الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن10%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 220002 / تحميل: 7018
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

قوله تعالى: ( وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً ) المعصرات السحب الماطرة و قيل: الرياح الّتي تعصر السحب لتمطر و الثجّاج الكثير الصبّ للماء، و الأولى على هذا المعنى أن تكون( مِنَ ) بمعنى الباء.

قوله تعالى: ( لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَ نَباتاً ) أي حبّاً و نباتاً يقتات بهما الإنسان و سائر الحيوان.

قوله تعالى: ( وَ جَنَّاتٍ أَلْفافاً ) معطوف على قوله:( حَبًّا ) و جنّات ألفاف أي ملتفّة أشجارها بعضها ببعض.

قيل: إنّ الألفاف جمع لا واحد له من لفظه.

( بحث روائي‏)

في بعض الأخبار: أنّ النبأ العظيم عليّعليه‌السلام و هو من البطن.

عن الخصال، عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: قال أبوبكر: يا رسول الله أسرع إليك الشيب. قال: شيّبتني هود و الواقعة و المرسلات و عمّ يتساءلون.

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ) قال: يمهّد فيها الإنسان( وَ الْجِبالَ أَوْتاداً ) أي أوتاد الأرض.

و في نهج البلاغة، قالعليه‌السلام : و وتّد بالصخور ميدان أرضه.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً ) قال: يلبس على النهار.

أقول: و لعلّ المراد به أنّه يخفي ما يظهره النهار و يستر ما يكشفه.

و فيه: في قوله تعالى:( وَ جَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً ) قال: الشمس المضيئة( وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ) قال: من السحاب( ماءً ثَجَّاجاً ) قال: صبّاً على صبّ.

و عن تفسير العيّاشيّ، عن أبي عبداللهعليه‌السلام :( عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ ) بالياء يمطرون.

٢٦١

ثمّ قال: أ ما سمعت قوله:( وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً ) .

أقول: المراد أنّ( يَعْصِرُونَ ) بضمّ الياء بصيغة المجهول و المراد به أنّهم يمطرون و استشهادهعليه‌السلام بقوله:( وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ) دليل على أنّهعليه‌السلام أخذ المعصرات بمعنى الممطرات من أعصرت السحابة إذا أمطرت.

و روى العيّاشيّ مثل الحديث عن عليّ بن معمر عن أبيه عن أبي عبداللهعليه‌السلام و روى القمّيّ في تفسيره،: مثله عن أميرالمؤمنين.

٢٦٢

( سورة النبإ الآيات ١٧ - ٤٠)

إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا ( ١٧ ) يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ( ١٨ ) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا ( ١٩ ) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا ( ٢٠ ) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ( ٢١ ) لِّلطَّاغِينَ مَآبًا ( ٢٢ ) لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ( ٢٣ ) لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا ( ٢٤ ) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا ( ٢٥ ) جَزَاءً وِفَاقًا ( ٢٦ ) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا ( ٢٧ ) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا ( ٢٨ ) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا ( ٢٩ ) فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا ( ٣٠ ) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا ( ٣١ ) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا ( ٣٢ ) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا ( ٣٣ ) وَكَأْسًا دِهَاقًا ( ٣٤ ) لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا ( ٣٥ ) جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا ( ٣٦ ) رَّبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا ( ٣٧ ) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ( ٣٨ ) ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ مَآبًا ( ٣٩ ) إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا ( ٤٠ )

٢٦٣

( بيان‏)

تصف الآيات يوم الفصل الّذي أخبر به إجمالاً بقوله:( كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ) ثمّ تصف ما يجري فيه على الطاغين و المتّقين، و تختتم بكلمة في الإنذار و هي كالنتيجة.

قوله تعالى: ( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً ) قال في المجمع: الميقات منتهى المقدار المضروب لحدوث أمر من الاُمور و هو من الوقت كما أنّ الميعاد من الوعد و المقدار من القدر، انتهى.

شروع في وصف ما تضمّنه النبأ العظيم الّذي أخبر بوقوعه و هدّدهم به في قوله:( كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ) ثمّ أقام الحجّة عليه بقوله:( أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ) إلخ، و قد سمّاه يوم الفصل و نبّه به على أنّه يوم يفصل فيه القضاء بين الناس فينال كلّ طائفة ما يستحقّه بعمله فهو ميقات و حدّ مضروب لفصل القضاء بينهم و التعبير بلفظ( كانَ ) للدلالة على ثبوته و تعيّنه في العلم الإلهيّ على ما ينطق به الحجّة السابقة الذكر، و لذا أكّد الجملة بإنّ.

و المعنى: إنّ يوم فصل القضاء الّذي نبؤه نبأ عظيم كان في علم الله يوم خلق السماوات و الأرض و حكّم فيها النظام الجاري حدّاً مضروباً ينتهي إليه هذا العالم فإنّه تعالى كان يعلم أنّ هذه النشأة الّتي أنشأها لا تتمّ إلّا بالانتهاء إلى يوم يفصل فيه القضاء بينهم.

قوله تعالى: ( يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً ) قد تقدّم الكلام في معنى نفخ الصور كراراً، و الأفواج جمع فوج و هي الجماعة المارّة المسرعة على ما ذكره الراغب.

و في قوله:( فَتَأْتُونَ أَفْواجاً ) جري على الخطاب السابق الملتفت إليه قضاءً لحقّ الوعيد الّذي يتضمّنه قوله:( كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ) و كأنّ الآية ناظرة إلى قوله تعالى:( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ) إسراء: ٧١.

٢٦٤

قوله تعالى: ( وَ فُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً ) فاتّصل به عالم الإنسان بعالم الملائكة.

و قيل: التقدير فكانت ذات أبواب، و قيل: صار فيها طرق و لم يكن كذلك من قبل، و لا يخلو الوجهان من تحكّم فليتدبّر.

قوله تعالى: ( وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً ) السراب هو الموهوم من الماء اللّامع في المفاوز و يطلق على كلّ ما يتوهّم ذا حقيقة و لا حقيقة له على طريق الاستعارة.

و لعلّ المراد بالسراب في الآية هو المعنى الثاني.

بيان ذلك: أنّ تسيير الجبال و دكّها ينتهي بالطبع إلى تفرّق أجزائها و زوال شكلها كما وقع في مواضع من كلامه تعالى عند وصف زلزلة الساعة و آثارها إذ قال:( وَ تَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً ) الطور: ١٠ و قال:( وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً ) الحاقّة: ١٤، و قال:( وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا ) المزّمّل: ١٤، و قال:( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) القارعة: ٥، و قال:( وَ بُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا ) الواقعة: ٥، و قال:( وَ إِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ ) المرسلات: ١٠.

فتسيير الجبال و دكّها ينتهي بها إلى بسّها و نسفها و صيرورتها كثيباً مهيلاً و كالعهن المنفوش كما ذكره الله تعالى و أمّا صيرورتها سراباً بمعنى ما يتوهّم ماءً لامعاً فلا نسبة بين التسيير و بين السراب بهذا المعنى.

نعم ينتهي تسييرها إلى انعدامها و بطلان كينونتها و حقيقتها بمعنى كونها جبلاً فالجبال الراسيات الّتي كانت ترى حقائق ذوات كينونة قويّة لا تحرّكه العواصف تتبدّل بالتسيير سراباً باطلاً لا حقيقة له، و نظيره من كلامه تعالى قوله في أقوام أهلكهم و قطع دابرهم،( فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ ) سبأ: ١٩ و قوله:( فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَ جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ ) المؤمنون: ٤٤، و قوله في الأصنام( إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ) النجم: ٢٣.

٢٦٥

فالآية بوجه كقوله تعالى:( وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ ) النمل: ٨٨ - بناء على كونه ناظراً إلى صفة زلزلة الساعة -.

قوله تعالى: ( إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً ) قال في المفردات: الرصد الاستعداد للترقّب - إلى أن قال - و المرصد موضع الرصد قال تعالى:( وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ) و المرصاد نحوه لكن يقال للمكان الّذي اختصّ بالرصد قال تعالى:( إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً ) تنبيهاً على أنّ عليها مجاز الناس، و على هذا قوله تعالى:( وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ) انتهى.

قوله تعالى: ( لِلطَّاغِينَ مَآباً ) الطاغون الملتبّسون بالطغيان و هو الخروج عن الحدّ، و المآب اسم مكان من الأوب بمعنى الرجوع، و العناية في عدّها مآباً للطاغين أنّهم هيّئوها مأوى لأنفسهم و هم في الدنيا ثمّ إذا انقطعوا عن الدنيا آبوا و رجعوا إليها.

قوله تعالى: ( لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً ) الأحقاب الأزمنة الكثيرة و الدهور الطويلة من غير تحديد.

و هو جمع اختلفوا في واحده فقيل: واحده حقب بالضمّ فالسكون أو بضمّتين، و قد وقع في قوله تعالى:( أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً ) الكهف: ٦٠، و قيل: حقب بالفتح فالسكون و واحد الحقب حقبة بالكسر فالسكون قال الراغب: و الحقّ أنّ الحقبة مدّة من الزمان مبهمة. انتهى.

