الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن10%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219980 / تحميل: 7018
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

الملائكة الأربعة المدبّرون لاُمور الدنيا: جبرائيل و ميكائيل و عزرائيل و إسرافيل، فجبرائيل يدبّر أمر الرياح و الجنود و الوحي، و ميكائيل يدبّر أمر القطر و النبات، و عزرائيل موكّل بقبض الأرواح، و إسرافيل يتنزّل بالأمر عليهم و هو صاحب الصور، و قيل: إنّها الأفلاك يقع فيها أمر الله فيجري بها القضاء في الدنيا.

و هناك قول بأنّ الإقسام في الآيات بمضاف محذوف و التقدير و ربّ النازعات نزعاً إلخ.

و أنت خبير بأنّ سياق الآيات الخمس سياق واحد متّصل متشابه الأجزاء لا يلائم كثيراً من هذه الأقوال القاضية باختلاف المعاني المقسم بها ككون المراد بالنازعات الملائكة القابضين لأرواح الكفّار، و بالناشطات الوحش، و بالسابحات السفن، و بالسابقات المنايا تسبق الآمال و بالمدبّرات الأفلاك.

مضافاً إلى أنّ كثيراً منها لا دليل عليها من جهة السياق إلّا مجرّد صلاحية اللفظ بحسب اللغة للاستعمال فيه أعمّ من الحقيقة و المجاز.

على أنّ كثيراً منها لا تناسب سياق آيات السورة الّتي تذكر يوم البعث و تحتجّ على وقوعه على ما تقدّم في سورة المرسلات من حديث المناسبة بين ما في كلامه تعالى من الإقسام و جوابه.

و الّذي يمكن أن يقال - و الله أعلم - أنّ ما في هذه الآيات من الأوصاف المقسم بها يقبل الانطباق على صفات الملائكة في امتثالها للأوامر الصادرة عليهم من ساحة العزّة المتعلّقة بتدبير اُمور هذا العالم المشهود ثمّ قيامهم بالتدبير بإذن الله.

و الآيات شديدة الشبه سياقاً بآيات مفتتح سورة الصافّات:( وَ الصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً فَالتَّالِياتِ ذِكْراً ) و آيات مفتتح سورة المرسلات:( وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً وَ النَّاشِراتِ نَشْراً فَالْفارِقاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً ) و هي تصف الملائكة في امتثالهم لأمر الله غير أنّها تصف ملائكة الوحي، و الآيات في مفتتح هذه السورة تصف مطلق الملائكة في تدبيرهم أمر العالم بإذن الله.

ثمّ إنّ أظهر الصفات المذكورة في هذه الآيات الخمس في الانطباق على الملائكة

٢٨١

قوله:( فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ) و قد أطلق التدبير و لم يقيّد بشي‏ء دون شي‏ء فالمراد به التدبير العالمي بإطلاقه، و قوله( أَمْراً ) تمييز أو مفعول به للمدبّرات و مطلق التدبير شأن مطلق الملائكة فالمراد بالمدبّرات مطلق الملائكة.

و إذ كان قوله:( فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ) مفتتحاً بفاء التفريع الدالّة على تفرّع صفة التدبير على صفة السبق، و كذا قوله:( فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً ) مقروناً بفاء التفريع الدالّة على تفرّع السبق على السبح دلّ ذلك على مجانسة المعاني المرادة بالآيات الثلاث:( وَ السَّابِحاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ) فمدلولها أنّهم يدبّرون الأمر بعد ما سبقوا إليه و يسبقون إليه بعد ما سبحوا أي أسرعوا إليه عند النزول فالمراد بالسابحات و السابقات هم المدبّرات من الملائكة باعتبار نزولهم إلى ما اُمروا بتدبيره.

فالآيات الثلاث في معنى قوله تعالى:( لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ ) الرعد: ١١ على ما تقدّم من توضيح معناه فالملائكة ينزلون على الأشياء و قد تجمّعت عليها الأسباب و تنازعت فيها وجوداً و عدماً و بقاء و زوالاً و في مختلف أحوالها فما قضاه الله فيها من الأمر و أبرم قضاءه أسرع إليه الملك المأمور به - بما عيّن له من المقام - و سبق غيره و تمّم السبب الّذي يقتضيه فكان ما أراده الله فافهم ذلك.

و إذا كان المراد بالآيات الثلاث الإشارة إلى إسراع الملائكة في النزول على ما اُمروا به من أمر و سبقهم إليه و تدبيره تعيّن حمل قوله:( وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً ) على انتزاعهم و خروجهم من موقف الخطاب إلى ما اُمروا به فنزعهم غرقاً شروعهم في النزول نحو المطلوب بشدّة و جدّ، و نشطهم خروجهم من موقفهم نحوه كما أنّ سبحهم إسراعهم إليه بعد الخروج و يتعقّب ذلك سبقهم إليه و تدبير الأمر بإذن الله.

فالآيات الخمس أقسام بما يتلبّس به الملائكة من الصفات عند ما يؤمرون بتدبير أمر من اُمور هذا العالم المشهود من حين يأخذون في النزول إليه إلى تمام التدبير.

و فيها إشارة إلى نظام التدبير الملكوتي عند حدوث الحوادث كما أنّ الآيات التالية أعني قوله:( هَلْ أَتاكَ ) إلخ إشارة إلى التدبير الربوبيّ الظاهر في هذا العالم.

٢٨٢

و في التدبير الملكوتيّ حجّة على البعث و الجزاء كما أنّ في التدبير الدنيويّ المشهود حجّة عليه على ما سيوافيك إن شاء الله بيانه.

هذا ما يعطيه التدبّر في سياق الآيات الكريمة و يؤيّده بعض التأييد ما سيأتي من الأخبار في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله.

( كلام في أنّ الملائكة وسائط في التدبير)

الملائكة وسائط بينه تعالى و بين الأشياء بدءاً و عوداً على ما يعطيه القرآن الكريم بمعنى أنّهم أسباب للحوادث فوق الأسباب المادّيّة في العالم المشهود قبل حلول الموت و الانتقال إلى نشأة الآخرة و بعده.

أمّا في العود أعني حال ظهور آيات الموت و قبض الروح و إجراء السؤال و ثواب القبر و عذابه و إماتة الكلّ بنفخ الصور و إحيائهم بذلك و الحشر و إعطاء الكتاب و وضع الموازين و الحساب و السوق إلى الجنّة و النار فوساطتهم فيها غنيّ عن البيان، و الآيات الدالّة على ذلك كثيرة لا حاجة إلى إيرادها، و الأخبار المأثورة فيها عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام فوق حدّ الإحصاء.

و كذا وساطتهم في مرحلة التشريع من النزول بالوحي و دفع الشياطين عن المداخلة فيه و تسديد النبيّ و تأييد المؤمنين و تطهيرهم بالاستغفار.

و أمّا وساطتهم في تدبير الاُمور في هذه النشأة فيدلّ عليها ما في مفتتح هذه السورة من إطلاق قوله:( وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً وَ السَّابِحاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ) بما تقدّم من البيان.

و كذا قوله تعالى:( جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ ) فاطر: ١ الظاهر بإطلاقه - على ما تقدّم من تفسيره - في أنّهم خلقوا و شأنهم أن يتوسّطوا بينه تعالى و بين خلقه و يرسلوا لإنفاذ أمره الّذي يستفاد من قوله

٢٨٣

تعالى في صفتهم:( بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) الأنبياء: ٢٧، و قوله:( يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) النحل: ٥٠ و في جعل الجناح لهم إشارة ذلك.

فلا شغل للملائكة إلّا التوسّط بينه تعالى و بين خلقه بإنفاذ أمره فيهم و ليس ذلك على سبيل الاتّفاق بأن يجري الله سبحانه أمراً بأيديهم ثمّ يجري مثله لا بتوسيطهم فلا اختلاف و لا تخلّف في سنّته تعالى:( إِنَّ رَبِّي عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) هود: ٥٦، و قال:( فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلًا وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلًا ) فاطر: ٤٣.

و من الوساطة كون بعضهم فوق بعض مقاماً و أمر العالي منهم السافل بشي‏ء من التدبير فإنّه في الحقيقة توسّط من المتبوع بينه تعالى و بين تابعه في إيصال أمر الله تعالى كتوسّط ملك الموت في أمر بعض أعوانه بقبض روح من الأرواح، قال تعالى حاكياً عن الملائكة:( وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ ) الصافّات: ١٦٤، و قال:( مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) التكوير: ٢١، و قال:( حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ ) سبأ: ٢٣.

و لا ينافي هذا الّذي ذكر من توسّطهم بينه تعالى و بين الحوادث أعني كونهم أسباباً تستند إليها الحوادث استناد الحوادث إلى أسبابها القريبة المادّيّة فإنّ السببيّة طوليّة لا عرضيّة أي إنّ السبب القريب سبب للحادث و السبب البعيد سبب للسبب.

كما لا ينافي توسّطهم و استناد الحوادث إليهم استناد الحوادث إليه تعالى و كونه هو السبب الوحيد لها جميعاً على ما يقتضيه توحيد الربوبيّة فإنّ السببيّة طوليّة كما سمعت لا عرضيّة و لا يزيد استناد الحوادث إلى الملائكة استنادها إلى أسبابها الطبيعيّة القريبة و قد صدّق القرآن الكريم استناد الحوادث إلى الحوادث الطبيعيّة كما صدّق استنادها إلى الملائكة.

٢٨٤

و ليس لشي‏ء من الأسباب استقلال قباله تعالى حتّى ينقطع عنه فيمنع ذلك استناد ما استند إليه إلى الله سبحانه على ما يقول به الوثنيّة من تفويضه تعالى تدبير الأمر إلى الملائكة المقرّبين فالتوحيد القرآنيّ ينفي الاستقلال عن كلّ شي‏ء من كلّ جهة: لا يملكون لأنفسهم نفعاً و لا ضرّاً و لا موتاً و لا حياة و لا نشوراً.

فمثل الأشياء في استنادها إلى أسبابها المترتّبة القريبة و البعيدة و انتهائها إلى الله سبحانه بوجه بعيد كمثل الكتابة يكتبها الإنسان بيده و بالقلم فللكتابة استناد إلى القلم ثمّ إلى اليد الّتي توسّلت إلى الكتابة بالقلم، و إلى الإنسان الّذي توسّل إليها باليد و بالقلم، و السبب بحقيقة معناه هو الإنسان المستقلّ بالسببيّة من غير أن ينافي سببيته استناد الكتابة بوجه إلى اليد و إلى القلم.

