الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن10%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 220011 / تحميل: 7018
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

صار يمتد على وجه الأرض ليلقى عليها ثماره فتحملها عنه فترى الأصل من القرع(١) والبطيخ مفترشا للأرض وثماره مبثوثة عليها وحواليه كأنه هرة ممتدة وقد اكتنفتها جراؤها(٢) لترضع منها.

( موافاة أصناف النبات في الوقت المشاكل لها)

وانظر كيف صارت الأصناف توافي في الوقت المشاكل لها من حمارة(٣) الصيف ووقدة الحر فتلقاها النفوس بانشراح وتشوق إليها ولو كانت توافي الشتاء لوافقت من الناس كراهة لها واقشعرارا(٤) منها مع ما يكون فيها من المضرة للأبدان ألا ترى أنه ربما أدرك شيء من الخيار في الشتاء فيمتنع الناس من أكله إلا الشره الذي لا يمتنع من أكل ما يضره ويسقم معدته.

__________________

(١) القرع - بالفتح - نوع من اليقطين، الواحدة قرعة.

(٢) في الأصل المطبوع « اجزاؤها » وهذا تصحيف شنيع، والجراء جمع جرو - بتثليث الجيم - صغير كل شيء حتّى الرمان والبطّيخ وغلب على الكلب والأسد، والمراد هنا بالجراء أولاد الهرة.

(٣) الحمارة: شدة الحرّ والجمع حمّار.

(٤) اقشعر: تغير لونه.

١٦١

( في النخل وخلقة الجذع والخشب وفوائد ذلك)

فكر يا مفضل في النخل فإنه لما صار فيه إناث تحتاج إلى التلقيح جعلت فيه ذكورة للقاح من غير غراس فصار الذكر من النخل بمنزلة الذكر من الحيوان الذي يلقح الإناث لتحمل وهو لا يحمل تأمل خلقة الجذع كيف هو فإنك تراه كالمنسوج نسجا من خيوط ممدودة كالسدى وأخرى معه معترضة كاللحمة(١) كنحو ما ينسج بالأيدي وذلك ليشتد ويصلب ولا يتقصف من حمل القنوات(٢) الثقيلة وهز الرياح العواصف إذا صار نخلة وليتهيأ للسقوف والجسور وغير ذلك مما يتخذ منه إذا صار جذعا.

وكذلك ترى الخشب مثل النسج فإنك ترى بعضه مداخلا بعضه بعضا طولا وعرضا كتداخل أجزاء اللحم وفيه مع ذلك متانة ليصلح لما يتخذ منه من الآلات فإنه لو كان مستحصفا(٣) كالحجارة لم يمكن أن يستعمل في السقوف وغير ذلك مما يستعمل فيه الخشبة كالأبواب والأسرة والتوابيت وما أشبه ذلك ومن جسيم المصالح في الخشب أنه

__________________

(١) اللحمة - بالضم - ما سدي به بين سدى الثوب أي ما نسج عرضا وهو خلاف سواه والجمع لحم.

(٢) في الأصل المطبوع - قنوان - ولا معنى لها هنا والقنوات جمع قناة وهي العسا الغليظة، وقد أراد بها الإمامعليه‌السلام هنا هي سعف النخل الغليظة.

(٣) أراد بالمستحصف: الشديد المحكم كانه الحجارة.

١٦٢

يطفو على الماء فكل الناس يعرف هذا منه وليس كلهم يعرف جلالة الأمر فيه فلو لا هذه الخلة كيف كانت هذه السفن والأظراف(١) تحمل أمثال الجبال من الحمولة وأنى كان ينال الناس هذا الرفق وخفة المئونة في حمل التجارات من بلد إلى بلد وكانت تعظم المئونة عليهم في حملها حتى يلقى كثير مما يحتاج إليه في بعض البلدان مفقودا أصلا أو عسر وجوده.

( العقاقير واختصاص كل منها)

فكر في هذه العقاقير وما خص بها كل واحد منها من العمل في بعض الأدواء فهذا يغور في المفاصل فيستخرج الفضول الغليظة مثل الشيطرج(٢) وهذا ينزف المرة السوداء(٣) مثل الأفتيمون(٤) وهذا

__________________

(١) كذا في النسخ، والظرف لا يجمع على لفظ اظراف وانما يقال للجمع ظروف.

(٢) جاء في تذكرة الانطاكى: شيطرج هندي هو الخامشة وهو نبت يوجد بالقبور الخراب له ورق عريض ودقيق ينتثر أعلاه إذا برد الجو وزهره أحمر إلى بياض، يخلف بزر أسود أصغر من الخردل ورائحته ثقيلة حادة وطعمه الى مرارة.

(٣) المرة السوداء: خلط من أخلاط البدن والجمع مرار.

(٤) افتيمون لفظ يوناني معناه دواء الجنون وهو نبات له أصل كالجزر شديد الحمرة وفروع كالخيوط الليفية تحف باوراق دقاق خضر وزهره الى حمرة وغيرة وبزر دون الخردل أحمر إلى صفرة يلتف بما يليه.

١٦٣

ينفي الرياح مثل السكبينج(١) وهذا يحلل الأورام وأشباه هذا من أفعالها فمن جعل هذه القوى فيها إلا من خلقها للمنفعة ومن فطن الناس لها إلا من جعل هذا فيها ومتى كان يوقف على هذا منها بالعرض والاتفاق - كما قال القائلون وهب الإنسان فطن لهذه الأشياء بذهنه ولطيف رويته وتجاربه فالبهائم كيف فطنت لها حتى صار بعض السباع يتداوى من جراحة إن أصابته ببعض العقاقير فيبرأ وبعض الطير يحتقن من الحصر يصيبه بماء البحر فيسلم وأشباه هذا كثير ولعلك تشكك في هذا النبات النابت في الصحاري والبراري حيث لا أنس ولا أنيس فتظن أنه فضل لا حاجة إليه وليس كذلك بل هو طعم لهذه الوحوش وحبه علف للطير وعوده وأفنانه حطب فيستعمله الناس وفيه بعد أشياء تعالج بها الأبدان وأخرى تدبغ بها الجلود وأخرى تصبغ الأمتعة وأشباه هذا من المصالح ألست تعلم أن من أخس النبات وأحقره هذا البردي وما أشبهها ففيها مع هذا من ضروب المنافع فقد يتخذ من البردي القراطيس التي يحتاج إليها الملوك والسوقة والحصر التي يستعملها كل صنف من الناس ويعمل منه الغلف التي يوقى بها الأواني ويجعل حشوا بين الظروف في الأسفاط لكيلا تعيب وتنكسر وأشباه هذا من المنافع

فاعتبر بما ترى من ضروب المآرب في صغير الخلق وكبيره وبما له قيمة

__________________

(١) سكبينج او سكنبيج هو شجرة بفارس، ويورد الاطباء الاقدمون اوصافا طبية كثيرة من السكنبيج ويذكرون انه يذهب عدة أمراض لا مجال لذكرها هنا.

١٦٤

وما لا قيمة له وأخس من هذا وأحقره الزبل والعذرة التي اجتمعت فيها الخساسة والنجاسة معا وموقعها من الزروع والبقول والخضر أجمع الموقع الذي لا يعدله شيء حتى أن كل شيء من الخضر لا يصلح ولا يزكو إلا بالزبل والسماد الذي يستقذره الناس ويكرهون الدنو منه.

واعلم أنه ليس منزلة الشيء على حسب قيمته بل هما قيمتان مختلفتان بسوقين وربما كان الخسيس في سوق المكتسب نفيسا في سوق العلم فلا تستصغر العبرة في الشيء لصغر قيمته فلو فطن طالبوا الكيمياء لما في العذرة لاشتروها بأنفس الأثمان وغالوا بها.

قال المفضل: وحان وقت الزوال، فقام مولاي إلى الصلاة وقال بكر إلي غدا إن شاء الله تعالى فانصرفت وقد تضاعف سروري بما عرفنيه مبتهجا بما آتانيه حامدا لله على ما منحنيه فبت ليلتي مسروراً.

