الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن6%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219983 / تحميل: 7018
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

و قد أسقط تعالى في قوله:( وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ ) الوسائط كلّها و نسب سقيهم إلى نفسه، و هذا أفضل ما ذكره الله تعالى من النعيم الموهوب لهم في الجنّة، و لعلّه من المزيد المذكور في قوله:( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ ) ق: ٣٥.

قوله تعالى: ( إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ) حكاية ما يخاطبون به من عنده تعالى عند توفيته أجرهم أو بحذف القول و التقدير و يقال لهم: إنّ هذا كان لكم جزاء إلخ.

و قوله:( وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ) إنشاء شكر لمساعيهم المرضيّة و أعمالهم المقبولة، و يا لها من كلمة طيّبة تطيب بها نفوسهم.

و اعلم أنّه تعالى لم يذكر فيما ذكر من نعيم الجنّة في هذه الآيات نساء الجنّة من الحور العين و هي من أهمّ ما يذكره عند وصف نعم الجنّة في سائر كلامه و يمكن أن يستظهر منه أنّه كانت بين هؤلاء الأبرار الّذين نزلت فيهم الآيات من هي من النساء.

و قال في روح المعاني: و من اللطائف على القول بنزول السورة فيهم يعني في أهل البيت أنّه سبحانه لم يذكر فيها الحور العين و إنّما صرّح عزّوجلّ بولدان مخلّدين رعاية لحرمة البتول و قرّة عين الرسول، انتهى.

( بحث روائي‏)

في إتقان السيوطيّ، عن البيهقيّ في دلائل النبوّة بإسناده عن عكرمة و الحسن بن أبي الحسن قالا: أنزل الله من القرآن بمكّة اقرأ باسم ربّك و ن و المزّمّل - إلى أن قالا - و ما نزل بالمدينة ويل للمطفّفين، و البقرة، و آل عمران، و الأنفال، و الأحزاب، و المائدة، و الممتحنة، و النساء، و إذا زلزلت، و الحديد، و محمّد، و الرعد، و الرحمن، و هل أتى على الإنسان. الحديث.

و فيه، عن ابن الضريس في فضائل القرآن بإسناده عن عثمان بن عطاء الخراسانيّ

٢٢١

عن أبيه عن ابن عبّاس قال: كان إذا نزلت فاتحة سورة بمكّة كتبت بمكّة ثمّ يزيد الله فيها ما شاء.

و كان أوّل ما اُنزل من القرآن اقرأ باسم ربّك، ثمّ ن، ثمّ يا أيّها المزّمّل - إلى أن قال - ثمّ اُنزل بالمدينة سورة البقرة ثمّ الأنفال ثمّ آل عمران ثمّ الأحزاب ثمّ الممتحنة ثمّ النساء ثمّ إذا زلزلت ثمّ الحديد ثمّ القتال ثمّ الرعد ثمّ الرحمن ثمّ الإنسان. الحديث.

و فيه، عن البيهقيّ في الدلائل بإسناده عن مجاهد عن ابن عبّاس أنّه قال: إنّ أوّل ما أنزل الله على نبيّه من القرآن اقرأ باسم ربّك، و ذكر مثل حديث عكرمة و الحسين و فيه ذكر ثلاث من السور المكّيّة الّتي سقطت من روايتهما و هي الفاتحة و الأعراف و كهيعص.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن الضريس و ابن مردويه و البيهقيّ عن ابن عبّاس قال: نزلت سورة الإنسان بالمدينة.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس في قوله تعالى:( وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى‏ حُبِّهِ ) الآية قال: نزلت هذه الآية في عليّ بن أبي طالب و فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أقول: الآية تشارك سائر آيات صدر السورة ممّا تقدّم عليها أو تأخّر عنها في سياق واحد متّصل فنزولها فيهماعليه‌السلام لا ينفكّ نزولها جميعاً بالمدينة.

و في الكشّاف: و عن ابن عبّاس: أنّ الحسن و الحسين مرضاً فعادهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ناس معه فقالوا: يا أباالحسن لو نذرت على ولدك (ولديك ظ) فنذر عليّ و فاطمة و فضّة جارية لهما إن برءا ممّا بهما أن يصوموا ثلاثة أيّام فشفيا و ما معهم شي‏ء.

فاستقرض عليّ من شمعون الخيبريّ اليهوديّ ثلاث أصوع من شعير فطحنت فاطمة صاعاً و اختبزت خمسة أقراص على عددهم فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل و قال: السلام عليكم أهل بيت محمّد مسكين من مساكين المسلمين أطعموني

٢٢٢

أطعمكم الله من موائد الجنّة فآثروه و باتوا لم يذوقوا إلّا الماء و أصبحوا صياماً.

فلمّا أمسوا و وضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه، و وقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك.

فلمّا أصبحوا أخذ عليّ بيد الحسن و الحسين و أقبلوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا أبصرهم و هم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع قال: ما أشدّ ما يسوءني ما أرى بكم فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها(١) ببطنها و غارت عيناها فساءه ذلك فنزل جبريل و قال: خذها يا محمّد هنّأك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة.

أقول: الرواية مرويّة بغير واحد من الطرق عن عطاء عن ابن عبّاس و نقلها البحرانيّ في غاية المرام، عن أبي المؤيّد الموفّق بن أحمد في كتاب فضائل أميرالمؤمنين بإسناده عن مجاهد عن ابن عبّاس، و عنه بإسناد آخر عن الضحّاك عن ابن عبّاس و عن الحموينيّ في كتاب فرائد السمطين بإسناده عن مجاهد عن ابن عبّاس، و عن الثعلبيّ بإسناده عن أبي صالح عن ابن عبّاس، و رواه في المجمع، عن الواحدي في تفسيره.

و في المجمع، بإسناده عن الحاكم بإسناده عن سعيد بن المسيب عن عليّ بن أبي طالب أنّه قال سألت النبيّ عن ثواب القرآن: فأخبرني بثواب سورة سورة على نحو ما نزلت من السماء.

فأوّل ما نزل عليه بمكّة فاتحة الكتاب ثمّ اقرأ باسم ربّك، ثمّ ن - إلى أن قال - و أوّل ما نزل بالمدينة سورة البقرة ثمّ الأنفال ثمّ آل عمران ثمّ الأحزاب ثمّ الممتحنة ثمّ النساء ثمّ إذا زلزلت ثمّ الحديد ثمّ سورة محمّد ثمّ الرعد ثمّ سورة الرحمن ثمّ هل أتى. الحديث.

و فيه، عن أبي حمزة الثماليّ في تفسيره قال: حدّثني الحسن بن الحسن أبوعبدالله بن الحسن: أنّها مدنيّة نزلت في عليّ و فاطمة السورة كلّها.

و في تفسير القميّ، عن أبيه عن عبدالله بن ميمون عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: كان

____________________

(١) بطنها بظهرها ظ.

٢٢٣

عند فاطمةعليها‌السلام شعير فجعلوه عصيدة(١) فلمّا أنضجوها و وضعوها بين أيديهم جاء مسكين فقال: مسكين رحمكم الله فقام عليّعليه‌السلام فأعطاه ثلثاً فلم يلبث أن جاء يتيم فقال: اليتيم رحمكم الله فقام عليّعليه‌السلام فأعطاه الثلث ثمّ جاء أسير فقال: الأسير رحمكم الله فأعطاه عليّعليه‌السلام الثلث و ما ذاقوها فأنزل الله سبحانه الآيات فيهم و هي جارية في كلّ مؤمن فعل ذلك لله عزّوجلّ.

أقول: القصّة كما ترى ملخّصة في الرواية و روى ذلك البحراني في غاية المرام، عن المفيد في الاختصاص، مسنداً و عن ابن بابويه في الأمالي، بإسناده عن مجاهد عن ابن عبّاس، و بإسناده عن سلمة بن خالد عن جعفر بن محمّد عن أبيهعليهما‌السلام ، و عن محمّد بن العبّاس بن ماهيار في تفسيره بإسناده عن أبي كثير الزبيريّ عن عبدالله بن عبّاس، و في المناقب، أنّه مرويّ عن الأصبغ بن نباتة.

و في الاحتجاج، عن عليّعليه‌السلام : في حديث يقول فيه للقوم بعد موت عمر بن الخطّاب: نشدتكم بالله هل فيكم أحد نزل فيه و في ولده( إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً ) إلى آخر السورة غيري؟ قالوا: لا.

و في كتاب الخصال، في احتجاج عليّ على أبي بكر قال: اُنشدك بالله أنا صاحب الآية( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) أم أنت؟ قال: بل أنت.

و في الدرّ المنثور، أخرج الطبرانيّ و ابن مردويه و ابن عساكر عن ابن عمر قال: جاء رجل من الحبشة إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سل و استفهم فقال: يا رسول الله فضّلتم علينا بالألوان و الصور و النبوّة أ فرأيت إن آمنت بما آمنت به و عملت بمثل ما عملت به أنّي لكائن معك في الجنّة؟ قال: نعم و الّذي نفسي بيده إنّه ليرى بياض الأسود في الجنّة من مسيرة ألف عام. ثمّ قال: من قال لا إله إلّا الله كان له عهد عندالله و من قال: سبحان الله و بحمده كتبت له مائة ألف حسنة و أربعة و عشرون ألف حسنة و نزلت عليه السورة( هَلْ أَتى‏ عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ

____________________

(١) العصيدة: شعير يلت بالسمن و يطبخ.

٢٢٤

الدَّهْرِ - إلى قوله -مُلْكاً كَبِيراً ) .

فقال الحبشيّ: و إنّ عيني لترى ما ترى عيناك في الجنّة؟ قال: نعم فاشتكى حتّى فاضت نفسه. قال عمر: فلقد رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدلّيه في حفرته بيده.