و حدّ بعضهم الحقب بثمانين سنة أو ببضع و ثمانين سنة و زاد آخرون أنّ السنة منها ثلاثمائة و ستّون يوماً كلّ يوم يعدل ألف سنة، و عن بعضهم أنّ الحقب أربعون سنة و عن آخرين أنّه سبعون ألف سنة إلى غير ذلك و لا دليل من الكتاب يدلّ على شي‏ء من هذه التحديدات و لم يثبت من اللغة شي‏ء منها.

و ظاهر الآية أنّ المراد بالطاغين المعاندون من الكفّار و يؤيّده قوله ذيلاً:( إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً ) .

و قد فسّروا( أَحْقاباً ) في الآية بالحقب بعد الحقب فالمعنى حال كون الطاغين

٢٦٦

لابثين في جهنّم حقباً بعد حقب بلا تحديد و لا نهاية فلا تنافي الآية ما نصّ عليه القرآن من خلود الكفّار في النار.

و قيل: إنّ قوله:( لا يَذُوقُونَ فِيها ) إلخ صفة( أَحْقاباً ) و المعنى لابثين فيها أحقاباً هي على هذه الصفة و هي أنّهم لا يذوقون فيها برداً و لا شراباً إلّا حميماً و غسّاقاً، ثمّ يكونون على غير هذه الصفة إلى غير النهاية.

و هو حسن لو ساعد السياق.

قوله تعالى: ( لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَ لا شَراباً ) ظاهر المقابلة بين البرد و الشراب أنّ المراد بالبرد مطلق ما يتبرّد به غير الشراب كالظلّ الّذي يستراح إليه بالاستظلال فالمراد بالذّوق مطلق النيل و المسّ.

قوله تعالى: ( إِلَّا حَمِيماً وَ غَسَّاقاً ) الحميم الماء الحارّ شديد الحرّ، و الغسّاق صديد أهل النار.

قوله تعالى: ( جَزاءً وِفاقاً - إلى قوله -كِتاباً ) المصدر بمعنى اسم الفاعل و المعنى يجزون جزاء موافقاً لما عملوا أو بتقدير مضاف أي جزاءً ذا وفاق أو إطلاق الوفاق على الجزاء للمبالغة كزيد عدل.

و قوله:( إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً ) أي تكذيباً عجيباً يصرّون عليه، تعليل يوضح موافقة جزائهم لعملهم، و ذلك أنّهم لم يرجوا الحساب يوم الفصل فأيسوا من الحياة الآخرة و كذّبوا بالآيات الدالّة عليها فأنكروا التوحيد و النبوّة و تعدّوا في أعمالهم طور العبوديّة فنسوا الله تعالى فنسيهم و حرّم عليهم سعادة الدار الآخرة فلم يبق لهم إلّا الشقاء و لا يجدون فيها إلّا ما يكرهون، و لا يواجهون إلّا ما يتعذّبون به و هو قوله:( فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً ) .

و في الآية أعني قوله:( جَزاءً وِفاقاً ) دلالة على المطابقة التامّة بين الجزاء و العمل فالإنسان لا يريد بعمله إلّا الجزاء الّذي بإزائه و التلبّس بالجزاء تلبّس بالعمل بالحقيقة قال تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) التحريم: ٧.

٢٦٧

و قوله:( وَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً ) أي كلّ شي‏ء و منه الأعمال ضبطناه و بينّاه في كتاب جليل القدر فالآية في معنى قوله تعالى:( وَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ ) يس: ١٣.

أو المراد و كلّ شي‏ء حفظناه حال كونه مكتوباً أي في اللوح المحفوظ أو في صحائف الأعمال، و جوّز أن يكون الإحصاء بمعنى الكتابة أو الكتاب بمعنى الإحصاء فإنّ الإحصاء و الكتابة يتشاركان في معنى الضبط و المعنى كلّ شي‏ء أحصيناه إحصاء أو كلّ شي‏ء كتبناه كتاباً.

و الآية على أيّ حال متمّم للتعليل السابق، و المعنى الجزاء موافق لأعمالهم لأنّهم كانوا على حال كذا و كذا و قد حفظناها عليهم فجزيناهم بها جزاءً وفاقاً.

قوله تعالى: ( فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً ) تفريع على ما تقدّم من تفصيل عذابهم مسوق لإيئاسهم من أن يرجو نجاة من الشقوة و راحة ينالونها.

و الالتفات إلى خطابهم بقوله:( فَذُوقُوا ) تقدير لحضورهم ليخاطبوا بالتوبيخ و التقريع بلا واسطة.

و المراد بقوله:( فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً ) أنّ ما تذوقونه بعد عذاب ذقتموه عذاب آخر فهو عذاب بعد عذاب و عذاب على عذاب فلا تزالون يضاف عذاب جديد إلى عذابكم القديم فاقنطوا من أن تنالوا شيئاً ممّا تطلبون و تحبّون.

و الآية لا تخلو من ظهور في كون المراد بقوله:( لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً ) الخلود دون الانقطاع.

قوله تعالى: ( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً - إلى قوله -كِذَّاباً ) الفوز الظفر بالخير مع حصول السلامة - على ما قاله الراغب - ففيه معنى النجاة و التخلّص من الشرّ و الحصول على الخير، و المفاز مصدر ميميّ أو اسم مكان من الفوز و الآية تحتمل الوجهين جميعاً.

و قوله:( حَدائِقَ وَ أَعْناباً ) الحدائق جمع حديقة و هي البستان المحوّط، و الأعناب جمع عنب و هو ثمر شجرة الكرم و ربّما يطلق على نفس الشجرة.

٢٦٨

و قوله:( وَ كَواعِبَ ) جمع كاعب و هي الفتاة الّتي تكعّب ثدياها و استدار مع ارتفاع يسير، و الترائب جمع ترب و هي المماثلة لغيرها من اللذات.

و قوله:( وَ كَأْساً دِهاقاً ) أي ممتلئة شراباً مصدر بمعنى اسم الفاعل.

و قوله:( لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا كِذَّاباً ) أي لا يسمعون في الجنّة لغواً من القول لا يترتّب عليه أثر مطلوب و لا تكذيباً من بعضهم لبعضهم فيما قال فقولهم حقّ له أثره المطلوب و صدق مطابق للواقع.

قوله تعالى: ( جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً ) أي فعل بالمتّقين ما فعل حال كونه جزاء من ربّك عطيّة محسوبة فقوله:( جَزاءً ) حال و كذا( عَطاءً ) و( حِساباً ) بمعنى اسم المفعول صفة لعطاء، و يحتمل أن يكون عطاء تمييزاً أو مفعولاً مطلقاً.

قيل: إضافة الجزاء إلى الربّ مضافاً إلى ضميرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تشريف له، و لم يضف جزاء الطاغين إليه تعالى تنزّهاً منه تعالى فليس يغشاهم شرّ إلّا من عند أنفسهم قال تعالى:( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) الأنفال: ٥١.

و وقوع لفظ الحساب في ذيل جزاء الطاغين و المتّقين معاً لتثبيت ما يلوّح إليه يوم الفصل الواقع في أوّل الكلام.

قوله تعالى: ( رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ ) بيان لقوله:( رَبِّكَ ) اُريد به أنّ ربوبيّته تعالى عامّة لكلّ شي‏ء و أنّ الربّ الّذي يتّخذه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّاً و يدعو إليه ربّ كلّ شي‏ء لا كما كان يقول المشركون: إنّ لكلّ طائفة من الموجودات ربّاً و الله سبحانه ربّ الأرباب أو كما كان يقول بعضهم: إنّه ربّ السماء.

و في توصيف الربّ بالرحمن - صيغة مبالغة من الرحمة - إشارة إلى سعة رحمته و أنّها سمة ربوبيّة لا يحرم منها شي‏ء إلّا أن يمتنع منها شي‏ء بنفسه لقصوره و سوء اختياره فمن شقوة هؤلاء الطاغين أنّهم حرّموها على أنفسهم بالخروج عن طور العبودية.

قوله تعالى: ( لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً ) وقوع صدر الآية في سياق قوله:

٢٦٩

( رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ ) - و شأن الربوبيّة هو التدبير و شأن الرحمانيّة بسط الرحمة - دليل على أنّ المراد بخطابه تعالى تكليمه في بعض ما فعل من الفعل بنحو السؤال عن السبب الداعي إلى الفعل كأن يقال: لم فعلت هذا؟ و لم لم تفعل كذا؟ كما يسأل الفاعل منّا عن فعله فتكون الجملة( لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً ) في معنى قوله تعالى:( لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ ) الأنبياء: ٢٣ و قد تقدّم الكلام في معنى الآية.

لكن وقوع قوله:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا ) بعد قوله:( لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً ) الظاهر في اختصاص عدم الملك بيوم الفصل مضافاً إلى وقوعه في سياق تفصيل جزاء الطاغين و المتّقين منه تعالى يوم الفصل يعطي أن يكون المراد به أنّهم لا يملكون أن يخاطبوه فيما يقضي و يفعل بهم باعتراض عليه أو شفاعة فيهم لكنّ الملائكة - و هم ممّن لا يملكون منه خطاباً - منزّهون عن وصمة الاعتراض عليه تعالى و قد قال فيهم:( عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) الأنبياء: ٢٧ و كذلك الروح الّذي هو(١) كلمته و قوله، و قوله(٢) حقّ، و هو تعالى (٣) الحقّ المبين و الحقّ لا يعارض الحقّ و لا يناقضه.

