الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن10%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219992 / تحميل: 7018
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

بين يدي محاوراته مع عثمان

لقد قرأنا في الجزء الثاني من الحلقة الأولى من هذه الموسوعة كثيراً من أخبار ابن عباس في أيام عثمان ، ولمّا كان حال عثمان غير خفيّ في التاريخ ، بالرغم من موضوعات زادت في تشويهه بأكاذيب أموية ، لكنها لم تصنع شيئاً ، فبقيت حال عثمان كما هي معلومة نسباً وحسباً وصحبةً ومصاهرةً وحكومةً وممارسةً وضلوعاً وإنصياعاً لبني أمية ، ما سببّت نقمة الناس عليه ، لأمور صدرت منه ومنهم ما كان ينبغى لمثله في سنّه وشأنه أن تنسب إليه فيؤاخذ عليها حتى أودت بحياته ، فكان كما قال عنه الدكتور طه حسين في كتابه ( الفتنة الكبرى ) :

( فأمّا عثمان فمهما يكن إعتذار أهل السنة والمعتزلة عنه ، فإنّه قد أسرف وترك عمّاله يسرفون في العُنف بالرعية ، ضرباً ونفياً وحبساً ، وهو نفسه قد ضرب أو أمر بضرب رجلين من أعلام أصحاب النبيّ ، فضرب عمار بن ياسر حتى أصابه الفتق ، وأمر من أخرج عبد الله بن مسعود من مسجد النبيّ إخراجاً عنيفاً ، حتى كسر بعض أضلاعه ).

وقال أيضاً : ( فهذه السياسة العنيفة التي تسلط الخليفة وعماله على أبشار الناس وأشعارهم وعلى أمنهم وحريتهم ليست من سيرة النبيّ ولا من سيرة الشيخين في شيء ).

١٤١

وقال أيضاً : ( والسياسة المالية التي أصطنعها عثمان منذ نهض بالخلافة كلّها موضوع النقمة والإنكار من أكثر الذين عاصروا عثمان ، ومن أكثر الرواة والمؤرخين ).

وقال أيضاً : ( ولو سار عثمان في الأموال العامّة سيرة عمر فلم ينفق المال إلاّ بحقه ، لجنّب نفسه وجنّب المسلمين شراً عظيماً ، ولكان من الممكن أن ينشئ الإسلام للإنسانية نظاماً سياسياً وإجتماعياً صالحاً يجنبّها كثيراً من الإضطراب الذي اضطرت إليه ، والفساد الذي تورطت فيه )(1) .

أقول : وعلى نحو ما مرّ من أقوال طه حسين نجد أقوال آخرين من الباحثين المحدثين ، ولا بدع لو التقت أراؤهم في نقد أفعاله وأختلفت أقوالهم في توجيه سياسته والتي رأوها جميعاً سياسية أموية رعناء جلبت له وللأمة كثيراً من الشر ، وكثرّت عليه أسباب النقمة ، بداية من المسلمين الصحابة في المدينة ، وسرعان ما أستطار شررها إلى بقية الأمصار ، فكثرت وفود الساخطين من العراق ومصر وغيرهما والتقوا بالصحابة فتفاقم الخطب.

وكانت شدّة المحنة والمعاناة عندما فزع الثوار إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يشكون حالهم ، فيسارع هو إلى عثمان ناصحاً في محاولات إصلاح بين الطرفين ، لكن عثمان لم يستجب للنصح ، بل وزاد في تعقيد الأمور إتهامه الإمام عليه السلام ما دام كثير من الثوار اتخذوه لجأً ، يرجون إغاثتهم

____________________

(1) الفتنة الكبرى 1 / 190 ـ 198.

١٤٢

من سوء أفعال عثمان وبطانته ، وكلّما دافع الإمام عليه السلام عن عثمان بالحسنى إزداد تصلّب الساخطين ، فآثر الإعتزال ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ، غير أنّ عثمان وبتحريض من بني أمية كان يزداد غضباً وحنقاً عليه ، ممّا أضطر العباس بن عبد المطلب ومن بعده ابنه عبد الله حبر الأمة القيام بمحاولات إصلاحية أيضاً ولتهدئة الخواطر ، عسى أن تهدأ الفورة وتسكن الثورة ، ولم تنجح تلك المساعي ، لأنّ عثمان كان إذن شرّ يسمع لما يقوله له مروان وبني أمية.

ومع كثرة الشواهد على المساعي الإصلاحية التي بذلها الإمام عليه السلام وعمه العباس وابنه عبد الله ، كان عثمان يتهمهم في النصح ، مع أنّه لو أنصفهم لوجدهم أحرص الناس عليه وأرعى ذماماً له للقرابة النسبية منه ، وهذا ما سنقرأ بعضاً منه في مواقف العباس وابنه عبد الله بن عباس في إصلاح ذات البين ، لكن عثمان ـ كما قلناـ كان مغلوباً على أمره من قبل بني أمية ، وفي قلوبهم جميعاً من الحقد والشنآن على بني هاشم عموماً وعلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام خصوصاً ، ممّا طغى على لسان عثمان ، فأظهرته فلتات اللسان عن بعض ما يضمره الجنان من الحقد والشنآن ، فيقول للإمام عليه السلام مغاضباً وعاتباً : ( ما ذنبي إليك إذا لم تحبّك قريش وقد قتلت منهم سبعين ترد آنافهم الماء قبل شفاهم ) ، وفي لفظ آخر : ( كأن أعناقهم أباريق فضة ) ، ونحو هذا. ولقد همّ مرّة ـ وربما أكثر ـ بأن ينفي الإمام عليه السلام من المدينة كما صنع مع أبي ذر ، كما ستأتي الإشارة إليه في مواقف العباس الإصلاحية والإستصلاحية.

١٤٣

وإلآن إلى قراءة بعضها ، ولنبدأ بما رواه الطبري في تاريخه :

( بسند عن حمران بن أبان ، قال : أرسلني عثمان إلى العباس بعدما بويع فدعوته له ، فقال : مالك تعبدتني ـ ( تبعّدتني ظ )؟ قال : لم أكن قط أحوج إليك مني اليوم. قال ـ العباس ـ : الزم خمساً لا تنازعك الأمة خزائمها ما لزمتها. قال : وما هي؟ قال : الصبر عن القتل ، والتحبب ، والصفح ، والمدارات ، وكتمان السر )(1) .

ولكن عثمان لم يلتزم بنصيحة العباس ، بل استمر على حاله ، فاتسع الخرق على الراقع ، حتى عجز العباس من رأب الصدع ، مع ما كان فيه من حنكة رأي وجودة تدبير ، حتى قيل له داهية قريش ، ولمّا رأى تسافل الحال ونذر الشر بدت تلوح في الأفق ، فصار يدعو ربّه أن يسبق به أجله قبل وقوع الكارثة التي بدت بوادرها تنذر بشر مستطير فإستجاب له ربّه ، فما كانت إلاّ جمعة حتى لقي ربّه.

أمّا عن مواقفه في نصيحة عثمان في كفّ أذاه عن الإمام عليه السلام وعن الأمّة فهي متعددة ، أذكر بعضها :

فمنها ما ذكر ابن أبي الحديد في شرح النهج ، قال :

( روى الزبير بن بكار في كتابه الموفقيات ، عن عبد الله بن عباس ، قال : ما سمعت من أبي شيئاً قط في أمر عثمان يلومه فيه ولا يعذره ، ولا سألته عن شيء من ذلك مخافة أن أهجم منه على ما لا يوافقه ، فأنا عنده

____________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 400 ط دار المعارف بمصر.

١٤٤

ليلة ونحن نتعشى إذ قيل هذا أمير المؤمنين عثمان بالباب ، فقال : أئذنوا له ، فدخل فأوسع له على فراشه وأصاب من العشاء معه ، فلمّا رفع قام من كان هناك وثبتّ أنا.

فحمد الله عثمان وأثنى عليه ، ثمّ قال : أمّا بعد يا خال فإنّي قد جئتك أستعذرك من ابن أخيك عليّ سبّني ، وشهر أمري ، وقطع رحمي ، وطعن في ديني ، وإنّي أعوذ بالله منكم يا بني عبد المطلب ، إن كان لكم حقّ تزعمون أنّكم غُلبتم عليه فقد تركتموه في يدي مَن فعل ذلك بكم ، وأنا أقرب إليكم رحماً منه ، وما لمت منكم أحداً إلاّ عليّاً ، ولقد دعيت أن أبسط عليه فتركته لله والرحم وأنا أخاف أن لا يتركني فلا أتركه.

قال ابن عباس : فحمد أبي الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : أمّا بعد يا بن أختي فإن كنت لا تحمد عليّاً لنفسك فإنّي لا أحمدك لعليّ ، وما عليّ وحده قال فيك ، بل غيره ، فلو أنّك اتهمت نفسك للناس أتهم الناس أنفسهم لك ، ولو أنّك نزلت ممّا رقيت وأرتقوا ممّا نزلوا فأخذت منهم وأخذوا منك ما كان بذلك بأس.

قال عثمان : فذلك إليك يا خال وأنت بيني وبينهم.

قال : أفأذكر لهم ذلك عنك؟

قال : نعم ، وأنصرف.

فما لبثنا أن قيل : هذا أمير المؤمنين قد رجع بالباب ، قال أبي : أئذنوا له ، فدخل فقام قائماً ولم يجلس وقال : لا تعجل يا خال حتى أوذنك. فنظرنا فإذا مروان بن الحكم كان جالساً بالباب ينتظره حتى خرج فهو

١٤٥

الذي ثناه عن رأيه الأوّل.