و لا منافاة أيضاً بين ما تقدّم أنّ شأن الملائكة هو التوسّط في التدبير و بين ما يظهر من كلامه تعالى أنّ بعضهم أو جميعهم مداومون على عبادته تعالى و تسبيحه و السجود له كقوله:( وَ مَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ ) الأنبياء: ٢٠، و قوله:( إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يُسَبِّحُونَهُ وَ لَهُ يَسْجُدُونَ ) الأعراف: ٢٠٦.

و ذلك لجواز أن تكون عبادتهم و سجودهم و تسبيحهم عين عملهم في التدبير و امتثالهم الأمر الصادر عن ساحة العزّة بالتوسّط كما ربّما يومئ إليه قوله تعالى:( وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَ الْمَلائِكَةُ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) النحل: ٤٩.

قوله تعالى: ( يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ) فسّرت الراجفة بالصيحة العظيمة الّتي فيها تردّد و اضطراب و الرادفة بالمتأخّرة التابعة، و عليه تنطبق الآيتان على نفختي الصور الّتي يدلّ عليهما قوله تعالى:( وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى‏ فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ ) الزمر: ٦٨.

٢٨٥

و قيل: الراجفة بمعنى المحرّكة تحريكاً شديداً - فإنّ الرجف يستعمل لازماً بمعنى التحرّك الشديد، و متعدّياً بمعنى التحريك الشديد - و المراد بها أيضاً النفخة الاُولى المحرّكة للأرض و الجبال، و بالرادفة النفخة الثانية المتأخّرة عن الاُولى.

و قيل: المراد بالراجفة الأرض و بالرادفة السماوات و الكواكب الّتي ترجف و تضطرب و تنشقّ، و تتلاشى و الوجهان لا يخلوان من بعد و لا سيّما الأخير.

و الأنسب بالسياق على أيّ حال كون قوله:( يَوْمَ تَرْجُفُ ) إلخ ظرفاً لجواب القسم المحذوف للدلالة على فخامته و بلوغه الغاية في الشدّة و هو لتبعثنّ، و قيل: إنّ( يَوْمَ ) منصوب على معنى قلوب يومئذ واجفة يوم ترجف الراجفة، و لا يخلو من بعد.

قوله تعالى: ( قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ أَبْصارُها خاشِعَةٌ ) تنكير( قُلُوبٌ ) للتنويع و هو مبتدأ خبره( واجِفَةٌ ) و الوجيف الاضطراب، و( يَوْمَئِذٍ ) ظرف متعلّق بواجفة و الجملة استئناف مبيّن لصفة اليوم.

و قوله:( أَبْصارُها خاشِعَةٌ ) ضمير( أَبْصارُها ) للقلوب و نسبة الأبصار و إضافتها إلى القلوب لمكان أنّ المراد بالقلوب في أمثال هذه المواضع الّتي تضاف إليها الصفات الإدراكيّة كالعلم و الخوف و الرجاء و ما يشبهها هي النفوس، و قد تقدّمت الإشارة إليها.

و نسبة الخشوع إلى الأبصار و هو من أحوال القلب إنّما هي لظهور أثره الدالّ عليه في الأبصار أقوى من سائر الأعضاء.

قوله تعالى: ( يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ ) إخبار و حكاية لقولهم في الدنيا استبعاداً منهم لوقوع البعث و الجزاء و إشارة إلى أنّ هؤلاء الّذين لقلوبهم وجيف و لأبصارهم خشوع يوم القيامة هم الّذين ينكرون البعث و هم في الدنيا و يقولون كذا و كذا.

٢٨٦

و الحافرة - على ما قيل - أوّل الشي‏ء و مبتداه، و الاستفهام للإنكار استبعاداً، و المعنى يقول: هؤلاء أ إنّا لمردودون بعد الموت إلى حالتنا الاُولى و هي الحياة.

و قيل: الحافرة بمعنى المحفورة و هي أرض القبر، و المعنى أ نرد من قبورنا بعد موتنا أحياء، و هو كما ترى.

و قيل: الآية تخبر عن اعترافهم بالبعث يوم القيامة، و الكلام كلامهم بعد الإحياء و الاستفهام للاستغراب كأنّهم لمّا بعثوا و شاهدوا ما شاهدوا يستغربون ما شاهدوا فيستفهمون عن الردّ إلى الحياة بعد الموت.

و هو معنى حسن لو لم يخالف ظاهر السياق.

قوله تعالى: ( أَ إِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً ) تكرار للاستفهام لتأكيد الاستبعاد فلو كانت الحياة بعد الموت مستبعدة فهي مع فرض نخر العظام و تفتّت الأجزاء أشدّ استبعاداً، و النخر بفتحتين البلى و التفتّت يقال: نخر العظم ينخر نخراً فهو ناخر و نخر.

قوله تعالى: ( قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ ) الإشارة بتلك إلى معنى الرجعة المفهوم من قوله( أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ ) و الكرّة الرجعة و العطفة، و عدّ الكرّة خاسرة إمّا مجاز و الخاسر بالحقيقة صاحبها، أو الخاسرة بمعنى ذات خسران، و المعنى قالوا: تلك الرجعة - و هي الرجعة إلى الحياة بعد الموت - رجعة متلبّسة بالخسران.

و هذا قول منهم أوردوه استهزاء - على أن يكون قولهم:( أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ ) إلخ ممّا قالوه في الدنيا - و لذا غيّر السياق و قال:( قالُوا تِلْكَ إِذاً ) إلخ بعد قوله:( يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ ) إلخ و أمّا على تقدير أن يكون ممّا سيقولونه عند البعث فهو قول منهم على سبيل التشؤم و التحسّر.

قوله تعالى: ( فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ) ضمير( هِيَ ) للكرّة و قيل: للرادفة و المراد بها النفخة الثانية، و الزجر طرد بصوت و صياح عبّر عن النفخة

٢٨٧

الثانية بالزجرة لما فيها من نقلهم من نشأة الموت إلى نشاة الحياة و من بطن الأرض إلى ظهرها، و( فَإِذا ) فجائيّة، و الساهرة الأرض المستوية أو الأرض الخالية من النبات.

و الآيتان في محلّ الجواب عمّا يدلّ عليه قولهم:( أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ ) إلخ من استبعاد البعث و استصعابه و المعنى لا يصعب علينا إحياؤهم بعد الموت و كرّتهم فإنّما كرّتهم - أو الرادفة الّتي هي النفخة الثانية - زجرة واحدة فإذا هم أحياء على وجه الأرض بعد ما كانوا أمواتاً في بطنها.

فالآيتان في معنى قوله تعالى:( وَ ما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ) النحل: ٧٧.

قوله تعالى: ( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) الآية إلى تمام اثنتي عشرة آية إشارة إلى إجمال قصّة موسى و رسالته إلى فرعون و ردّه دعوته إلى أن أخذه الله نكال الآخرة و الاُولى.

و فيها عظة و إنذار للمشركين المنكرين للبعث و قد توسّلوا به إلى ردّ الدعوة الدينيّة إذ لا معنى لتشريع الدين لو لا المعاد، و فيها مع ذلك تسلية للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تكذيب قومه، و تهديد لهم كما يؤيّده توجيه الخطاب في قوله:( هَلْ أَتاكَ ) .

و في القصّة مع ذلك كلّه حجّة على وقوع البعث و الجزاء فإنّ هلاك فرعون و جنوده تلك الهلكة الهائلة دليل على حقّيّة رسالة موسى من جانب الله إلى الناس و لا تتمّ رسالته من جانبه تعالى إلّا بربوبيّة منه تعالى للناس على خلاف ما يزعمه المشركون أن لا ربوبيّة له تعالى بالنسبة إلى الناس و أنّ هناك أرباباً دونه و أنّه سبحانه ربّ الأرباب لا غير.

ففي قوله:( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) استفهام بداعي ترغيب السامع في استماع الحديث ليتسلّى به هو و يكون للمنكرين إنذاراً بما فيه من ذكر العذاب و إتماماً للحجّة كما تقدّم.

و لا ينافي هذا النوع من الاستفهام تقدّم علم السامع بالحديث لأنّ الغرض

٢٨٨

توجيه نظر السامع إلى الحديث دون السؤال و الاستعلام حقيقة فمن الممكن أن تكون الآيات أوّل ما يقصّه الله من قصّة موسى أو تكون مسبوقة بذكر قصّته كما في سورة المزّمّل إجمالاً - و هي أقدم نزولاً من سورة النازعات - و في سورة الأعراف و طه و غيرهما تفصيلاً.

قوله تعالى: ( إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً ) ظرف للحديث و هو أوّل ما أوحى الله إليه فقلّده الرسالة، و طوى اسم للوادي المقدّس.

قوله تعالى: ( اذْهَبْ إِلى‏ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى‏ ) تفسير للنداء، و قيل: الكلام على تقدير القول أي قائلاً اذهب إلخ أو بتقدير أن المفسّرة أي أن اذهب إلخ و في الوجهين أنّ التقدير مستغنى عنه، و قوله:( إِنَّهُ طَغى‏ ) تعليل للأمر.

قوله تعالى: ( فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى‏ أَنْ تَزَكَّى ) متعلّق( إِلى) محذوف و التقدير هل لك ميل إلى أن تتزكّى أو ما في معناه، و المراد بالتزكّي التطهّر من قذارة الطغيان.

قوله تعالى: ( وَ أَهْدِيَكَ إِلى‏ رَبِّكَ فَتَخْشى) عطف على قوله:( تَزَكَّى ) و المراد بهدايته إيّاه إلى ربّه - كما قيل - تعريفه له و إرشاده إلى معرفته تعالى و تترتّب عليه الخشية منه الرادعة عن الطغيان و تعدّي طور العبوديّة قال تعالى:( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) فاطر: ٢٨.

و المراد بالتزكّي إن كان هو التطهّر عن الطغيان بالتوبة و الرجوع إلى الله تعالى كانت الخشية مترتّبة عليه و المراد بها الخشية الملازمة للإيمان الداعية إلى الطاعة و الرادعة عن المعصية، و إن كان هو التطهّر بالطاعة و تجنّب المعصية كان قوله:( وَ أَهْدِيَكَ إِلى‏ رَبِّكَ فَتَخْشى) مفسّراً لما قبله و العطف عطف تفسير.

قوله تعالى: ( فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) الفاء فصيحة و في الكلام حذف و تقدير و الأصل فأتاه و دعاه فأراه إلخ.

و المراد بالآية الكبرى على ما يظهر من تفصيل القصّة آية العصا، و قيل: المراد بها مجموع معجزاته الّتي أراها فرعون و ملأه و هو بعيد.

قوله تعالى: ( فَكَذَّبَ وَ عَصى) أي كذّب موسى فجحد رسالته و سمّاه ساحراً

٢٨٩

و عصاه فيما أمره به أو عصى الله.

قوله تعالى: ( ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى) الإدبار التولّي و السعي هو الجدّ و الاجتهاد أي ثمّ تولّى فرعون يجدّ و يجتهد في إبطال أمر موسى و معارضته.

