّا هو إنّ هذا من الله.

فولى النعمان بن الحارث و هو يقول: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله و أنزل الله تعالى:( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) .

أقول: و هذا المعنى مروي بغير طريق من طرق الشيعة، و قد ردّ الحديث بعضهم بأنّه موضوع لكون سورة المعارج مكّيّة، و قد عرفت الكلام في مكّيّة السورة.

و في الدرّ المنثور، أخرج الفاريابيّ و عبد بن حميد و النسائيّ و ابن أبي حاتم و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه عن ابن عبّاس في قوله:( سَأَلَ سائِلٌ ) قال هو النضر بن الحارث قال: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدّيّ: في قوله:( سَأَلَ سائِلٌ ) قال. نزلت بمكّة في النضر بن الحارث و قد قال:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية و كان عذابه يوم بدر.

أقول: و هذا المعنى مرويّ أيضاً عن غير السدّيّ، و في بعض رواياتهم أنّ

٧٩

القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية هو الحارث بن علقمة رجل من عبد الدار، و في بعضها أنّ سائل العذاب هو أبوجهل بن هشام سأله يوم بدر و لازمه مدنيّة السورة و المعتمد على أيّ حال نزول السورة بعد قول القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية و قد تقدّم كلام في سياق الآية.

و في أمالي الشيخ، بإسناده إلى أبي عبداللهعليه‌السلام في حديث: ألا فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا فإنّ في القيامة خمسين موقفاً كلّ موقف مثل ألف سنة ممّا تعدّون ثمّ تلا هذه الآية( فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) .

أقول: و روي هذا المعنى في روضة الكافي، عن حفص بن غياث عنهعليه‌السلام .

و في المجمع، روى أبوسعيد الخدريّ قال: قيل لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أطول هذا اليوم فقال: و الّذي نفس محمّد بيده إنّه ليخفّ على المؤمن حتّى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدنيا.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن عدّة من الجوامع عن أبي سعيد عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) قال: الرصاص الذائب و النحاس كذلك تذوب السماء.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( يُبَصَّرُونَهُمْ ) يقول: يعرّفونهم ثمّ لا يتساءلون.

و فيه في قوله تعالى:( نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ ) قال: تنزع عينه و تسودّ وجهه.

و فيه في قوله تعالى:( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى ) قال: تجرّه إليها.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

و قد أسقط تعالى في قوله:( وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ ) الوسائط كلّها و نسب سقيهم إلى نفسه، و هذا أفضل ما ذكره الله تعالى من النعيم الموهوب لهم في الجنّة، و لعلّه من المزيد المذكور في قوله:( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ ) ق: ٣٥.

قوله تعالى: ( إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ) حكاية ما يخاطبون به من عنده تعالى عند توفيته أجرهم أو بحذف القول و التقدير و يقال لهم: إنّ هذا كان لكم جزاء إلخ.

و قوله:( وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ) إنشاء شكر لمساعيهم المرضيّة و أعمالهم المقبولة، و يا لها من كلمة طيّبة تطيب بها نفوسهم.

و اعلم أنّه تعالى لم يذكر فيما ذكر من نعيم الجنّة في هذه الآيات نساء الجنّة من الحور العين و هي من أهمّ ما يذكره عند وصف نعم الجنّة في سائر كلامه و يمكن أن يستظهر منه أنّه كانت بين هؤلاء الأبرار الّذين نزلت فيهم الآيات من هي من النساء.

و قال في روح المعاني: و من اللطائف على القول بنزول السورة فيهم يعني في أهل البيت أنّه سبحانه لم يذكر فيها الحور العين و إنّما صرّح عزّوجلّ بولدان مخلّدين رعاية لحرمة البتول و قرّة عين الرسول، انتهى.

( بحث روائي‏)

في إتقان السيوطيّ، عن البيهقيّ في دلائل النبوّة بإسناده عن عكرمة و الحسن بن أبي الحسن قالا: أنزل الله من القرآن بمكّة اقرأ باسم ربّك و ن و المزّمّل - إلى أن قالا - و ما نزل بالمدينة ويل للمطفّفين، و البقرة، و آل عمران، و الأنفال، و الأحزاب، و المائدة، و الممتحنة، و النساء، و إذا زلزلت، و الحديد، و محمّد، و الرعد، و الرحمن، و هل أتى على الإنسان. الحديث.

و فيه، عن ابن الضريس في فضائل القرآن بإسناده عن عثمان بن عطاء الخراسانيّ

٢٢١

عن أبيه عن ابن عبّاس قال: كان إذا نزلت فاتحة سورة بمكّة كتبت بمكّة ثمّ يزيد الله فيها ما شاء.

و كان أوّل ما اُنزل من القرآن اقرأ باسم ربّك، ثمّ ن، ثمّ يا أيّها المزّمّل - إلى أن قال - ثمّ اُنزل بالمدينة سورة البقرة ثمّ الأنفال ثمّ آل عمران ثمّ الأحزاب ثمّ الممتحنة ثمّ النساء ثمّ إذا زلزلت ثمّ الحديد ثمّ القتال ثمّ الرعد ثمّ الرحمن ثمّ الإنسان. الحديث.