فأقبل عليَّ أبي وقال : يا بني ما إلى هذا من أمره شيء. ثمّ قال : يا بني أملك عليك لسانك حتى ترى ما لابدّ منه. ثمّ رفع يديه فقال : اللّهمّ اسبق بي ما لا خير لي في إدراكه ، فما مرّت جمعة حتى مات رحمه الله )(1) .

ومنها ما رواه البلاذري في ( أنساب الأشراف ) ، بإسناده عن صهيب مولى العباس ، قال :

( إنّ العباس قال لعثمان : أذكرّك الله في أمر ابن عمك وابن خالك وصهرك ، وصاحبك مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد بلغني أنّك تريد أن تقوم به وبأصحابه.

فقال : أوّل ما أجيبك به أنّي قد شفعتك ، إنّ عليّاً لو شاء لم يكن أحد عندي إلاّ دونه ، ولكن أبى إلاّ رأيه. ثم قال لعليّ مثل قوله لعثمان.

فقال عليّ : لو أمرني عثمان أن أخرج من داري لخرجت )(2) .

وهذا رواه ابن عساكر أيضاً في ( تاريخ مدينة دمشق ) ، بسنده عن صهيب مولى العباس ، وجاء في آخر قول الإمام عليه السلام : ( فأمّا أداهن أن لا

____________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 397.

وهذه الواقعة غير التي سبقتها وان عاصرتها زماناً ففي الاُولى كانت الشكوى في دار عثمان والعباس حاضر عنده. أمّا هذه فهي في دار العباس وعثمان حاضر عنده ، ولا مانع من تعدّدهما إذا عرفنا تخبّط السياسة يومئذ في معالجة مشاكل الناس وأستحواذ مروان على عثمان في تدبير أُموره.

(2) أنساب الأشراف 1 / 498 ـ 499.

١٤٦

يقام بكتاب الله فلم أكن لأفعل )(1) .

وجاء الخبر في ( التعديل والتجريح ) مسنداً عن سهيل مولى العباس يقول : ( أرسلني العباس إلى عثمان أدعوه ، فأتاه فقال : أفلح الوجه أبا الفضل ، قال : ووجهك يا أمير المؤمنين. قال : عليّ ابن عمك وابن عمتك وصهرك وأخوك في دينك وصاحبك مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبلغني أنّك تريد أن تقوم به وبأصحابه. فقال : لو شاء عليّ ما كان دونه أحد ، ثم أرسلني إلى عليّ ، فقال : إنّ عثمان ابن عمك وابن عمتك وأخوك في دينك وصاحبك مع رسول صلى الله عليه وآله وسلم وولي بيعتك ، فقال : لو أمرتني أن أخرج من داري لفعلت )(2) .

ومنها ما رواه البلاذري وغيره ، واللفظ له قال :

( حدثني عباس بن هشام ، عن أبيه ، عمّن حدثه ، عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عباس : إنّ عثمان شكا عليّاً إلى العباس فقال له : يا خال إنّ عليّاً قد قطع رحمي ، وألّب الناس عليَّ ، والله لئن كنتم يا بني عبد المطلب أقررتم هذا الأمر في أيدي بني تيمّ وعدي ، فبنو عبد مناف أحق أن لا تنازعوهم فيه ولا تحسدوهم عليه.

قال عبد الله بن العباس : فأطرق أبي طويلاً ، ثم قال : يا بن أخت لئن كنت لا تحمد عليّاً فما نحمدك له ، وأن حقك في القرابة والإمامة للحق الذي لا يُدفع ولا يجحد ، فلو رقيت فيما تطأطأ ، أو تطأطأت فيما رقي ،

____________________

(1) تاريخ مدينة دمشق 39 / 264 ط دار الفكر بيروت.

(2) التعديل والتجريح 3 / 1007.

١٤٧

تقاربتهما ، وكان ذلك أوصل وأجمل.

قال : قد صيّرت الأمر عن ذلك إليك ، فقرّب الأمر بيننا.

قال : فلمّا خرجنا من عنده دخل عليه مروان فأزاله عن رأيه ، فما لبثنا أن جاء أبي رسول عثمان بالرجوع إليه ، فلمّا رجع ، قال : يا خال أحبّ أن تؤخر النظر في الأمر الذي ألقيت إليك حتى أرى من رأي.

فخرج أبي من عنده ثم التفت إلى فقال : يا بني ليس إلى هذا الرجل من أمره شيء ، ثم قال : اللهم أسبق بي الفتن ، ولا تبقني إلى ما لا خير لي في البقاء إليه ، فما كانت جمعة حتى هلك )(1) .

ويبدو لي تعدّد الوقائع مع تقارب الزمان بينهما ، ففي الرواية الأولى كانت الشكاة في دار العباس وقد أتاه عثمان بنفسه ليلة وأصاب معه من عشائه ثم نفث شكاته ، وفي الرواية الثانية التي رواها البلاذري بسنده عن ابن عباس أنّ التشاكي كان في دار عثمان ، وفي خبر التعديل والتجريح أنّ العباس أرسل مولاه سهيل فاستدعى عثمان إلى بيته ونصحه باستعمال الرفق واللين مع عليّ عليه السلام ، وفي كلّ الروايات قرأنا طرحاً إستصلاحياً يكاد النجاح حليفه ، لكن صراحة استحواذ مروان على عثمان في تخبطه السياسي فلم يدع مجالاً للعباس ولا لغيره أن يصلح بينه وبين الناس لمعالجة المشاكل العالقة يومئذ.

ويبدو لي أنّ العباس يأس من إصلاح ما أفسده بنو أمية من أمر

____________________

(1) أنساب الأشراف 1 / ق4 / 498 ـ 499.

١٤٨

عثمان ، وتوقع المزيد من طوارق الحدثان تجتاح المجتمع الإسلامي في المدينة وغيرها ، ولذلك دعا أن يسبقها أجله ، فمرض فكان العوّاد يعودونه ، فكان آخر نصائحه لعثمان حين دخل عليه في مرضه الذي مات فيه :

( فقال ـ عثمان ـ : أوصني بما ينفعني ( الله ) به.

فقال : إلزم ثلاث خصال خواص تصيب بها ثلاث عوام ، فالخواص : ترك مصانعة الناس في الحق ، وسلامة القلب ، وحفظ اللسان ، تُصب بها سُرور الرعية ، وسلامة الدين ، ورضا الربّ )(1) .

ولشدّة اهتمامه بوحدة كلمة المسلمين وصلاح ذات البين كانت وصاياه لعثمان ، وكذلك كانت وصيته للإمام أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً ، وهي آخر وصية صدرت منه ، تكشف عن بُعد نظر في قراءة المستقبل المظلم الذي ستنتصر فيه قوى الشر على وحدة الخير ، ويكون عليّ عليه السلام ضحيتها ، لذلك كانت نظرة العباس تفيض بالألم على ما أصاب بني هاشم من تحديات وإحباطات سابقاً ، مضافاً إلى ما سيلاقونه لاحقاً من عقبات ومعادات من أعدائهم مع خذلان من أنصارهم ، إلاّ من رحم الله فحفظ فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقليلٌ ما هم.

كلّ هذا كان عند العباس بثاقب نظره رؤيا العين ، فهو إذ يوصي الإمام عليه السلام بتجنب المواجهة مع عثمان خشية عليه من أن يعصب به كلّ

____________________

(1) أخبار الدولة العباسية / 21.

١٤٩

الإضطغان القرشي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للدماء التي أُريقت في سبيل الإسلام ، من قريش وغيرهم ، والعباس كان يعرف كراهية قريش لبني هاشم منذ عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد مرّت بنا شواهد على ذلك.

والآن إلى قراءة وصيته لابن أخيه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام :

وصية العباس للإمام عليه السلام :

لقد سبق ذكر الوصية عند ذكر وفاة العباس ، إلاّ أنّ ثمة تفاوت وتعقيب وتذنيب اقتضى ذكرها ثانياً.

قال ابن أبي الحديد : ( قرأت في كتاب صنفه أبو حيان التوحيدي في تقريظ الجاحظ ، قال : نقلت من خط الصولي : قال الجاحظ : إنّ العباس بن عبد المطلب أوصى عليّ بن أبي طالب عليه السلام في علته التي مات فيها ، فقال : أي بُنيّ إنّي مشفٍ على الظعن عن الدنيا إلى الله الذي فاقتي إلى عفوه وتجاوزه أكثر من حاجتي إلى ما أنصحك فيه وأشير عليك به ، ولكن العِرق نبوض ، والرحم عروض ، وإذا قضيت حق العمومة فلا أبالي بعد ، إنّ هذا الرجل ـ يعني عثمان ـ قد جاءني مراراً بحديثك ، وناظرني ملايناً ومخاشناً في أمرك ، ولم أجد عليك إلاّ مثل ما أجد منك عليه ، ولا رأيت منه لك إلاّ مثل ما أجد منك له ، ولست تؤتى من قلّة علم ولكن من قلّة قبول ، ومع هذا كلّه فالرأي الذي أودّعك به أن تمسك عنه لسانك ويدك ، وهمزك وغمزك ، فإنّه لا يبدؤك ما لم تبدؤه ، ولا يجيبك عما لم يبلغه ،

