الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن10%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 220006 / تحميل: 7018
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

كما أن من الطبيعي أن يثير دهشتهم، ويذهلهم.. بعد أن لم يكن بينهم رجالات كفاة، يدركون ألاعيب السياسة، ودهاء ومكر الرجال. وقد عبر عن دهشتهم هذه نفس الخليفة الذي اختاروه، واستعاضوا به عن المأمون. فلقد قال ابن شكلة معاتبا العباسيين:

فـلا جزيت بنو العباس خيراً

على رغمي ولا اغتبطت بري

أتـوني مـهطعين، وقد أتاهم

بـوار الـدهر بالخبر الجلي

وقد ذهل الحواضن عن بنيها

وصـد الثدي عن فمه الصبي

وحـل عصائب الأملاك منها

فـشدت فـي رقاب بني علي

فضجت أن تشد على رؤوس

تـطالبها بـميراث النبي(١)

ب ـ ولكن دهشتهم وغضبهم لا قيمة لهما، في جانب ذهاب الخلافة عنهم بالكلية، وسفك دمائهم.. وقد أوضح لهم ذلك في رسالة منه إليهم، حيث قال: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى، بعد استحقاق منه لها في نفسه، فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم.). والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.

وقريب من ذلك ما جاء في وثيقة العهد، مخاطباً (أهل بيت أمير المؤمنين) حيث قال لهم: (.. راجين عائدته في ذلك (أي في البيعة للرضاعليه‌السلام ) في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم، ولم شعثكم، وسد ثغوركم.) فليغضبوا إذن قليلاً، فإنهم سوف يفرحون في نهاية الأمر كثيراً، وذلك عندما يعرفون الأهداف الحقيقية، التي كانت تكمن وراء تلك اللعبة، وأنها لم تكن إلا من أجل الإبقاء عليهم، واستمرار وجودهم في الحكم، والقضاء على أخطر خصومهم، الذين لن يكون الصدام المسلح معهم في صالحهم، إنهم دون شك عندما تؤتي تلك اللعبة ثمارها سوف يشكرونه، ويعترفون له بالجميل، ويعتبرون أنفسهم مدينين له مدى الحياة، ولسوف يذكرون دائما قوله لهم في رسالته المشار إلها آنفاً: (.. فإن تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم (يعني للعلويين) عاقبة ومنفعة، فإني في تدبيركم، والنظر لكم، ولعقبكم، ولأبنائكم من بعدكم.).

____________

(١) التنبيه والإشراف ص ٣٠٣، والولاة والقضاة للكندي ص ١٦٨.

١٨١

ومضمون هذه العبارة بعينه ـ تقريباً ـ قد جاء في وثيقة العهد، حيث قال فيها، موجها كلامه للعباسيين، رجاء أن يلتفتوا لما يرمي إليه من لعبته تلك.. فبعد أن طلب منهم بيعة منشرحة لها صدورهم ـ قال ـ: (.. عالمين بما أراد أمير المؤمنين بها، وآثر طاعة الله، والنظر لنفسه، ولكم فيها، شاكرين الله على ما ألهم أمير المؤمنين، من قضاء حقه في رعايتكم، وحرصه على رشدكم، وصلاحكم، راجين عائدته في ذلك في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم إلخ. ما قومناه..).

لا شك أنه إذا غضب عليه العباسيون، فإنه يقدر على إرضائهم في المستقبل، (وقد حدث ذلك بالفعل) عندما يطلعهم على حقيقة نواياه، ومخططاته، وأهدافه، ولكنه إذا خسر مركزه، وخلافته، فإنه لا يستطيع ـ فيما بعد ـ أن يستعيدها بسهولة، أو أن يعتاض عنها بشيء ذي بال.

ج ـ: إن من الإنصاف هنا أن نقول: إن اختيار المأمون للرضاعليه‌السلام ولياً للعهد، كان اختياراً موفقاً للغاية، كما سيتضح، وإنه لخير دليل على حنكته ودهائه، وإدراكه للأسباب الحقيقية للمشاكل التي كان يواجهها المأمون، ويعاني منها ما يعاني.

د ـ: إن من الأمور الجديرة بالملاحظة هنا هو أن اختيار المأمون لولي عهده، الذي لم يقبل إلا بعد التهديد بالقتل.. كان ينطوي في بادئ الرأي على مغامرة لا تنسجم مع ما هو معروف عن المأمون من الدهاء والسياسة، إذا ما أخذت مكانة الإمامعليه‌السلام ، ونفوذه بنظر الاعتبار، سيما مع ملاحظة: أنه هو الذي كان يشكل أكبر مصدر للخطر على المأمون، ونظام حكمه، حيث إنه كان يحظى بالاحترام والتقدير، والتأييد الواسع في مختلف الفئات والطبقات في الأمة الإسلامية.

ولكننا إذا دققنا الملاحظة نجد أن المأمون لم يقدم على اختيار الإمام وليا للعهد، إلا وهو على ثقة من استمرار الخلافة في بني أبيه، حيث كان الإمامعليه‌السلام يكبره بـ (٢٢) سنة، وعليه فجعل ولاية العهد لرجل بينه، وبين الخليفة الفعلي هذا الفارق الكبير بالسن، لم يكن يشكل خطراً على الخلافة، إذ لم يكن من المعروف، ولا المألوف أن يعيش ولي العهد ـ وهو بهذه السن المتقدمة ـ لو فرض سلامته من الدسائس والمؤامرات!.. إلى ما بعد الخليفة الفعلي، فإن ذلك من الأمور التي يبعد احتمالها جداً.

١٨٢

ه‍ ـ: ولهذا.. ولأن ما أقدم عليه لم يكن منتظراً من مثله، وهو الذي قتل أخاه من أجل الخلافة والملك، ولأنه من تلك السلالة المعادية لأهل البيتعليهم‌السلام .. احتاج المأمون إلى أن يثبت صدقه، وإخلاصه فيما أقدم عليه، وأن يقنع الناس بصفاء نيته، وسلامة طويته.. فأقدم لذلك. على عدة أعمال:

فأولاً: أقدم على نزع السواد شعار العباسيين، ولبس الخضرة شعار العلويين وكان يقول: إنه لباس أهل الجنة(١) . حتى إذا ما انتهى دور هذه الظاهرة بوفاة الإمام الرضاعليه‌السلام وتمكنه هو من دخول بغداد عاد إلى لبس السواد شعار العباسيين، بعد ثمانية أيام فقط من وصوله، على حد قول أكثر المؤرخين، وقيل: بل بقي ثلاثة أشهر. نزع الخضرة رغم أن العباسيين، تابعوه، وأطاعوه في لبسها، وجعلوا يحرقون كل ملبوس يرونه من السواد، على ما صرح به في مآثر الإنافة، والبداية والنهاية، وغير ذلك.

____________

(١) الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ٦٢ عن ابن الأثير.

١٨٣

وثانياً: ولنفس السبب(١) أيضاً نراه قد ضرب النقود باسم الإمام الرضاعليه‌السلام .

وثالثاً: أقدم للسبب نفسه على تزويج الإمام الرضاعليه‌السلام ابنته، رغم أنها كانت بمثابة حفيدة له، حيث كان يكبرها الإمامعليه‌السلام بحوالي أربعين سنة. كما أنه زوج ابنته الأخرى للإمام الجوادعليه‌السلام الذي كان لا يزال صغيراً، أي ابن سبع سنين(٢) .

ومن يدري: فلعله كان يهدف من تزويجهما أيضاً إلى أن يجعل عليهما رقابة داخلية. وأن يمهد السبيل، لكي تكون الأداة الفعالة، التي

____________

(١) التربية الدينية ص ١٠٠.

(٢) راجع مروج الذهب ج ٣ / ٤٤١، وغيره من كتب التاريخ. وفي الطبري ج ١١ / ١١٠٣، طبع ليدن، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٦٩: أنهعليه‌السلام لم يدخل بها إلا في سنة ٢١٥ للهجرة، ولكن يظهر من اليعقوبي ج ٢ / ٤٥٤ ط صادر: أنه زوج الجواد ابنته بعد وصوله إلى بغداد، وأمر له بألفي ألف درهم، وقال: إني أحببت أن أكون جداً لامرئ ولده رسول الله، وعلي بن أبي طالب، فلم تلد منه انتهى. وهذا يدل على أنه قد بادر إلى تزويج الجواد بعد قتل أبيه الرضاعليه‌السلام ليبرئ نفسه من الاتهام بقتل الرضاعليه‌السلام ، حيث إن الناس كانوا مقتنعين تقريباً بذلك ومطمئنين إليه، وسيأتي في أواخر الكتاب البحث عن ظروف وملابسات وفاتهعليه‌السلام ويلاحظ: أن كلمة المأمون هذه تشبه إلى حد بعيد كلمة عمر بن الخطاب حينما أراد أن يبرر إصراره غير الطبيعي على الزواج بأم كلثوم بنت عليعليه‌السلام حتى لقد استعمل أسلوباً غير مألوف في التهديد والوعيد من أجل الوصول إلى ما يريد.

١٨٤

يستعملها في القضاء على الإمامعليه‌السلام ، كما كان الحال بالنسبة لولده الإمام الجواد، الذي قتل بالسم الذي دسته إليه ابنة المأمون، بأمر من عمها المعتصم(١) ، فيكون بذلك قد أصاب عدة عصافير بحجر واحد. كما يقولون..

ويجب أن نتذكر هنا: أن المأمون كان قد حاول أن يلعب نفس هذه اللعبة مع وزيره الفضل بن سهل، فألح عليه أن يزوجه ابنته فرفض، وكان الرأي العام معه، فلم يستطع المأمون أن يفعل شيئاً، كما سنشير إليه.. لكن الإمامعليه‌السلام لم يكن له إلى الرفض سبيل، ولم يكن يستطيع أن يصرح بمجبوريته على مثل هكذا زواج. لأن الرأي العام لا يقبل ذلك منه بسهولة.. بل ربما كان ذلك الرفض سبباً في تقليل ثقة الناس بالإمام، حيث يرون حينئذٍ أنه لا مبرر لشكوكه تلك، التي تجاوزت ـ بنظرهم حينئذٍ ـ كل الحدود المألوفة والمعروفة..

وعلى كل حال: فإن كل الشواهد والدلائل تشير إلى أن زواج الإمام من ابنة المأمون كان سياسياً، مفروضاً إلى حد ما.. كما أننا لا نستبعد أن يكون زواج المأمون من بوران بنت الحسن بن سهل سياسياً أيضاً، حيث أراد بذلك أن يوثق علاقاته مع الإيرانيين، ويجعلهم يطمئنون إليه، خصوصاً بعد عودته إلى بغداد، وتركه مروا، وليبرئ نفسه من دم الفضل بن سهل، ويكتسب ثقة أخيه الحسن بن سهل، المعرف بثرائه ونفوذه.