و من هنا يظهر أنّ المراد بالخطاب الّذي لا يملكونه هو الشفاعة و ما يجري مجراها من وسائل التخلّص من الشرّ كالعدل و البيع و الخلّة و الدعاء و السؤال قال تعالى:( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ ) البقرة: ٢٥٤، و قال:( وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ ) البقرة: ١٢٣، و قال:( يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) هود: ١٠٥.

و بالجملة قوله:( لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً ) ضمير الفاعل في( لا يَمْلِكُونَ ) لجميع المجموعين ليوم الفصل من الملائكة و الروح و الإنس و الجنّ كما هو المناسب

____________________

(١) النحل: ٤٠.

(٢) الأنعام: ٧٣.

(٣) النور: ٢٥.

٢٧٠

للسياق الحاكي عن ظهور العظمة و الكبرياء دون خصوص الملائكة و الروح لعدم سبق الذكر و دون خصوص الطاغين كما قيل لكثرة الفصل، و المراد بالخطاب الشفاعة و ما يجري مجراها كما تقدّم.

و قوله:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا ) ظرف لقوله:( لا يَمْلِكُونَ ) و قيل: لقوله:( لا يَتَكَلَّمُونَ ) و هو بعيد مع صلاحية ظرفيّته لما سبقه.

و المراد بالروح المخلوق الأمريّ الّذي يشير إليه قوله تعالى:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) إسراء: ٨٥.

و قيل: المراد به أشراف الملائكة، و قيل حفظة الملائكة و قيل: ملك موكّل على الأرواح. و لا دليل على شي‏ء من هذه الأقوال.

و قيل: المراد به جبريل، و قيل: أرواح الناس و قيامها مع الملائكة صفّاً إنّما هو بين النفختين قبل أن تلج الأجساد، و قيل: القرآن و المراد من قيامه ظهور آثاره يومئذ من سعادة المؤمنين به و شقاوة الكافرين.

و يدفعها أنّ هذه الثلاثة و إن اُطلق على كلّ منها الروح في كلامه تعالى لكنّه مع التقييد كقوله:( وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) الحجر: ٢٩، و قوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ) الشعراء: ١٩٣، و قوله:( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ ) النحل: ١٠٢، و قوله:( فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا ) مريم: ١٧، و قوله:( وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ) الشورى: ٥٢ و الروح في الآية الّتي نحن فيها مطلق، على أنّ في القولين الأخيرين تحكّماً ظاهراً.

و( صَفًّا) حال من الروح و الملائكة و هو مصدر اُريد به اسم الفاعل أي حال كونهم صافّين، و ربّما استفيد من مقابلة الروح للملائكة أنّ الروح وحده صفّ و الملائكة جميعاً صفّ.

و قوله:( لا يَتَكَلَّمُونَ ) بيان لقوله:( لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً ) و ضمير الفاعل لأهل الجمع من الروح و الملائكة و الإنس و الجنّ على ما يفيده السياق.

و قيل: الضمير للروح و الملائكة، و قيل: للناس و وقوع( لا يَمْلِكُونَ ) بما مرّ

٢٧١

من معناه و( لا يَتَكَلَّمُونَ ) في سياق واحد لا يلائم شيئاً من القولين.

و قوله:( إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ ) بدل من ضمير الفاعل في( لا يَتَكَلَّمُونَ ) اُريد به بيان من له أن يتكلّم منهم يومئذ بإذن الله فالجملة في معنى قوله:( يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) هود: ١٠٥ على ظاهر إطلاقه.

و قوله:( وَ قالَ صَواباً ) أي قال قولاً صواباً لا يشوبه خطأ و هو الحقّ الّذي لا يداخله باطل، و الجملة في الحقيقة قيد للإذن كأنّه قيل: إلّا من أذن له الرحمن و لا يأذن إلّا لمن قال صواباً فالآية في معنى قوله تعالى:( وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ) الزخرف: ٨٦.

و قيل:( إِلَّا مَنْ أَذِنَ ) إلخ استثناء ممّن يتكلّم فيه و المراد بالصواب التوحيد و قول لا إله إلّا الله و المعنى لا يتكلّمون في حقّ أحد إلّا في حقّ شخص أذن له الرحمن و قال ذلك الشخص في الدنيا صواباً أي أقرّ بالوحدانيّة و شهد أن لا إله إلّا الله فالآية في معنى قوله تعالى:( وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) الأنبياء: ٢٨.

و يدفعه أنّ العناية الكلاميّة في المقام متعلّقة بنفي أصل الخطاب و التكلّم يومئذ من كلّ متكلّم لا بنفي التكلّم في كلّ أحد مع تسليم جواز أصل التكلّم فالمستثنون هم المتكلّمون المأذون لهم في أصل التكلّم من دون تعرّض لمن يتكلّم فيه.

( كلام فيما هو الروح في القرآن‏)

تكرّرت كلمة الروح - و المتبادر منه ما هو مبدأ الحياة - في كلامه تعالى و لم يقصرها في الإنسان أو في الإنسان و الحيوان فحسب بل أثبتها في غيرهما كما في قوله:( فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا ) مريم: ١٧، و قوله:( وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ) الشورى: ٥٢ إلى غير ذلك فللروح مصداق في الإنسان و مصداق في غيره.

و الّذي يصلح أن يكون معرّفاً لها في كلامه تعالى ما في قوله:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) إسراء: ٨٥ حيث أطلقها إطلاقاً و ذكر معرّفاً لها أنّها

٢٧٢

من أمره و قد عرّف أمره بقوله:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) يس: ٨٣ فبيّن أنّه كلمة الإيجاد الّتي هي الوجود من حيث انتسابه إليه تعالى و قيامه به لا من حيث انتسابه إلى العلل و الأسباب الظاهريّة.

و بهذه العناية عدّ المسيحعليه‌السلام كلمة له و روحاً منه إذ قال:( وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى‏ مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ ) النساء: ١٧١ لمّا وهبه لمريمعليها‌السلام من غير الطرق العاديّة و يقرب منه في العناية قوله تعالى:( إِنَّ مَثَلَ عِيسى‏ عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) آل عمران: ٥٩.

و هو تعالى و إن ذكرها في أغلب كلامه بالإضافة و التقيد كقوله:( وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) الحجر ٢٩، و قوله:( وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ) السجدة: ٩، و قوله:( فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا ) مريم: ١٧، و قوله:( وَ رُوحٌ مِنْهُ ) النساء: ١٧١ و قوله:( وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) البقرة: ٨٧ إلى غير ذلك إلّا أنّه أوردها في بعض كلامه مطلقة من غير تقييد كقوله:( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) القدر: ٤ و ظاهر الآية أنّها موجود مستقلّ و خلق سماويّ غير الملائكة، و نظير الآية بوجه قوله تعالى:( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) المعارج: ٤.

و أمّا الروح المتعلّقة بالإنسان فقد عبّر عنها بمثل قوله:( وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) ( وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ) و أتي بكلمة( مِنْ ) الدالّة على المبدئيّة و سمّاه نفخاً و عبّر عن الروح الّتي خصّها بالمؤمنين بمثل قوله:( وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) المجادلة: ٢٢ فأتى بالباء الدالّة على السببيّة و سمّاه تأييداً و تقوية، و عبّر عن الروح الّتي خصّها بالأنبياء بمثل قوله:( وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) البقرة: ٨٧ فأضاف الروح إلى القدس و هو النزاهة و الطهارة و سمّاه أيضاً تأييداً.

و بانضمام هذه الآيات إلى مثل آية سورة القدر يظهر أنّ نسبة الروح المضافة الّتي في هذه الآيات إلى الروح المطلقة المذكورة في سورة القدر نسبة الإفاضة إلى المفيض

٢٧٣

و الظلّ إلى ذي الظلّ بإذن الله.

و كذلك الروح المتعلّقة بالملائكة من إفاضات الروح بإذن الله، و إنّما لم يعبّر في روح الملك بالنفخ و التأييد كالإنسان بل سمّاه روحاً كما في قوله تعالى:( فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا ) ، و قوله:( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ ) النحل: ١٠٢، و قوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ) الشعراء: ١٩٣ لأنّ الملائكة أرواح محضة على اختلاف مراتبهم في القرب و البعد من ربّهم، و ما يتراءى من الأجسام لهم تمثّلات كما يشير إليه قوله تعالى:( فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا ) مريم: ١٧ و قد تقدّم الكلام في معنى التمثّل في ذيل الآية بخلاف الإنسان المخلوق مؤلّفاً من جسم ميت و روح حيّة فيناسبه التعبير بالنفخ كما في قوله( فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) الحجر: ٢٩.

و كما أوجب اختلاف الروح في خلق الملك و الإنسان اختلاف التعبير بالنفخ و عدمه كذلك اختلاف الروح من حيث أثرها و هو الحياة شرفاً و خسّة أوجب اختلاف التعبير بالنفخ و التأييد و عدّ الروح ذات مراتب مختلفة باختلاف أثر الحياة.

فمن الروح الروح المنفوخة في الإنسان قال:( وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) .