١٥٠

وأنت المتجني وهو المتأني ، وأنت العائب وهو الصامت ، فإن قلت : كيف هذا وقد جلس مجلساً أنا به أحق ، فقد قاربت ولكن ذاك بما كسبت يداك ، ونكص عنه عقباك ، لأنّك بالأمس الأدنى هرولتَ إليهم ، تظن أنّهم يُحلّون جيدك ويُختمّون أصبعك ، ويطأون عقبك ، ويرون الرشد بك ، ويقولون لا بد لنا منك ، ولا معدل لنا عنك ، وكان هذا من هفواتك الكُبر ، وهناتك التي ليس لك منها عذر ، والآن بعد ما ثللت عرشك بيدك ، ونبذت رأي عمك في البيداء ، يتدهده(1) في السافياء(2) ، خذ بأحزم ممّا يتوضح به وجه الأمر ، لا تشارّ هذا الرجل ولا تماره ، ولا يبلغه عنك ما يحنقه عليك ، فإنّه إن كاشفك أصاب أنصاراً ، وإن كاشفته لم تر إلا ضِراراً ، ولم تستلج إلاّ عثاراً ، واعرف مَن هو بالشام له ، وَمَن ههنا حوله ، ومن يطيع أمره ويمتثل قوله ، ولا تغترر بناس يطيفون بك ، ويدّعون الحنوّ عليك والحبّ لك ، فإنّهم بين مولى جاهل ، وصاحب متمنّ ، وجليس يرعى العين ويبتدر المحضر ، ولو ظن الناس بك ما تظن بنفسك لكان الأمر لك والزمام في يدك ، ولكن هذا حديث يوم مرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فات ، ثم حرم الكلام فيه حين مات ، فعليك الآن بالعزوف عن شيء عرضك له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يتم ، وتصدّيت له مرّة بعد مرّة فلم يستقم ، ومن ساور الدهر غُلِب ، ومن حرص على ممنوع تعب ، فعلى ذلك فقد أوصيت عبد الله بطاعتك ، وبعثته على متابعتك ، وأوجرته محبتك ، ووجدت عنده من ذلك ظني به لك ، لا

____________________

(1) يتدهده : يتدحرج.

(2) السافياء : الريح التي تحمل التراب.

١٥١

توتر قوسك إلاّ بعد الثقة بها ، وإذا أعجبتك فأنظر إلى سيتها ، ثم لا تفوّق إلاّ بعد العلم ، ولا تغرق في النزع إلاّ لتصيب ، وأنظر لا تطرف يمينك عينَك ، ولا تجنِ شمالك شينك ، ودّعني بآيات من آخر سورة الكهف(1) ، وقم إذا بدا لك )(2) .

تعقيب ابن أبي الحديد على الوصية :

قال ابن أبي الحديد بعد ذكره الوصية المتقدمة : ( قلت : الناس يستحسنون رأي العباس لعليّ عليه السلام في أن لا يدخل في أصحاب الشورى ، وأمّا أنّا فانّي أستحسنه إن قصد به معنى ، ولا أستحسنه إن قصد به معنى آخر ، وذلك لأنّه إن أجري بهذا الرأي إلى ترفّعه عليهم وعلوّ قدره عن أن يكون مماثلاً لهم ، أو أجري به إلى زهده في الإمارة ورغبته عن الولاية ، فكلّ هذا رأي حسن وصوابه ، وإن كان منزعه في ذلك إلى أنّك إن تركت الدخول معهم وانفردت بنفسك في دارك أو خرجت عن المدينة إلى بعض أموالك فإنّهم يطلبونك ويضربون إليك آباط الإبل حتى يولّوك الخلافة ، وهذا هو الظاهر من كلامه ، فليس هذا الرأي عندي بمستحسن ،

____________________

(1) هي قوله تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً _ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً _ قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً _ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا ً) الكهف / 107 ـ 110.

(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 3 / 282 ط مصر الاُولى.

١٥٢

لأنّه لو فعل لولّوا عثمان أو واحداً منهم غيره ، ولم يكن عندهم من الرغبة إليه عليه السلام ما يبعثهم على طلبه ، بل كان تأخره عنهم قرّة أعينهم ، وواقعاً بإيثارهم ، فإنّ قريشاً كلّها كانت تبغضه أشد البغض ، ولو عمّر عمر نوح وتوصل إلى الخلافة بجميع أنواع التوصل كالزهد فيها تارة ، والمناشدة بفضائله تارة ، وبما فعله في ابتداء الأمر من إخراج زوجته وأطفاله ليلاً إلى بيوت الأنصار ، وبما اعتمده إذ ذاك من تخلّفه في بيته واظهار أنّه قد عكف على جمع القرآن ، وبسائر أنواع الحيل فيها لم تحصل له إلاّ بتجريد السيف كما فعله في آخر الأمر.

ولست ألوم العرب لا سيما قريشاً في بغضها له وانحرافها عنه ، فإنّه وترها وسفك دماءها ، وكشف القناع في منابذتها ، ونفوس العرب وأكبادها كما تعلم ، وليس الإسلام بمانع من بقاء الأحقاد في النفوس ، كما نشاهد اليوم عياناً ، والناس كالناس الأول ، والطبائع واحدة ، فأحسب أنّك كنت من سنتين أو ثلاث جاهلياً أو من بعض الروم وقد قتل واحد من المسلمين ابنك أو أخاك ثم أسلمت ، أكان اسلامك يُذهب عنك ما تجده من بغض ذلك القاتل وشنآنه ، كلا إنّ ذلك لغير ذاهب ، هذا إذا كان الإسلام صحيحاً والعقيدة محققة لا كإسلام كثير من العرب ، فبعضهم تقليداً ، وبعضهم للطمع والكسب ، وبعضهم خوفاً من السيف ، وبعضهم على طريق الحمية والإنتصار ، أو لعداوة قوم آخرين من أضداد الإسلام وأعدائه.

١٥٣

واعلم أنّ كلّ دم أراقه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسيف عليّ عليه السلام وبسيف غيره ، فإنّ العرب بعد وفاته عليه السلام عصبت تلك الدماء بعليّ بن أبي طالب عليه السلام وحده ، لأنّه لم يكن في رهطه مَن يستحق في شرعهم وسنتهم وعادتهم أن يعصب به تلك الدماء إلاّ بعليّ وحده ، وهذه عادة العرب إذا قتل منها قتلى طالبت بتلك الدماء القاتل ، فإن مات أو تعذرت عليها مطالبته طالبت بها أمثل الناس من أهله. لمّا قتل قوم من بني تميم أخاً لعمرو بن هند ، قال بعض أعدائه يحرض عمراً عليهم :

من مبلغ عمراً بأن المرء لم يخلق صُباره

وحوادث الأيام لايبقى لها إلاّ لحجاره

ها إنّ عجزة أمه بالسفح أسفل من أواره

تسفي الرياح خلال كشيحه وقد سلبوا أزاره

فاقتل زرارة لا أرى في القوم أمثل من زرارة

أن يقتل زرارة بن عدس رئيس بني تميم ، ولم يكن قاتلاً أخا الملك ولا حاضراً قتله. ومن نظر في أيام العرب ووقائعها ومقاتلها عرف ما ذكرناه )(1) .

____________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 3 / 283 ط الأولى بمصر.

١٥٤

محاورات ابن عباس مع عثمان

بين يدي المحاورة الأولى :

نذكر ما روى الواقدي في كتاب ( الشورى ) عن ابن عباس رحمه الله قال :

( شهدت عتاب عثمان لعليّ عليه السلام يوماً فقال له في بعض ما قاله : نشدتك الله أن تفتح للفرقة باباً ، فلعهدي بك وأنت تطيع عتيقاً وابن الخطاب طاعتك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولستُ بدون واحد منهما ، وأنا أمسّ بك رحماً وأقرب إليك صهراً ، فإن كنت تزعم أنّ هذا الأمر جعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لك ، فقد رأيناك حين توفي نازعت ثمّ أقررت ، فإن كانا لم يركبا من الأمر جَداً فكيف أذعنت لهما بالبيعة وبخعت بالطاعة ، وإن كانا أحسنا فيما وليّا ولم أقصر عنهما في ديني وحسبي وقرابتي فكن لي كما كنت لهما.

فقال عليّ عليه السلام : أمّا الفرقة ، فمعاذ الله أن أفتح لها باباً وأسهّل إليها سبيلاً ، ولكني أنهاك عمّا ينهاك الله ورسوله عنه ، وأهديك إلى رشدك.

وأمّا عتيق وابن الخطاب ، فإن كانا أخذا ما جعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لي فأنت أعلم بذلك والمسلمون ، وما لي ولهذا الأمر وقد تركته منذ حين. فأمّا أن لا يكون حقي بل المسلمون فيه شرع ، فقد أصاب السهم الثغرة ،

١٥٥

وأمّا أن يكون حقي دونهم ، فقد تركته لهم طبت به نفساً ، ونفضت يدي عنه استصلاحاً.

وأمّا التسوية بينك وبينهما ، فلست كأحدهما ، إنّهما وليا هذا الأمر فطلقا أنفسهما وأهلهما عنه ، وعُمتَ فيه وقومك عوم السابح في اللجة ، فارجع إلى الله أبا عمرو وأنظر هل بقي من عمرك إلاّ كظمء الحمار ، فحتى متى وإلى متى؟ ألا تنهى سفهاء بني أمية عن أعراض المسلمين وأبشارهم وأموالهم؟ والله لو ظلم عامل من عمالك حيث تغرب الشمس لكان أثمه مشتركاً بينه وبينك.

قال ابن عباس : فقال عثمان : لك العتبى ، وافعل وأعزل من عمالي كلّ من تكرهه ويكرهه المسلمون.