قوله تعالى: ( فَحَشَرَ فَنادى) الحشر جمع الناس بإزعاج و المراد به جمعه الناس من أهل مملكته كما يدلّ عليه تفريع قوله:( فَنادى‏ فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) عليه فإنّه كان يدّعي الربوبيّة لأهل مملكته جميعاً لا لطائفة خاصّة منهم.

و قيل: المراد بالحشر جمع السحرة لقوله تعالى:( فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ ) الشعراء: ٥٣، و قوله:( فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى) طه: ٦٠ و فيه أنّه لا دليل على كون المراد بالحشر في هذه الآية هو عين المراد بالحشر و الجمع في تينك الآيتين.

قوله تعالى: ( فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) دعوى الربوبيّة و ظاهره أنّه يدّعي أنّه أعلى في الربوبيّة من سائر الأرباب الّتي كان يقول بها قومه الوثنيّون فيفضّل نفسه على سائر آلهتهم.

و لعلّ مراده بهذا التفضيل مع كونه وثنيّاً يعبد الآلهة كما يدلّ عليه قوله تعالى حكاية عن ملائه يخاطبونه:( أَ تَذَرُ مُوسى‏ وَ قَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ ) الأعراف: ١٢٧ أنّه أقرب الآلهة منهم تجري بيده أرزاقهم و تصلح بأمره شؤن حياتهم و يحفظ بمشيّته شرفهم و سؤددهم، و سائر الآلهة ليسوا على هذه الصفة.

و قيل: مراده بما قال تفضيل نفسه على كلّ من يلي اُمورهم و محصّله دعوى الملك و أنّه فوق سائر أولياء اُمور المملكة من حكّام و عمّال فيكون في معنى قوله فيما حكاه الله عنه إذ قال:( وَ نادى‏ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ) الآية الزخرف: ٥١.

و هو خلاف ظاهر الكلام و فيما قال قوله لملائه:( يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي ) القصص: ٣٨، و قوله لموسى:( لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ

٢٩٠

مِنَ الْمَسْجُونِينَ ) الشعراء: ٢٩.

قوله تعالى: ( فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولى) الأخذ كناية عن التعذيب، و النكال التعذيب الّذي يردع من رآه أو سمعه عن تعاطي مثله، و عذاب الآخرة نكال حيث إنّ من شأنه أن يردع من سمعه عن تعاطي ما يؤدّي إليه من المعصية كما أنّ عذاب الاستئصال في الدنيا نكال.

و المعنى: فأخذ الله فرعون أي عذّبه و نكله نكال الآخرة و الاُولى و أمّا عذاب الدنيا فإغراقه و إغراق جنوده، و أمّا عذاب الآخرة فعذابه بعد الموت، فالمراد بالاُولى و الآخرة الدنيا و الآخرة.

و قيل: المراد بالآخرة كلمته الآخرة،( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) و بالاُولى كلمته الاُولى قالها قبل ذلك:( ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي ) فأخذه الله بهاتين الكلمتين و نكله نكالهما، و لا يخلو هذا المعنى من خفاء.

و قيل: المراد بالاُولى تكذيبه و معصيته المذكوران في أوّل القصّة و بالاُخرى كلمة - أنا ربّكم الأعلى - المذكورة في آخرها، و هو كسابقه.

و قيل: الاُولى أوّل معاصيه و الاُخرى آخرها و المعنى أخذه الله نكال مجموع معاصيه و لا يخلو أيضاً من خفاء.

قوله تعالى: ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) الإشارة إلى حديث موسى، و الظاهر أنّ مفعول( يَخْشى) منسيّ معرض عنه، و المعنى أنّ في هذا الحديث - حديث موسى - لعبرة لمن كان له خشية و كان من غريزته أن يخشى الشقاء و العذاب و الإنسان من غريزته ذلك ففيه عبرة لمن كان إنساناً مستقيم الفطرة.

و قيل: المفعول محذوف و التقدير لمن يخشى الله و الوجه السابق أبلغ.

قوله تعالى: ( أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها - إلى قوله -وَ لِأَنْعامِكُمْ ) خطاب توبيخيّ للمشركين المنكرين للبعث المستهزئين به على سبيل العتاب و يتضمّن الجواب عن استبعادهم البعث بقولهم:( أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ أَ إِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً ) بأنّ الله خلق ما هو أشدّ منكم خلقاً فهو على خلقكم و إنشائكم النشأة الاُخرى لقدير.

٢٩١

و يتضمّن أيضاً الإشارة إلى الحجّة على وقوع البعث حيث يذكر التدبير العامّ العالميّ و ارتباطه بالعالم الإنسانيّ و لازمه ربوبيّته تعالى، و لازم الربوبيّة صحّة النبوّة و جعل التكاليف، و لازم ذلك الجزاء الّذي موطنه البعث و الحشر، و لذا فرّع عليه حديث البعث بقوله:( فإذا جاءت الطامة الكبرى) إلخ.

فقوله:( أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ ) استفهام توبيخيّ بداعي رفع استبعادهم البعث بعد الموت، و الإشارة إلى تفصيل خلق السماء بقوله:( بَناها ) إلخ دليل أنّ المراد به تقرير كون السماء أشدّ خلقاً.

و قوله:( بَناها ) استئناف و بيان تفصيليّ لخلق السماء.

و قوله:( رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها ) أي رفع سقفها و ما ارتفع منها، و تسويتها ترتيب أجزائها و تركيبها بوضع كلّ جزء في موضعه الّذي تقتضيه الحكمة كما في قوله:( فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) الحجر: ٢٩.

و قوله:( وَ أَغْطَشَ لَيْلَها وَ أَخْرَجَ ضُحاها ) أي أظلم ليلها و أبرز نهارها، و الأصل في معنى الضحى انبساط الشمس و امتداد النهار اُريد به مطلق النهار بقرينة المقابلة و نسبة الليل و الضحى إلى السماء لأنّ السبب الأصليّ لها سماويّ و هو ظهور الأجرام المظلمة بشروق الأنوار السماويّة كنور الشمس و غيره و خفاؤها بالاستتار و لا يختصّ الليل و النهار بالأرض الّتي نحن عليها بل يعمّان سائر الأجرام المظلمة المستنيرة.

و قوله:( وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها ) أي بسطها و مدّها بعد ما بنى السماء و رفع سمكها و سوّاها و أغطش ليلها و أخرج ضحاها.

و قيل: المعنى و الأرض مع ذلك دحاها كما في قوله:( عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ ) و قد تقدّم كلام فيما يظهر من كلامه تعالى في خلق السماء و الأرض في تفسير سورة الم السجدة و ذكر بعضهم أنّ الدحو بمعنى الدحرجة.

و قوله:( أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَ مَرْعاها ) قيل: المرعى يطلق على الرعي بالكسر فالسكون و هو الكلأ كما يجي‏ء مصدراً ميميّاً، و اسم زمان و مكان، و المراد بإخراج مائها منها تفجير العيون و إجراء الأنهار عليها، و إخراج المرعى إنبات النبات عليها

٢٩٢

ممّا يتغذّى به الحيوان و الإنسان فالظاهر أنّ المراد بالمرعى مطلق النبات الّذي يتغذّى به الحيوان و الإنسان كما يشعر به قوله:( مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ ) لا ما يختصّ بالحيوان كما هو الغالب في استعماله.

و قوله:( وَ الْجِبالَ أَرْساها ) أي أثبتها على الأرض لئلّا تميد بكم و ادّخر فيها المياه و المعادن كما ينبئ عنه سائر كلامه تعالى.

و قوله:( مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ ) أي خلق ما ذكر من السماء و الأرض و دبّر ما دبّر من أمرهما ليكون متاعاً لكم و لأنعامكم الّتي سخّرها لكم تتمتّعون به في حياتكم فهذا الخلق و التدبير الّذي فيه تمتيعكم يوجب عليكم معرفة ربّكم و خوف مقامه و شكر نعمته فهناك يوم تجزون فيه بما عملتم في ذلك إن خيراً فخيراً و إن شرّاً فشرّاً كما أنّ هذا الخلق و التدبير أشدّ من خلقكم فليس لكم أن تستبعدوا خلقكم ثانياً و تستصعبوه عليه تعالى.

قوله تعالى: ( فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) في المجمع: و الطامّة العالية الغالبة يقال: هذا أطمّ من هذا أي أعلى منه، و طمّ الطائر الشجرة أي علاها و تسمّى الداهية الّتي لا يستطاع دفعها طامّة. انتهى، فالمراد بالطامّة الكبرى القيامة لأنّها داهية تعلو و تغلب كلّ داهية هائلة، و هذا معنى اتّصافها بالكبرى و قد اُطلقت إطلاقاً.

و تصدير الجملة بفاء التفريع للإشارة إلى أنّ مضمونها أعني مجي‏ء القيامة من لوازم خلق السماء و الأرض و جعل التدبير الجاري فيهما المترتّبة على ذلك كما تقدّمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: ( يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى‏ ) ظرف لمجي‏ء الطامّة الكبرى، و السعي هو العمل بجدّ.

قوله تعالى: ( وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) التبريز الإظهار و مفعول( يَرى) منسيّ معرض عنه و المراد بمن يرى من له بصر يرى به، و المعنى و اُظهرت الجحيم بكشف الغطاء عنها لكلّ ذي بصر فيشاهدونها مشاهدة عيان.

فالآية في معنى قوله تعالى:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ

٢٩٣

فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق: ٢٢ غير أنّ آية ق أوسع معنى.

و الآية ظاهرة في أنّ الجحيم مخلوقة قبل يوم القيامة و إنّما تظهر يومئذ ظهوراً بكشف الغطاء عنها.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا مَنْ طَغى‏ وَ آثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى‏ وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى‏ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) تفصيل حال الناس يومئذ في انقسامهم قسمين اُقيم مقام الإجمال الّذي هو جواب إذا المحذوف استغناء بالتفصيل عن الإجمال، و التقدير فإذا جاءت الطامّة الكبرى انقسم الناس قسمين فأمّا من طغى إلخ.

و قد قسّم تعالى الناس في الآيات الثلاث إلى أهل الجحيم و أهل الجنّة - و قدّم صفة أهل الجحيم لأنّ وجه الكلام إلى المشركين - و عرّف أهل الجحيم بما وصفهم به في قوله:( مَنْ طَغى‏ وَ آثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا ) و قابل تعريفهم بتعريف أهل الجنّة بقوله:( مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) و سبيل ما وصف به الطائفتين على أيّ حال سبيل بيان الضابط.