و من الروح الروح المؤيّد بها المؤمن قال:( أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) المجادلة: ٢٢ و هي أشرف وجوداً و أعلى مرتبة و أقوى أثراً من الروح الإنسانيّة العامّة كما يفيده قوله تعالى و هو في معنى هذه الآية:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ) الأنعام: ١٢٢ فقد عدّ المؤمن حيّاً ذا نور يمشي به و هو أثر الروح و الكافر ميتاً و هو ذو روح منفوخة فللمؤمن روح ليست للكافر ذات أثر ليس فيه.

و من ذلك يظهر أنّ من مراتب الروح ما هو في النبات لما فيه من أثر الحياة يدلّ على ذلك الآيات المتضمّنة لإحياء الأرض بعد موتها.

و من الروح الروح المؤيّد بها الأنبياء قال:( وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) البقرة: ٨٧ و سياق الآيات يدلّ على كون هذه الروح أشرف و أعلى مرتبة من غيرها ممّا في الإنسان.

٢٧٤

و أمّا قوله:( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ) المؤمن: ١٥، و قوله:( وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ) الشورى: ٥٢ فيقبل الانطباق على روح الإيمان و على روح القدس و الله أعلم.

و قد تقدّم بعض ما ينفع من الكلام في المقام في ذيل هذه الآيات الكريمة.

قوله تعالى: ( ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ ) إشارة إلى يوم الفصل المذكور في السورة الموصوف بما مرّ من الأوصاف و هو في الحقيقة خاتمة الكلام المنعطفة إلى فاتحة السورة و ما بعده أعني قوله:( فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ مَآباً ) إلخ فضل تفريع على البيان السابق.

و الإشارة إليه بالإشارة البعيدة للدلالة على فخامة أمره و المراد بكونه حقّاً ثبوته حتماً مقضيّاً لا يتخلّف عن الوقوع.

قوله تعالى: ( فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ مَآباً ) أي مرجعاً إلى ربّه ينال به ثواب المتّقين و ينجو به من عذاب الطاغين، و الجملة كما أشرنا إليه تفريع على ما تقدّم من الإخبار بيوم الفصل و الاحتجاج عليه و وصفه، و المعنى إذا كان كذلك فمن شاء الرجوع إلى ربّه فليرجع.

قوله تعالى: ( ا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً ) إلخ المراد به عذاب الآخرة، و كونه قريباً لكونه حقّاً لا ريب في إتيانه و كلّ ما هو آت قريب.

على أنّ الأعمال الّتي سيجزي بها الإنسان هي معه أقرب ما يكون منه.

و قوله:( يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ) أي ينتظر المرء جزاء أعماله الّتي قدّمتها يداه بالاكتساب، و قيل: المعنى ينظر المرء إلى ما قدّمت يداه من الأعمال لحضورها عنده قال تعالى:( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) آل عمران: ٣٠.

و قوله:( يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً ) أي يتمنّى من شدّة اليوم أن لو كان تراباً فاقداً للشعور و الإرادة فلم يعمل و لم يجز.

٢٧٥

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ و قوله:( وَ فُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً ) قال: تفتح أبواب الجنان، و قوله:( وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً ) قال: تصير الجبال مثل السراب الّذي يلمع في المفازة.

و فيه،: و قوله:( لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً ) قال: الأحقاب السنين و الحقب سنة و السنة عددها ثلاثمائة و ستّون يوماً و اليوم كألف سنة ممّا تعدّون.

و في المجمع، روى نافع عن ابن عمر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يخرج من النار من دخلها حتّى يمكث فيها أحقاباً و الحقب بضع و ستّون سنة و السنة ثلاثمائة و ستّون يوماً كلّ يوم كألف سنة ممّا تعدّون فلا يتّكلنّ أحد على أن يخرج من النار.

أقول: و أورد الرواية في الدرّ المنثور، و فيها ثمانون مكان ستّون و لفظ آخرها، قال ابن عمر: فلا يتّكلنّ أحد إلخ، و أورد أيضاً رواية اُخرى عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ الحقب أربعون سنة.

و فيه، و روى العيّاشيّ بإسناده عن حمران قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام عن هذه الآية فقال: هذه في الّذين يخرجون من النار، و روي عن الأحول مثله.

و في تفسير القمّيّ و قوله:( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً ) قال: يفوزون، قوله:( وَ كَواعِبَ أَتْراباً ) قال: جوار و أتراب لأهل الجنّة، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام قال في قوله:( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً ) قال: هي الكرامات( وَ كَواعِبَ أَتْراباً ) أي الفتيات النواهد.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و أبوالشيخ في العظمة و ابن مردويه عن ابن عبّاس أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: الروح جند من جنود الله ليسوا بملائكة لهم رؤس و أيد و أرجل ثمّ قرأ:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا ) قال: هؤلاء جند و هؤلاء جند.

٢٧٦

أقول: و قد تقدّمت الرواية في ذيل الآيات المشتملة على الروح عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ الروح خلق أعظم من جبرائيل و ميكائيل، و تقدّمت الرواية أيضاً عن عليّعليه‌السلام : أنّ الروح غير الملائكة و استدلّعليه‌السلام عليه بقوله تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) الآية.

نعم في رواية القمّيّ عن حمران أنّه ملك أعظم من جبرائيل و ميكائيل و كان مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو مع الأئمّةعليهم‌السلام ، و لعلّ المراد بالملك مطلق الموجود السماويّ أو هو من وهم بعض الرواة في النقل بالمعنى و لا دليل على انحصار الموجودات الأمريّة السماويّة في الملائكة بل الدليل على خلافه كما يستفاد من قوله تعالى لإبليس حين أبى عن السجود لآدم و قد سجد له الملائكة كلّهم أجمعون:( يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ ) ص: ٧٥ و قد تقدّمت الإشارة إلى ذلك في تفسير الآية.

و في اُصول الكافي، بإسناده عن محمّد بن الفضيل عن أبي الحسن الماضيعليه‌السلام قال قلت:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ ) الآية قال نحن و الله المأذون لهم يوم القيامة و القائلون صواباً. قلت: ما تقولون إذا تكلّمتم؟ قال: نمجّد ربّنا و نصلّي على نبيّنا و نشفع لشيعتنا و لا يردّنا ربّنا الحديث.

أقول: و رواه في المجمع، عن العيّاشيّ مرفوعاً عن معاوية بن عمّار عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

و الرواية من قبيل ذكر بعض المصاديق فهناك شفعاء اُخر من الملائكة و الأنبياء و المؤمنين مأذون لهم في التكلّم، و هناك شهداء من الاُمم مأذون لهم في التكلّم على ما ينصّ عليه القرآن و الحديث.

٢٧٧

( سورة النازعات مكّيّة و هي ستّ و أربعون آية)

( سورة النازعات الآيات ١ - ٤١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ( ١ ) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ( ٢ ) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا ( ٣ ) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا ( ٤ ) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ( ٥ ) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ( ٦ ) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ( ٧ ) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ( ٨ ) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ( ٩ ) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ ( ١٠ ) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً ( ١١ ) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ( ١٢ ) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ( ١٣ ) فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ ( ١٤ ) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ ( ١٥ ) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ( ١٦ ) اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ ( ١٧ ) فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ ( ١٨ ) وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ ( ١٩ ) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَىٰ ( ٢٠ ) فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ ( ٢١ ) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ ( ٢٢ ) فَحَشَرَ فَنَادَىٰ ( ٢٣ ) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ ( ٢٤ ) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ ( ٢٥ ) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ ( ٢٦ ) أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ( ٢٧ ) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ( ٢٨ ) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ( ٢٩ ) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا ( ٣٠ ) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ( ٣١ ) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ( ٣٢ ) مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ( ٣٣ ) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَىٰ ( ٣٤ ) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَىٰ ( ٣٥ )

٢٧٨

وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ ( ٣٦ ) فَأَمَّا مَن طَغَىٰ ( ٣٧ ) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ( ٣٨ ) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ ( ٣٩ ) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ ( ٤٠ ) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ ( ٤١ )

( بيان‏)

في السورة أخبار مؤكّد بوقوع البعث و القيامة، و احتجاج عليه من طريق التدبير الربوبيّ المنتج أنّ الناس سينقسمون يومئذ طائفتين أصحاب الجنّة و أصحاب الجحيم و تختتم السورة بالإشارة إلى سؤالهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن وقت قيام الساعة و الجواب عنه.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً وَ السَّابِحاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ) اختلف المفسّرون في تفسير هذه الآيات الخمس اختلافاً عجيباً مع اتّفاقهم على أنّها إقسام، و قول أكثرهم بأنّ جواب القسم محذوف، و التقدير اُقسم بكذا و كذا لتبعثنّ.

فقوله:( وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً ) قيل: المراد بها ملائكة الموت تنزع الأرواح من الأجساد، و( غَرْقاً ) مصدر مؤكّد بحذف الزوائد أي إغراقاً و تشديداً في النزع.

و قيل: المراد بها الملائكة الّذين ينزعون أرواح الكفّار من أجسادهم بشدّة، و قيل: هو الموت ينزع الأرواح من الأبدان نزعاً بالغاً.