ثمّ أفترقا ، فصدّه مروان بن الحكم عن ذلك ، وقال : يجتريء عليك الناس فلا تعزل أحداً منهم )(1) .

المحاورة الثانية :

روى الزبير بن بكار في كتاب ( الموفقيات ) بسنده عن ابن عباس S قال : ( صليت العصر يوماً ثمّ خرجت ، فإذا أنا بعثمان في أيام خلافته في بعض أزقة المدينة وحده ، فأتيته إجلالاً وتوقيراً لمكانه ، فقال لي : هل رأيت عليّاً؟

____________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 398 ط مصر الأولى.

١٥٦

قلت : خلّفته في المسجد ، فإن لم يكن الآن فيه فهو في منزله.

قال : أمّا منزله فليس فيه ، فابغه لنا في المسجد ، فتوجهنا إلى المسجد ، وإذا عليّ عليه السلام يخرج منه.

ـ قال ابن عباس : وقد كنت أمس ذلك اليوم عند عليّ فذكر عثمان وتجرّمه عليه ، وقال : أما والله يا بن عباس إنّ من دوائه لقطع كلامه وترك لقائه. فقلت له : يرحمك الله كيف لك بهذا ، فإن تركته ثمّ أرسل إليك فما أنت صانع؟ قال : أعتلّ وأعتلّ فمن يضرّني؟ قال : لا أحدـ

قال ابن عباس : فلمّا تراءينا له وهو خارج من المسجد ظهر منه من الالتفات والطلب للإنصراف ما أستبان لعثمان ، فنظر إليّ عثمان ، وقال : يا ابن عباس أما ترى ابن خالنا يكره لقاءنا؟

فقلت : ولِمَ وحقك ألزم وهو بالفضل أعلم.

فلمّا تقاربا رماه عثمان بالسلام فردّ عليه. فقال عثمان : إن تدخل فإياك أردنا ، وإن تمض فإياك طلبنا. فقال عليّ : أيّ ذلك أحببت. قال : تدخل ، فدخلا وأخذ عثمان بيده فأهوى به إلى القبلة فقصر عنها وجلس قبالتها ، فجلس عثمان إلى جانبه ، فنكصت عنهما ، فدعواني جميعاً فأتيتهما.

فحمد الله عثمان وأثنى عليه وصلّى على رسوله ، ثمّ قال : أمّا بعد يا ابنّي خاليّ وابنيّ عمّي فإذ جمعتكما في النداء فأستجمعكما في الشكاية على رضائي عن أحدكما ووجدي على الآخر ، إنّي أستعذركما من أنفسكما وأسألكما فياتكما وأستوهبكما رجعتكما ، فوالله لو غالبني الناس

١٥٧

ما أنتصرت إلاّ بكما ، ولو تهضّموني ما تعززت إلاّ بعزّكما ، ولقد طال هذا الأمر بيننا حتى تخوّفت أن يجوز قدره ويعظم الخطر فيه. ولقد هاجني العدو عليكما وأغراني بكما ، فمنعني الله والرحم ممّا أراد ، وقد خلونا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلى جانب قبره ، وقد أحببت أن تظهرا لي رأيكما وما تنطويان لي عليه وتصدقا ، فإنّ الصدق أنجى وأسلم ، وأستغفر الله لي ولكما.

قال ابن عباس : فأطرق عليّ عليه السلام وأطرقت معه طويلاً. أمّا أنا فأجللته أن أتكلّم قبله ، وأمّا هو فأراد أن أجيب عنّي وعنه ؛ ثمّ قلت له : أتتكلم أم أتكلم أنا عنك؟ قال : بل تكلم عني وعنك.

فحمدت الله وأثنيت عليه ، وصلّيت على رسوله ، ثمّ قلت : أمّا بعد يا ابن عمنا وعمتنا ، فقد سمعنا كلامك لنا وخلطك في الشكاية بيننا على رضاك ـ زعمت ـ عن أحدنا ووجدك على الآخر ، وسنفعل في ذلك فنذمّك ونحمدك ، اقتداء منك بفعلك فينا ، فإنا نذمّ مثل تهمتك إيانا على ما اتهمتنا عليه بلا ثقة إلاّ ظنّاً ، ونحمد منك غير ذلك من مخالفتك عشيرتك ، ثمّ نستعذرك من نفسك استعذارك إيانا من أنفسنا ، ونستوهبك فياتك استيهابك إيانا فيأتنا ، ونسألك رجعتك مسألتك إيانا رجعتنا ، فإنّا معاً أيّما حمدت وذممت منّا كمثلك في أمر نفسك ، ليس بيننا فرق ولا إختلاف ، بل كلانا شريك صاحبه في رأيه وقوله ، فوالله ما تعلمنا غير معذّرين فيما بيننا وبينك ، ولا تعرفنا غير قانتين عليك ولا تجدنا غير راجعين إليك ،

١٥٨

فنحن نسألك من نفسك مثل ما سألتنا من أنفسنا.

وأمّا قولك : لو غالبني الناس ما أنتصرت إلاّ بكما ، أو تهضّموني ما تعزّزت إلاّ بعزّكما ، فأين بنا وبك عن ذلك ونحن وأنت كما قال أخو كنانة :

بدا بحتر ما رام نال وإن يرم

نخض دونه غمرا من الغر رائمه

لنا ولهم منا ومنهم على العدى

مراتب عزّ مصعدات سلالمه

وأمّا قولك في هيج العدو إياك وإغرائه لك بنا ، فوالله ما أتاك العدو من ذلك شيئاً إلاّ وقد أتانا بأعظم منه ، فمنعناه ما أراد ما منعك من مراقبة الله والرحم ، وما أبقيت أنت ونحن إلاّ على أدياننا وأعراضنا ومروآتنا ، ولقد لعمري طال بنا وبك هذا الأمر حتى تخوّفنا منه على أنفسنا وراقبنا منه ما راقبت.

وأمّا مساءلتك إيانا عن رأينا فيك وما ننطوي عليه لك ، فإنّا نخبرك أنّ ذلك إلى ما تحبّ لا يعلم واحد منّا من صاحبه إلاّ ذلك ، ولا يقبل منه غيره ، وكلانا ضامن على صاحبه ذلك وكفيل به ، وقد برّأت أحدنا وزكّيته وأنطقت الآخر وأسكته ، وليس السقيم منّا ممّا كرهت بأنطق من البري فيما ذكرت ، ولا البري منّا ممّا سخطت بأظهر من السقيم فيما وصفت ، فإمّا جمعتنا في الرضا وإمّا جمعتنا في السخط ، لنجازيك بمثل ما تفعل بنا في ذلك مكايلة الصاع بالصاع ، فقد أعلمناك رأينا وأظهرنا لك ذات أنفسنا

١٥٩

وصدقناك ، والصدق ـ كما ذكرت ـ أنجى وأسلم ، فأجب إلى ما دعوت إليه ، وأجلل عن النقص والغدر مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وموضع قبره ، وأصدق تنج وتسلم ، ونستغفر الله لنا ولك.

قال ابن عباس : فنظر إليّ عليّ عليه السلام نظر هيبة ، وقال : دعه حتى يبلغ رضاه فيما هو فيه. فوالله لو ظهرت له قلوبنا وبدت له سرائرنا حتى رآها بعينه كما يسمع الخبر عنها بإذنه ما زال متجرّماً منتقماً ، والله ما أنا ملقى على وضمة ، وإنّي لمانع ما وراء ظهري ، وانّ هذا الكلام لمخالفة منه وسوء عشرة.

فقال عثمان : مهلاً أبا حسن فوالله إنّك لتعلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصفني بغير ذلك يوم يقول وأنت عنده : إنّ من أصحابي لقوماً سالمين لهم وانّ عثمان لمنهم ، إنّه لأحسنهم بهم ظنّاً ، وأنصحهم لهم حبّاً.

فقال عليّ عليه السلام : فصدّق قوله صلى الله عليه وآله وسلم بفعلك ، وخالف ما أنت الآن عليه ، فقد قيل لك ما سمعت وهو كاف إن قبلت.

قال عثمان : تثق يا أبا الحسن؟

قال : نعم أثق ولا أظنك فاعلاً.

قال عثمان : قد وثقت وأنت ممن لا يخفر صاحبه ولا يكذّب لقيله.

قال ابن عباس : فأخذت بأيديهما حتى تصافحا وتصالحا وتمازحا ، ونهضت عنهما فتشاورا وتآمرا وتذاكرا ، ثمّ افترقا ، فوالله ما مرّت ثالثة حتى

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

و قيل: ليكون عذراً يعتذر به الله إلى عباده في العقاب أنّه لم يكن إلّا على وجه الحكمة، و يؤل إلى إتمام الحجّة، فمحصّل المعنى عليه أنّهم يلقون الذكر ليكون إتماماً للحجّة على المكذّبين و تخويفاً لغيرهم، و هو معنى حسن.

قوله تعالى: ( إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ ) جواب القسم، و ما موصولة و الخطاب لعامّة البشر، و المراد بما توعدون يوم القيامة بما فيه من العقاب و الثواب و الواقع أبلغ من الكائن لما فيه من شائبة الاستقرار، و المعنى أنّ الّذي وعدكم الله به من البعث و العقاب و الثواب سيتحقّق لا محالة.

