الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن10%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219930 / تحميل: 7014
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

هذا.. ولسوف نرى أن أحمد أمين المصري يأخذ برأي ابن القفطي هذا. لكنه ينظر فيه إلى خصوص أئمة أهل البيتعليه‌السلام ، كما سيأتي بيانه، وبيان مدى خلطه وفساده في الفصل التالي.

وفيه دلالة على أن الفضل كان مخدوعاً، وعلى أن المأمون لم يكن مخلصاً فيما أقدم عليه..

د ـ : إنه لا بد لنا من الإشارة هنا إلى أن أكثر ثورات العلويين، التي قامت ضد المأمون ـ قبل البيعة للرضاعليه‌السلام طبعاً ـ كانت من بني الحسن، وبالتحديد من أولئك الذين يتخذون نحلة الزيدية، فأراد المأمون أن يقف في وجههم، ويقضي عليهم، وعلى نحلتهم تلك نهائياً، وإلى الأبد، فأقدم على ما أقدم عليه من البيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد.

هذا.. وقد كانت نحلة الزيدية هذه ـ شائعة في تلك الفترة، وكانت تزداد قوة يوماً عن يوم، وكان للقائمين بها نفوذ واسع، وكلمة مسموعة، حتى إن المهدي قد استوزر يعقوب بن داوود، وهو زيدي، وآخاه، وفوضه جمع أمور الخلافة(١) .

وعلى حد تعبير الشبراوي: (.. فولاه الوزارة، وصارت الأوامر كلها بيديه، واستقل يعقوب حتى حسده جميع أقرانه..)(٢) .

____________

(١) البداية والنهاية ج ١٠ / ١٤٧، وغيره من كتب التاريخ، فراجع فصل: مصدر الخطر على العباسيين.

(٢) الإتحاف بحب الأشراف ص ١١٢.

٢٠١

بل كان: (لا ينفذ للمهدي كتاب إلى عامل، فيجوز، حتى يكتب يعقوب إلى أمينه وثقته بإنفاذه.)(١) .

وقد بلغ من نفوذ يعقوب هذا.. أن قال فيه بشار بن برد أبياته المشهورة، التي قدمناها، والتي يقول فيها: (إن الخليفة يعقوب ابن داوود).

وقد سعي بيعقوب هذا إلى المهدي: وقيل له: (.. إن الشرق والغرب في يد يعقوب، وأصحابه، وإنما يكفيه أن يكتب إليهم ؛ فيثوروا، في يوم واحد، فيأخذوا الدنيا)(٢) .

وذلك لأنه قد: (أرسل يعقوب هذا إلى الزيدية، وأتى بهم من كل أوب، وولاهم من أمور الخلافة في المشرق والمغرب كل جليل، وعمل نفيس، والدنيا كلها في يديه..)(٣) .

وإذا ما عرفنا أن معاوني يعقوب إنما كانوا هم: متفقهة الكوفة، والبصرة، وأهل الشام(٤) .. فإننا نعرف أن الاتجاه الزيدي سوف يؤثر كثيراً، وكثيراً جداً على الثقافة العامة، والاتجاهات الفكرية في ذلك العصر ـ كما حدث ذلك فعلاً.. حتى لقد صرح ابن النديم بأن:

(أكثر علماء المحدثين إلا قليلاً منهم، وكذلك قوم من الفقهاء، مثل: سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة كانوا من الشيعة الزيدية.)(٥) وقد صرح المؤرخون أيضاً: بأن أصحاب الحديث جميعهم، قد

____________

(١) الطبري ج ١٠ / ٤٨٦، والكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٠، ومرآة الجنان ج ١ / ٤١٨.

(٢) الكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٦، ٦٧.

(٣) الطبري ج ١٠ / ٥٠٨، طبع ليدن، والوزراء والكتاب للجهشياري ص ١٥٨، والكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٦.

(٤) الطبري، طبع ليدن ج ١٠ / ٤٨٦.

(٥) الفهرست لابن النديم ص ٢٥٣.

٢٠٢

خرجوا مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، أو أفتوا بالخروج معه(١) .

وعلى كل حال.. فإن ما يهمنا بيانه هنا: هو أن المأمون كان يريد

____________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٣٧٧، وغيرها من الصفحات، وغيرها من الكتب. ويرى بعض أهل التحقيق: أن المقصود هو جميع أصحاب الحديث في الكوفة. ولكن الظاهر أن المراد: الجميع مطلقاً، كما يظهر من مراجعة مقاتل الطالبيين وغيره.

والأمر الذي تجدر الإشارة إليه هنا: هو أن فرقة من الزيدية، وفرقة من أصحاب الحديث، قد قالوا بالإمامة على النحو الذي يقول به الشيعة الإمامية، عندما جعل المأمون (الرضا)عليه‌السلام ولياً لعهده. لكنهم بعد وفاة الرضاعليه‌السلام رجعوا عن ذلك: قال النوبختي في فرق الشيعة ص ٨٦:

(.. وفرقة منهم تسمى (المحدثة) كانوا من أهل الإرجاء، وأصحاب الحديث، فدخلوا في القول بإمامة موسى بن جعفر، وبعده بإمامة علي بن موسى، وصاروا شيعة، رغبة في الدنيا وتصنعاً. فلما توفي علي بن موسىعليه‌السلام رجعوا إلى ما كانوا عليه.

وفرقة كانت من الزيدية الأقوياء، والبصراء، فدخلوا في إمامة علي بن موسىعليه‌السلام ، عندما أظهر المأمون فضله، وعقد بيعته، تصنعاً للدنيا، واستكانوا الناس بذلك دهراً. فلما توفي علي بن موسىعليه‌السلام رجعوا إلى قومهم من الزيدية.) وقد تقدم قول الشيبي: إنه قد التف حول الرضاعليه‌السلام (المرجئة، وأهل الحديث، والزيدية، ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته..) وغير ذلك. والذي نريد أن نقوله هنا هو: أن (الإرجاء دين الملوك) على حد تعبير المأمون (على ما نقله عنه في ضحى الإسلام ج ٣ / ٣٢٦)، نقلاً عن طيفور في تاريخ بغداد.

وفي البداية والنهاية ج ١٠ / ٢٧٦: أن المأمون قال للنضر بن شميل: ما الإرجاء؟. قال: (دين يوافق الملوك، يصيبون به من دنياهم، وينقصون به من دينهم) قال: صدقت الخ. وليراجع كتاب بغداد ص ٥١، وعمدة القول بالإرجاء (القديم) هو: المغالاة في الشيخين، والتوقف في الصهرين، فالإرجاء والتشيع، وخصوصاً القول بإمامة موسى بن جعفر، وولده علي الرضا على طرفي نقيض ومن هنا كانت المساجلة الشعرية بين المأمون المظهر لحب علي وولده، وابن شكلة المرجي، يقول المأمون معرضا بابن شكلة:

إذا المرجي سرك أن تراه

يموت لحينه من قبل موته

فـجدد عـنده ذكرى علي

وصل على النبي وآل بيته

أما ابن شكلة فيقول معرضاً بالمأمون:

إذا الشيعي جمجم في مقال

فسرك أن يبوح بذات نفسه

فصل على النبي وصاحبيه

وزيـريه وجاريه برمسه

٢٠٣

= راجع: مروج الذهب ج ٣ / ٤١٧، والكنى والألقاب ج ١ / ٣٣١، وبعد هذا. فإنه لمن غرائب الأمور حقاً، الانتقال دفعة واحدة من القول بالإرجاء إلى التشيع، بل إلى الرفض (وهو الغلو في التشيع حسب مصطلحهم، والذي يتمثل بالقول بإمامة الأئمة الاثني عشرعليهم‌السلام ) وأغرب من ذلك العودة إلى الإرجاء بعد موت علي الرضاعليه‌السلام .

وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى تأثير السياسة والمال في هؤلاء الذين أخذوا على عاتقهم ـ بادعائهم ـ مسؤولية الحفاظ على الدين والذود عن العقيدة، فإنهم كانوا في غاية الانحطاط الديني، يتلونون ـ طمعاً بالمال والشهرة ـ ألواناً، حتى إن ذلك يحملهم على القول بعقيدة، ثم القول بضدها، ثم الرجوع إلى المقالة الأولى، إذا رأوا أن الحاكم يرغب في ذلك، ويميل إليه، ولهذا أسموا بـ‍ (الحشوية) يعني: أتباع وحشو الملوك، وأذناب كل من غلب، ويقال لهم أيضاً (وهم في الحقيقة أهل الحديث): (الحشوية، والنابتة، والغثاء، والغثر) على ما في كتاب: تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص ٨٠.

وراجع أيضاً فرق الشيعة، ورسالة الجاحظ في بني أمية، وغير ذلك.

بل لقد أطلق عليهم المأمون نفسه لفظ (الحشوية) في مناقشته المشهورة للفقهاء والعلماء المذكور في العقد الفريد والبحار، وعيون أخبار الرضا وغير ذلك. وقال عنهم الزمخشري في مقام استعراضه للمذاهب والنحل، ومعتنقيها:

وإن قلت من أهل الحديث وحزبه

يـقولون تيس ليس يدري ويفهم

ويقابل كلمة (الحشوية) كلمة (الرافضة) التي شاع إطلاقها على الشيعة الإمامية.

ومعناها في الأصل: جند تركوا قائدهم. فحيث إن الشيعة لم يكونوا قائلين بإمامة أولئك المتغلبين، سموهم ب‍ـ (الرافضة) ولذا جاء في تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١٦١: أن معاوية كتب إلى عمرو بن العاص:

 (أما بعد. فإنه قد كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك، فقد سقط إلينا مروان في رافضة أهل البصرة الخ..). ومثل ذلك ما في وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص ٣٤، فالمراد بكلمة رافضة هنا هو ذلك المعنى اللغوي الذي أشرنا إليه، فسمي الشيعة بالرافضة، لأنهم ـ كما قلنا ـ رفضوا الانقياد لأولئك الحكام المتغلبين.

٢٠٤

= يقول السيد الحميري على ما جاء في ديوانه وغيره ـ يهجو البعض:

أبـوك ابن سارق عنز النبي

وأمـك بـنت أبـي جحدر

ونحن على رغمك الرافضون

لأهـل الـضلالة والـمنكر

ولكن قد جاء في الطبري، مطبعة الاستقامة ج ٦ ص ٤٩٨، والبداية والنهاية ج ٩ ص ٣٣٠، ومقدمة ابن خلدون ص ١٩٨، ومقالات الإسلاميين ج ١ ص ١٣٠، وغاية الاختصار ص ١٣٤: أن سبب تسمية الشيعة بـ‍ (الرافضة) هو أنهم عندما تركوا نصرة زيد بن علي في سنة ١٢٢ ه‍. قال لهم زيد: رفضتموني، رفضكم الله، وهذا كذب راج على بعض الشيعة أيضاً حيث ذكروا وذكر الطبري في نفس الصفحة المشار إليها آنفاً: أن التسمية كانت من المغيرة بن سعيد، لما رفضته الشيعة.. وكانت قضيته سنة ١١٩ ه‍.