و فيه، عن البيهقيّ في الدلائل بإسناده عن مجاهد عن ابن عبّاس أنّه قال: إنّ أوّل ما أنزل الله على نبيّه من القرآن اقرأ باسم ربّك، و ذكر مثل حديث عكرمة و الحسين و فيه ذكر ثلاث من السور المكّيّة الّتي سقطت من روايتهما و هي الفاتحة و الأعراف و كهيعص.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن الضريس و ابن مردويه و البيهقيّ عن ابن عبّاس قال: نزلت سورة الإنسان بالمدينة.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس في قوله تعالى:( وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى‏ حُبِّهِ ) الآية قال: نزلت هذه الآية في عليّ بن أبي طالب و فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أقول: الآية تشارك سائر آيات صدر السورة ممّا تقدّم عليها أو تأخّر عنها في سياق واحد متّصل فنزولها فيهماعليه‌السلام لا ينفكّ نزولها جميعاً بالمدينة.

و في الكشّاف: و عن ابن عبّاس: أنّ الحسن و الحسين مرضاً فعادهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ناس معه فقالوا: يا أباالحسن لو نذرت على ولدك (ولديك ظ) فنذر عليّ و فاطمة و فضّة جارية لهما إن برءا ممّا بهما أن يصوموا ثلاثة أيّام فشفيا و ما معهم شي‏ء.

فاستقرض عليّ من شمعون الخيبريّ اليهوديّ ثلاث أصوع من شعير فطحنت فاطمة صاعاً و اختبزت خمسة أقراص على عددهم فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل و قال: السلام عليكم أهل بيت محمّد مسكين من مساكين المسلمين أطعموني

٢٢٢

أطعمكم الله من موائد الجنّة فآثروه و باتوا لم يذوقوا إلّا الماء و أصبحوا صياماً.

فلمّا أمسوا و وضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه، و وقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك.

فلمّا أصبحوا أخذ عليّ بيد الحسن و الحسين و أقبلوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا أبصرهم و هم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع قال: ما أشدّ ما يسوءني ما أرى بكم فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها(١) ببطنها و غارت عيناها فساءه ذلك فنزل جبريل و قال: خذها يا محمّد هنّأك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة.

أقول: الرواية مرويّة بغير واحد من الطرق عن عطاء عن ابن عبّاس و نقلها البحرانيّ في غاية المرام، عن أبي المؤيّد الموفّق بن أحمد في كتاب فضائل أميرالمؤمنين بإسناده عن مجاهد عن ابن عبّاس، و عنه بإسناد آخر عن الضحّاك عن ابن عبّاس و عن الحموينيّ في كتاب فرائد السمطين بإسناده عن مجاهد عن ابن عبّاس، و عن الثعلبيّ بإسناده عن أبي صالح عن ابن عبّاس، و رواه في المجمع، عن الواحدي في تفسيره.

و في المجمع، بإسناده عن الحاكم بإسناده عن سعيد بن المسيب عن عليّ بن أبي طالب أنّه قال سألت النبيّ عن ثواب القرآن: فأخبرني بثواب سورة سورة على نحو ما نزلت من السماء.

فأوّل ما نزل عليه بمكّة فاتحة الكتاب ثمّ اقرأ باسم ربّك، ثمّ ن - إلى أن قال - و أوّل ما نزل بالمدينة سورة البقرة ثمّ الأنفال ثمّ آل عمران ثمّ الأحزاب ثمّ الممتحنة ثمّ النساء ثمّ إذا زلزلت ثمّ الحديد ثمّ سورة محمّد ثمّ الرعد ثمّ سورة الرحمن ثمّ هل أتى. الحديث.

و فيه، عن أبي حمزة الثماليّ في تفسيره قال: حدّثني الحسن بن الحسن أبوعبدالله بن الحسن: أنّها مدنيّة نزلت في عليّ و فاطمة السورة كلّها.

و في تفسير القميّ، عن أبيه عن عبدالله بن ميمون عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: كان

____________________

(١) بطنها بظهرها ظ.

٢٢٣

عند فاطمةعليها‌السلام شعير فجعلوه عصيدة(١) فلمّا أنضجوها و وضعوها بين أيديهم جاء مسكين فقال: مسكين رحمكم الله فقام عليّعليه‌السلام فأعطاه ثلثاً فلم يلبث أن جاء يتيم فقال: اليتيم رحمكم الله فقام عليّعليه‌السلام فأعطاه الثلث ثمّ جاء أسير فقال: الأسير رحمكم الله فأعطاه عليّعليه‌السلام الثلث و ما ذاقوها فأنزل الله سبحانه الآيات فيهم و هي جارية في كلّ مؤمن فعل ذلك لله عزّوجلّ.

أقول: القصّة كما ترى ملخّصة في الرواية و روى ذلك البحراني في غاية المرام، عن المفيد في الاختصاص، مسنداً و عن ابن بابويه في الأمالي، بإسناده عن مجاهد عن ابن عبّاس، و بإسناده عن سلمة بن خالد عن جعفر بن محمّد عن أبيهعليهما‌السلام ، و عن محمّد بن العبّاس بن ماهيار في تفسيره بإسناده عن أبي كثير الزبيريّ عن عبدالله بن عبّاس، و في المناقب، أنّه مرويّ عن الأصبغ بن نباتة.