( كلام في إقسامه تعالى في القرآن‏)

من لطيف صنعة البيان في هذه الآيات الستّ أنّها مع ما تتضمّن الإقسام لتأكيد الخبر الّذي في الجواب تتضمّن الحجّة على مضمون الجواب و هو وقوع الجزاء الموعود فإنّ التدبير الربوبيّ الّذي يشير إليه القسم أعني إرسال المرسلات العاصفات و نشرها الصحف و فرقها و إلقاءها الذكر للنبيّ تدبير لا يتمّ إلّا مع وجود التكليف الإلهيّ و التكليف لا يتمّ إلّا مع تحتّم وجود يوم معدّ للجزاء يجازى فيه العاصي و المطيع من المكلّفين.

فالّذي أقسم تعالى به من التدبير لتأكيد وقوع الجزاء الموعود هو بعينه حجّة على وقوعه كأنّه قيل: اُقسم بهذه الحجّة أنّ مدلولها واقع.

و إذا تأمّلت الموارد الّتي اُورد فيها القسم في كلامه تعالى و أمعنت فيها وجدت المقسم به فيها حجّة دالّة على حقّيّة الجواب كقوله تعالى في الرزق:( فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ ) الذاريات: ٢٣ فإنّ ربوبيّة السماء و الأرض هي المبدأ لرزق المرزوقين، و قوله:( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) الحجر: ٧٢ فإنّ حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الطاهرة المصونة بعصمة من الله دالّة على سكرهم و عمههم، و قوله:( وَ الشَّمْسِ وَ ضُحاها - إلى أن قال -وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها قَدْ

٢٤١

أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ) الشمس: ١٠ فإنّ هذا النظام المتقن المنتهي إلى النفس الملهمة المميّزة لفجورها و تقواها هو الدليل على فلاح من زكّاها و خيبة من دسّاها.

و على هذا النسق سائر ما ورد من القسم في كلامه تعالى و إن كان بعضها لا يخلو من خفاء يحوج إلى إمعان من النظر كقوله:( وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ وَ طُورِ سِينِينَ ) التين: ٢ و عليك بالتدبّر فيها.

قوله تعالى: ( فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ - إلى قوله -أُقِّتَتْ ) بيان لليوم الموعود الّذي اُخبر بوقوعه في قوله:( إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ ) و جواب إذا محذوف يدلّ عليه قوله:( لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ - إلى قوله -لِلْمُكَذِّبِينَ ) .

و قد عرّف سبحانه اليوم الموعود بذكر حوادث واقعة تلازم انقراض العالم الإنسانيّ و انقطاع النظام الدنيويّ كانطماس النجوم و انشقاق الأرض و اندكاك الجبال و تحوّل النظام إلى نظام آخر يغايره، و قد تكرّر ذلك في كثير من السور القرآنيّة و خاصّة السور القصار كسورة النبإ و النازعات و التكوير و الانفطار و الانشقاق و الفجر و الزلزال و القارعة، و غيرها، و قد عدّت الاُمور المذكورة فيها في الأخبار من أشراط الساعة.

و من المعلوم بالضرورة من بيانات الكتاب و السنّة أنّ نظام الحياة في جميع شؤنها في الآخرة غير نظامها في الدنيا فالدار الآخرة دار أبديّة فيها محض السعادة لساكنيها لهم فيها ما يشاؤن أو محض الشقاء و ليس لهم فيها إلّا ما يكرهون و الدار الدنيا دار فناء و زوال لا يحكم فيها إلّا الأسباب و العوامل الخارجيّة الظاهريّة مخلوط فيها الموت بالحياة، و الفقدان بالوجدان، و الشقاء بالسعادة، و التعب بالراحة، و المساءة بالسرور، و الآخرة دار جزاء و لا عمل و الدنيا دار عمل و لا جزاء، و بالجملة النشأة غير النشأة.

فتعريفه تعالى نشأة البعث و الجزاء بأشراطها الّتي فيها انطواء بساط الدنيا

٢٤٢

بخراب بنيان أرضها و انتساف جبالها و انشقاق سمائها و انطماس نجومها إلى غير ذلك من قبيل تحديد نشأة بسقوط النظام الحاكم في نشأة اُخرى قال تعالى:( وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى‏ فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ ) الواقعة: ٦٢.

فقوله:( فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ) أي محي أثرها من النور و غيره، و الطمس إزالة الأثر بالمحو قال تعالى:( وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ) التكوير: ٢.

و قوله:( وَ إِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ ) أي انشقّت، و الفرج و الفرجة الشقّ بين الشيئين قال تعالى:( إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ ) الانشقاق: ١.

و قوله:( وَ إِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ ) أي قلعت و اُزيلت من قولهم: نسفت الريح الشي‏ء أي اقتلعته و أزالته قال تعالى:( وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً ) طه: ١٠٥.

و قوله:( وَ إِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ) أي عيّن لها الوقت الّذي تحضر فيه للشهادة على الاُمم أو بلغت الوقت الّذي تنتظره لأداء شهادتها على الاُمم من التأقيت بمعنى التوقيت، قال تعالى:( فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) الأعراف: ٦، و قال:( يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ ) المائدة: ١٠٩.

قوله تعالى: ( لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ - إلى قوله -لِلْمُكَذِّبِينَ ) الأجل المدّة المضروبة للشي‏ء، و التأجيل جعل الأجل للشي‏ء، و يستعمل في لازمه و هو التأخير كقولهم: دين مؤجّل أي له مدّة بخلاف الحالّ و هذا المعنى هو الأنسب للآية، و الضمير في( أُجِّلَتْ ) للاُمور المذكورة قبلاً من طمس النجوم و فرج السماء و نسف الجبال و تأقيت الرسل، و المعنى لأيّ يوم اُخّرت يوم اُخّرت هذه الاُمور.

و احتمل أن يكون( أُجِّلَتْ ) بمعنى ضرب الأجل للشي‏ء و أن يكون الضمير المقدّر فيه راجعاً إلى الرسل، أو إلى ما يشعر به الكلام من الاُمور المتعلّقة بالرسل ممّا أخبروا به من أحوال الآخرة و أهوالها و تعذيب الكافرين و تنعيم المؤمنين فيها، و لا يخلو كلّ ذلك من خفاء.

و قد سيقت الآية و الّتي بعدها أعني قوله:( لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ ) في

٢٤٣

صورة الاستفهام و جوابه للتعظيم و التهويل و التعجيب و أصل المعنى اُخّرت هذه الاُمور ليوم الفصل.

و هذا النوع من الجمل الاستفهاميّة في معنى تقدير القول، و المعنى إنّ من عظمة هذا اليوم و هوله و كونه عجباً أنّه يسأل فيقال: لأيّ يوم اُخّرت هذه الاُمور العظيمة الهائلة العجيبة فيجاب: ليوم الفصل.

و قوله:( لِيَوْمِ الْفَصْلِ ) هو يوم الجزاء الّذي فيه فصل القضاء قال تعالى:( إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) الحجّ: ١٧.

و قوله:( وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ ) تعظيم لليوم و تفخيم لأمره.

و قوله:( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) الويل الهلاك، و المراد بالمكذّبين المكذّبون بيوم الفصل الّذي فيه ما يوعدون فإنّ الآيات مسوقة لبيان وقوعه و قد أقسم على أنّه واقع.

و في الآية دعاء على المكذّبين، و قد استغنى به عن ذكر جواب إذا في قوله:( فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ) إلخ و التقدير فإذا كان كذا و كذا وقع ما توعدون من العذاب على التكذيب أو التقدير فإذا كان كذا و كذا كان يوم الفصل و هلك المكذّبون به.

( بحث روائي‏)

في الخصال، عن ابن عبّاس قال: قال أبوبكر: أسرع الشيب إليك يا رسول الله قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : شيّبتني هود و الواقعة و المرسلات و عمّ يتساءلون.

و في الدرّ المنثور، أخرج البخاريّ و مسلم و النسائيّ و ابن مردويه عن ابن مسعود قال: بينما نحن مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غار بمنى إذ نزلت عليه سورة و المرسلات عرفاً فإنّه يتلوها و إنّي لألقاها من فيه و إنّ فاه لرطب بها إذ وثبت عليه حيّة فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اقتلوها فابتدرناها فذهبت فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقيت شرّكم كما وقيتم شرّها.

أقول: و رواها أيضاً بطريقين آخرين.

٢٤٤

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً ) قال: آيات تتبع بعضها بعضاً.

و في المجمع: في الآية و قيل: إنّها الملائكة اُرسلت بالمعروف من أمر الله و نهيه. في رواية الهرويّ عن ابن مسعود، و عن أبي حمزة الثماليّ عن أصحاب عليّ عنهعليه‌السلام .

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ) قال: يذهب نورها و تسقط.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ) فطمسها ذهاب ضوئها( وَ إِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ ) قال: تفرج و تنشقّ( وَ إِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ) قال: بعثت في أوقات مختلفة.

و في المجمع، قال الصادقعليه‌السلام :( أُقِّتَتْ ) أي بعثت في أوقات مختلفة.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ) قال: اُخّرت.