ولكن الحقيقة هي أن التسمية بالرافضة كانت قبل سنتي ١٢٢ ه‍ و ١١٩ ه‍. فقد جاء في المحاسن للبرقي ص ١١٩ طبع النجف، باب الرافضة: أن الشيعة كانوا يشكون إلى الباقر المتوفى سنة ١١٤ أن الولاة قد استحلوا دماءهم وأموالهم باسم: (الرافضة) الخ.

وجاء في ميزان الاعتدال طبع سنة ١٩٦٣ م. ج ٢ ص ٥٨٤ بعد ذكره لإسناد طويل أن الشعبي المتوفى سنة ١٠٤ ه‍. قال لأحدهم: (ائتني بشيعي صغير، أخرج لك منه رافضياً كبيراً).

وفي كتاب: روض الأخبار المنتخب من ربيع الأبرار ص ٤٠، أن الشعبي قال: (أحبب آل محمد ولا تكن رافضياً، وأثبت وعيد الله، ولا تكن مرجئياً.). بل لدينا ما يدل على أن تسمية الشيعة بـ‍ (الرافضة) كان قبل سنة المئة، فقد جاء في المحاسن والمساوي للبيهقي ص ٢١٢، طبع دار صادر وأمالي السيد المرتضى ج ١ ص ٦٨ هامش: أن لما أنشد الفرزدق أبياته المشهورة في الإمام زين العابدين، المتوفى سنة ٩٥ ه‍ قال عبد الملك بن مروان المتوفى سنة ٨٦ ه‍ للفرزدق: (أرافضي أنت يا فرزدق؟!). وعلى كل حال: فإن ذلك كله قد كان قبل قضيتي زيد والمغيرة ابن سعيد بزمان بعيد.

٢٠٥

أن يقضي على الزيدية، ويكسر شوكتهم بالبيعة للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد، ولهذا نرى أنه قد طبق اللقب، الذي طالما دعا إليه الزيدية، واعترف به العباسيون، بل ودعوا إليه في بدء دعوتهم ودولتهم، ألا وهو لقب: (الرضا من آل محمد)، طبقه على علي ابن موسىعليه‌السلام ، فسماه: (الرضا من آل محمد)(١) . فأصبحت بذلك حجته قوية على الزيدية، بل لم يعد لهم حجة أصلاً. وأصبح يستطيع أن ينام قرير العين، إذ قد أصبح (الرضا من آل محمد) موجوداً، فالدعوة إلى غيره ستكون لا معنى لها البتة. ولسوف تكون مرفوضة من الناس جملة وتفصيلا. وكان ذلك بطبيعة الحال السبب الرئيسي في إضعاف الزيدية، وكسر شوكتهم، وشل حركتهم.

والذي ساهم إلى حد كبير في إضعافهم، وشل حركتهم، هو اختياره الإمامعليه‌السلام بالذات، حيث إنه الرجل الذي لا يمكن لأحد كائناً من كان أن ينكر فضله، وعلمه، وتقواه، وسائر صفاته ومزاياه، التي لم تكن لأحد في زمانه على الإطلاق، فليس لهم بعد طريق للاعتراض عليه: بأن الذي اختاره لولاية عهده، والخلافة من بعده، ليس أهلاً لما أهله له. ولو أنهم ادعوا ذلك لما صدقهم أحد، ولكانت الدائرة حينئذ في ذلك عليهم، والخسران لهم دون غيرهم.

____________

(١) راجع: الفخري في الآداب السلطانية، ص ٢١٧، وضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٤، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٤٧، والطبري، وابن الأثير، والقلقشندي وأبو الفرج. والمفيد وكل من تعرض من المؤرخين لولاية العهد. بل لقد صرح نفس المأمون بذلك في وثيقة ولاية العهد، وهذا يكفي في المقام.. ولقد قال دعبل:

أيا عجباً منهم يسمونك الرضا

ويـلقاك منهم كلحة وغضون

وهناك نصوص أخرى مفادها: أنه سمي الرضا، لرضا أعدائه، وأوليائه به، وعزى الشيبي في كتابه: الصلة بين التصوف والتشيع ص ١٣٨: عزا رضا أعدائه به إلى قوة شخصيتهعليه‌السلام .. أما نحن فنقول: إنه ليس من اليسير أبداً، أن تنال شخصية رضا كل أحد، حتى أعدائها. اللهم إلا إذا كان هناك سر إلهي، اختصت به تلك الشخصية، دون غيرها من سائر بني الإنسان..

٢٠٦

فذلكة لا بد منها:

هذا.. ولا يسعنا هنا إلا أن نشير إلى أن المأمون، لم يخترع أسلوباً جديداً للتصدي للزيدية، والحد من نفوذهم، وكسر شوكتهم، ببيعته للرضاعليه‌السلام ، إذ أنه كان قد استوحى هذه الفكرة من سلفة المهدي، الذي كان قد استوزر يعقوب بن داوود الزيدي، ليحد من نشاط الزيدية، ويكسر شوكتهم. وكان قد نجح في ذلك إلى حد ما: إذ لا يحدثنا التاريخ عن تحركات زيدية خطيرة ضد المهدي، بعد استيزاره ليعقوب، وتقريبه للزيدية، كتلك الأحداث التي حدثت ضد المنصور، وخصوصاً ثورة محمد وإبراهيم ابني عبد الله. كما يلاحظ أن تقريب العباسيين للزيدية في عصر المهدي، وتسليطهم على شؤون الدولة وإداراتها، لم يؤثر في الوضع العام أثراً يخشاه العباسيون، وذلك بلا شك مما يشجع المأمون على الإقدام على ما كان قد عقد العزم عليه، بجنان ثابت وإرادة راسخة.

يضاف إلى ذلك: أن سهولة إبعاد العباسيين لهم عن مراكز القوة، ومناصب الحكم على يد المهدي نفسه، الذي نكب يعقوب بن داوود، الوزير الزيدي، حيث لم تصاحبه ردة فعل، ولا نتج عنه أية حادثة تذكر ضد العباسيين، لا حقيرة، ولا خطيرة.. هو الذي شجع المأمون على أن يستوحي نفس الفكرة، ويلعب نفس اللعبة، ويتبع نفس طريقة المهدي. في مواجهتهم، وكسر شوكتهم، بالبيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد بعده. وعلى كل حال، فإن هذا أسلوب قديم اتبعه العباسيون في دعوتهم الأولى أيضاً، حيث بايعوا للعلويين، وأظهروا أن الدعوة لهم وباسمهم..

ثم كانت النتيجة هي ما يعلمه كل أحد، حيث انقلبوا عليهم يوسعونهم قتلاً وعسفاً، وتشريداً عندما خافوهم. فلم يعودوا بحاجة إليهم.

ه‍ ـ : أضف إلى ذلك ما تقدم أن المأمون كان يعلم قبل أي شخص آخر بطبيعة العلاقات التي كانت قائمة بين الأئمةعليهم‌السلام ، وبين الزيدية، حيث إنها كانت على درجة من السوء والتدهور. وكان عدم التفاهم، والانسجام فيما بينهم واضحاً للعيان..

٢٠٧

حتى لقد شكى الأئمةعليهم‌السلام منهم، وصرحوا: بأن الناس قد نصبوا العداوة لشيعتهم، أما الزيدية فقد نصبوا العداوة لهم أنفسهم(١) ، وفي الكافي رواية مفادها: إنه عليه‌السلام قال إنهم قبل أن يصلوا إلى الحكم كانوا لا يطيعونهم فكيف تكون حالهم معهم لو أنهم وصلوا إلى الحكم وتبوءوا كرسي الرئاسة.

وقد رأينا: أن عبد الله بن الحسن، عندما جاء يعرض على الإمام الصادقعليه‌السلام كتاب أبي سلمة، الذي يدعوه فيه للقدوم إلى الكوفة، لتكون الدعوة له، وباسمه، فنهاه الإمامعليه‌السلام عن ذلك ـ رأيناه ـ ينازع الإمام الصادق الكلام، حتى قال له:

____________

(١) راجع: الوافي للفيض ج ١ ص ١٤٣، باب: الناصب ومجالسته.

هذا. ولا يمنع ذلك ما ورد عنهم عليهم‌السلام من أن خروج الزيدية وغيرهم على الحكام يدرؤا به عنهم، وعن شيعتهم: فقد جاء في السرائر قسم المستطرفات ص ٤٧٦ أنه: (ذكر بين يدي أبي عبد الله من خرج من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال عليه‌السلام : ((لا أزال أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد ..)) إلخ وذلك لأن اصطدامهم مع الحكام كان يصرف أنظار الحكام إليهم، ويفسح المجال أمام أهل البيت وشيعتهم إلى حد ما. ولم يكن هناك مجال لاتهام الأئمة وشيعتهم بالتواطؤ معهم، مع ما كان يراه الحكام من عدم الانسجام الظاهر بين الأئمة وبين الزيدية، وغيرهم من الثائرين وسلبية كل فريق منهما تجاه الآخر..

وأخيراً.. فلا بد لنا هنا من الإشارة إلى أن ثورات العلويين، سواء على الحكم الأموي، أو الحكم العباسي، قد ساهمت في أن يبقى حق العلويين في الحكم متحفظاً بقوته وحيويته في ضمير الأمة، ووجدانها. ولم تؤثر عليه حملات القمع والتضليل، التي كان الحكم القائم آنذاك يمارسها ضدهم، وضد هذا الحق الثابت لأهل البيتعليهم‌السلام بالنص.

٢٠٨

(والله، ما يمنعك من ذلك إلا الحسد) إلخ وقد انصرف عبد الله آخر الأمر مغضباً(١) .

ورأينا أيضاً أنه في موقف آخر له مع الإمام الصادقعليه‌السلام يتهمه بنفس هذه التهمة، ويصمه بعين هذه الوصمة، وذلك عندما أرادوا البيعة لولده محمد، وأبدى الإمامعليه‌السلام رأيه في ذلك. ذلك الرأي الذي كشفت الأيام عن صحته وسداده(٢) .

بل لقد كان عيسى بن زيد يقول لمحمد بن عبد الله: (.. من خالفك من آل أبي طالب، فأمكني أضرب عنقه.)(٣) وقد تجرأ عيسى هذا أيضاً على الإمام الصادق بكلام لا نحب ذكره.

وأما موقف محمد بن عبد الله نفسه مع الإمام الصادقعليه‌السلام ، فأشهر من أن يذكر، حيث إنه سجن الإمامعليه‌السلام ، واستصفى أمواله، وأسمعه كلاماً قاسياً، لا يليق بمقام الإمام وسنه(٤) .

إلى آخر ما هنالك مما يدل على كرههم، وحقدهم على الأئمةعليهم‌السلام . أو بالأحرى حسدهم لهم..