و في الاحتجاج، عن عليّعليه‌السلام : في حديث يقول فيه للقوم بعد موت عمر بن الخطّاب: نشدتكم بالله هل فيكم أحد نزل فيه و في ولده( إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً ) إلى آخر السورة غيري؟ قالوا: لا.

و في كتاب الخصال، في احتجاج عليّ على أبي بكر قال: اُنشدك بالله أنا صاحب الآية( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) أم أنت؟ قال: بل أنت.

و في الدرّ المنثور، أخرج الطبرانيّ و ابن مردويه و ابن عساكر عن ابن عمر قال: جاء رجل من الحبشة إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سل و استفهم فقال: يا رسول الله فضّلتم علينا بالألوان و الصور و النبوّة أ فرأيت إن آمنت بما آمنت به و عملت بمثل ما عملت به أنّي لكائن معك في الجنّة؟ قال: نعم و الّذي نفسي بيده إنّه ليرى بياض الأسود في الجنّة من مسيرة ألف عام. ثمّ قال: من قال لا إله إلّا الله كان له عهد عندالله و من قال: سبحان الله و بحمده كتبت له مائة ألف حسنة و أربعة و عشرون ألف حسنة و نزلت عليه السورة( هَلْ أَتى‏ عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ

____________________

(١) العصيدة: شعير يلت بالسمن و يطبخ.

٢٢٤

الدَّهْرِ - إلى قوله -مُلْكاً كَبِيراً ) .

فقال الحبشيّ: و إنّ عيني لترى ما ترى عيناك في الجنّة؟ قال: نعم فاشتكى حتّى فاضت نفسه. قال عمر: فلقد رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدلّيه في حفرته بيده.

و فيه، أخرج أحمد في الزهد عن محمّد بن مطرف قال: حدّثني الثقة: أنّ رجلاً أسود كان يسأل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن التسبيح و التهليل فقال له عمر بن الخطّاب: مه أكثرت على رسول الله فقال: مه يا عمر و اُنزلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( هَلْ أَتى‏ عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ) حتّى إذا أتى على ذكر الجنّة زفر الأسود زفرة خرجت نفسه فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مات شوقاً إلى الجنّة.

و فيه، أخرج ابن وهب عن ابن زيد أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ هذه السورة( هَلْ أَتى‏ عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ) و قد اُنزلت عليه و عنده رجل أسود فلمّا بلغ صفة الجنان زفر زفرة فخرجت نفسه فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أخرج نفس صاحبكم الشوق إلى الجنّة.

أقول: و هذه الروايات الثلاث على تقدير صحّتها لا تدلّ على أزيد من كون نزول السورة مقارناً لقصّة الرجل و أمّا كونها سبباً للنزول فلا، و هذا المعنى في الرواية الأخيرة أظهر و بالجملة لا تنافي الروايات الثلاث نزول السورة في أهل البيتعليهم‌السلام .

على أنّ رواية ابن عمر للقصّة الظاهرة في حضوره القصّة و قد هاجر إلى المدينة و هو ابن إحدى عشرة سنة من شواهد وقوع القصّة بالمدينة.

و في الدرّ المنثور، أيضاً أخرج النحّاس عن ابن عبّاس قال: نزلت سورة الإنسان بمكّة.

أقول: هو تلخيص حديث طويل أورده النحّاس في كتاب النّاسخ و المنسوخ، و قد نقله في الإتقان و هو معارض لما تقدّم نقله مستفيضاً عن ابن عبّاس من نزول السورة بالمدينة و أنّها نزلت في أهل البيتعليهم‌السلام .

على أنّ سياق آياتها و خاصّة قوله:( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ و يُطْعِمُونَ الطَّعامَ )

٢٢٥

إلخ سياق قصّة واقعة و ذكر الأسير فيمن أطعموهم نعم الشاهد على نزول الآيات بالمدينة إذ لم يكن للمسلمين أسير بمكّة كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك.

قال بعضهم ما ملخّصه: أنّ الروايات مختلفة في مكّيّة هذه السورة و مدنيّتها و الأرجح أنّها مكّيّة بل الظاهر من سياقها أنّها من عتائق السور القرآنيّة النازلة بمكّة في أوائل البعثة يؤيّد ذلك ما ورد فيها من صور النعم الحسّيّة المفصّلة الطويلة و صور العذاب الغليظ كما يؤيّده ما ورد فيها من أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر لحكم ربّه و أن لا يطيع منهم آثماً أو كفوراً و يثبت على ما نزل عليه من الحقّ و لا يداهن المشركين من الأوامر الّتي كانت تنزّل بمكّة عند اشتداد الأذى على الدعوة و أصحابها بمكّة كما في سورة القلم و المزّمّل و المدّثّر فلا عبرة باحتمال مدنيّة السورة.

و هو فاسد أمّا ما ذكره من اشتمال السورة على صور النعم الحسّيّة المفصّلة الطويلة و صور العذاب الغليظ فليس ذلك ممّا يختصّ بالسور المكّيّة حتّى يقضى بها على كون السورة مكّيّة فهذه سورة الرحمن و سورة الحجّ مدنيّتان على ما تقدّمت في الروايات المشتملة على ترتيب نزول السور القرآنيّة و قد اشتملتا من صور النعم الحسّيّة المفصّلة الطويلة و صور العذاب الغليظ على ما يربو و يزيد على هذه السورة بكثير.

