الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن10%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219964 / تحميل: 7014
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

قوله تعالى: ( وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً ) المعصرات السحب الماطرة و قيل: الرياح الّتي تعصر السحب لتمطر و الثجّاج الكثير الصبّ للماء، و الأولى على هذا المعنى أن تكون( مِنَ ) بمعنى الباء.

قوله تعالى: ( لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَ نَباتاً ) أي حبّاً و نباتاً يقتات بهما الإنسان و سائر الحيوان.

قوله تعالى: ( وَ جَنَّاتٍ أَلْفافاً ) معطوف على قوله:( حَبًّا ) و جنّات ألفاف أي ملتفّة أشجارها بعضها ببعض.

قيل: إنّ الألفاف جمع لا واحد له من لفظه.

( بحث روائي‏)

في بعض الأخبار: أنّ النبأ العظيم عليّعليه‌السلام و هو من البطن.

عن الخصال، عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: قال أبوبكر: يا رسول الله أسرع إليك الشيب. قال: شيّبتني هود و الواقعة و المرسلات و عمّ يتساءلون.

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ) قال: يمهّد فيها الإنسان( وَ الْجِبالَ أَوْتاداً ) أي أوتاد الأرض.

و في نهج البلاغة، قالعليه‌السلام : و وتّد بالصخور ميدان أرضه.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً ) قال: يلبس على النهار.

أقول: و لعلّ المراد به أنّه يخفي ما يظهره النهار و يستر ما يكشفه.

و فيه: في قوله تعالى:( وَ جَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً ) قال: الشمس المضيئة( وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ) قال: من السحاب( ماءً ثَجَّاجاً ) قال: صبّاً على صبّ.

و عن تفسير العيّاشيّ، عن أبي عبداللهعليه‌السلام :( عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ ) بالياء يمطرون.

٢٦١

ثمّ قال: أ ما سمعت قوله:( وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً ) .

أقول: المراد أنّ( يَعْصِرُونَ ) بضمّ الياء بصيغة المجهول و المراد به أنّهم يمطرون و استشهادهعليه‌السلام بقوله:( وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ) دليل على أنّهعليه‌السلام أخذ المعصرات بمعنى الممطرات من أعصرت السحابة إذا أمطرت.

و روى العيّاشيّ مثل الحديث عن عليّ بن معمر عن أبيه عن أبي عبداللهعليه‌السلام و روى القمّيّ في تفسيره،: مثله عن أميرالمؤمنين.

٢٦٢

( سورة النبإ الآيات ١٧ - ٤٠)

إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا ( ١٧ ) يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ( ١٨ ) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا ( ١٩ ) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا ( ٢٠ ) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ( ٢١ ) لِّلطَّاغِينَ مَآبًا ( ٢٢ ) لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ( ٢٣ ) لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا ( ٢٤ ) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا ( ٢٥ ) جَزَاءً وِفَاقًا ( ٢٦ ) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا ( ٢٧ ) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا ( ٢٨ ) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا ( ٢٩ ) فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا ( ٣٠ ) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا ( ٣١ ) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا ( ٣٢ ) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا ( ٣٣ ) وَكَأْسًا دِهَاقًا ( ٣٤ ) لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا ( ٣٥ ) جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا ( ٣٦ ) رَّبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا ( ٣٧ ) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ( ٣٨ ) ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ مَآبًا ( ٣٩ ) إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا ( ٤٠ )

٢٦٣

( بيان‏)

تصف الآيات يوم الفصل الّذي أخبر به إجمالاً بقوله:( كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ) ثمّ تصف ما يجري فيه على الطاغين و المتّقين، و تختتم بكلمة في الإنذار و هي كالنتيجة.

قوله تعالى: ( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً ) قال في المجمع: الميقات منتهى المقدار المضروب لحدوث أمر من الاُمور و هو من الوقت كما أنّ الميعاد من الوعد و المقدار من القدر، انتهى.

شروع في وصف ما تضمّنه النبأ العظيم الّذي أخبر بوقوعه و هدّدهم به في قوله:( كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ) ثمّ أقام الحجّة عليه بقوله:( أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ) إلخ، و قد سمّاه يوم الفصل و نبّه به على أنّه يوم يفصل فيه القضاء بين الناس فينال كلّ طائفة ما يستحقّه بعمله فهو ميقات و حدّ مضروب لفصل القضاء بينهم و التعبير بلفظ( كانَ ) للدلالة على ثبوته و تعيّنه في العلم الإلهيّ على ما ينطق به الحجّة السابقة الذكر، و لذا أكّد الجملة بإنّ.

و المعنى: إنّ يوم فصل القضاء الّذي نبؤه نبأ عظيم كان في علم الله يوم خلق السماوات و الأرض و حكّم فيها النظام الجاري حدّاً مضروباً ينتهي إليه هذا العالم فإنّه تعالى كان يعلم أنّ هذه النشأة الّتي أنشأها لا تتمّ إلّا بالانتهاء إلى يوم يفصل فيه القضاء بينهم.

قوله تعالى: ( يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً ) قد تقدّم الكلام في معنى نفخ الصور كراراً، و الأفواج جمع فوج و هي الجماعة المارّة المسرعة على ما ذكره الراغب.

و في قوله:( فَتَأْتُونَ أَفْواجاً ) جري على الخطاب السابق الملتفت إليه قضاءً لحقّ الوعيد الّذي يتضمّنه قوله:( كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ) و كأنّ الآية ناظرة إلى قوله تعالى:( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ) إسراء: ٧١.

٢٦٤

قوله تعالى: ( وَ فُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً ) فاتّصل به عالم الإنسان بعالم الملائكة.

و قيل: التقدير فكانت ذات أبواب، و قيل: صار فيها طرق و لم يكن كذلك من قبل، و لا يخلو الوجهان من تحكّم فليتدبّر.

قوله تعالى: ( وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً ) السراب هو الموهوم من الماء اللّامع في المفاوز و يطلق على كلّ ما يتوهّم ذا حقيقة و لا حقيقة له على طريق الاستعارة.

و لعلّ المراد بالسراب في الآية هو المعنى الثاني.

بيان ذلك: أنّ تسيير الجبال و دكّها ينتهي بالطبع إلى تفرّق أجزائها و زوال شكلها كما وقع في مواضع من كلامه تعالى عند وصف زلزلة الساعة و آثارها إذ قال:( وَ تَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً ) الطور: ١٠ و قال:( وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً ) الحاقّة: ١٤، و قال:( وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا ) المزّمّل: ١٤، و قال:( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) القارعة: ٥، و قال:( وَ بُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا ) الواقعة: ٥، و قال:( وَ إِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ ) المرسلات: ١٠.

فتسيير الجبال و دكّها ينتهي بها إلى بسّها و نسفها و صيرورتها كثيباً مهيلاً و كالعهن المنفوش كما ذكره الله تعالى و أمّا صيرورتها سراباً بمعنى ما يتوهّم ماءً لامعاً فلا نسبة بين التسيير و بين السراب بهذا المعنى.

نعم ينتهي تسييرها إلى انعدامها و بطلان كينونتها و حقيقتها بمعنى كونها جبلاً فالجبال الراسيات الّتي كانت ترى حقائق ذوات كينونة قويّة لا تحرّكه العواصف تتبدّل بالتسيير سراباً باطلاً لا حقيقة له، و نظيره من كلامه تعالى قوله في أقوام أهلكهم و قطع دابرهم،( فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ ) سبأ: ١٩ و قوله:( فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَ جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ ) المؤمنون: ٤٤، و قوله في الأصنام( إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ) النجم: ٢٣.

٢٦٥

فالآية بوجه كقوله تعالى:( وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ ) النمل: ٨٨ - بناء على كونه ناظراً إلى صفة زلزلة الساعة -.

قوله تعالى: ( إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً ) قال في المفردات: الرصد الاستعداد للترقّب - إلى أن قال - و المرصد موضع الرصد قال تعالى:( وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ) و المرصاد نحوه لكن يقال للمكان الّذي اختصّ بالرصد قال تعالى:( إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً ) تنبيهاً على أنّ عليها مجاز الناس، و على هذا قوله تعالى:( وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ) انتهى.

قوله تعالى: ( لِلطَّاغِينَ مَآباً ) الطاغون الملتبّسون بالطغيان و هو الخروج عن الحدّ، و المآب اسم مكان من الأوب بمعنى الرجوع، و العناية في عدّها مآباً للطاغين أنّهم هيّئوها مأوى لأنفسهم و هم في الدنيا ثمّ إذا انقطعوا عن الدنيا آبوا و رجعوا إليها.

قوله تعالى: ( لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً ) الأحقاب الأزمنة الكثيرة و الدهور الطويلة من غير تحديد.

و هو جمع اختلفوا في واحده فقيل: واحده حقب بالضمّ فالسكون أو بضمّتين، و قد وقع في قوله تعالى:( أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً ) الكهف: ٦٠، و قيل: حقب بالفتح فالسكون و واحد الحقب حقبة بالكسر فالسكون قال الراغب: و الحقّ أنّ الحقبة مدّة من الزمان مبهمة. انتهى.

و حدّ بعضهم الحقب بثمانين سنة أو ببضع و ثمانين سنة و زاد آخرون أنّ السنة منها ثلاثمائة و ستّون يوماً كلّ يوم يعدل ألف سنة، و عن بعضهم أنّ الحقب أربعون سنة و عن آخرين أنّه سبعون ألف سنة إلى غير ذلك و لا دليل من الكتاب يدلّ على شي‏ء من هذه التحديدات و لم يثبت من اللغة شي‏ء منها.

و ظاهر الآية أنّ المراد بالطاغين المعاندون من الكفّار و يؤيّده قوله ذيلاً:( إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً ) .

و قد فسّروا( أَحْقاباً ) في الآية بالحقب بعد الحقب فالمعنى حال كون الطاغين

٢٦٦

لابثين في جهنّم حقباً بعد حقب بلا تحديد و لا نهاية فلا تنافي الآية ما نصّ عليه القرآن من خلود الكفّار في النار.

و قيل: إنّ قوله:( لا يَذُوقُونَ فِيها ) إلخ صفة( أَحْقاباً ) و المعنى لابثين فيها أحقاباً هي على هذه الصفة و هي أنّهم لا يذوقون فيها برداً و لا شراباً إلّا حميماً و غسّاقاً، ثمّ يكونون على غير هذه الصفة إلى غير النهاية.