____________

(١) راجع: مروج الذهب ج ٣ ص ٣٥٤، ٣٥٥، وغيره من المصادر.

(٢) الصواعق المحرقة ص ١٢١، وينابيع المودة للحنفي ص ٣٣٢، ٣٦١، ومقاتل الطالبيين ص ٢٥٥، ٢٥٦، ٢٧٠، وغير ذلك.. وفي هذا الأخير: أن عبد الله ابن الحسن لم يرض باستدعاء الإمام، ولا وافق عليه، عندما أرادوا البيعة لولده محمد، وبعد أن أقنعوه، وحضر الإمام، جرى بينهما ما جرى.

(٣) قاموس الرجال ج ٧ ص ٢٧٠.

(٤) قاموس الرجال ج ٧ ص ٢٧٠، و ج ٨ ص ٢٤٢، ٢٤٣ والبحار ج ٤٧ ص ٢٨٤، ٢٥٨.

٢٠٩

والمأمون.. كان يعلم بذلك كله، ويدركه كل الإدراك، ولهذا فإننا لا نستبعد أنه ـ وهو الداهية الدهياء ـ قد أراد أيضاً في جملة ما أراد: أن يوقع الفتنة بين آل علي أنفسهم. أي: بين الأئمة، والمتشيعين لهم، وبين الزيدية، ويقف هو في موقف المتفرج المتربص حتى إذا أضعف كل واحد من الفريقين الفريق الآخر، ولم يعد فيهما بقية.. انقض هو عليهما، وقضى عليهما بأهون سبيل.

بل إن بعض الباحثين يرى: أنه أراد من لعبته هذه: (.. ضرباً للثائرين العلويين من إخوة علي بن موسى بأخيهم.)(١) .

ولو أننا استبعدنا كل ذلك، فلا أقل ـ كما قلنا ـ من أن حجته أصبحت قوية على الزيدية، وعلى كل من يدعو إلى (الرضا من آل محمد)، ولم يعد يخشى أحداً منهم، بعد أن أصبح (الرضا من آل محمد) موجوداً.

الهدف التاسع:

كما أنه ببيعته للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد، وقبول الإمامعليه‌السلام بذلك.. يكون قد حصل على اعتراف من العلويين، على أعلى مستوى بشرعية الخلافة العباسية، ولقد صرح المأمون بأن ذلك، كان من جملة أهدافه، حيث قال: (.. فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا..) وسنتكلم حول تصريحات المأمون هذه بنوع من التفصيل في فصل: مع بعض خطط المأمون، وغيره إن شاء الله تعالى.

نعود إلى القول: إن تصريح المأمون هذا يعطينا: أن قبول الإمام بأن يكون ولي عهد المأمون، إنما يعني بالنسبة للمأمون: أن الإمام يكون قد أقر بأن الخلافة ليست له دون غيره، ولا في العلويين دون غيرهم، وأنه كما يمكن أن يكون هو جديراً بها، وأهلا لها، وكذلك غيره يمكن أن يكون كذلك. وليتمكن المأمون بذلك من محاربة العلويين بنفس السلاح الذي بأيديهم، وليصير ـ من ثم ـ من الصعب استجابة الناس لهم، إذا دعوا لأية ثورة ضد حكم اعترفوا هم بشرعيته، وأيدوه، وتعاونوا معه من قبل، وعلى أعلى مستوى ومن أعظم شخصية فيهم.

____________

(١) هو الدكتور كامل مصطفى الشيبي في كتابه: الصلاة بين التصوف والتشيع ص ٢١٩.

٢١٠

بل لقد كان يريد أن يحصل من العلويين على اعتراف بأن الحكم حق للعباسيين فقط. أما هم، فليس لهم فيه أدنى نصيب، وما فعله المأمون من إسناد ولاية العهد لواحد منهم، ما كان إلا تفضلاً وكرماً، ومن أجل أن يجمع شمل البيتين العلوي والعباسي، وتصفو القلوب ويمحو ما كان من أمر الرشيد وغيره من أسلافه مع العلويين.

ولقد حاول المأمون أن ينتزع من الإمام اعترافا بأن الخلافة حق للعباسيين، شفاهاً أيضاً فكانت النتيجة عكس ما أراد المأمون، وذلك عندما عرض بالمن على الإمام بأن جعله ولي عهده، فأجابه الإمامعليه‌السلام : بأن هذا الأمر لم يزده في النعمة شيئاً، وأنه وهو في المدينة كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب.

كما أن المأمون قد قال لحميد بن مهران، وجمع من العباسيين: (.. وليعتقد فيه المفتونون به، بأنه ليس مما ادعى في قليل، ولا كثير، وأن هذا الأمر لنا دونه.) ولسوف يأتي الكلام عن هذه التصريحات إن شاء الله كما قلنا.

وبعد.. فإنه لا يكون من المبالغة في شيء لو قلنا: إن حصول المأمون على اعتراف من العلويين، ومن الإمام الرضاعليه‌السلام خاصة، بشرعية خلافته، وخلافة، بني أبيه أخطر على العلويين من الأسلوب الذي انتهجه أسلافه من أمويين وعباسيين ضدهم،: من قتلهم، وتشريدهم، وسلب أموالهم، إلى غير ذلك مما هو معروف ومشهور.

الهدف العاشر:

يضاف إلى ذلك، أنه يكون قد حصل على اعتراف ضمني من الإمام بشرعية تصرفاته، طيلة فترة ولاية العهد، وليعطي الناس ـ من ثم ـ الصورة التي يريدها عن الحكم والحاكم، وليؤكد للملأ أجمع: أن الحاكم هذا هو سلوكه، وهذه هي تصرفاته: من كان، ومهما كان، وإذن فليس لهم بعد حق في أن يتطلعوا إلى حكومة أحد على أن بها شيئاً جديداً، ولا أن ينظروا إلى جهة على أنها يمكن أن يكون بها المنقذ لهم، والمخرج من الظلمات إلى النور، حتى ولو كانت تلك الجهة هي آل بيت نبيهم، فإنه من الطبيعي أن يتبع السياسيون أساليب، ويتكلموا بأشياء كثيرة، ينسبونها بمجرد وصولهم إلى الحكم، وتسلمهم لازمة السلطة، فإن تلك لا تعدو كونها تكتيكات، ووعودا انتخابية، يحتاجون إليها في ظروف معينة، ثم يستغنون عنها.. كما كانت الحال في وعود المأمون، التي أشرنا إليها فيما تقدم.

٢١١

وهكذا.. فيكون سكوت الإمام في فترة ولاية العهد، عن تصرفات الهيئة الحاكمة، دالا على رضاه بها، ويعتبر إمضاء لها.. وبعد هذا.

فلا يجب أن يكون من العسير على الناس أن يتصوروا طبيعة وماهية حكم الإمام، وكل من يقدر له أن يصل الحكم والسلطان، سواء من العلويين، أو من غيرهم.

وإذا كانت الصورة واحدة، والجوهر واحد، والاختلاف إنما هو فقط في الاسم والعنوان، فليس لهم بعد حق، أو على الأقل ما الداعي لهم، لأن يطلبوا حكماً أفضل، أو حكاماً أعدل، فإنه طلب لغير موجود، وسعي وراء مفقود.

الهدف الحادي عشر:

هذا.. وبعد أن يكون المأمون قد حصل على كل ما قدمناه، وحقن دماء العباسيين، واستوثقت له الممالك، ولم يعد هناك ما يعكر صفو حياته(١) ، وقوي مركزه، وارتفع بالخلافة من الحضيض المهين، الذي أوصلها إليه أسلافه إلى أوج العظمة، والتمكن والمجد. وأعطاها من القوة والمنعة، ووهبها من الحياة في ضمير الأمة ووجدانها ما هي بأمس الحاجة إليه.. ولتتمكن من ثم من الصمود في وجه أية عاصفة، وإخماد أية ثورة، ومقاومة كل الأنواء، وذلك هو حلمه الكبير، الذي طالما جهد في تحقيقه إنه بعد أن يكون قد حصل على كل ذلك وسواه مما قدمناه:

____________

(١) لقد صرح الذهبي في الجزء الأول من كتابه (العبر) بأنه في سنة ٢٠٠ ه‍. استوثقت الممالك للمأمون. وهذه هي نفس السنة التي أتي فيها بالإمامعليه‌السلام من المدينة إلى مرو.. ولكن اليافعي في مرآة الجنان ج ٢ ص ٨: قد جعل ذلك في سنة ٢٠٣: أي في السنة التي تخلص فيها المأمون من الإمام الرضاعليه‌السلام بواسطة السم الذي دسه إليه.. وفي اليعقوبي ج ٢ ص ٤٥٢ طبع صادر: أنه في السنة التي غادر فيها المأمون خراسان: (لم تبق ناحية من نواحي خراسان يخاف خلافها).

٢١٢

يكون قد أفسح لنظام حكمه المجال ـ تلقائيا ـ لتصفية حساباته مع خصومه، أياً كانوا. وبأي وسيلة كانت، وبهدوء، وراحة فكر واطمئنان إن اقتضى الأمر ذلك.

كما أنه يكون قد مهد الطريق لتنفيذ الجزء الثاني ـ ولعله الأهم ـ من خطته الجهنمية، بعيداً عن الشبهات، ودون أن يتعرض لتهمة أحد، أو شك من أحد..

ألا وهو: القضاء على العلويين بالقضاء على أعظم شخصية فيهم. وليكون بذلك قد قضى نهائياً، وإلى الأبد، على أكبر مصدر للخطر، يمكن أن يتهدده، ويتهدد خلافته ومركزه.

إنه يريد زعزعة ثقة الناس بهم، واستئصال تعاطفهم معهم، وليحوله ـ إن استطاع ـ إلى كره ومقت، بالطرق التي لا تمس العواطف والمشاعر، ولا تثير الكثير من الشكوك والشبهات.

يظهر ذلك في محاولاته إسقاط الإمام إجتماعياً، والوضع منه قليلاً قليلاً، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر، وليدبر فيه في نهاية الأمر بما يحسم عنه مواد بلائه.. كما صرح لحميد بن مهران، وجمع من العباسيين، وسنتكلم بنوع من التفصيل عن محاولات المأمون هذه، التي باءت كلها بالفشل الذريع، وعادت عليه بالخسران، لأن الإمامعليه‌السلام كان قد أحبطها عليه، بل لقد كان لها من النتائج العكسية بالنسبة إليه ما جعله يتعجل بتصفية الإمام جسديا، بعد أن أشرف هو منهعليه‌السلام على الهلاك.. بالطريقة التي حسب أنها سوف لا تثير الكثير من الشكوك والشبهات.