و إذ كانت الطائفتان متقابلتين بحسب حالهما كان ما بيّن لكلّ منهما من الوصف مقابلاً لوصف الآخر فوصف أهل الجنّة بالخوف من مقام ربّهم - و الخوف تأثّر الضعيف المقهور من القويّ القاهر و خشوعه و خضوعه له - يقتضي كون طغيان أهل الجحيم - و الطغيان التعدّي عن الحدّ - هو عدم تأثّرهم من مقام ربّهم بالاستكبار و خروجهم عن زيّ العبوديّة فلا يخشعون و لا يخضعون و لا يجرون على ما أراده منهم و لا يختارون ما اختاره لهم من السعادة الخالدة بل ما تهواه أنفسهم من زينة الحياة الدنيا.

فمن لوازم طغيانهم اختيارهم الحياة الدنيا و هو الّذي وصفهم به بعد وصفهم بالطغيان إذ قال:( وَ آثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا ) .

و إذ كان من لوازم الطغيان رفض الآخرة و إيثار الحياة الدنيا و هو اتّباع النفس فيما تريده و طاعتها فيما تهواه و مخالفته تعالى فيما يريده كان لما يقابل الطغيان من

٢٩٤

الوصف و هو الخوف ما يقابل الإيثار و اتّباع هوى النفس و هو قريحة الردع عن الإخلاد إلى الأرض و نهى النفس عن اتّباع الهوى و هو قوله في وصف أهل الجنّة بعد وصفهم بالخوف:( وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى‏ ) .

و إنّما أخذ في وصفه النهي عن الهوى دون ترك اتّباعه عملاً لأنّ الإنسان ضعيف ربّما ساقته الجهالة إلى المعصية من غير استكبار و الله واسع المغفرة قال تعالى( وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ ) النجم: ٣٢، و قال:( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً ) النساء: ٣١.

و يتحصّل معنى الآيات الثلاث في إعطاء الضابط في صفة أهل الجحيم و أهل الجنّة في أنّ أهل الجحيم أهل الكفر و الفسوق و أهل الجنّة أهل الإيمان و التقوى، و هناك غير الطائفتين طوائف اُخر من المستضعفين و الّذين اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً و آخر سيّئا و غيرهم أمرهم إلى الله سبحانه عسى أن يشملهم المغفرة بشفاعة و غيرها.

فقوله:( فَأَمَّا مَنْ طَغى ‏ - إلى قوله -هِيَ الْمَأْوى) أي هي مأواه على أن تكون اللّام عوضاً عن الضمير أو الضمير محذوف و التقدير هي المأوى له.

و قوله:( وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ ) إلخ المقام اسم مكان يراد به المكان الّذي يقوم فيه جسم من الأجسام و هو الأصل في معناه ككونه اسم زمان و مصدراً ميميّاً لكن ربّما يعتبر ما عليه الشي‏ء من الصفات و الأحوال محلاً و مستقرّاً للشي‏ء بنوع من العناية فيطلق عليه المقام كالمنزلة كما في قوله تعالى في الشهادة:( فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما ) المائدة: ١٠٧ و قول نوحعليه‌السلام لقومه على ما حكاه الله:( إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَ تَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ ) يونس: ٧١، و قول الملائكة على ما حكاه الله:( وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ ) الصافّات: ١٦٤.

فمقامه تعالى المنسوب إليه بما أنّه ربّ هو صفة ربوبيّته بما تستلزمه أو تتوقّف

٢٩٥

عليه من صفاته الكريمة كالعلم و القدرة المطلقة و القهر و الغلبة و الرحمة و الغضب و ما يناسبها قال إيذاناً به:( وَ لا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى‏ وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) طه: ٨٢، و قال:( نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ ) الحجر: ٥٠.

فمقامه تعالى الّذي يخوّف منه عباده مرحلة ربوبيّته الّتي هي المبدأ لرحمته و مغفرته لمن آمن و اتّقى و لأليم عذابه و شديد عقابه لمن كذّب و عصى.

و قيل: المراد بمقام ربّه مقامه من ربّه يوم القيامة حين يسأله عن أعماله و هو كما ترى.

و قيل: معنى خاف مقام ربّه خاف ربّه بطريق الإقحام كما قيل في قوله( أَكْرِمِي مَثْواهُ ) .

( بحث روائي‏)

في الفقيه، و روى عليّ بن مهزيار قال: قلت لأبي جعفرعليه‌السلام : قوله عزّوجلّ:( وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى‏ وَ النَّهارِ إِذا تَجَلَّى ) و قوله عزّوجلّ:( وَ النَّجْمِ إِذا هَوى) و ما أشبه هذا؟ فقال إنّ لله عزّوجلّ أن يقسم من خلقه بما شاء و ليس لخلقه أن يقسموا إلّا به.

أقول: و تقدّم في هذا المعنى رواية الكافي، عن محمّد بن مسلم عن الباقرعليه‌السلام في تفسير أوّل سورة النجم.

و في الدرّ المنثور، أخرج سعيد بن المنصور و ابن المنذر عن عليّ في قوله:( وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً ) قال: هي الملائكة تنزع أرواح الكفّار( وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً ) هي الملائكة تنشط أرواح الكفّار ما بين الأظفار و الجلد حتّى تخرجها( وَ السَّابِحاتِ سَبْحاً ) هي الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين بين السماء و الأرض( فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً ) هي الملائكة يسبق بعضها بعضاً بأرواح المؤمنين إلى الله( فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ) قال هي الملائكة تدبّر أمر العباد من السنة إلى السنة.

٢٩٦

أقول: ينبغي أن تحمل الرواية - لو صحّت - على ذكر بعض المصاديق، و قوله:( تنشط أرواح الكفّار ما بين الأظفار و الجلد حتّى تخرجها) ضرب من التمثيل لشدّة العذاب.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب أنّ ابن الكوّاء سأله عن( فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ) قال: الملائكة يدبّرون ذكر الرحمن و أمره.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ) قال: تنشقّ الأرض بأهلها و الرادفة الصيحة.

و فيه: في قوله:( أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ ) قال: قالت قريش: أ نرجع بعد الموت؟

و فيه: في قوله:( تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ ) قال: قالوا هذه على حدّ الاستهزاء.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام قوله:( أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ ) يقول: في الخلق الجديد، و أمّا قوله:( فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ) و الساهرة الأرض كانوا في القبور فلمّا سمعوا الزجرة خرجوا من قبورهم فاستووا على الأرض.

و في اُصول الكافي، بإسناده إلى داود الرقي عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ:( وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ ) ، قال: من علم أنّ الله يراه و يسمع ما يقول و يعلم ما يعمله من خير أو شرّ فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال فذلك الّذي خاف مقام ربّه و نهى النفس عن الهوى.

أقول: يؤيّد الحديث ما تقدّم من معنى الخوف من مقامه تعالى.

و فيه، بإسناده عن يحيى بن عقيل قال: قال أميرالمؤمنينعليه‌السلام : إنّما أخاف عليكم الاثنين: اتّباع الهوى و طول الأمل أمّا اتّباع الهوى فإنّه يصدّ عن الحقّ و أمّا طول الأمل فينسي الآخرة.

٢٩٧

( سورة النازعات الآيات ٤٢ - ٤٦)

يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ( ٤٢ ) فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا ( ٤٣ ) إِلَىٰ رَبِّكَ مُنتَهَاهَا ( ٤٤ ) إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ( ٤٥ ) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ( ٤٦ )

( بيان‏)

تعرّض لسؤالهم عن وقت قيام الساعة و ردّ له بأنّ علمه ليس لأحد إلّا الله فقد خصّه بنفسه.

قوله تعالى: ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها ) الظاهر أنّ التعبير بيسألونك لإفادة الاستمرار فقد كان المشركون بعد ما سمعوا حديث القيامة يراجعون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يسألونه أن يعيّن لهم وقتها مصرّين على ذلك و قد تكرّر في القرآن الكريم الإشارة إلى ذلك.

و المرسى مصدر ميميّ بمعنى الإثبات و الإقرار و قوله:( أَيَّانَ مُرْساها ) بيان للسؤال و المعنى يسألك هؤلاء المنكرون للساعة المستهزؤن به عن الساعة متى إثباتها و إقرارها؟ أي متى تقوم القيامة؟

قوله تعالى: ( فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها ) استفهام إنكاريّ و( فِيمَ أَنْتَ ) مبتدأ و خبر، و( مِنْ ) لابتداء الغاية، و الذكرى كثرة الذكر و هو أبلغ من الذكر على ما ذكره الراغب.

و المعنى في أيّ شي‏ء أنت من كثرة ذكر الساعة أي ما ذا يحصل لك من العلم بوقتها من ناحية كثرة ذكرها و بسبب ذلك أي لست تعلمها بكثرة ذكرها.

أو الذكرى بمعنى حضور حقيقة معنى الشي‏ء في القلب، و المعنى - على الاستفهام

٢٩٨

الإنكاريّ - لست في شي‏ء من العلم بحقيقتها و ما هي عليه حتّى تحيط بوقتها و هو أنسب من المعنى السابق.

و قيل: المعنى ليس ذكراها ممّا يرتبط ببعثتك إنّما بعثت لتنذر من يخشاها.

و قيل:( فِيمَ ) إنكار لسؤالهم، و قوله:( أَنْتَ مِنْ ذِكْراها ) استئناف و تعليل لإنكار سؤالهم، و المعنى فيم هذا السؤال إنّما أنت من ذكرى الساعة لاتّصال بعثتك بها و أنت خاتم الأنبياء، و هذا المقدار من العلم يكفيهم، و هو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما روي:( بعثت أنا و الساعة كهاتين إن كادت لتسبقني) .

و قيل: الآية من تمام سؤال المشركين خاطبوا به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المعنى ما الّذي عندك من العلم بها و بوقتها؟ أو ما الّذي حصل لك و أنت تكثر ذكرها.

و أنت خبير بأنّ السياق لا يلائم شيئاً من هذه المعاني تلك الملاءمة، على أنّها أو أكثرها لا تخلو من تكلّف.

قوله تعالى: ( إِلى‏ رَبِّكَ مُنْتَهاها ) في مقام التعليل لقوله:( فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها ) و المعنى لست تعلم وقتها لأنّ انتهاءها إلى ربّك فلا يعلم حقيقتها و صفاتها و منها تعيّن الوقت إلّا ربّك فليس لهم أن يسألوا عن وقتها و ليس في وسعك أن تجيب عنها.

و ليس من البعيد - و الله أعلم - أن تكون الآية في مقام التعليل بمعنى آخر و هو أنّ الساعة تقوم بفناء الأشياء و سقوط الأسباب و ظهور أن لا ملك إلّا لله الواحد القهّار فلا ينتسب اليوم إلّا إليه تعالى من غير أن يتوسّط بالحقيقة بينه تعالى و بين اليوم أيّ سبب مفروض و منه الزمان فليس يقبل اليوم توقيتاً بحسب الحقيقة.