ورابعاً: وللسبب نفسه أيضاً كان يظهر الاحترام والتبجيل للإمامعليه‌السلام ـ وإن كان يضيق عليه في الباطن(٢) ـ وكذلك كانت الحال بالنسبة لإكرامه للعلويين، حيث قد صرح هو نفسه بأن إكرامه لهم ما كان إلا سياسة منه ودهاء، ومن أجل الوصول إلى أهداف سياسية معينة، فقد قال في رسالته للعباسيين، المذكورة في أواخر هذا الكتاب: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى.. فما كان ذلك مني، إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم. وهي الطريق أسلكها في إكرام آل أبي طالب، ومواساتهم في الفيء، بيسير ما يصيبهم منه.).

____________

(١) ولعله قد استفاد ذلك من سلفه معاوية، وما جرى له مع الإمام الحسن السبطعليه‌السلام .

(٢) وقد سبقه إلى مثل ذلك سليمان عم الرشيد، عندما أرسل غلمانه، فأخذوا جنازة الكاظمعليه‌السلام من غلمان الرشيد، وطردوهم. ثم نادوا عليه بذلك النداء المعروف، اللائق بشأنه، فمدحه الرشيد، واعتذر إليه، ولام نفسه، حيث لم يأخذ في اعتباره ما يترتب على ما أقدم عليه من ردة فعل لدى الشيعة، ومحبي أهل البيتعليهم‌السلام ، والذين قد لا يكون للرشيد القدرة على مواجهتهم. وتبعه أيضاً المتوكل، حيث جاء بالإمام الهاديعليه‌السلام إلى سامراء، فكان يكرمه في ظاهر الحال، ويبغي له الغوائل في باطن الأمر، فلم يقدره الله عليه.. على ما صرح به ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص ٢٢٦، والمجلسي في البحار ج ٥٠ / ٢٠٣، والمفيد في الإرشاد ص ٣١٤.

١٨٥

ويذكرني قول المأمون: (ومواساتهم في الفيء إلخ..) بقول إبراهيم بن العباس الصولي ـ وهو كاتب القوم وعاملهم ـ في الرضا عندما قربه المأمون:

يـمن عـليكم بأموالكم

وتعطون من مئة واحدا

و ـ: إن المأمون ـ ولا شك ـ كان يعلم: أن ذلك كله ـ حتى البيعة للإمام ـ لا يضره ما دام مصمما على التخلص من ولي عهده هذا بأساليبه الخاصة. بعد أن ينفذ ما تبقى من خطته الطويلة الأجل، للحط من الإمام قليلاً قليلاً، حتى يصوره للرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ كما صرح هو نفسه(١) ، وكما صرح بذلك أيضاً عبد الله بن موسى في رسالته إلى المأمون، والتي سوف نوردها في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله، حيث يقول له فيها: (.. وكنت ألطف حيلة منهم. بما استعملته من الرضا بنا، والتستر لمحننا، تختل واحداً فواحداً منا إلخ.)(٢) .

إلى غير ذلك من الشواهد والدلائل، التي لا تكاد تخفى على أي باحث، أو متتبع..

أهداف المأمون من البيعة:

هذا.. وبعد كل الذي قدمناه، فإننا نستطيع في نهاية المطاف: أن نجمل أهداف المأمون، وما كان يتوخاه من أخذ البيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد بعده.. على النحو التالي:

الهدف الأول:

أن يأمن الخطر الذي كان يتهدده من قبل تلك الشخصية الفذة، شخصية الإمام الرضاعليه‌السلام الذي كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب، وكان الأرضى في الخاصة والعامة ـ باعتراف نفس المأمون ـ، حيث لا يعود باستطاعة الإمامعليه‌السلام أن يدعو الناس إلى الثورة ولا أن يأتي بأية حركة ضد الحكم، بعد أن أصبح هو ولي العهد فيه. ولسوف لا ينظر الناس إلى أية بادرة عدائية منه لنظام الحكم القائم إلا على أنها نكران للجميل، لا مبرر لها، ولا منطق يدعمها.

____________

(١) سنتكلم في القسم الرابع من هذا الكتاب، حول تصريحات المأمون، وخططه بنوع من التفصيل إن شاء الله تعالى.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٦٢٩.

١٨٦

وقد أشار المأمون إلى ذلك، عندما صرح بأنه: خشي إن ترك الإمام على حاله: أن ينفتق عليه منه ما لا يسده، ويأتي منه عليه ما لا يطيقه فأراد أن يجعله ولي عهده ليكون دعاؤه له. كما سيأتي بيانه في فصل: مع بعض خطط المأمون إن شاء الله تعالى.

الهدف الثاني:

أن يجعل هذه الشخصية تحت المراقبة الدقيقة، والواعية من قرب، من الداخل والخارج، وليمهد الطريق من ثم إلى القضاء عليها بأساليبه الخاصة. وقد أشرنا فيما سبق، إلى أننا لا نستبعد أن يكون من جملة ما كان يهدف إليه من وراء تزويجه الإمام بابنته، هو: أن يجعل عليه رقيبا داخليا موثوقا عنده هو، ويطمئن إليه الإمام نفسه.

وإذا ما لاحظنا أيضاً، أن: (المأمون كان يدس الوصائف هدية ليطلعنه على أخبار من شاء..)(١) ، وأنه كان: للمأمون على كل واحد صاحب خبر(٢) . (.. فإننا نعرف السر في إرساله بعض جواريه إلى الإمام الرضاعليه‌السلام بعنوان: هدية.. وقد أرجعها الإمامعليه‌السلام إليه مع عدة أبيات من الشعر، عندما رآها اشمأزت من شيبه)(٣) .

ولم يكتف بذلك، بل وضع على الإمامعليه‌السلام عيوناً آخرين، يخبرونه بكل حركة من حركاته، وكل تصرف من تصرفاته.

فقد كان: (هشام بن إبراهيم الراشدي من أخص الناس عند الرضاعليه‌السلام ، وكانت أمور الرضا تجري من عنده، وعلى يده، ولكنه لما حمل إلى مرو اتصل هشام بن إبراهيم بذي الرئاستين، والمأمون،

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٥ جلد ٢ ص ٥٤٩، نقلاً عن: العقد الفريد ج ١ / ١٤٨.

(٢) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٤ جلد ٢ ص ٤٤١، نقلاً عن: المسعودي ج ٢ / ٢٢٥، وطبقات الأطباء ج ١ / ١٧١، (٣) البحار ج ٤٩ / ١٦٤، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٧٨.

١٨٧

فحظي بذلك عندهما. وكان لا يخفي عليهما شيئاً من أخباره، فولاه المأمون حجابة الرضا. وكان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب، وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه. وكان لا يتكلم الرضا في داره بشيء إلا أورده هشام على المأمون، وذي الرئاستين..)(١) وعن أبي الصلت: أن الرضا (كان يناظر العلماء، فيغلبهم، فكان الناس يقولون: والله، إنه أولى بالخلافة من المأمون، فكان أهل الأخبار يرفعون ذلك إليه..)(٢) وأخيراً.. فإننا نلاحظ: أن جعفر بن محمد بن الأشعث، يطلب من الإمامعليه‌السلام : أن يحرق كتبه إذا قرأها، مخافة أن تقع في يد غيره، ويقول الإمامعليه‌السلام مطمئناً له: «إني إذا قرأت كتبه إلي أحرقتها.)(٣) إلى غير ذلك من الدلائل والشواهد الكثيرة، التي لا نرى أننا بحاجة إلى تتبعها واستقصائها.

الهدف الثالث:

أن يجعل الإمامعليه‌السلام قريباً منه، ليتمكن من عزله عن الحياة الاجتماعية، وإبعاده عن الناس، وإبعاد الناس عنه، حتى لا يؤثر عليهم بما يمتلكه من قوة الشخصية، وبما منحه الله إياه من العلم، والعقل، والحكمة. ويريد أن يحد من ذلك النفوذ له، الذي كان يتزايد باستمرار، سواء في خراسان، أو في غيرها.

وأيضاً.. أن لا يمارس الإمام أي نشاط لا يكون له هو دور رئيس فيه، وخصوصاً بالنسبة لرجال الدولة، إذ قد يتمكن الإمامعليه‌السلام من قلوبهم، ومن ثم من تدبير شيء ضد النظام القائم. دون أن يشعر أحد.

____________

(١) البحار ج ٤٩ / ١٣٩، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ٧٧، ٧٨، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٥٣.

(٢) شرح ميمية أبي فراس ص ٢٠٤، والبحار ج ٤٩ / ٢٩٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢٣٩.

(٣) كشف الغمة ج ٣ / ٩٢، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٩.

١٨٨

والأهم من ذلك كله:

أنه كان يريد عزل الإمامعليه‌السلام عن شيعته، ومواليه، وقطع صلاتهم به، وليقطع بذلك آمالهم، ويشتت شملهم، ويمنع الإمام من أن يصدر إليهم من أوامره، ما قد يكون له أثر كبير على مستقبل المأمون، وخلافته.

وبذلك يكون أيضاً قد مهد الطريق للقضاء على الإمامعليه‌السلام نهائياً، والتخلص منه بالطريقة المناسبة، وفي الوقت المناسب.

وقد قال المأمون إنه: (يحتاج لأن يضع من الإمام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر. ثم يدبر فيه بما يحسم عنه مواد بلائه.) كما سيأتي.

وقد قرأنا آنفاً أنه: (كان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب ـ أي هشام بن إبراهيم ـ وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه).

كما أن الرضا نفسه قد كتب في رسالته منه إلى أحمد بن محمد البيزنطي، يقول:((وأما ما طلبت من الإذن علي، فإن الدخول إلي صعب، وهؤلاء قد ضيقوا علي في ذلك الآن، فلست تقدر الآن، وسيكون إن شاء الله...)) (١) .

____________

(١) رجال المامقاني ج ١ / ٧٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٢.

١٨٩

كما أننا نرى أنه عندما وصل إلى القادسية، وهو في طريقه إلى مرو، يقول لأحمد بن محمد بن أبي نصر: (إكتر لي حجرة لها بابان: باب إلى الخان، وباب إلى خارج، فإنه أستر عليك..)(١) .

ولعل ذلك هو السبب في طلبه من الإمامعليه‌السلام ، ومن رجاء بن أبي الضحاك: أن يمرا عن طريق البصرة، فالأهواز إلخ.. ما سيأتي: ولا نستبعد أيضاً أن يكون عزل الإمام عن الناس، هو أحد أسباب إرجاع الإمام الرضا عن صلاة العيد مرتين(٢) . وللسبب نفسه أيضاً فرق عنه تلامذته، عندما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس، وحتى لا يظهر علم الإمام، وفضله.. إلى آخر ما هنالك من صفحات تاريخ المأمون السوداء.

الهدف الرابع:

إن المأمون في نفس الوقت الذي يريد فيه أن يتخذ من الإمام مجناً يتقي به سخط الناس على بني العباس، ويحوط نفسه من نقمة الجمهور. يريد أيضاً، أن يستغل عاطفة الناس ومحبتهم لأهل البيت ـ والتي زادت ونمت بعد الحالة التي خلفتها الحرب بينه وبين أخيه ـ ويوظف ذلك في صالحه هو، وصالح الحكم العباسي بشكل عام.