ملاحظة لا بد منها:

ومن الأمور الجديرة بالملاحظة هنا: أن المأمون كان يقدر أن مجرد جعل ولاية العهد للإمام، سوف يكون كافيا لتحطيمه إجتماعياً، وإسقاطه نهائياً من أعين الناس، حيث يظهر لهم بالعمل ـ لا بالقول: أن الإمام رجل دنيا فقط، وأن تظاهره بالزهد والتقوى ما هو إلا طلاء زائف، لا واقع له، ولا حقيقة وراءه. ولسوف تكون النتيجة هي تشويه سمعة الإمامعليه‌السلام ، وزعزعة ثقة الناس به، وذلك بسبب الفارق الكبير بالسن، بين الخليفة الفعلي، وبين ولي عهده، إذ إن ولي العهد لا يكبر الخليفة الفعلي بسنتين، أو ثلاثة، أو خمسة، لا.. بل أكثر من ذلك بكثير، إنه يكبره بـ‍(٢٢) سنة،

٢١٣

وإنه لمن الأمور غير الطبيعية أبداً: أن يقبل ولاية العهد، وهو يكبر الخليفة الفعلي بهذا المقدار الكبير من السنين، ولسوف يكون قبوله لها ـ مع هذا الفارق بينهما ـ موجبا لجعله عرضة لشكوك الناس، وظنونهم، ولسوف يتسبب بوضع علامات استفهام كبيرة حوله.. كما كان الحال، بالنسبة لسؤال محمد بن عرفة، وكلام الريان المتقدم.. ولسوف يفسر(١) ذلك من أولئك الذين لا يدركون حقيقة ما يجري، وما يحدث، ـ وما أكثرهم ـ بتفسيرات تنسجم مع رغائب المأمون، وأهدافه. لأنهم سوف يرون أن زهدهعليه‌السلام بالدنيا، ليس إلا ستاراً تختفي وراءه مطامعه فيها، وحبه المستميت لها، حتى إنه ليطمع أن يعيش إلى ما بعد الخليفة الفعلي، الذي هو أصغر من ولده، ويصل إلى الحكم.. وباختصار نقول:

إنه يريد أن: (.. يعتقد فيه المفتونون به بأنه: ليس ما ادعى في قليل ولا كثير.) حسبما صرح به هو نفسه.. وعلى حد قول الإمام نفسه، الذي كان يدرك خطة المأمون هذه: (.. أن يقول الناس: إن علي بن موسى، لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعا بالخلافة؟!.). كما سيأتي.

____________

(١) ولكنا، مع ذلك نجد: أن قسما من أصحاب الرضاعليه‌السلام ، ممن كانوا يراقبون الأحداث بوعي ودراية، كانوا يدركون نوايا المأمون وأهدافه هذه ففي البحار ج ٤٩ ص ٢٩٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٩: أنه قد سئل أبو الصلت: (كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا مع إكرامه ومحبته له، وما جعل له من ولاية العهد بعده؟! فقال: إن المأمون كان يكرمه ويحبه لمعرفته بفضله، وجعل له ولاية العهد من بعده، ليري الناس أنه راغب في الدنيا، فلما لم يظهر منه إلا ما ازداد به فضلاً عندهم، ومحلاً في نفوسهم، جلب عليه إلخ.).

٢١٤

وعن الريان قال: دخلت على الرضا، فقلت: يا ابن رسول الله، إن الناس يقولون: إنك قبلت ولاية العهد، مع إظهارك الزهد في الدنيا؟!، فقالعليه‌السلام :((قد علم الله كراهتي..)) (١) وقد أشرنا إلى سؤال محمد بن عرفة، وكلام الريان فيما تقدم.

وعلى أي شيء يبكي المأمون، ومن أجل أي شيء يشقى ويتعب، ويسهر الليالي، ويتحمل المشاق.. إلا على هذا.. إن هذا هو أجل أمنياته وأغلاها.

سؤال وجوابه:

قد يدور بخلد القارئ أن ما ذكرناه هنا: فيما يتعلق بالفارق الكبير بالسن، ينافي ما تقدم من أن المأمون كان يريد الحصول على قاعدة شعبية، والارتفاع بالخلافة من الحضيض الخ.

ولكن الحقيقة هي:

أنه لا منافاة هناك.. ويمكن للمأمون أن يقصد كل ذلك من البيعة، لأن مقدار التفاوت بالسن بين الإمامعليه‌السلام والمأمون، لم يكن مما يعرفه الكثيرون، ولا مما يلتفت إليه عوام الناس في بادئ الأمر، لأنهم يأخذون الأمور على ظواهرها، ولا يتنبهون إلى مثل ذلك، إلا بعد تنبيه وتذكير، فللوهلة الأولى تجوز عليهم الخدعة، ويقدرون خطوة المأمون هذه، وتنتعش الآمال في نفوسهم بالحياة الهنيئة السعيدة، تحت ظلم حكم بدا أنه يتخذ العدل ديدنا، والإنصاف طريقة..

____________

(١) علل الشرايع ص ٢٣٨، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٠، وأمالي الصدوق ص ٤٤، ٤٥.

٢١٥

ثم.. وبعد أن يجند المأمون أجهزة إعلامه، من أجل تسميم الأفكار، يجد أن نفوس الناس مهيأة ومستعدة لتقبل ما يلقى إليها. ويكون لديه ـ باعتقاده ـ من الحجج ما يكفي لإسقاط الإمام، وزعزعة ثقة الناس به. ولا يؤثر ذلك بعد ذلك على الحكم، فإن الحكم يكون قد استنفذ أغراضه من البيعة. وحصل على ما يريد الحصول عليه منها.. هذا ولا بد لنا هنا من ملاحظة أن المأمون وأجهزة إعلامه كانوا في مقابل وصم الإمام بالرغبة بالدنيا والتفاني في سبيلها.. يشيعون بين الناس عن المأمون عكس ذلك تمام، فيطلب المأمون من وزيره أن يشيع عنه الزهد، والورع والتقوى(١) .. وأنه لا يريد مما أقدم عليه الأخير الأمة ومصلحتها، حيث قد اختار لولاية عهده أفضل رجل قدر عليه، رغم أن ذلك الرجل هو من ذلك البيت الذي لا يجهل أحد موقفه من حكم العباسيين، وموقف العباسيين منه كما يتضح ذلك من وثيقة ولاية العهد، وغيرها.

رأي الناس فيمن يتصدى للحكم:

لعل من الواضح أن كثيراً من الناس كانوا يرون ـ في تلك الفترة من الزمن ـ لقصر نظرهم، وقلة معرفتهم: أن هناك منافاة بين الزهد والورع، والتقوى، وبين المنصب، وأنهما لا يتفقان، ولا يجتمعان.

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٤ ص ٢٦١.

٢١٦

وقد رأينا الكثيرين يمتنعون على تولي المناصب للحكام، لما يرونه من المنافاة المشار إليها.

ولعل سر فهمهم هذا: هو أنهم كانوا قد اعتادوا من الحكام التجاوز على الحقوق، والدماء، والأموال، وعلى أحكام الدين، والنواميس الإنسانية، بشكل عام. والزهد والورع لا يتلائم مع ذلك كله، ولا ينسجم معه.

ولكن الحقيقة هي: أن لا منافاة بينهما أبداً، فإن الحكم إذا كان وسيلة لإيصال الخير إلى الآخرين، ورفع الظلم عنهم، وإشاعة العدل، إقامة شريعة الله تعالى، فيجب السعي إليه، والعمل من أجله، وفي سبيله.. بل إذا لزم من ترك السعي إليه، تضييع الحقوق، وانهيار صرح العدل، والخروج على أحكام الدين، فإن ترك السعي هذا، يكون هو المنافي للزهد والورع والتقوى..

ولقد قاد النبيعليه‌السلام الأمة، وقبله قادها سليمان بن داوود، وغيره، وبعده الإمام علي بن أبي طالب، وولده الحسن، ثم الحسين، وهكذا..

وحال هؤلاء في الزهد والورع، لا يحتاج إلى مزيد بيان، وإقامة برهان، بل لم يكن على ظهرها أزهد، ولا أتقى، ولا أفضل، ولا أورع منهم، عدوهم يعرف منهم ذلك تماماً كما يعرفه منهم صديقهم. فعدا عن الأنبياء الذين كانوا القمة في الورع والزهد والتقوى، نرى الإمام عليعليه‌السلام قمة في ذلك أيضاً، وقد رقع مدرعته حتى استحيا من راقعها، وكان راقعها هو ولده (الإمام الحسنعليه‌السلام )(١) . وكان يصلي في بيت المال ركعتين شكراً لله، بعد فراغ المال منه. وكان يقول:((إليك عني يا دنيا غري غيري، أبي تعرضت؟!..)) الخ وهو الذي قال فيه عدوه معاوية: (لو كان له بيتان: بيت من تبر، وآخر من تبن، لأنفق تبره قبل تبنه.). إلى غير ذلك مما لا مجال لنا لتتبعه واستقصائه..

____________

(١) راجع: الدرة النجفية ص ٣٠٣، طبعة حجرية.

٢١٧

العلويون يدركون نوايا المأمون:

إن نوايا المأمون تجاه العلويين، ومحاولاته لإسقاطهم إجتماعياً، وابتزازهم سياسياً.. حتى إذا أخفق في ذلك راح يختلهم واحداً فواحداً، كلما واتاه الظرف، وسنحت له الفرصة.. لم يكن العلويون يجهلونها، بل كانوا يدركونها كل الإدراك، ولم تكن تخدعهم تلك الشعارات والأساليب المبهرجة. وحسبنا هنا أن نذكر في مقام التدليل على هذا: أن المأمون كتب لعبد الله بن موسى، بعد وفاة الرضا، يعده بأنه يجعله ولي عهده، ويقول له: (ما ظننت أن أحداً من آل أبي طالب يخافني بعد ما عملته بالرضا).

فأجابه عبد الله يقول: (وصل إلي كتابك، وفهمته، تختلني فيه عن نفسي مثل القانص، وتحتال علي حيلة المغتال، القاصد لسفك دمي. وعجبت من بذلك العهد، ولايته لي بعدك، كأنك تظن: أنه لم يبلغني ما فعلته بالرضا؟! ففي أي شيء ظننت أني أرغب من ذلك؟ أفي الملك الذي غرتك حلاوته؟!.

إلى أن يقول: أم في العنب المسموم الذي قتلت به الرضا؟!).

ويقول له أيضاً ـ والظاهر أنه نص آخر للرسالة ـ: (هبني لا ثأر لي عندك، وعند آبائك المستحلين لدمائنا الآخذين حقنا، الذين جاهروا في أمرنا، فحذرناهم. وكنت ألطف حيلة منهم، بما استعملته من الرضا بنا، والتستر لمحننا، تختل واحداً،

____________

(١) ترجمة الإمام عليعليه‌السلام من تاريخ ابن عساكر بتحقيق المحمودي ج ٣ ص ٥٨ ـ ٦٠.

٢١٨

فواحداً منا الخ..)(١) .