و هو حسن لو ساعد السياق.

قوله تعالى: ( لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَ لا شَراباً ) ظاهر المقابلة بين البرد و الشراب أنّ المراد بالبرد مطلق ما يتبرّد به غير الشراب كالظلّ الّذي يستراح إليه بالاستظلال فالمراد بالذّوق مطلق النيل و المسّ.

قوله تعالى: ( إِلَّا حَمِيماً وَ غَسَّاقاً ) الحميم الماء الحارّ شديد الحرّ، و الغسّاق صديد أهل النار.

قوله تعالى: ( جَزاءً وِفاقاً - إلى قوله -كِتاباً ) المصدر بمعنى اسم الفاعل و المعنى يجزون جزاء موافقاً لما عملوا أو بتقدير مضاف أي جزاءً ذا وفاق أو إطلاق الوفاق على الجزاء للمبالغة كزيد عدل.

و قوله:( إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً ) أي تكذيباً عجيباً يصرّون عليه، تعليل يوضح موافقة جزائهم لعملهم، و ذلك أنّهم لم يرجوا الحساب يوم الفصل فأيسوا من الحياة الآخرة و كذّبوا بالآيات الدالّة عليها فأنكروا التوحيد و النبوّة و تعدّوا في أعمالهم طور العبوديّة فنسوا الله تعالى فنسيهم و حرّم عليهم سعادة الدار الآخرة فلم يبق لهم إلّا الشقاء و لا يجدون فيها إلّا ما يكرهون، و لا يواجهون إلّا ما يتعذّبون به و هو قوله:( فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً ) .

و في الآية أعني قوله:( جَزاءً وِفاقاً ) دلالة على المطابقة التامّة بين الجزاء و العمل فالإنسان لا يريد بعمله إلّا الجزاء الّذي بإزائه و التلبّس بالجزاء تلبّس بالعمل بالحقيقة قال تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) التحريم: ٧.

٢٦٧

و قوله:( وَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً ) أي كلّ شي‏ء و منه الأعمال ضبطناه و بينّاه في كتاب جليل القدر فالآية في معنى قوله تعالى:( وَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ ) يس: ١٣.

أو المراد و كلّ شي‏ء حفظناه حال كونه مكتوباً أي في اللوح المحفوظ أو في صحائف الأعمال، و جوّز أن يكون الإحصاء بمعنى الكتابة أو الكتاب بمعنى الإحصاء فإنّ الإحصاء و الكتابة يتشاركان في معنى الضبط و المعنى كلّ شي‏ء أحصيناه إحصاء أو كلّ شي‏ء كتبناه كتاباً.

و الآية على أيّ حال متمّم للتعليل السابق، و المعنى الجزاء موافق لأعمالهم لأنّهم كانوا على حال كذا و كذا و قد حفظناها عليهم فجزيناهم بها جزاءً وفاقاً.

قوله تعالى: ( فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً ) تفريع على ما تقدّم من تفصيل عذابهم مسوق لإيئاسهم من أن يرجو نجاة من الشقوة و راحة ينالونها.

و الالتفات إلى خطابهم بقوله:( فَذُوقُوا ) تقدير لحضورهم ليخاطبوا بالتوبيخ و التقريع بلا واسطة.

و المراد بقوله:( فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً ) أنّ ما تذوقونه بعد عذاب ذقتموه عذاب آخر فهو عذاب بعد عذاب و عذاب على عذاب فلا تزالون يضاف عذاب جديد إلى عذابكم القديم فاقنطوا من أن تنالوا شيئاً ممّا تطلبون و تحبّون.

و الآية لا تخلو من ظهور في كون المراد بقوله:( لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً ) الخلود دون الانقطاع.

قوله تعالى: ( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً - إلى قوله -كِذَّاباً ) الفوز الظفر بالخير مع حصول السلامة - على ما قاله الراغب - ففيه معنى النجاة و التخلّص من الشرّ و الحصول على الخير، و المفاز مصدر ميميّ أو اسم مكان من الفوز و الآية تحتمل الوجهين جميعاً.

و قوله:( حَدائِقَ وَ أَعْناباً ) الحدائق جمع حديقة و هي البستان المحوّط، و الأعناب جمع عنب و هو ثمر شجرة الكرم و ربّما يطلق على نفس الشجرة.

٢٦٨

و قوله:( وَ كَواعِبَ ) جمع كاعب و هي الفتاة الّتي تكعّب ثدياها و استدار مع ارتفاع يسير، و الترائب جمع ترب و هي المماثلة لغيرها من اللذات.

و قوله:( وَ كَأْساً دِهاقاً ) أي ممتلئة شراباً مصدر بمعنى اسم الفاعل.

و قوله:( لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا كِذَّاباً ) أي لا يسمعون في الجنّة لغواً من القول لا يترتّب عليه أثر مطلوب و لا تكذيباً من بعضهم لبعضهم فيما قال فقولهم حقّ له أثره المطلوب و صدق مطابق للواقع.

قوله تعالى: ( جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً ) أي فعل بالمتّقين ما فعل حال كونه جزاء من ربّك عطيّة محسوبة فقوله:( جَزاءً ) حال و كذا( عَطاءً ) و( حِساباً ) بمعنى اسم المفعول صفة لعطاء، و يحتمل أن يكون عطاء تمييزاً أو مفعولاً مطلقاً.

قيل: إضافة الجزاء إلى الربّ مضافاً إلى ضميرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تشريف له، و لم يضف جزاء الطاغين إليه تعالى تنزّهاً منه تعالى فليس يغشاهم شرّ إلّا من عند أنفسهم قال تعالى:( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) الأنفال: ٥١.

و وقوع لفظ الحساب في ذيل جزاء الطاغين و المتّقين معاً لتثبيت ما يلوّح إليه يوم الفصل الواقع في أوّل الكلام.

قوله تعالى: ( رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ ) بيان لقوله:( رَبِّكَ ) اُريد به أنّ ربوبيّته تعالى عامّة لكلّ شي‏ء و أنّ الربّ الّذي يتّخذه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّاً و يدعو إليه ربّ كلّ شي‏ء لا كما كان يقول المشركون: إنّ لكلّ طائفة من الموجودات ربّاً و الله سبحانه ربّ الأرباب أو كما كان يقول بعضهم: إنّه ربّ السماء.

و في توصيف الربّ بالرحمن - صيغة مبالغة من الرحمة - إشارة إلى سعة رحمته و أنّها سمة ربوبيّة لا يحرم منها شي‏ء إلّا أن يمتنع منها شي‏ء بنفسه لقصوره و سوء اختياره فمن شقوة هؤلاء الطاغين أنّهم حرّموها على أنفسهم بالخروج عن طور العبودية.

قوله تعالى: ( لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً ) وقوع صدر الآية في سياق قوله:

٢٦٩

( رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ ) - و شأن الربوبيّة هو التدبير و شأن الرحمانيّة بسط الرحمة - دليل على أنّ المراد بخطابه تعالى تكليمه في بعض ما فعل من الفعل بنحو السؤال عن السبب الداعي إلى الفعل كأن يقال: لم فعلت هذا؟ و لم لم تفعل كذا؟ كما يسأل الفاعل منّا عن فعله فتكون الجملة( لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً ) في معنى قوله تعالى:( لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ ) الأنبياء: ٢٣ و قد تقدّم الكلام في معنى الآية.

لكن وقوع قوله:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا ) بعد قوله:( لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً ) الظاهر في اختصاص عدم الملك بيوم الفصل مضافاً إلى وقوعه في سياق تفصيل جزاء الطاغين و المتّقين منه تعالى يوم الفصل يعطي أن يكون المراد به أنّهم لا يملكون أن يخاطبوه فيما يقضي و يفعل بهم باعتراض عليه أو شفاعة فيهم لكنّ الملائكة - و هم ممّن لا يملكون منه خطاباً - منزّهون عن وصمة الاعتراض عليه تعالى و قد قال فيهم:( عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) الأنبياء: ٢٧ و كذلك الروح الّذي هو(١) كلمته و قوله، و قوله(٢) حقّ، و هو تعالى (٣) الحقّ المبين و الحقّ لا يعارض الحقّ و لا يناقضه.

و من هنا يظهر أنّ المراد بالخطاب الّذي لا يملكونه هو الشفاعة و ما يجري مجراها من وسائل التخلّص من الشرّ كالعدل و البيع و الخلّة و الدعاء و السؤال قال تعالى:( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ ) البقرة: ٢٥٤، و قال:( وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ ) البقرة: ١٢٣، و قال:( يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) هود: ١٠٥.

و بالجملة قوله:( لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً ) ضمير الفاعل في( لا يَمْلِكُونَ ) لجميع المجموعين ليوم الفصل من الملائكة و الروح و الإنس و الجنّ كما هو المناسب

____________________

(١) النحل: ٤٠.

(٢) الأنعام: ٧٣.

(٣) النور: ٢٥.

٢٧٠

للسياق الحاكي عن ظهور العظمة و الكبرياء دون خصوص الملائكة و الروح لعدم سبق الذكر و دون خصوص الطاغين كما قيل لكثرة الفصل، و المراد بالخطاب الشفاعة و ما يجري مجراها كما تقدّم.

و قوله:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا ) ظرف لقوله:( لا يَمْلِكُونَ ) و قيل: لقوله:( لا يَتَكَلَّمُونَ ) و هو بعيد مع صلاحية ظرفيّته لما سبقه.

و المراد بالروح المخلوق الأمريّ الّذي يشير إليه قوله تعالى:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) إسراء: ٨٥.

و قيل: المراد به أشراف الملائكة، و قيل حفظة الملائكة و قيل: ملك موكّل على الأرواح. و لا دليل على شي‏ء من هذه الأقوال.

و قيل: المراد به جبريل، و قيل: أرواح الناس و قيامها مع الملائكة صفّاً إنّما هو بين النفختين قبل أن تلج الأجساد، و قيل: القرآن و المراد من قيامه ظهور آثاره يومئذ من سعادة المؤمنين به و شقاوة الكافرين.

و يدفعها أنّ هذه الثلاثة و إن اُطلق على كلّ منها الروح في كلامه تعالى لكنّه مع التقييد كقوله:( وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) الحجر: ٢٩، و قوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ) الشعراء: ١٩٣، و قوله:( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ ) النحل: ١٠٢، و قوله:( فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا ) مريم: ١٧، و قوله:( وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ) الشورى: ٥٢ و الروح في الآية الّتي نحن فيها مطلق، على أنّ في القولين الأخيرين تحكّماً ظاهراً.