١٦٥

المجلس الرابع

قال المفضل: فلما كان اليوم الرابع بكرت إلى مولاي فاستؤذن لي، فأمرني بالجلوس فجلست، فقالعليه‌السلام : منا التحميد والتسبيح والتعظيم والتقديس، للاسم الأقدم، والنور الأعظم، العلي العلام،ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ، ومنشئ الأنام، ومفني العوالم والدهور، وصاحب السر المستور، والغيب المحظور، والاسم المخزون، والعلم المكنون، وصلواته وبركاته على مبلغ وحيه، ومؤدي رسالته، الذي بعثهبَشِيراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ ،وَسِراجاً مُنِيراً ،لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ، فعليه وعلى آله من بارئه الصلوات الطيبات، والتحيات الزاكيات الناميات، وعليه وعليهم السلام والرحمة والبركات في الماضين والغابرين، أبد الآبدين ودهر الداهرين، وهم أهله ومستحقوه.

( الموت والفناء وانتقاد الجهال وجواب ذلك)

قد شرحت لك يا مفضل من الأدلة على الخلق، والشواهد على صواب التدبير والعمد في الإنسان والحيوان والنبات والشجر وغير ذلك. ما فيه عبرة لمن اعتبر، وأنا أشرح لك الآن الآفات الحادثة في بعض الأزمان التي اتخذها أناس من الجهال ذريعة إلى جحود الخلق والخالق والعمد والتدبير، وما أنكرت المعطلة والمنانية من المكاره والمصائب، وما

١٦٦

أنكروه من الموت والفناء، وما قاله أصحاب الطبائع، ومن زعم أن كون الأشياء بالعرض والاتفاق، ليتسع ذلك القول في الرد عليهمقاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ .

( الآفات ونظر الجهال إليها والجواب على ذلك)

اتخذ أناس من الجهال هذه الآفات الحادثة في بعض الأزمان كمثل الوباء واليرقان والبرد(١) والجراد ذريعة إلى جحود الخالق والتدبير والخلق فيقال في جواب ذلك أنه إن لم يكن خالق ومدبر فلم لا يكون ما هو أكثر من هذا وأفظع فمن ذلك أن تسقط السماء على الأرض وتهوي الأرض فتذهب سفلا وتتخلف الشمس عن الطلوع أصلا وتجف الأنهار والعيون حتى لا يوجد ماء للشفة وتركد الريح حتى تخم الأشياء وتفسد ويفيض ماء البحر على الأرض فيغرقها ثم هذه الآفات التي ذكرناها من الوباء والجراد وما أشبه ذلك ما بالها لا تدوم وتمتد حتى تجتاح كل ما في العالم بل تحدث في الأحايين ثم لا تلبث أن ترفع أفلا ترى أن العالم يصان ويحفظ من تلك الأحداث الجليلة التي لو حدث عليه شيء منها كان فيه بواره ويلذع(٢) أحيانا بهذه الآفات اليسيرة لتأديب الناس وتقويمهم ثم لا تدوم هذه الآفات بل تكشف

__________________

(١) ذهب ذكر اليرقان والبرد سابقا.

(٢) يقال لذعته النار اي احرقته ولذعه بلسانه اي اوجعه بكلام. وفي بعض النسخ باهمال الأول واعجام الثاني من لدغ العقرب.

١٦٧

عنهم عند القنوط منهم فيكون وقوعها بهم موعظة وكشفها عنهم رحمة وقد أنكرت المنانية من المكاره والمصائب التي تصيب الناس فكلاهما يقول إن كان للعالم خالق رءوف رحيم فلم تحدث فيه هذه الأمور المكروهة والقائل بهذا القول يذهب إلى أنه ينبغي أن يكون عيش الإنسان في هذه الدنيا صافيا من كل كدر ولو كان هكذا كان الإنسان يخرج من الأشر(١) والعتو(٢) إلى ما لا يصلح في دين ولا دنيا كالذي ترى كثيرا من المترفين ومن نشأ في الجدة والأمن يخرجون إليه حتى أن أحدهم ينسى أنه بشر وأنه مربوب أو أن ضررا يمسه أو أن مكروها ينزل به أو أنه يجب عليه أن يرحم ضعيفا أو يواسي فقيرا أو يرثي لمبتلى أو يتحنن على ضعيف أو يتعطف على مكروب فإذا عضته المكاره ووجد مضضها اتعظ وأبصر كثيرا مما كان جهله وغفل عنه ورجع إلى كثير مما كان يجب عليه.

والمنكرون لهذه الأمور المؤذية بمنزلة الصبيان الذين يذمون الأدوية المرة البشعة ويتسخطون من المنع من الأطعمة الضارة ويتكرهون الأدب والعمل ويحبون أن يتفرغوا للهو والبطالة وينالوا كل مطعم ومشرب ولا يعرفون ما تؤديهم إليه البطالة من سوء النشو والعادة، وما تعقبهم الأطعمة اللذيذة الضارة من الأدواء والأسقام وما لهم في الأدب من الصلاح وفي الأدوية من المنفعة وإن شاب ذلك بعض الكراهة،

__________________

(١) الاشر: البطر.

(٢) العتو - بالضم - الاستكبار وتجاوز الحد.

١٦٨

فإن قالوا: فلم لم يكن الإنسان معصوما من المساوي، حتى لا يحتاج إلى أن تلذعه هذه المكاره قيل: إذا كان يكون غير محمود على حسنه يأتيها، ولا مستحقا للثواب عليها. فإن قالوا: وما كان يضره أن لا يكون محمودا على الحسنات مستحقا للثواب، بعد أن يصير إلى غاية النعيم واللذات؟ قيل لهم: اعرضوا على امرئ صحيح الجسم والعقل، أن يجلس منعما، ويكفى كلما يحتاج إليه بلا سعي ولا استحقاق، فانظروا هل تقبل نفسه ذلك بل ستجدونه بالقليل مما يناله بالسعي والحركة أشد اغتباطا وسرورا منه بالكثير مما يناله بغير الاستحقاق وكذلك نعيم الآخرة أيضا يكمل لأهله بأن ينالوه بالسعي فيه والاستحقاق له فالنعمة على الإنسان في هذا الباب مضاعفة، فإن أعد له الثواب الجزيل على سعيه في هذه الدنيا وجعل له السبيل إلى أن ينال ذلك بسعي واستحقاق فيكمل له السرور والاغتباط بما يناله منه فإن قالوا: أوليس قد يكون من الناس من يركن إلى ما نال من خير، وإن كان لا يستحقه، فما الحجة في منع من رضي أن ينال نعيم الآخرة على هذه الجملة؟ قيل لهم: إن هذا باب لو صح للناس لخرجوا إلى غاية الكلب(١) والضراوة على الفواحش، وانتهاك المحارم، فمن كان يكف نفسه عن فاحشة أو يتحمل المشقة في باب من أبواب البر لوثق بأنه

__________________

(١) في الأصل المطبوع الكلبة. ولا معنى للفظ هنا، والصحيح ما ذكرناه اذ الكلب - بفتحتين - هو داء يشبه الجنون يأخذ الكلاب فتعض الناس فتكلب الناس أيضا إذا تمنعوا عن استعمال لقاح الطبيب الفرنسي المعروف باستور.

١٦٩

صائر إلى النعيم لا محالة أو من كان يأمن على نفسه وأهله وماله من الناس لو لم يخف الحساب والعقاب فكان ضرر هذا الباب سينال الناس في هذه الدنيا قبل الآخرة فيكون في ذلك تعطيل العدل والحكمة معا وموضع للطعن على التدبير بخلاف الصواب ووضع الأمور في غير مواضعها.