ولا بد من ملاحظة: منافاة وعده هذا لعبد الله بن موسى بأن يجعل له ولاية العهد.. للرسالة التي أرسلها إلى العباسيين في بغداد، فور وفاة الرضاعليه‌السلام ، ويعدهم فيها بأن يجعل ولاية العهد فيهم، وسنشير إلى رسالته لهم في فصل: مع بعض خطط المأمون إن شاء الله وعلى كل حال.. فإننا نستطيع أن نفهم من هذه الرسالة التي لعبد الله بن موسى أموراً، نشير إلى بعضها:

أولاً: إن المأمون كان قد جعل ولاية العهد وسيلة لختل الشخصيات التي كان يخشاها، والغدر بها، إذ إن من المقبول والطبيعي ـ كما يرى البعض ـ أن يكون ولي العهد هو الذي يتآمر، ويدبر للتخلص من الخليفة الفعلي، ليختصر المسافة، ويصل إلى الحكم، الذي ينتظر الوصول إليه، والحصول عليه بفارغ الصبر. وليس من الطبيعي، ولا من المقبول أن يتآمر الخليفة على ولي عهده، إلا إذا كان يريد أن يجعل الخلافة لمن هو أعز عليه منه، وهذا ما نفاه المأمون عن نفسه في أكثر من مناسبة.

وهكذا.. فإن النتيجة تكون: أن الخليفة الفعلي يكون آخر من يتهم في ولي العهد، إذا ما راح ضحية التآمر والاغتيال، وعرف الناس ذلك. وهذا بلا شك من جملة ما كان يريده المأمون، ويسعى إليه.

ثانياً: إن المأمون رغم الصعوبات التي واجهها في فترة تولية الرضاعليه‌السلام العهد.. يبدو أنه كان يعتبر نفسه منتصراً وناجحاً في لعبته تلك، ولذلك نرى أنه قد حاول تكرار نفس اللعبة مع عبد الله بن موسى. ولكن يقظة هذا الأخير، الذي كانت ظروفه تختلف عن ظروف الإمامعليه‌السلام قد فوتت عليه الفرصة، وأعادته. بخفي حنين.

____________

(١) مقاتل الطالبيين للأصفهاني ص ٦٢٨، إلى ص ٦٣١، وسنورد الرسالة في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله.

٢١٩

كما أننا لا نستبعد أن المأمون قد أراد بالإضافة إلى ذلك التستر على غدره بالرضاعليه‌السلام ، بعد أن كان قد افتضح واشتهر، رغم محاولاته الجادة للتستر والكتمان.

ثالثاً: ما تقدمت الإشارة إليه من أن إكرامه للعلويين، والرضا بهم، والتستر لمحنهم، ما كان منه إلا ضمن خطة مرسومة، وإلا سياسة منه ودهاء، من أجل أن يأمن العلويون جانبه، ويطمئنوا إليه، كما يدل عليه قوله لعبد الله بن موسى: (ما ظننت أحداً من آل أبي طالب يخافني بعد ما عملته بالرضا) وقد قدمنا أنه أشار إلى ذلك أيضاً في كتابه للعباسيين، فلا نعيد..

رابعاً: أنه لم يستطع أن يخفي عن العلويين ـ كما لم يستطع أن يخفي عن غيرهم ـ غدره بالإمام الرضاعليه‌السلام ، وسمه له بالعنب، وكذلك غدره بغيره من العلويين. وسر ذلك واضح، فإن جميع الدلائل والشواهد كانت متوفرة على ذلك، كما سيأتي بيان جانب من ذلك في فصول هذا الكتاب بنوع من التفصيل.

موقف الإمام في مواجهة مؤامرات المأمون:

لقد رأينا كيف أن المأمون أراد من لعبته تلك، التغلب على المشاكل التي كان يواجهها، والاستفادة في تقوية دعائم خلافته، وخلافة العباسيين بشكل عام.. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هو موقف الإمامعليه‌السلام نفسه من لعبة المأمون تلك، وخططه، وأهدافه؟، وهل أفسح المجال للمأمون ليحقق كل ما يريد تحقيقه، ويصل إلى ما

كان يريد الوصول إليه؟.. وهل كانت لديه خطط من نوع معين، وأهداف معينة كان يسعى من أجل الوصول إليها، والحصول عليها؟!.

الحقيقة هي: أن الإمامعليه‌السلام قد استطاع، بما اتبعه من خطة حكيمة، وسلوك مثالي: أن يضيع على المأمون كافة الفرص، ويجعله يبوء بالخيبة والخسران، ويمنى بالفشل الذريع، حتى لقد أشرف المأمون منه على الهلاك، وبدا الارتباك واضحاً في كل تصرفاته، وأقواله، وأفعاله..

وسيأتي في الفصول الآتية في القسمين: الثالث، والرابع بيان بعض ما يتعلق بذلك إن شاء الله.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

و قيل: ليكون عذراً يعتذر به الله إلى عباده في العقاب أنّه لم يكن إلّا على وجه الحكمة، و يؤل إلى إتمام الحجّة، فمحصّل المعنى عليه أنّهم يلقون الذكر ليكون إتماماً للحجّة على المكذّبين و تخويفاً لغيرهم، و هو معنى حسن.

قوله تعالى: ( إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ ) جواب القسم، و ما موصولة و الخطاب لعامّة البشر، و المراد بما توعدون يوم القيامة بما فيه من العقاب و الثواب و الواقع أبلغ من الكائن لما فيه من شائبة الاستقرار، و المعنى أنّ الّذي وعدكم الله به من البعث و العقاب و الثواب سيتحقّق لا محالة.

( كلام في إقسامه تعالى في القرآن‏)

من لطيف صنعة البيان في هذه الآيات الستّ أنّها مع ما تتضمّن الإقسام لتأكيد الخبر الّذي في الجواب تتضمّن الحجّة على مضمون الجواب و هو وقوع الجزاء الموعود فإنّ التدبير الربوبيّ الّذي يشير إليه القسم أعني إرسال المرسلات العاصفات و نشرها الصحف و فرقها و إلقاءها الذكر للنبيّ تدبير لا يتمّ إلّا مع وجود التكليف الإلهيّ و التكليف لا يتمّ إلّا مع تحتّم وجود يوم معدّ للجزاء يجازى فيه العاصي و المطيع من المكلّفين.

فالّذي أقسم تعالى به من التدبير لتأكيد وقوع الجزاء الموعود هو بعينه حجّة على وقوعه كأنّه قيل: اُقسم بهذه الحجّة أنّ مدلولها واقع.

و إذا تأمّلت الموارد الّتي اُورد فيها القسم في كلامه تعالى و أمعنت فيها وجدت المقسم به فيها حجّة دالّة على حقّيّة الجواب كقوله تعالى في الرزق:( فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ ) الذاريات: ٢٣ فإنّ ربوبيّة السماء و الأرض هي المبدأ لرزق المرزوقين، و قوله:( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) الحجر: ٧٢ فإنّ حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الطاهرة المصونة بعصمة من الله دالّة على سكرهم و عمههم، و قوله:( وَ الشَّمْسِ وَ ضُحاها - إلى أن قال -وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها قَدْ

٢٤١

أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ) الشمس: ١٠ فإنّ هذا النظام المتقن المنتهي إلى النفس الملهمة المميّزة لفجورها و تقواها هو الدليل على فلاح من زكّاها و خيبة من دسّاها.

و على هذا النسق سائر ما ورد من القسم في كلامه تعالى و إن كان بعضها لا يخلو من خفاء يحوج إلى إمعان من النظر كقوله:( وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ وَ طُورِ سِينِينَ ) التين: ٢ و عليك بالتدبّر فيها.

قوله تعالى: ( فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ - إلى قوله -أُقِّتَتْ ) بيان لليوم الموعود الّذي اُخبر بوقوعه في قوله:( إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ ) و جواب إذا محذوف يدلّ عليه قوله:( لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ - إلى قوله -لِلْمُكَذِّبِينَ ) .

و قد عرّف سبحانه اليوم الموعود بذكر حوادث واقعة تلازم انقراض العالم الإنسانيّ و انقطاع النظام الدنيويّ كانطماس النجوم و انشقاق الأرض و اندكاك الجبال و تحوّل النظام إلى نظام آخر يغايره، و قد تكرّر ذلك في كثير من السور القرآنيّة و خاصّة السور القصار كسورة النبإ و النازعات و التكوير و الانفطار و الانشقاق و الفجر و الزلزال و القارعة، و غيرها، و قد عدّت الاُمور المذكورة فيها في الأخبار من أشراط الساعة.

و من المعلوم بالضرورة من بيانات الكتاب و السنّة أنّ نظام الحياة في جميع شؤنها في الآخرة غير نظامها في الدنيا فالدار الآخرة دار أبديّة فيها محض السعادة لساكنيها لهم فيها ما يشاؤن أو محض الشقاء و ليس لهم فيها إلّا ما يكرهون و الدار الدنيا دار فناء و زوال لا يحكم فيها إلّا الأسباب و العوامل الخارجيّة الظاهريّة مخلوط فيها الموت بالحياة، و الفقدان بالوجدان، و الشقاء بالسعادة، و التعب بالراحة، و المساءة بالسرور، و الآخرة دار جزاء و لا عمل و الدنيا دار عمل و لا جزاء، و بالجملة النشأة غير النشأة.

فتعريفه تعالى نشأة البعث و الجزاء بأشراطها الّتي فيها انطواء بساط الدنيا

٢٤٢

بخراب بنيان أرضها و انتساف جبالها و انشقاق سمائها و انطماس نجومها إلى غير ذلك من قبيل تحديد نشأة بسقوط النظام الحاكم في نشأة اُخرى قال تعالى:( وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى‏ فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ ) الواقعة: ٦٢.

فقوله:( فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ) أي محي أثرها من النور و غيره، و الطمس إزالة الأثر بالمحو قال تعالى:( وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ) التكوير: ٢.

و قوله:( وَ إِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ ) أي انشقّت، و الفرج و الفرجة الشقّ بين الشيئين قال تعالى:( إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ ) الانشقاق: ١.

و قوله:( وَ إِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ ) أي قلعت و اُزيلت من قولهم: نسفت الريح الشي‏ء أي اقتلعته و أزالته قال تعالى:( وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً ) طه: ١٠٥.

و قوله:( وَ إِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ) أي عيّن لها الوقت الّذي تحضر فيه للشهادة على الاُمم أو بلغت الوقت الّذي تنتظره لأداء شهادتها على الاُمم من التأقيت بمعنى التوقيت، قال تعالى:( فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) الأعراف: ٦، و قال:( يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ ) المائدة: ١٠٩.

قوله تعالى: ( لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ - إلى قوله -لِلْمُكَذِّبِينَ ) الأجل المدّة المضروبة للشي‏ء، و التأجيل جعل الأجل للشي‏ء، و يستعمل في لازمه و هو التأخير كقولهم: دين مؤجّل أي له مدّة بخلاف الحالّ و هذا المعنى هو الأنسب للآية، و الضمير في( أُجِّلَتْ ) للاُمور المذكورة قبلاً من طمس النجوم و فرج السماء و نسف الجبال و تأقيت الرسل، و المعنى لأيّ يوم اُخّرت يوم اُخّرت هذه الاُمور.