أي أنه كان يهدف من وراء لعبته تلك، والتي كان يحسب أنها سوف تكون رابحة جداً ـ إلى أن يحصل على قاعدة شعبية، واسعة، وقوية. حيث كان يعتقد ويقدر: أن نظام حكمه سوف ينال من التأييد، والقوة، والنفوذ، بمقدار ما كان لتلك الشخصية من التأييد، والنفوذ والقوة.. وإذا ما استطاع في نهاية الأمر أن يقضي عليها، فإنه يكون قد أمن خطراً عظيماً، كان يتهدده من قبلها، بمقدار ما كان لها من العظمة والخطر.

____________

(١) بصائر الدرجات ص ٢٤٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٥٥.

(٢) هذه القضية معروفة ومشهورة، فراجع: الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص ٢٤٦، ٢٤٧، ومطالب السؤول، لمحمد بن طلحة الشافعي، طبعة حجرية ص ٨٥، وإثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٥، ومعادن الحكمة ص، ١٨٠، ١٨١، ونور الأبصار ص ١٤٣، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥، وإعلام الورى ص ٣٢٢، ٣٢٣، وروضة الواعظين ج ١ / ٢٧١، ٢٧٢، وأصول الكافي ج ١ / ٤٨٩، ٤٩٠، والبحار ج ٤٩ / ١٣٥، ١٣٦، ١٧١، ١٧٢، وعيون أخبار الرضا، وإرشاد المفيد، وأعيان الشيعة، وكشف الغمة، وغير ذلك.

ولسوف يأتي فصل: خطة الإمام، وغيره من الفصول، ما يتعلق بذلك إن شاء الله تعالى.

١٩٠

إن المأمون قد اختار لولاية عهده رجلاً يحظى بالاحترام والتقدير من جميع الفئات والطبقات، وله من النفوذ، والكلمة المسموعة، ما لم يكن لكل أحد سواه في ذلك الحين. بل لقد كان الكثيرون يرون: أن الخلافة حق له، وينظرون إلى الهيئة الحاكمة على أنها ظالمة له وغاصبة لذلك الحق:

يقول الدكتور الشيبي، وهو يتحدث عن الرضاعليه‌السلام : (إن المأمون جعله ولي عهده، لمحاولة تألف قلوب الناس ضد قومه العباسيين، الذين حاربوه، ونصروا أخاه..)(١) .

ويقول:. (.. وقد كان الرضا من قوة الشخصية، وسمو المكانة: أن التف حوله المرجئة، وأهل الحديث، والزيدية، ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته.)(٢) .

وكذلك هو يقول ـ وهو مهم فيما نحن بصدده ـ: (.. إن الرضا لم يكن بعد توليته العهد إمام الشيعة وحدهم، وإنما مر بنا:

____________

(١) الصلة بين التصوف والتشيع ص ٢٢٣، ٢٢٤.. ونحن لا نوافق الدكتور الشيبي على أنه كان يريد التقوي بذلك على العباسيين، كما اتضح، وسيتضح إن شاء الله.

(٢) المصدر السابق ص ٢١٤.

١٩١

أن الناس، حتى أهل السنة، والزيدية، وسائر الطوائف الشيعية المتناحرة.. قد اجتمعت على إمامته، وإتباعه، والالتفاف حوله.)(١) .

وهذا كما ترى تصريح واضح منه بهدف المأمون، الذي نحن بصدد بيانه.

ويقول محمد بن طلحة الشافعي مشيراً إلى ذلك، في معرض حديثه عن الإمام الرضاعليه‌السلام : (.. نما إيمانه، وعلا شأنه، وارتفع مكانه، وكثر أعوانه، وظهر برهانه، حتى أدخله الخليفة المأمون محل مهجته، وأشركه في مملكته.)(٢) .

وتقدم أنهعليه‌السلام كان ـ باعتراف المأمون ـ (الأرضى في الخاصة والعامة) وأن كتبه كانت تنفذ في المشرق والمغرب، حتى إن البيعة له بولاية العهد، لم تزده في النعمة شيئاً.. وأنه كان له من قوة الشخصية ما دفع أحد أعدائه لأن يقول في حقه للمأمون: (هذا الذي بجنبك والله صنم يعبد دون الله) إلى آخر ما هنالك، مما قدمنا (غيضاً من فيض منه).

كما وتقدم أيضاً قول المأمون في رسالته للعباسيين: (.. وإن تزعموا: أني أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة ـ يعني للعلويين ـ، فإني في تدبيركم، والنظر لكم. ولعقبكم، وأبنائكم من بعدكم..)، وأيضاً عبارته التي كتبها المأمون بخط يده في وثيقة العهد، فلا نعيد.

وهكذا.. فما على العباسيين إلا أن ينعموا بالاً، ويقروا عيناً، فإن المأمون كان يدبر الأمر لصالحهم ومن أجلهم.. وليس كما يقوله الدكتور الشيبي، وغيره من أنه أراد أن يحصل على التأييد الواسع، ليقابل العباسيين، ويقف في وجههم.

____________

(١) المصدر السابق ص ٢٥٦.

(٢) مطالب السؤول ص ٨٤، ٨٥. وقريب منه ما في: الإتحاف بحب الأشراف ص ٥٨.

١٩٢

إشارة هامة لا بد منها:

هذا.. ويحسن بنا أن نشير هنا: إلى ما قاله ابن المعتز في الروافض. وإلقاء نظرة فاحصة على السبب الذي جعلهم مستحقين لهذه الحملة الشعواء منه.. فهو يقول:

لـقد قـال الروافض في علي

مـقالاً جـامعاً كـفراً وموقا

زنـادقة أرادت كـسب مـال

مـن الـجهال فـاتخذته سوقا

وأشـهـد أنـه مـنهم بـريّ

وكـان بـأن يـقتلهم خـليقا

كـما كـذبوا عـليه وهو حي

فـأطعم نـاره مـنهم فـريقا

وكـانوا بالرضا شغفوا زماناً

وقـد نفخوا به في الناس بوقا

وقـالـوا: إنـه رب قـديرا

فكم لصق السواد به لصوقا(١)

وهذه الأبيات تعبر عن مدى صدمة ابن المعتز، وخيبة أمله في الروافض، الذين ضايقه جداً امتداد دعوتهم في طول البلاد الإسلامية، وعرضها. وخصوصاً في زمن الرضا. والذي لم يجد شيئاً يستطيع أن ينتقص به إمامهم الرضاعليه‌السلام سوى أنه كان أسود اللون، وأن الروافض قالوا: إنه رب قدير.. وسر حنقه هذا على الروافض ليس هو إلا عقيدتهم في عليعليه‌السلام ـ التي كان يراها خطراً حقيقياً على القضية العباسية ـ والتي تتلخص بأنهعليه‌السلام : يستحق الخلافة بالنص. وهذه العقيدة والمقالة هي التي جعلتهم يستحقون من ابن المعتز أن يجمع لهم بين وصفي الكفر والزندقة، واتهامه لهم، بأنهم يقصدون بذلك كسب المال من الجهال. ثم يتهمهم بأنهم قد قالوا بنفس هذه المقالة في علي الرضاعليه‌السلام ، فقالوا: إنه الإمام الثابت إمامته بالنص، وشهروا بذلك، حتى علم به عامة الناس، ونفخوا به في الناس بوقاً.. وحتى لقد التف حوله أهل الحديث، والزيدية. بل والمرجئة، وأهل السنة، على حد تعبير الشيبي، وقالوا: بإمامة أبيه، ثم بإمامته.

____________

(١) ديوان ابن المعتز ص ٣٠٠، ٣٠١، والأدب في ظل التشيع ص ٢٠٦.

١٩٣

وبديهي.. أن لا يرتاح ابن المعتز، الذي كان في صميم الأسرة العباسية لهذا الامتداد للتشيع، ولمقالة الروافض، حيث إن ذلك يعني أن الأئمة الذين هم بين الرضا، وعلي أمير المؤمنينعليهما‌السلام ، كلهم تثبت إمامتهم بالنص.

ولقد بلغ من حنقه عليهم، بسبب ذلك الامتداد الواسع لعقيدتهم ـ وخصوصاً في زمان الرضا ـ أن دفعه إلى أن يخلط عن عمد، أو عن غير عمد بين عقيدة الروافض هذه، وبين عقيدة الغلاة، حيث أضاف إلى مقالة الروافض تلك مقالة أخرى، هي: القول بإلوهية عليعليه‌السلام .

وإذا كنا واثقين من أن الفرق الشاسع بين عقيدة الروافض، وعقيدة الغلاة، لم يكن ليخفى على مثل ابن المعتز، بل على من هو أقل منه بمراتب، فإننا سوف ندرك بما لا مجال معه للشك: أن يقصد بهذا الخلط المتعمد: التشنيع على الروافض، وتهجين عقيدتهم، إذ أنه يقصد ب‍ـ (الروافض)، ـ حسبما هو صريح كلامه ـ خصوص القائلين بإمامة الرضا، وإمامة علي أمير المؤمنين، ومن بينهما. وهو يعلم وكل أحد يعلم: أنه ليس فيهم من يقول بإلوهية أحدهما، أو إلوهيتهما، أو إلوهية غيرهما من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام .

وأخيراً.. فإن قول واعتراف ابن المعتز هذا ـ وهو من نعلم ـ لخير دليل على مدى تحرر الشيعة في زمن الرضا، واتساع نفوذهم، وعلى أن شخصية الرضاعليه‌السلام ، كانت قد استقطبت قطاعاً واسعاً، إن لم نقل: أنه القطاع الأكبر من الأمة الإسلامية، في طول البلاد وعرضها، في تلك الفترة من الزمن، وقد تقدم بعض ما يدل على ذلك، فلا نعيد.

الهدف الخامس:

هذا.. ونستطيع أن نقول أيضاً: إنه كان يريد أن يقوي من دعائم حكمه، حيث قد أصبح الحكم يمتلك شخصية تعنو لها الجباه بالرضا والتسليم، ولقد كان الحكم بأمس الحاجة إلى شخصية من هذا القبيل. في مقابل أولئك المتزلفين القاصرين، الذين كانوا يتجمعون حول الحكم العباسي، طلبا للشهرة، وطمعا بالمال، والذين لم يعد يخفى على أحد حالهم ومآلهم.. وعلى الأخص بعد أن رأى فشلهم في صد حملات علماء الملل الأخرى، والذين كانوا قد ضاعفوا نشاطاتهم، عندما رأوا ضعف الدولة، وتمزقها، وتفرقها إلى جماعات وأحزاب.

نعم.. لقد كان الحكم يحتاج إلى العلماء الأكفاء، والأحرار في تفكيرهم، وفي نظرتهم الواعية للإنسان والحياة، ولم يعد بحاجة إلى المتزلفين، والجامدين، والانهزاميين، ولهذا نراه يستبعد أصحاب الحديث الجامدين، الذين كان أكثرهم في الجهة المناوئة له، يشدون من أزرها، ويقيمون أودها..