و فيه، أخرج أحمد في الزهد عن محمّد بن مطرف قال: حدّثني الثقة: أنّ رجلاً أسود كان يسأل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن التسبيح و التهليل فقال له عمر بن الخطّاب: مه أكثرت على رسول الله فقال: مه يا عمر و اُنزلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( هَلْ أَتى‏ عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ) حتّى إذا أتى على ذكر الجنّة زفر الأسود زفرة خرجت نفسه فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مات شوقاً إلى الجنّة.

و فيه، أخرج ابن وهب عن ابن زيد أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ هذه السورة( هَلْ أَتى‏ عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ) و قد اُنزلت عليه و عنده رجل أسود فلمّا بلغ صفة الجنان زفر زفرة فخرجت نفسه فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أخرج نفس صاحبكم الشوق إلى الجنّة.

أقول: و هذه الروايات الثلاث على تقدير صحّتها لا تدلّ على أزيد من كون نزول السورة مقارناً لقصّة الرجل و أمّا كونها سبباً للنزول فلا، و هذا المعنى في الرواية الأخيرة أظهر و بالجملة لا تنافي الروايات الثلاث نزول السورة في أهل البيتعليهم‌السلام .

على أنّ رواية ابن عمر للقصّة الظاهرة في حضوره القصّة و قد هاجر إلى المدينة و هو ابن إحدى عشرة سنة من شواهد وقوع القصّة بالمدينة.

و في الدرّ المنثور، أيضاً أخرج النحّاس عن ابن عبّاس قال: نزلت سورة الإنسان بمكّة.

أقول: هو تلخيص حديث طويل أورده النحّاس في كتاب النّاسخ و المنسوخ، و قد نقله في الإتقان و هو معارض لما تقدّم نقله مستفيضاً عن ابن عبّاس من نزول السورة بالمدينة و أنّها نزلت في أهل البيتعليهم‌السلام .

على أنّ سياق آياتها و خاصّة قوله:( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ و يُطْعِمُونَ الطَّعامَ )

٢٢٥

إلخ سياق قصّة واقعة و ذكر الأسير فيمن أطعموهم نعم الشاهد على نزول الآيات بالمدينة إذ لم يكن للمسلمين أسير بمكّة كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك.

قال بعضهم ما ملخّصه: أنّ الروايات مختلفة في مكّيّة هذه السورة و مدنيّتها و الأرجح أنّها مكّيّة بل الظاهر من سياقها أنّها من عتائق السور القرآنيّة النازلة بمكّة في أوائل البعثة يؤيّد ذلك ما ورد فيها من صور النعم الحسّيّة المفصّلة الطويلة و صور العذاب الغليظ كما يؤيّده ما ورد فيها من أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر لحكم ربّه و أن لا يطيع منهم آثماً أو كفوراً و يثبت على ما نزل عليه من الحقّ و لا يداهن المشركين من الأوامر الّتي كانت تنزّل بمكّة عند اشتداد الأذى على الدعوة و أصحابها بمكّة كما في سورة القلم و المزّمّل و المدّثّر فلا عبرة باحتمال مدنيّة السورة.

و هو فاسد أمّا ما ذكره من اشتمال السورة على صور النعم الحسّيّة المفصّلة الطويلة و صور العذاب الغليظ فليس ذلك ممّا يختصّ بالسور المكّيّة حتّى يقضى بها على كون السورة مكّيّة فهذه سورة الرحمن و سورة الحجّ مدنيّتان على ما تقدّمت في الروايات المشتملة على ترتيب نزول السور القرآنيّة و قد اشتملتا من صور النعم الحسّيّة المفصّلة الطويلة و صور العذاب الغليظ على ما يربو و يزيد على هذه السورة بكثير.

و أمّا ما ذكره من اشتمال السورة على أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر و أن لا يطيع منهم آثماً أو كفوراً و لا يداهنهم و يثبت على ما نزل عليه من الحقّ ففيه أنّ هذه الأوامر واقعة في الفصل الثاني من آيات السورة و هو قوله:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا ) إلى آخر السورة و من المحتمل جدّاً أن يكون هذا الفصل من الآيات - و هو ذو سياق تامّ مستقلّ - نازلاً بمكّة، و يؤيّده ما في كثير من الروايات المتقدّمة أنّ الّذي نزل في أهل البيت بالمدينة هو الفصل الأوّل من الآيات، و على هذا أوّل السورة مدنيّ و آخرها مكّيّ.

٢٢٦

و لو سلّم نزولها دفعة واحدة فأمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر لا اختصاص له بالسور المكّيّة فقد ورد في قوله:( وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَ اتَّبَعَ هَواهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ) الكهف: ٢٨ و الآية - على ما روي - مدنيّة و الآية - كما ترى - متّحدة المعنى مع قوله:( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ) إلخ و هي في سياق شبيه جدّاً بسياق هذه الآيات فراجع و تأمّل.

ثمّ الّذي كان يلقاه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أذى المنافقين و الّذين في قلوبهم مرض و الجفاة من ضعفاء الإيمان لم يكن بأهون من أذى المشركين بمكّة يشهد بذلك أخبار سيرته.

و لا دليل أيضاً على انحصار الإثم و الكفور في مشركي مكّة فهناك غيرهم من الكفّار و قد أثبت القرآن الإثم لجمع من المسلمين في موارد كقوله:( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ) النور: ١١، و قوله:( وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً ) النساء: ١١٢.

و في المجمع، و روى العيّاشيّ بإسناده عن عبدالله بن بكير عن زرارة قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام عن قوله:( لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ) قال: كان شيئاً و لم يكن مذكوراً.

أقول: و روي فيه، أيضاً عن عبدالأعلى مولى آل سام عن أبي عبداللهعليه‌السلام : مثله.

و فيه، أيضاً عن العيّاشيّ بإسناده عن سعيد الحذّاء عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: كان مذكوراً في العلم و لم يكن مذكوراً في الخلق.

أقول: يعني أنّه كان له ثبوت في علم الله ثمّ خلق بالفعل فصار مذكوراً فيمن خلق.

و في الكافي، بإسناده عن مالك الجهنيّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام في الآية قال: كان مقدّراً غير مذكور.

أقول: هو في معنى الحديث السابق.

و في تفسير القمّيّ: في الآية قال: لم يكن في العلم و لا في الذكر، و في حديث آخر: كان في العلم و لم يكن في الذكر.

٢٢٧

أقول: معنى الحديث الأوّل أنّه لم يكن في علم الناس و لا فيمن يذكرونه فيما بينهم، و معنى الثاني أنّه كان في علم الله و لم يكن مذكوراً عند الناس.

و في تفسير القمّيّ، أيضاً في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله تعالى( أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ ) قال: ماء الرجل و المرأة اختلطا جميعاً.

و في الكافي، بإسناده عن حمران بن أعين قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قوله عزّوجلّ:( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً ) قال: إمّا آخذ فهو شاكر و إمّا تارك فهو كافر.

أقول: و رواه القمّيّ في تفسيره، بإسناده عن ابن أبي عمير عن أبي جعفرعليه‌السلام مثله، و في التوحيد، بإسناده إلى حمزة بن الطيّار عن أبي عبداللهعليه‌السلام ما يقرب منه و لفظه: عرّفناه إمّا آخذاً و إمّا تاركاً.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و ابن المنذر عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّ مولود يولد على الفطرة حتّى يعبّر عنه لسانه فإذا عبّر عنه لسانه إمّا شاكراً و إمّا كفوراً و الله تعالى أعلم.

و في أمالي الصدوق، بإسناده عن الصادق عن أبيهعليهما‌السلام في حديث:( عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً ) قال: هي عين في دار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفجر إلى دور الأنبياء و المؤمنين( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ) يعني عليّاً و فاطمة و الحسن و الحسينعليهم‌السلام و جاريتهم( وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) يقول عابساً كلوحاً( وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى‏ حُبِّهِ ) يقول: على شهوتهم للطعام و إيثارهم له( مِسْكِيناً ) من مساكين المسلمين( وَ يَتِيماً ) من يتامى المسلمين( وَ أَسِيراً ) من اُسارى المشركين.

و يقولون إذا أطعموهم:( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً ) قال: و الله ما قالوا هذا لهم و لكنّهم أضمروه في أنفسهم فأخبر الله بإضمارهم يقولون: لا نريد جزاءً تكافئوننا به و لا شكوراً تثنون علينا به، و لكنّا إنّما أطعمناكم لوجه الله و طلب ثوابه.

و في الدرّ المنثور، أخرج سعيد بن منصور و ابن أبي شيبة و ابن المنذر و ابن

٢٢٨

مردويه عن الحسن قال: كان الاُسارى مشركين يوم نزلت هذه الآية( وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى‏ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً ) .

أقول: مدلول الرواية نزول الآية بالمدينة، و نظيرها ما رواه فيه عن عبد بن حميد عن قتادة، و ما رواه عن ابن المنذر عن ابن جريح، و ما رواه عن عبدالرزّاق و ابن المنذر عن ابن عبّاس.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله:( يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ) قال: يقبض ما بين الأبصار.

و في روضة الكافي، بإسناده عن محمّد بن إسحاق المدنيّ عن أبي جعفرعليه‌السلام في صفة الجنّة قال: و الثمار دانية منهم و هو قوله عزّوجلّ:( وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا ) من قربها منهم يتناول المؤمن من النوع الّذي يشتهيه من الثمار بفيه و هو متكّئ و إنّ الأنواع من الفاكهة ليقلن لوليّ الله: يا وليّ الله كلمني قبل أن تأكل هذه قبلي.

و في تفسير القمّيّ: في قوله:( وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ ) قال: مسوّرون.