٢٤٥

( سورة المرسلات الآيات ١٦ - ٥٠)

أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ( ١٦ ) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ ( ١٧ ) كَذَٰلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ( ١٨ ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( ١٩ ) أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ ( ٢٠ ) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ( ٢١ ) إِلَىٰ قَدَرٍ مَّعْلُومٍ ( ٢٢ ) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ( ٢٣ ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( ٢٤ ) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا ( ٢٥ ) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ( ٢٦ ) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتًا ( ٢٧ ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( ٢٨ ) انطَلِقُوا إِلَىٰ مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ ( ٢٩ ) انطَلِقُوا إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ ( ٣٠ ) لَّا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ ( ٣١ ) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ( ٣٢ ) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ ( ٣٣ ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( ٣٤ ) هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ ( ٣٥ ) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ( ٣٦ ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( ٣٧ ) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ ( ٣٨ ) فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ( ٣٩ ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( ٤٠ ) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ ( ٤١ ) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ( ٤٢ ) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ٤٣ ) إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( ٤٤ ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( ٤٥ ) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا

٢٤٦

إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ ( ٤٦ ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( ٤٧ ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ ( ٤٨ ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( ٤٩ ) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ( ٥٠ )

( بيان‏)

حجج دالّة على توحّد الربوبيّة تقضي بوجود يوم الفصل الّذي فيه جزاء المكذّبين به، و إشارة إلى ما فيه من الجزاء المعدّ لهم الّذي كانوا يكذّبون به، و إلى ما فيه من النعمة و الكرامة للمتّقين، و تختتم بتوبيخهم و ذمّهم على استكبارهم عن عبادته تعالى و الإيمان بكلامه.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ) الاستفهام للإنكار، و المراد بالأوّلين أمثال قوم نوح و عاد و ثمود من الاُمم القديمة عهداً، و بالآخرين الملحقون بهم من الاُمم الغابرة، و الإتباع جعل الشي‏ء أثر الشي‏ء.

و قوله:( ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ ) برفع نتبع على الاستيناف و ليس بمعطوف على( نُهْلِكِ ) و إلّا لجزم.

و المعنى قد أهلكنا المكذّبين من الاُمم الأوّلين ثمّ إنّا نهلك الاُمم الآخرين على أثرهم.

و قوله:( كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ) في موضع التعليل لما تقدّمه و لذا اُورد بالفصل من غير عطف كأنّ قائلاً قال: لما ذا اُهلكوا؟ فقيل: كذلك نفعل بالمجرمين. و الآيات - كما ترى - إنذار و إرجاع للبيان إلى الأصل المضروب في السورة أعني قوله:( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) و هي بعينها حجّة على توحّد الربوبيّة فإنّ إهلاك المجرمين من الإنسان تصرّف في العالم الإنسانيّ و تدبير، و إذ ليس المهلك إلّا الله - و قد اعترف به المشركون - فهو الرّبّ لا ربّ سواه و لا إله غيره.

٢٤٧

على أنّها تدلّ على وجود يوم الفصل لأنّ إهلاك قوم لإجرامهم لا يتمّ إلّا بعد توجّه تكليف إليهم يعصونه و لا معنى للتكليف إلّا مع مجازاة المطيع بالثواب و العاصي بالعقاب فهناك يوم يفصل فيه القضاء فيثاب فيه المطيع و يعاقب فيه العاصي و ليس هو الثواب و العقاب الدنيويين لأنّهما لا يستوعبان في هذه الدار فهناك يوم يجازى فيه كلّ بما عمل، و هو يوم الفصل ذلك يوم مجموع له الناس.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ - إلى قوله -فَنِعْمَ الْقادِرُونَ ) الاستفهام للإنكار و الماء المهين الحقير قليل الغناء و المراد به النطفة، و المراد بالقرار المكين الرحم و بقوله:( قَدَرٍ مَعْلُومٍ ) مدّة الحمل.

و قوله:( فَقَدَرْنا ) من القدر بمعنى التقدير، و الفاء لتفريع القدر على الخلق أي خلقناكم فقدرنا ما سيجري عليكم من الحوادث و ما يستقبلكم من الأوصاف و الأحوال من طول العمر و قصره و هيئة و جمال و صحّة و مرض و رزق إلى غير ذلك.

و احتمل أن يكون( فَقَدَرْنا ) من القدرة مقابل العجز و المراد فقدرنا على جميع ذلك، و ما تقدّم أوجه.

و المعنى: قد خلقناكم من ماء حقير هو النطفة فجعلنا ذلك الماء في قرار مكين هي الرحم إلى مدّة معلومة هي مدّة الحمل فقدّرنا جميع ما يتعلّق بوجودكم من الحوادث و الصفات و الأحوال فنعم المقدّرون نحن.

و يجري في كون مضمون هذه الآيات حجّة على توحّد الربوبيّة نظير البيان السابق في الآيات المتقدّمة، و كذا في كونه حجّة على تحقّق يوم الفصل فإنّ الربوبيّة تستوجب خضوع المربوبين لساحتها و هو الدين المتضمّن للتكليف، و لا يتمّ التكليف إلّا بجعل جزاء على الطاعة و العصيان، و اليوم الّذي يجازى فيه بالأعمال هو يوم الفصل.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَ أَمْواتاً - إلى قوله -فُراتاً ) الكفت و الكفات بمعنى الضمّ و الجمع أي أ لم نجعل الأرض كفاتاً يجمع العباد أحياء

٢٤٨

و أمواتاً، و قيل: الكفات جمع كفت بمعنى الوعاء، و المعنى أ لم نجعل الأرض أوعية تجمع الأحياء و الأموات.

و قوله:( وَ جَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ ) الرواسي الثابتات من الجبال، و الشامخات العاليات، و كأنّ في ذكر الرواسي توطئة لقوله:( وَ أَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً ) لأنّ الأنهار و العيون الطبيعية تنفجر من الجبال فتجري على السهول، و الفرات الماء العذب.

و يجري في حجّيّة الآيات نظير البيان السابق في الآيات المتقدّمة.

قوله تعالى: ( انْطَلِقُوا إِلى‏ ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) حكاية لما يقال لهم يوم الفصل و القائل هو الله سبحانه بقرينة قوله في آخر الآيات:( فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ) و المراد بما كانوا به يكذّبون: جهنّم، و الانطلاق الانتقال من مكان إلى مكان من غير مكث، و المعنى يقال لهم: انتقلوا من المحشر من غير مكث إلى النار الّتي كنتم تكذّبون به.

قوله تعالى: ( انْطَلِقُوا إِلى‏ ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ ) ذكروا أنّ المراد بهذا الظلّ ظلّ دخان نار جهنّم قال تعالى:( وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ) الواقعة: ٤٣.

و ذكروا أنّ في ذكر انشعابه إلى ثلاث شعب إشارة إلى عظم الدخان فإنّ الدخان العظيم يتفرّق تفرّق الذوائب.

قوله تعالى: ( لا ظَلِيلٍ وَ لا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ ) الظلّ الظليل هو المانع من الحرّ و الأذى بستره على المستظلّ فكون الظلّ غير ظليل كونه لا يمنع ذلك، و اللهب ما يعلو على النار من أحمر و أصفر و أخضر.

قوله تعالى: ( إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ ) ضمير( إِنَّها ) للنار المعلومة من السياق، و الشرر ما يتطاير من النار، و القصر معروف، و الجمالة جمع جمل و هو البعير. و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) الإشارة إلى يوم الفصل، و المراد بالإذن الإذن في النطق أو في الاعتذار.

٢٤٩

و قوله:( فَيَعْتَذِرُونَ ) معطوف على( يُؤْذَنُ ) منتظم معه في سلك النفي، و المعنى هذا اليوم يوم لا ينطقون فيه أي أهل المحشر من الناس و لا يؤذن لهم في النطق أو في الاعتذار فلا يعتذرون، و لا ينافي نفي النطق ههنا إثباته في آيات اُخر لأنّ اليوم ذو مواقف كثيرة مختلفة يسألون في بعضها فينطقون و يختم على أفواههم في آخر فلا ينطقون.

و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) هود: ١٠٥ فليراجع.

قوله تعالى: ( هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَ الْأَوَّلِينَ فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ) سمّي يوم الفصل لما أنّ الله تعالى يفصل و يميّز فيه بين أهل الحقّ و أهل الباطل بالقضاء بينهم قال تعالى:( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) السجدة: ٢٥، و قال:( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) يونس: ٩٣.

و الخطاب في قوله:( جَمَعْناكُمْ وَ الْأَوَّلِينَ ) لمكذّبي هذه الاُمّة بما أنّهم من الآخرين و لذا قوبلوا بالأوّلين قال تعالى:( ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ ) هود: ١٠٣ و قال( وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ) الكهف: ٦٧.

و قوله:( فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ) أي إن كانت لكم حيلة تحتالون بي في دفع عذابي عن أنفسكم فاحتالوا، و هذا خطاب تعجيزيّ منبئ عن انسلاب القوّة و القدرة عنهم يومئذ بالكلّيّة بظهور أن لا قوّة إلّا لله عزّ اسمه قال تعالى:( وَ لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَ رَأَوُا الْعَذابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ ) البقرة: ١٦٦.

و الآية أعني قوله:( فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ) أوسع مدلولاً من قوله:( يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا

٢٥٠

لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ ) الرحمن: ٣٣ لاختصاصه بنفي القدرة على الفرار بخلاف الآية الّتي نحن فيها.

و في قوله:( فَكِيدُونِ ) التفات من التكلّم مع الغير إلى التكلّم وحده و النكتة فيه أنّ متعلّق هذا الأمر التعجيزيّ إنّما هو الكيد لمن له القوّة و القدرة فحسب و هو الله وحده و لو قيل: فكيدونا فأت الإشعار بالتوحّد.

قوله تعالى: ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَ عُيُونٍ وَ فَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ - إلى قوله -الْمُحْسِنِينَ ) الظلال و العيون ظلال الجنّة و عيونها الّتي يتنعّمون بالاستظلال بها و شربها، و الفواكه جمع فاكهة و هي الثمرة.