( لما ذا تصيب الآفات جميع الناس وما الحجة في ذلك)

وقد يتعلق هؤلاء بالآفات التي تصيب الناس فتعم البر والفاجر أو يبتلى بها البر ويسلم الفاجر منها فقالوا كيف يجوز هذا في تدبير الحكيم وما الحجة فيه فيقال لهم إن هذه الآفات وإن كانت تنال الصالح والطالح جميعا فإن الله عز وجل جعل ذلك صلاحا للصنفين كليهما أما الصالحون فإن الذي يصيبهم من هذا يزدهم نعم ربهم عندهم في سالف أيامهم فيحدوهم ذلك على الشكر والصبر وأما الطالحون فإن مثل هذا إذا نالهم كسر شرتهم وردعهم عن المعاصي والفواحش وكذلك يجعل لمن سلم منهم من الصنفين صلاحا في ذلك أما الأبرار فإنهم يغتبطون بما هم عليه من البر والصلاح ويزدادون فيه رغبة وبصيرة وأما الفجار فإنهم يعرفون رأفة ربهم وتطوله عليهم بالسلامة من غير استحقاق فيحضهم ذلك على الرأفة بالناس والصفح عمن أساء إليهم ولعل قائلا يقول إن هذه الآفات التي تصيب الناس في أموالهم فما قولك فيما يبتلون به في أبدانهم فيكون فيه تلفهم كمثل الحرق والغرق والسيل والخسف؟ فيقال له إن الله جعل في هذا أيضا صلاحا للصنفين جميعا أما الأبرار فلما لهم في مفارقة هذه الدنيا من الراحة

١٧٠

من تكاليفها والنجاة من مكارهها وأما الفجار فلما لهم في ذلك من تمحيص أوزارهم وحبسهم عن الازدياد منها وجملة القول أن الخالق تعالى ذكره بحكمته وقدرته قد يصرف هذه الأمور كلها إلى الخير والمنفعة فكما أنه إذا قطعت الريح شجرة أو قطعت نخلة أخذها الصانع الرفيق واستعملها في ضروب من المنافع فكذلك يفعل المدبر الحكيم في الآفات التي تنزل بالناس في أبدانهم وأموالهم فيصيرها جميعا إلى الخير والمنفعة فإن قال ولم تحدث على الناس قيل له: لكيلا يركنوا إلى المعاصي من طول السلامة فيبالغ الفاجر في ركوب المعاصي ويفتر الصالح عن الاجتهاد في البر فإن هذين الأمرين جميعا يغلبان على الناس في حال الخفض والدعة وهذه الحوادث التي تحدث عليهم تردعهم وتنبههم على ما فيه رشدهم فلو خلوا منها لغلوا في الطغيان والمعصية كما غلا الناس في أول الزمان حتى وجب عليهم البوار بالطوفان وتطهير الأرض منهم.

( الموت والفناء وانتقاد الجهال وجواب ذلك)

ومما ينتقده الجاحدون للعمد والتقدير الموت والفناء فإنهم يذهبون إلى أنه ينبغي أن يكون الناس مخلدين في هذه الدنيا مبرءين من هذه الآفات فينبغي أن يساق هذا الأمر إلى غايته فينظر ما محصوله.

أفرأيت لو كان كل من دخل العالم ويدخله يبقون ولا يموت أحد منهم ألم تكن الأرض تضيق بهم حتى تعوزهم المساكن والمزارع والمعايش فإنهم والموت يفنيهم أولا فأولا يتنافسون في المساكن

١٧١

والمزارع حتى تنشب بينهم في ذلك الحروب وتسفك فيهم الدماء فكيف كانت تكون حالهم لو كانوا يولدون ولا يموتون وكان يغلب عليهم الحرص والشره وقساوة القلوب فلو وثقوا بأنهم لا يموتون لما قنع الواحد منهم بشيء يناله ولا أفرج لأحد عن شيء يسأله ولا سلا عن شيء مما يحدث عليه ثم كانوا يملون الحياة وكل شيء من أمور الدنيا كما قد يمل الحياة من طال عمره حتى يتمنى الموت والراحة من الدنيا فإن قالوا: إنه كان ينبغي أنه يرفع عنهم المكاره والأوصاب حتى لا يتمنوا الموت ولا يشتاقوا إليه فقد وصفنا ما كان يخرجهم إليه من العتو والأشر الحامل لهم على ما فيه فساد الدنيا والدين وإن قالوا إنه كان ينبغي أن لا يتوالدوا كيلا تضيق عنهم المساكن والمعايش قيل لهم إذا كان يحرم أكثر هذا الخلق دخول العالم والاستمتاع بنعم الله تعالى ومواهبه في الدارين جميعا إذا لم يدخل العالم إلا قرن(١) واحد لا يتوالدون ولا يتناسلون فإن قالوا إنه كان ينبغي أن يخلق في ذلك القرن الواحد من الناس مثل ما خلق ويخلق إلى انقضاء العالم يقال لهم رجع الأمر إلى ما ذكرنا من ضيق المساكن والمعايش عنهم ثم لو كانوا لا يتوالدون ولا يتناسلون لذهب موضع الأنس بالقرابات وذوي الأرحام والانتصار بهم عند الشدائد وموضع تربية الأولاد والسرور بهم ففي هذا دليل على أن كل ما تذهب إليه الأوهام سوى ما جرى به التدبير خطأ وسفه من الرأي والقول.

__________________

(١) المراد بالقرن هنا أهل زمان واحد والجمع قرون.

١٧٢

( الطعن على التدبير من جهة أخرى والجواب عليه)

ولعل طاعنا يطعن على التدبير من جهة أخرى فيقول كيف يكون هاهنا تدبير ونحن نرى الناس في هذه الدنيا من عز بز فالقوي يظلم ويغصب والضعيف يظلم ويسالم الخسف والصالح فقير مبتلى والفاسق معافى موسع عليه ومن ركب فاحشة أو انتهك محرما لم يعاجل بالعقوبة فلو كان في العالم تدبير لجرت الأمور على القياس القائم فكان الصالح هو المرزوق والطالح هو المحروم وكان القوي يمنع من ظلم الضعيف والمنتهك للمحارم يعاجل بالعقوبة فيقال في جواب ذلك إن هذا لو كان هكذا لذهب موضع الإحسان الذي فضل به الإنسان على غيره من الخلق وحمل النفس على البر والعمل الصالح احتسابا للثواب وثقة بما وعد الله عنه ولصار الناس بمنزلة الدواب التي تساس بالعصا والعلف ويلمع لها بكل واحد منهما ساعة فساعة فتستقيم على ذلك ولم يكن أحد يعمل على يقين بثواب أو عقاب حتى كان هذا يخرجهم عن حد الإنسية إلى حد البهائم ثم لا يعرف ما غاب ولا يعمل إلا على الحاضر من نعيم الدنيا وكان يحدث من هذا أيضا أن يكون الصالح إنما يعمل للرزق والسعة في هذه الدنيا ويكون الممتنع من الظلم والفواحش إنما يكف عن ذلك لترقب عقوبة تنزل به من ساعته حتى تكون أفعال الناس كلها تجري على الحاضر لا يشوبه شيء من اليقين بما عند الله ولا يستحقون ثواب الآخرة والنعيم الدائم فيها مع أن هذه الأمور التي ذكرها الطاعن من

١٧٣

الغنى والفقر والعافية والبلاء ليست بجارية على خلاف قياسه، بل قد تجري على ذلك أحيانا والأمر المفهوم.

فقد ترى كثيرا من الصالحين يرزقون المال لضروب من التدبير وكيلا يسبق إلى قلوب الناس أن الكفار هم المرزوقون، والأبرار هم المحرومون فيؤثرون الفسق على الصلاح وترى كثيرا من الفساق يعاجلون بالعقوبة إذا تفاقم طغيانهم وعظم ضررهم على الناس وعلى أنفسهم كما عوجل فرعون(١) بالغرق وبختنصر(٢) بالتيه وبلبيس(٣) بالقتل وإن أمهل بعض الأشرار بالعقوبة وأخر بعض الأخيار بالثواب إلى الدار الآخرة لأسباب تخفى على العباد لم يكن هذا مما يبطل التدبير فإن مثل هذا قد يكون من ملوك الأرض ولا يبطل تدبيرهم بل يكون تأخيرهم ما أخروه وتعجيلهم ما عجلوه داخلا في صواب الرأي والتدبير وإذا كانت

__________________

(١) قصة غرق فرعون في البحر معروفة في الكتب المقدّسة، والقرآن الكريم يشير إليها في أكثر من موضع واحد.