و( صَفًّا) حال من الروح و الملائكة و هو مصدر اُريد به اسم الفاعل أي حال كونهم صافّين، و ربّما استفيد من مقابلة الروح للملائكة أنّ الروح وحده صفّ و الملائكة جميعاً صفّ.

و قوله:( لا يَتَكَلَّمُونَ ) بيان لقوله:( لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً ) و ضمير الفاعل لأهل الجمع من الروح و الملائكة و الإنس و الجنّ على ما يفيده السياق.

و قيل: الضمير للروح و الملائكة، و قيل: للناس و وقوع( لا يَمْلِكُونَ ) بما مرّ

٢٧١

من معناه و( لا يَتَكَلَّمُونَ ) في سياق واحد لا يلائم شيئاً من القولين.

و قوله:( إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ ) بدل من ضمير الفاعل في( لا يَتَكَلَّمُونَ ) اُريد به بيان من له أن يتكلّم منهم يومئذ بإذن الله فالجملة في معنى قوله:( يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) هود: ١٠٥ على ظاهر إطلاقه.

و قوله:( وَ قالَ صَواباً ) أي قال قولاً صواباً لا يشوبه خطأ و هو الحقّ الّذي لا يداخله باطل، و الجملة في الحقيقة قيد للإذن كأنّه قيل: إلّا من أذن له الرحمن و لا يأذن إلّا لمن قال صواباً فالآية في معنى قوله تعالى:( وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ) الزخرف: ٨٦.

و قيل:( إِلَّا مَنْ أَذِنَ ) إلخ استثناء ممّن يتكلّم فيه و المراد بالصواب التوحيد و قول لا إله إلّا الله و المعنى لا يتكلّمون في حقّ أحد إلّا في حقّ شخص أذن له الرحمن و قال ذلك الشخص في الدنيا صواباً أي أقرّ بالوحدانيّة و شهد أن لا إله إلّا الله فالآية في معنى قوله تعالى:( وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) الأنبياء: ٢٨.

و يدفعه أنّ العناية الكلاميّة في المقام متعلّقة بنفي أصل الخطاب و التكلّم يومئذ من كلّ متكلّم لا بنفي التكلّم في كلّ أحد مع تسليم جواز أصل التكلّم فالمستثنون هم المتكلّمون المأذون لهم في أصل التكلّم من دون تعرّض لمن يتكلّم فيه.

( كلام فيما هو الروح في القرآن‏)

تكرّرت كلمة الروح - و المتبادر منه ما هو مبدأ الحياة - في كلامه تعالى و لم يقصرها في الإنسان أو في الإنسان و الحيوان فحسب بل أثبتها في غيرهما كما في قوله:( فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا ) مريم: ١٧، و قوله:( وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ) الشورى: ٥٢ إلى غير ذلك فللروح مصداق في الإنسان و مصداق في غيره.

و الّذي يصلح أن يكون معرّفاً لها في كلامه تعالى ما في قوله:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) إسراء: ٨٥ حيث أطلقها إطلاقاً و ذكر معرّفاً لها أنّها

٢٧٢

من أمره و قد عرّف أمره بقوله:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) يس: ٨٣ فبيّن أنّه كلمة الإيجاد الّتي هي الوجود من حيث انتسابه إليه تعالى و قيامه به لا من حيث انتسابه إلى العلل و الأسباب الظاهريّة.

و بهذه العناية عدّ المسيحعليه‌السلام كلمة له و روحاً منه إذ قال:( وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى‏ مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ ) النساء: ١٧١ لمّا وهبه لمريمعليها‌السلام من غير الطرق العاديّة و يقرب منه في العناية قوله تعالى:( إِنَّ مَثَلَ عِيسى‏ عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) آل عمران: ٥٩.

و هو تعالى و إن ذكرها في أغلب كلامه بالإضافة و التقيد كقوله:( وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) الحجر ٢٩، و قوله:( وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ) السجدة: ٩، و قوله:( فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا ) مريم: ١٧، و قوله:( وَ رُوحٌ مِنْهُ ) النساء: ١٧١ و قوله:( وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) البقرة: ٨٧ إلى غير ذلك إلّا أنّه أوردها في بعض كلامه مطلقة من غير تقييد كقوله:( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) القدر: ٤ و ظاهر الآية أنّها موجود مستقلّ و خلق سماويّ غير الملائكة، و نظير الآية بوجه قوله تعالى:( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) المعارج: ٤.

و أمّا الروح المتعلّقة بالإنسان فقد عبّر عنها بمثل قوله:( وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) ( وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ) و أتي بكلمة( مِنْ ) الدالّة على المبدئيّة و سمّاه نفخاً و عبّر عن الروح الّتي خصّها بالمؤمنين بمثل قوله:( وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) المجادلة: ٢٢ فأتى بالباء الدالّة على السببيّة و سمّاه تأييداً و تقوية، و عبّر عن الروح الّتي خصّها بالأنبياء بمثل قوله:( وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) البقرة: ٨٧ فأضاف الروح إلى القدس و هو النزاهة و الطهارة و سمّاه أيضاً تأييداً.

و بانضمام هذه الآيات إلى مثل آية سورة القدر يظهر أنّ نسبة الروح المضافة الّتي في هذه الآيات إلى الروح المطلقة المذكورة في سورة القدر نسبة الإفاضة إلى المفيض

٢٧٣

و الظلّ إلى ذي الظلّ بإذن الله.

و كذلك الروح المتعلّقة بالملائكة من إفاضات الروح بإذن الله، و إنّما لم يعبّر في روح الملك بالنفخ و التأييد كالإنسان بل سمّاه روحاً كما في قوله تعالى:( فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا ) ، و قوله:( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ ) النحل: ١٠٢، و قوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ) الشعراء: ١٩٣ لأنّ الملائكة أرواح محضة على اختلاف مراتبهم في القرب و البعد من ربّهم، و ما يتراءى من الأجسام لهم تمثّلات كما يشير إليه قوله تعالى:( فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا ) مريم: ١٧ و قد تقدّم الكلام في معنى التمثّل في ذيل الآية بخلاف الإنسان المخلوق مؤلّفاً من جسم ميت و روح حيّة فيناسبه التعبير بالنفخ كما في قوله( فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) الحجر: ٢٩.

و كما أوجب اختلاف الروح في خلق الملك و الإنسان اختلاف التعبير بالنفخ و عدمه كذلك اختلاف الروح من حيث أثرها و هو الحياة شرفاً و خسّة أوجب اختلاف التعبير بالنفخ و التأييد و عدّ الروح ذات مراتب مختلفة باختلاف أثر الحياة.

فمن الروح الروح المنفوخة في الإنسان قال:( وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) .

و من الروح الروح المؤيّد بها المؤمن قال:( أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) المجادلة: ٢٢ و هي أشرف وجوداً و أعلى مرتبة و أقوى أثراً من الروح الإنسانيّة العامّة كما يفيده قوله تعالى و هو في معنى هذه الآية:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ) الأنعام: ١٢٢ فقد عدّ المؤمن حيّاً ذا نور يمشي به و هو أثر الروح و الكافر ميتاً و هو ذو روح منفوخة فللمؤمن روح ليست للكافر ذات أثر ليس فيه.

و من ذلك يظهر أنّ من مراتب الروح ما هو في النبات لما فيه من أثر الحياة يدلّ على ذلك الآيات المتضمّنة لإحياء الأرض بعد موتها.

و من الروح الروح المؤيّد بها الأنبياء قال:( وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) البقرة: ٨٧ و سياق الآيات يدلّ على كون هذه الروح أشرف و أعلى مرتبة من غيرها ممّا في الإنسان.

٢٧٤

و أمّا قوله:( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ) المؤمن: ١٥، و قوله:( وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ) الشورى: ٥٢ فيقبل الانطباق على روح الإيمان و على روح القدس و الله أعلم.

و قد تقدّم بعض ما ينفع من الكلام في المقام في ذيل هذه الآيات الكريمة.

قوله تعالى: ( ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ ) إشارة إلى يوم الفصل المذكور في السورة الموصوف بما مرّ من الأوصاف و هو في الحقيقة خاتمة الكلام المنعطفة إلى فاتحة السورة و ما بعده أعني قوله:( فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ مَآباً ) إلخ فضل تفريع على البيان السابق.

و الإشارة إليه بالإشارة البعيدة للدلالة على فخامة أمره و المراد بكونه حقّاً ثبوته حتماً مقضيّاً لا يتخلّف عن الوقوع.

قوله تعالى: ( فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ مَآباً ) أي مرجعاً إلى ربّه ينال به ثواب المتّقين و ينجو به من عذاب الطاغين، و الجملة كما أشرنا إليه تفريع على ما تقدّم من الإخبار بيوم الفصل و الاحتجاج عليه و وصفه، و المعنى إذا كان كذلك فمن شاء الرجوع إلى ربّه فليرجع.

قوله تعالى: ( ا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً ) إلخ المراد به عذاب الآخرة، و كونه قريباً لكونه حقّاً لا ريب في إتيانه و كلّ ما هو آت قريب.

على أنّ الأعمال الّتي سيجزي بها الإنسان هي معه أقرب ما يكون منه.

و قوله:( يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ) أي ينتظر المرء جزاء أعماله الّتي قدّمتها يداه بالاكتساب، و قيل: المعنى ينظر المرء إلى ما قدّمت يداه من الأعمال لحضورها عنده قال تعالى:( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) آل عمران: ٣٠.

و قوله:( يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً ) أي يتمنّى من شدّة اليوم أن لو كان تراباً فاقداً للشعور و الإرادة فلم يعمل و لم يجز.

٢٧٥

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ و قوله:( وَ فُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً ) قال: تفتح أبواب الجنان، و قوله:( وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً ) قال: تصير الجبال مثل السراب الّذي يلمع في المفازة.

و فيه،: و قوله:( لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً ) قال: الأحقاب السنين و الحقب سنة و السنة عددها ثلاثمائة و ستّون يوماً و اليوم كألف سنة ممّا تعدّون.

و في المجمع، روى نافع عن ابن عمر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يخرج من النار من دخلها حتّى يمكث فيها أحقاباً و الحقب بضع و ستّون سنة و السنة ثلاثمائة و ستّون يوماً كلّ يوم كألف سنة ممّا تعدّون فلا يتّكلنّ أحد على أن يخرج من النار.