و لذا لم يرد في كلامه تعالى من التحديد إلّا تحديد اليوم بانقراض نشأة الدنيا كقوله:( وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ ) الزمر: ٦٨ و ما في معناه من الآيات الدالّة على خراب الدنيا بتبدّل الأرض و السماء و انتثار الكواكب و غير ذلك.

و إلّا تحديده بنوع من التمثيل و التشبيه كقوله تعالى:( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ

٢٩٩

يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها ) و قوله:( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ ) الأحقاف: ٣٥، و قوله:( وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ ) ثمّ ذكر حقّ القول في ذلك فقال:( وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى‏ يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ ) الروم: ٥٦.

و يلوّح إلى ما مرّ ما في مواضع من كلامه أنّ الساعة لا تأتي إلّا بغتة، قال تعالى:( ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) الأعراف: ١٨٧ إلى غير ذلك من الآيات.

و هذا وجه عميق يحتاج في تمامه إلى تدبّر واف ليرتفع به ما يتراءى من مخالفته لظواهر عدّة من آيات القيامة و عليك بالتدبّر في قوله تعالى:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق: ٢٢ و ما في معناه من الآيات و الله المستعان.

قوله تعالى: ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها ) أي إنّما كلّفناك بإنذار من يخشى الساعة دون الإخبار بوقت قيام الساعة حتّى تجيبهم عن وقتها إذا سألوك عنه فالقصر في الآية قصر إفراد بقصر شأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الإنذار و تنفي عنه العلم بالوقت و تعيينه لمن يسأل عنه.

و المراد بالخشية على ما يناسب المقام الخوف منها إذا ذكّر بها أي شأنيّة الخشية لا فعليّتها قبل الإنذار.

قوله تعالى: ( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها ) بيان لقرب الساعة بحسب التمثيل و التشبيه بأنّ قرب الساعة من حياتهم الدنيا بحيث مثلهم حين يرونها مثلهم لو لبثوا بعد حياتهم في الأرض عشيّة أو ضحى تلك العشيّة أي وقتاً نسبته إلى نهار واحد نسبة العشيّة إلى ما قبلها منه أو نسبة الضحى إلى ما قبله منه.

و قد ظهر بما تقدّم أنّ المراد باللبث لبث ما بين الحياة الدنيا و البعث أي لبثهم في القبور لأنّ الحساب يقع على مجموع الحياة الدنيا.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

و يندفع بهذا الوجه الاعتراض على ما استدلّ به على المعاد من إطلاق القدرة كما سيجي‏ء، و محصّله أنّ إطلاق القدرة إنّما ينفع فيما كان ممكناً لكن إعادة الإنسان بعينه محال فإنّ الإنسان المخلوق ثانياً مثل الإنسان الدنيويّ المخلوق أوّلاً لا شخصه الّذي خلق أوّلاً و مثل الشي‏ء غير الشي‏ء لا عينه.

وجه الاندفاع أنّ شخصيّة الشخص من الإنسان بنفسه لا ببدنه و النفس محفوظة فإذا خلق البدن و تعلّقت به النفس كان هو الإنسان الدنيويّ بشخصه و إن كان البدن بالقياس إلى البدن مع الغضّ عن النفس، مثلاً لا عيناً.

قوله تعالى: ( فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ ) أي ما هو مبدأ خلقه؟ و ما هو الّذي صيّره الله إنساناً؟

و الجملة متفرّعة على الآية السابقة و ما تدلّ عليه بفحواها بحسب السياق و محصّل المعنى و إذ كانت كلّ نفس محفوظة بذاتها و عملها من غير أن تفنى أو ينسى عملها فليذعن الإنسان أن سيرجع إلى ربّه و يجزي بما عمل و لا يستبعد ذلك و لينظر لتحصيل هذا الإذعان إلى مبدإ خلقه و يتذكّر أنّه خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب و الترائب.

فالّذي بدأ خلقه من ماء هذه صفته يقدر على رجعه و إحيائه بعد الموت.

و في الإتيان بقوله:( خُلِقَ ) مبنيّاً للمفعول و ترك ذكر الفاعل و هو الله سبحانه إيماء إلى ظهور أمره، و نظيره قوله:( خُلِقَ مِنْ ماءٍ ) إلخ.

قوله تعالى: ( خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ ) الدفق تصبّب الماء و سيلانه بدفع و سرعة و الماء الدافق هو المنيّ و الجملة جواب عن استفهام مقدّر يهدي إليه قوله:( مِمَّ خُلِقَ ) .

قوله تعالى: ( يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ ) الصلب الظهر، و الترائب جمع تريبة و هي عظم الصدر.

و قد اختلفت كلماتهم في الآية و ما قبلها اختلافاً عجيباً، و الظاهر أنّ المراد بقوله:( بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ ) البعض المحصور من البدن بين جداري عظام الظهر و

٣٨١

عظام الصدر(1) .

قوله تعالى: ( إِنَّهُ عَلى‏ رَجْعِهِ لَقادِرٌ ) الرجع الإعادة، و ضمير( إِنَّهُ ) له تعالى و اكتفى بالإضمار مع أنّ المقام مقام الإظهار لظهوره نظير قوله:( خُلِقَ ) مبنيّاً للمفعول.

و المعنى أنّ الّذي خلق الإنسان من ماء صفته تلك الصفة، على إعادته و إحيائه بعد الموت - و إعادته مثل بدئه - لقادر لأنّ القدرة على الشي‏ء قدرة على مثله إذ حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد.

قوله تعالى: ( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) ظرف للرجع، و السريرة ما أسرّه الإنسان و أخفاه في نفسه، و البلاء الاختبار و التعرّف و التصفّح.

فالمعنى يوم يختبر ما أخفاه الإنسان و أسرّه من العقائد و آثار الأعمال خيرها و شرّها فيميّز خيرها من شرّها و يجزي الإنسان به فالآية في معنى قوله تعالى:( إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ) البقرة: 284.

قوله تعالى: ( فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَ لا ناصِرٍ ) أي لا قدرة له في نفسه يمتنع بها من عذاب الله و لا ناصر له يدفع عنه ذلك أي لا قدرة هناك يدفع عنه الشرّ لا من نفسه و لا من غيره.

قوله تعالى: ( وَ السَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَ الْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ ) إقسام بعد إقسام لتأكيد أمر القيامة و الرجوع إلى الله.

و المراد بكون السماء ذات رجع ما يظهر للحسّ من سيرها بطلوع الكواكب بعد غروبها و غروبها بعد طلوعها، و قيل: رجعها أمطارها، و المراد بكون الأرض ذات صدع تصدّعها و انشقاقها بالنبات، و مناسبة القسمين لما اُقسم عليه من الرجوع بعد الموت و الخروج من القبور ظاهرة.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ ) الفصل إبانة أحد الشيئين من

____________________

(1) و قد أورد المراغي في تفسيره في ذيل الآية عن بعض الأطباء توجيهاً دقيقاً علميّاً لهذه الآية من أراده فليراجعه.

٣٨٢

الآخر حتّى يكون بينهما فرجة، و التعبير بالفصل - و المراد الفاصل - للمبالغة كزيد عدل و الهزل خلاف الجدّ.

و الآيتان جواب القسم، و ضمير( إِنَّهُ ) للقرآن و المعنى اُقسم بكذا و كذا إنّ القرآن لقول فاصل بين الحقّ و الباطل و ليس هو كلاماً لا جدّ فيه فما يُحقّه حقّ لا ريب فيه و ما يبطله باطل لا ريب فيه فما أخبركم به من البعث و الرجوع حقّ لا ريب فيه.

و قيل: الضمير لما تقدّم من خبر الرجوع و المعاد، و الوجه السابق أوجه.

قوله تعالى: ( إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَ أَكِيدُ كَيْداً ) أي الكفّار يحتالون بكفرهم و إنكارهم المعاد احتيالاً يريدون به إطفاء نور الله و إبطال دعوتك، و احتال عليهم بعين أعمالهم بالاستدراج و الإملاء و الإضلال بالطبع على قلوبهم و جعل الغشاوة على سمعهم و أبصارهم احتيالاً أسوقهم به إلى عذاب يوم القيامة.

قوله تعالى: ( فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ) التمهيل و الإمهال بمعنى واحد غير أنّ باب التفعيل يفيد التدريج و الإفعال يفيد الدفعة، و الرويد القليل.

و المعنى: إذا كان منهم كيد و منّي كيد عليهم بعين ما يكيدون به و الله غالب على أمره، فانتظر بهم و لا تعاجلهم انتظر بهم قليلاً فسيأتيهم ما اُوعدهم به فكلّ ما هو آت قريب.

و في التعبير أوّلاً بمهّل الظاهر في التدريج و ثانياً مع التقييد برويداً بأمهل الظاهر في الدفعة لطف ظاهر.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ ) قال: الملائكة.

و فيه: في قوله تعالى:( خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ ) قال: النطفة الّتي تخرج بقوّة.

و فيه: في قوله تعالى:( يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ ) قال: الصلب الرجل

٣٨٣

و الترائب المرأة، و هو صدرها.

أقول: الرواية على إضمارها و إرسالها لا تخلو من شي‏ء.

و فيه: في قوله تعالى:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) قال: يكشف عنها.

و في المجمع، روي مرفوعاً عن أبي الدرداء قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ضمن الله خلقه أربع خصال: الصلاة، و الزكاة، و صوم شهر رمضان، و الغسل من الجنابة، و هي السرائر الّتي قال الله تعالى: يوم تبلى السرائر.

أقول: و لعلّه من قبيل ذكر بعض المصاديق كما تؤيّده الرواية التالية.

و فيه، عن معاذ بن جبل قال: سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما هذه السرائر الّتي ابتلى الله بها العباد في الآخرة؟ فقال: سرائركم هي أعمالكم من الصلاة و الصيام و الزكاة و الوضوء و الغسل من الجنابة و كلّ مفروض لأنّ الأعمال كلّها سرائر خفيّة فإن شاء الرجل قال: صلّيت و لم يصلّ و إن شاء قال: توضّيت و لم يتوضّ فذلك قوله:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) .

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَ لا ناصِرٍ ) قال: ما له من قوّة يهوي بها على خالقه، و لا ناصر من الله ينصره إن أراد به سوءا.

و فيه: في قوله تعالى:( وَ السَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ ) قال: ذات المطر( وَ الْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ ) أي ذات النبات.