(٢) او نبوخدنصر كان أعظم ملوك الكلدانيين، وملك في بابل من سنة ٦٠٤ الى سنة ٥٦١ ق م وقد وصف بالقوة والبأس وعد من أبطال التاريخ في الشرق، وجاء ذكره في التوراة كثيرا لأنّه عاقب الأمم الغربية عقابا شديدا، وهاجم اليهود - سكان مملكة يهوذا الصغيرة - هجوما صاعقا بعد ان أجلى أكثرهم الى بابل ودمر عاصمتهم اورشليم تدميرا شديدا.

(٣) بلبيس كذا في الأصل وهو غير معروف عند المؤرخين، ولم نجده فيما بين ايدينا من الكتب.

١٧٤

الشواهد تشهد وقياسهم يوجب أن للأشياء خالقا حكيما قادرا فما يمنعه أن يدبر خلقه فإنه لا يصلح في قياسهم أن يكون الصانع يهمل صنعته إلا بإحدى ثلاث خلال إما عجز وإما جهل وإما شرارة وكل هذا محال في صنعته عز وجل وتعالى ذكره وذلك أن العاجز لا يستطيع أن يأتي بهذه الخلائق الجليلة العجيبة والجاهل لا يهتدي لما فيها من الصواب والحكمة والشرير لا يتطاول لخلقها وإنشائها وإذا كان هذا هكذا وجب أن يكون الخالق لهذه الخلائق يدبرها لا محالة وإن كان لا يدرك كنه ذلك التدبير ومخارجه فإن كثيرا من تدبير الملوك لا تفهمه العامة ولا تعرف أسبابه لأنها لا تعرف دخيلة أمر الملوك وأسرارهم فإذا عرف سببه وجد قائما على الصواب والشاهد المحنة ولو شككت في بعض الأدوية والأطعمة فيتبين لك من جهتين أو ثلاث أنه حار أو بارد ألم تكن ستقضي عليه بذلك وتنفي الشك فيه عن نفسك فما بال هؤلاء الجهلة لا يقضون على العالم بالخلق والتدبير مع هذه الشواهد الكثيرة وأكثر منها ما لا يحصى كثرة ولو كان نصف العالم وما فيه مشكلا صوابه لما كان من حزم الرأي وسمت(١) الأدب أن يقضى على العالم بالإهمال لأنه كان في النصف الآخر وما يظهر فيه من الصواب وإتقان ما يردع الوهم عن التسرع إلى هذه القضية فكيف وكل ما فيه إذا فتش وجد على غاية الصواب حتى لا يخطر بالبال شيء إلا وجد ما عليه الخلقة أصح وأصوب منه.

__________________

(١) السمت - بالفتح - الطريق والمحجة والجمع سموت.

١٧٥

( اسم هذا العالم بلسان اليونانية)

واعلم يا مفضل أن اسم هذا العالم بلسان اليونانية الجاري المعروف عندهم قوسموس وتفسيره الزينة وكذلك سمته الفلاسفة ومن ادعى الحكمة أفكانوا يسمونه بهذا الاسم إلا لما رأوا فيه من التقدير والنظام فلم يرضوا أن يسموه تقديرا ونظاما حتى سموه زينة ليخبروا أنه مع ما هو عليه من الصواب والإتقان على غاية الحسن والبهاء.

( عمي ماني عن دلائل الحكمة وادعاؤه علم الأسرار)

اعجب يا مفضل من قوم لا يقضون على صناعة الطب بالخطإ وهم يرون الطبيب يخطئ ويقضون على العالم بالإهمال ولا يرون شيئا منه مهملا بل اعجب من أخلاق من ادعى الحكمة حتى جهلوا مواضعها في الخلق فأرسلوا ألسنتهم بالذم للخالق جل وعلا بل العجب من المخذول ماني حين ادعى علم الأسرار وعمي عن دلائل الحكمة في الخلق حتى نسبه إلى الخطإ ونسب خالقه إلى الجهل تبارك الحكيم الكريم.

( انتقاد المعطلة فيما راموا أن يدركوا بالحس ما لا يدرك بالعقل)

وأعجب منهم جميعا المعطلة الذين راموا أن يدركوا بالحس ما لا يدرك بالعقل فلما أعوزهم ذلك خرجوا إلى الجحود والتكذيب فقالوا ولم لا يدرك بالعقل قيل لأنه فوق مرتبة العقل كما لا يدرك البصر ما هو

١٧٦

فوق مرتبته فإنك لو رأيت حجرا يرتفع في الهواء علمت أن راميا رمى به فليس هذا العلم من قبل البصر بل من قبل العقل لأن العقل هو الذي يميزه فيعلم أن الحجر لا يذهب علوا من تلقاء نفسه أفلا ترى كيف وقف البصر على حده فلم يتجاوزه فكذلك يقف العقل على حده من معرفة الخالق فلا يعدوه ولكن يعقله بعقل أقر أن فيه نفسا ولم يعاينها ولم يدركها بحاسة من الحواس.

( معرفة العقل للخالق معرفة إقرار لا معرفة إحاطة)

وعلى حسب هذا أيضا نقول إن العقل يعرف الخالق من جهة توجب عليه الإقرار ولا يعرفه بما يوجب له الإحاطة بصفته فإن قالوا فكيف يكلف العبد الضعيف معرفته بالعقل اللطيف ولا يحيط به قيل لهم إنما كلف العباد من ذلك ما في طاقتهم أن يبلغوه وهو أن يوقنوا به ويقفوا عند أمره ونهيه ولم يكلفوا الإحاطة بصفته كما أن الملك لا يكلف رعيته أن يعلموا أطويل هو أم قصير وأبيض هو أم أسمر وإنما يكلفهم الإذعان لسلطانه والانتهاء إلى أمره ألا ترى أن رجلا لو أتى باب الملك فقال اعرض علي نفسك حتى أتقصى معرفتك وإلا لم أسمع لك كان قد أحل نفسه بالعقوبة فكذا القائل إنه لا يقر بالخالق سبحانه حتى يحيط بكنهه متعرضا لسخطه فإن قالوا أوليس قد نصفه فنقول هو العزيز الحكيم الجواد الكريم قيل لهم كل هذه صفات إقرار وليست صفات إحاطة فإنا نعلم أنه حكيم ولا نعلم بكنه ذلك منه وكذلك

١٧٧

قدير وجواد وسائر صفاته كما قد نرى السماء فلا ندري ما جوهرها ونرى البحر ولا ندري أين منتهاه بل فوق هذا المثال بما لا نهاية له ولأن الأمثال كلها تقصر عنه ولكنها تقود العقل إلى معرفته فإن قالوا ولم يختلف فيه قيل لهم لقصر الأوهام عن مدى عظمته وتعديها أقدارها في طلب معرفته وأنها تروم الإحاطة به وهي تعجز عن ذلك وما دونه.