و في المعاني، بإسناده عن عبّاس بن يزيد قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام و كنت عنده ذات يوم: أخبرني عن قول الله عزّوجلّ:( وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً ) ما هذا الملك الّذي كبّر الله عزّوجلّ حتّى سمّاه كبيراً؟ قال: إذا أدخل الله أهل الجنّة الجنّة أرسل رسولاً إلى وليّ من أوليائه فيجد الحجبة على بابه فتقول له: قف حتّى نستأذن لك، فما يصل إليه رسول ربّه إلّا بإذن فهو قوله عزّوجلّ:( وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً ) .

و في المجمع:( وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً ) لا يزول و لا يفنى: عن الصادقعليه‌السلام .

و فيه:( عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ ) و روي عن الصادقعليه‌السلام في معناه: تعلوهم الثياب فيلبسونها.

٢٢٩

( كلام في هوية الإنسان على ما يفيده القرآن‏)

لا ريب أن في هذا الهيكل المحسوس الّذي نسمّيه إنساناً مبدءً للحياة ينتسب إليه الشعور و الإرادة، و قد عبّر تعالى عنه في الكلام في خلق الإنسان - آدم - بالروح و في سائر المواضع من كلامه بالنفس قال تعالى:( فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ) الحجر: ٢٩، ص: ٧٢، و قال:( ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ) الم السجدة: ٩.

و الّذي يسبق من الآيتين إلى النظر البادئ أنّ الروح و البدن حقيقتان اثنتان متفارقتان نظير العجين المركّب من الماء و الدقيق و الإنسان مجموع الحقيقتين فإذا قارنت الروح الجسد كان إنساناً حيّاً و إذا فارقت فهو الموت.

لكن يفسّرها قوله تعالى:( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) الم السجدة: ١١ حيث يفيد أنّ الروح الّتي يتوفّاها و يأخذها قابض الأرواح هي الّتي يعبّر عنها بلفظة( كم ) و هو الإنسان بتمام حقيقته لا جزء من مجموع فالمراد بنفخ الروح في الجسد جعل الجسد بعينه إنساناً لا ضمّ واحد إلى واحد آخر يغايره في ذاته و آثار ذاته فالإنسان حقيقة واحدة حين تعلّق روحه ببدنه و بعد مفارقة روحه البدن.

و يفيد هذا المعنى قوله تعالى:( وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ) المؤمنون: ١٤ فالّذي أنشأه الله خلقاً آخر هو النطفة الّتي تكوّنت علقة ثمّ مضغة ثمّ عظاماً بعينها.

و في معناها قوله تعالى:( هَلْ أَتى‏ عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ) فتقييد الشي‏ء المنفي بالمذكور يعطي أنّه كان شيئاً لكن لم يكن مذكوراً

٢٣٠

فقد كان أرضاً أو نطفة مثلاً لكن لم يكن مذكوراً أنّه الإنسان الفلانيّ ثمّ صار هو هو.

فمفاد كلامه تعالى أنّ الإنسان واحد حقيقيّ هو المبدأ الوحيد لجميع آثار البدن الطبيعيّة و الآثار الروحيّة كما أنّه مجرّد في نفسه عن المادّة كما يفيده أمثال قوله تعالى:( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ ) و قوله:( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ) الزمر: ٤٢ و قوله:( ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ) و قد تقدّم بيانه.

٢٣١

( سورة الإنسان الآيات ٢٣ - ٣١)

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلًا ( ٢٣ ) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا ( ٢٤ ) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ( ٢٥ ) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ( ٢٦ ) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا ( ٢٧ ) نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا ( ٢٨ ) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا ( ٢٩ ) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ( ٣٠ ) يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ٣١ )

( بيان‏)

لمّا وصف جزاء الأبرار و ما قدّر لهم من النعيم المقيم و الملك العظيم بما صبروا في جنب الله وجّه الخطاب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أمره بالصبر لحكم ربّه و أن لا يطيع هؤلاء الآثمين و الكفّار المحبّين للعاجلة المتعلّقين بها المعرضين عن الآخرة من المشركين و سائر الكفّار و المنافقين و أهل الأهواء، و أن يذكر اسم ربّه و يسجد له و يسبّحه مستمرّاً عليه ثمّ عمّم الحكم لاُمّته بقوله:( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا ) .

٢٣٢

فهذا وجه اتّصال الآيات بما قبلها و سياقها مع ذلك لا يخلو من شبه بالسياقات المكّيّة و على تقدير مكّيّتها فصدر السورة مدنيّ و ذيلها مكّيّ.

قوله تعالى: ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا ) تصدير الكلام بأنّ و تكرار ضمير المتكلّم مع الغير و الإتيان بالمفعول المطلق كلّ ذلك للتأكيد، و لتسجيل أنّ الّذي نزل من القرآن نجوماً متفرّقة هو من الله سبحانه لم يداخله نفث شيطانيّ و لا هو نفسانيّ.

قوله تعالى: ( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ) تفريع على ما هو لازم مضمون الآية السابقة فإنّ لازم كون الله سبحانه هو الّذي نزّل القرآن عليه أن يكون ما في القرآن من الحكم حكم ربّه يجب أن يطاع فالمعنى إذا كان تنزيله منّا فما فيه من الحكم حكم ربّك فيجب عليك أن تصبر له فاصبر لحكم ربّك.

و قوله:( وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ) ورود الترديد في سياق النهي يفيد عموم الحكم فالنهي عن طاعتهما سواء اجتمعا أو افترقا، و الظاهر أنّ المراد بالإثم المتلبّس بالمعصية و بالكفور المبالغ في الكفر فتشمل الآية الكفّار و الفساق جميعاً.

و سبق النهي عن طاعة الإثم و الكفور بالأمر بالصبر لحكم ربّه يفيد كون النهي مفسّراً للأمر فمفاد النهي أن لا تطع منهم آثماً إذا دعاك إلى إثمه و لا كفوراً إذا دعاك إلى كفره لأنّ إثم الآثم منهم و كفر الكافر مخالفان لحكم ربّك و أمّا تعليق الحكم بالوصف المشعر بالعلّيّة فإنّما يفيد علّيّة الإثم و الكفر للنهي عن الطاعة مطلقاً لا علّيّتهما للنهي إذا دعا الآثم إلى خصوص إثمه و الكافر إلى خصوص كفره.

قوله تعالى: ( وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا ) أي داوم على ذكر ربّك و هو الصلاة في كلّ بكرة و أصيل و هما الغدوّ و العشيّ.

قوله تعالى: ( وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَ سَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ) من للتبعيض و المراد بالسجود له الصلاة، و يقبل ما في الآيتين من ذكر اسمه بكرة و أصيلاً و السجود

٢٣٣

له بعض الليل الانطباق على صلاة الصبح و العصر و المغرب و العشاء و هذا يؤيّد نزول الآيات بمكّة قبل فرض الفرائض الخمس بقوله في آية الإسراء:( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى‏ غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ ) إسراء: ٧٨.

فالآيتان كقوله تعالى:( وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ) هود: ١١٤، و قوله:( وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِها وَ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرافَ النَّهارِ ) طه: ١٣٠.

نعم قيل: إنّ الأصيل يطلق على ما بعد الزوال فيشمل قوله:( وَ أَصِيلًا ) وقتي صلاتي الظهر و العصر جميعاً، و لا يخلو من وجه.

و قوله:( وَ سَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ) أي في ليل طويل و وصف الليل بالطويل توضيحيّ لا احترازيّ، و المراد بالتسبيح صلاة الليل، و احتمل أن يكون طويلاً صفة لمفعول مطلق محذوف، و التقدير سبّحه في الليل تسبيحاً طويلاً.

قوله تعالى: ( إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَ يَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا ) تعليل لما تقدّم من الأمر و النهي و الإشارة بهؤلاء إلى جمع الإثم و الكفور المدلول عليه بوقوع النكرة في سياق النهي، و المراد بالعاجلة الحياة الدنيا، و عدّ اليوم ثقيلاً من الاستعارة، و المراد بثقله شدّته كأنّه محمول ثقيل يشقّ حمله، و اليوم يوم القيامة.

و كون اليوم وراءهم تقرّره أمامهم لأنّ وراء تفيد معنى الإحاطة، أو جعلهم إيّاه خلفهم و وراء ظهورهم بناء على إفادة( يَذَرُونَ ) معنى الإعراض.

و المعنى: فاصبر لحكم ربّك و أقم الصلاة و لا تطع الآثمين و الكفّار منهم لأنّ هؤلاء الآثمين و الكفّار يحبّون الحياة الدنيا فلا يعملون إلّا لها و يتركون أمامهم يوماً شديداً أو يعرضون فيجعلون خلفهم يوماً شديداً سيلقونه.

قوله تعالى: ( نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَ إِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا ) الشدّ خلاف الفكّ، و الأسر في الأصل الشدّ و الربط و يطلق على ما يشدّ و يربط به فمعنى شددنا أسرهم أحكمنا ربط مفاصلهم بالرباطات و الأعصاب و العضلات أو الأسر

٢٣٤

بمعنى المأسور و المعنى أحكمنا ربط أعضائهم المختلفة المشدودة بعضها ببعض حتّى صار الواحد منهم بذلك إنساناً واحداً.

و قوله:( وَ إِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا ) أي إذا شئنا بدّلناهم أمثالهم فذهبنا بهم و جئنا بأمثالهم مكانهم و هو إماته قرن و إحياء آخرين، و قيل: المراد به تبديل نشأتهم الدنيا من نشأة القيامة و هو بعيد من السياق.