أقول: و أورد الرواية في الدرّ المنثور، و فيها ثمانون مكان ستّون و لفظ آخرها، قال ابن عمر: فلا يتّكلنّ أحد إلخ، و أورد أيضاً رواية اُخرى عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ الحقب أربعون سنة.

و فيه، و روى العيّاشيّ بإسناده عن حمران قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام عن هذه الآية فقال: هذه في الّذين يخرجون من النار، و روي عن الأحول مثله.

و في تفسير القمّيّ و قوله:( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً ) قال: يفوزون، قوله:( وَ كَواعِبَ أَتْراباً ) قال: جوار و أتراب لأهل الجنّة، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام قال في قوله:( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً ) قال: هي الكرامات( وَ كَواعِبَ أَتْراباً ) أي الفتيات النواهد.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و أبوالشيخ في العظمة و ابن مردويه عن ابن عبّاس أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: الروح جند من جنود الله ليسوا بملائكة لهم رؤس و أيد و أرجل ثمّ قرأ:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا ) قال: هؤلاء جند و هؤلاء جند.

٢٧٦

أقول: و قد تقدّمت الرواية في ذيل الآيات المشتملة على الروح عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ الروح خلق أعظم من جبرائيل و ميكائيل، و تقدّمت الرواية أيضاً عن عليّعليه‌السلام : أنّ الروح غير الملائكة و استدلّعليه‌السلام عليه بقوله تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) الآية.

نعم في رواية القمّيّ عن حمران أنّه ملك أعظم من جبرائيل و ميكائيل و كان مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو مع الأئمّةعليهم‌السلام ، و لعلّ المراد بالملك مطلق الموجود السماويّ أو هو من وهم بعض الرواة في النقل بالمعنى و لا دليل على انحصار الموجودات الأمريّة السماويّة في الملائكة بل الدليل على خلافه كما يستفاد من قوله تعالى لإبليس حين أبى عن السجود لآدم و قد سجد له الملائكة كلّهم أجمعون:( يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ ) ص: ٧٥ و قد تقدّمت الإشارة إلى ذلك في تفسير الآية.

و في اُصول الكافي، بإسناده عن محمّد بن الفضيل عن أبي الحسن الماضيعليه‌السلام قال قلت:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ ) الآية قال نحن و الله المأذون لهم يوم القيامة و القائلون صواباً. قلت: ما تقولون إذا تكلّمتم؟ قال: نمجّد ربّنا و نصلّي على نبيّنا و نشفع لشيعتنا و لا يردّنا ربّنا الحديث.

أقول: و رواه في المجمع، عن العيّاشيّ مرفوعاً عن معاوية بن عمّار عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

و الرواية من قبيل ذكر بعض المصاديق فهناك شفعاء اُخر من الملائكة و الأنبياء و المؤمنين مأذون لهم في التكلّم، و هناك شهداء من الاُمم مأذون لهم في التكلّم على ما ينصّ عليه القرآن و الحديث.

٢٧٧

( سورة النازعات مكّيّة و هي ستّ و أربعون آية)

( سورة النازعات الآيات ١ - ٤١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ( ١ ) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ( ٢ ) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا ( ٣ ) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا ( ٤ ) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ( ٥ ) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ( ٦ ) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ( ٧ ) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ( ٨ ) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ( ٩ ) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ ( ١٠ ) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً ( ١١ ) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ( ١٢ ) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ( ١٣ ) فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ ( ١٤ ) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ ( ١٥ ) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ( ١٦ ) اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ ( ١٧ ) فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ ( ١٨ ) وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ ( ١٩ ) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَىٰ ( ٢٠ ) فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ ( ٢١ ) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ ( ٢٢ ) فَحَشَرَ فَنَادَىٰ ( ٢٣ ) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ ( ٢٤ ) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ ( ٢٥ ) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ ( ٢٦ ) أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ( ٢٧ ) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ( ٢٨ ) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ( ٢٩ ) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا ( ٣٠ ) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ( ٣١ ) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ( ٣٢ ) مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ( ٣٣ ) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَىٰ ( ٣٤ ) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَىٰ ( ٣٥ )

٢٧٨

وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ ( ٣٦ ) فَأَمَّا مَن طَغَىٰ ( ٣٧ ) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ( ٣٨ ) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ ( ٣٩ ) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ ( ٤٠ ) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ ( ٤١ )

( بيان‏)

في السورة أخبار مؤكّد بوقوع البعث و القيامة، و احتجاج عليه من طريق التدبير الربوبيّ المنتج أنّ الناس سينقسمون يومئذ طائفتين أصحاب الجنّة و أصحاب الجحيم و تختتم السورة بالإشارة إلى سؤالهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن وقت قيام الساعة و الجواب عنه.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً وَ السَّابِحاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ) اختلف المفسّرون في تفسير هذه الآيات الخمس اختلافاً عجيباً مع اتّفاقهم على أنّها إقسام، و قول أكثرهم بأنّ جواب القسم محذوف، و التقدير اُقسم بكذا و كذا لتبعثنّ.

فقوله:( وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً ) قيل: المراد بها ملائكة الموت تنزع الأرواح من الأجساد، و( غَرْقاً ) مصدر مؤكّد بحذف الزوائد أي إغراقاً و تشديداً في النزع.

و قيل: المراد بها الملائكة الّذين ينزعون أرواح الكفّار من أجسادهم بشدّة، و قيل: هو الموت ينزع الأرواح من الأبدان نزعاً بالغاً.

و قيل: المراد بها النجوم تنزع من اُفق لتغيب في اُفق أي تطلع من مطالعها لتغرب في مغاربها، و قيل: المراد بها القسيّ تنزع بالسهم أي تمدّ بجذب وترها إغراقاً في المدّ فالإقسام بقسيّ المجاهدين في سبيل الله أو بالمجاهدين أنفسهم، و قيل: المراد بها الوحش تنزع إلى الكلإ.

و قوله:( وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً ) النشط الجذب و الخروج و الإخراج برفق و سهولة

٢٧٩

و حلّ العقدة، قيل: المراد بها الملائكة الّذين يخرجون الأرواح من الأجساد، و قيل المراد بها خصوص الملائكة يخرجون أرواح المؤمنين من أجسادهم برفق و سهولة، كما أنّ المراد بالنازعات غرقاً الملائكة الّذين ينزعون أرواح الكفّار من أجسادهم.

و قيل: هم الملائكة الّذين ينشطون أرواح الكفّار من أجسادهم، و قيل: المراد بها أرواح المؤمنين أنفسهم، و قيل: هي النجوم تنشط و تذهب من اُفق إلى اُفق، و قيل: هي السهام تنشط من قسيّها في الغزوات، و قيل: هو الموت ينشط و يخرج الأرواح من الأجساد، و قيل: هي الوحش تنشط من قطر إلى قطر.

و قوله:( وَ السَّابِحاتِ سَبْحاً ) قيل: المراد بها الملائكة تقبض الأرواح فتسرع بروح المؤمن إلى الجنّة و بروح الكافر إلى النار، و السبح الإسراع في الحركة كما يقال للفرس سابح إذا أسرع في جريه، و قيل: المراد بها الملائكة يقبضون أرواح المؤمنين يسلّونها من الأبدان سلاً رفيقاً ثمّ يدعونها حتّى يستريح كالسابح بالشي‏ء في الماء يرمي، و قيل: هي الملائكة ينزلون من السماء مسرعين، و قيل: هي النجوم تسبح في فلكها كما قال تعالى:( وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) .

و قيل: هي خيل الغزاة تسبح في عدوها و تسرع، و قيل: هي المنايا تسبح في نفوس الحيوان، و قيل: هي السفن تسبح في المياه، و قيل: السحاب، و قيل: دوابّ البحر.

و قوله:( فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً ) قيل المراد بها مطلق الملائكة لأنّها سبقت ابن آدم بالخير و الإيمان و العمل الصالح، و قيل ملائكة الموت تسبق بروح المؤمن إلى الجنّة و بروح الكافر إلى النار، و قيل الملائكة القابضون لروح المؤمن تسبق بها إلى الجنّة، و قيل، ملائكة الوحي تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء، و قيل أرواح المؤمنين تسبق إلى الملائكة الّذين يقبضونها شوقاً إلى لقاء الله سبحانه، و قيل هي النجوم تسبق بعضها بعضاً في السير، و قيل هي خيل الغزاة تسبق بعضها بعضاً في الحرب، و قيل: هي المنايا تسبق الآمال.

و قوله:( فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ) قيل: المراد بها مطلق الملائكة المدبّرين للاُمور، كذا فسّر الأكثرون حتّى ادّعى بعضهم اتّفاق المفسّرين عليه، و قيل المراد بها

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣٤١: -

[ المورد - (٥١) - نهيهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه عن جواب أبى سفيان في احد ]

كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نزل يوم احد بأصحابه - وهم سبعمائة - في عدوة الوادي، وجعل ظهره إلى الجبل، وكان المشركون ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة دارع ومائتا فارس، ومعهم خمسة عشر امرأة وفي المسلمين مائتا دارع وفارسان.

وتعبأ الجيشان للقتال، فاستقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة، وترك أحدا

٣٦١

خلف ظهره، وجعل وراءه الرماة وهم خمسون راميا، أمر عليهم عبدالله بن جبير وقال له: انضح عنا الخيل بالنبل لا يأتونا من خلفنا، واثبتوا مكانكم، ان كانت لنا، أو كانت علينا، فانا انما نؤتى من هذا الشعب شعب أحد(١) .

وخرج طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين ينادي: يا معشر أصحاب محمد انكم تزعمون ان يعجلنا بسيوفكم إلى النار، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة فهل أحد منكم يعجله سيفي إلى الجنة، ويعجلني سيفه إلى النار ؟

قال ابن الأثير في كامله: فبرز إليه علي بن أبي طالب فضربه فقطع رجله فسقط وانكشفت عورته، فناشده الله فتركه - لما به يخور بدمه حتى هلك - فكبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: كبش الكتيبة، وكبر المسلمون بتكبيره، وقال لعلي: ما منعك ان تجهز عليه ؟ فقال ناشدني الله والرحم فاستحييت منه. وصمد علي بعده لأصحاب اللواء يحمل عليهم فيقتلهم واحدا بعد واحد.