( الشمس واختلاف الفلاسفة في وضعها وشكلها ومقدارها)

فمن ذلك هذه الشمس التي تراها تطلع على العالم ولا يوقف على حقيقة أمرها ولذلك كثرت الأقاويل فيها، واختلفت الفلاسفة المذكورون في وصفها، فقال بعضهم هو فلك أجوف مملوء ناراً، له فم يجيش بهذا الوهج والشعاع وقال آخرون هو سحابة وقال آخرون هو جسم زجاجي، يقل نارية في العالم، ويرسل عليه شعاعها وقال آخرون هو صفو لطيف ينعقد ماء البحر وقال آخرون هو أجزاء كثيرة مجتمعة من النار وقال آخرون هو من جوهر خامس سوى الجواهر الأربعة ثم اختلفوا في شكلها فقال بعضهم هي بمنزلة صفيحة عريضة وقال آخرون هي كالكرة المدحرجة وكذلك اختلفوا في مقدارها فزعم بعضهم أنها مثل الأرض سواء وقال آخرون بل هي أقل من ذلك وقال آخرون بل هي أعظم من الجزيرة العظيمة وقال أصحاب الهندسة هي أضعاف الأرض مائة وسبعين مرة ففي اختلاف

١٧٨

هذه الأقاويل منهم في الشمس دليل على أنهم لم يقفوا على الحقيقة من أمرها فإذا كانت هذه الشمس التي يقع عليها البصر ويدركها الحس قد عجزت العقول عن الوقوف على حقيقتها فكيف ما لطف عن الحس واستتر عن الوهم فإن قالوا ولم استتر قيل لهم لم يستتر بحيلة يخلص إليها كمن يحتجب من الناس بالأبواب والستور وإنما معنى قولنا استتر أنه لطف عن مدى ما تبلغه الأوهام كما لطفت النفس وهي خلق من خلقه وارتفعت عن إدراكها بالنظر فإن قالوا ولم لطف تعالى عن ذلك علوا كبيرا كان ذلك خطأ من القول لأنه لا يليق بالذي هو( خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) إلا أن يكون مباينا لكل شيء متعاليا عن كل شيء سبحانه وتعالى.

( الحق الذي تطلب معرفته من الأشياء أربعة أوجه وتفصيل ذلك)

فإن قالوا: كيف يعقل أن يكون مباينا لكل شيء متعاليا عن كل شيء؟ قيل لهم: الحق الذي تطلب معرفته من الأشياء هو أربعة أوجه فأولها أن ينظر أموجود هو أم ليس بموجود والثاني أن يعرف ما هو في ذاته وجوهره والثالث أن يعرف كيف هو وما صفته والرابع أن يعلم لما ذا هو ولأي علة فليس من هذه الوجوه شيء يمكن للمخلوق أن يعرفه من الخالق حق معرفته غير أنه موجود فقط فإذا قلنا وكيف وما هو فممتنع علم كنهه وكمال المعرفة به وأما لما ذا هو فساقط في صفة الخالق لأنه جل ثناؤه علة كل شيء وليس شيء بعلة له ثم ليس

١٧٩

علم الإنسان بأنه موجود يوجب له أن يعلم ما هو وكيف هو كما أن علمه بوجود النفس لا يوجب أن يعلم ما هي وكيف هي وكذلك الأمور الروحانية اللطيفة فإن قالوا فأنتم الآن تصفون من قصور العلم عنه وصفا حتى كأنه غير معلوم قيل لهم هو كذلك من جهة إذا رام العقل معرفة كنهه والإحاطة به وهو من جهة أخرى أقرب من كل قريب إذا استدل عليه بالدلائل الشافية فهو من جهة كالواضح لا يخفى على أحد وهو من جهة كالغامض لا يدركه أحد وكذلك العقل أيضا ظاهر بشواهده ومستور بذاته.

( أصحاب الطبائع ومناقشة أقوالهم)

فأما ( أصحاب الطبائع ) فقالوا إن الطبيعة لا تفعل شيئا لغير معنى ولا تتجاوز عما فيه تمام الشيء في طبيعته وزعموا أن الحكمة تشهد بذلك فقيل لهم فمن أعطى الطبيعة هذه الحكمة والوقوف على حدود الأشياء بلا مجاوزة لها وهذا قد تعجز عنه العقول بعد طول التجارب فإن أوجبوا للطبيعة الحكمة والقدرة على مثل هذه الأفعال فقد أقروا بما أنكروا لأن هذه في صفات الخالق وإن أنكروا أن يكون هذا للطبيعة فهذا وجه الخلق يهتف بأن الفعل للخالق الحكيم وقد كان من القدماء طائفة أنكروا العمد والتدبير في الأشياء وزعموا أن كونها بالعرض والاتفاق وكان مما احتجوا به هذه الآيات التي تكون على غير مجرى العرف والعادة كإنسان يولد ناقصا أو زائدا إصبعا أو يكون المولود مشوها مبدل الخلق

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

و قيل: المراد به اللبث بين حين سؤالهم عن وقتها و بين البعث و فيه أنّهم إنّما يشاهدون لبثهم على هذه الصفة عند البعث و البعث الّذي هو الإحياء بعد الموت إنّما نسبته إلى الموت الّذي قبله دون مجموع الموت و بعض الحياة الّتي بين زمان السؤال عن الوقت و زمان الموت.

على أنّه لا يلائم ظواهر سائر الآيات المتعرّضة للبثهم قبل البعث كقوله تعالى( قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ) المؤمنون: ١١٢.

و قيل: المراد باللبث اللبث في الدنيا و هو سخيف.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ:( وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى‏ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى‏ ) قال: هو العبد إذا وقف على معصية الله و قدر عليها ثمّ تركها مخافة الله و نهي الله و نهى النفس عنها فمكافاته الجنّة، قوله( يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها ) قال: متى تقوم؟ فقال الله:( إِلى‏ رَبِّكَ مُنْتَهاها ) أي علمها عندالله، قوله( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها ) قال: بعض يوم.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عبّاس قال: إنّ مشركي مكّة سألوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: متى تقوم الساعة استهزاء منهم فنزلت( يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها ) الآيات.

و فيه، أخرج البزّار و ابن جرير و ابن المنذر و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه عن عائشة قالت: ما زال رسول الله يسأل عن الساعة حتّى اُنزل عليه( فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى‏ رَبِّكَ مُنْتَهاها ) فلم يسأل عنها.

أقول: و رواه أيضاً عن عدّة من أصحاب الكتب عن عروة مرسلاً، و رواه أيضاً عن عدّة منهم عن شهاب بن طارق عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مثله‏، و السياق لا يلائم كونه

٣٠١

جواباً عن سؤال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في بعض الروايات: كانت الأعراب إذا قدموا على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سألوه عن الساعة فينظر إلى أحدث إنسان فيهم فيقول: إن يعش هذا قرناً قامت عليكم ساعتكم: رواها في الدرّ المنثور، عن ابن مردويه عن عائشة.

و هي من التوقيت الّذي يجلّ عنه ساحة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد اُوحي إليه في كثير من السور القرآنيّة سيّما المكّيّة أنّ علم الساعة يختصّ به تعالى لا يعلمه إلّا هو و اُمر أن يجيب من سأله عن وقتها بنفي العلم به عن نفسه.

٣٠٢

( سورة عبس مكّيّة و هي اثنان و أربعون آية)

( سورة عبس الآيات ١ - ١٦)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ ( ١ ) أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ ( ٢ ) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ ( ٣ ) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَىٰ ( ٤ ) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَىٰ ( ٥ ) فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ ( ٦ ) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ ( ٧ ) وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَىٰ ( ٨ ) وَهُوَ يَخْشَىٰ ( ٩ ) فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ ( ١٠ ) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ( ١١ ) فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ ( ١٢ ) فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ ( ١٣ ) مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ ( ١٤ ) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ( ١٥ ) كِرَامٍ بَرَرَةٍ ( ١٦ )

( بيان‏)

وردت الروايات من طرق أهل السنّة أنّ الآيات نزلت في قصّة ابن اُمّ مكتوم الأعمى دخل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عنده قوم من صناديد قريش يناجيهم في أمر الإسلام فعبس النبيّ عنه فعاتبه الله تعالى بهذه الآيات و في بعض الأخبار من طرق الشيعة إشارة إلى ذلك.

و في بعض روايات الشيعة أنّ العابس المتولّي رجل من بني اُميّة كان عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدخل عليه ابن اُمّ مكتوم فعبس الرجل و قبض وجهه فنزلت الآيات: و سيوافيك تفصيل البحث عن ذلك في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى.

و كيف كان الأمر فغرض السورة عتاب من يقدّم الأغنياء و المترفين على الضعفاء و المساكين من المؤمنين فيرفع أهل الدنيا و يضع أهل الآخرة ثمّ ينجرّ الكلام

٣٠٣

إلى الإشارة إلى هوان أمر الإنسان في خلقه و تناهيه في الحاجة إلى تدبير أمره و كفره مع ذلك بنعم ربّه و تدبيره العظيم لأمره و تتخلّص إلى ذكر بعثه و جزائه إنذاراً و السورة مكّيّة بلا كلام.