و الآية في معنى دفع الدخل كان متوهّماً يتوهّم أنّهم بحبّهم للدنيا و إعراضهم عن الآخرة يعجزونه تعالى و يفسدون عليه إرادته منهم أن يؤمنوا و يطيعوا فاُجيب بأنّهم مخلوقون لله خلقهم و شدّ أسرهم و إذا شاء أذهبهم و جاء بآخرين فكيف يعجزونه و خلقهم و أمرهم و حياتهم و موتهم بيده.؟

قوله تعالى: ( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا ) تقدّم تفسيره في سورة المزّمّل و الإشارة بهذه إلى ما ذكر في السورة.

قوله تعالى: ( وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً ) الاستثناء من النفي يفيد أنّ مشيّة العبد متوقّفة في وجودها على مشيّته تعالى فلمشيّته تعالى تأثير في فعل العبد من طريق تعلّقها بمشيّة العبد، و ليست متعلّقة بفعل العبد مستقلّاً و بلا واسطة حتّى تستلزم بطلان تأثير إرادة العبد و كون الفعل جبريّاً و لا أنّ العبد مستقلّ في إرادة يفعل ما يشاؤه شاء الله أو لم يشأ، فالفعل اختياريّ لاستناده إلى اختيار العبد، و أمّا اختيار العبد فليس مستنداً إلى اختيار آخر، و قد تكرّر توضيح هذا البحث في مواضع ممّا تقدّم.

و الآية مسوقة لدفع توهّم أنّهم مستقلّون في مشيّتهم منقطعون من مشيّة ربّهم، و لعلّ تسجيل هذا التنبيه عليهم هو الوجه في الالتفات إلى الخطاب في قوله( وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) كما أنّ الوجه في الالتفات من التكلّم بالغير إلى الغيبة في قوله:( يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ ) هو الإشارة إلى علّة الحكم فإنّ مسمّى هذا الاسم الجليل يبتدئ منه كلّ شي‏ء و ينتهي إليه كلّ شي‏ء فلا تكون مشيّة إلّا بمشيّته

٢٣٥

و لا تؤثّر مشيّة إلّا بإذنه.

و قوله:( إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً ) توطئة لبيان مضمون الآية التالية.

قوله تعالى: ( يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ الظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) مفعول( يَشاءُ ) محذوف يدلّ عليه الكلام، و التقدير يدخل في رحمته من يشاء دخوله في رحمته، و لا يشاء إلّا دخول من آمن و اتّقى، و أمّا غيرهم و هم أهل الإثم و الكفر فبيّن حالهم بقوله:( وَ الظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) .

و الآية تبيّن سنّته تعالى الجارية في عباده من حيث السعادة و الشقاء، و قد علّل ذلك بما في ذيل الآية السابقة من قوله( إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً ) فأفاد به أنّ سنّته تعالى ليست سنّة جزافيّة مبنيّة على الجهالة بل هو يعامل كلّاً من الطائفتين بما هو أهل له و سينبّئهم حقيقة ما كانوا يعملون.

( بحث روائي‏)

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله:( وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ) قال: حدّثنا أنّها نزلت في عدوّ الله أبي جهل.

أقول: و هو أشبه بالتطبيق.

و في المجمع في قوله تعالى:( وَ سَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ) روي عن الرضاعليه‌السلام : أنّه سأله أحمد بن محمّد عن هذه الآية و قال: ما ذلك التسبيح؟ قال: صلاة الليل.

و في الخرائج و الجرائح، عن القائمعليه‌السلام : في حديث يقول لكامل بن إبراهيم المدنيّ: و جئت تسأل عن مقالة المفوّضة كذبوا بل قلوبنا أوعية لمشيّة الله عزّوجلّ فإذا شاء شئنا، و الله يقول( وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه من طريق ابن شهاب عن سالم عن أبي هريرة أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول إذا خطب: كلّ ما هو آت قريب، لا بعد لما

٢٣٦

يأتي، و لا يعجل الله لعجلة أحد، ما شاء الله لا ما شاء الناس، يريد الناس أمراً و يريد الله أمراً، ما شاء الله كان و لو كره الناس، لا مباعد لما قرّب الله، و لا مقرّب لما باعد الله، لا يكون شي‏ء إلّا بإذن الله.

أقول: و في بعض الروايات من طرق أهل البيتعليهم‌السلام تطبيق الحكم في قوله:( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ) و الرحمة في قوله:( يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ ) على الولاية و هو من الجري أو البطن و ليس من التفسير في شي‏ء.

٢٣٧

( سورة المرسلات مكّيّة و هي خمسون آية)

( سورة المرسلات الآيات ١ - ١٥)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا ( ١ ) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ( ٢ ) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ( ٣ ) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ( ٤ ) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ( ٥ ) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ( ٦ ) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ( ٧ ) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ( ٨ ) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ ( ٩ ) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ ( ١٠ ) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ( ١١ ) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ( ١٢ ) لِيَوْمِ الْفَصْلِ ( ١٣ ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ ( ١٤ ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( ١٥ )

( بيان‏)

تذكر السورة يوم الفصل و هو يوم القيامة و تؤكّد الإخبار بوقوعه و تشفّعه بالوعيد الشديد للمكذّبين به و الإنذار و التبشير لغيرهم و يربو فيها جانب الوعيد على غيره فقد كرّر فيها قوله:( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) عشر مرّات.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً ) الآية و ما يتلوها إلى تمام ستّ آيات إقسام منه تعالى باُمور يعبّر عنها بالمرسلات فالعاصفات و الناشرات فالفارقات فالملقيات ذكراً عذراً أو نذراً، و الاُوليان أعني المرسلات عرفاً و العاصفات عصفاً لا تخلوان لو خلّيتا و نفسهما مع الغضّ عن السياق من ظهور ما في الرياح المتعاقبة الشديدة الهبوب لكنّ الأخيرة أعني الملقيات ذكراً عذراً أو نذراً كالصريحة في الملائكة النازلين على الرسل الحاملين لوحي الرسالة الملقين له إليهم إتماماً للحجّة أو إنذاراً و بقيّة الصفات

٢٣٨

لا تأبى الحمل على ما يناسب هذا المعنى.

و حمل جميع الصفات الخمس على إرادة الرياح كما هو ظاهر المرسلات و العاصفات - على ما عرفت - يحتاج إلى تكلّف شديد في توجيه الصفات الثلاث الباقية و خاصّة في الصفة الأخيرة.

و كذا حمل المرسلات و العاصفات على إرادة الرياح و حمل الثلاث الباقية أو الأخيرتين أو الأخيرة فحسب على ملائكة الوحي إذ لا تناسب ظاهراً بين الرياح و بين ملائكة الوحي حتّى يقارن بينها في الأقسام و ينظم الجميع في سلك واحد، و ما وجّهوه من مختلف التوجيهات معان بعيدة عن الذهن لا ينتقل إليها في مفتتح الكلام من غير تنبيه سابق.

فالوجه هو الغضّ عن هذه الأقاويل و هي كثيرة جدّاً لا تكاد تنضبط، و حمل المذكورات على إرادة ملائكة الوحي كنظيرتها في مفتتح سورة الصافّات:( وَ الصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً فَالتَّالِياتِ ذِكْراً ) و في معناها قوله تعالى:( عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ ) الجنّ: ٢٨.

فقوله:( وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً ) إقسام منه تعالى بها و العرف بالضمّ فالسكون الشعر النابت على عنق الفرس و يشبّه به الاُمور إذا تتابعت يقال: جاؤا كعرف الفرس، و يستعار فيقال: جاء القطا عرفاً أي متتابعة و جاؤا إليه عرفاً واحداً أي متتابعين، و العرف أيضاً المعروف من الأمر و النهي و( عُرْفاً ) حال بالمعنى الأوّل مفعول له بالمعنى الثاني، و الإرسال خلاف الإمساك، و تأنيث المرسلات باعتبار الجماعات أو باعتبار الروح الّتي تنزّل بها الملائكة قال تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) النحل: ٢ و قال( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) المؤمن: ١٥.

و المعنى اُقسم بالجماعات المرسلات من ملائكة الوحي.

و قيل: المراد بالمرسلات عرفاً الرياح المتتابعة المرسلة و قد تقدّمت الإشارة إلى

٢٣٩

ضعفه، و مثله في الضعف القول بأنّ المراد بها الأنبياءعليهم‌السلام فلا يلائمه ما يتلوها.

قوله تعالى: ( فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً ) عطف على المرسلات و المراد بالعصف سرعة السير استعارة من عصف الرياح إي سرعة هبوبها إشارة إلى سرعة سيرها إلى ما اُرسلت إليه، و المعنى اُقسم بالملائكة الّذين يرسلون متتابعين فيسرعون في سيرهم كالرياح العاصفة.

قوله تعالى: ( وَ النَّاشِراتِ نَشْراً ) إقسام آخر، و نشر الصحيفة و الكتاب و الثوب و نحوها: بسطه، و المراد بالنشر نشر صحف الوحي كما يشير إليه قوله تعالى( كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ ) عبس: ١٦ و المعنى و اُقسم بالملائكة الناشرين للصحف المكتوبة عليها الوحي للنبيّ ليتلقّاه.

و قيل: المراد بها الرياح ينشرها الله تعالى بين يدي رحمته و قيل: الرياح الناشرة للسحاب، و قيل: الملائكة الناشرين لصحائف الأعمال، و قيل: الملائكة نشروا أجنحتهم حين النزول و قيل: غير ذلك.

قوله تعالى: ( فَالْفارِقاتِ فَرْقاً ) المراد به الفرق بين الحقّ و الباطل و بين الحلال و الحرام، و الفرق المذكور صفة متفرّعة على النشر المذكور.

قوله تعالى: ( فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً ) المراد بالذكر القرآن يقرؤنه على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو مطلق الوحي النازل على الأنبياء المقروّ عليهم.