١٩٤

ويقرب المعتزلة: كبشر المريسي، وأبي الهذيل العلاف وأضرابهما. ولكن الشخصية العلمية، التي لا يشك أحد في تفوقها على جميع أهل الأرض علماً وزهدا، وورعاً وفضلاً الخ. كانت منحصرة في الإمام الرضاعليه‌السلام ، باعتراف من نفس المأمون، كما قدمنا، ولهذا فقد كان الحكم يحتاج إليها أكثر من احتياجه لأية شخصية أخرى، مهما بلغت.

الهدف السادس:

ولعل من الأهمية بمكان بالنسبة إليه، أنه يكون في تلك الفترة المليئة بالقلاقل والثورات، قد أتى الأمة بمفاجئة مثيرة، من شأنها أن تصرف أنظار الناس عن حقيقة ما يجري، وما يحدث، وعن واقع المشاكل التي كان يعاني الحكم والأمة منها، وما أكثرها.

وقد عبر إبراهيم بن المهدي، عن دهشة بني العباس في أبياته المتقدمة. حتى لقد ذهل ـ على حد قوله ـ الحواضن عن بنيها! وصد الثدي عن فمه الصبي!

وبعد هذا. فلسنا بحاجة إلى كبير عناء، لإدراك مدى دهشة غيرهم: ممن رأوا وسمعوا بمعاملة العباسيين لأبناء عمهم. ولسوف ندرك مدى عظمة دهشتهم تلك إذا ما لاحظنا: أنهم كانوا سياسياً أقل وعيا وتجربة من مثل إبراهيم بن المهدي، الذي عاش في أحضان الخلافة. وكان بمرأى ومسمع من ألاعيب السياسة، ومكر الرجال.

الهدف السابع:

طبيعي بعد هذا: أنه قد أصبح يستطيع أن يدعي، بل لقد ادعى بالفعل ـ على ما في وثيقة العهد ـ: أن جميع تصرفاته، وأعماله، لم يكن يهدف من ورائها، إلا الخير للأمة، ومصلحة المسلمين، وحتى قتله أخاه، لم يكن من أجل الحكم، والرياسة، بقدر ما كان من أجل خير المسلمين، والمصلحة العامة، يدل على ذلك: أنه عندما رأى أن خير الأمة، إنما هو في إخراج الخلافة من بني العباس كلية، وهم الذين ضحوا الكثير في سبيلها، وقدموا من أجلها ما يعلمه كل أحد ـ عندما رأى ذلك ـ وأن ذلك لا يكون إلا بإخراجها إلى ألد أعدائهم، سارع إلى ذلك، بكل رضى نفس، وطيبة خاطر.. وليكون بذلك قد كفر عن جريمته النكراء، والتي كانت أحد أسباب زعزعة ثقة الناس به، ألا وهي: قتله أخاه الأمين، العزيز على العباسيين والعرب. وليكون بذلك، قد ربط الأمة بالخلافة، وكسب ثقتها فيها، وشد قلوب الناس، وأنظارهم إليها، حيث أصبح باستطاعتهم أن ينتظروا منها أن تقيم العدل، وترفع الظلم، وأن تكون معهم، وفي خدمتهم، وتعيش قضاياهم. وليكون لها من ثم من المكانة والتقدير، وما يجعلها في منأى ومأمن من كل من يتحينون بها الفرص، ويبغون لها الغوائل.

١٩٥

ويدل على ذلك ـ عدا عما ورد في وثيقة العهد ـ ما ورد من أن المأمون كتب إلى عبد الجبار بن سعد المساحقي، عامله على المدينة: أن اخطب الناس، وادعهم إلى بيعة الرضا، فقام خطيبا، فقال:

(يا أيها الناس، هذا الأمر الذي كنتم فيه ترغبون، والعدل الذي كنتم تنتظرون، والخير الذي كنتم ترجون، هذا علي بن موسى، بن جعفر، بن محمد، بن علي، بن الحسين، بن علي بن أبي طالب:

ســتـة آبــاؤهـم مــا هــم

من أفضل من يشرب صوب الغمام(١)

وقد أكد ذلك بحسن اختياره، إذ قد اختار هذه الشخصية، التي تمثل ـ في الحقيقة ـ أمل الأمة، ورجاءها، في حاضرها، ومستقبلها، وتكون النتيجة ـ بعد ذلك ـ أنه يكون قد حصل على حماية لكل تصرف يقدم عليه في المستقبل، وكل عمل يقوم به.. مهما كان غريباً، ومهما كان غير معقول، فإن على الأمة أن تعتبره صحيحاً وسليماً، لا بد منه، ولا غنى عنه، وإن لم تعرف ظروفه، ودوافعه الحقيقية. بل وحتى مع علمها بها، فإن عليها أن تؤول ما يقبل التأويل، وإلا. فإن عليها أن تدفن رأسها في التراب، وتتناسى ما تعلم. أو أن تعتبر نفسها قاصرة عن إدراك المصالح الحقيقية الكامنة في تلك التصرفات الغريبة، وأن ما أدركته ـ ولو كان حقاً ـ لا واقع له، ولا حقيقة وراءه. ويدل على ذلك بشكل واضح أبيات ابن المعتز الآتية ص ٣٠٥/٣٠٦ يقول ابن المعتز:

وأعـطاكم الـمأمون حـق خلافة

لـنا حـقها لـكنه جـاد بـالدنيا

لـيعلمكم أن الـتي قـد حرصتموا

عليها وغودرتم على أثرها صرعى

يـسير عـليه فـقدها غـير مكثر

كـما ينبغي للصالحين ذوي التقوى

____________

(١) العقد الفريد ج ٣ / ٣٩٢، طبع مصطفى محمد بمصر سنة ١٩٣٥ و (ما) في البيت زائدة.. ولا يخفى ما في البيت، وقد أثبتناه، كما وجدناه.

١٩٦

وعلى كل حال، فإنه يتفرع على ما ذكرناه:

أولاً: إنه بعد أن أقدم على ما أقدم عليه، فليس من المنطقي بعد للعرب أن يسخطوا عليه، بسبب معاملة أبيه، أو أخيه، وسائر أسلافه لهم، فإن المرء بما كسب هو، لا بما كسب أهله، ولا تزر وازرة وزر أخرى.

وكيف يجوز لهم أن يغضبوا بعد، وهو قد أرجع الخلافة إليهم، بل وإلى أعرق بيت فيهم. وعرفهم عملا: أنه لا يريد لهم، ولغيرهم، إلا الصلاح والخير..

وليس لهم بعد حق في أن ينقموا عليه معاملته القاسية لهم، ولا قتله أخاه، ولا أن يزعجهم، ويخيفهم تقريبه للإيرانيين، ولا جعله مقر حكمه مروا إلى آخر ما هنالك.. ما دام أن الخلافة قد عادت إليهم، على حسب ما يشتهون، وعلى وفق ما يريدون.

ومن هنا.. فلا يجب أن نعجب كثيراً، حين نراهم: قد تلقوا بيعة الرضا بنفوس طيبة، وقلوب رضية. حتى أهل بغداد نرى أنهم قد تقبلوها إلى حد كبير، فقد نص المؤرخون ـ ومنهم الطبري، وابن مسكويه ـ على أن بعضهم وافق، والبعض الآخر ـ وهم أنصار بني العباس ـ رفض. وهذا يدل دلالة واضحة: على أن بغداد، معقل العباسيين الأول، كانت تتعاطف مع العلويين إلى درجة كبيرة..

١٩٧

بل ونص المؤرخون، على أن: إبراهيم بن المهدي، المعروف بابن شكلة، الذي بويع له في بغداد غضبا من تولية الرضا للعهد: لم يستطع أن يسيطر إلا على بغداد، والكوفة والسواد(١) ، بل وحتى الكوفة قد استمرت الحرب قائمة فيها على ساق وقدم أشهراً عديدة بين أنصار المأمون، وعليهم الخضرة، وأنصار العباسيين وعليهم السواد(٢) .

وثانياً: وأما الإيرانيون عامة، والخراسانيون خاصة، والمعروفون بتشيعهم للعلويين، فقد ضمن المأمون استمرار تأييدهم له، وثقتهم به، بعد أن حقق لهم غاية أمانيهم. وأغلى أحلامهم، وأثبت لهم عملاً، حبه لمن يحبون، ووده لمن يودون.. وأن لا ميزة عنده لعباسي على غيره، ولا لعربي على غيره، وأن الذي يسعى إليه، هو ـ فقط خير الأمة، ومصلحتها، بجميع فئاتها، ومختلف طبقاتها، وأجناسها.

ملاحظة هامة:

إن من الجدير بالملاحظة هنا: أن الرضاعليه‌السلام كان قد قدم إلى إيران قبل ذلك. والظاهر أنه قدمها في حدود سنة ١٩٣ ه‍. أي في الوقت المناسب لوفاة الرشيد، فقد ذكر الرضي المعاصر للمجلسي في كتابه: ضيافة الإخوان: أن علياً الرضاعليه‌السلام كان مستخفياً في قزوين في دار داوود بن سليمان الغازي أبي عبد الله، ولداوود نسخة يرويها عن الرضاعليه‌السلام ، وأهل قزوين يروونها عن داوود، كإسحاق بن محمد، وعلي بن مهرويه(٣) .

وقال الرافعي في التدوين: (وقد اشتهر اجتياز علي بن موسى الرضا بقزوين. ويقال: إنه كان مستخفيا في دار داوود بن سليمان الغازي، روى عنه النسخة المعروفة، وروى عنه إسحاق بن محمد، وعلي بن مهرويه، وغيرهما.

____________

(١) راجع البداية والنهاية ج ١٠ / ٢٤٨، وغيره من كتب التاريخ. وزاد أحمد شلبي في كتابه: التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ / ١٠٥ ـ زاد على ذلك: المدائن أيضاً.

(٢) راجع: الكامل لابن الأثير ج ٥ / ١٩٠، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٤٨، وغير ذلك.

(٣) راجع كتاب: ضيافة الإخوان مخطوط في مكتبة المدرسة الفيضية في قم، في ترجمة أبي عبد الله القزويني، وعلي بن مهرويه القزويني.

١٩٨

قال الخليل: وابنه المدفون في مقبرة قزوين، يقال: إنه كان ابن سنتين، أو أصغر)(١) انتهى كلام الرافعي.

والمراد بالخليل في كلامه، هو الخليل بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الخليلي، القزويني، وهو الحافظ المشهور، مصنف كتاب الإرشاد، وكتاب تاريخ قزوين، الذي فرغ من تأليفه حوالي سنة أربعمائة هجرية، وكانت وفاته سنة ٤٤٦ ه‍.

الهدف الثامن:

لقد كان من نتائج اختياره الإمام، والبيعة له بولاية العهد ـ التي كان يتوقعها ـ: أن أخمد ثورات العلويين في جميع الولايات والأمصار.

ولعله لم تقم أية ثورة علوية ضد المأمون ـ بعد البيعة للرضا، سوى ثورة عبد الرحمان بن أحمد في اليمن. وكان سببها ـ باتفاق المؤرخين ـ هو فقط: ظلم الولاة وجورهم، وقد رجع إلى الطاعة بمجرد الوعد بتلبية مطالبه.