قوله تعالى: ( عَبَسَ وَ تَوَلَّى ) أي بسر و قبض وجهه و أعرض.

قوله تعالى: ( أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى‏ ) تعليل لما ذكر من العبوس بتقدير لام التعليل.

قوله تعالى: ( وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) حال من فاعل( عَبَسَ وَ تَوَلَّى ) و المراد بالتزكّي التطهّر بعمل صالح بعد التذكّر الّذي هو الاتّعاظ و الانتباه للاعتقاد الحقّ، و نفع الذكرى هو دعوتها إلى التزكّي بالإيمان و العمل الصالح.

و محصّل المعنى: بسر و أعرض عن الأعمى لمّا جاءه و الحال أنّه ليس يدري لعلّ الأعمى الّذي جاءه يتطهّر بصالح العمل بعد الإيمان بسبب مجيئه و تعلّمه و قد تذكّر قبل أو يتذكّر بسبب مجيئه و اتّعاظه بما يتعلّم فتنفعه الذكرى فيتطهّر.

و في الآيات الأربع عتاب شديد و يزيد شدّة بإتيان الآيتين الاُوليين في سياق الغيبة لما فيه من الإعراض عن المشافهة و الدلالة على تشديد الإنكار و إتيان الآيتين الأخيرتين في سياق الخطاب لما فيه من تشديد التوبيخ و إلزام الحجّة بسبب المواجهة بعد الإعراض و التقريع من غير واسطة.

و في التعبير عن الجائي بالأعمى مزيد توبيخ لما أنّ المحتاج الساعي في حاجته إذا كان أعمى فاقداً للبصر و كانت حاجته في دينه دعته إلى السعي فيها خشية الله كان من الحريّ أن يرحم و يخصّ بمزيد الإقبال و التعطّف لا أن ينقبض و يعرض عنه.

و قيل - بناء على كون المراد بالمعاتب هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - : أنّ في التعبير عنه أوّلاً بضمير الغيبة إجلالاً له لإيهام أنّ من صدر عنه العبوس و التولّي غيرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٣٠٤

لأنّه لا يصدر مثله عن مثله، و ثانياً بضمير الخطاب إجلالاً له أيضاً لما فيه من الإيناس بعد الإيحاش و الإقبال بعد الإعراض.

و فيه أنّه لا يلائمه الخطاب في قوله بعد:( أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى‏ فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ) إلخ و العتاب و التوبيخ فيه أشدّ ممّا في قوله:( عَبَسَ وَ تَوَلَّى ) إلخ و لا إيناس فيه قطعاً.

قوله تعالى: ( أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى‏ فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَ ما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ) الغنى و الاستغناء و التغنّي و التغاني بمعنى على ما ذكره الراغب فالمراد بمن استغنى من تلبّس بالغنى و لازمه التقدّم و الرئاسة و العظمة في أعين الناس و الاستكبار عن اتّباع الحقّ قال تعالى:( إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى‏ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) العلق: ٧ و التصدّي التعرّض للشي‏ء بالإقبال عليه و الاهتمام بأمره.

و في الآية إلى تمام ستّ آيات إشارة إلى تفصيل القول في ملاك ما ذكر من العبوس و التولّي فعوتب عليه و محصّله أنّك تعتني و تقبل على من استغنى و استكبر عن اتّباع الحقّ و ما عليك ألا يزكّى و تتلهّى و تعرّض عمّن يجتهد في التزكّي و هو يخشى.

و قوله:( وَ ما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ) قيل:( ما ) نافية و المعنى و ليس عليك بأس أن لا يتزكّى حتّى يبعثك الحرص على إسلامه إلى الإعراض و التلهّي عمّن أسلم و الإقبال عليه.

و قيل:( ما ) للاستفهام الإنكاريّ و المعنى و أيّ شي‏ء يلزمك إن لم يتطهّر من الكفر و الفجور فإنّما أنت رسول ليس عليك إلّا البلاغ.

و قيل: المعنى و لا تبالي بعدم تطهّره من دنس الكفر و الفجور و هذا المعنى أنسب لسياق العتاب ثمّ الّذي قبله ثمّ الّذي قبله.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى‏ وَ هُوَ يَخْشى‏ فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) السعي الإسراع في المشي فمعنى قوله:( وَ أَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى‏ ) بحسب ما يفيده المقام: و أمّا من جاءك مسرعاً ليتذكّر و يتزكّى بما يتعلّم من معارف الدين.

٣٠٥

و قوله:( وَ هُوَ يَخْشى) أي يخشى الله و الخشية آية التذكّر بالقرآن قال تعالى:( ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى‏ إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) طه: ٣ و قال:( سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى‏ ) الأعلى: ١٠.

و قوله:( فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) أي تتلهّى و تتشاغل بغيره و تقديم ضمير أنت في قوله:( فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ) و قوله:( فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) و كذا الضميرين( لَهُ ) و( عَنْهُ ) في الآيتين لتسجيل العتاب و تثبيته.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) ( كَلَّا ) ردع عمّا عوتب عليه من العبوس و التولّي و التصدّي لمن استغنى و التلهّي عمّن يخشى.

و الضمير في( إِنَّها تَذْكِرَةٌ ) للآيات القرآنيّة أو للقرآن و تأنيث الضمير لتأنيث الخبر و المعنى أنّ الآيات القرآنيّة أو القرآن تذكرة أي موعظة يتّعظ بها من اتّعظ أو مذكّر يذكّر حقّ الاعتقاد و العمل.

و قوله:( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) جملة معترضة و الضمير للقرآن أو ما يذكّر به القرآن من المعارف، و المعنى فمن شاء ذكر القرآن أو ذكر ما يذكّر به القرآن و هو الانتقال إلى ما تهدي إليه الفطرة ممّا تحفظه في لوحها من حقّ الاعتقاد و العمل.

و في التعبير بهذا التعبير:( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) تلويح إلى أن لا إكراه في الدعوة إلى التذكّر فلا نفع فيها يعود إلى الداعي و إنّما المنتفع بها المتذكّر فليختر ما يختاره.

قوله تعالى: ( فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ) قال في المجمع: الصحف جمع صحيفة، و العرب تسمّي كلّ مكتوب فيه صحيفة كما تسمّيه كتاباً رقّاً كان أو غيره انتهى.

و( فِي صُحُفٍ ) خبر بعد خبر لأنّ و ظاهره أنّه مكتوب في صحف متعدّدة بأيدي ملائكة الوحي، و هذا يضعّف القول بأنّ المراد بالصحف اللوح المحفوظ و لم يرد في كلامه تعالى إطلاق الصحف و لا الكتب و لا الألواح بصيغة الجمع على اللوح المحفوظ، و نظيره في الضعف القول بأنّ المراد بالصحف كتب الأنبياء الماضين لعدم ملاءمته لظهور قوله:( بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ) إلخ في أنّه صفة لصحف.

٣٠٦

و قوله:( مُكَرَّمَةٍ ) أي معظّمة، و قوله:( مَرْفُوعَةٍ ) أي قدراً عندالله، و قوله:( مُطَهَّرَةٍ ) أي من قذارة الباطل و لغو القول و الشكّ و التناقض قال تعالى:( لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ ) حم السجدة: ٤٢، و قال:( إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ ) الطارق: ١٤ و قال:( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ ) البقرة: ٢، و قال:( وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) النساء: ٨٢.

قوله تعالى: ( بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ ) صفة بعد صفة لصحف، و السفرة هم السفراء جمع سفير بمعنى الرسول و( كِرامٍ ) صفة لهم باعتبار ذواتهم و( بَرَرَةٍ ) صفة لهم باعتبار عملهم و هو الإحسان في الفعل.

و معنى الآيات أنّ القرآن تذكرة مكتوبة في صحف متعدّدة معظّمة مرفوعة قدراً مطهّراً من كلّ دنس و قذارة بأيدي سفراء من الملائكة كرام على ربّهم بطهارة ذواتهم بررة عنده تعالى بحسن أعمالهم.