و أمّا ما ذكره من اشتمال السورة على أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر و أن لا يطيع منهم آثماً أو كفوراً و لا يداهنهم و يثبت على ما نزل عليه من الحقّ ففيه أنّ هذه الأوامر واقعة في الفصل الثاني من آيات السورة و هو قوله:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا ) إلى آخر السورة و من المحتمل جدّاً أن يكون هذا الفصل من الآيات - و هو ذو سياق تامّ مستقلّ - نازلاً بمكّة، و يؤيّده ما في كثير من الروايات المتقدّمة أنّ الّذي نزل في أهل البيت بالمدينة هو الفصل الأوّل من الآيات، و على هذا أوّل السورة مدنيّ و آخرها مكّيّ.

٢٢٦

و لو سلّم نزولها دفعة واحدة فأمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر لا اختصاص له بالسور المكّيّة فقد ورد في قوله:( وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَ اتَّبَعَ هَواهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ) الكهف: ٢٨ و الآية - على ما روي - مدنيّة و الآية - كما ترى - متّحدة المعنى مع قوله:( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ) إلخ و هي في سياق شبيه جدّاً بسياق هذه الآيات فراجع و تأمّل.

ثمّ الّذي كان يلقاه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أذى المنافقين و الّذين في قلوبهم مرض و الجفاة من ضعفاء الإيمان لم يكن بأهون من أذى المشركين بمكّة يشهد بذلك أخبار سيرته.

و لا دليل أيضاً على انحصار الإثم و الكفور في مشركي مكّة فهناك غيرهم من الكفّار و قد أثبت القرآن الإثم لجمع من المسلمين في موارد كقوله:( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ) النور: ١١، و قوله:( وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً ) النساء: ١١٢.

و في المجمع، و روى العيّاشيّ بإسناده عن عبدالله بن بكير عن زرارة قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام عن قوله:( لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ) قال: كان شيئاً و لم يكن مذكوراً.

أقول: و روي فيه، أيضاً عن عبدالأعلى مولى آل سام عن أبي عبداللهعليه‌السلام : مثله.

و فيه، أيضاً عن العيّاشيّ بإسناده عن سعيد الحذّاء عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: كان مذكوراً في العلم و لم يكن مذكوراً في الخلق.

أقول: يعني أنّه كان له ثبوت في علم الله ثمّ خلق بالفعل فصار مذكوراً فيمن خلق.

و في الكافي، بإسناده عن مالك الجهنيّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام في الآية قال: كان مقدّراً غير مذكور.

أقول: هو في معنى الحديث السابق.

و في تفسير القمّيّ: في الآية قال: لم يكن في العلم و لا في الذكر، و في حديث آخر: كان في العلم و لم يكن في الذكر.

٢٢٧

أقول: معنى الحديث الأوّل أنّه لم يكن في علم الناس و لا فيمن يذكرونه فيما بينهم، و معنى الثاني أنّه كان في علم الله و لم يكن مذكوراً عند الناس.

و في تفسير القمّيّ، أيضاً في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله تعالى( أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ ) قال: ماء الرجل و المرأة اختلطا جميعاً.

و في الكافي، بإسناده عن حمران بن أعين قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قوله عزّوجلّ:( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً ) قال: إمّا آخذ فهو شاكر و إمّا تارك فهو كافر.

أقول: و رواه القمّيّ في تفسيره، بإسناده عن ابن أبي عمير عن أبي جعفرعليه‌السلام مثله، و في التوحيد، بإسناده إلى حمزة بن الطيّار عن أبي عبداللهعليه‌السلام ما يقرب منه و لفظه: عرّفناه إمّا آخذاً و إمّا تاركاً.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و ابن المنذر عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّ مولود يولد على الفطرة حتّى يعبّر عنه لسانه فإذا عبّر عنه لسانه إمّا شاكراً و إمّا كفوراً و الله تعالى أعلم.

و في أمالي الصدوق، بإسناده عن الصادق عن أبيهعليهما‌السلام في حديث:( عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً ) قال: هي عين في دار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفجر إلى دور الأنبياء و المؤمنين( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ) يعني عليّاً و فاطمة و الحسن و الحسينعليهم‌السلام و جاريتهم( وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) يقول عابساً كلوحاً( وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى‏ حُبِّهِ ) يقول: على شهوتهم للطعام و إيثارهم له( مِسْكِيناً ) من مساكين المسلمين( وَ يَتِيماً ) من يتامى المسلمين( وَ أَسِيراً ) من اُسارى المشركين.

و يقولون إذا أطعموهم:( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً ) قال: و الله ما قالوا هذا لهم و لكنّهم أضمروه في أنفسهم فأخبر الله بإضمارهم يقولون: لا نريد جزاءً تكافئوننا به و لا شكوراً تثنون علينا به، و لكنّا إنّما أطعمناكم لوجه الله و طلب ثوابه.

و في الدرّ المنثور، أخرج سعيد بن منصور و ابن أبي شيبة و ابن المنذر و ابن

٢٢٨

مردويه عن الحسن قال: كان الاُسارى مشركين يوم نزلت هذه الآية( وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى‏ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً ) .

أقول: مدلول الرواية نزول الآية بالمدينة، و نظيرها ما رواه فيه عن عبد بن حميد عن قتادة، و ما رواه عن ابن المنذر عن ابن جريح، و ما رواه عن عبدالرزّاق و ابن المنذر عن ابن عبّاس.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله:( يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ) قال: يقبض ما بين الأبصار.