و قيل: المراد بها النجوم تنزع من اُفق لتغيب في اُفق أي تطلع من مطالعها لتغرب في مغاربها، و قيل: المراد بها القسيّ تنزع بالسهم أي تمدّ بجذب وترها إغراقاً في المدّ فالإقسام بقسيّ المجاهدين في سبيل الله أو بالمجاهدين أنفسهم، و قيل: المراد بها الوحش تنزع إلى الكلإ.

و قوله:( وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً ) النشط الجذب و الخروج و الإخراج برفق و سهولة

٢٧٩

و حلّ العقدة، قيل: المراد بها الملائكة الّذين يخرجون الأرواح من الأجساد، و قيل المراد بها خصوص الملائكة يخرجون أرواح المؤمنين من أجسادهم برفق و سهولة، كما أنّ المراد بالنازعات غرقاً الملائكة الّذين ينزعون أرواح الكفّار من أجسادهم.

و قيل: هم الملائكة الّذين ينشطون أرواح الكفّار من أجسادهم، و قيل: المراد بها أرواح المؤمنين أنفسهم، و قيل: هي النجوم تنشط و تذهب من اُفق إلى اُفق، و قيل: هي السهام تنشط من قسيّها في الغزوات، و قيل: هو الموت ينشط و يخرج الأرواح من الأجساد، و قيل: هي الوحش تنشط من قطر إلى قطر.

و قوله:( وَ السَّابِحاتِ سَبْحاً ) قيل: المراد بها الملائكة تقبض الأرواح فتسرع بروح المؤمن إلى الجنّة و بروح الكافر إلى النار، و السبح الإسراع في الحركة كما يقال للفرس سابح إذا أسرع في جريه، و قيل: المراد بها الملائكة يقبضون أرواح المؤمنين يسلّونها من الأبدان سلاً رفيقاً ثمّ يدعونها حتّى يستريح كالسابح بالشي‏ء في الماء يرمي، و قيل: هي الملائكة ينزلون من السماء مسرعين، و قيل: هي النجوم تسبح في فلكها كما قال تعالى:( وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) .

و قيل: هي خيل الغزاة تسبح في عدوها و تسرع، و قيل: هي المنايا تسبح في نفوس الحيوان، و قيل: هي السفن تسبح في المياه، و قيل: السحاب، و قيل: دوابّ البحر.

و قوله:( فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً ) قيل المراد بها مطلق الملائكة لأنّها سبقت ابن آدم بالخير و الإيمان و العمل الصالح، و قيل ملائكة الموت تسبق بروح المؤمن إلى الجنّة و بروح الكافر إلى النار، و قيل الملائكة القابضون لروح المؤمن تسبق بها إلى الجنّة، و قيل، ملائكة الوحي تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء، و قيل أرواح المؤمنين تسبق إلى الملائكة الّذين يقبضونها شوقاً إلى لقاء الله سبحانه، و قيل هي النجوم تسبق بعضها بعضاً في السير، و قيل هي خيل الغزاة تسبق بعضها بعضاً في الحرب، و قيل: هي المنايا تسبق الآمال.

و قوله:( فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ) قيل: المراد بها مطلق الملائكة المدبّرين للاُمور، كذا فسّر الأكثرون حتّى ادّعى بعضهم اتّفاق المفسّرين عليه، و قيل المراد بها

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

وأمّا عن سبب عمى ابن عباس ، فقد ذكرت في الجزء الرابع من الحلقة الأولى ما يغني عن إعادته.

وأمّا عن مشاورته عائشة وأم سلمة وأبا هريرة وجماعة من الصحابة فلم يرخصوا له في إجراء العملية ، وقالوا له : أرأيت إن متّ في هذه الأيام كيف تصنع بصلاتك؟

وبهذا أثبت الراوي جهل ابن عباس بوظيفته الشرعية ، فهو لا يعلم كيف يعمل فيستفتي عائشة وأبا هريرة وبعض الصحابة!!

فأين أثر دعاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم له بأن يفقهه في الدين ويعلّمه الحكمة؟!

وأين صارت شهادة عائشة في سنة ( 35 هـ ) فسألت : من ولي أمارة الموسم؟ فقيل لها : ابن عباس ، قالت : أنّه أعلم الناس بالحج! فكيف صار الآن لا يعرف تكليفه الشرعي؟!

وهو الذي قال عنه طاووس : ( رأيت سبعين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا تدارؤا صاروا إلى قول ابن عباس ).

وقد مرّت بنا هذه الأقوال وغيرها في الجزء الثاني من هذه الحلقة فراجعها تجدها مع مصادرها.

وقد قرأنا شواهد ومشاهد في أعقاب حرب الجمل فيها مواقف متشنجة بين ابن عباس وعائشة ، فكيف نستغفل عقولنا ونقبل ما رواه الرواة ممن طُبعوا على حبّ أم المؤمنين ، فصارا يبنون لها أهرامات من الفضائل تفوق أهرامات مصر الفرعونية!

٣٠١

( الحديث الرابع ) :

ما رواه الزركشي عن ابن عباس في بدعية صلاة ركعتين بعد العصر ، حيث روي : ( أنّ معاوية صلى صلاة العصر ثم قام ابن الزبير فصلى بعدها ، فقال معاوية : يا بن عباس ما هاتان الركعتان؟ فقال : بدعة وصاحبها صاحب بدعة ، ولمّا فرغ ابن الزبير سألهما عما قالاه فأخبراه ، قال : ما ابتدعت ، ولكن حدثتني خالتي عائشة. فأرسل معاوية إليها ، فقالت : صدق ، حدثتني أم سلمة ، فأرسل إلى أم سلمة : أنّ عائشة حدثتنا عنكِ بكذا ، فذكرت أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم صلى ذات يوم بعد العصر ( فقمت وراءه فصليت ) فلما أنفتل قال : ما شأنك؟ قلت : رأيتك يا نبيّ الله صليت وصليت معك ، فقال : إنّ عاملاً لي على الصدقات قدم عليَّ فجمعت عليه ).

ثم روى الزركشي عن الصحيحين ، عن كريب : أنّ ابن عباس وابن أزهر والمسور أرسلوا إلى عائشة لأنّهم أخبروا أنّها تصليها والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نهى عنها ، فقالت : سلوا أم سلمة ثم ذكر نحو ما سبق.

فهذا الحديث يدلّ على مخالفة عائشة لنهي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن الإتيان بهما ، وأنّ ابن عباس كان هو وعمر يضربان الناس عنها. فالأحرى أن يعدّ الزركشي هذا الحديث ممّا إستدركه ابن عباس على عائشة لا العكس! لكن الزركشي شغوف بلملمة أخبار عائشة مع الصحابة وإن إستلزم ذلك توهيناً لها من حيث يدري ولا يدري.

٣٠٢

( الحديث الخامس ) :

ما رواه الزركشي عن ابن عباس فهو لا يستبطن كذبه متناً فقط ، بل تكفي آفة سنده ، فقد أعلّه المنذري بيزيد بن أبي زياد ، وقال غير واحد من الأئمة أنّه لا يحتج بحديثه ، ومهما يكن حال السند ، فإنّ ما رواه ابن عباس كما في المتن هو أولى بالقبول لحضوره مع أهل البيت مراسيم الدفن.

ولكن هلّم الخطب فيما روته عائشة فهو محلّ الشك في صدقه ، إذ لم تكن حاضرة حين التكفين! أليس هي التي كانت مع النساء اللواتي يلتدمن كما تقول هي فيما رواه أحمد في مسنده عنها ، قالت : ( مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين سحري ونحري ، وفي دولتي لم أظلم فيه أحداً ، فمن سفهي وحداثة سني أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبض وهو في حجري ، ثم وضعت رأسه على وسادة وقمت التدم مع النساء وأضرب وجهي )(1) ، وقد قالت أيضاً : ( ما علمنا بدفن رسول الله حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل ( ليلة الأربعاء )(2) .

فمتى حضرت التكفين ورأت ثياب الكفن؟!

فكلّ ما ورد عنها في هذا الشأن مشكوك في صحته ، لأنّها تريد إستبعاد عليّ عليه السلام وأهل البيت عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

____________________

(1) مسند أحمد 6 / 274.

(2) الإستيعاب 1 / 47.

٣٠٣

وأنكى من ذلك إستبدالهم بآل أبي بكر! فهلمّ وأقرأ ما روته من خبر الحلّة التي أشتريت ليكفن فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأدرجوه فيها ثم نزعت عنه.

فلنقرأ الخبر برواية ابن قدامة المقدسي الحنبلي في كتابه ( المغني ) وهو غير متهم عليها ، فقال في الخبر : ( وهو أصح حديث روي في كفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعائشة أقرب إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأعرف بأحواله ، ولهذا لما ذكر لها قول الناس أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كُفن في برد ، قالت : قد أتي بالبُرد ولكنهم لم يكفنوه فيه ، فحفظت ما أغفله غيرها. وقالت أيضاً : أدرج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حلّة يمنية كانت لعبد الله بن أبي بكر ، ثم نزعت عنه ، فرفع عبد الله بن أبي بكر الحلّة وقال : أكفن فيها ، ثم قال : لم يكفن فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتصدق بها ). قال ابن قدامة : رواه مسلم(1) .