و يظهر من الآيات أنّ للوحي ملائكة يتصدّون لحمل الصحف و إيحاء ما فيها من القرآن فهم أعوان جبريل و تحت أمره و نسبة إلقاء الوحي إليهم لا تنافي نسبته إلى جبريل في مثل قوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) الشعراء: ١٩٤ و قد قال تعالى في صفته:( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) التكوير: ٢١ فهو مطاع من الملائكة من يصدر عن أمره و يأتي بما يريده و الإيحاء الّذي هو فعل أعوانه فعله كما أنّ فعله و فعلهم جميعاً فعل الله و ذلك نظير كون التوفّي الّذي هو فعل أعوان ملك الموت فعله، و فعله و فعلهم جميعاً فعل الله تعالى، و قد تقدّمت الإشارة إلى هذا البحث مراراً.

و قيل: المراد بالسفرة الكتاب من الملائكة، و الّذي تقدّم من المعنى أجلى و قيل: المراد بهم القرّاء يكتبونها و يقرؤنها و هو كما ترى.

٣٠٧

( بحث روائي‏)

في المجمع، قيل: نزلت الآيات في عبدالله بن اُمّ مكتوم و هو عبدالله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهريّ من بني عامر بن لؤيّ.

و ذلك أنّه أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو يناجي عتبة بن ربيعة و أباجهل بن هشام و العبّاس بن عبد المطّلب و اُبيّاً و اُميّة بن خلف يدعوهم إلى الله و يرجو إسلامهم فقال: يا رسول الله أقرئني و علّمني ممّا علّمك الله فجعل يناديه و يكرّر النداء و لا يدري أنّه مشتغل مقبل على غيره حتّى ظهرت الكراهة في وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقطعه كلامه و قال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد إنّما أتباعه العميان و العبيد فأعرض عنه و أقبل على القوم الّذين كان يكلّمهم فنزلت الآيات.

و كان رسول الله بعد ذلك يكرمه، و إذا رآه قال: مرحبا بمن عاتبني فيه ربّي، و يقول له: هل لك من حاجة؟ و استخلفه على المدينة مرّتين في غزوتين.

أقول: روى السيوطي في الدرّ المنثور القصّة عن عائشة و أنس و ابن عبّاس على اختلاف يسير و ما أورده الطبرسيّ محصّل الروايات.

و ليست الآيات ظاهرة الدلالة على أنّ المراد بها هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل خبر محض لم يصرّح بالمخبر عنه بل فيها ما يدلّ على أنّ المعنىّ بها غيره لأنّ العبوس ليس من صفات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع الأعداء المباينين فضلاً عن المؤمنين المسترشدين. ثمّ الوصف بأنّه يتصدّى للأغنياء و يتلهّى عن الفقراء لا يشبه أخلاقه الكريمة كما عن المرتضى رحمه الله.

و قد عظّم الله خُلقهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ قال - و هو قبل نزول هذه السورة -:( وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) و الآية واقعة في سورة( ن ) الّتي اتّفقت الروايات المبيّنة لترتيب نزول السور على أنّها نزلت بعد سورة اقرأ باسم ربّك، فكيف يعقل أن يعظّم الله خلقه في

٣٠٨

أوّل بعثته و يطلق القول في ذلك ثمّ يعود فيعاتبه على بعض ما ظهر من أعماله الخلقيّة و يذمّه بمثل التصدّي للأغنياء و إن كفروا و التلهّي عن الفقراء و إن آمنوا و استرشدوا.

و قال تعالى أيضاً:( وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) الشعراء: ٢١٥ فأمره بخفض الجناح للمؤمنين و السورة من السور المكّيّة و الآية في سياق قوله:( وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) النازل في أوائل الدعوة.

و كذا قوله:( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى‏ ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) الحجر: ٨٨ و في سياق الآية قوله:( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) الحجر: ٩٤ النازل في أوّل الدعوة العلنيّة فكيف يتصوّر منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العبوس و الإعراض عن المؤمنين و قد اُمر باحترام إيمانهم و خفض الجناح و أن لا يمدّ عينيه إلى دنيا أهل الدنيا.

على أنّ قبح ترجيح غنى الغنيّ - و ليس ملاكاً لشي‏ء من الفضل - على كمال الفقير و صلاحه بالعبوس و الإعراض عن الفقير و الإقبال على الغنيّ لغناه قبح عقليّ مناف لكريم الخلق الإنسانيّ لا يحتاج في لزوم التجنّب عنه إلى نهي لفظيّ.

و بهذا و ما تقدّمه يظهر الجواب عمّا قيل: إنّ الله سبحانه لم ينههصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هذا الفعل إلّا في هذا الوقت فلا يكون معصية منه إلّا بعده و أمّا قبل النهي فلا.

و ذلك أنّ دعوى أنّه تعالى لم ينهه إلّا في هذا الوقت تحكّم ممنوع، و لو سلم فالعقل حاكم بقبحه و معه ينافي صدوره كريم الخلق و قد عظّم الله خلقهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل ذلك إذ قال:( وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) و أطلق القول، و الخلق ملكة لا تتخلّف عن الفعل المناسب لها.

و عن الصادقعليه‌السلام - على ما في المجمع - أنّها نزلت في رجل من بني اُميّة كان عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجاء ابن اُمّ مكتوم فلمّا رآه تقذّر منه و جمع نفسه و عبس و أعرض بوجهه عنه فحكى الله سبحانه ذلك و أنكره عليه.

٣٠٩

و في المجمع، و روي عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا رأى عبدالله بن اُمّ مكتوم قال: مرحباً مرحباً و الله لا يعاتبني الله فيك أبداً، و كان يصنع به من اللّطف حتّى كان يكفّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا يفعل به.

أقول : الكلام فيه كالكلام فيما تقدّمه، و معنى قوله: حتّى أنّه كان يكفّ إلخ أنّه كان يكفّ عن الحضور عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكثرة صنيعهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به انفعالاً منه و خجلاً.

٣١٠

( سورة عبس الآيات ١٧ - ٤٢)

قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ( ١٧ ) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ( ١٨ ) مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ( ١٩ ) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ( ٢٠ ) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ( ٢١ ) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ ( ٢٢ ) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ( ٢٣ ) فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ ( ٢٤ ) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ( ٢٥ ) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ( ٢٦ ) فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا ( ٢٧ ) وَعِنَبًا وَقَضْبًا ( ٢٨ ) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا ( ٢٩ ) وَحَدَائِقَ غُلْبًا ( ٣٠ ) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ( ٣١ ) مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ( ٣٢ ) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ ( ٣٣ ) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ( ٣٤ ) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ( ٣٥ ) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ( ٣٦ ) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ( ٣٧ ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ( ٣٨ ) ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ ( ٣٩ ) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ( ٤٠ ) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ( ٤١ ) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ( ٤٢ )

( بيان‏)

دعاء على الإنسان و تعجيب من مبالغته في الكفر بربوبيّة ربّه و إشارة إلى أمره حدوثاً و بقاءً فإنّه لا يملك لنفسه شيئاً من خلق و تدبير بل الله سبحانه هو الّذي خلقه من نطفة مهينة فقدّره ثمّ السبيل يسّره ثمّ أماته فأقبره ثمّ إذا شاء أنشره فهو سبحانه

٣١١

ربّه الخالق له المدبّر لأمره مطلقاً و هو في مدى وجوده لا يقضي ما أمره به ربّه و لا يهتدي بهداه.

و لو نظر الإنسان إلى طعامه فقطّ و هو مظهر واحد من مظاهر تدبيره و غرفة من بحار رحمته رأى من وسيع التدبير و لطيف الصنع ما يبهر عقله و يدهش لبّه و وراء ذلك نعم لا تعدّ - و إن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها -.

فستره تدبير ربّه و تركه شكر نعمته عجيب و إنّ الإنسان لظلوم كفّار و سيرون تبعة شكرهم و كفرهم من السرور و الاستبشار أو الكآبة و سواد الوجه.