بل لا بد لنا أن نضيف إلى ذلك:

أ ـ : إنه ليس فقط أخمد ثوراتهم. بل لقد حصل على ثقة الكثيرين منهم، ومن والاهم، وشايعهم. والخراسانيون منهم، ويشير المأمون إلى هذا المعنى في رسالته، التي أرسلها إلى عبد الله بن موسى، حيث يقول:

(.. ما ظننت أحداً من آل أبي طالب يخافني، بعد ما عملته بالرضا) والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.. كما أنه كتب للعباسيين في بغداد في رسالته، التي أشرنا إليها غير مرة، يقول لهم: إنه يريد بذلك أن يحقن دماءهم، ويذود عنهم، باستدامة المودة بنيهم، وبين العلويين.

ب: بل ونزيد هنا على ما تقدم: أنه قد بايعه منهم ومن أشياعهم من لم يكن بعد قد بايعه، وهم قسم كبير جداً، بل لقد بايعه أكثر المسلمين، ودانوا له بالطاعة، بعد أن كانوا مخالفين له ممتنعين عن بيعته، حسبما قدمناه.

وهذه دون شك هي إحدى أمنيات المأمون، بل هي أجل أمنياته وأغلاها.

ج: قال ابن القفطي في معرض حديثه عن عبد الله بن سهل ابن نوبخت:

(.. هذا منجم مأموني، كبير القدر في صناعته، يعلم المأمون قدره في ذلك. وكان لا يقدم إلا عالما مشهودا له، بعد الاختيار..

____________

(١) التدوين قسم ٢ ورقة ٢٣٥ مخطوط في مكتبة دار التبليغ الإسلامي في قم، ترجمة علي الرضا..

١٩٩

وكان المأمون قد رأى آل أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب متخشين، متخفين، من خوف المنصور، ومن جاء بعده من بني العباس. ورأى العوام قد خفيت عنهم أمورهم بالاختفاء، فظنوا ما يظنونه بالأنبياء، ويتفوهون بما يخرجهم عن الشريعة، من التغالي.

فأراد معاقبة العامة على هذا الفعل.

ثم فكر: أنه إذا فعل هذا بالعوام زادهم إغراء به، فنظر نظراً دقيقاً، وقال: لو ظهروا للناس، ورأوا فسق الفاسق منهم، وظلم الظالم، لسقطوا من أعينهم، ولانقلب شكرهم لهم ذماً.

ثم قال: إذا أمرناهم بالظهور خافوا، واستتروا، وظنوا بنا سوءاً، وإنما الرأي: أن نقدم أحدهم، ويظهر لهم إماماً، فإذا رأوا هذا أنسوا، وظهروا، وأظهروا ما عندهم من الحركات الموجودة في الآدميين، فيحقق للعوام حالهم، وما هم عليه، مما خفي بالاختفاء، فإذا تحقق ذلك أزلت من أقمته، ورددت الأمر إلى حالته الأولى. وقوي هذا الرأي عنده، وكتم باطنه عن خواصه.. وأظهر للفضل ابن سهل: أنه يريد أن يقيم إماماً من آل أمير المؤمنين علي (صلوات الله عليه).

وفكر هو وهو: فيمن يصلح، فوقع إجماعهما على الرضا، فأخذ الفضل بن سهل في تقرير ذلك. وترتيبه وهو لا يعلم باطن الأمر. وأخذ في اختيار وقت لبيعة الرضا، فاختار طالع السرطان، وفيه المشتري الخ)(١) .

ثم ذكر أن عبد الله بن سهل أراد اختبار المأمون، فأخبره أن البيعة لا تتم إذا وقعت في ذلك الوقت، فهدده المأمون بالقتل إن لم تقع البيعة في ذلك الوقت بالذات، لأنه سوف يعتبر أنه هو الذي أفسد عليه ما كان دبره الخ..

وابن القفطي هنا، لا يبدو أنه يعتبر الإمام الرضاعليه‌السلام من أولئك الذين يريد المأمون إظهار تفاهاتهم للناس، ولكنه يوجه نظره إلى بقية العلويين في ذلك.. ونحن إن كنا لا نستبعد من المأمون ما ذكره ابن القفطي هنا لكننا لا نستطيع أن نعتبر أن هذا كان من الأسباب الرئيسية لدى المأمون، إذ لا نعتقد أن المأمون كان من السذاجة بحيث يجهل أن بقية العلويين لم يكونوا ـ إجمالاً ـ على الحال التي كان يريد أن يظهرهم عليها للناس، وأنهم كانوا أكثر تديناً والتزاماً من أي فئة أخرى على الإطلاق..

____________

(١) تاريخ الحكماء ص ٢٢١، ٢٢٢.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

قوله تعالى: ( وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً ) المعصرات السحب الماطرة و قيل: الرياح الّتي تعصر السحب لتمطر و الثجّاج الكثير الصبّ للماء، و الأولى على هذا المعنى أن تكون( مِنَ ) بمعنى الباء.

قوله تعالى: ( لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَ نَباتاً ) أي حبّاً و نباتاً يقتات بهما الإنسان و سائر الحيوان.

قوله تعالى: ( وَ جَنَّاتٍ أَلْفافاً ) معطوف على قوله:( حَبًّا ) و جنّات ألفاف أي ملتفّة أشجارها بعضها ببعض.

قيل: إنّ الألفاف جمع لا واحد له من لفظه.

( بحث روائي‏)

في بعض الأخبار: أنّ النبأ العظيم عليّعليه‌السلام و هو من البطن.

عن الخصال، عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: قال أبوبكر: يا رسول الله أسرع إليك الشيب. قال: شيّبتني هود و الواقعة و المرسلات و عمّ يتساءلون.

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ) قال: يمهّد فيها الإنسان( وَ الْجِبالَ أَوْتاداً ) أي أوتاد الأرض.

و في نهج البلاغة، قالعليه‌السلام : و وتّد بالصخور ميدان أرضه.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً ) قال: يلبس على النهار.

أقول: و لعلّ المراد به أنّه يخفي ما يظهره النهار و يستر ما يكشفه.

و فيه: في قوله تعالى:( وَ جَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً ) قال: الشمس المضيئة( وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ) قال: من السحاب( ماءً ثَجَّاجاً ) قال: صبّاً على صبّ.

و عن تفسير العيّاشيّ، عن أبي عبداللهعليه‌السلام :( عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ ) بالياء يمطرون.

٢٦١

ثمّ قال: أ ما سمعت قوله:( وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً ) .

أقول: المراد أنّ( يَعْصِرُونَ ) بضمّ الياء بصيغة المجهول و المراد به أنّهم يمطرون و استشهادهعليه‌السلام بقوله:( وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ) دليل على أنّهعليه‌السلام أخذ المعصرات بمعنى الممطرات من أعصرت السحابة إذا أمطرت.

و روى العيّاشيّ مثل الحديث عن عليّ بن معمر عن أبيه عن أبي عبداللهعليه‌السلام و روى القمّيّ في تفسيره،: مثله عن أميرالمؤمنين.

٢٦٢

( سورة النبإ الآيات ١٧ - ٤٠)

إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا ( ١٧ ) يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ( ١٨ ) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا ( ١٩ ) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا ( ٢٠ ) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ( ٢١ ) لِّلطَّاغِينَ مَآبًا ( ٢٢ ) لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ( ٢٣ ) لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا ( ٢٤ ) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا ( ٢٥ ) جَزَاءً وِفَاقًا ( ٢٦ ) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا ( ٢٧ ) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا ( ٢٨ ) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا ( ٢٩ ) فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا ( ٣٠ ) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا ( ٣١ ) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا ( ٣٢ ) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا ( ٣٣ ) وَكَأْسًا دِهَاقًا ( ٣٤ ) لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا ( ٣٥ ) جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا ( ٣٦ ) رَّبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا ( ٣٧ ) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ( ٣٨ ) ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ مَآبًا ( ٣٩ ) إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا ( ٤٠ )

٢٦٣

( بيان‏)

تصف الآيات يوم الفصل الّذي أخبر به إجمالاً بقوله:( كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ) ثمّ تصف ما يجري فيه على الطاغين و المتّقين، و تختتم بكلمة في الإنذار و هي كالنتيجة.

قوله تعالى: ( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً ) قال في المجمع: الميقات منتهى المقدار المضروب لحدوث أمر من الاُمور و هو من الوقت كما أنّ الميعاد من الوعد و المقدار من القدر، انتهى.

شروع في وصف ما تضمّنه النبأ العظيم الّذي أخبر بوقوعه و هدّدهم به في قوله:( كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ) ثمّ أقام الحجّة عليه بقوله:( أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ) إلخ، و قد سمّاه يوم الفصل و نبّه به على أنّه يوم يفصل فيه القضاء بين الناس فينال كلّ طائفة ما يستحقّه بعمله فهو ميقات و حدّ مضروب لفصل القضاء بينهم و التعبير بلفظ( كانَ ) للدلالة على ثبوته و تعيّنه في العلم الإلهيّ على ما ينطق به الحجّة السابقة الذكر، و لذا أكّد الجملة بإنّ.

و المعنى: إنّ يوم فصل القضاء الّذي نبؤه نبأ عظيم كان في علم الله يوم خلق السماوات و الأرض و حكّم فيها النظام الجاري حدّاً مضروباً ينتهي إليه هذا العالم فإنّه تعالى كان يعلم أنّ هذه النشأة الّتي أنشأها لا تتمّ إلّا بالانتهاء إلى يوم يفصل فيه القضاء بينهم.

قوله تعالى: ( يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً ) قد تقدّم الكلام في معنى نفخ الصور كراراً، و الأفواج جمع فوج و هي الجماعة المارّة المسرعة على ما ذكره الراغب.

و في قوله:( فَتَأْتُونَ أَفْواجاً ) جري على الخطاب السابق الملتفت إليه قضاءً لحقّ الوعيد الّذي يتضمّنه قوله:( كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ) و كأنّ الآية ناظرة إلى قوله تعالى:( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ) إسراء: ٧١.

٢٦٤

قوله تعالى: ( وَ فُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً ) فاتّصل به عالم الإنسان بعالم الملائكة.

و قيل: التقدير فكانت ذات أبواب، و قيل: صار فيها طرق و لم يكن كذلك من قبل، و لا يخلو الوجهان من تحكّم فليتدبّر.

قوله تعالى: ( وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً ) السراب هو الموهوم من الماء اللّامع في المفاوز و يطلق على كلّ ما يتوهّم ذا حقيقة و لا حقيقة له على طريق الاستعارة.

و لعلّ المراد بالسراب في الآية هو المعنى الثاني.

بيان ذلك: أنّ تسيير الجبال و دكّها ينتهي بالطبع إلى تفرّق أجزائها و زوال شكلها كما وقع في مواضع من كلامه تعالى عند وصف زلزلة الساعة و آثارها إذ قال:( وَ تَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً ) الطور: ١٠ و قال:( وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً ) الحاقّة: ١٤، و قال:( وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا ) المزّمّل: ١٤، و قال:( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) القارعة: ٥، و قال:( وَ بُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا ) الواقعة: ٥، و قال:( وَ إِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ ) المرسلات: ١٠.