و في المجمع:( إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ) يعني أنّ القرآن يفصل بين الحقّ و الباطل بالبيان عن كلّ واحد منهما، و روي ذلك عن الصادقعليه‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و الدارميّ و الترمذيّ و محمّد بن نصر و ابن الأنباريّ في المصاحف عن الحارث الأعور قال: دخلت المسجد فإذا الناس قد وقعوا في الأحاديث فأتيت عليّاً فأخبرته فقال: أ و قد فعلوها؟

سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إنّها ستكون فتنة. قلت: فما المخرج منها يا رسول الله قال: كتاب الله فيه نبأ من قبلكم و خبر من بعدكم، و حكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبّار قصمه الله، من ابتغى الهوى في غيره أضلّه الله، و هو حبل الله

٣٨٤

المتين، و هو الذكر الحكيم، و هو الصراط المستقيم، هو الّذي لا تزيغ به الأهواء، و لا يشبع منه العلماء، و لا تلتبس منه الألسن، و لا يخلق من الردّ، و لا تنقضي عجائبه هو الّذي لم ينته الجنّ إذ سمعته حتّى قالوا( إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ ) . من قال به صدق، و من حكم به عدل، و من عمل به اُجر، و من دعي إليه هدي إلى صراط مستقيم.

أقول: و روي ما يقرب منه عن معاذ بن جبل عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و رواه مختصراً عن ابن مردويه عن عليّعليه‌السلام .

٣٨٥

( سورة الأعلى مكّيّة و هي تسع عشرة آية)

( سورة الأعلى الآيات 1 - 19)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ( 1 ) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ ( 2 ) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ( 3 ) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَىٰ ( 4 ) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَىٰ ( 5 ) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ ( 6 ) إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ ( 7 ) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ ( 8 ) فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَىٰ ( 9 ) سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ ( 10 ) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ( 11 ) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَىٰ ( 12 ) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ ( 13 ) قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ ( 14 ) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ ( 15 ) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ( 16 ) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ( 17 ) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ ( 18 ) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ ( 19 )

( بيان‏)

أمرٌ بتوحيده تعالى على ما يليق بساحته المقدّسة و تنزيه ذاته المتعالية من أن يذكر مع اسمه اسم غيره أو يسند إلى غيره ما يجب أن يسند إليه كالخلق و التدبير و الرزق و وعد لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتأييده بالعلم و الحفظ و تمكينه من الطريقة الّتي هي أسهل و أيسر للتبليغ و أنسب للدعوة.

و سياق الآيات في صدر السورة سياق مكّيّ و أمّا ذيلها أعني قوله:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ) إلخ فقد ورد من طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام و كذا من طريق أهل السنّة

٣٨٦

أنّ المراد به زكاة الفطرة و صلاة العيد و من المعلوم أنّ الصوم و ما يتبعه من زكاة الفطرة و صلاة العيد إنّما شرعت بالمدينة بعد الهجرة فتكون آيات الذيل نازلة بالمدينة.

فالسورة صدرها مكّيّ و ذيلها مدنيّ، و لا ينافي ذلك ما جاء في الآثار أنّ السورة مكّيّة فإنّه لا يأبى الحمل على صدر السورة.

قوله تعالى: ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) أمر بتنزيه اسمه تعالى و تقديسه، و إذ علّق التنزيه على الاسم - و ظاهر اللفظ الدالّ على المسمّى - و الاسم إنّما يقع في القول فتنزيهه أن لا يذكر معه ما هو تعالى منزّه عنه كذكر الآلهة و الشركاء و الشفعاء و نسبة الربوبيّة إليهم و كذكر بعض ما يختصّ به تعالى كالخلق و الإيجاد و الرزق و الإحياء و الإماتة و نحوها و نسبته إلى غيره تعالى أو كذكر بعض ما لا يليق بساحة قدسه تعالى من الأفعال كالعجز و الجهل و الظلم و الغفلة و ما يشبهها من صفات النقص و الشين و نسبته إليه تعالى.

و بالجملة تنزيه اسمه تعالى أن يجرّد القول عن ذكر ما لا يناسب ذكره ذكر اسمه تعالى و هو تنزيهه تعالى في مرحلة القول الموافق لتنزيهه في مرحلة الفعل.

و هو يلازم التوحيد الكامل بنفي الشرك الجليّ كما في قوله:( وَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ إِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) الزمر: 45 و قوله:( وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى‏ أَدْبارِهِمْ نُفُوراً ) إسراء: 46.

و في إضافة الاسم إلى الربّ و الربّ إلى ضمير الخطاب تأييد لما قدّمناه فإنّ المعنى سبّح اسم ربّك الّذي اتّخذته ربّاً و أنت تدعو إلى أنّه الربّ الإله فلا يقعنّ في كلامك مع ذكر اسمه بالربوبيّة ذكر من غيره بحيث ينافي تسمّيه بالربوبيّة على ما عرّف نفسه لك.

و قوله:( الْأَعْلَى ) و هو الّذي يعلو كلّ عال و يقهر كلّ شي‏ء صفة( رَبِّكَ ) دون الاسم و يعلّل بمعناه الحكم أي سبّح اسمه لأنّه أعلى.

٣٨٧

و قيل: معنى( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) قل: سبحان ربّي الأعلى كما عن ابن عبّاس و نسب إليه أيضاً أنّ المعنى صلّ.

و قيل: المراد بالاسم المسمّى و المعنى نزّهه تعالى عن كلّ ما لا يليق بساحة قدسه من الصفات و الأفعال.

و قيل: إنّه ذكر الاسم و المراد به تعظيم المسمّى و استشهد عليه بقول لبيد، إلى الحول ثمّ اسم السلام عليكما. فالمعنى سبّح ربّك الأعلى.

و قيل: المراد تنزيه أسمائه تعالى عمّا لا يليق بأن لا يؤوّل ممّا ورد منها اسم من غير مقتض، و لا يبقى على ظاهره إذا كان ما وضع له لا يصحّ له تعالى، و لا يطلقه على غيره تعالى إذا كان مختصّاً كاسم الجلالة و لا يتلفّظ به في محلّ لا يناسبه كبيت الخلاء، و على هذا القياس.

و ما قدّمناه من المعنى أوسع و أشمل و أنسب لسياق قوله الآتي( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) ( وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى‏ فَذَكِّرْ ) فإنّ السياق سياق البعث إلى التذكرة و التبليغ فبدأ أوّلاً بإصلاح كلامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تجريده عن كلّ ما يشعر بجليّ الشرك و خفيّه بأمره بتنزيه اسم ربّه، و وعد ثانياً بإقرائه بحيث لا ينسى شيئاً ممّا اُوحي إليه و تسهيل طريقة التبليغ عليه ثمّ اُمر بالتذكير و التبليغ فافهم.

قوله تعالى: ( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ) خلق الشي‏ء جمع أجزائه، و تسويته جعلها متساوية بحيث يوضع كلّ في موضعه الّذي يليق به و يعطى حقّه كوضع كلّ عضو من أعضاء الإنسان فيما يناسبه من الموضع.

و الخلق و التسوية و إن كانا مطلقين لكنّهما إنّما يشملان ما فيه تركيب أو شائبة تركيب من المخلوقات.

و الآية إلى تمام أربع آيات تصف التدبير الإلهيّ و هي برهان على ربوبيّته تعالى المطلقة.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى‏ ) أي جعل الأشياء الّتي خلقها على مقادير مخصوصة و حدود معيّنة في ذواتها و صفاتها و أفعالها لا تتعدّاها و جهّزها بما يناسب

٣٨٨

ما قدّر لها فهداها إلى ما قدّر فكلّ يسلك نحو ما قدّر له بهداية ربّانيّة تكوينيّة كالطفل يهتدي إلى ثدي اُمّه و الفرخ إلى زقّ اُمّه و أبيه، و الذكر إلى الاُنثى و ذي النفع إلى نفعه و على هذا القياس.

قال تعالى:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الحجر: 21، و قال:( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) عبس: 20 و قال:( لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها ) البقرة: 148.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى‏ ) المرعى ما ترعاه الدوابّ فالله تعالى هو الّذي أخرجها أي أنبتها.

قوله تعالى: ( فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى‏ ) الغثاء ما يقذفه السيل على جانب الوادي من الحشيش و النبات، و المراد هنا - كما قيل - اليابس من النبات، و الأحوى الأسود.

و إخراج المرعى لتغذّي الحيوان ثمّ جعله غثاء أحوى من مصاديق التدبير الربوبيّ و دلائله كما أنّ الخلق و التسوية و التقدير و الهداية كذلك.

قوله تعالى: ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى‏ إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى‏ ) قال في المفردات: و القراءة ضمّ الحروف و الكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل، و ليس يقال ذلك لكلّ جمع لا يقال: قرأت القوم إذا جمعتهم، و يدلّ على ذلك أنّه لا يقال للحرف الواحد إذا تفوّه به قراءة، انتهى، و قال في المجمع: و الإقراء أخذ القراءة على القارئ بالاستماع لتقويم الزلل، و القارئ التالي. انتهى.

و ليس إقراؤه تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القرآن مثل إقراء بعضنا بعضاً باستماع المقري لما يقرؤه القارئ و إصلاح ما لا يحسنه أو يغلط فيه فلم يعهد من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقرأ شيئاً من القرآن فلا يحسنه أو يغلط فيه عن نسيان للوحي ثمّ يقرأ فيصلح بل المراد تمكينه من قراءة القرآن كما اُنزل من غير أن يغيّره بزيادة أو نقص أو تحريف بسبب النسيان.

فقوله:( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى‏ ) وعدٌ منه لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يمكّنه من العلم

٣٨٩

بالقرآن و حفظه على ما اُنزل بحيث يرتفع عنه النسيان فيقرؤه كما اُنزل و هو الملاك في تبليغ الوحي كما اُوحي إليه.

و قوله:( إِلَّا ما شاءَ اللهُ ) استثناء مفيد لبقاء القدرة الإلهيّة على إطلاقها و أنّ هذه العطيّة و هي الإقراء بحيث لا تنسى لا ينقطع عنه سبحانه بالإعطاء بحيث لا يقدر بعد على إنسائك بل هو باق على إطلاق قدرته له أن يشاء إنساءك متى شاء و إن كان لا يشاء ذلك فهو نظير الاستثناء الّذي في قوله:( وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) هود: 108 و قد تقدّم توضيحه.

و ليس المراد بالاستثناء إخراج بعض أفراد النسيان من عموم النفي و المعنى سنقرئك فلا تنسى شيئاً إلّا ما شاء الله أن تنساه و ذلك أنّ كلّ إنسان على هذه الحال يحفظ أشياء و ينسى أشياء فلا معنى لاختصاصه بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلحن الامتنان مع كونه مشتركاً بينه و بين غيره فالوجه ما قدّمناه.

و الآية بسياقها لا تخلو من تأييد لما قيل: إنّه كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي يقرؤه مخافة أن ينساه فكان لا يفرغ جبريل من آخر الوحي حتّى يتكلّم هو بأوّله فلمّا نزلت هذه الآية لم ينس بعده شيئاً.