قال ابن الأثير وغيره: وقد كان المسلمون قتلوا أصحاب اللواء وبقي مطروحا لا يدنو منه أحد، فأخذته عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعته فاجتمعت قريش حوله، وأخذه صواب عبد لبني عبد الدار - كان من أشد الناس قوة - فقتل عليه (قال) وكان الذي قتل أصحاب اللواء علي بن أبي طالب، قاله أبو رافع.

واقتتل الناس قتالا شديدا. وأمعن حمزة وعلي وأبو دجانة في رجال من المسلمين وأبلوا بلاء حسنا، وأنزل الله نصره عليهم وكانت الهزيمة على المشركين، وهرب النساء مصعدات في الجبل، ودخل المسلمون عسكرهم ينهبون، فلما نظر بعض الرماة إلى اخوانهم ينهبون، آثروا النهب على البقاء في الشعب، ونسوا ما أمرهم به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وحضهم عليه. وحين رأى خالد بن الوليد قلة من بقي من الرماة حمل عليهم فقتلهم، وشد

____________________

(١) الشعب بالكسر ما انفرج بين الجبلين (منه قدس) (*).

٣٦٢

بمن معه على أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من خلفهم، وتبادر المنهزمون من المشركين حينئذ بنشاط مستأنف لقتال المسلمين حتى هزموهم بعد أن قتلوا سبعين من أبطالهم، فيهم أسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبدالمطلب وقاتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يومئذ قتالا شديدا، فرمى بالنبل حتى فني نبله وانكسرت سية قوسه، وانقطع وتره، وأصيب بجرح في وجنته، وآخر في جبهته وكسرت رباعيته السفلى، وشقت - بأبي هو وأمي - شفته، وعلاه ابن قمئة بالسيف.

وقاتل دونه علي، ومعه خمسة من الأنصار استشهدوا في الدفاع عنه رضي ‌الله‌ عنهم وأرضاهم، وترس أبو دجانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه، فكان يقع النبل بظهره وهو منحن عليه، وقاتل مصعب بن عمير فاستشهد، قتله ابن قمئة الليثي وهو يظنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فرجع إلى قريش يقول لهم: قتلت محمدا، فجعل الناس يقولون: قتل محمد، قتل محمد فأوغل المسلمون في الهرب على غير رشد، وكان أول من عرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كعب بن مالك، فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين ابشروا هذا رسول الله حي لم يقتل فأشار إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن أنصت(١) .

وحينئذ نهض علي بمن كان معه حتى خلصوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الشعب، فتحصن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله به، وهم يحوطونه مدافعين عنه.

قال ابن جرير وابن الأثير في تاريخيهما وسائر أهل الأخبار: فأبصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله - أي وهو في الشعب - جماعة من المشركين، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي: احمل عليهم، فحمل عليهم ففرقهم وقتل منهم، ثم أبصر جماعة أخرى، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : اكفنيهم يا علي فحمل عليهم وفرقهم وقتل منهم. فقال جبرائيل: يا رسول الله هذه المواساة، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انه مني وأنا منه. فقال

____________________

(١) مخافة أن يسمع العدو فيهجم عليه (منه قدس) (*).

٣٦٣

جبرائيل: وأنا منكما. (قالوا) وسمع صوت :

لا سيف إلا ذو الفقار

ولا فتى إلا علي(٤٨٥)

وجعل علي ينقل الماء لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في درقته من المهراس يغسل به جرح النبي فلم ينقطع الدم(١) .

ووقعت هند وصواحباتها على الشهداء يمثلن بهم، فاتخذت من آذان الرجال وآنافهم وأصابع أيديهم وأرجلهم ومذاكيرهم قلائد ومعاضد، وكانت أعطت وحشيا معاضدها وقلائدها جزاء قتلة حمزة فلاكتها فلم تسغها فلفظتها(٤٨٦) .

ثم أشرف أبو سفيان على المسلمين، فقال: أفي القوم محمد ؟ ثلاثا، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) : لا تجيبوه(٣) فقال أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر أقتلنا

____________________

(٤٨٥)

لا سيف الا ذو الفقار

ولا فتى الا على

راجع: فرائد السمطين للحمويني الشافعي ج ١ / ٢٥٧ ح ١٩٨، ترجمة الإمام على بن أبى طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي ج ١ / ١٤٨ ح ٢١٥، الكامل في التاريخ ج ٢ / ١٠٧، مناقب على بن أبى طالب لابن المغازلي ص ١٩٧، تذكرة الخواص للسبط بن الجوزي ص ٢٦، المناقب للخوارزمي ص ٢١٣ ط الحيدرية، السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ / ١٠٦، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج ١٤ / ٢٥١ وقد نقل تصحيحه عن شيخه عبد الوهاب ابن سكينة.

(١) حتى أحرقت سيدة نساء العالمين بعد ذلك حصيرا وجعلت على الجرح من رماده فانقطع الدم، وقد شهدت الواقعةعليها‌السلام فكانت تعانقه وهو مجروح وتبكي (منه قدس).

(٤٨٦) الكامل في التاريخ ج ٢ / ١١١، الدرجات الرفيعة ص ٦٦ - ٦٩، السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ / ٩٦ - ٩٧، السيرة الحلبية ج ٢ / ٢٤٦.

(٢) كما في غزوة احد من تاريخي ابن جرير وابن الأثير وطبقات ابن سعد والسيرتين الحلبية والدحلانية وكتاب البداية والنهاية لأبي الفداء وسائر الكتب المشتملة على غزوة أحد (منه قدس).

(٣) كأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن آمنا من أبى سفيان وأصحابه أن يشدوا عليه =>

٣٦٤

محمدا ؟ قال عمر: اللهم لا وانه ليسمع كلامك(٤٨٧) .

قلت: هذا محل الشاهد من هذه الحكاية إذ آثر رأيه في جواب أبي سفيان على نهي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إياهم عن جوابه كما ترى.

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣٤٦: -

[ المورد - (٥٢) -: التجسس مع النهى عنه ]

قال الله عزوجل:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ) (٤٨٨) .

وفي الصحيح عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إياكم والظن، فان الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا، ولا تناجشوا ولا تحاسد، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله اخوانا. الحديث(٤٨٩) .

لكن عمر رأى في أيام خلافته ان بالتجسس نفعا للأمة وصلاحا للدولة، فكان يعس ليلا، ويتجسس نهارا، حتى سمع هو يعس في المدينة صوت

____________________

=> إذا علموا ببقائه حيا، ولذلك نهاهم عن جوابه، وكأن عمر إذ أجابه لم يكن خائفا ولم يكن يرى لهذا الاحتياط وجها (منه قدس).

(٤٨٧) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ / ٤٧، الكامل لابن الأثير ج ٢ / ١١١، السيرة الحلبية ج ٢ / ٢٤٥.

(٤٨٨) سورة الحجرات: ١٢.

(٤٨٩) مجمع البيان ج ٩ / ١٣٧، صحيح مسلم ج ٨ / ١٠ ط العامرة، صحيح الترمذي ج ١ / ٣٥٩، صحيح البخاري ج ٣ / ٤٣١ وج ٤ / ١٢٨، مسند أحمد ج ٢ / ٢٤٥ و ٢٨٧ و ٢٦٥ و ٥١٧، الجامع الصغير ح ٢٩٠١، وصحيح الجامع الصغير ح ٢٦٧٦، أسنى المطالب ص ٩٨، الفتح الكبير ج ١ / ٤٩٠ (*).

٣٦٥

رجل يتغنى في بيته فسور عليه فوجد عنده امرأة وزقا من خمر، فقال: أي عدو الله ظننت ان الله يسترك وأنت على معصية، فقال لا تعجل يا أمير المؤمنين ان كنت اخطأت في واحدة، فقد اخطأت انت في ثلاث. قال الله تعالى:( وَلَا تَجَسَّسُوا ) فقد تجسست وقال:( وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ) وقد تسورت وقال:( فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا ) وما سلمت. فقال: هل عندك من خير ان عفوت عنك ؟. قال نعم. فعفا عنه وخرج(٤٩٠) .

وعن السدي قال: خرج عمر بن الخطاب فإذا هو بضوء نار ومعه عبدالله بن مسعود واتبع الضوء حتى دخل الدار، فإذا سراج في بيت، فدخل وحده وترك ابن مسعود في الدار، فإذا شيخ جالس وبين يديه شراب وقينة تغنيه، فلم يشعر حتى هجم عليه عمر، فقال: ما رأيت منظرا أقبح من شيخ ينتظر أجله فرفع الشيخ رأسه فقال: بلى صنيعك أنت أقبح مما رأيت مني، إذ تجسست وقد نهى الله عن التجسس، ودخلت بغير إذن، فقال عمر: صدقت ثم خرج عاضا على ثوبه يبكي.

وقال: ثكلت عمر أمه، إلى أن قال: وهجر الشيخ مجلس عمر حينا، فبينا عمر بعد ذلك جالس إذ به قد جاء شبه المستخفي حتى جلس في أخريات الناس فرآه عمر فقال: علي بهذا، فقيل له: أجب فقام وهو يرى ان عمر سيسوئه بما رأى منه. فقال عمر: ادن مني فلا زال يدنيه حتى

____________________

(٤٩٠) أخرجه الخرائطي في كتاب مكارم الأخلاق وهو الحديث ٣٦٩٦ من أحاديث الكنز في ص ١٦٧ من جزئه الثاني، وأورده ابن أبى الحديد في ص ٩٦ من المجلد الثالث من شرح نهج البلاغة، وذكره الغزالي في ص ١٣٧ من كتابه إحياء العلوم (منه قدس). الغدير للأميني ج ٦ / ١٢١، الرياض النضرة ج ٢ / ٤٦ ط ١، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج ١ / ٦١ وج ٣ / ٩٦ ط ١، الدر المنثور ج ٦ / ٩٣، الفتوحات الإسلامية ج ٢ / ٤٧٧ (*).

٣٦٦

أجلسه بجنبه، فقال: ادن مني اذنك فالتقم أذنه فقال له. والذي بعث محمدا بالحق ما أخبرت أحدا من الناس بما رأيت منك، ولا ابن مسعود فانه كان معي. (الحديث)(٤٩١) .