و في روضة الكافي، بإسناده عن محمّد بن إسحاق المدنيّ عن أبي جعفرعليه‌السلام في صفة الجنّة قال: و الثمار دانية منهم و هو قوله عزّوجلّ:( وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا ) من قربها منهم يتناول المؤمن من النوع الّذي يشتهيه من الثمار بفيه و هو متكّئ و إنّ الأنواع من الفاكهة ليقلن لوليّ الله: يا وليّ الله كلمني قبل أن تأكل هذه قبلي.

و في تفسير القمّيّ: في قوله:( وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ ) قال: مسوّرون.

و في المعاني، بإسناده عن عبّاس بن يزيد قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام و كنت عنده ذات يوم: أخبرني عن قول الله عزّوجلّ:( وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً ) ما هذا الملك الّذي كبّر الله عزّوجلّ حتّى سمّاه كبيراً؟ قال: إذا أدخل الله أهل الجنّة الجنّة أرسل رسولاً إلى وليّ من أوليائه فيجد الحجبة على بابه فتقول له: قف حتّى نستأذن لك، فما يصل إليه رسول ربّه إلّا بإذن فهو قوله عزّوجلّ:( وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً ) .

و في المجمع:( وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً ) لا يزول و لا يفنى: عن الصادقعليه‌السلام .

و فيه:( عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ ) و روي عن الصادقعليه‌السلام في معناه: تعلوهم الثياب فيلبسونها.

٢٢٩

( كلام في هوية الإنسان على ما يفيده القرآن‏)

لا ريب أن في هذا الهيكل المحسوس الّذي نسمّيه إنساناً مبدءً للحياة ينتسب إليه الشعور و الإرادة، و قد عبّر تعالى عنه في الكلام في خلق الإنسان - آدم - بالروح و في سائر المواضع من كلامه بالنفس قال تعالى:( فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ) الحجر: ٢٩، ص: ٧٢، و قال:( ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ) الم السجدة: ٩.

و الّذي يسبق من الآيتين إلى النظر البادئ أنّ الروح و البدن حقيقتان اثنتان متفارقتان نظير العجين المركّب من الماء و الدقيق و الإنسان مجموع الحقيقتين فإذا قارنت الروح الجسد كان إنساناً حيّاً و إذا فارقت فهو الموت.

لكن يفسّرها قوله تعالى:( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) الم السجدة: ١١ حيث يفيد أنّ الروح الّتي يتوفّاها و يأخذها قابض الأرواح هي الّتي يعبّر عنها بلفظة( كم ) و هو الإنسان بتمام حقيقته لا جزء من مجموع فالمراد بنفخ الروح في الجسد جعل الجسد بعينه إنساناً لا ضمّ واحد إلى واحد آخر يغايره في ذاته و آثار ذاته فالإنسان حقيقة واحدة حين تعلّق روحه ببدنه و بعد مفارقة روحه البدن.

و يفيد هذا المعنى قوله تعالى:( وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ) المؤمنون: ١٤ فالّذي أنشأه الله خلقاً آخر هو النطفة الّتي تكوّنت علقة ثمّ مضغة ثمّ عظاماً بعينها.

و في معناها قوله تعالى:( هَلْ أَتى‏ عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ) فتقييد الشي‏ء المنفي بالمذكور يعطي أنّه كان شيئاً لكن لم يكن مذكوراً

٢٣٠

فقد كان أرضاً أو نطفة مثلاً لكن لم يكن مذكوراً أنّه الإنسان الفلانيّ ثمّ صار هو هو.

فمفاد كلامه تعالى أنّ الإنسان واحد حقيقيّ هو المبدأ الوحيد لجميع آثار البدن الطبيعيّة و الآثار الروحيّة كما أنّه مجرّد في نفسه عن المادّة كما يفيده أمثال قوله تعالى:( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ ) و قوله:( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ) الزمر: ٤٢ و قوله:( ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ) و قد تقدّم بيانه.

٢٣١

( سورة الإنسان الآيات ٢٣ - ٣١)

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلًا ( ٢٣ ) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا ( ٢٤ ) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ( ٢٥ ) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ( ٢٦ ) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا ( ٢٧ ) نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا ( ٢٨ ) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا ( ٢٩ ) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ( ٣٠ ) يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ٣١ )

( بيان‏)

لمّا وصف جزاء الأبرار و ما قدّر لهم من النعيم المقيم و الملك العظيم بما صبروا في جنب الله وجّه الخطاب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أمره بالصبر لحكم ربّه و أن لا يطيع هؤلاء الآثمين و الكفّار المحبّين للعاجلة المتعلّقين بها المعرضين عن الآخرة من المشركين و سائر الكفّار و المنافقين و أهل الأهواء، و أن يذكر اسم ربّه و يسجد له و يسبّحه مستمرّاً عليه ثمّ عمّم الحكم لاُمّته بقوله:( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا ) .

٢٣٢

فهذا وجه اتّصال الآيات بما قبلها و سياقها مع ذلك لا يخلو من شبه بالسياقات المكّيّة و على تقدير مكّيّتها فصدر السورة مدنيّ و ذيلها مكّيّ.