و يقرب من الاعتبار أن تكون هذه الآية أعني قوله:( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى‏ ) نازلة أوّلاً ثمّ قوله:( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) القيامة: 19 ثمّ قوله:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ) طه: 114.

و قوله:( إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى) الجهر كمال ظهور الشي‏ء لحاسّة البصر كقوله:( فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً ) النساء: 153، أو لحاسّة السمع كقوله:( إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ ) الأنبياء: 110، و المراد بالجهر الظاهر للإدراك بقرينة مقابلته لقوله:( وَ ما يَخْفى‏ ) من غير تقييده بسمع أو بصر.

و الجملة في مقام التعليل لقوله:( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) و المعنى سنصلح لك بالك

٣٩٠

في تلقّي الوحي و حفظه لأنّا نعلم ظاهر الأشياء و باطنها فنعلم ظاهر حالك و باطنها و ما أنت عليه من الاهتمام بأمر الوحي و الحرص على طاعته فيما أمر به.

و في قوله:( إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ ) إلخ التفات من التكلّم مع الغير إلى الغيبة و النكتة فيه الإشارة إلى حجّة الاستثناء فإفاضة العلم و الحفظ للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما لا يسلب القدرة على خلافه و لا يحدّها منه تعالى لأنّه الله المستجمع لجميع صفات الكمال و منها القدرة المطلقة ثمّ جرى الالتفات في قوله:( إِنَّهُ يَعْلَمُ ) إلخ لمثل النكتة.

قوله تعالى: ( وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى‏ ) اليسرى - مؤنث أيسر - و هو وصف قائم مقام موصوفة المحذوف أي الطريقة اليسرى و التيسير التسهيل أي و نجعلك بحيث تتّخذ دائماً أسهل الطرق للدعوة و التبليغ قولاً و فعلاً فتهدي قوماً و تتمّ الحجّة على آخرين و تصبر على أذاهم.

و كان مقتضى الظاهر أن يقال: و نيسّر لك اليسرى كما قال:( وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي ) طه: 26 و إنّما عدل عن ذلك إلى قوله:( وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى‏ ) لأنّ الكلام في تجهيزه تعالى نفس النبيّ الشريفة و جعله إيّاها صالحة لتأدية الرسالة و نشر الدعوة. على ما في نيسّر اليسرى من إيهام تحصيل الحاصل.

فالمراد جعلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صافي الفطرة حقيقاً على اختيار الطريقة اليسرى الّتي هي طريقة الفطرة فالآية في معنى قوله حكاية عن موسى:( حَقِيقٌ عَلى‏ أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ ) الأعراف: 105.

قوله تعالى: ( فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى‏ ) تفريع على ما تقدّم من أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتنزيه اسم ربّه و وعده إقراء الوحي بحيث لا ينسى و تيسيره لليسرى و هي الشرائط الضروريّة الّتي يتوقّف عليها نجاح الدعوة الدينيّة.

و المعنى إذ تمّ لك الأمر بامتثال ما أمرناك به و إقرائك فلا تنسى و تيسيرك لليسرى فذكّر إن نفعت الذكرى.

و قد اشترط في الأمر بالتذكرة أن تكون نافعة و هو شرط على حقيقته فإنّها إذا

٣٩١

لم تنفع كانت لغواً و هو تعالى يجلّ عن أن يأمر باللّغو فالتذكرة لمن يخشى لأوّل مرّة تفيد ميلا من نفسه إلى الحقّ و هو نفعها و كذا التذكرة بعد التذكرة كما قال:( سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى‏ ) و التذكرة للأشقى الّذي لا خشية في قلبه لأوّل مرّة تفيد تمام الحجّة عليه و هو نفعها و يلازمها تجنّبه و تولّيه عن الحقّ كما قال:( يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى‏ ) و التذكرة بعد التذكرة له لا تنفع شيئاً و لذا اُمر بالإعراض عن ذلك قال تعالى:( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ) النجم: 29.

و قيل: الشرط شرط صوريّ غير حقيقيّ و إنّما هو إخبار عن أنّ الذكرى نافعة لا محالة في زيادة الطاعة و الانتهاء عن المعصية كما يقال: سله إن نفع السؤال و لذا قال بعضهم( إن ) ( إِنْ ) في الآية بمعنى قد، و قال آخرون: إنّها بمعنى إذ.

و فيه أنّ كون الذكرى نافعة مفيدة دائماً حتّى فيمن يعاند الحقّ - و قد تمّت عليه الحجّة - ممنوع كيف؟ و قد قيل فيهم:( سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللهُ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ وَ عَلى‏ سَمْعِهِمْ وَ عَلى‏ أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ) البقرة: 7.

و قيل: إنّ في الكلام إيجازاً بالحذف، و التقدير فذكّر إن نفعت الذكرى و إن لم تنفع و ذلك لأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث للتذكرة و الإعذار فعليه أن يذكّر نفع أو لم ينفع فالآية من قبيل قوله:( وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ) النحل: 81 أي و البرد.

و فيه أنّ وجوب التذكرة عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى فيما لا يترتّب عليها أثراً أصلاً ممنوع.

و قيل: إنّ الشرط مسوق للإشارة إلى استبعاد النفع في تذكرة هؤلاء المذكورين نعياً عليهم كأنّه قيل: افعل ما اُمرت به لتوجر و إن لم ينتفعوا به.

و فيه أنّه يردّه قوله تعالى بعده بلا فصل:( سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى‏ ) .

قوله تعالى: ( سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى‏ ) أي سيتذكّر و يتّعظ بالقرآن من في قلبه شي‏ء من خشية الله و خوف عقابه.

قوله تعالى: ( يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى‏ ) الضمير للذكرى و المراد بالأشقى بقرينة

٣٩٢

المقابلة من ليس في قلبه شي‏ء من خشية الله تعالى، و تجنّب الشي‏ء التباعد عنه، و المعنى و سيتباعد عن الذكرى من لا يخشى الله.

قوله تعالى: ( الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) الظاهر أنّ المراد بالنار الكبرى نار جهنّم و هي نار كبري بالقياس إلى نار الدنيا، و قيل: المراد بها أسفل دركات جهنّم و هي أشدّها عذاباً.

قوله تعالى: ( ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى‏ ) ثمّ للتراخي بحسب رتبة الكلام، و المراد من نفي الموت و الحياة عنه معاً نفي النجاة نفياً مؤبّداً فإنّ النجاة بمعنى انقطاع العذاب بأحد أمرين إمّا بالموت حتّى ينقطع عنه العذاب بانقطاع وجوده و إمّا يتبدّل صفة الحياة من الشقاء إلى السعادة و من العذاب إلى الراحة فالمراد بالحياة في الآية الحياة الطيّبة على حدّ قولهم في الحرض: لا حيّ فيرجى و لا ميّت فينسى.

قوله تعالى: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) التزكّي هو التطهّر و المراد به التطهّر من ألواث التعلّقات الدنيويّة الصارفة عن الآخرة بدليل قوله بعد( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ) إلخ، و الرجوع إلى الله بالتوجّه إليه تطهّر من الإخلاد إلى الأرض، و الإنفاق في سبيل الله تطهّر من لوث التعلّق الماليّ حتّى أنّ وضوء الصلاة تمثيل للتطهّر عمّا كسبته الوجوه و الأيدي و الأقدام.

و قوله:( وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) الظاهر أنّ المراد بالذكر الذكر اللفظيّ، و بالصلاة التوجّه الخاصّ المشروع في الإسلام.

و الآيتان بحسب ظاهر مدلولهما على العموم لكن ورد في المأثور عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّهما نزلتا في زكاة الفطر و صلاة العيد و كذا من طرق أهل السنّة.

قوله تعالى: ( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ) إضراب بالخطاب لعامّة الناس على ما يدعو إليه طبعهم البشريّ من التعلّق التامّ بالدنيا و الاشتغال بتعميرها، و الإيثار الاختيار، و قيل: الخطاب للكفّار، و الكلام على أيّ حال مسوق للعتاب و الالتفات لتأكيده.

٣٩٣

قوله تعالى: ( وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقى‏ ) عدّ الآخرة أبقى بالنسبة إلى الدنيا مع أنّها باقية أبديّة في نفسها لأنّ المقام مقام الترجيح بين الدنيا و الآخرة و يكفي في الترجيح مجرّد كون الآخرة خيراً و أبقى بالنسبة إلى الدنيا و إن قطع النظر عن كونها باقية أبديّة.

قوله تعالى: ( إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى‏ صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ ) الإشارة بهذا إلى ما بين في قوله:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ) إلى تمام أربع آيات، و قيل: هذا إشارة إلى مضمون قوله:( وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقى‏ ) .

قيل: و في إبهام الصحف و وصفها بالتقدّم أوّلاً ثمّ بيانها و تفسيرها بصحف إبراهيم و موسى ثانياً ما لا يخفى من تفخيم شأنها و تعظيم أمرها.

( بحث روائي‏)

في تفسير العيّاشيّ، عن عقبة بن عامر الجهنيّ قال: لمّا نزلت:( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اجعلوها في ركوعكم، و لمّا نزل( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) قال: اجعلوها في سجودكم.

أقول: و رواه أيضاً في الدرّ المنثور، عن أحمد و أبي داود و ابن ماجة و ابن المنذر و ابن مردويه عن عقبة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في تفسير القمّيّ:( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) قال: قل سبحان ربّي الأعلى( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى‏ ) قال: قدّر الأشياء بالتقدير الأوّل ثمّ هدى إليها من يشاء.

و فيه: في قوله تعالى:( وَ الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى‏ ) قال: أي النبات. و في قوله:( غُثاءً أَحْوى‏ ) قال: يصير هشيماً بعد بلوغه و يسودّ.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستذكر القرآن مخافة أن ينساه فقيل له: كفيناك ذلك و نزلت:( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى‏ ) .

٣٩٤

و في الفقيه: و سئل الصادقعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ) قال قال: من أخرج الفطرة قيل له: و( ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) قال: خرج إلى الجبانة(1) فصلّى.

أقول: و روي هذا المعنى أيضاً عن حمادّ عن جرير عن أبي بصير و زرارة عنهعليه‌السلام و رواه القمّيّ في تفسيره، مرسلاً مضمراً.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدريّ قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) ثمّ يقسّم الفطرة قبل أن يغدو إلى المصلّى يوم الفطر.