و احتمل أن يكون( أُجِّلَتْ ) بمعنى ضرب الأجل للشي‏ء و أن يكون الضمير المقدّر فيه راجعاً إلى الرسل، أو إلى ما يشعر به الكلام من الاُمور المتعلّقة بالرسل ممّا أخبروا به من أحوال الآخرة و أهوالها و تعذيب الكافرين و تنعيم المؤمنين فيها، و لا يخلو كلّ ذلك من خفاء.

و قد سيقت الآية و الّتي بعدها أعني قوله:( لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ ) في

٢٤٣

صورة الاستفهام و جوابه للتعظيم و التهويل و التعجيب و أصل المعنى اُخّرت هذه الاُمور ليوم الفصل.

و هذا النوع من الجمل الاستفهاميّة في معنى تقدير القول، و المعنى إنّ من عظمة هذا اليوم و هوله و كونه عجباً أنّه يسأل فيقال: لأيّ يوم اُخّرت هذه الاُمور العظيمة الهائلة العجيبة فيجاب: ليوم الفصل.

و قوله:( لِيَوْمِ الْفَصْلِ ) هو يوم الجزاء الّذي فيه فصل القضاء قال تعالى:( إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) الحجّ: ١٧.

و قوله:( وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ ) تعظيم لليوم و تفخيم لأمره.

و قوله:( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) الويل الهلاك، و المراد بالمكذّبين المكذّبون بيوم الفصل الّذي فيه ما يوعدون فإنّ الآيات مسوقة لبيان وقوعه و قد أقسم على أنّه واقع.

و في الآية دعاء على المكذّبين، و قد استغنى به عن ذكر جواب إذا في قوله:( فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ) إلخ و التقدير فإذا كان كذا و كذا وقع ما توعدون من العذاب على التكذيب أو التقدير فإذا كان كذا و كذا كان يوم الفصل و هلك المكذّبون به.

( بحث روائي‏)

في الخصال، عن ابن عبّاس قال: قال أبوبكر: أسرع الشيب إليك يا رسول الله قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : شيّبتني هود و الواقعة و المرسلات و عمّ يتساءلون.

و في الدرّ المنثور، أخرج البخاريّ و مسلم و النسائيّ و ابن مردويه عن ابن مسعود قال: بينما نحن مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غار بمنى إذ نزلت عليه سورة و المرسلات عرفاً فإنّه يتلوها و إنّي لألقاها من فيه و إنّ فاه لرطب بها إذ وثبت عليه حيّة فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اقتلوها فابتدرناها فذهبت فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقيت شرّكم كما وقيتم شرّها.

أقول: و رواها أيضاً بطريقين آخرين.

٢٤٤

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً ) قال: آيات تتبع بعضها بعضاً.

و في المجمع: في الآية و قيل: إنّها الملائكة اُرسلت بالمعروف من أمر الله و نهيه. في رواية الهرويّ عن ابن مسعود، و عن أبي حمزة الثماليّ عن أصحاب عليّ عنهعليه‌السلام .

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ) قال: يذهب نورها و تسقط.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ) فطمسها ذهاب ضوئها( وَ إِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ ) قال: تفرج و تنشقّ( وَ إِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ) قال: بعثت في أوقات مختلفة.

و في المجمع، قال الصادقعليه‌السلام :( أُقِّتَتْ ) أي بعثت في أوقات مختلفة.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ) قال: اُخّرت.

٢٤٥

( سورة المرسلات الآيات ١٦ - ٥٠)

أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ( ١٦ ) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ ( ١٧ ) كَذَٰلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ( ١٨ ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( ١٩ ) أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ ( ٢٠ ) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ( ٢١ ) إِلَىٰ قَدَرٍ مَّعْلُومٍ ( ٢٢ ) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ( ٢٣ ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( ٢٤ ) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا ( ٢٥ ) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ( ٢٦ ) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتًا ( ٢٧ ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( ٢٨ ) انطَلِقُوا إِلَىٰ مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ ( ٢٩ ) انطَلِقُوا إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ ( ٣٠ ) لَّا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ ( ٣١ ) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ( ٣٢ ) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ ( ٣٣ ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( ٣٤ ) هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ ( ٣٥ ) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ( ٣٦ ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( ٣٧ ) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ ( ٣٨ ) فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ( ٣٩ ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( ٤٠ ) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ ( ٤١ ) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ( ٤٢ ) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ٤٣ ) إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( ٤٤ ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( ٤٥ ) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا

٢٤٦

إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ ( ٤٦ ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( ٤٧ ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ ( ٤٨ ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( ٤٩ ) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ( ٥٠ )

( بيان‏)

حجج دالّة على توحّد الربوبيّة تقضي بوجود يوم الفصل الّذي فيه جزاء المكذّبين به، و إشارة إلى ما فيه من الجزاء المعدّ لهم الّذي كانوا يكذّبون به، و إلى ما فيه من النعمة و الكرامة للمتّقين، و تختتم بتوبيخهم و ذمّهم على استكبارهم عن عبادته تعالى و الإيمان بكلامه.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ) الاستفهام للإنكار، و المراد بالأوّلين أمثال قوم نوح و عاد و ثمود من الاُمم القديمة عهداً، و بالآخرين الملحقون بهم من الاُمم الغابرة، و الإتباع جعل الشي‏ء أثر الشي‏ء.

و قوله:( ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ ) برفع نتبع على الاستيناف و ليس بمعطوف على( نُهْلِكِ ) و إلّا لجزم.

و المعنى قد أهلكنا المكذّبين من الاُمم الأوّلين ثمّ إنّا نهلك الاُمم الآخرين على أثرهم.

و قوله:( كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ) في موضع التعليل لما تقدّمه و لذا اُورد بالفصل من غير عطف كأنّ قائلاً قال: لما ذا اُهلكوا؟ فقيل: كذلك نفعل بالمجرمين. و الآيات - كما ترى - إنذار و إرجاع للبيان إلى الأصل المضروب في السورة أعني قوله:( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) و هي بعينها حجّة على توحّد الربوبيّة فإنّ إهلاك المجرمين من الإنسان تصرّف في العالم الإنسانيّ و تدبير، و إذ ليس المهلك إلّا الله - و قد اعترف به المشركون - فهو الرّبّ لا ربّ سواه و لا إله غيره.

٢٤٧

على أنّها تدلّ على وجود يوم الفصل لأنّ إهلاك قوم لإجرامهم لا يتمّ إلّا بعد توجّه تكليف إليهم يعصونه و لا معنى للتكليف إلّا مع مجازاة المطيع بالثواب و العاصي بالعقاب فهناك يوم يفصل فيه القضاء فيثاب فيه المطيع و يعاقب فيه العاصي و ليس هو الثواب و العقاب الدنيويين لأنّهما لا يستوعبان في هذه الدار فهناك يوم يجازى فيه كلّ بما عمل، و هو يوم الفصل ذلك يوم مجموع له الناس.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ - إلى قوله -فَنِعْمَ الْقادِرُونَ ) الاستفهام للإنكار و الماء المهين الحقير قليل الغناء و المراد به النطفة، و المراد بالقرار المكين الرحم و بقوله:( قَدَرٍ مَعْلُومٍ ) مدّة الحمل.

و قوله:( فَقَدَرْنا ) من القدر بمعنى التقدير، و الفاء لتفريع القدر على الخلق أي خلقناكم فقدرنا ما سيجري عليكم من الحوادث و ما يستقبلكم من الأوصاف و الأحوال من طول العمر و قصره و هيئة و جمال و صحّة و مرض و رزق إلى غير ذلك.

و احتمل أن يكون( فَقَدَرْنا ) من القدرة مقابل العجز و المراد فقدرنا على جميع ذلك، و ما تقدّم أوجه.

و المعنى: قد خلقناكم من ماء حقير هو النطفة فجعلنا ذلك الماء في قرار مكين هي الرحم إلى مدّة معلومة هي مدّة الحمل فقدّرنا جميع ما يتعلّق بوجودكم من الحوادث و الصفات و الأحوال فنعم المقدّرون نحن.

و يجري في كون مضمون هذه الآيات حجّة على توحّد الربوبيّة نظير البيان السابق في الآيات المتقدّمة، و كذا في كونه حجّة على تحقّق يوم الفصل فإنّ الربوبيّة تستوجب خضوع المربوبين لساحتها و هو الدين المتضمّن للتكليف، و لا يتمّ التكليف إلّا بجعل جزاء على الطاعة و العصيان، و اليوم الّذي يجازى فيه بالأعمال هو يوم الفصل.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَ أَمْواتاً - إلى قوله -فُراتاً ) الكفت و الكفات بمعنى الضمّ و الجمع أي أ لم نجعل الأرض كفاتاً يجمع العباد أحياء

٢٤٨

و أمواتاً، و قيل: الكفات جمع كفت بمعنى الوعاء، و المعنى أ لم نجعل الأرض أوعية تجمع الأحياء و الأموات.

و قوله:( وَ جَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ ) الرواسي الثابتات من الجبال، و الشامخات العاليات، و كأنّ في ذكر الرواسي توطئة لقوله:( وَ أَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً ) لأنّ الأنهار و العيون الطبيعية تنفجر من الجبال فتجري على السهول، و الفرات الماء العذب.

و يجري في حجّيّة الآيات نظير البيان السابق في الآيات المتقدّمة.

قوله تعالى: ( انْطَلِقُوا إِلى‏ ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) حكاية لما يقال لهم يوم الفصل و القائل هو الله سبحانه بقرينة قوله في آخر الآيات:( فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ) و المراد بما كانوا به يكذّبون: جهنّم، و الانطلاق الانتقال من مكان إلى مكان من غير مكث، و المعنى يقال لهم: انتقلوا من المحشر من غير مكث إلى النار الّتي كنتم تكذّبون به.

قوله تعالى: ( انْطَلِقُوا إِلى‏ ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ ) ذكروا أنّ المراد بهذا الظلّ ظلّ دخان نار جهنّم قال تعالى:( وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ) الواقعة: ٤٣.

و ذكروا أنّ في ذكر انشعابه إلى ثلاث شعب إشارة إلى عظم الدخان فإنّ الدخان العظيم يتفرّق تفرّق الذوائب.

قوله تعالى: ( لا ظَلِيلٍ وَ لا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ ) الظلّ الظليل هو المانع من الحرّ و الأذى بستره على المستظلّ فكون الظلّ غير ظليل كونه لا يمنع ذلك، و اللهب ما يعلو على النار من أحمر و أصفر و أخضر.