و الصفات الثلاث أعني النشر و الفرق و إلقاء مترتّبة فإنّ الفرق بين الحقّ و الباطل و الحلال و الحرام يتحقّق بنشر الصحف و إلقاء الذكر فبالنشر يشرع الفرق في التحقّق و بالتلاوة يتمّ تحقّقه فالنشر يترتّب عليه مرتبة من وجود الفرق و يترتّب عليها تمام وجوده بالإلقاء.

و قوله:( عُذْراً أَوْ نُذْراً ) هما من المفعول له و( أَوْ ) للتنويع قيل: هما مصدران بمعنى الإعذار و الإنذار، و الإعذار الإتيان بما يصير به معذوراً و المعنى أنّهم يلقون الذكر لتكون عذرا لعباده المؤمنين بالذكر و تخويفاً لغيرهم.

٢٤٠

و قيل: ليكون عذراً يعتذر به الله إلى عباده في العقاب أنّه لم يكن إلّا على وجه الحكمة، و يؤل إلى إتمام الحجّة، فمحصّل المعنى عليه أنّهم يلقون الذكر ليكون إتماماً للحجّة على المكذّبين و تخويفاً لغيرهم، و هو معنى حسن.

قوله تعالى: ( إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ ) جواب القسم، و ما موصولة و الخطاب لعامّة البشر، و المراد بما توعدون يوم القيامة بما فيه من العقاب و الثواب و الواقع أبلغ من الكائن لما فيه من شائبة الاستقرار، و المعنى أنّ الّذي وعدكم الله به من البعث و العقاب و الثواب سيتحقّق لا محالة.

( كلام في إقسامه تعالى في القرآن‏)

من لطيف صنعة البيان في هذه الآيات الستّ أنّها مع ما تتضمّن الإقسام لتأكيد الخبر الّذي في الجواب تتضمّن الحجّة على مضمون الجواب و هو وقوع الجزاء الموعود فإنّ التدبير الربوبيّ الّذي يشير إليه القسم أعني إرسال المرسلات العاصفات و نشرها الصحف و فرقها و إلقاءها الذكر للنبيّ تدبير لا يتمّ إلّا مع وجود التكليف الإلهيّ و التكليف لا يتمّ إلّا مع تحتّم وجود يوم معدّ للجزاء يجازى فيه العاصي و المطيع من المكلّفين.

فالّذي أقسم تعالى به من التدبير لتأكيد وقوع الجزاء الموعود هو بعينه حجّة على وقوعه كأنّه قيل: اُقسم بهذه الحجّة أنّ مدلولها واقع.

و إذا تأمّلت الموارد الّتي اُورد فيها القسم في كلامه تعالى و أمعنت فيها وجدت المقسم به فيها حجّة دالّة على حقّيّة الجواب كقوله تعالى في الرزق:( فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ ) الذاريات: 23 فإنّ ربوبيّة السماء و الأرض هي المبدأ لرزق المرزوقين، و قوله:( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) الحجر: 72 فإنّ حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الطاهرة المصونة بعصمة من الله دالّة على سكرهم و عمههم، و قوله:( وَ الشَّمْسِ وَ ضُحاها - إلى أن قال -وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها قَدْ

٢٤١

أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ) الشمس: 10 فإنّ هذا النظام المتقن المنتهي إلى النفس الملهمة المميّزة لفجورها و تقواها هو الدليل على فلاح من زكّاها و خيبة من دسّاها.

و على هذا النسق سائر ما ورد من القسم في كلامه تعالى و إن كان بعضها لا يخلو من خفاء يحوج إلى إمعان من النظر كقوله:( وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ وَ طُورِ سِينِينَ ) التين: 2 و عليك بالتدبّر فيها.

قوله تعالى: ( فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ - إلى قوله -أُقِّتَتْ ) بيان لليوم الموعود الّذي اُخبر بوقوعه في قوله:( إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ ) و جواب إذا محذوف يدلّ عليه قوله:( لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ - إلى قوله -لِلْمُكَذِّبِينَ ) .

و قد عرّف سبحانه اليوم الموعود بذكر حوادث واقعة تلازم انقراض العالم الإنسانيّ و انقطاع النظام الدنيويّ كانطماس النجوم و انشقاق الأرض و اندكاك الجبال و تحوّل النظام إلى نظام آخر يغايره، و قد تكرّر ذلك في كثير من السور القرآنيّة و خاصّة السور القصار كسورة النبإ و النازعات و التكوير و الانفطار و الانشقاق و الفجر و الزلزال و القارعة، و غيرها، و قد عدّت الاُمور المذكورة فيها في الأخبار من أشراط الساعة.

و من المعلوم بالضرورة من بيانات الكتاب و السنّة أنّ نظام الحياة في جميع شؤنها في الآخرة غير نظامها في الدنيا فالدار الآخرة دار أبديّة فيها محض السعادة لساكنيها لهم فيها ما يشاؤن أو محض الشقاء و ليس لهم فيها إلّا ما يكرهون و الدار الدنيا دار فناء و زوال لا يحكم فيها إلّا الأسباب و العوامل الخارجيّة الظاهريّة مخلوط فيها الموت بالحياة، و الفقدان بالوجدان، و الشقاء بالسعادة، و التعب بالراحة، و المساءة بالسرور، و الآخرة دار جزاء و لا عمل و الدنيا دار عمل و لا جزاء، و بالجملة النشأة غير النشأة.

فتعريفه تعالى نشأة البعث و الجزاء بأشراطها الّتي فيها انطواء بساط الدنيا

٢٤٢

بخراب بنيان أرضها و انتساف جبالها و انشقاق سمائها و انطماس نجومها إلى غير ذلك من قبيل تحديد نشأة بسقوط النظام الحاكم في نشأة اُخرى قال تعالى:( وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى‏ فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ ) الواقعة: 62.

فقوله:( فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ) أي محي أثرها من النور و غيره، و الطمس إزالة الأثر بالمحو قال تعالى:( وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ) التكوير: 2.

و قوله:( وَ إِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ ) أي انشقّت، و الفرج و الفرجة الشقّ بين الشيئين قال تعالى:( إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ ) الانشقاق: 1.

و قوله:( وَ إِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ ) أي قلعت و اُزيلت من قولهم: نسفت الريح الشي‏ء أي اقتلعته و أزالته قال تعالى:( وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً ) طه: 105.

و قوله:( وَ إِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ) أي عيّن لها الوقت الّذي تحضر فيه للشهادة على الاُمم أو بلغت الوقت الّذي تنتظره لأداء شهادتها على الاُمم من التأقيت بمعنى التوقيت، قال تعالى:( فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) الأعراف: 6، و قال:( يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ ) المائدة: 109.

قوله تعالى: ( لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ - إلى قوله -لِلْمُكَذِّبِينَ ) الأجل المدّة المضروبة للشي‏ء، و التأجيل جعل الأجل للشي‏ء، و يستعمل في لازمه و هو التأخير كقولهم: دين مؤجّل أي له مدّة بخلاف الحالّ و هذا المعنى هو الأنسب للآية، و الضمير في( أُجِّلَتْ ) للاُمور المذكورة قبلاً من طمس النجوم و فرج السماء و نسف الجبال و تأقيت الرسل، و المعنى لأيّ يوم اُخّرت يوم اُخّرت هذه الاُمور.

و احتمل أن يكون( أُجِّلَتْ ) بمعنى ضرب الأجل للشي‏ء و أن يكون الضمير المقدّر فيه راجعاً إلى الرسل، أو إلى ما يشعر به الكلام من الاُمور المتعلّقة بالرسل ممّا أخبروا به من أحوال الآخرة و أهوالها و تعذيب الكافرين و تنعيم المؤمنين فيها، و لا يخلو كلّ ذلك من خفاء.

و قد سيقت الآية و الّتي بعدها أعني قوله:( لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ ) في

٢٤٣

صورة الاستفهام و جوابه للتعظيم و التهويل و التعجيب و أصل المعنى اُخّرت هذه الاُمور ليوم الفصل.

و هذا النوع من الجمل الاستفهاميّة في معنى تقدير القول، و المعنى إنّ من عظمة هذا اليوم و هوله و كونه عجباً أنّه يسأل فيقال: لأيّ يوم اُخّرت هذه الاُمور العظيمة الهائلة العجيبة فيجاب: ليوم الفصل.

و قوله:( لِيَوْمِ الْفَصْلِ ) هو يوم الجزاء الّذي فيه فصل القضاء قال تعالى:( إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) الحجّ: 17.

و قوله:( وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ ) تعظيم لليوم و تفخيم لأمره.

و قوله:( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) الويل الهلاك، و المراد بالمكذّبين المكذّبون بيوم الفصل الّذي فيه ما يوعدون فإنّ الآيات مسوقة لبيان وقوعه و قد أقسم على أنّه واقع.

و في الآية دعاء على المكذّبين، و قد استغنى به عن ذكر جواب إذا في قوله:( فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ) إلخ و التقدير فإذا كان كذا و كذا وقع ما توعدون من العذاب على التكذيب أو التقدير فإذا كان كذا و كذا كان يوم الفصل و هلك المكذّبون به.

( بحث روائي‏)

في الخصال، عن ابن عبّاس قال: قال أبوبكر: أسرع الشيب إليك يا رسول الله قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : شيّبتني هود و الواقعة و المرسلات و عمّ يتساءلون.

و في الدرّ المنثور، أخرج البخاريّ و مسلم و النسائيّ و ابن مردويه عن ابن مسعود قال: بينما نحن مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غار بمنى إذ نزلت عليه سورة و المرسلات عرفاً فإنّه يتلوها و إنّي لألقاها من فيه و إنّ فاه لرطب بها إذ وثبت عليه حيّة فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اقتلوها فابتدرناها فذهبت فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقيت شرّكم كما وقيتم شرّها.

أقول: و رواها أيضاً بطريقين آخرين.

٢٤٤

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً ) قال: آيات تتبع بعضها بعضاً.