أقول : فهل تطلب أثراً بعد عين ، وتريد سخفاً بعد ميَن؟

فعائشة وعبد الله بن أبي بكر بطلا الحضور في الإحتضار والتكفين! وليذهب أهل البيت عليهم السلام جميعاً في غيابات الحقد الدفين ، كما تريد أم المؤمنين ، وليكتب الزركشي ما يزركش به أخبارها ولو على حساب الآخرين.

على أن ابن شهاب الزهري ـ وهو غير متهم على عائشة ـ قال : ولم يله إلاّ أقاربه(2) .

____________________

(1) المغني 2 / 329.

(2) أنظر دلائل النبوة للبيهقي 7 / 234 ، عن هامش ، التمهيد لابن عبد البر 9 / 358 ط الإحياء للتراث العربي.

٣٠٤

( الحديث السادس ) :

ما رواه الزركشي عن عكرمة عن ابن عباس في حديث ( رأى ربّه مرتين ) ، وإنكار عائشة عليه الرؤية ، والخبر الذي رواه في سنده من قال فيه ابن المبارك : أرم به ، لكن الزركشي لم يرم به ، بل أطال في جميع ما يتعلق بالموضوع وحكى قول ابن خزيمة : أنّ الخطاب وقع لعائشة على قدر عقلها.

وحكى قول أحمد : ما زلت منكراً لهذا الحديث وما أدري ما وجهه.

ثم الحديث في متنه : ( قال ابن عباس : ( رأى محمد ربّه ) ، وابن عباس لم يكن يقول بالرؤية البصرية كما هو واضح من لفظ الحديث الذي ذكره الزركشي نقلا ًعن الترمذي في التفسير ، وهو مخالف لقول الله تعالى :( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (1) .

وفي سنده من هو مخدوش ، ورواية مسلم له في الصحيح لا تضفي عليه شرعية أبداً ـ فكم في كتابي الصحيح من حديث غير صحيح ـ وسيأتي عن ابن عباس في جواب نجدة بن عامر ـ عويمر ـ الخارجي وقد سأله : ( كيف معرفتك بربّك؟ فأجابه أعرفه بما عرّف به نفسه تبارك وتعالى من غير رؤية ، وأصفه بما وصف به نفسه ، لا يدرك بالحواس ، ولا يقاس بالناس ) ، فهذا ينفي صحة نسبة القول بالرؤية البصرية إليه ، وسيأتي خبره مع نجدة فيما يأتي.

____________________

(1) الأنعام / 103.

٣٠٥

ومجرد رواية الترمذي عن عكرمة ذلك ، لا يضفي عليه الصحة.

ولم لا يكون الخبر من بعض أكاذيب عكرمة على مولاه ، وقد مرّت بعض الشواهد على ذلك ، كما سيأتي غيرها.

( الحديث السابع ) :

ما ذكره الزركشي في إحالة ابن عباس معرفة الوتر عليها ـ في حديث رواه مسلم في صحيحه ـ وأنّ سعد بن هشام سأل ابن عباس عن الوتر ، فقال : ( ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال : نعم ، قال عائشة )(1) .

أقول : إنّ هذا الحديث الذي ذكره لا يصح الإعتماد عليه! لإختلاف النقل عن عائشة ، فقيل : الإختلاف منها ، وقيل : هو من الرواة عنها ، كما ذكره الزركشي نفسه.

وكيف نصدّق نحن بالخبر ، وابن عباس الذي كان يبيت في بيت خالته ميمونة ليحفظ ما يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من صلاة وأذكار ـ وقد مرّت في الحلقة الأولى في الجزء الأوّل عدّة شواهد على هذا ـ فكيف صار لا يعلم عن صلاة الوتر شيئاً حتى أحال على أعلم أهل الأرض؟ يا لها من دعوى عريضة مريضة!!

لكن زوامل الأسفار يكتبون ما راق لهم ، أو يملى عليهم من السلطات الحاكمة من رفعهم عائشة إلى مقام لم تكن فيه عالمة ولا حالمة.

____________________

(1) صحيح مسلم 2 / 269 ط صبيح.

٣٠٦

( الحديث الثامن ) :

ما ذكره الزركشي من حديث عائشة وقد ردت على ابن عباس قراءته قوله تعالى :( وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) بالتخفيف ، فذكر الزركشي ما أخرجه البخاري في صحيحه في التفيسر عن ابن أبي مليكة قال ابن عباس :( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) (1) الخ بالتخفيف إلى آخر الخبر ، بينما كانت عائشة تقرؤها( كُذّبُوا ) مثقلة.

أقول : ما مرّ من إختلاف القراءة فيه نظر! فإنّ القراءة بالتخفيف هي قراءة أهل البيت عليهم السلام عليّ وزين العابدين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وزيد بن علي وابن عباس ، وهي أيضاً قراءة ابن مسعود وسعيد بن جبير وعكرمة والضحاك والأعمش وغيرهم ، وهي قراءة أهل الكوفة(2) .

وقد أطنب الطبري في تفسيره ، فساق ثماني عشرة رواية عن ابن عباس مؤداها متفق عليه بين الرواة عن ابن عباس ، وأوّلها بسند الطبري ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن ابن عباس ، في قوله :( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) (3) ، قال : ( لمّا أُيست الرسل أن يستجيب لهم قومهم ، وظنّ قومهم أنّ الرسل قد كذبوهم جاءهم النصر على ذلك ، فننجي من نشاء )(4) .

____________________

(1) يوسف / 110.

(2) مجمع البيان 5 / 465 ط الأعلمي.

(3) يوسف / 110.

(4) تفسير الطبري 13 / 82 ـ 83.

٣٠٧

وما جاء في بعضها أنّ ابن عباس قال : إنّهم ـ أي الأنبياء ـ بشر ، أي أنّهم هم الذين ظنوا ، فهذا وهم في الفهم ، فابن عباس لم يقل ذلك.

وقد ورد في ( عيون أخبار الرضا عليه السلام ) للشيخ الصدوق ، بسنده : عن علي بن محمد بن الجهم : أنّ المأمون قال لأبي الحسن ـ الرضا عليه السلام ـ : فأخبرني عن قول الله تعالى :( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ) (1) ؟ قال الرضا عليه السلام : يقول الله : حتى إذا استيأس الرسل من قومهم فظن قومهم أنّ الرسل قد كذبوا ، جاء الرسل نصرُنا.

وهذا هو عين ما رواه ثلاثة من تلاميذ ابن عباس ، كما في ( الدر المنثور ) للسيوطي في تفسير الآية ، قال : ( أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابراهيم ، عن أبي حمزة الجزري ، قال : صنعت طعاماً فدعوت ناساً من أصحابنا منهم : سعيد بن جبير ، والضحاك بن مزاحم ، فسأل فتى من قريش سعيد بن جبير ، فقال : يا أبا عبد الله كيف تقرأ هذا الحرف ، فإنّي إذا أتيت عليه تمنيت أنّي لا أقرأ هذه السورة( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ) ؟ قال : نعم ، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدّقوهم وظنّ المرسَل إليهم أنّ الرسل قد كُذبوا فقال الضحاك : لو رحلت في هذه إلى اليمن لكان قليلاً )(2) .

ومهما يكن فحسب القارئ من فقاهة السيدة عائشة أنّها لم تكن ترى

____________________

(1) يوسف / 110.

(2) الدر المنثور 4 / 41.

٣٠٨

نفسها أم المؤمنين رجالاً ونساءً! بينما كانت أم المؤمنين أم سلمة ترى أنّها أم المؤمنين رجالاً ونساءاً. أخرج ابن سعد في ( الطبقات ) بسنده : ( عن مسروق ، عن عائشة في قوله :( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ) (1) . قال : فقالت لها أمرأة : يا أمه ، فقالت عائشة : أنا أم رجالكم ولست أم نسائكم ، قال : فذكرت هذا الحديث لعبد الله بن موسى المخزومي ، فقال : أخبرني مصعب بن عبد الله بن أبي أمية عن أم سلمة ، أنّها قالت : أنا أم الرجال منكم والنساء )(2) .

أقول : وأحسب أنّ عائشة قالتها في ساعة غضب على النساء اللاتي كنّ يسألنها عن شرعية خروجها في حرب الجمل كأم جميع وأضرابها.

وإلى هنا فلنترك الأفغاني ونبعده قصياً ، بعد أن قرأناه نَسِيّاً وفَرِيّاً. ولنبصّر القارئ بأنّ الزركشي لم يكن دقيقاً في إختياره اسم كتابه ، إذ تبيّن أنّ ما ذكره تحت عنوان ( استدراكها على ابن عباس ) لم يكن خالياً من الإلباس ، وما ذكره لو يصح ولا يَصح ـ لا يعني أنّ بين عائشة وابن عباس من الوئام ما يصح معه زعم التواصل والتساؤل في الأحكام ، بل أنّ ابن عباس وعائشة عاشا بعد حرب الجمل متهاجرَيْن تقريباً ، وبقيا على حالهما كذلك حتى ماتت عائشة ، ولعلّه اشتدت المهاجرة والمخاصمة في عهد معاوية حين تناصرت هي وإياه على عداوة أهل البيت عليهم السلام. وكان ابن

____________________

(1) الأحزاب / 6.

(2) الطبقات الكبرى 8 / 128.

٣٠٩

عباس رجل الساعة والساحة المناصر لأهل البيت عليهم السلام ، كما يظهر بوضوح من مواقفه مع الأمويين وشيعتهم ، كما كانت عائشة تدعمهم فيما ترويه لهم من أحاديث ، والشواهد على ذلك متوفرة.