فتسيير الجبال و دكّها ينتهي بها إلى بسّها و نسفها و صيرورتها كثيباً مهيلاً و كالعهن المنفوش كما ذكره الله تعالى و أمّا صيرورتها سراباً بمعنى ما يتوهّم ماءً لامعاً فلا نسبة بين التسيير و بين السراب بهذا المعنى.

نعم ينتهي تسييرها إلى انعدامها و بطلان كينونتها و حقيقتها بمعنى كونها جبلاً فالجبال الراسيات الّتي كانت ترى حقائق ذوات كينونة قويّة لا تحرّكه العواصف تتبدّل بالتسيير سراباً باطلاً لا حقيقة له، و نظيره من كلامه تعالى قوله في أقوام أهلكهم و قطع دابرهم،( فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ ) سبأ: ١٩ و قوله:( فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَ جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ ) المؤمنون: ٤٤، و قوله في الأصنام( إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ) النجم: ٢٣.

٢٦٥

فالآية بوجه كقوله تعالى:( وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ ) النمل: ٨٨ - بناء على كونه ناظراً إلى صفة زلزلة الساعة -.

قوله تعالى: ( إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً ) قال في المفردات: الرصد الاستعداد للترقّب - إلى أن قال - و المرصد موضع الرصد قال تعالى:( وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ) و المرصاد نحوه لكن يقال للمكان الّذي اختصّ بالرصد قال تعالى:( إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً ) تنبيهاً على أنّ عليها مجاز الناس، و على هذا قوله تعالى:( وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ) انتهى.

قوله تعالى: ( لِلطَّاغِينَ مَآباً ) الطاغون الملتبّسون بالطغيان و هو الخروج عن الحدّ، و المآب اسم مكان من الأوب بمعنى الرجوع، و العناية في عدّها مآباً للطاغين أنّهم هيّئوها مأوى لأنفسهم و هم في الدنيا ثمّ إذا انقطعوا عن الدنيا آبوا و رجعوا إليها.

قوله تعالى: ( لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً ) الأحقاب الأزمنة الكثيرة و الدهور الطويلة من غير تحديد.

و هو جمع اختلفوا في واحده فقيل: واحده حقب بالضمّ فالسكون أو بضمّتين، و قد وقع في قوله تعالى:( أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً ) الكهف: ٦٠، و قيل: حقب بالفتح فالسكون و واحد الحقب حقبة بالكسر فالسكون قال الراغب: و الحقّ أنّ الحقبة مدّة من الزمان مبهمة. انتهى.

و حدّ بعضهم الحقب بثمانين سنة أو ببضع و ثمانين سنة و زاد آخرون أنّ السنة منها ثلاثمائة و ستّون يوماً كلّ يوم يعدل ألف سنة، و عن بعضهم أنّ الحقب أربعون سنة و عن آخرين أنّه سبعون ألف سنة إلى غير ذلك و لا دليل من الكتاب يدلّ على شي‏ء من هذه التحديدات و لم يثبت من اللغة شي‏ء منها.

و ظاهر الآية أنّ المراد بالطاغين المعاندون من الكفّار و يؤيّده قوله ذيلاً:( إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً ) .

و قد فسّروا( أَحْقاباً ) في الآية بالحقب بعد الحقب فالمعنى حال كون الطاغين

٢٦٦

لابثين في جهنّم حقباً بعد حقب بلا تحديد و لا نهاية فلا تنافي الآية ما نصّ عليه القرآن من خلود الكفّار في النار.

و قيل: إنّ قوله:( لا يَذُوقُونَ فِيها ) إلخ صفة( أَحْقاباً ) و المعنى لابثين فيها أحقاباً هي على هذه الصفة و هي أنّهم لا يذوقون فيها برداً و لا شراباً إلّا حميماً و غسّاقاً، ثمّ يكونون على غير هذه الصفة إلى غير النهاية.

و هو حسن لو ساعد السياق.

قوله تعالى: ( لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَ لا شَراباً ) ظاهر المقابلة بين البرد و الشراب أنّ المراد بالبرد مطلق ما يتبرّد به غير الشراب كالظلّ الّذي يستراح إليه بالاستظلال فالمراد بالذّوق مطلق النيل و المسّ.

قوله تعالى: ( إِلَّا حَمِيماً وَ غَسَّاقاً ) الحميم الماء الحارّ شديد الحرّ، و الغسّاق صديد أهل النار.

قوله تعالى: ( جَزاءً وِفاقاً - إلى قوله -كِتاباً ) المصدر بمعنى اسم الفاعل و المعنى يجزون جزاء موافقاً لما عملوا أو بتقدير مضاف أي جزاءً ذا وفاق أو إطلاق الوفاق على الجزاء للمبالغة كزيد عدل.

و قوله:( إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً ) أي تكذيباً عجيباً يصرّون عليه، تعليل يوضح موافقة جزائهم لعملهم، و ذلك أنّهم لم يرجوا الحساب يوم الفصل فأيسوا من الحياة الآخرة و كذّبوا بالآيات الدالّة عليها فأنكروا التوحيد و النبوّة و تعدّوا في أعمالهم طور العبوديّة فنسوا الله تعالى فنسيهم و حرّم عليهم سعادة الدار الآخرة فلم يبق لهم إلّا الشقاء و لا يجدون فيها إلّا ما يكرهون، و لا يواجهون إلّا ما يتعذّبون به و هو قوله:( فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً ) .

و في الآية أعني قوله:( جَزاءً وِفاقاً ) دلالة على المطابقة التامّة بين الجزاء و العمل فالإنسان لا يريد بعمله إلّا الجزاء الّذي بإزائه و التلبّس بالجزاء تلبّس بالعمل بالحقيقة قال تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) التحريم: ٧.

٢٦٧

و قوله:( وَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً ) أي كلّ شي‏ء و منه الأعمال ضبطناه و بينّاه في كتاب جليل القدر فالآية في معنى قوله تعالى:( وَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ ) يس: ١٣.

أو المراد و كلّ شي‏ء حفظناه حال كونه مكتوباً أي في اللوح المحفوظ أو في صحائف الأعمال، و جوّز أن يكون الإحصاء بمعنى الكتابة أو الكتاب بمعنى الإحصاء فإنّ الإحصاء و الكتابة يتشاركان في معنى الضبط و المعنى كلّ شي‏ء أحصيناه إحصاء أو كلّ شي‏ء كتبناه كتاباً.

و الآية على أيّ حال متمّم للتعليل السابق، و المعنى الجزاء موافق لأعمالهم لأنّهم كانوا على حال كذا و كذا و قد حفظناها عليهم فجزيناهم بها جزاءً وفاقاً.

قوله تعالى: ( فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً ) تفريع على ما تقدّم من تفصيل عذابهم مسوق لإيئاسهم من أن يرجو نجاة من الشقوة و راحة ينالونها.

و الالتفات إلى خطابهم بقوله:( فَذُوقُوا ) تقدير لحضورهم ليخاطبوا بالتوبيخ و التقريع بلا واسطة.

و المراد بقوله:( فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً ) أنّ ما تذوقونه بعد عذاب ذقتموه عذاب آخر فهو عذاب بعد عذاب و عذاب على عذاب فلا تزالون يضاف عذاب جديد إلى عذابكم القديم فاقنطوا من أن تنالوا شيئاً ممّا تطلبون و تحبّون.

و الآية لا تخلو من ظهور في كون المراد بقوله:( لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً ) الخلود دون الانقطاع.

قوله تعالى: ( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً - إلى قوله -كِذَّاباً ) الفوز الظفر بالخير مع حصول السلامة - على ما قاله الراغب - ففيه معنى النجاة و التخلّص من الشرّ و الحصول على الخير، و المفاز مصدر ميميّ أو اسم مكان من الفوز و الآية تحتمل الوجهين جميعاً.

و قوله:( حَدائِقَ وَ أَعْناباً ) الحدائق جمع حديقة و هي البستان المحوّط، و الأعناب جمع عنب و هو ثمر شجرة الكرم و ربّما يطلق على نفس الشجرة.

٢٦٨

و قوله:( وَ كَواعِبَ ) جمع كاعب و هي الفتاة الّتي تكعّب ثدياها و استدار مع ارتفاع يسير، و الترائب جمع ترب و هي المماثلة لغيرها من اللذات.

و قوله:( وَ كَأْساً دِهاقاً ) أي ممتلئة شراباً مصدر بمعنى اسم الفاعل.

و قوله:( لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا كِذَّاباً ) أي لا يسمعون في الجنّة لغواً من القول لا يترتّب عليه أثر مطلوب و لا تكذيباً من بعضهم لبعضهم فيما قال فقولهم حقّ له أثره المطلوب و صدق مطابق للواقع.

قوله تعالى: ( جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً ) أي فعل بالمتّقين ما فعل حال كونه جزاء من ربّك عطيّة محسوبة فقوله:( جَزاءً ) حال و كذا( عَطاءً ) و( حِساباً ) بمعنى اسم المفعول صفة لعطاء، و يحتمل أن يكون عطاء تمييزاً أو مفعولاً مطلقاً.

قيل: إضافة الجزاء إلى الربّ مضافاً إلى ضميرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تشريف له، و لم يضف جزاء الطاغين إليه تعالى تنزّهاً منه تعالى فليس يغشاهم شرّ إلّا من عند أنفسهم قال تعالى:( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) الأنفال: ٥١.

و وقوع لفظ الحساب في ذيل جزاء الطاغين و المتّقين معاً لتثبيت ما يلوّح إليه يوم الفصل الواقع في أوّل الكلام.

قوله تعالى: ( رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ ) بيان لقوله:( رَبِّكَ ) اُريد به أنّ ربوبيّته تعالى عامّة لكلّ شي‏ء و أنّ الربّ الّذي يتّخذه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّاً و يدعو إليه ربّ كلّ شي‏ء لا كما كان يقول المشركون: إنّ لكلّ طائفة من الموجودات ربّاً و الله سبحانه ربّ الأرباب أو كما كان يقول بعضهم: إنّه ربّ السماء.

و في توصيف الربّ بالرحمن - صيغة مبالغة من الرحمة - إشارة إلى سعة رحمته و أنّها سمة ربوبيّة لا يحرم منها شي‏ء إلّا أن يمتنع منها شي‏ء بنفسه لقصوره و سوء اختياره فمن شقوة هؤلاء الطاغين أنّهم حرّموها على أنفسهم بالخروج عن طور العبودية.

قوله تعالى: ( لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً ) وقوع صدر الآية في سياق قوله:

٢٦٩

( رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ ) - و شأن الربوبيّة هو التدبير و شأن الرحمانيّة بسط الرحمة - دليل على أنّ المراد بخطابه تعالى تكليمه في بعض ما فعل من الفعل بنحو السؤال عن السبب الداعي إلى الفعل كأن يقال: لم فعلت هذا؟ و لم لم تفعل كذا؟ كما يسأل الفاعل منّا عن فعله فتكون الجملة( لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً ) في معنى قوله تعالى:( لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ ) الأنبياء: ٢٣ و قد تقدّم الكلام في معنى الآية.