وعن الشعبي: ان عمر فقد رجلا من أصحابه، فقال لابن عوف: انطلق بنا إلى منزل فلان فننظر فأتيا منزله فوجدا بابه مفتوحا وهو جالس وامرأته تصب له في الإناء فتناوله أياه، فقال عمر لابن عوف: هذا الذي شغله عنا، فقال ابن عوف لعمر: وما يدريك ما في الإناء ؟. فقال عمر: أتخاف ان يكون هذا تجسسا ؟ قال: بل هو التجسس. قال: وما التوبة من هذا ؟. قال: لا تعلمه بما اطلعت عليه من أمره !. (الحديث)(٤٩٢) .

وعن المسور بن مخرمة، عن عبدالرحمن بن عوف: انه حرس المدينة مع عمر بن الخطاب ليلة فبينا هم يمشون شب لهم سراج في بيت فانطلقوا يؤمونه فلما دنوا منه فإذا باب مجاف - مغلق - على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولغط، فأخذ عمر بيد عبدالرحمن بن عوف فقال له: هذا بيت ربيعة بن أمية، وهم الآن يشربون الخمر فما ترى ؟. قال أرى انا قد أتينا ما نهى الله عنه إذ تجسسنا، فانصرف عنهم عمر وتركهم !(٤٩٣) .

____________________

(٤٩١) أخرجه أبو الشيخ في كتاب القطع والسرقة، ونقله صاحب كنز العمال في ص ١٤١ من جزئه الثاني وهو الحديث ٣٣٥٤ (منه قدس).

(٤٩٢) أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر وهو الحديث ٣٦٩٤ في ج ٢ من الكنز (منه قدس).

(٤٩٣) أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد والخرائطي في مكارم الأخلاق وهو الحديث ٣٦٩٣ من أحاديث الكنز في الجزء المتقدم ذكره. وأخرجه الحاكم أيضا وصححه في باب النهى عن التجسس من كتاب الحدود صفحة ٣٧٧ من الجزء الرابع من المستدرك =>

٣٦٧

وعن طاووس: ان عمر خرج ليلة فمر ببيت فين ناس يشربون فناداهم أفسقا ؟ أفسقا ؟ فقال بعضهم: قد نهاك الله عن هذا، فرجع عمر وتركهم !(٤٩٤) .

وعن أبي قلابة: ان عمر حدث ان أبا محجن الثقفي يشرب الخمر في بيته هو وأصحابه فانطلق عمر حتى دخل عليه، فقال أبو محجن: يا أمير المؤمنين ان هذا لا يحل لك قد نهاك الله عن التجسس، أفسأل عمر زيد بن ثابت وعبد الرحمن بن الأرقم فقالا: صدق يا أمير المؤمنين فخرج عمر وتركه !(٤٩٥)

قلت: من تتبع ما جاء من الأخبار حول تجسسه رأى من نشاطه في سياسته وعزائمه المبذولة في سبيلها ما هو ماثل بأجلى المظاهر(٤٩٦) .

وكأنه (رض) كان يرى أن الحدود الشرعية تدرأ بخطأ الحاكم في طريق اثباتها، ولذلك لم يقم على واحد من هؤلاء المجرمين حدا، بل لم يؤذ منهم أحدا، وما ندري كيف رضي أن لا يكون لتجسسه أثر، إلا تمرد المجرمين في إجرامهم، بعد أن رأو هذا التسامح من أمامهم ؟ !.

____________________

=> أورده الذهبي في تلخيصه مصرحا بصحته (منه قدس). الغدير للأميني ج ٦ / ١٢٢، سنن البيهقي ج ٨ / ٣٣٤، الإصابة ج ١ / ٥٣١، الدر المنثور ج ٦ / ٩٣، السيرة الحلبية ج ٣ / ٢٩٣، الفتوحات الإسلامية ج ٢ / ٤٧٦.

(٤٩٤) (٤٩٥) هذا الحديث وحديث طاووس موجودان في ج ٢ / ١٤١ من كنز العمال (منه قدس). مجمع البيان ج ٩ / ١٣٥.

(٤٩٦) الغدير للأميني ج ٦ / ١٢١، مجمع البيان ج ٩ / ١٣٥ (*).

٣٦٨

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣٤٩: -

[ المورد - (٥٣) - تشريع حد لمهور النساء ]

يجب في المهر أن يكون مما يملكه المسلم، عينا كان أم دينا، أم منفعة، وتقديره راجع إلى الزوجين فيما يتراضيان عليه، كثيرا كان أم قليلا، ما لم يخرج بسبب القلة عن المالية كحبة من طعام مثلا، نعم يستحب في جانب الكثرة أن لا يزيد على مهر السنة وهو خمسمائة درهم(٤٩٧) .

وكان عمر (رض) عزم على النهي عن الغلو في مهور النساء، تسهيلا لأمر التناكح الذي به التناسل، وبه صون الاحداث عن الحرام وأن من تزوج أحرز ثلثي دينه(٤٩٨)

فقام في بعض أيامه خطيبا في هذا المعنى، فكان مما قاله في خطابه: لا يبلغني ان امرأة تجاوز صداقها صداق زوجات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الا أرجعت ذلك منها. فقامت إليه امرأة فقالت: والله ما جعل الله ذلك لك، انه يقول:( وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ) (٤٩٩) فعدل عن حكمه قائلا: الا تعجبون من إمام أخطأ وامرأة أصابت ؟ ! ناضلت إمامكم فنضلته(٥٠٠) .

وفي رواية(١) انه قال: كل أحد أعلم من عمر، تسمعونني أقول مثل

____________________

(٤٩٧) الوسائل باب - ٢ - من أبواب المهور ح ١، جواهر الكلام ج ٣١ / ٣ و ١٤ و ١٥، الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٨ / ١٦١ ط بيروت.

(٤٩٨) مستدرك الوسائل ك النكاح باب - ١ - من أبواب مقدمات النكاح ح ٢ و ٣، الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية ج ٥ / ٨٦.

(٤٩٩) سورة النساء آية: ٢٠.

(٥٠٠) رواه بهذه الألفاظ كثير من حفظة السنن وسدنة الآثار، وأرسله ابن أبى الحديد في أحوال عمر ص ٩٦ من المجلد الثالث من شرح النهج - إرسال المسلمات (منه قدس). وراجع: الغدير للأميني ج ٦ / ٩٨، وشرح النهج الحديدي ج ١ / ٦١ وج ٣ / ٩٦ ط ١.

(١) ذكرها الزمخشري في تفسير: وآتيتم إحداهن قنطارا من سورة النساء في كشافه (منه قدس) (*).

٣٦٩

هذا القول فلا تنكرونه علي حتى ترد علي امرأة ليست أعلم من نسائكم ؟ !(٥٠١) .

وفي رواية أخرى(١) فقامت امرأة فقالت: يابن الخطاب الله يعطينا وأنت تمنع وتلت هذه الآية، فقال عمر: كل الناس أفقه من عمر ورجع عن حكمه(٥٠٢) .

قلت: استدلوا بهذه الواقعة وأمثالها على إنصافه واعترافه، وكم له من قضايا مع الخاصة والعامة من رجال ونساء تمثل له الإنصاف والاعتراف و كان إذا أعجبه القول أو الفعل يستفزه العجب، وربما ظهر عليه الطرب.

كما اتفق له مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد سئل عن أشياء كرهها، فيما أخرجه البخاري عن أبي موسى الأشعري إذ قال: سئل النبي عن أشياء كرهها لكونها

____________________

(٥٠١) الغدير للأميني ج ٦ / ٩٧، الكشاف للزمخشري ج ١ / ٣٥٧ وفى طبع آخر ج ١ / ٥١٤، شرح صحيح البخاري للقسطلاني ج ٨ / ٥٧.

(١) ذكرها الرازي في تفسير الآية آخر ص ١٧٥ من الجزء الثالث من تفسيره الكبير، وله ثمة عثرة لليدين وللفم، إذ قال: وعندي ان الآية لا دلالة فيها على جواز المنالاة. إلى آخر كلامه الملتوي عن الفهم الذي أراد به تخطثه المرأة دفاعا عن عمر وقد زاد في طينته بلة من حيث لا يدرى، فليراجع الباحثون كلامه ليعجبوا من أسفافه، وفى ص ١٥٠ من تاريخ عمر بن الخطاب لأبي الفرج ابن الجوزي حديث عن عبدالله ابن مصعب وآخر عن ابن الاجدع يتضمنان خطاب عمر في نهيه عن الغلو في مهور النساء ورد المرأة عليه بما ألزمه بالرجوع عما نهى عنه معترفا بخطأه وصواب المرأة (منه قدس).

(٥٠٢) الغدير للأميني ج ٦ / ٩٨، تفسير القرطبي ج ٥ / ٩٩، تفسير النيسابوري ج ١، تفسير الخازن ج ١ / ٣٥٣، الفتوحات الإسلامية ج ٢ / ٤٧٧ وزاد فيه: حتى النساء. وهناك روايات أخرى من أراد الاطلاع عليها مع مصادرها فاليراجعها في الغدير ج ٦ / ٩٥ وما بعدها. (*)

٣٧٠

مما لا يعنى العقلاء بها، ولا هي مما بعث الأنبياء لبيانها، فلما أكثروا عليه غضب لتعنتهم في السؤال، وتكلمهم فيما لا حاجة لهم به، ثم قال للناس. سلوني، كأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله رآهم فشلوا أو خجلوا حيث أغضبوه فتبسط لهم بقوله: سلوني، رأفة بهم ورحمة، فقال رجل هو عبدالله بن حذافة: من أبي يا رسول الله ؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : أبوك حذافة، فقام آخر وهو سعد بن سالم فقال: من أبي يا رسول الله ؟. فقال: أبوك سالم مولى أبي شيبة.

وكان سبب هذا السؤال منهما طعن الناس في نسبيهما، فلما رأى عمر ما في وجه رسول الله من الغضب قال: يا رسول الله انا نتوب إلى الله عزوجل مما يوجب غضبك اه‍. وسره من رسول الله الحاق عبدالله بحذافة، والحاق سعد بسالم تصديقا لاميهما في نسبيهما.

وفي صحيح البخاري أيضا عن أنس بن مالك ان عبدالله بن حذافة سأل رسول الله فقال له: من أبي ؟. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : أبوك حذافة.

وفي صحيح مسلم: انه كان يدعى لغير أبيه، فلما سمعت أمه سؤاله هذا، قالت: ما سمعت بابن أعق منك أأمنت أن تكون أمك قارفت ما يقارف نساء الجاهلية فتفضحها على أعين الناس. فبرك عندها عمر على ركبتيه أمام رسول الله فقال معجبا بتصديق النبي لام عبدالله ابن حذافة في نسبه: رضينا بالله ربا، وبالاسلام دينا وبمحمد نبيا.(٥٠٣)

قالها طربا بسترهصلى‌الله‌عليه‌وآله على كثير من الأمهات المفارقات في الجاهلية وقد جب الإسلام ما قبله.