أقول: و روي أيضاً نزول الآيتين في زكاة الفطرة و صلاة العيد بطريقين عن أبي سعيد موقوفاً، و كذا بطريقين عن ابن عمر و بطريق عن نائلة بن الأصقع و بطريقين عن أبي العالية و بطريق عن عطاء و بطريق عن محمّد بن سيرين و بطريق عن إبراهيم النخعي و كذا عن عمرو بن عوف عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في الخصال، عن عتبة بن عمرو الليثيّ عن أبي ذرّ في حديث قلت: يا رسول الله فما في الدنيا ممّا أنزل الله عليك شي‏ء ممّا كان في صحف إبراهيم و موسى؟ قال: يا أبا ذرّ اقرأ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقى‏ إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى‏ صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ ) .

أقول: يؤيّد الحديث كون الإشارة بهذا إلى مجموع الآيات الأربع كما تقدّم.

و في البصائر، بإسناده عن أبي بصير قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : عندنا الصحف الّتي قال الله:( صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ ) قلت: الصحف هي الألواح؟ قال: نعم.

أقول: و رواه أيضاً بطريق آخر عن أبي بصير عنهعليه‌السلام و الظاهر أنّ المراد بكون الصحف هي الألواح كونها هي التوراة المعبّر عنها في مواضع من القرآن بالألواح كقوله تعالى:( وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) الأعراف: 145 و قوله:( وَ أَلْقَى

____________________

(1) الجبانة: الصحراء

٣٩٥

الْأَلْواحَ ) الأعراف: 150 و قوله:( أَخَذَ الْأَلْواحَ ) الأعراف: 154.

و في المجمع، روي عن أبي ذرّ أنّه قال: قلت: يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: مائة ألف نبيّ و أربعة و عشرون ألفاً قلت: يا رسول الله كم المرسلون منهم؟ قال: ثلاث مائة و ثلاثة عشر و بقيّتهم أنبياء. قلت: كان آدم نبيّاً؟ قال: نعم كلّمة الله و خلقه بيده.

يا أبا ذرّ أربعة من الأنبياء عرب: هود و صالح و شعيب و نبيّك.

قلت: يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟ قال: مائة و أربعة كتب اُنزل منها على آدم عشرة صحف، و على شيث خمسين صحيفة، و على اُخنوخ و هو إدريس ثلاثين صحيفة و هو أوّل من خطّ بالقلم و على إبراهيم عشر صحائف و التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان.

أقول: و روي ذلك في الدرّ المنثور، عن عبد بن حميد و ابن مردويه و ابن عساكر عن أبي ذرّ غير أنّه لم يذكر صحف آدم و ذكر لموسى عشر صحف قبل التوراة.

٣٩٦

( سورة الغاشية مكّيّة و هي ستّ و عشرون آية)

( سورة الغاشية الآيات 1 - 26)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ( 1 ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ( 2 ) عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ ( 3 ) تَصْلَىٰ نَارًا حَامِيَةً ( 4 ) تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ( 5 ) لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ ( 6 ) لَّا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ ( 7 ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ ( 8 ) لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ ( 9 ) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ( 10 ) لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً ( 11 ) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ ( 12 ) فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ ( 13 ) وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ ( 14 ) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ ( 15 ) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ( 16 ) أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ( 17 ) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ( 18 ) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ( 19 ) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ( 20 ) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ ( 21 ) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ( 22 ) إِلَّا مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ ( 23 ) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ ( 24 ) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ( 25 ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم ( 26 )

( بيان‏)

سورة إنذار و تبشير تصف الغاشية و هي يوم القيامة الّذي يحيط بالناس تصفه بحال الناس فيه من حيث انقسامهم فريقين: السعداء و الأشقياء و استقرارهم فيما اُعدّ لهم من الجنّة و النار و تنتهي إلى أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يذكّر الناس بفنون من التدبير الربوبيّ

٣٩٧

في العالم الدالّة على ربوبيّته تعالى لهم و رجوعهم إليه لحساب أعمالهم.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ ) استفهام بداعي التفخيم و الإعظام، و المراد بالغاشية يوم القيامة سمّيت بذلك لأنّها تغشى الناس و تحيط بهم كما قال:( وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ) الكهف: 47، أو لأنّها تغشى الناس بأهوالها بغتة كما قيل، أو لأنّها تغشى وجوه الكفّار بالعذاب.

قوله تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ ) أي مذلّلة بالغمّ و العذاب يغشاها، و الخشوع إنّما هو لأرباب الوجوه و إنّما نسب إلى الوجوه لأنّ الخشوع و المذلّة يظهر فيها.

قوله تعالى: ( عامِلَةٌ ناصِبَةٌ ) النصب التعب و( عامِلَةٌ ) خبر بعد خبر لوجوه، و كذا قوله:( ناصِبَةٌ ) و( تَصْلى) و( تُسْقى) و( لَيْسَ لَهُمْ ) و المراد من عملها و نصبها بقرينة مقابلتهما في صفة أهل الجنّة الآتية بقوله:( لِسَعْيِها راضِيَةٌ ) عملها في الدنيا و نصبها في الآخرة فإنّ الإنسان إنّما يعمل ما يعمل في الدنيا ليسعد به و يظفر بالمطلوب لكن عملهم خبط باطل لا ينفعهم شيئاً كما قال تعالى:( وَ قَدِمْنا إِلى‏ ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً ) الفرقان: 23 فلا يعود إليهم من عملهم إلّا النصب و التعب بخلاف أهل الجنّة فإنّهم لسعيهم الّذي سعوه في الدنيا راضون لما ساقهم إلى الجنّة و الراحة.

و قيل: المراد أنّها عاملة في النار ناصبة فيها فهي تعالج أنواع العذاب الّذي تعذّب به و تتعب لذلك.

و قيل: المراد أنّها عاملة في الدنيا بالمعاصي ناصبة في النار يوم القيامة.

قوله تعالى: ( تَصْلى‏ ناراً حامِيَةً ) أي تلزم ناراً في نهاية الحرارة.

قوله تعالى: ( تُسْقى‏ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ) أي حارّة بالغة في حرارتها.

قوله تعالى: ( ليسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَ لا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ‏ ) قيل: الضريع نوع من الشوك يقال له: الشبرق و أهل الحجاز يسمّونه الضريع إذا يبس و هو أخبث طعام و أبشعه لا ترعاه دابّة، و لعلّ تسمية ما في النار به لمجرّد المشابهة شكلاً و خاصّة.

٣٩٨

قوله تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ ) من النعومة فيكون كناية عن البهجة و السرور الظاهر على البشرة كما قال:( تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ) المطفّفين: 24، أو من النعمة أي متنعّمة. قيل: و لم يعطف على قوله:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ ) إشارة إلى كمال البينونة بين حالي الفريقين.

قوله تعالى: ( لِسَعْيِها راضِيَةٌ ) اللّام للتقوية، و المراد بالسعي سعيها في الدنيا بالعمل الصالح، و المعنى رضيت سعيها و هو عملها الصالح حيث جوزيت به جزاءً حسناً.

قوله تعالى: ( فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ - إلى قوله -وَ زَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ) المراد بعلوّها ارتفاع درجاتها و شرفها و جلالتها و غزارة عيشها فإنّ فيها حياة لا موت معها، و لذّة لا ألم يشوبها و سروراً لا غمّ و لا حزن يداخله لهم فيها فوق ما يشاؤن.

و قوله:( لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً ) أي لا تسمع تلك الوجوه في الجنّة كلمة ساقطة لا فائدة فيها.

و قوله:( فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ ) المراد بالعين جنسها فقد عدّ تعالى فيها عيوناً في كلامه كالسلسبيل و الشراب الطهور و غيرهما.

و قوله:( فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ ) السرر جمع سرير و في ارتفاعها جلالة القاعد عليها،( وَ أَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ ) الأكواب جمع كوب و هو الإبريق لا خرطوم له و لا عروة يتّخذ فيه الشراب( وَ نَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ ) النمارق جمع نمرقة و هي الوسادة و كونها مصفوفة وضعها في المجلس بحيث يتّصل بعضها ببعض على هيئة المجالس الفاخرة في الدنيا( وَ زَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ) الزرابيّ جمع زريبة مثلّثة الزاي و هي البساط الفاخر و بثّها بسطها للقعود عليها.

قوله تعالى: ( أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ) بعد ما فرغ من وصف الغاشية و بيان حال الفريقين، المؤمنين و الكفّار عقّبه بإشارة إجماليّة إلى التدبير الربوبيّ الّذي يفصح عن ربوبيّته تعالى المقتضية لوجوب عبادته و لازم ذلك حساب الأعمال و جزاء المؤمن بإيمانه و الكافر بكفره و الظرف الّذي فيه ذلك هو الغاشية.

٣٩٩

و قد دعاهم أوّلاً أن ينظروا إلى الإبل كيف خلقت؟ و كيف صوّر الله سبحانه أرضاً عادمة للحياة فاقدة للشعور بهذه الصورة العجيبة في أعضائها و قواها و أفاعيلها فسخّرها لهم ينتفعون من ركوبها و حملها و لحمها و ضرعها و جلدها و وبرها حتّى بولها و بعرتها فهل هذا كله توافق اتّفاقيّ غير مطلوب بحياله.؟

و تخصيص الإبل بالذكر من جهة أنّ السورة مكّيّة و أوّل من تتلى عليهم الإعراب و اتّخاذ الآبال من أركان عيشتهم.

قوله تعالى: ( وَ إِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ) و زيّنت بالشمس و القمر و سائر النجوم الزواهر بما فيها من المنافع لأهل الأرض و قد جعل دونها الهواء الّذي يضطرّ إليه الحيوان في تنفّسه.

قوله تعالى: ( وَ إِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ) و هي أوتاد الأرض المانعة من مورها و مخازن الماء الّتي تتفجّر منها العيون و الأنهار و محافظ للمعادن.

قوله تعالى: ( وَ إِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ) أي بسطت و سوّيت فصلحت لسكنى الإنسان و سهل فيها النقل و الانتقال و أغلب التصرّفات الصناعيّة الّتي للإنسان.

فهذه تدبيرات كلّيّة مستندة إليه تعالى بلا ريب فيه فهو ربّ السماء و الأرض ما بينهما فهو ربّ العالم الإنسانيّ يجب عليهم أن يتّخذوه ربّاً و يوحّدوه و يعبدوه و أمامهم الغاشية و هو يوم الحساب و الجزاء.

قوله تعالى: ( فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ) تفريع على ما تقدّم و المعنى إذا كان الله سبحانه هو ربّهم لا ربّ سواه و أمامهم يوم الحساب و الجزاء لمن آمن منهم أو كفر فذكّرهم بذلك.

و قوله:( إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ) بيان أنّ وظيفته - و هو رسول - التذكرة رجاء أن يستجيبوا و يؤمنوا من غير إكراه و إلجاء.

قوله تعالى: ( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) المصيطر - و أصله المسيطر - المتسلّط، و الجملة بيان و تفسير لقوله:( إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ) .

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568