فقد أخرج الحافظ الكنجي الشافعي في ( كفاية الطالب ) وعنه الأربلي في ( كشف الغمة ) قال : ( روى الكنجي بسنده المنتهى إلى أبي صالح قال : ذكر عليّ بن أبي طالب عليه السلام عند عائشة وابن عباس حاضر ، فقالت عائشة : كان من أكرم رجالنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فقال ابن عباس : وأيّ شيء يمنعه عن ذاك؟ اصطفاه الله لنصرة رسوله ، وارتضاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأخوّته ، واختاره لكريمته ، وجعله أبا ذريته ووصيّه من بعده ، فإن ابتغيتِ شرفاً فهو في أكرم منبت وأورق عود ، وإن أردتِ إسلاماً فأوفر بحظه وأجزل بنصيبه ، وإن أردتِ شجاعته فبَهمة حرب وقاضية حتم ، يصافح السيوف أنساً ، لا يجد لوقعها حسّاً ، ولا ينهنه نعنعة ، ولا تفله الجموع ، الله ينجده ، وجبرئيل يرفده ، ودعوة الرسول تعضده ، أحدّ الناس لساناً ، وأظهرهم بياناً ، وأصدعهم بالصواب في أسرع جواب ، عظته أقلّ من عمله ، وعمله يعجز عنه أهل دهره ، فعليه رضوان الله ، وعلى مبغضيه لعائن الله )(1) .

وإنّما قال ابن عباس رضي الله عنه هذا لأنّه كان يعلم من عائشة موقفها المتشنج إزاء أهل البيت عليهم السلام خصوصاً الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وحتى

____________________

(1) كشف الغمة 1 / 363 ، كما في البحار 40 / 51 ط الجديدة.

٣١٠

الحسن والحسين عليهما السلام ، فلم تكن تأذن لهما بالدخول عليها ، وإذا أذنت احتجبت منهما ، وكان ابن عباس يشجب موقفها هذا ، فقد أخرج ابن سعد في ( الطبقات الكبير ) بسنده عن عكرمة قال : ( سمعت ابن عباس يقول ـ وبلغه أنّ عائشة احتجبت من الحسن بن علي ـ فقال : إنّ رؤيته لها لحلّ )(1) .

وقد مرّت بنا في الجزء الخامس من الحلقة الأولى محاورة ابن عباس مع عائشة عند موت الحسن عليه السلام فليرجع القارئ إليها. فهي محاورة تكشف عن مبلغ التشنج عند الطرفين المتباعدين المتباغضين.

وقد إستدام حقد عائشة حتى عند موتها ، فقد أخرج أحمد بن حنبل في مسنده بسنده عن ذكوان مولى عائشة : ( أنّه استأذن لابن عباس على عائشة وهي تموت وعندها ابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن ، فقال : هذا ابن عباس يستأذن عليك وهو من خير بنيك.

فقالت : دعني من ابن عباس ومن تزكيته.

فقال لها عبد الله بن عبد الرحمن : إنّه قارئ لكتاب الله فقيه في دين الله ، فأئذني له فليسلّم عليك وليودّعك.

قالت : فأئذن له إن شئت.

قال : فإذن له ، فدخل ابن عباس ثم سلّم وجلس ، وقال : أبشري أم المؤمنين

____________________

(1) الطبقات الكبرى8 / 128ط ليدن.

٣١١

فقالت : دعني يا بن عباس من هذا ، فو الله لوددت أنّي كنت نسياً منسيّاً(1) (2) . فقد جزعت حين احتضرت. فقيل لها ، فقالت : أعترض في حلقي يوم الجمل )(3) .

وإلى هنا ننهي الحديث عن ابن عباس مع عائشة ، ونستقبل بقية محاوراته مع معاوية وأشياعه.

____________________

(1) مسند أحمد 1 / 349 ط الأولى و 5 / 90 برقم ( 3262 ) ط شاكر.

(2) قال شاكر : في هامش الحديث برقم ( 2496 ) إسناده صحيح وهو مطول 1905 ، ورواه البخاري 8 / 371 ـ 372 مختصرا.

(3) ربيع الأبرار للزمخشري 3 / 345.

٣١٢

محاورات ابن عباس مع معاوية

قميصّ عثمان أضحى مضربَ المثل

لكلّ ثائرة من أخبث الحيل

في كلّ واقعة كذباً مخادعةً

صار الشعار لعيّابين في الدوَل

لو ينشر اليوم عثمانٌ لطالبهم

مع القصاص له بالغُنم من نفَل

فليته لو وعى نصحاً لجنّبه

تلك المآسي ولكن شاب عن عَذَل

فكان ما كان من أمرٍ تخيّره

شيخٌ ضعيفٌ هوى في حمأة الزَلَل

فأورث الناس آلاماً بمقتله

زلّت به النعل فالتاثته بالوَحَل

فأوّل القوم من نادوا بمقتله

ثاروا له اليوم يا للقلب الحَوِل

هم ناقموا الأمس قد جاؤا بأمّهمُ

وسيرّوا عسكراً في وقعة الجَمَل

وعاهل الشام أدلى في قليبهم

فقد رأى فرصة وافت لمهتبل

فحرب صفين قد أورى شرارتها

في النهروان فأورت كُلِّ ذي شُعلِ

حتى الطفوف وقتل السبط من ذَحل

حرق الخيام بتلك النار لم يَزل

ما ثأر عثمان أحماهم وأغضبهم

لولا الخلافة عادت للإمام عليّ

تلكم قريشُ لتأبى أن ترى رجلا

بالأمس قاتلهم واليوم فيه يلي

٣١٣

فأعصبوا قتل عثمان بحيدرة

أبناءُ من سجدوا دهراً إلى هُبل

هذا عليّ وهذي بعضُ محنته

أن يعصبوه دماً من خاتم الرّسُل

قال الزمخشري : قميص عثمان الذي قتل فيه ، مَثَلٌ فيما يهيّج الحزن ويجدّد الحسرة والبكاء ، وعن عمرو بن العاص : أنّه لمّا أحسّ من العسكر فتوراً أشار على معاوية بأن يبرز لهم قميص عثمان ، فلمّا وقعت عيونهم عليه ، ارتفعت صيحتهم بالبكاء والنحيب ، وجدّوا في الحرب فعندها قال حرّك لها حوارها تحنّ(1) .

مَن هم قتلة عثمان؟ هل هم بنو هاشم؟ أم هم بنو أمية؟

هذا سؤال قد يثير استغراباً لدى القارئ إذ لم يرد في التاريخ أنّ واحداً من هؤلاء قد شارك في قتل عثمان ، مباشرة ، فلماذا إذن السؤال؟

والجواب يُعرف من الأبيات المتقدمة ، وعلى هذا الوتر كانت أصابع معاوية تضرب وأبواقه تعزف بأنّ عليّاً قتل عثمان! وإذا حوقق قال : آوى قتلته!

ولم يكن ابن عباس بعيداً عن مرمى معاوية في حجارته لعداوته ، وسنقرأ في كثير من محارواته ما يدلّ على ذلك. وإذا بحثنا عن جذور تلك العداوات نجدها متأصلة في فرعي عبد مناف بني هاشم وبني أمية منذ عهد بعيد ، فلنقرأ بعض ما جاء في ذلك :

____________________

(1) ربيع الأبرار 4 / 32 ط أوقاف بغداد.

٣١٤

إنّ من راجع كتاب ( السفيانية ) للجاحظ ، و ( النزاع والتخاصم ) للمقريزي وأضرابهما ، يجد جذور العداوة بين بني أمية وبين بني هاشم وهم من قريش ، ضاربة في أصولها متنامية في فروعها ، ولم يخف ذلك على الباحثين من قدامى ومحدثين.

فإلى ما قاله واحد منهم وهو محمّد بن سليمان حاجب الحجاب ، وهذا الرجل لم يكن يتعصب لمذهب بعينه كما قال ابن أبي الحديد وقد رآه(1) ، فلنقرأ ما يقول وقد سأله جعفر بن مكي الحاجب عما عنده في أمر عليّ وعثمان ، فقال : ( هذه عداوة قديمة النسب بين عبد شمس وبين بني هاشم ، وقد كان حرب بن اُمية نافر عبد المطلب بن هاشم ، وكان أبو سفيان يحسد محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم وحاربه ، ولم تزل الثنتان متباغضتين وإن جمعتهما المنافية ، ثمّ إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زوّج عليّاً بابنته ، وزوّج عثمان بابنته الاُخرى ، وكان إختصاص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة أكثر من إختصاصه للبنت الأخرى ، وللثانية التي تزوجها عثمان بعد وفاة الأولى. وإختصاصه أيضاً لعليّ وزيادة قربه منه وامتزاجه به وإستخلاصه إياه لنفسه ، أكثر وأعظم من إختصاصه لعثمان ، فَنَفَس عثمان ذلك عليه فتباعد ما بين قلبيهما ).

إلى أن قال : ( ثمّ أتفق أنّ عليّاً عليه السلام قتل جماعة كثيرة من بني عبد

____________________

(1) وصفه ابن أبي الحديد بأنه حاجب الحجاب وقال : وكان ظريفاً أديباً وقد أشتغل بالرياضيات من الفلسفة ولم يكن يتعصب لمذهب بعينه.