و قوله:( كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) مفاده الإذن و الإباحة، و كان الأكل و الشرب كناية عن مطلق التنعّم بنعم الجنّة و التصرّف فيها و إن لم يكن بالأكل و الشرب، و هو شائع كما يطلق أكل المال على مطلق التصرّف فيه.

و قوله:( إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) تسجيل لسعادتهم.

قوله تعالى: ( كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ) الخطاب من قبيل قولهم: افعل ما شئت فإنّه لا ينفعك، و هذا النوع من الأمر إياس للمخاطب أن ينتفع بما يأتي به من الفعل للحصول على ما يريده، و منه قوله:( فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا ) طه: ٧٢، و قوله:( اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) حم السجدة: ٤٠.

فقوله:( كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا قَلِيلًا ) أي تمتّعاً قليلاً أو زماناً قليلاً إياس لهم من أن ينتفعوا بمثل الأكل و التمتّع في دفع العذاب عن أنفسهم فليأكلوا و ليتمتّعوا قليلاً فليس يدفع عنهم شيئاً.

و إنّما ذكر الأكل و التمتّع لأنّ منكري المعاد لا يرون من السعادة إلّا سعادة الحياة الدنيا و لا يرون لها من السعادة إلّا الفوز بالأكل و التمتّع كالحيوان العجم قال

٢٥١

تعالى:( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَ يَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَ النَّارُ مَثْوىً لَهُمْ ) سورة محمّد: ١٢.

و قوله:( إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ) تعليل لما يستفاد من الجملة السابقة المشتملة على الأمر أي لا ينفعكم الأكل و التمتّع قليلاً لأنّكم مجرمون بتكذيبكم بيوم الفصل و جزاء المكذّبين به النار لا محالة.

قوله تعالى: ( وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ ) المراد بالركوع الصلاة كما قيل و لعلّ ذلك باعتبار اشتمالها على الركوع.

و قيل: المراد بالركوع المأمور به الخشوع و الخضوع و التواضع له تعالى باستجابة دعوته و قبول كلامه و اتّباع دينه، و عبادته.

و قيل: المراد بالركوع ما يؤمرون بالسجود يوم القيامة كما يشير إليه قوله تعالى( وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ ) القلم: ٤٢ و الوجهان لا يخلوان من بُعد.

و وجه اتّصال الآية بما قبلها أنّ الكلام كان مسوقاً لتهديد المكذّبين بيوم الفصل و بيان تبعة تكذيبهم به و تمّم ذلك في هذه الآية بأنّهم لا يعبدون الله إذا دعوا إلى عبادته كما ينكرون ذلك اليوم فلا معنى للعبادة مع نفي الجزاء، و ليكون كالتوطئة لقوله الآتي:( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) .

و نسب إلى الزمخشريّ أنّ الآية متّصلة بقوله في الآية السابقة:( لِلْمُكَذِّبِينَ ) كأنّه قيل: ويل يومئذ للّذين كذّبوا و الّذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون.

و في الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله:( وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ ) إلخ وجهه الإعراض عن مخاطبتهم بعد تركهم و أنفسهم يفعلون ما يشاؤن بقوله:( كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا ) .

قوله تعالى: ( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) أي إذا لم يؤمنوا بالقرآن و هو آية معجزة إلهيّة، و قد بيّن لهم أنّ الله لا إله إلّا هو وحده لا شريك له و أنّ أمامهم يوم الفصل بأوضح البيان و ساطع البرهان فبأيّ كلام بعد القرآن يؤمنون.

٢٥٢

و هذا إيئاس من إيمانهم بالله و رسوله و اليوم الآخر و كالتنبيه على أنّ رفع اليد عن دعوتهم إلى الإيمان بإلقاء قوله:( كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا ) إليهم في محلّه فليسوا بمؤمنين و لا فائدة في دعوتهم غير أنّ فيها إتماماً للحجّة.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ و قوله:( أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ) قال: منتن( فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ ) قال: في الرحم و أمّا قوله:( إِلى‏ قَدَرٍ مَعْلُومٍ ) يقول: منتهى الأجل.

أقول: و في اُصول الكافي، في رواية عن أبي الحسن الماضيعليه‌السلام : تطبيق قوله:( أَ لَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ) على مكذّبي الرسل في طاعة الأوصياء، و قوله:( ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ ) على من أجرم إلى آل محمّدعليهم‌السلام . على اضطراب في متن الخبر، و هو من الجري دون التفسير.

و فيه: و قوله( أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَ أَمْواتاً ) قال الكفات المساكن‏ و قال: نظر أميرالمؤمنينعليه‌السلام في رجوعه من صفّين إلى المقابر فقال: هذه كفات الأموات أي مساكنهم ثمّ نظر إلى بيوت الكوفة فقال: هذه كفات الأحياء. ثمّ تلا قوله:( أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَ أَمْواتاً ) .

أقول: و روي في المعاني، بإسناده عن حمّاد عن أبي عبداللهعليه‌السلام أنّه نظر إلى المقابر. و ذكر مثل الحديث السابق.

و فيه: و قوله( وَ جَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ ) قال: جبال مرتفعة.

و فيه: و قوله( انْطَلِقُوا إِلى‏ ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ ) قال فيه ثلاث شعب من النار و قوله:( إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ) قال: شرر النار مثل القصور و الجبال.

و فيه: و قوله( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَ عُيُونٍ ) قال: في ظلال من نور أنور من الشمس.

٢٥٣

و في المجمع: في قوله:( وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ ) قال مقاتل: نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصلاة فقالوا: لا ننحني. و الرواية لا نحني فإنّ ذلك سبّة علينا. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا خير في دين ليس فيه ركوع و سجود.

أقول: و في انطباق القصّة - و قد وقعت بعد الهجرة - على الآية خفاء.

و في تفسير القمّيّ في الآية السابقة قال: و إذا قيل لهم( تولّوا الإمام لم يتولّوه) .

أقول: و هو من الجري دون التفسير.

٢٥٤

( سورة النبإ مكّيّة و هي أربعون آية)

( سورة النبإ الآيات ١ - ١٦)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ( ١ ) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ( ٢ ) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ( ٣ ) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ( ٤ ) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ( ٥ ) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا ( ٦ ) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ( ٧ ) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ( ٨ ) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ( ٩ ) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ( ١٠ ) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ( ١١ ) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ( ١٢ ) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ( ١٣ ) وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا ( ١٤ ) لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا ( ١٥ ) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ( ١٦ )

( بيان‏)

تتضمّن السورة الإخبار بمجي‏ء يوم الفصل و صفته و الاحتجاج على أنّه حقّ لا ريب فيه، فقد افتتحت بذكر تساؤلهم عن نبإه ثمّ ذكر في سياق الجواب و لحن التهديد أنّهم سيعلمون ثمّ احتجّ على ثبوته بالإشارة إلى النظام المشهود في الكون بما فيه من التدبير الحكيم الدالّ بأوضح الدلالة على أنّ وراء هذه النشأة المتغيّرة الدائرة نشأة ثابتة باقية، و أنّ عقيب هذه الدار الّتي فيها عمل و لا جزاء داراً فيها جزاء و لا عمل فهناك يوم يفصح عنه هذا النظام.

ثمّ تصف اليوم بما يقع فيه من إحضار الناس و حضورهم و انقلاب الطاغين إلى عذاب أليم و المتّقين إلى نعيم مقيم و يختم الكلام بكلمة في الإنذار، و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

٢٥٥

قوله تعالى: ( عَمَّ يَتَساءَلُونَ ) ( عَمَّ ) أصله عمّا و ما استفهاميّة تحذف الألف منها اطّراداً إذا دخل عليها حرف الجرّ نحو لم و ممّ و على م و إلى م، و التساؤل سؤال القوم بعضهم بعضاً عن أمر أو سؤال بعضهم بعد بعض عن أمر و إن كان المسؤل غيرهم، فهم كان يسأل بعضهم بعضاً عن أمر أو كان بعضهم بعد بعض يسأل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أمر و حيث كان سياق السورة سياق جواب يغلب فيه الإنذار و الوعيد تأيّد به أنّ المتسائلين هم كفّار مكّة من المشركين النافين للنبوّة و المعاد دون المؤمنين و دون الكفّار و المؤمنين جميعاً.

فالتساؤل من المشركين و الإخبار عنه في صورة الاستفهام للإشعار بهوانه و حقارته لظهور الجواب عنه ظهوراً ما كان ينبغي معه أن يتساءلوا عنه.

قوله تعالى: ( عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ) جواب عن الاستفهام السابق أي يتساءلون عن النبإ العظيم، و لا يخفى ما في توصيف النبإ المتسائل عنه بالعظيم من تعظيمه و تفخيم أمره.

و المراد بالنبإ العظيم نبؤ البعث و القيامة الّذي يهتمّ به القرآن العظيم في سورة المكّيّة و لا سيّما في العتائق النازلة في أوائل البعثة كلّ الاهتمام.

و يؤيّد ذلك سياق آيات السورة بما فيه من الاقتصار على ذكر صفة يوم الفصل و ما تقدّم عليها من الحجّة على أنّه حقّ واقع.

و قيل: المراد به نبؤ القرآن العظيم، و يدفعه كون السياق بحسب مصبّه أجنبيّاً عنه و إن كان الكلام لا يخلو من إشارة إليه استلزاما.

و قيل: النبؤ العظيم ما كانوا يختلفون فيه من إثبات الصانع و صفاته و الملائكة و الرسل و البعث و الجنّة و النار و غيرها، و كأنّ القائل به اعتبر فيه ما في السورة من الإشارة إلى حقّيّة جميع ذلك ممّا تتضمّنه الدعوة الحقّة الإسلاميّة.