و في المجمع: في الآية و قيل: إنّها الملائكة اُرسلت بالمعروف من أمر الله و نهيه. في رواية الهرويّ عن ابن مسعود، و عن أبي حمزة الثماليّ عن أصحاب عليّ عنهعليه‌السلام .

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ) قال: يذهب نورها و تسقط.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ) فطمسها ذهاب ضوئها( وَ إِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ ) قال: تفرج و تنشقّ( وَ إِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ) قال: بعثت في أوقات مختلفة.

و في المجمع، قال الصادقعليه‌السلام :( أُقِّتَتْ ) أي بعثت في أوقات مختلفة.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ) قال: اُخّرت.

٢٤٥

( سورة المرسلات الآيات 16 - 50)

أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ( 16 ) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ ( 17 ) كَذَٰلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ( 18 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( 19 ) أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ ( 20 ) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ( 21 ) إِلَىٰ قَدَرٍ مَّعْلُومٍ ( 22 ) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ( 23 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( 24 ) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا ( 25 ) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ( 26 ) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتًا ( 27 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( 28 ) انطَلِقُوا إِلَىٰ مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ ( 29 ) انطَلِقُوا إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ ( 30 ) لَّا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ ( 31 ) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ( 32 ) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ ( 33 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( 34 ) هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ ( 35 ) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ( 36 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( 37 ) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ ( 38 ) فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ( 39 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( 40 ) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ ( 41 ) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ( 42 ) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( 43 ) إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 44 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( 45 ) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا

٢٤٦

إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ ( 46 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( 47 ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ ( 48 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( 49 ) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ( 50 )

( بيان‏)

حجج دالّة على توحّد الربوبيّة تقضي بوجود يوم الفصل الّذي فيه جزاء المكذّبين به، و إشارة إلى ما فيه من الجزاء المعدّ لهم الّذي كانوا يكذّبون به، و إلى ما فيه من النعمة و الكرامة للمتّقين، و تختتم بتوبيخهم و ذمّهم على استكبارهم عن عبادته تعالى و الإيمان بكلامه.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ) الاستفهام للإنكار، و المراد بالأوّلين أمثال قوم نوح و عاد و ثمود من الاُمم القديمة عهداً، و بالآخرين الملحقون بهم من الاُمم الغابرة، و الإتباع جعل الشي‏ء أثر الشي‏ء.

و قوله:( ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ ) برفع نتبع على الاستيناف و ليس بمعطوف على( نُهْلِكِ ) و إلّا لجزم.

و المعنى قد أهلكنا المكذّبين من الاُمم الأوّلين ثمّ إنّا نهلك الاُمم الآخرين على أثرهم.

و قوله:( كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ) في موضع التعليل لما تقدّمه و لذا اُورد بالفصل من غير عطف كأنّ قائلاً قال: لما ذا اُهلكوا؟ فقيل: كذلك نفعل بالمجرمين. و الآيات - كما ترى - إنذار و إرجاع للبيان إلى الأصل المضروب في السورة أعني قوله:( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) و هي بعينها حجّة على توحّد الربوبيّة فإنّ إهلاك المجرمين من الإنسان تصرّف في العالم الإنسانيّ و تدبير، و إذ ليس المهلك إلّا الله - و قد اعترف به المشركون - فهو الرّبّ لا ربّ سواه و لا إله غيره.

٢٤٧

على أنّها تدلّ على وجود يوم الفصل لأنّ إهلاك قوم لإجرامهم لا يتمّ إلّا بعد توجّه تكليف إليهم يعصونه و لا معنى للتكليف إلّا مع مجازاة المطيع بالثواب و العاصي بالعقاب فهناك يوم يفصل فيه القضاء فيثاب فيه المطيع و يعاقب فيه العاصي و ليس هو الثواب و العقاب الدنيويين لأنّهما لا يستوعبان في هذه الدار فهناك يوم يجازى فيه كلّ بما عمل، و هو يوم الفصل ذلك يوم مجموع له الناس.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ - إلى قوله -فَنِعْمَ الْقادِرُونَ ) الاستفهام للإنكار و الماء المهين الحقير قليل الغناء و المراد به النطفة، و المراد بالقرار المكين الرحم و بقوله:( قَدَرٍ مَعْلُومٍ ) مدّة الحمل.

و قوله:( فَقَدَرْنا ) من القدر بمعنى التقدير، و الفاء لتفريع القدر على الخلق أي خلقناكم فقدرنا ما سيجري عليكم من الحوادث و ما يستقبلكم من الأوصاف و الأحوال من طول العمر و قصره و هيئة و جمال و صحّة و مرض و رزق إلى غير ذلك.

و احتمل أن يكون( فَقَدَرْنا ) من القدرة مقابل العجز و المراد فقدرنا على جميع ذلك، و ما تقدّم أوجه.

و المعنى: قد خلقناكم من ماء حقير هو النطفة فجعلنا ذلك الماء في قرار مكين هي الرحم إلى مدّة معلومة هي مدّة الحمل فقدّرنا جميع ما يتعلّق بوجودكم من الحوادث و الصفات و الأحوال فنعم المقدّرون نحن.

و يجري في كون مضمون هذه الآيات حجّة على توحّد الربوبيّة نظير البيان السابق في الآيات المتقدّمة، و كذا في كونه حجّة على تحقّق يوم الفصل فإنّ الربوبيّة تستوجب خضوع المربوبين لساحتها و هو الدين المتضمّن للتكليف، و لا يتمّ التكليف إلّا بجعل جزاء على الطاعة و العصيان، و اليوم الّذي يجازى فيه بالأعمال هو يوم الفصل.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَ أَمْواتاً - إلى قوله -فُراتاً ) الكفت و الكفات بمعنى الضمّ و الجمع أي أ لم نجعل الأرض كفاتاً يجمع العباد أحياء

٢٤٨

و أمواتاً، و قيل: الكفات جمع كفت بمعنى الوعاء، و المعنى أ لم نجعل الأرض أوعية تجمع الأحياء و الأموات.

و قوله:( وَ جَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ ) الرواسي الثابتات من الجبال، و الشامخات العاليات، و كأنّ في ذكر الرواسي توطئة لقوله:( وَ أَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً ) لأنّ الأنهار و العيون الطبيعية تنفجر من الجبال فتجري على السهول، و الفرات الماء العذب.

و يجري في حجّيّة الآيات نظير البيان السابق في الآيات المتقدّمة.

قوله تعالى: ( انْطَلِقُوا إِلى‏ ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) حكاية لما يقال لهم يوم الفصل و القائل هو الله سبحانه بقرينة قوله في آخر الآيات:( فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ) و المراد بما كانوا به يكذّبون: جهنّم، و الانطلاق الانتقال من مكان إلى مكان من غير مكث، و المعنى يقال لهم: انتقلوا من المحشر من غير مكث إلى النار الّتي كنتم تكذّبون به.

قوله تعالى: ( انْطَلِقُوا إِلى‏ ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ ) ذكروا أنّ المراد بهذا الظلّ ظلّ دخان نار جهنّم قال تعالى:( وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ) الواقعة: 43.

و ذكروا أنّ في ذكر انشعابه إلى ثلاث شعب إشارة إلى عظم الدخان فإنّ الدخان العظيم يتفرّق تفرّق الذوائب.

قوله تعالى: ( لا ظَلِيلٍ وَ لا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ ) الظلّ الظليل هو المانع من الحرّ و الأذى بستره على المستظلّ فكون الظلّ غير ظليل كونه لا يمنع ذلك، و اللهب ما يعلو على النار من أحمر و أصفر و أخضر.

قوله تعالى: ( إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ ) ضمير( إِنَّها ) للنار المعلومة من السياق، و الشرر ما يتطاير من النار، و القصر معروف، و الجمالة جمع جمل و هو البعير. و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) الإشارة إلى يوم الفصل، و المراد بالإذن الإذن في النطق أو في الاعتذار.

٢٤٩

و قوله:( فَيَعْتَذِرُونَ ) معطوف على( يُؤْذَنُ ) منتظم معه في سلك النفي، و المعنى هذا اليوم يوم لا ينطقون فيه أي أهل المحشر من الناس و لا يؤذن لهم في النطق أو في الاعتذار فلا يعتذرون، و لا ينافي نفي النطق ههنا إثباته في آيات اُخر لأنّ اليوم ذو مواقف كثيرة مختلفة يسألون في بعضها فينطقون و يختم على أفواههم في آخر فلا ينطقون.

و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) هود: 105 فليراجع.

قوله تعالى: ( هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَ الْأَوَّلِينَ فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ) سمّي يوم الفصل لما أنّ الله تعالى يفصل و يميّز فيه بين أهل الحقّ و أهل الباطل بالقضاء بينهم قال تعالى:( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) السجدة: 25، و قال:( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) يونس: 93.

و الخطاب في قوله:( جَمَعْناكُمْ وَ الْأَوَّلِينَ ) لمكذّبي هذه الاُمّة بما أنّهم من الآخرين و لذا قوبلوا بالأوّلين قال تعالى:( ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ ) هود: 103 و قال( وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ) الكهف: 67.

و قوله:( فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ) أي إن كانت لكم حيلة تحتالون بي في دفع عذابي عن أنفسكم فاحتالوا، و هذا خطاب تعجيزيّ منبئ عن انسلاب القوّة و القدرة عنهم يومئذ بالكلّيّة بظهور أن لا قوّة إلّا لله عزّ اسمه قال تعالى:( وَ لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَ رَأَوُا الْعَذابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ ) البقرة: 166.

و الآية أعني قوله:( فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ) أوسع مدلولاً من قوله:( يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا

٢٥٠

لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ ) الرحمن: 33 لاختصاصه بنفي القدرة على الفرار بخلاف الآية الّتي نحن فيها.