قوله تعالى: ( إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ ) ضمير( إِنَّها ) للنار المعلومة من السياق، و الشرر ما يتطاير من النار، و القصر معروف، و الجمالة جمع جمل و هو البعير. و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) الإشارة إلى يوم الفصل، و المراد بالإذن الإذن في النطق أو في الاعتذار.

٢٤٩

و قوله:( فَيَعْتَذِرُونَ ) معطوف على( يُؤْذَنُ ) منتظم معه في سلك النفي، و المعنى هذا اليوم يوم لا ينطقون فيه أي أهل المحشر من الناس و لا يؤذن لهم في النطق أو في الاعتذار فلا يعتذرون، و لا ينافي نفي النطق ههنا إثباته في آيات اُخر لأنّ اليوم ذو مواقف كثيرة مختلفة يسألون في بعضها فينطقون و يختم على أفواههم في آخر فلا ينطقون.

و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) هود: ١٠٥ فليراجع.

قوله تعالى: ( هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَ الْأَوَّلِينَ فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ) سمّي يوم الفصل لما أنّ الله تعالى يفصل و يميّز فيه بين أهل الحقّ و أهل الباطل بالقضاء بينهم قال تعالى:( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) السجدة: ٢٥، و قال:( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) يونس: ٩٣.

و الخطاب في قوله:( جَمَعْناكُمْ وَ الْأَوَّلِينَ ) لمكذّبي هذه الاُمّة بما أنّهم من الآخرين و لذا قوبلوا بالأوّلين قال تعالى:( ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ ) هود: ١٠٣ و قال( وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ) الكهف: ٦٧.

و قوله:( فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ) أي إن كانت لكم حيلة تحتالون بي في دفع عذابي عن أنفسكم فاحتالوا، و هذا خطاب تعجيزيّ منبئ عن انسلاب القوّة و القدرة عنهم يومئذ بالكلّيّة بظهور أن لا قوّة إلّا لله عزّ اسمه قال تعالى:( وَ لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَ رَأَوُا الْعَذابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ ) البقرة: ١٦٦.

و الآية أعني قوله:( فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ) أوسع مدلولاً من قوله:( يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا

٢٥٠

لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ ) الرحمن: ٣٣ لاختصاصه بنفي القدرة على الفرار بخلاف الآية الّتي نحن فيها.

و في قوله:( فَكِيدُونِ ) التفات من التكلّم مع الغير إلى التكلّم وحده و النكتة فيه أنّ متعلّق هذا الأمر التعجيزيّ إنّما هو الكيد لمن له القوّة و القدرة فحسب و هو الله وحده و لو قيل: فكيدونا فأت الإشعار بالتوحّد.

قوله تعالى: ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَ عُيُونٍ وَ فَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ - إلى قوله -الْمُحْسِنِينَ ) الظلال و العيون ظلال الجنّة و عيونها الّتي يتنعّمون بالاستظلال بها و شربها، و الفواكه جمع فاكهة و هي الثمرة.

و قوله:( كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) مفاده الإذن و الإباحة، و كان الأكل و الشرب كناية عن مطلق التنعّم بنعم الجنّة و التصرّف فيها و إن لم يكن بالأكل و الشرب، و هو شائع كما يطلق أكل المال على مطلق التصرّف فيه.

و قوله:( إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) تسجيل لسعادتهم.

قوله تعالى: ( كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ) الخطاب من قبيل قولهم: افعل ما شئت فإنّه لا ينفعك، و هذا النوع من الأمر إياس للمخاطب أن ينتفع بما يأتي به من الفعل للحصول على ما يريده، و منه قوله:( فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا ) طه: ٧٢، و قوله:( اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) حم السجدة: ٤٠.

فقوله:( كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا قَلِيلًا ) أي تمتّعاً قليلاً أو زماناً قليلاً إياس لهم من أن ينتفعوا بمثل الأكل و التمتّع في دفع العذاب عن أنفسهم فليأكلوا و ليتمتّعوا قليلاً فليس يدفع عنهم شيئاً.

و إنّما ذكر الأكل و التمتّع لأنّ منكري المعاد لا يرون من السعادة إلّا سعادة الحياة الدنيا و لا يرون لها من السعادة إلّا الفوز بالأكل و التمتّع كالحيوان العجم قال

٢٥١

تعالى:( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَ يَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَ النَّارُ مَثْوىً لَهُمْ ) سورة محمّد: ١٢.

و قوله:( إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ) تعليل لما يستفاد من الجملة السابقة المشتملة على الأمر أي لا ينفعكم الأكل و التمتّع قليلاً لأنّكم مجرمون بتكذيبكم بيوم الفصل و جزاء المكذّبين به النار لا محالة.

قوله تعالى: ( وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ ) المراد بالركوع الصلاة كما قيل و لعلّ ذلك باعتبار اشتمالها على الركوع.

و قيل: المراد بالركوع المأمور به الخشوع و الخضوع و التواضع له تعالى باستجابة دعوته و قبول كلامه و اتّباع دينه، و عبادته.

و قيل: المراد بالركوع ما يؤمرون بالسجود يوم القيامة كما يشير إليه قوله تعالى( وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ ) القلم: ٤٢ و الوجهان لا يخلوان من بُعد.

و وجه اتّصال الآية بما قبلها أنّ الكلام كان مسوقاً لتهديد المكذّبين بيوم الفصل و بيان تبعة تكذيبهم به و تمّم ذلك في هذه الآية بأنّهم لا يعبدون الله إذا دعوا إلى عبادته كما ينكرون ذلك اليوم فلا معنى للعبادة مع نفي الجزاء، و ليكون كالتوطئة لقوله الآتي:( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) .

و نسب إلى الزمخشريّ أنّ الآية متّصلة بقوله في الآية السابقة:( لِلْمُكَذِّبِينَ ) كأنّه قيل: ويل يومئذ للّذين كذّبوا و الّذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون.

و في الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله:( وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ ) إلخ وجهه الإعراض عن مخاطبتهم بعد تركهم و أنفسهم يفعلون ما يشاؤن بقوله:( كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا ) .

قوله تعالى: ( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) أي إذا لم يؤمنوا بالقرآن و هو آية معجزة إلهيّة، و قد بيّن لهم أنّ الله لا إله إلّا هو وحده لا شريك له و أنّ أمامهم يوم الفصل بأوضح البيان و ساطع البرهان فبأيّ كلام بعد القرآن يؤمنون.

٢٥٢

و هذا إيئاس من إيمانهم بالله و رسوله و اليوم الآخر و كالتنبيه على أنّ رفع اليد عن دعوتهم إلى الإيمان بإلقاء قوله:( كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا ) إليهم في محلّه فليسوا بمؤمنين و لا فائدة في دعوتهم غير أنّ فيها إتماماً للحجّة.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ و قوله:( أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ) قال: منتن( فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ ) قال: في الرحم و أمّا قوله:( إِلى‏ قَدَرٍ مَعْلُومٍ ) يقول: منتهى الأجل.

أقول: و في اُصول الكافي، في رواية عن أبي الحسن الماضيعليه‌السلام : تطبيق قوله:( أَ لَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ) على مكذّبي الرسل في طاعة الأوصياء، و قوله:( ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ ) على من أجرم إلى آل محمّدعليهم‌السلام . على اضطراب في متن الخبر، و هو من الجري دون التفسير.

و فيه: و قوله( أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَ أَمْواتاً ) قال الكفات المساكن‏ و قال: نظر أميرالمؤمنينعليه‌السلام في رجوعه من صفّين إلى المقابر فقال: هذه كفات الأموات أي مساكنهم ثمّ نظر إلى بيوت الكوفة فقال: هذه كفات الأحياء. ثمّ تلا قوله:( أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَ أَمْواتاً ) .

أقول: و روي في المعاني، بإسناده عن حمّاد عن أبي عبداللهعليه‌السلام أنّه نظر إلى المقابر. و ذكر مثل الحديث السابق.

و فيه: و قوله( وَ جَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ ) قال: جبال مرتفعة.

و فيه: و قوله( انْطَلِقُوا إِلى‏ ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ ) قال فيه ثلاث شعب من النار و قوله:( إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ) قال: شرر النار مثل القصور و الجبال.

و فيه: و قوله( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَ عُيُونٍ ) قال: في ظلال من نور أنور من الشمس.

٢٥٣

و في المجمع: في قوله:( وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ ) قال مقاتل: نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصلاة فقالوا: لا ننحني. و الرواية لا نحني فإنّ ذلك سبّة علينا. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا خير في دين ليس فيه ركوع و سجود.

أقول: و في انطباق القصّة - و قد وقعت بعد الهجرة - على الآية خفاء.

و في تفسير القمّيّ في الآية السابقة قال: و إذا قيل لهم( تولّوا الإمام لم يتولّوه) .

أقول: و هو من الجري دون التفسير.

٢٥٤

( سورة النبإ مكّيّة و هي أربعون آية)

( سورة النبإ الآيات ١ - ١٦)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ( ١ ) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ( ٢ ) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ( ٣ ) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ( ٤ ) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ( ٥ ) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا ( ٦ ) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ( ٧ ) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ( ٨ ) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ( ٩ ) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ( ١٠ ) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ( ١١ ) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ( ١٢ ) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ( ١٣ ) وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا ( ١٤ ) لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا ( ١٥ ) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ( ١٦ )

( بيان‏)

تتضمّن السورة الإخبار بمجي‏ء يوم الفصل و صفته و الاحتجاج على أنّه حقّ لا ريب فيه، فقد افتتحت بذكر تساؤلهم عن نبإه ثمّ ذكر في سياق الجواب و لحن التهديد أنّهم سيعلمون ثمّ احتجّ على ثبوته بالإشارة إلى النظام المشهود في الكون بما فيه من التدبير الحكيم الدالّ بأوضح الدلالة على أنّ وراء هذه النشأة المتغيّرة الدائرة نشأة ثابتة باقية، و أنّ عقيب هذه الدار الّتي فيها عمل و لا جزاء داراً فيها جزاء و لا عمل فهناك يوم يفصح عنه هذا النظام.

ثمّ تصف اليوم بما يقع فيه من إحضار الناس و حضورهم و انقلاب الطاغين إلى عذاب أليم و المتّقين إلى نعيم مقيم و يختم الكلام بكلمة في الإنذار، و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

٢٥٥

قوله تعالى: ( عَمَّ يَتَساءَلُونَ ) ( عَمَّ ) أصله عمّا و ما استفهاميّة تحذف الألف منها اطّراداً إذا دخل عليها حرف الجرّ نحو لم و ممّ و على م و إلى م، و التساؤل سؤال القوم بعضهم بعضاً عن أمر أو سؤال بعضهم بعد بعض عن أمر و إن كان المسؤل غيرهم، فهم كان يسأل بعضهم بعضاً عن أمر أو كان بعضهم بعد بعض يسأل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أمر و حيث كان سياق السورة سياق جواب يغلب فيه الإنذار و الوعيد تأيّد به أنّ المتسائلين هم كفّار مكّة من المشركين النافين للنبوّة و المعاد دون المؤمنين و دون الكفّار و المؤمنين جميعاً.