قوله تعالى: ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا ) تصدير الكلام بأنّ و تكرار ضمير المتكلّم مع الغير و الإتيان بالمفعول المطلق كلّ ذلك للتأكيد، و لتسجيل أنّ الّذي نزل من القرآن نجوماً متفرّقة هو من الله سبحانه لم يداخله نفث شيطانيّ و لا هو نفسانيّ.

قوله تعالى: ( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ) تفريع على ما هو لازم مضمون الآية السابقة فإنّ لازم كون الله سبحانه هو الّذي نزّل القرآن عليه أن يكون ما في القرآن من الحكم حكم ربّه يجب أن يطاع فالمعنى إذا كان تنزيله منّا فما فيه من الحكم حكم ربّك فيجب عليك أن تصبر له فاصبر لحكم ربّك.

و قوله:( وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ) ورود الترديد في سياق النهي يفيد عموم الحكم فالنهي عن طاعتهما سواء اجتمعا أو افترقا، و الظاهر أنّ المراد بالإثم المتلبّس بالمعصية و بالكفور المبالغ في الكفر فتشمل الآية الكفّار و الفساق جميعاً.

و سبق النهي عن طاعة الإثم و الكفور بالأمر بالصبر لحكم ربّه يفيد كون النهي مفسّراً للأمر فمفاد النهي أن لا تطع منهم آثماً إذا دعاك إلى إثمه و لا كفوراً إذا دعاك إلى كفره لأنّ إثم الآثم منهم و كفر الكافر مخالفان لحكم ربّك و أمّا تعليق الحكم بالوصف المشعر بالعلّيّة فإنّما يفيد علّيّة الإثم و الكفر للنهي عن الطاعة مطلقاً لا علّيّتهما للنهي إذا دعا الآثم إلى خصوص إثمه و الكافر إلى خصوص كفره.

قوله تعالى: ( وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا ) أي داوم على ذكر ربّك و هو الصلاة في كلّ بكرة و أصيل و هما الغدوّ و العشيّ.

قوله تعالى: ( وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَ سَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ) من للتبعيض و المراد بالسجود له الصلاة، و يقبل ما في الآيتين من ذكر اسمه بكرة و أصيلاً و السجود

٢٣٣

له بعض الليل الانطباق على صلاة الصبح و العصر و المغرب و العشاء و هذا يؤيّد نزول الآيات بمكّة قبل فرض الفرائض الخمس بقوله في آية الإسراء:( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى‏ غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ ) إسراء: ٧٨.

فالآيتان كقوله تعالى:( وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ) هود: ١١٤، و قوله:( وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِها وَ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرافَ النَّهارِ ) طه: ١٣٠.

نعم قيل: إنّ الأصيل يطلق على ما بعد الزوال فيشمل قوله:( وَ أَصِيلًا ) وقتي صلاتي الظهر و العصر جميعاً، و لا يخلو من وجه.

و قوله:( وَ سَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ) أي في ليل طويل و وصف الليل بالطويل توضيحيّ لا احترازيّ، و المراد بالتسبيح صلاة الليل، و احتمل أن يكون طويلاً صفة لمفعول مطلق محذوف، و التقدير سبّحه في الليل تسبيحاً طويلاً.

قوله تعالى: ( إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَ يَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا ) تعليل لما تقدّم من الأمر و النهي و الإشارة بهؤلاء إلى جمع الإثم و الكفور المدلول عليه بوقوع النكرة في سياق النهي، و المراد بالعاجلة الحياة الدنيا، و عدّ اليوم ثقيلاً من الاستعارة، و المراد بثقله شدّته كأنّه محمول ثقيل يشقّ حمله، و اليوم يوم القيامة.

و كون اليوم وراءهم تقرّره أمامهم لأنّ وراء تفيد معنى الإحاطة، أو جعلهم إيّاه خلفهم و وراء ظهورهم بناء على إفادة( يَذَرُونَ ) معنى الإعراض.

و المعنى: فاصبر لحكم ربّك و أقم الصلاة و لا تطع الآثمين و الكفّار منهم لأنّ هؤلاء الآثمين و الكفّار يحبّون الحياة الدنيا فلا يعملون إلّا لها و يتركون أمامهم يوماً شديداً أو يعرضون فيجعلون خلفهم يوماً شديداً سيلقونه.

قوله تعالى: ( نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَ إِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا ) الشدّ خلاف الفكّ، و الأسر في الأصل الشدّ و الربط و يطلق على ما يشدّ و يربط به فمعنى شددنا أسرهم أحكمنا ربط مفاصلهم بالرباطات و الأعصاب و العضلات أو الأسر

٢٣٤

بمعنى المأسور و المعنى أحكمنا ربط أعضائهم المختلفة المشدودة بعضها ببعض حتّى صار الواحد منهم بذلك إنساناً واحداً.

و قوله:( وَ إِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا ) أي إذا شئنا بدّلناهم أمثالهم فذهبنا بهم و جئنا بأمثالهم مكانهم و هو إماته قرن و إحياء آخرين، و قيل: المراد به تبديل نشأتهم الدنيا من نشأة القيامة و هو بعيد من السياق.