و في قوله:( فَكِيدُونِ ) التفات من التكلّم مع الغير إلى التكلّم وحده و النكتة فيه أنّ متعلّق هذا الأمر التعجيزيّ إنّما هو الكيد لمن له القوّة و القدرة فحسب و هو الله وحده و لو قيل: فكيدونا فأت الإشعار بالتوحّد.

قوله تعالى: ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَ عُيُونٍ وَ فَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ - إلى قوله -الْمُحْسِنِينَ ) الظلال و العيون ظلال الجنّة و عيونها الّتي يتنعّمون بالاستظلال بها و شربها، و الفواكه جمع فاكهة و هي الثمرة.

و قوله:( كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) مفاده الإذن و الإباحة، و كان الأكل و الشرب كناية عن مطلق التنعّم بنعم الجنّة و التصرّف فيها و إن لم يكن بالأكل و الشرب، و هو شائع كما يطلق أكل المال على مطلق التصرّف فيه.

و قوله:( إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) تسجيل لسعادتهم.

قوله تعالى: ( كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ) الخطاب من قبيل قولهم: افعل ما شئت فإنّه لا ينفعك، و هذا النوع من الأمر إياس للمخاطب أن ينتفع بما يأتي به من الفعل للحصول على ما يريده، و منه قوله:( فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا ) طه: 72، و قوله:( اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) حم السجدة: 40.

فقوله:( كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا قَلِيلًا ) أي تمتّعاً قليلاً أو زماناً قليلاً إياس لهم من أن ينتفعوا بمثل الأكل و التمتّع في دفع العذاب عن أنفسهم فليأكلوا و ليتمتّعوا قليلاً فليس يدفع عنهم شيئاً.

و إنّما ذكر الأكل و التمتّع لأنّ منكري المعاد لا يرون من السعادة إلّا سعادة الحياة الدنيا و لا يرون لها من السعادة إلّا الفوز بالأكل و التمتّع كالحيوان العجم قال

٢٥١

تعالى:( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَ يَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَ النَّارُ مَثْوىً لَهُمْ ) سورة محمّد: 12.

و قوله:( إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ) تعليل لما يستفاد من الجملة السابقة المشتملة على الأمر أي لا ينفعكم الأكل و التمتّع قليلاً لأنّكم مجرمون بتكذيبكم بيوم الفصل و جزاء المكذّبين به النار لا محالة.

قوله تعالى: ( وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ ) المراد بالركوع الصلاة كما قيل و لعلّ ذلك باعتبار اشتمالها على الركوع.

و قيل: المراد بالركوع المأمور به الخشوع و الخضوع و التواضع له تعالى باستجابة دعوته و قبول كلامه و اتّباع دينه، و عبادته.

و قيل: المراد بالركوع ما يؤمرون بالسجود يوم القيامة كما يشير إليه قوله تعالى( وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ ) القلم: 42 و الوجهان لا يخلوان من بُعد.

و وجه اتّصال الآية بما قبلها أنّ الكلام كان مسوقاً لتهديد المكذّبين بيوم الفصل و بيان تبعة تكذيبهم به و تمّم ذلك في هذه الآية بأنّهم لا يعبدون الله إذا دعوا إلى عبادته كما ينكرون ذلك اليوم فلا معنى للعبادة مع نفي الجزاء، و ليكون كالتوطئة لقوله الآتي:( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) .

و نسب إلى الزمخشريّ أنّ الآية متّصلة بقوله في الآية السابقة:( لِلْمُكَذِّبِينَ ) كأنّه قيل: ويل يومئذ للّذين كذّبوا و الّذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون.

و في الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله:( وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ ) إلخ وجهه الإعراض عن مخاطبتهم بعد تركهم و أنفسهم يفعلون ما يشاؤن بقوله:( كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا ) .

قوله تعالى: ( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) أي إذا لم يؤمنوا بالقرآن و هو آية معجزة إلهيّة، و قد بيّن لهم أنّ الله لا إله إلّا هو وحده لا شريك له و أنّ أمامهم يوم الفصل بأوضح البيان و ساطع البرهان فبأيّ كلام بعد القرآن يؤمنون.

٢٥٢

و هذا إيئاس من إيمانهم بالله و رسوله و اليوم الآخر و كالتنبيه على أنّ رفع اليد عن دعوتهم إلى الإيمان بإلقاء قوله:( كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا ) إليهم في محلّه فليسوا بمؤمنين و لا فائدة في دعوتهم غير أنّ فيها إتماماً للحجّة.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ و قوله:( أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ) قال: منتن( فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ ) قال: في الرحم و أمّا قوله:( إِلى‏ قَدَرٍ مَعْلُومٍ ) يقول: منتهى الأجل.

أقول: و في اُصول الكافي، في رواية عن أبي الحسن الماضيعليه‌السلام : تطبيق قوله:( أَ لَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ) على مكذّبي الرسل في طاعة الأوصياء، و قوله:( ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ ) على من أجرم إلى آل محمّدعليهم‌السلام . على اضطراب في متن الخبر، و هو من الجري دون التفسير.

و فيه: و قوله( أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَ أَمْواتاً ) قال الكفات المساكن‏ و قال: نظر أميرالمؤمنينعليه‌السلام في رجوعه من صفّين إلى المقابر فقال: هذه كفات الأموات أي مساكنهم ثمّ نظر إلى بيوت الكوفة فقال: هذه كفات الأحياء. ثمّ تلا قوله:( أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَ أَمْواتاً ) .

أقول: و روي في المعاني، بإسناده عن حمّاد عن أبي عبداللهعليه‌السلام أنّه نظر إلى المقابر. و ذكر مثل الحديث السابق.

و فيه: و قوله( وَ جَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ ) قال: جبال مرتفعة.

و فيه: و قوله( انْطَلِقُوا إِلى‏ ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ ) قال فيه ثلاث شعب من النار و قوله:( إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ) قال: شرر النار مثل القصور و الجبال.

و فيه: و قوله( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَ عُيُونٍ ) قال: في ظلال من نور أنور من الشمس.

٢٥٣

و في المجمع: في قوله:( وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ ) قال مقاتل: نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصلاة فقالوا: لا ننحني. و الرواية لا نحني فإنّ ذلك سبّة علينا. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا خير في دين ليس فيه ركوع و سجود.

أقول: و في انطباق القصّة - و قد وقعت بعد الهجرة - على الآية خفاء.

و في تفسير القمّيّ في الآية السابقة قال: و إذا قيل لهم( تولّوا الإمام لم يتولّوه) .

أقول: و هو من الجري دون التفسير.

٢٥٤

( سورة النبإ مكّيّة و هي أربعون آية)

( سورة النبإ الآيات 1 - 16)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ( 1 ) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ( 2 ) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ( 3 ) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ( 4 ) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ( 5 ) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا ( 6 ) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ( 7 ) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ( 8 ) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ( 9 ) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ( 10 ) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ( 11 ) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ( 12 ) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ( 13 ) وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا ( 14 ) لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا ( 15 ) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ( 16 )

( بيان‏)

تتضمّن السورة الإخبار بمجي‏ء يوم الفصل و صفته و الاحتجاج على أنّه حقّ لا ريب فيه، فقد افتتحت بذكر تساؤلهم عن نبإه ثمّ ذكر في سياق الجواب و لحن التهديد أنّهم سيعلمون ثمّ احتجّ على ثبوته بالإشارة إلى النظام المشهود في الكون بما فيه من التدبير الحكيم الدالّ بأوضح الدلالة على أنّ وراء هذه النشأة المتغيّرة الدائرة نشأة ثابتة باقية، و أنّ عقيب هذه الدار الّتي فيها عمل و لا جزاء داراً فيها جزاء و لا عمل فهناك يوم يفصح عنه هذا النظام.

ثمّ تصف اليوم بما يقع فيه من إحضار الناس و حضورهم و انقلاب الطاغين إلى عذاب أليم و المتّقين إلى نعيم مقيم و يختم الكلام بكلمة في الإنذار، و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

٢٥٥

قوله تعالى: ( عَمَّ يَتَساءَلُونَ ) ( عَمَّ ) أصله عمّا و ما استفهاميّة تحذف الألف منها اطّراداً إذا دخل عليها حرف الجرّ نحو لم و ممّ و على م و إلى م، و التساؤل سؤال القوم بعضهم بعضاً عن أمر أو سؤال بعضهم بعد بعض عن أمر و إن كان المسؤل غيرهم، فهم كان يسأل بعضهم بعضاً عن أمر أو كان بعضهم بعد بعض يسأل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أمر و حيث كان سياق السورة سياق جواب يغلب فيه الإنذار و الوعيد تأيّد به أنّ المتسائلين هم كفّار مكّة من المشركين النافين للنبوّة و المعاد دون المؤمنين و دون الكفّار و المؤمنين جميعاً.

فالتساؤل من المشركين و الإخبار عنه في صورة الاستفهام للإشعار بهوانه و حقارته لظهور الجواب عنه ظهوراً ما كان ينبغي معه أن يتساءلوا عنه.

قوله تعالى: ( عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ) جواب عن الاستفهام السابق أي يتساءلون عن النبإ العظيم، و لا يخفى ما في توصيف النبإ المتسائل عنه بالعظيم من تعظيمه و تفخيم أمره.

و المراد بالنبإ العظيم نبؤ البعث و القيامة الّذي يهتمّ به القرآن العظيم في سورة المكّيّة و لا سيّما في العتائق النازلة في أوائل البعثة كلّ الاهتمام.

و يؤيّد ذلك سياق آيات السورة بما فيه من الاقتصار على ذكر صفة يوم الفصل و ما تقدّم عليها من الحجّة على أنّه حقّ واقع.

و قيل: المراد به نبؤ القرآن العظيم، و يدفعه كون السياق بحسب مصبّه أجنبيّاً عنه و إن كان الكلام لا يخلو من إشارة إليه استلزاما.