لكن وقوع قوله:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا ) بعد قوله:( لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً ) الظاهر في اختصاص عدم الملك بيوم الفصل مضافاً إلى وقوعه في سياق تفصيل جزاء الطاغين و المتّقين منه تعالى يوم الفصل يعطي أن يكون المراد به أنّهم لا يملكون أن يخاطبوه فيما يقضي و يفعل بهم باعتراض عليه أو شفاعة فيهم لكنّ الملائكة - و هم ممّن لا يملكون منه خطاباً - منزّهون عن وصمة الاعتراض عليه تعالى و قد قال فيهم:( عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) الأنبياء: ٢٧ و كذلك الروح الّذي هو(١) كلمته و قوله، و قوله(٢) حقّ، و هو تعالى (٣) الحقّ المبين و الحقّ لا يعارض الحقّ و لا يناقضه.

و من هنا يظهر أنّ المراد بالخطاب الّذي لا يملكونه هو الشفاعة و ما يجري مجراها من وسائل التخلّص من الشرّ كالعدل و البيع و الخلّة و الدعاء و السؤال قال تعالى:( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ ) البقرة: ٢٥٤، و قال:( وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ ) البقرة: ١٢٣، و قال:( يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) هود: ١٠٥.

و بالجملة قوله:( لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً ) ضمير الفاعل في( لا يَمْلِكُونَ ) لجميع المجموعين ليوم الفصل من الملائكة و الروح و الإنس و الجنّ كما هو المناسب

____________________

(١) النحل: ٤٠.

(٢) الأنعام: ٧٣.

(٣) النور: ٢٥.

٢٧٠

للسياق الحاكي عن ظهور العظمة و الكبرياء دون خصوص الملائكة و الروح لعدم سبق الذكر و دون خصوص الطاغين كما قيل لكثرة الفصل، و المراد بالخطاب الشفاعة و ما يجري مجراها كما تقدّم.

و قوله:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا ) ظرف لقوله:( لا يَمْلِكُونَ ) و قيل: لقوله:( لا يَتَكَلَّمُونَ ) و هو بعيد مع صلاحية ظرفيّته لما سبقه.

و المراد بالروح المخلوق الأمريّ الّذي يشير إليه قوله تعالى:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) إسراء: ٨٥.

و قيل: المراد به أشراف الملائكة، و قيل حفظة الملائكة و قيل: ملك موكّل على الأرواح. و لا دليل على شي‏ء من هذه الأقوال.

و قيل: المراد به جبريل، و قيل: أرواح الناس و قيامها مع الملائكة صفّاً إنّما هو بين النفختين قبل أن تلج الأجساد، و قيل: القرآن و المراد من قيامه ظهور آثاره يومئذ من سعادة المؤمنين به و شقاوة الكافرين.

و يدفعها أنّ هذه الثلاثة و إن اُطلق على كلّ منها الروح في كلامه تعالى لكنّه مع التقييد كقوله:( وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) الحجر: ٢٩، و قوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ) الشعراء: ١٩٣، و قوله:( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ ) النحل: ١٠٢، و قوله:( فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا ) مريم: ١٧، و قوله:( وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ) الشورى: ٥٢ و الروح في الآية الّتي نحن فيها مطلق، على أنّ في القولين الأخيرين تحكّماً ظاهراً.

و( صَفًّا) حال من الروح و الملائكة و هو مصدر اُريد به اسم الفاعل أي حال كونهم صافّين، و ربّما استفيد من مقابلة الروح للملائكة أنّ الروح وحده صفّ و الملائكة جميعاً صفّ.

و قوله:( لا يَتَكَلَّمُونَ ) بيان لقوله:( لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً ) و ضمير الفاعل لأهل الجمع من الروح و الملائكة و الإنس و الجنّ على ما يفيده السياق.

و قيل: الضمير للروح و الملائكة، و قيل: للناس و وقوع( لا يَمْلِكُونَ ) بما مرّ

٢٧١

من معناه و( لا يَتَكَلَّمُونَ ) في سياق واحد لا يلائم شيئاً من القولين.

و قوله:( إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ ) بدل من ضمير الفاعل في( لا يَتَكَلَّمُونَ ) اُريد به بيان من له أن يتكلّم منهم يومئذ بإذن الله فالجملة في معنى قوله:( يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) هود: ١٠٥ على ظاهر إطلاقه.

و قوله:( وَ قالَ صَواباً ) أي قال قولاً صواباً لا يشوبه خطأ و هو الحقّ الّذي لا يداخله باطل، و الجملة في الحقيقة قيد للإذن كأنّه قيل: إلّا من أذن له الرحمن و لا يأذن إلّا لمن قال صواباً فالآية في معنى قوله تعالى:( وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ) الزخرف: ٨٦.

و قيل:( إِلَّا مَنْ أَذِنَ ) إلخ استثناء ممّن يتكلّم فيه و المراد بالصواب التوحيد و قول لا إله إلّا الله و المعنى لا يتكلّمون في حقّ أحد إلّا في حقّ شخص أذن له الرحمن و قال ذلك الشخص في الدنيا صواباً أي أقرّ بالوحدانيّة و شهد أن لا إله إلّا الله فالآية في معنى قوله تعالى:( وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) الأنبياء: ٢٨.

و يدفعه أنّ العناية الكلاميّة في المقام متعلّقة بنفي أصل الخطاب و التكلّم يومئذ من كلّ متكلّم لا بنفي التكلّم في كلّ أحد مع تسليم جواز أصل التكلّم فالمستثنون هم المتكلّمون المأذون لهم في أصل التكلّم من دون تعرّض لمن يتكلّم فيه.

( كلام فيما هو الروح في القرآن‏)

تكرّرت كلمة الروح - و المتبادر منه ما هو مبدأ الحياة - في كلامه تعالى و لم يقصرها في الإنسان أو في الإنسان و الحيوان فحسب بل أثبتها في غيرهما كما في قوله:( فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا ) مريم: ١٧، و قوله:( وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ) الشورى: ٥٢ إلى غير ذلك فللروح مصداق في الإنسان و مصداق في غيره.

و الّذي يصلح أن يكون معرّفاً لها في كلامه تعالى ما في قوله:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) إسراء: ٨٥ حيث أطلقها إطلاقاً و ذكر معرّفاً لها أنّها

٢٧٢

من أمره و قد عرّف أمره بقوله:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) يس: ٨٣ فبيّن أنّه كلمة الإيجاد الّتي هي الوجود من حيث انتسابه إليه تعالى و قيامه به لا من حيث انتسابه إلى العلل و الأسباب الظاهريّة.

و بهذه العناية عدّ المسيحعليه‌السلام كلمة له و روحاً منه إذ قال:( وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى‏ مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ ) النساء: ١٧١ لمّا وهبه لمريمعليها‌السلام من غير الطرق العاديّة و يقرب منه في العناية قوله تعالى:( إِنَّ مَثَلَ عِيسى‏ عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) آل عمران: ٥٩.

و هو تعالى و إن ذكرها في أغلب كلامه بالإضافة و التقيد كقوله:( وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) الحجر ٢٩، و قوله:( وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ) السجدة: ٩، و قوله:( فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا ) مريم: ١٧، و قوله:( وَ رُوحٌ مِنْهُ ) النساء: ١٧١ و قوله:( وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) البقرة: ٨٧ إلى غير ذلك إلّا أنّه أوردها في بعض كلامه مطلقة من غير تقييد كقوله:( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) القدر: ٤ و ظاهر الآية أنّها موجود مستقلّ و خلق سماويّ غير الملائكة، و نظير الآية بوجه قوله تعالى:( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) المعارج: ٤.

و أمّا الروح المتعلّقة بالإنسان فقد عبّر عنها بمثل قوله:( وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) ( وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ) و أتي بكلمة( مِنْ ) الدالّة على المبدئيّة و سمّاه نفخاً و عبّر عن الروح الّتي خصّها بالمؤمنين بمثل قوله:( وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) المجادلة: ٢٢ فأتى بالباء الدالّة على السببيّة و سمّاه تأييداً و تقوية، و عبّر عن الروح الّتي خصّها بالأنبياء بمثل قوله:( وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) البقرة: ٨٧ فأضاف الروح إلى القدس و هو النزاهة و الطهارة و سمّاه أيضاً تأييداً.

و بانضمام هذه الآيات إلى مثل آية سورة القدر يظهر أنّ نسبة الروح المضافة الّتي في هذه الآيات إلى الروح المطلقة المذكورة في سورة القدر نسبة الإفاضة إلى المفيض

٢٧٣

و الظلّ إلى ذي الظلّ بإذن الله.

و كذلك الروح المتعلّقة بالملائكة من إفاضات الروح بإذن الله، و إنّما لم يعبّر في روح الملك بالنفخ و التأييد كالإنسان بل سمّاه روحاً كما في قوله تعالى:( فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا ) ، و قوله:( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ ) النحل: ١٠٢، و قوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ) الشعراء: ١٩٣ لأنّ الملائكة أرواح محضة على اختلاف مراتبهم في القرب و البعد من ربّهم، و ما يتراءى من الأجسام لهم تمثّلات كما يشير إليه قوله تعالى:( فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا ) مريم: ١٧ و قد تقدّم الكلام في معنى التمثّل في ذيل الآية بخلاف الإنسان المخلوق مؤلّفاً من جسم ميت و روح حيّة فيناسبه التعبير بالنفخ كما في قوله( فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) الحجر: ٢٩.

و كما أوجب اختلاف الروح في خلق الملك و الإنسان اختلاف التعبير بالنفخ و عدمه كذلك اختلاف الروح من حيث أثرها و هو الحياة شرفاً و خسّة أوجب اختلاف التعبير بالنفخ و التأييد و عدّ الروح ذات مراتب مختلفة باختلاف أثر الحياة.

فمن الروح الروح المنفوخة في الإنسان قال:( وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) .

و من الروح الروح المؤيّد بها المؤمن قال:( أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) المجادلة: ٢٢ و هي أشرف وجوداً و أعلى مرتبة و أقوى أثراً من الروح الإنسانيّة العامّة كما يفيده قوله تعالى و هو في معنى هذه الآية:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ) الأنعام: ١٢٢ فقد عدّ المؤمن حيّاً ذا نور يمشي به و هو أثر الروح و الكافر ميتاً و هو ذو روح منفوخة فللمؤمن روح ليست للكافر ذات أثر ليس فيه.

و من ذلك يظهر أنّ من مراتب الروح ما هو في النبات لما فيه من أثر الحياة يدلّ على ذلك الآيات المتضمّنة لإحياء الأرض بعد موتها.

و من الروح الروح المؤيّد بها الأنبياء قال:( وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) البقرة: ٨٧ و سياق الآيات يدلّ على كون هذه الروح أشرف و أعلى مرتبة من غيرها ممّا في الإنسان.

٢٧٤

و أمّا قوله:( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ) المؤمن: ١٥، و قوله:( وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ) الشورى: ٥٢ فيقبل الانطباق على روح الإيمان و على روح القدس و الله أعلم.