____________________

(٥٠٣) تجد هذا الحديث في باب من برك على ركبتيه عند الإمام أو المحدث، وتجد قبله حديث أبى موسى في أواخر كتاب العلم صفحة ١٩ من الجزء الأول من صحيح البخاري (منه قدس). صحيح مسلم. (*)

٣٧١

[ المورد - (٥٤) - استبدال الحد الشرعي بأمر آخر يختاره الحاكم ]

وذلك ان غلمة الحاطب بن بلتعة، اشتركوا في سرقة ناقة لرجل من مرينة فجي بهم إلى عمر فأقروا، فأمر عمر كثير بن الصلت ان يقطع أيديهم، فلما ولي بهم ردهم عمر إليه ثم استدعى ابن مولاهم وهو عبدالرحمن بن حاطب فقال له: أما والله لولا انكم تستعملونهم وتجيعونهم لقطعت أيديهم. وأيم الله إذ لم أفعل، لاغرمتك غرامة توجعك إلى آخر ما كان من هذه الواقعة فلتراجع في ص ٣٢ والتي بعدها من الجزء الثالث من أعلام الموقعين.

ونقلها عنه العلامة المعاصر أحمد أمين في ص ٢٨٧ من (فجر الإسلام). وأشار إليها ابن حجر العسقلاني في ترجمة عبدالرحمن بن حاطب، حيث أورده في القسم الثاني من الإصابة فقال: وله قضية مع عمر(٥٠٤) .

قلت: لعل ما فعله عمر من درء الحد عن هؤلاء الغلمة وجها، وذلك حيث لا تكون السرقة الا عن مخمصة اضطرتهم إليها بقيا على رمقهم ليكونوا ممن عناهم الله عزوجل بقوله:( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) (٥٠٥) .

لكنهم أقروا بالسرقة فثبتت عليهم ولم يدعوا الضرورة الملجئة إليها، ولو فرض انهم ادعوها، لكان على الحاكم ان يطالبهم بما يثبتها، لكنا لم نر منه سوى أنه وسعهم باشفاقه مشتدا على ابن حاطب، وما ندري من أين علم انهم كانوا يجيعونهم هذا الجوع ؟.

____________________

(٥٠٤) وقريب من هذا ما وقع منه مع المغيرة بن شعبة وذلك لما زنى المغيرة بام جميل فدرأ عنه الحد. راجع تفصيل القضية في كتاب الغدير ج ٦ / ١٣٧ - ١٤٤.

(٥٠٥) سورة البقرة آية: ١٧٣ (*).

٣٧٢

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣٥٣: -

[ المورد - (٥٥) - اخذ الدية حيث لم تشرع ]

وذلك ان أبا خراش الهذلي الصحابي الشاعر، أتاه نفر من أهل اليمن قدموا عليه حجاجا، فأخذ قربته وسعى نحو الماء تحت الليل حتى استقى لهم ثم أقبل صادرا فنهشته حية قبل ان يصل إليهم، فأقبل مسرعا حتى أعطاهم الماء وقال: اطبخوا شاتكم وكلوا. ولم يعلمهم ما أصابه، فباتوا على شأنهم يأكلون حتى أصبحوا، وأصبح أبوخراش وهو في الموتى، فلم يبرحوا حتى دفنوه وقال وهو يموت في شعر له :

لقد أهلكت حية بطن واد

على الاخوان ساقا ذات فضل

فما تركت عدوا بين بصرى

إلى صنعاء يطلبه بذحل

فبلغ خبره عمر بن الخطاب فغضب غضبا شديدا وقال: لولا ان تكون سنة لأمرت ان لا يضاف يماني أبدا، ولكتبت بذلك إلى الافاق. ثم كتب إلى عامله باليمن ان يأخذ النفر الذين نزلوا على أبي خراش الهذلي فيلزمهم ديته ويؤذيهم بعد ذاك بعقوبة يمسهم بها جزاء لفعلهم ! ؟(٥٠٦) .

[ المورد -(٥٦) - اقامة حد الزنى حيث لم يثبت مقتضيه ]

وذلك فيما أخرجه ابن سعد في أحوال عمر ص ٢٠٥ من الجزء الثالث

____________________

(٥٠٦) هذه القضية أوردها ابن عبد البر في أحوال أبى خراش الهذلى من كتابه الاستيعاب وأورده الدميري في حياة الحيوان بمادة حية (منه قدس)

٣٧٣

من طبقاته(١) بسند معتبر، أن بريدا قدم على عمر فنثر كنانته، فبدرت صحيفة فأخذها فقرأها فإذا فيها :

ألا أبلغ أبا حفص رسولا

فدا لك من أخي ثقة ازاري

قلائصنا هداك الله انا

شغلنا عنكم زمن الحصار

فما قلص وجدن معقلات

قفا سلع بمختلف البحار

قلائص من بني سعد بن بكر

وأسلم أو جهينة أو غفار

يعقلهن جعدة من سليم

معيدا يبتغي سقط العذار

فقال: ادعوا لي جعدة من سليم. [ قال ] فدعوا به فجلده مائة معقولا ونهاه ان يدخل على امرأة مغيبة. انتهى بلفظ ابن سعد(٥٠٧) .

قلت: لا وجه لإقامة الحد هنا بمجرد هذه الأبيات، إذ لم يعرف قائلها ولا مرسلها، على انها لا تتضمن سوى استعداء الخليفة على جعدة بدعوى انه تجاوز الحد مع فتيات من بني سعد ابن بكر، وسلم، وجهينة، وغفار، فكان يعبث بهن فيعقلهن كما تعقل القلص، يبتغي بذلك سقط عذارهن، أي سقط الحياء والحشمة، هذا كل ما في الأبيات مما نسب إلى جعدة. وهو لو ثبت شرعا لا يوجب بمجرده إقامة الحد، نعم يوجب تربيته وتعزيره.

ولعل ما فعله الخليفة انما كان من هذا الباب. وشتان ما كان منه هنا، وما كان منه مع المغيرة بن شعبة مما ستسمعه قريبا ان شاء الله.

[ المورد - (٥٧) - درؤه الحد عن المغيرة بن شعبة ]

وذلك حيث فعل المغيرة (مع الإحصان) ما فعل مع أم جميل بنت عمرو

____________________

(١) وأخرجه ابن عساكر في تاريخه، وذكر جلده ونفيه إلى عمان (منه قدس).

(٥٠٧) الطبقات الكبرى ج ٢ / ٢٨٥ ط دار صادر. (*)

٣٧٤

امرأة من قيس في قضية هي من أشهر الوقائع التاريخية في العرب، كانت سنة ١٧ للهجرة لا يخلو منها كتاب يشتمل على حوادث تلك السنة، وقد شهد عليه بذلك كل من أبي بكرة - وهو معدود في فضلاء الصحابة وحملة الآثار النبوية - ونافع بن الحارث - وهو صحابي أيضا - وشبل بن معبد، وكانت شهادة هؤلاء الثلاثة صريحة فصيحة بأنهم رأوه يولجه فيها ايلاج الميل في المكحلة لا يكنون ولا يحتشمون، ولما جاء الرابع - وهو زياد بن سمية - ليشهد، أفهمه الخليفة رغبته في ان لا يخزي المغيرة، ثم سأله عما رآه فقال: رأيت مجلسا وسمعت نفسا حثيثا وانتهازا، ورأيته مستبطنها. فقال عمر: أرأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة ؟. فقال لا لكن رأيته رافعا رجليها فرأيت خصيتيه تتردد إلى ما بين فخذيها، ورأيت حفزا شديدا، وسمعت نفسا عاليا. فقال عمر: رأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة ؟. فقال: لا. فقال عمر: الله أكبر قم يا مغيرة إليهم فاضربهم. فقام يقيم الحدود على الثلاثة.

واليكم تفصيل هذه الواقعة بلفظ القاضي أحمد الشهير بابن خلكان في كتابه - وفيات الأعيان - إذ قال ما هذا لفظه: وأما حديث المغيرة بن شعبة والشهادة عليه، فان عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه كان قد رتب المغيرة أميرا على البصرة، وكان يخرج من دار الإمارة نصف النهار، وكان أبو بكرة يلقاه فيقول: أين يذهب الامير ؟. فيقول: في حاجة. فيقول: ان الأمير يزار ولا يزور.

[ قال ]: وكان يذهب إلى امرأة يقال لها أم جميل بنت عمرو وزوجها الحجاج بن عتيك بن الحارث بن وهب الجشمي، ثم ذكر نسبها، ثم روى عن أبا بكرة بينما هو في غرفته مع اخوته، وهم نافع، وزياد، وشبل بن معبد أولاد سمية فهم اخوة لام، وكانت أم جميل المذكورة في غرفة أخرى قبالة هذه الغرفة فضرب الريح

٣٧٥

باب غرفة أم جميل ففتحه ونظر القوم فإذا هم بالمغيرة مع المرأة على هيئة الجماع، فقال أبو بكرة: بلية قد ابتليتم بها فانظروا فنظروا حتى أثبتوا فنزل أبو بكرة فجلس حتى خرج عليه المغيرة فقال له: ان كان من أمرك ما قد علمت فاعتزلنا.

(قال) وذهب المغيرة ليصلي بالناس الظهر ومضى أبو بكرة. فقال أبو بكرة: لا والله لا تصل بنا وقد فعلت ما فعلت. فقال الناس: دعوه فليصل فانه الأمير واكتبوا بذلك إلى عمررضي‌الله‌عنه ، فكتبوا إليه فأمرهم ان يقدموا عليه جميعا، المغيرة والشهود، فلما قدموا عليه جلس عمررضي‌الله‌عنه ، فدعا بالشهود والمغيرة، فتقدم أبو بكرة فقال له: رأيته بين فخذيها ؟ قال: نعم والله لكأني انظر إلى تشريم جدري بفخذيها، فقال له المغيرة ألطف النظر ؟

فقال أبو بكرة: لم آل ان اثبت ما يخزيك الله به.

فقال عمررضي‌الله‌عنه : لا والله حتى تشهد لقد رأيته يلج فيه ايلاج المرود في المكحلة.

فقال: نعم أشهد على ذلك.