و قيل: النبؤ العظيم ما كانوا يختلفون فيه من إثبات الصانع و صفاته و الملائكة و الرسل و البعث و الجنّة و النار و غيرها، و كأنّ القائل به اعتبر فيه ما في السورة من الإشارة إلى حقّيّة جميع ذلك ممّا تتضمّنه الدعوة الحقّة الإسلاميّة.

و يدفعه أنّ الإشارة إلى ذلك كلّه من لوازم صفة البعث المتضمّنة لجزاء الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح و الكفر و الاجرام، و قد دخل فيما في السورة من صفة يوم الفصل تبعاً و بالقصد الثاني.

٢٥٦

على أنّ المراد بهؤلاء المتسائلين - كما تقدّم - المشركون و هم يثبتون الصانع و الملائكة و ينفون ما وراء ذلك ممّا ذكر.

و قوله:( الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ) إنّما اختلفوا في نحو إنكاره و هم متّفقون في نفيه فمنهم من كان يرى استحالته فينكره كما هو ظاهر قولهم على ما حكاه الله:( هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى‏ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) سبأ: 7، و منهم من كان يستبعده فينكره و هو قولهم:( أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُراباً وَ عِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ ) المؤمنون: 36، و منهم من كان يشكّ فيه فينكره قال تعالى:( بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها ) النمل 66، و منهم من كان يوقن به لكنّه لا يؤمن عناداً فينكره كما كان لا يؤمن بالتوحيد و النبوّة و سائر فروع الدين بعد تمام الحجّة عناداً قال تعالى:( بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَ نُفُورٍ ) الملك: 21.

و المحصّل من سياق الآيات الثلاث و ما يتلوها أنّهم لما سمعوا ما ينذرهم به القرآن من أمر البعث و الجزاء يوم الفصل ثقل عليهم ذلك فغدوا يسأل بعضهم بعضاً عن شأن هذا النبإ العجيب الّذي لم يكن ممّا قرع أسماعهم حتّى اليوم، و ربّما راجعوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنين و سألوهم عن صفة اليوم و أنّه متى هذا الوعد إن كنتم صادقين و ربّما كانوا يراجعون في بعض ما قرع سمعهم من حقائق القرآن و احتوته دعوته الجديدة أهل الكتاب و خاصّة اليهود و يستمدّونهم في فهمه.

و قد أشار تعالى في هذه السورة إلى قصّة تساؤلهم في صورة السؤال و الجواب فقال:( عَمَّ يَتَساءَلُونَ ) و هو سؤال عمّا يتساءلون عنه. ثمّ قال:( عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ) و هو جواب السؤال عمّا يتساءلون عنه. ثمّ قال:( كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ) إلخ، و هو جواب عن تساؤلهم.

و للمفسّرين في مفردات الآيات الثلاث و تقرير معانيها وجوه كثيرة تركناها لعدم ملاءمتها السياق و الّذي أوردناه هو الّذي يعطيه السياق.

قوله تعالى: ( كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ) ردع عن تساؤلهم عنه بانين

٢٥٧

ذلك على الاختلاف في النفي أي ليرتدعوا عن التساؤل لأنّه سينكشف لهم الأمر بوقوع هذا النبإ فيعلمونه، و في هذا التعبير تهديد كما في قوله:( وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) الشعراء: 227.

و قوله:( ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ) تأكيد للردع و التهديد السابقين و لحن التهديد هو القرينة على أنّ المتسائلين هم المشركون النافون للبعث و الجزاء دون المؤمنين و دون المشركين و المؤمنين جميعاً.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ) الآية إلى تمام إحدى عشرة آية مسوق سوق الاحتجاج على ثبوت البعث و الجزاء و تحقّق هذا النبإ العظيم و لازم ثبوته صحّة ما في قوله:( سَيَعْلَمُونَ ) من الإخبار بأنّهم سيشاهدونه فيعلمون.

تقرير الحجّة: أنّ العالم المشهود بأرضه و سمائه و ليله و نهاره و البشر المتناسلين و النظام الجاري فيها و التدبير المتقن الدقيق لاُمورها من المحال أن يكون لعباً باطلاً لا غاية لها ثابتة باقية فمن الضروريّ أن يستعقب هذا النظام المتحوّل المتغيّر الدائر إلى عالم ذي نظام ثابت باق، و أن يظهر فيه أثر الصلاح الّذي تدعو إليه الفطرة الإنسانيّة و الفساد الّذي ترتدع عنه، و لم يظهر في هذا العالم المشهود أعني سعادة المتّقين و شقاء المفسدين، و من المحال أن يودع الله الفطرة دعوة غريزيّة أو ردعاً غريزيّاً بالنسبة إلى ما لا أثر له في الخارج و لا حظّ له من الوقوع فهناك يوم يلقاه الإنسان و يجزي فيه على عمله إن خيراً فخيراً و إن شرّاً فشرّاً.

فالآيات في معنى قوله تعالى( وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) ص: 28.

و بهذا البيان يثبت أنّ هناك يوماً يلقاه الإنسان و يجزي فيه بما عمل إن خيراً فخيراً و إن شرّاً فشرّاً فليس للمشركين أن يختلفوا فيه فيشكّ فيه بعضهم و يستبعده طائفة، و يحيله قوم، و لا يؤمن به مع العلم به عناداً آخرون، فاليوم ضروري الوقوع

٢٥٨

و الجزاء لا ريب فيه.

و يظهر من بعضهم أنّ الآيات مسوقة لإثبات القدرة و أنّ العود يماثل البدء و القادر على الإبداء قادر على الإعادة، و هذه الحجّة و إن كانت تامّة و قد وقعت في كلامه تعالى لكنّها حجّة على الإمكان دون الوقوع و السياق فيما نحن فيه سياق الوقوع دون الإمكان فالأنسب في تقريرها ما تقدّم.

و كيف كان فقوله:( أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ) الاستفهام للإنكار، و المهاد الوطاء و القرار الّذي يتصرّف فيه، و يطلق على البساط الّذي يُجلس عليه و المعنى قد جعلنا الأرض قراراً لكم تستقرّون عليها و تتصرّفون فيها.

قوله تعالى: ( وَ الْجِبالَ أَوْتاداً ) الأوتاد جمع وتد و هو المسمار إلّا أنّه أغلظ منه كما في المجمع، و لعلّ عدّ الجبال أوتاداً مبنيّ على أنّ عمدة جبال الأرض من عمل البركانات بشقّ الأرض فتخرج منه موادّ أرضيّة مذابة تنتصب على فم الشقّة متراكمة كهيئة الوتد المنصوب على الأرض تسكن به فورة البركان الّذي تحته فيرتفع به ما في الأرض من الاضطراب و الميدان.

و عن بعضهم: أنّ المراد بجعل الجبال أوتاداً انتظام معاش أهل الأرض بما اُودع فيها من المنافع و لولاها لمادت الأرض بهم أي لما تهيّأت لانتفاعهم. و فيه أنّه صرف اللفظ عن ظاهره من غير ضرورة موجبة.

قوله تعالى: ( وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً ) أي زوجاً زوجاً من ذكر و اُنثى لتجري بينكم سنّة التناسل فيدوم بقاء النوع إلى ما شاء الله.

و قيل: المراد به الإشكال أي كلّ منكم شكل للآخر. و قيل: المراد به الأصناف أي أصنافاً مختلفة كالأبيض و الأسود و الأحمر و الأصفر إلى غير ذلك، و قيل: المراد به خلق كلّ منهم من منيّين منيّ الرجل و منيّ المرأة و هذه وجوه ضعيفة.

قيل: الالتفات في الآية من الغيبة إلى الخطاب للمبالغة في الإلزام و التبكيت.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً ) السبات الراحة و الدعة فإنّ في المنام

٢٥٩

سكوتاً و راحة للقوى الحيوانيّة البدنيّة ممّا اعتراها في اليقظة من التعب و الكلال بواسطة تصرّفات النفس فيها.

و قيل: السبات بمعنى القطع و في النوم قطع التصرّفات النفسانيّة في البدن، و هو قريب من سابقه.

و قيل: المراد بالسبات الموت، و قد عدّ سبحانه النوم من الموت حيث قال:( وَ هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ) الأنعام: 60 و هو بعيد، و أمّا الآية فإنّه تعالى عدّ النوم توفّياً و لم يعدّه موتاً بل القرآن يصرّح بخلافه قال تعالى:( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها ) الزمر: 42.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً ) أي ساتراً يستر الأشياء بما فيه من الظلمة الساترة للمبصرات كما يستر اللباس البدن و هذا سبب إلهيّ يدعو إلى ترك التقلّب و الحركة و الميل إلى السكن و الدعة و الرجوع إلى الأهل و المنزل.

و عن بعضهم أنّ المراد بكون الليل لباساً كونه كاللباس للنهار يسهل إخراجه منه و هو كما ترى.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً ) العيش هو الحياة - على ما ذكره الراغب - غير أنّ العيش يختصّ بحياة الحيوان فلا يقال: عيشه تعالى و عيش الملائكة و يقال حياته تعالى و حياة الملائكة، و المعاش مصدر ميميّ و اسم زمان و اسم مكان، و هو في الآية بأحد المعنيين الأخيرين، و المعنى و جعلنا النهار زماناً لحياتكم أو موضعاً لحياتكم تبتغون فيه من فضل ربّكم، و قيل: المراد به المعنى المصدريّ بحذف مضاف، و التقدير و جعلنا النهار طلب معاش أي مبتغي معاش.

قوله تعالى: ( وَ بَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً ) أي سبع سماوات شديدة في بنائها.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً ) الوهّاج شديد النور و الحرارة و المراد بالسراج الوهّاج الشمس.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568