و الآية في معنى دفع الدخل كان متوهّماً يتوهّم أنّهم بحبّهم للدنيا و إعراضهم عن الآخرة يعجزونه تعالى و يفسدون عليه إرادته منهم أن يؤمنوا و يطيعوا فاُجيب بأنّهم مخلوقون لله خلقهم و شدّ أسرهم و إذا شاء أذهبهم و جاء بآخرين فكيف يعجزونه و خلقهم و أمرهم و حياتهم و موتهم بيده.؟

قوله تعالى: ( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا ) تقدّم تفسيره في سورة المزّمّل و الإشارة بهذه إلى ما ذكر في السورة.

قوله تعالى: ( وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً ) الاستثناء من النفي يفيد أنّ مشيّة العبد متوقّفة في وجودها على مشيّته تعالى فلمشيّته تعالى تأثير في فعل العبد من طريق تعلّقها بمشيّة العبد، و ليست متعلّقة بفعل العبد مستقلّاً و بلا واسطة حتّى تستلزم بطلان تأثير إرادة العبد و كون الفعل جبريّاً و لا أنّ العبد مستقلّ في إرادة يفعل ما يشاؤه شاء الله أو لم يشأ، فالفعل اختياريّ لاستناده إلى اختيار العبد، و أمّا اختيار العبد فليس مستنداً إلى اختيار آخر، و قد تكرّر توضيح هذا البحث في مواضع ممّا تقدّم.

و الآية مسوقة لدفع توهّم أنّهم مستقلّون في مشيّتهم منقطعون من مشيّة ربّهم، و لعلّ تسجيل هذا التنبيه عليهم هو الوجه في الالتفات إلى الخطاب في قوله( وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) كما أنّ الوجه في الالتفات من التكلّم بالغير إلى الغيبة في قوله:( يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ ) هو الإشارة إلى علّة الحكم فإنّ مسمّى هذا الاسم الجليل يبتدئ منه كلّ شي‏ء و ينتهي إليه كلّ شي‏ء فلا تكون مشيّة إلّا بمشيّته

٢٣٥

و لا تؤثّر مشيّة إلّا بإذنه.

و قوله:( إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً ) توطئة لبيان مضمون الآية التالية.

قوله تعالى: ( يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ الظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) مفعول( يَشاءُ ) محذوف يدلّ عليه الكلام، و التقدير يدخل في رحمته من يشاء دخوله في رحمته، و لا يشاء إلّا دخول من آمن و اتّقى، و أمّا غيرهم و هم أهل الإثم و الكفر فبيّن حالهم بقوله:( وَ الظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) .

و الآية تبيّن سنّته تعالى الجارية في عباده من حيث السعادة و الشقاء، و قد علّل ذلك بما في ذيل الآية السابقة من قوله( إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً ) فأفاد به أنّ سنّته تعالى ليست سنّة جزافيّة مبنيّة على الجهالة بل هو يعامل كلّاً من الطائفتين بما هو أهل له و سينبّئهم حقيقة ما كانوا يعملون.

( بحث روائي‏)

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله:( وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ) قال: حدّثنا أنّها نزلت في عدوّ الله أبي جهل.

أقول: و هو أشبه بالتطبيق.

و في المجمع في قوله تعالى:( وَ سَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ) روي عن الرضاعليه‌السلام : أنّه سأله أحمد بن محمّد عن هذه الآية و قال: ما ذلك التسبيح؟ قال: صلاة الليل.

و في الخرائج و الجرائح، عن القائمعليه‌السلام : في حديث يقول لكامل بن إبراهيم المدنيّ: و جئت تسأل عن مقالة المفوّضة كذبوا بل قلوبنا أوعية لمشيّة الله عزّوجلّ فإذا شاء شئنا، و الله يقول( وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه من طريق ابن شهاب عن سالم عن أبي هريرة أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول إذا خطب: كلّ ما هو آت قريب، لا بعد لما

٢٣٦

يأتي، و لا يعجل الله لعجلة أحد، ما شاء الله لا ما شاء الناس، يريد الناس أمراً و يريد الله أمراً، ما شاء الله كان و لو كره الناس، لا مباعد لما قرّب الله، و لا مقرّب لما باعد الله، لا يكون شي‏ء إلّا بإذن الله.

أقول: و في بعض الروايات من طرق أهل البيتعليهم‌السلام تطبيق الحكم في قوله:( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ) و الرحمة في قوله:( يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ ) على الولاية و هو من الجري أو البطن و ليس من التفسير في شي‏ء.

٢٣٧

( سورة المرسلات مكّيّة و هي خمسون آية)

( سورة المرسلات الآيات ١ - ١٥)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا ( ١ ) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ( ٢ ) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ( ٣ ) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ( ٤ ) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ( ٥ ) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ( ٦ ) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ( ٧ ) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ( ٨ ) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ ( ٩ ) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ ( ١٠ ) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ( ١١ ) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ( ١٢ ) لِيَوْمِ الْفَصْلِ ( ١٣ ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ ( ١٤ ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( ١٥ )

( بيان‏)

تذكر السورة يوم الفصل و هو يوم القيامة و تؤكّد الإخبار بوقوعه و تشفّعه بالوعيد الشديد للمكذّبين به و الإنذار و التبشير لغيرهم و يربو فيها جانب الوعيد على غيره فقد كرّر فيها قوله:( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) عشر مرّات.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً ) الآية و ما يتلوها إلى تمام ستّ آيات إقسام منه تعالى باُمور يعبّر عنها بالمرسلات فالعاصفات و الناشرات فالفارقات فالملقيات ذكراً عذراً أو نذراً، و الاُوليان أعني المرسلات عرفاً و العاصفات عصفاً لا تخلوان لو خلّيتا و نفسهما مع الغضّ عن السياق من ظهور ما في الرياح المتعاقبة الشديدة الهبوب لكنّ الأخيرة أعني الملقيات ذكراً عذراً أو نذراً كالصريحة في الملائكة النازلين على الرسل الحاملين لوحي الرسالة الملقين له إليهم إتماماً للحجّة أو إنذاراً و بقيّة الصفات

٢٣٨

لا تأبى الحمل على ما يناسب هذا المعنى.