و قد تقدّم بعض ما ينفع من الكلام في المقام في ذيل هذه الآيات الكريمة.

قوله تعالى: ( ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ ) إشارة إلى يوم الفصل المذكور في السورة الموصوف بما مرّ من الأوصاف و هو في الحقيقة خاتمة الكلام المنعطفة إلى فاتحة السورة و ما بعده أعني قوله:( فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ مَآباً ) إلخ فضل تفريع على البيان السابق.

و الإشارة إليه بالإشارة البعيدة للدلالة على فخامة أمره و المراد بكونه حقّاً ثبوته حتماً مقضيّاً لا يتخلّف عن الوقوع.

قوله تعالى: ( فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ مَآباً ) أي مرجعاً إلى ربّه ينال به ثواب المتّقين و ينجو به من عذاب الطاغين، و الجملة كما أشرنا إليه تفريع على ما تقدّم من الإخبار بيوم الفصل و الاحتجاج عليه و وصفه، و المعنى إذا كان كذلك فمن شاء الرجوع إلى ربّه فليرجع.

قوله تعالى: ( ا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً ) إلخ المراد به عذاب الآخرة، و كونه قريباً لكونه حقّاً لا ريب في إتيانه و كلّ ما هو آت قريب.

على أنّ الأعمال الّتي سيجزي بها الإنسان هي معه أقرب ما يكون منه.

و قوله:( يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ) أي ينتظر المرء جزاء أعماله الّتي قدّمتها يداه بالاكتساب، و قيل: المعنى ينظر المرء إلى ما قدّمت يداه من الأعمال لحضورها عنده قال تعالى:( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) آل عمران: ٣٠.

و قوله:( يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً ) أي يتمنّى من شدّة اليوم أن لو كان تراباً فاقداً للشعور و الإرادة فلم يعمل و لم يجز.

٢٧٥

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ و قوله:( وَ فُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً ) قال: تفتح أبواب الجنان، و قوله:( وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً ) قال: تصير الجبال مثل السراب الّذي يلمع في المفازة.

و فيه،: و قوله:( لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً ) قال: الأحقاب السنين و الحقب سنة و السنة عددها ثلاثمائة و ستّون يوماً و اليوم كألف سنة ممّا تعدّون.

و في المجمع، روى نافع عن ابن عمر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يخرج من النار من دخلها حتّى يمكث فيها أحقاباً و الحقب بضع و ستّون سنة و السنة ثلاثمائة و ستّون يوماً كلّ يوم كألف سنة ممّا تعدّون فلا يتّكلنّ أحد على أن يخرج من النار.

أقول: و أورد الرواية في الدرّ المنثور، و فيها ثمانون مكان ستّون و لفظ آخرها، قال ابن عمر: فلا يتّكلنّ أحد إلخ، و أورد أيضاً رواية اُخرى عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ الحقب أربعون سنة.

و فيه، و روى العيّاشيّ بإسناده عن حمران قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام عن هذه الآية فقال: هذه في الّذين يخرجون من النار، و روي عن الأحول مثله.

و في تفسير القمّيّ و قوله:( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً ) قال: يفوزون، قوله:( وَ كَواعِبَ أَتْراباً ) قال: جوار و أتراب لأهل الجنّة، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام قال في قوله:( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً ) قال: هي الكرامات( وَ كَواعِبَ أَتْراباً ) أي الفتيات النواهد.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و أبوالشيخ في العظمة و ابن مردويه عن ابن عبّاس أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: الروح جند من جنود الله ليسوا بملائكة لهم رؤس و أيد و أرجل ثمّ قرأ:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا ) قال: هؤلاء جند و هؤلاء جند.

٢٧٦

أقول: و قد تقدّمت الرواية في ذيل الآيات المشتملة على الروح عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ الروح خلق أعظم من جبرائيل و ميكائيل، و تقدّمت الرواية أيضاً عن عليّعليه‌السلام : أنّ الروح غير الملائكة و استدلّعليه‌السلام عليه بقوله تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) الآية.

نعم في رواية القمّيّ عن حمران أنّه ملك أعظم من جبرائيل و ميكائيل و كان مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو مع الأئمّةعليهم‌السلام ، و لعلّ المراد بالملك مطلق الموجود السماويّ أو هو من وهم بعض الرواة في النقل بالمعنى و لا دليل على انحصار الموجودات الأمريّة السماويّة في الملائكة بل الدليل على خلافه كما يستفاد من قوله تعالى لإبليس حين أبى عن السجود لآدم و قد سجد له الملائكة كلّهم أجمعون:( يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ ) ص: ٧٥ و قد تقدّمت الإشارة إلى ذلك في تفسير الآية.

و في اُصول الكافي، بإسناده عن محمّد بن الفضيل عن أبي الحسن الماضيعليه‌السلام قال قلت:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ ) الآية قال نحن و الله المأذون لهم يوم القيامة و القائلون صواباً. قلت: ما تقولون إذا تكلّمتم؟ قال: نمجّد ربّنا و نصلّي على نبيّنا و نشفع لشيعتنا و لا يردّنا ربّنا الحديث.

أقول: و رواه في المجمع، عن العيّاشيّ مرفوعاً عن معاوية بن عمّار عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

و الرواية من قبيل ذكر بعض المصاديق فهناك شفعاء اُخر من الملائكة و الأنبياء و المؤمنين مأذون لهم في التكلّم، و هناك شهداء من الاُمم مأذون لهم في التكلّم على ما ينصّ عليه القرآن و الحديث.

٢٧٧

( سورة النازعات مكّيّة و هي ستّ و أربعون آية)

( سورة النازعات الآيات ١ - ٤١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ( ١ ) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ( ٢ ) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا ( ٣ ) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا ( ٤ ) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ( ٥ ) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ( ٦ ) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ( ٧ ) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ( ٨ ) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ( ٩ ) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ ( ١٠ ) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً ( ١١ ) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ( ١٢ ) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ( ١٣ ) فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ ( ١٤ ) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ ( ١٥ ) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ( ١٦ ) اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ ( ١٧ ) فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ ( ١٨ ) وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ ( ١٩ ) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَىٰ ( ٢٠ ) فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ ( ٢١ ) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ ( ٢٢ ) فَحَشَرَ فَنَادَىٰ ( ٢٣ ) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ ( ٢٤ ) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ ( ٢٥ ) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ ( ٢٦ ) أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ( ٢٧ ) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ( ٢٨ ) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ( ٢٩ ) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا ( ٣٠ ) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ( ٣١ ) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ( ٣٢ ) مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ( ٣٣ ) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَىٰ ( ٣٤ ) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَىٰ ( ٣٥ )

٢٧٨

وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ ( ٣٦ ) فَأَمَّا مَن طَغَىٰ ( ٣٧ ) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ( ٣٨ ) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ ( ٣٩ ) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ ( ٤٠ ) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ ( ٤١ )

( بيان‏)

في السورة أخبار مؤكّد بوقوع البعث و القيامة، و احتجاج عليه من طريق التدبير الربوبيّ المنتج أنّ الناس سينقسمون يومئذ طائفتين أصحاب الجنّة و أصحاب الجحيم و تختتم السورة بالإشارة إلى سؤالهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن وقت قيام الساعة و الجواب عنه.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً وَ السَّابِحاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ) اختلف المفسّرون في تفسير هذه الآيات الخمس اختلافاً عجيباً مع اتّفاقهم على أنّها إقسام، و قول أكثرهم بأنّ جواب القسم محذوف، و التقدير اُقسم بكذا و كذا لتبعثنّ.

فقوله:( وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً ) قيل: المراد بها ملائكة الموت تنزع الأرواح من الأجساد، و( غَرْقاً ) مصدر مؤكّد بحذف الزوائد أي إغراقاً و تشديداً في النزع.

و قيل: المراد بها الملائكة الّذين ينزعون أرواح الكفّار من أجسادهم بشدّة، و قيل: هو الموت ينزع الأرواح من الأبدان نزعاً بالغاً.

و قيل: المراد بها النجوم تنزع من اُفق لتغيب في اُفق أي تطلع من مطالعها لتغرب في مغاربها، و قيل: المراد بها القسيّ تنزع بالسهم أي تمدّ بجذب وترها إغراقاً في المدّ فالإقسام بقسيّ المجاهدين في سبيل الله أو بالمجاهدين أنفسهم، و قيل: المراد بها الوحش تنزع إلى الكلإ.

و قوله:( وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً ) النشط الجذب و الخروج و الإخراج برفق و سهولة

٢٧٩

و حلّ العقدة، قيل: المراد بها الملائكة الّذين يخرجون الأرواح من الأجساد، و قيل المراد بها خصوص الملائكة يخرجون أرواح المؤمنين من أجسادهم برفق و سهولة، كما أنّ المراد بالنازعات غرقاً الملائكة الّذين ينزعون أرواح الكفّار من أجسادهم.

و قيل: هم الملائكة الّذين ينشطون أرواح الكفّار من أجسادهم، و قيل: المراد بها أرواح المؤمنين أنفسهم، و قيل: هي النجوم تنشط و تذهب من اُفق إلى اُفق، و قيل: هي السهام تنشط من قسيّها في الغزوات، و قيل: هو الموت ينشط و يخرج الأرواح من الأجساد، و قيل: هي الوحش تنشط من قطر إلى قطر.

و قوله:( وَ السَّابِحاتِ سَبْحاً ) قيل: المراد بها الملائكة تقبض الأرواح فتسرع بروح المؤمن إلى الجنّة و بروح الكافر إلى النار، و السبح الإسراع في الحركة كما يقال للفرس سابح إذا أسرع في جريه، و قيل: المراد بها الملائكة يقبضون أرواح المؤمنين يسلّونها من الأبدان سلاً رفيقاً ثمّ يدعونها حتّى يستريح كالسابح بالشي‏ء في الماء يرمي، و قيل: هي الملائكة ينزلون من السماء مسرعين، و قيل: هي النجوم تسبح في فلكها كما قال تعالى:( وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) .

و قيل: هي خيل الغزاة تسبح في عدوها و تسرع، و قيل: هي المنايا تسبح في نفوس الحيوان، و قيل: هي السفن تسبح في المياه، و قيل: السحاب، و قيل: دوابّ البحر.

و قوله:( فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً ) قيل المراد بها مطلق الملائكة لأنّها سبقت ابن آدم بالخير و الإيمان و العمل الصالح، و قيل ملائكة الموت تسبق بروح المؤمن إلى الجنّة و بروح الكافر إلى النار، و قيل الملائكة القابضون لروح المؤمن تسبق بها إلى الجنّة، و قيل، ملائكة الوحي تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء، و قيل أرواح المؤمنين تسبق إلى الملائكة الّذين يقبضونها شوقاً إلى لقاء الله سبحانه، و قيل هي النجوم تسبق بعضها بعضاً في السير، و قيل هي خيل الغزاة تسبق بعضها بعضاً في الحرب، و قيل: هي المنايا تسبق الآمال.

و قوله:( فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ) قيل: المراد بها مطلق الملائكة المدبّرين للاُمور، كذا فسّر الأكثرون حتّى ادّعى بعضهم اتّفاق المفسّرين عليه، و قيل المراد بها

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568