فالتساؤل من المشركين و الإخبار عنه في صورة الاستفهام للإشعار بهوانه و حقارته لظهور الجواب عنه ظهوراً ما كان ينبغي معه أن يتساءلوا عنه.

قوله تعالى: ( عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ) جواب عن الاستفهام السابق أي يتساءلون عن النبإ العظيم، و لا يخفى ما في توصيف النبإ المتسائل عنه بالعظيم من تعظيمه و تفخيم أمره.

و المراد بالنبإ العظيم نبؤ البعث و القيامة الّذي يهتمّ به القرآن العظيم في سورة المكّيّة و لا سيّما في العتائق النازلة في أوائل البعثة كلّ الاهتمام.

و يؤيّد ذلك سياق آيات السورة بما فيه من الاقتصار على ذكر صفة يوم الفصل و ما تقدّم عليها من الحجّة على أنّه حقّ واقع.

و قيل: المراد به نبؤ القرآن العظيم، و يدفعه كون السياق بحسب مصبّه أجنبيّاً عنه و إن كان الكلام لا يخلو من إشارة إليه استلزاما.

و قيل: النبؤ العظيم ما كانوا يختلفون فيه من إثبات الصانع و صفاته و الملائكة و الرسل و البعث و الجنّة و النار و غيرها، و كأنّ القائل به اعتبر فيه ما في السورة من الإشارة إلى حقّيّة جميع ذلك ممّا تتضمّنه الدعوة الحقّة الإسلاميّة.

و يدفعه أنّ الإشارة إلى ذلك كلّه من لوازم صفة البعث المتضمّنة لجزاء الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح و الكفر و الاجرام، و قد دخل فيما في السورة من صفة يوم الفصل تبعاً و بالقصد الثاني.

٢٥٦

على أنّ المراد بهؤلاء المتسائلين - كما تقدّم - المشركون و هم يثبتون الصانع و الملائكة و ينفون ما وراء ذلك ممّا ذكر.

و قوله:( الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ) إنّما اختلفوا في نحو إنكاره و هم متّفقون في نفيه فمنهم من كان يرى استحالته فينكره كما هو ظاهر قولهم على ما حكاه الله:( هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى‏ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) سبأ: ٧، و منهم من كان يستبعده فينكره و هو قولهم:( أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُراباً وَ عِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ ) المؤمنون: ٣٦، و منهم من كان يشكّ فيه فينكره قال تعالى:( بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها ) النمل ٦٦، و منهم من كان يوقن به لكنّه لا يؤمن عناداً فينكره كما كان لا يؤمن بالتوحيد و النبوّة و سائر فروع الدين بعد تمام الحجّة عناداً قال تعالى:( بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَ نُفُورٍ ) الملك: ٢١.

و المحصّل من سياق الآيات الثلاث و ما يتلوها أنّهم لما سمعوا ما ينذرهم به القرآن من أمر البعث و الجزاء يوم الفصل ثقل عليهم ذلك فغدوا يسأل بعضهم بعضاً عن شأن هذا النبإ العجيب الّذي لم يكن ممّا قرع أسماعهم حتّى اليوم، و ربّما راجعوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنين و سألوهم عن صفة اليوم و أنّه متى هذا الوعد إن كنتم صادقين و ربّما كانوا يراجعون في بعض ما قرع سمعهم من حقائق القرآن و احتوته دعوته الجديدة أهل الكتاب و خاصّة اليهود و يستمدّونهم في فهمه.

و قد أشار تعالى في هذه السورة إلى قصّة تساؤلهم في صورة السؤال و الجواب فقال:( عَمَّ يَتَساءَلُونَ ) و هو سؤال عمّا يتساءلون عنه. ثمّ قال:( عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ) و هو جواب السؤال عمّا يتساءلون عنه. ثمّ قال:( كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ) إلخ، و هو جواب عن تساؤلهم.

و للمفسّرين في مفردات الآيات الثلاث و تقرير معانيها وجوه كثيرة تركناها لعدم ملاءمتها السياق و الّذي أوردناه هو الّذي يعطيه السياق.

قوله تعالى: ( كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ) ردع عن تساؤلهم عنه بانين

٢٥٧

ذلك على الاختلاف في النفي أي ليرتدعوا عن التساؤل لأنّه سينكشف لهم الأمر بوقوع هذا النبإ فيعلمونه، و في هذا التعبير تهديد كما في قوله:( وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) الشعراء: ٢٢٧.

و قوله:( ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ) تأكيد للردع و التهديد السابقين و لحن التهديد هو القرينة على أنّ المتسائلين هم المشركون النافون للبعث و الجزاء دون المؤمنين و دون المشركين و المؤمنين جميعاً.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ) الآية إلى تمام إحدى عشرة آية مسوق سوق الاحتجاج على ثبوت البعث و الجزاء و تحقّق هذا النبإ العظيم و لازم ثبوته صحّة ما في قوله:( سَيَعْلَمُونَ ) من الإخبار بأنّهم سيشاهدونه فيعلمون.

تقرير الحجّة: أنّ العالم المشهود بأرضه و سمائه و ليله و نهاره و البشر المتناسلين و النظام الجاري فيها و التدبير المتقن الدقيق لاُمورها من المحال أن يكون لعباً باطلاً لا غاية لها ثابتة باقية فمن الضروريّ أن يستعقب هذا النظام المتحوّل المتغيّر الدائر إلى عالم ذي نظام ثابت باق، و أن يظهر فيه أثر الصلاح الّذي تدعو إليه الفطرة الإنسانيّة و الفساد الّذي ترتدع عنه، و لم يظهر في هذا العالم المشهود أعني سعادة المتّقين و شقاء المفسدين، و من المحال أن يودع الله الفطرة دعوة غريزيّة أو ردعاً غريزيّاً بالنسبة إلى ما لا أثر له في الخارج و لا حظّ له من الوقوع فهناك يوم يلقاه الإنسان و يجزي فيه على عمله إن خيراً فخيراً و إن شرّاً فشرّاً.

فالآيات في معنى قوله تعالى( وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) ص: ٢٨.

و بهذا البيان يثبت أنّ هناك يوماً يلقاه الإنسان و يجزي فيه بما عمل إن خيراً فخيراً و إن شرّاً فشرّاً فليس للمشركين أن يختلفوا فيه فيشكّ فيه بعضهم و يستبعده طائفة، و يحيله قوم، و لا يؤمن به مع العلم به عناداً آخرون، فاليوم ضروري الوقوع

٢٥٨

و الجزاء لا ريب فيه.

و يظهر من بعضهم أنّ الآيات مسوقة لإثبات القدرة و أنّ العود يماثل البدء و القادر على الإبداء قادر على الإعادة، و هذه الحجّة و إن كانت تامّة و قد وقعت في كلامه تعالى لكنّها حجّة على الإمكان دون الوقوع و السياق فيما نحن فيه سياق الوقوع دون الإمكان فالأنسب في تقريرها ما تقدّم.

و كيف كان فقوله:( أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ) الاستفهام للإنكار، و المهاد الوطاء و القرار الّذي يتصرّف فيه، و يطلق على البساط الّذي يُجلس عليه و المعنى قد جعلنا الأرض قراراً لكم تستقرّون عليها و تتصرّفون فيها.

قوله تعالى: ( وَ الْجِبالَ أَوْتاداً ) الأوتاد جمع وتد و هو المسمار إلّا أنّه أغلظ منه كما في المجمع، و لعلّ عدّ الجبال أوتاداً مبنيّ على أنّ عمدة جبال الأرض من عمل البركانات بشقّ الأرض فتخرج منه موادّ أرضيّة مذابة تنتصب على فم الشقّة متراكمة كهيئة الوتد المنصوب على الأرض تسكن به فورة البركان الّذي تحته فيرتفع به ما في الأرض من الاضطراب و الميدان.

و عن بعضهم: أنّ المراد بجعل الجبال أوتاداً انتظام معاش أهل الأرض بما اُودع فيها من المنافع و لولاها لمادت الأرض بهم أي لما تهيّأت لانتفاعهم. و فيه أنّه صرف اللفظ عن ظاهره من غير ضرورة موجبة.

قوله تعالى: ( وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً ) أي زوجاً زوجاً من ذكر و اُنثى لتجري بينكم سنّة التناسل فيدوم بقاء النوع إلى ما شاء الله.

و قيل: المراد به الإشكال أي كلّ منكم شكل للآخر. و قيل: المراد به الأصناف أي أصنافاً مختلفة كالأبيض و الأسود و الأحمر و الأصفر إلى غير ذلك، و قيل: المراد به خلق كلّ منهم من منيّين منيّ الرجل و منيّ المرأة و هذه وجوه ضعيفة.

قيل: الالتفات في الآية من الغيبة إلى الخطاب للمبالغة في الإلزام و التبكيت.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً ) السبات الراحة و الدعة فإنّ في المنام

٢٥٩

سكوتاً و راحة للقوى الحيوانيّة البدنيّة ممّا اعتراها في اليقظة من التعب و الكلال بواسطة تصرّفات النفس فيها.

و قيل: السبات بمعنى القطع و في النوم قطع التصرّفات النفسانيّة في البدن، و هو قريب من سابقه.

و قيل: المراد بالسبات الموت، و قد عدّ سبحانه النوم من الموت حيث قال:( وَ هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ) الأنعام: ٦٠ و هو بعيد، و أمّا الآية فإنّه تعالى عدّ النوم توفّياً و لم يعدّه موتاً بل القرآن يصرّح بخلافه قال تعالى:( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها ) الزمر: ٤٢.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً ) أي ساتراً يستر الأشياء بما فيه من الظلمة الساترة للمبصرات كما يستر اللباس البدن و هذا سبب إلهيّ يدعو إلى ترك التقلّب و الحركة و الميل إلى السكن و الدعة و الرجوع إلى الأهل و المنزل.

و عن بعضهم أنّ المراد بكون الليل لباساً كونه كاللباس للنهار يسهل إخراجه منه و هو كما ترى.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً ) العيش هو الحياة - على ما ذكره الراغب - غير أنّ العيش يختصّ بحياة الحيوان فلا يقال: عيشه تعالى و عيش الملائكة و يقال حياته تعالى و حياة الملائكة، و المعاش مصدر ميميّ و اسم زمان و اسم مكان، و هو في الآية بأحد المعنيين الأخيرين، و المعنى و جعلنا النهار زماناً لحياتكم أو موضعاً لحياتكم تبتغون فيه من فضل ربّكم، و قيل: المراد به المعنى المصدريّ بحذف مضاف، و التقدير و جعلنا النهار طلب معاش أي مبتغي معاش.

قوله تعالى: ( وَ بَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً ) أي سبع سماوات شديدة في بنائها.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً ) الوهّاج شديد النور و الحرارة و المراد بالسراج الوهّاج الشمس.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568