و يدفعه أنّ الإشارة إلى ذلك كلّه من لوازم صفة البعث المتضمّنة لجزاء الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح و الكفر و الاجرام، و قد دخل فيما في السورة من صفة يوم الفصل تبعاً و بالقصد الثاني.

٢٥٦

على أنّ المراد بهؤلاء المتسائلين - كما تقدّم - المشركون و هم يثبتون الصانع و الملائكة و ينفون ما وراء ذلك ممّا ذكر.

و قوله:( الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ) إنّما اختلفوا في نحو إنكاره و هم متّفقون في نفيه فمنهم من كان يرى استحالته فينكره كما هو ظاهر قولهم على ما حكاه الله:( هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى‏ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) سبأ: ٧، و منهم من كان يستبعده فينكره و هو قولهم:( أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُراباً وَ عِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ ) المؤمنون: ٣٦، و منهم من كان يشكّ فيه فينكره قال تعالى:( بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها ) النمل ٦٦، و منهم من كان يوقن به لكنّه لا يؤمن عناداً فينكره كما كان لا يؤمن بالتوحيد و النبوّة و سائر فروع الدين بعد تمام الحجّة عناداً قال تعالى:( بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَ نُفُورٍ ) الملك: ٢١.

و المحصّل من سياق الآيات الثلاث و ما يتلوها أنّهم لما سمعوا ما ينذرهم به القرآن من أمر البعث و الجزاء يوم الفصل ثقل عليهم ذلك فغدوا يسأل بعضهم بعضاً عن شأن هذا النبإ العجيب الّذي لم يكن ممّا قرع أسماعهم حتّى اليوم، و ربّما راجعوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنين و سألوهم عن صفة اليوم و أنّه متى هذا الوعد إن كنتم صادقين و ربّما كانوا يراجعون في بعض ما قرع سمعهم من حقائق القرآن و احتوته دعوته الجديدة أهل الكتاب و خاصّة اليهود و يستمدّونهم في فهمه.

و قد أشار تعالى في هذه السورة إلى قصّة تساؤلهم في صورة السؤال و الجواب فقال:( عَمَّ يَتَساءَلُونَ ) و هو سؤال عمّا يتساءلون عنه. ثمّ قال:( عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ) و هو جواب السؤال عمّا يتساءلون عنه. ثمّ قال:( كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ) إلخ، و هو جواب عن تساؤلهم.

و للمفسّرين في مفردات الآيات الثلاث و تقرير معانيها وجوه كثيرة تركناها لعدم ملاءمتها السياق و الّذي أوردناه هو الّذي يعطيه السياق.

قوله تعالى: ( كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ) ردع عن تساؤلهم عنه بانين

٢٥٧

ذلك على الاختلاف في النفي أي ليرتدعوا عن التساؤل لأنّه سينكشف لهم الأمر بوقوع هذا النبإ فيعلمونه، و في هذا التعبير تهديد كما في قوله:( وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) الشعراء: ٢٢٧.

و قوله:( ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ) تأكيد للردع و التهديد السابقين و لحن التهديد هو القرينة على أنّ المتسائلين هم المشركون النافون للبعث و الجزاء دون المؤمنين و دون المشركين و المؤمنين جميعاً.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ) الآية إلى تمام إحدى عشرة آية مسوق سوق الاحتجاج على ثبوت البعث و الجزاء و تحقّق هذا النبإ العظيم و لازم ثبوته صحّة ما في قوله:( سَيَعْلَمُونَ ) من الإخبار بأنّهم سيشاهدونه فيعلمون.

تقرير الحجّة: أنّ العالم المشهود بأرضه و سمائه و ليله و نهاره و البشر المتناسلين و النظام الجاري فيها و التدبير المتقن الدقيق لاُمورها من المحال أن يكون لعباً باطلاً لا غاية لها ثابتة باقية فمن الضروريّ أن يستعقب هذا النظام المتحوّل المتغيّر الدائر إلى عالم ذي نظام ثابت باق، و أن يظهر فيه أثر الصلاح الّذي تدعو إليه الفطرة الإنسانيّة و الفساد الّذي ترتدع عنه، و لم يظهر في هذا العالم المشهود أعني سعادة المتّقين و شقاء المفسدين، و من المحال أن يودع الله الفطرة دعوة غريزيّة أو ردعاً غريزيّاً بالنسبة إلى ما لا أثر له في الخارج و لا حظّ له من الوقوع فهناك يوم يلقاه الإنسان و يجزي فيه على عمله إن خيراً فخيراً و إن شرّاً فشرّاً.

فالآيات في معنى قوله تعالى( وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) ص: ٢٨.

و بهذا البيان يثبت أنّ هناك يوماً يلقاه الإنسان و يجزي فيه بما عمل إن خيراً فخيراً و إن شرّاً فشرّاً فليس للمشركين أن يختلفوا فيه فيشكّ فيه بعضهم و يستبعده طائفة، و يحيله قوم، و لا يؤمن به مع العلم به عناداً آخرون، فاليوم ضروري الوقوع

٢٥٨

و الجزاء لا ريب فيه.

و يظهر من بعضهم أنّ الآيات مسوقة لإثبات القدرة و أنّ العود يماثل البدء و القادر على الإبداء قادر على الإعادة، و هذه الحجّة و إن كانت تامّة و قد وقعت في كلامه تعالى لكنّها حجّة على الإمكان دون الوقوع و السياق فيما نحن فيه سياق الوقوع دون الإمكان فالأنسب في تقريرها ما تقدّم.

و كيف كان فقوله:( أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ) الاستفهام للإنكار، و المهاد الوطاء و القرار الّذي يتصرّف فيه، و يطلق على البساط الّذي يُجلس عليه و المعنى قد جعلنا الأرض قراراً لكم تستقرّون عليها و تتصرّفون فيها.

قوله تعالى: ( وَ الْجِبالَ أَوْتاداً ) الأوتاد جمع وتد و هو المسمار إلّا أنّه أغلظ منه كما في المجمع، و لعلّ عدّ الجبال أوتاداً مبنيّ على أنّ عمدة جبال الأرض من عمل البركانات بشقّ الأرض فتخرج منه موادّ أرضيّة مذابة تنتصب على فم الشقّة متراكمة كهيئة الوتد المنصوب على الأرض تسكن به فورة البركان الّذي تحته فيرتفع به ما في الأرض من الاضطراب و الميدان.

و عن بعضهم: أنّ المراد بجعل الجبال أوتاداً انتظام معاش أهل الأرض بما اُودع فيها من المنافع و لولاها لمادت الأرض بهم أي لما تهيّأت لانتفاعهم. و فيه أنّه صرف اللفظ عن ظاهره من غير ضرورة موجبة.

قوله تعالى: ( وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً ) أي زوجاً زوجاً من ذكر و اُنثى لتجري بينكم سنّة التناسل فيدوم بقاء النوع إلى ما شاء الله.

و قيل: المراد به الإشكال أي كلّ منكم شكل للآخر. و قيل: المراد به الأصناف أي أصنافاً مختلفة كالأبيض و الأسود و الأحمر و الأصفر إلى غير ذلك، و قيل: المراد به خلق كلّ منهم من منيّين منيّ الرجل و منيّ المرأة و هذه وجوه ضعيفة.

قيل: الالتفات في الآية من الغيبة إلى الخطاب للمبالغة في الإلزام و التبكيت.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً ) السبات الراحة و الدعة فإنّ في المنام

٢٥٩

سكوتاً و راحة للقوى الحيوانيّة البدنيّة ممّا اعتراها في اليقظة من التعب و الكلال بواسطة تصرّفات النفس فيها.

و قيل: السبات بمعنى القطع و في النوم قطع التصرّفات النفسانيّة في البدن، و هو قريب من سابقه.

و قيل: المراد بالسبات الموت، و قد عدّ سبحانه النوم من الموت حيث قال:( وَ هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ) الأنعام: ٦٠ و هو بعيد، و أمّا الآية فإنّه تعالى عدّ النوم توفّياً و لم يعدّه موتاً بل القرآن يصرّح بخلافه قال تعالى:( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها ) الزمر: ٤٢.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً ) أي ساتراً يستر الأشياء بما فيه من الظلمة الساترة للمبصرات كما يستر اللباس البدن و هذا سبب إلهيّ يدعو إلى ترك التقلّب و الحركة و الميل إلى السكن و الدعة و الرجوع إلى الأهل و المنزل.

و عن بعضهم أنّ المراد بكون الليل لباساً كونه كاللباس للنهار يسهل إخراجه منه و هو كما ترى.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً ) العيش هو الحياة - على ما ذكره الراغب - غير أنّ العيش يختصّ بحياة الحيوان فلا يقال: عيشه تعالى و عيش الملائكة و يقال حياته تعالى و حياة الملائكة، و المعاش مصدر ميميّ و اسم زمان و اسم مكان، و هو في الآية بأحد المعنيين الأخيرين، و المعنى و جعلنا النهار زماناً لحياتكم أو موضعاً لحياتكم تبتغون فيه من فضل ربّكم، و قيل: المراد به المعنى المصدريّ بحذف مضاف، و التقدير و جعلنا النهار طلب معاش أي مبتغي معاش.

قوله تعالى: ( وَ بَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً ) أي سبع سماوات شديدة في بنائها.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً ) الوهّاج شديد النور و الحرارة و المراد بالسراج الوهّاج الشمس.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568