و حمل جميع الصفات الخمس على إرادة الرياح كما هو ظاهر المرسلات و العاصفات - على ما عرفت - يحتاج إلى تكلّف شديد في توجيه الصفات الثلاث الباقية و خاصّة في الصفة الأخيرة.

و كذا حمل المرسلات و العاصفات على إرادة الرياح و حمل الثلاث الباقية أو الأخيرتين أو الأخيرة فحسب على ملائكة الوحي إذ لا تناسب ظاهراً بين الرياح و بين ملائكة الوحي حتّى يقارن بينها في الأقسام و ينظم الجميع في سلك واحد، و ما وجّهوه من مختلف التوجيهات معان بعيدة عن الذهن لا ينتقل إليها في مفتتح الكلام من غير تنبيه سابق.

فالوجه هو الغضّ عن هذه الأقاويل و هي كثيرة جدّاً لا تكاد تنضبط، و حمل المذكورات على إرادة ملائكة الوحي كنظيرتها في مفتتح سورة الصافّات:( وَ الصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً فَالتَّالِياتِ ذِكْراً ) و في معناها قوله تعالى:( عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ ) الجنّ: ٢٨.

فقوله:( وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً ) إقسام منه تعالى بها و العرف بالضمّ فالسكون الشعر النابت على عنق الفرس و يشبّه به الاُمور إذا تتابعت يقال: جاؤا كعرف الفرس، و يستعار فيقال: جاء القطا عرفاً أي متتابعة و جاؤا إليه عرفاً واحداً أي متتابعين، و العرف أيضاً المعروف من الأمر و النهي و( عُرْفاً ) حال بالمعنى الأوّل مفعول له بالمعنى الثاني، و الإرسال خلاف الإمساك، و تأنيث المرسلات باعتبار الجماعات أو باعتبار الروح الّتي تنزّل بها الملائكة قال تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) النحل: ٢ و قال( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) المؤمن: ١٥.

و المعنى اُقسم بالجماعات المرسلات من ملائكة الوحي.

و قيل: المراد بالمرسلات عرفاً الرياح المتتابعة المرسلة و قد تقدّمت الإشارة إلى

٢٣٩

ضعفه، و مثله في الضعف القول بأنّ المراد بها الأنبياءعليهم‌السلام فلا يلائمه ما يتلوها.

قوله تعالى: ( فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً ) عطف على المرسلات و المراد بالعصف سرعة السير استعارة من عصف الرياح إي سرعة هبوبها إشارة إلى سرعة سيرها إلى ما اُرسلت إليه، و المعنى اُقسم بالملائكة الّذين يرسلون متتابعين فيسرعون في سيرهم كالرياح العاصفة.

قوله تعالى: ( وَ النَّاشِراتِ نَشْراً ) إقسام آخر، و نشر الصحيفة و الكتاب و الثوب و نحوها: بسطه، و المراد بالنشر نشر صحف الوحي كما يشير إليه قوله تعالى( كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ ) عبس: ١٦ و المعنى و اُقسم بالملائكة الناشرين للصحف المكتوبة عليها الوحي للنبيّ ليتلقّاه.

و قيل: المراد بها الرياح ينشرها الله تعالى بين يدي رحمته و قيل: الرياح الناشرة للسحاب، و قيل: الملائكة الناشرين لصحائف الأعمال، و قيل: الملائكة نشروا أجنحتهم حين النزول و قيل: غير ذلك.

قوله تعالى: ( فَالْفارِقاتِ فَرْقاً ) المراد به الفرق بين الحقّ و الباطل و بين الحلال و الحرام، و الفرق المذكور صفة متفرّعة على النشر المذكور.

قوله تعالى: ( فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً ) المراد بالذكر القرآن يقرؤنه على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو مطلق الوحي النازل على الأنبياء المقروّ عليهم.

و الصفات الثلاث أعني النشر و الفرق و إلقاء مترتّبة فإنّ الفرق بين الحقّ و الباطل و الحلال و الحرام يتحقّق بنشر الصحف و إلقاء الذكر فبالنشر يشرع الفرق في التحقّق و بالتلاوة يتمّ تحقّقه فالنشر يترتّب عليه مرتبة من وجود الفرق و يترتّب عليها تمام وجوده بالإلقاء.

و قوله:( عُذْراً أَوْ نُذْراً ) هما من المفعول له و( أَوْ ) للتنويع قيل: هما مصدران بمعنى الإعذار و الإنذار، و الإعذار الإتيان بما يصير به معذوراً و المعنى أنّهم يلقون الذكر لتكون عذرا لعباده المؤمنين بالذكر و تخويفاً لغيرهم.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568