فقال: اذهب مغيرة ذهب ربعك. ثم دعا نافعا فقال له: على م تشهد ؟

قال على مثل ما شهد أبو بكرة.

قال: لا حتى تشهد انه ولج فيها ولوج الميل في المكحلة.

قال: نعم حتى بلغ قذذة

فقال له عمررضي‌الله‌عنه : اذهب مغيرة قد ذهب نصفك.

ثم دعا الثالث فقال له: على م تشهد ؟

فقال: على مثل شهادة صاحبي فقال له عمر اذهب مغيرة فقد ذهب ثلاثة أرباعك.

ثم كتب إلى زياد وكان غائبا وقدم فلما رآه جلس له في المسجد واجتمع عنده رؤس المهاجرين والأنصار، فلما رآه مقبلا قال: الي أرى رجلا لا يخزي الله على لسانه رجلا من المهاجرين، ثم ان عمررضي‌الله‌عنه رفع رأسه إليه فقال ما عندك يا سلح الحبارى ؟ فقيل ان المغيرة قام إلى زياد. فقال: لا مخبأ لعطر بعد عروس.

٣٧٦

فقال له المغيرة: يا زياد اذكر الله تعالى واذكر موقف يوم القيامة فان الله تعالى وكتابه ورسوله وأمير المؤمنين قد حقنوا دمي الا ان تتجاوز إلى ما لم تر مما رأيت فلا يحملنك سوء منظر رأيته على أن تتجاوز إلى ما لم تر فوالله لو كنت بين بطني وبطنها ما رأيت أن يسلك ذكري فيها.

قال: فدمعت عينا زياد واحمر وجهه وقال: يا أمير المؤمنين أما ان أحق ما حقق القوم فليس عندي، ولكن رأيت مجلسا وسمعت نفسا حيثيا وانتهازا ورأيته مستبطنها.

فقال له عمررضي‌الله‌عنه : رأيته يدخله ويولجه كالميل في المكحلة

فقال: لا.

وقيل قال زياد: رأيته رافعا رجليها فرأيت خصيتيه تردد ما بين فخذيها ورأيت حفزا شديدا وسمعت نفسا عاليا.

فقال عمررضي‌الله‌عنه . رأيته يدخله ويولجه كالميل في المكحلة.

فقال لا، فقال عمر: الله اكبر قم يا مغيرة إليهم فاضربهم فقال إلى أبي بكرة فضربه ثمانين وضرب الباقين، وأعجبه قول زياد ودرأ الحد عن المغيرة.

فقال أبو بكرة بعد أن ضرب: أشهد أن المغيرة فعل كذا وكذا.

فهم عمر ان يضربه حدا ثانيا، فقال له على بن أبي طالب: ان ضربته فارجم صاحبك فتركه واستناب عمر أبا بكرة فقال: انما تستتبني لتقبل شهادتي. فقال: أجل. فقال: لا أشهد بين اثنين ما بقيت في الدنيا، فلما ضربوا الحد قال المغيرة: الله أكبر الحمد لله الذي أخزاكم. فقال عمررضي‌الله‌عنه : اخزى الله مكانا رأوك فيه.

(قال) وذكر عمر بن شيبة في كتاب أخبار البصرة ان أبا بكرة لما جلد أمرت أمه بشاة فذبحت وجعل جلدها على ظهره. فكان يقال: ما كان ذاك الا من ضرب شديد.

(قال) وحكى عبدالرحمن بن أبي بكرة: ان أباه حلف لا يكلم زيادا ما

٣٧٧

عاش، فلما مات أبو بكرة كان قد أوصى ان لا يصلى عليه الا أبوبرزة الاسلمي وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله آخى بينهما، وبلغ ذلك زيادا فخرج إلى الكوفة، وحفظ المغيرة بن شعبة ذلك لزياد وشكره. ثم ان أم جميل وافت عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه بالموسم والمغيرة هناك، فقال له عمر: أتعرف هذه المرأة يا مغيرة ؟ فقال: نعم هذه أم كلثوم بنت على. فقال عمر: أتتجاهل علي والله ما أظن أبا بكرة كذب فيما شهد عليك، وما رايتك الا خفت أن أرمي بحجارة من السماء.

(قال) ذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في أول باب عدد الشهور في كتابه المهذب: وشهد على المغيرة ثلاثة أبو بكرة، ونافع، وشبل بن معبد.

(قال) وقال زياد: رأيت استأ تنبو ونفسا يعلو ورجلين كأنهما اذنا حمار ولا أدري ما وراء ذلك فجلد عمر الثلاثة ولم يحد المغيرة.

(قال) قلت: وقد تكلم الفقهاء على قول عليرضي‌الله‌عنه لعمر: ان ضربته فارجم صاحبك. فقال أبو نصر بن الصباغ: يريد ان هذا القول ان كان شهادة أخرى فقد تم العدد، وان كان هو الأولى فقد جلدته عليه والله أعلم. انتهت هذه المأساة وما إليها بلفظ القاضي ابن خلكان عينا فراجعه في ترجمة يزيد بن زياد الحميري من الجزء الثاني من وفيات الأعيان المنتشرة(٥٠٨) .

وأخرج الحاكم هذه القضية في ترجمة المغيرة ص ٤٤٩ والتي بعدها من الجزء الثالث من صحيحه المستدرك، وأوردها الذهبي في تلخيص المستدرك أيضا، وأشار إليها مترجمو كل من المغيرة، وأبي بكرة، ونافع، وشبل بن

____________________

(٥٠٨) وفيات الأعيان ج ٢ / ٤٥٥ (*).

٣٧٨

معبد، ومن أرخ حوادث سنة ١٧ للهجرة من أهل الأخبار(٥٠٩) .

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٣٥٩: -

[ المورد - (٥٨) - تشدده على جبلة بن الايهم ]

وذلك انه وفد عليه في خمسمائة من فرسان عك وجفنة، تخب بهم مطهماتهم العربية، وعليهم الوشي المنسوج بالذهب والفضة، وفي - مقدمتهم جبلة وعلى رأسه تاجه وفيه قرط جدته مارية فاسلموا جميعا، وفرح المسلمون بهم وبمن وراءهم من أتباعهم فرحا شديدا، وحضر جبلة بأصحابه الموسم من عامهم ذاك مع الخليفة، فبينا جبلة يطوف بالبيت إذ وطأ ازاره رجل من فزارة فحله فلطمه جبلة، فاستعدى الفزاري عمر، فأمر عمر جبلة أن يقيده من نفسه أو يرضيه، وضيق عليه في ذلك حتى بلغ اليأس، فلما جنه الليل خرج بأصحابه فأتوا القسطنطينية فتنصروا جميعا مرغمين، وقد نالهم ثمة من الخطوة بهرقل ومن العز والابهة فوق ما يتمنون(٥١٠) وكان جبلة مع هذا كله يبكي أسفا على ما فاته من دين الإسلام.

وهو القائل :

____________________

(٥٠٩) الأغاني لأبي الفرج الاصبهاني ج ١٤ / ١٤٦، الغدير للأميني ج ٦ / ١٣٧ - ١٤٤ و ٢٧٤، فتوح البلدان للبلاذري ص ٣٥٢، تاريخ الطبري ج ٤ / ٢٠٧، الكامل لابن الأثير ج ٢ / ٣٧٨، البداية والنهاية لابن كثير ج ٧ / ٨١، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج ٣ / ١٦١ ط ١ وج ١٢ / ٢٣١ - ٢٣٩ ط بتحقيق أبو الفضل، عمدة القاري ج ٦ / ٢٤٠، سنن البيهقي ج ٨ / ٢٣٥.

(٥١٠) كما فصله ابن عبد ربه الأندلسي حيث ذكر وفود جبلة على عمر في كتابه - الجمانة - في الوفود صفحة ١٨٧ من الجزء الأول من عقده الفريد. وتجد أيضا في صفحة ٦٢ من الجزء الأول من كتاب الدروس العربية للمدارس الثانوية المطبوع في مطبعة الكشاف ببيروت نقلا عن الأغاني لأبي الفرج الاصفهانى (منه قدس). وكذلك تغريبه: ربيعة بن أمية بن خلف إلى خيبر ثم دخل أرض الروم وارتد. راجع: الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٣ / ٢٨٢ (*).

٣٧٩

تنصرت الاشراف من أجل لطمة

وما كان فيها لو صبرت لها ضرر

تكنفني منها لجاج ونخوة

وبعت لها العين الصحيحة بالعور

فياليت أمي لم تلدني وليتني

رجعت إلى القوم الذي قال لي عمر

ويا ليتني ارعى المخاض بقفرة

وكنت أسيرا في ربيعة أو مضر

قلت: ليت الخليفة لم يحرج هذا الأمير العربي وقومه ولو ببذل كل ما لديه من الوسائل إلى رضا الفزاري من حيث لا يدري ذلك الأمير أو من حيث يدري، وهيهات أن يفعل عمر ذلك. انه أراد أن يقود جبلة في أول بادرة تبدر منه ببرة(١) الصغار، فيجدع أنف عزه، وهذه سيرته مع كل عزيزي الجانب منيعي الحوزة كما يعلمه متتبعو سيرته من أولي الألباب.

وقد مر عليك تشدده على خالد وهو من أخواله. وشتان بين يوميه، يومه مع صاحبه المغيرة إذ درأ عنه حد الزنى محصنا كما سمعته آنفا، ويومه مع خالد إذ أصر على رجمه ولولا أبو بكر لرجم، كما سمعته أيضا، فان قوة شكيمة خالد واعتداده بنفسه أوجبا شدة وطأة عمر عليه، كما ان شمم جبلة وعزة نفسه أوجبا ذلك عليه أيضا، بخلاف المغيرة فانه كان - مع دهائه ومكره وحيله - أطوع لعمر من ظله، وأذل من نعله، ولذلك استبقاه مع فجوره.

وكانت سياسته تقتضي إرهاب الرعية بالتشدد على من كان عزيزا كجبلة وخالد، وربما أرهبهم بالوقيعة بذوي رحمه كما فعله بابنه أبي شحمة وبأم فروة أخت أبي بكر وبمن لا فائدة له به ممن لا يكون في عير السياسة ولا في نفيرها، كما فعله بجعدة السلمي، وضبيع التميمي، ونصر بن حجاج، وابن

____________________

(١) البرة حلقة من صفر أو نحوه توضع في أنف الجمل الشرود، فيربط بها حبل يقاد به ذلك الجمل (منه قدس) (*).

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568