٣١٥

شمس في حروب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فتأكد الشنآن ، وإذا أستوحش الإنسان من صاحبه أستوحش صاحبه منه.

ثمّ مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فصبا إلى عليّ جماعة يسيرة لم يكن عثمان منهم ، ولا حضر في دار فاطمة مع مَن حضر من المتخلّفين عن البيعة ، وكانت في نفس عليّ عليه السلام أمور من الخلافة لم يمكنه إظهارها في أيام أبي بكر وعمر لقوّة عمر وشدّته ، وانبساط يده ولسانه.

فلمّا قتل عمر وجعل الأمر شورى بين الستة ، وعدل بها عبد الرحمن عن عليّ إلى عثمان ، لم يملك عليّ نفسه فأظهر ما كان كامناً ، وأبدى ما كان مستوراً ، ولم يزل الأمر يتزايد بينهما حتى شرف وتفاقم.

ومع ذلك فلم يكن عليّ عليه السلام لينكر من أمره إلاّ منكراً ، ولا ينهاه إلاّ عما تقتضي الشريعة نهيه عنه.

وكان عثمان مستضعفاً في نفسه ، رخواً ، قليل الحزم ، واهي العقدة ، وسلّم عنانه إلى مروان يصرّفه كيف شاء ، فالخلافة له في المعنى ولعثمان في الإسم ، فلمّا انتقض على عثمان أمره استصرخ عليّاً ولاذ به ، وألقى زمام أمره إليه ، فدافع عنه حيث لا ينفع الدفاع ، وذبّ عنه حين لا يغني الذبّ ، فقد كان الأمر فسد فساداً لا يرجى صلاحه )(1) .

ومع هذه العداوة المتأصلة في جذورها كيف يبرئ معاوية وبنو أُمية الإمام عليه السلام وبني هاشم ، مع أنّهم وأعوانهم كانوا يشهدون ببراءته وبراءتهم ،

____________________

(1) أنظر شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 401 ط مصر الأولى.

٣١٦

ولكنها الأحقاد الأموية.

فاقرأ ما قاله عبد الله بن عمر لمن سأله : هل شرك عليّ في دم عثمان؟

فقال : ( لا والله ما علمت ذلك في سر ولا علانية ، ولكنّه كان رأساً يفزع إليه فألحق به ما لم يكن )(1) .

واقرأ لابن عمر كلمته الأُخرى في حقّ ابن عباس وبراءته من دم عثمان.

قال : ( ما زال ابن عباس ينهى عن قتل عثمان ويعظّم شأنه حتى جعلت ألوم نفسي على أن لا أكون قلت مثل ما قال )(2) .

وليس عروة بن الزبير بدون ابن عمر في نصبه ، ومع ذلك فقد كان يقول : ( كان عليّ أتقى لله من أن يعين في قتل عثمان ، وكان عثمان أتقى لله من أن يعين في قتله عليّ )(3) .

وقال ابن سيرين : ( لقد قتل عثمان يوم قتل وما أحد يتهم عليّاً في قتله )(4) .

ولكن معاوية قال لابن عباس في كتاب كتبه إليه بعد صلح الإمام الحسن عليه السلام ، جاء فيه : ( لعمري لو قتلتك بعثمان رجوت أن يكون ذلك لله رضا ، وأن يكون رأياً صواباً ، فإنّك من الساعين عليه ، والخاذلين له ، والسافكين دمه ، وما جرى بيني وبينك صلح فيمنعك منّي ولا بيدك أمان ).

____________________

(1) أنساب الأشراف 1 ق 4 / 593.

(2) نفس المصدر 4 / 595.

(3) ربيع الأبرار للزمخشري 3 / 355 ط اوقاف بغداد.

(4) أنساب الأشراف 1 ق 4 / 594.

٣١٧

فأجابه بجواب طويل جاء فيه : ( وأمّا قولك أنّي من الساعين على عثمان والخاذلين والسافكين له وما جرى بيني وبينك صلح فيمنعك منّي ، فأقسم بالله لأنت المتربّص بقتله والمحبّ لهلاكه ، والحابس الناس قبلك عنه على بصيرة من أمره ، ولقد أتاك كتابه وصريخه يستغيث بك ويستصرخ ، فما حفلت به حتى بعثت إليه معذراً بأمر أنت تعلم أنّهم لن يتركوه حتى يقتل ، فقتل كما كنت أردت ، ثمّ علمت عند ذلك أنّ الناس لن يعدلوا بيننا وبينك فطفقت تنعى عثمان وتلزمنا دمه ، وتقول قتل مظلوماً ، فإن يك قتل مظلوماً فأنت أظلم الظالمين ، ثمّ لم تزل مصوّباً ومصعّداً وجاثماً ورابضاً تستغوي الجهّال ، وتنازعنا حقنا بالسفهاء حتى أدركت ما طلبت ،( وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) (1) (2) .

نعم ، إنّ بني هاشم كانوا من الكارهين لولاية عثمان هذا أوّلاً ، لأنّهم يرون أنّ الحقّ لهم ، وكانوا أيضاً من الساخطين على سيرته ثانياً حين أسخط المسلمين عمالُه ، ولم يكونوا وحدهم قد سخطوا سيرته ، بل جميع الصحابة في المدينة وخارجها كانوا كذلك.

فقد روى شعبة بن الحجاج عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، قال : ( قلت له : كيف لم يمنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن عثمان؟ فقال : إنّما قتله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )(3) .

____________________

(1) الأنبياء / 111.

(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 4 / 58.

(3) نفس المصدر 1 / 231.

٣١٨

وروى عن أبي سعيد الخدري أنّه سئل عن مقتل عثمان هل شهده أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال : ( نعم شهده ثمانمائة )(1) .

فهذان القولان وإن لم يعيّنا بالاسم مَن هم أولئك الصحابة الذين قتلوا عثمان ، ومن هم الذين شهدوا مقتل عثمان ولم يمنعوا عنه ، لكن من تولى كبر قتله ، لم يكن عليّ ولا ابن عباس ولا بقية بني هاشم مع أولئك الصحابة القاتلين لعثمان ، وإذ لم يكونوا معهم ، فما بال بني أمية عصبوا قتله بهم؟ إنّهم لم يكونوا مع القاتلين ولا مع المحرّضين عليه ، بل كانوا من المدافعين عنه ، وقد ردّوا عنه كثيراً حتى أعجزهم هو حين لم يأخذ بنصائحهم ، وكان يتّهمهم لما في نفسه من جذور العداوة المتأصلة بين بيتي عبد مناف ـ بني هاشم وبني أمية ـ.

والآن إلى ما رواه البلاذري ، والطبري ، وابن الأثير ، وابن كثير ، والنويري ، نقلاً عن الواقدي من نصائح الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لعثمان ، ننقلها بلفظ الطبري :

قال ـ بعد ذكر نقمة الناس وتداعي الأمصار بالنكير على سيرة عثمان ـ : ( فاجتمع الناس وكلّموا عليّ بن أبي طالب ، فدخل على عثمان ، فقال : الناس ورائي وقد كلّموني فيك ، والله ما أدري ما أقول لك ، وما أعرف شيئاً تجهله ، ولا أدلّك على أمر لا تعرفه ، إنّك لتعلم ما علمنا ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه ، ولا خلونا بشيء فنبلّغكه ، وما خصصنا بأمر دونك ، وقد رأيتَ

____________________

(1) نفس المصدر.

٣١٩

وسمعتَ وصحبتَ رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم ونلتَ صهره.

وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الحقّ منك ، ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك ، وإنّك أقرب إلى رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم رَحِماً ، ولقد نلتَ من صهر رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم ما لم ينالا. ولا سبقاك إلى شيء ، فالله الله في نفسك ، فإنّك والله ما تُبصّر من عَمى ، ولا تعلّم من جهل ، وإنّ الطريق لواضح بيّن ، وإنّ أعلام الدين لقائمة ، تعلم يا عثمان أنّ أفضل عباد الله عند الله إمام عادل ، هُدي وهَدىَ ، فأقام سنة معلومة ، وأمات بدعة متروكة ، فوالله إن كلاً لبيّن وإنّ السنن لقائمة لها أعلام ، وإنّ البدع لقائمة لها أعلام ، وإنّ شرّ الناس عند الله إمام جائر ضلَّ وضُلّ به ، فأمات سنّة معلومة ، وأحيا بدعة متروكة. وإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم يقول : ( يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر ، فيلقى في جهنم ، فيدور في جهنم كما تدور الرحا ، ثمّ يرتطم في غمرة جهنم ).

وإنّي أحذّرك الله ، وأحذّرك سطوته ونقماته ، فإنّ عذابه شديد أليم. وأحذّرك أن تكون إمام هذه الأمة المقتول ، فإنّه يقال : يقتل في هذه الأمة إمام ، فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة ، وتُلّبس أمورُها عليها ، ويتركهم شيعاً ، فلا يبصرون الحقّ لعلوّ الباطل ، يموجون فيها موجاً ، ويمرجون فيها مرجاً. فلا تكونن لمروان سيّقة يسوقك حيث شاء بعد جلال السنّ وتقضّي العمر.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568