و الآيات - كما ترى - لا تأبى الاتّصال بما قبلها سياقاً واحداً و إن قال بعضهم أنّها نزلت لسبب آخر كما سيجي‏ء.

قوله تعالى: ( قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ ) دعاء على الإنسان لما أنّ في طبعه التوغّل في اتّباع الهوى و نسيان ربوبيّة ربّه و الاستكبار عن اتّباع أوامره.

و قوله:( ما أَكْفَرَهُ ) تعجيب من مبالغة في الكفر و ستر الحقّ الصريح و هو يرى أنّه مدبّر بتدبير الله لا يملك شيئاً من تدبير أمره غيره تعالى.

فالمراد بالكفر مطلق ستر الحقّ و ينطبق على إنكار الربوبيّة و ترك العبادة و يؤيّده ما في ذيل الآية من الإشارة إلى جهات من التدبير الربوبيّ المتناسبة مع الكفر بمعنى ستر الحقّ و ترك العبادة، و قد فسّر بعضهم الكفر بترك الشكر و كفران النعمة و هو و إن كان معنى صحيحاً في نفسه لكنّ الأنسب بالنظر إلى السياق هو المعنى المتقدّم.

قال في الكشّاف:( قُتِلَ الْإِنْسانُ ) دعاء عليه و هي من أشنع دعواتهم لأنّ القتل قصارى شدائد الدنيا و فظائعها و( ما أَكْفَرَهُ ) تعجّب من إفراطه في كفران نعمة الله و لا ترى اُسلوباً أغلظ منه، و لا أخشن مسّاً، و لا أدلّ على سخط، و لا أبعد شوطاً في المذمّة مع تقارب طرفيه، و لا أجمع للّأئمة على قصر متنه، انتهى.

و قيل جملة( ما أَكْفَرَهُ ) استفهاميّة و المعنى ما هو الّذي جعله كافراً، و الوجه المتقدّم أبلغ.

٣١٢

قوله تعالى: ( مِنْ أَيِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ ) معناه على ما يعطيه المقام من أيّ شي‏ء خلق الله الإنسان حتّى يحقّ له أن يطغى و يستكبر عن الإيمان و الطاعة، و حذف فاعل قوله:( خَلَقَهُ ) و ما بعده من الأفعال للإشعار بظهوره فمن المعلوم بالفطرة - و قد اعترف به المشركون - أن لا خالق إلّا الله تعالى.

و الاستفهام بداعي تأكيد ما في قوله:( ما أَكْفَرَهُ ) من العجب - و العجب إنّما هو في الحوادث الّتي لا يظهر لها سبب - فاُفيد أوّلاً: أنّ من العجب إفراط الإنسان في كفره ثمّ سئل ثانياً: هل في خلقته إذ خلقه الله ما يوجب له الإفراط في الكفر فاُجيب بنفيه و أن لا حجّة له يحتجّ بها و لا عذر يعتذر به فإنّه مخلوق من ماء مهين لا يملك شيئاً من خلقته و لا من تدبير أمره في حياته و مماته و نشره، و بالجملة الاستفهام توطئة للجواب الّذي في قوله:( مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ ) إلخ.

قوله تعالى: ( مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ) تنكير( نُطْفَةٍ ) للتحقير أي من نطفة مهينة حقيرة خلقة فلا يحقّ له و أصله هذا الأصل أن يطغى بكفره و يستكبر عن الطاعة.

و قوله:( فَقَدَّرَهُ ) أي أعطاه القدر في ذاته و صفاته و أفعاله فليس له أن يتعدّى الطور الّذي قدّر له و يتجاوز الحدّ الّذي عيّن له فقد أحاط به التدبير الربوبيّ من كلّ جانب ليس له أن يستقلّ بنيل ما لم يقدّر له.

قوله تعالى: ( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) ظاهر السياق المقصود به نفي العذر من الإنسان في كفره و استكباره أنّ المراد بالسبيل - و قد اُطلق - السبيل إلى طاعة الله و امتثال أوامره و إن شئت فقل: السبيل إلى الخير و السعادة.

فتكون الآية في معنى دفع الدخل فإنّه إذا قيل:( مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ) أمكن أن يتوهّم السامع أنّ الخلق و التقدير إذا كانا محيطين بالإنسان من كلّ جهة كانت أفعال الإنسان لذاته و صفاته مقدّرة مكتوبة و متعلّقة لمشيّة الربوبيّة الّتي لا تتخلّف فتكون أفعال الإنسان ضروريّة الثبوت واجبة التحقّق و الإنسان مجبراً عليها فاقداً للاختيار فلا صنع للإنسان في كفره إذا كفر و لا في فسقه إذا فسق و لم

٣١٣

يقض ما أمره الله به و إنّما ذلك بتقديره تعالى و إرادته فلا ذمّ و لا لائمة على الإنسان و لا دعوة دينية تتعلّق به لأنّ ذلك كلّه فرع للاختيار و لا اختيار.

فدفع الشبهة بقوله:( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) و محصّله أنّ الخلق و التقدير لا ينافيان كون الإنسان مختاراً فيما أمر به من الإيمان و الطاعة له طريق إلى السعادة الّتي خلق لها فكلّ ميسّر لما خلق له و ذلك أنّ التقدير واقع على الأفعال الإنسانيّة من طريق اختياره، و الإرادة الربوبيّة متعلّقة بأن يفعل الإنسان بإرادته و اختياره كذا و كذا فالفعل صادر عن الإنسان باختياره و هو بما أنّه اختياريّ متعلّق للتقدير.

فالإنسان مختار في فعله مسؤل عنه و إن كان متعلّقاً للقدر، و قد تقدّم البحث عن هذا المعنى كراراً في ذيل الآيات المناسبة له في هذا الكتاب.

و قيل: المراد بتيسير السبيل تسهيل خروج الإنسان من بطن اُمّه و المعنى ثمّ سهّل للإنسان سبيل الخروج و هو جنين مخلوق من نطفة.

و قيل: المراد الهداية إلى الدين و تبيين طريق الخير و الشرّ كما قال:( وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ) البلد: ١٠ و الوجه المتقدّم أوجه.

قوله تعالى: ( ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ ) الإماتة إيقاع الموت على الإنسان، و المراد بالإقبار دفنه في القبر و إخفاؤه في بطن الأرض و هذا بالبناء على الغالب الّذي جرى عليه ديدن الناس و بهذه المناسبة نسب إليه تعالى لأنّه تعالى هو الّذي هداهم إلى ذلك و ألهمهم إيّاه فللفعل نسبة إليه كما له نسبة إلى الناس.

و قيل: المراد بالإقبار جعله ذا قبر و معنى جعله ذا قبر أمره تعالى بدفنه تكرمة له لتتوارى جيفته فلا يتأذّى بها الناس و لا يتنفّروا.

و الوجه المتقدّم أنسب لسياق الآيات المسرود لتذكير تدبيره تعالى التكويني للإنسان دون التدبير التشريعيّ الّذي عليه بناء هذا الوجه.

قوله تعالى: ( ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ ) في المجمع: الإنشار الإحياء للتصرّف بعد الموت كنشر الثوب بعد الطيّ. انتهى، فالمراد به البعث إذا شاء الله، و فيه إشارة إلى كونه بغتة لا يعلمه غيره تعالى.

٣١٤

قوله تعالى: ( كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ ) الّذي يعطيه السياق أنّ( كَلَّا ) ردع عن معنى سؤال يستدعيه السياق و يلوّح إليه قوله:( لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ ) كأنّه لمّا اُشير إلى أنّ الإنسان مخلوق مدبّر له تعالى من أوّل وجوده إلى آخره من خلق و تقدير و تيسير للسبيل و إماتة و إقبار و إنشار و كلّ ذلك نعمة منه تعالى سئل فقيل: فما ذا صنع الإنسان و الحال هذه الحال و هل خضع للربوبيّة أو هل شكر النعمة فاُجيب و قيل: كلّا، ثمّ اُوضح فقيل: لمّا يقض ما أمره الله به بل كفر و عصى.

فقد ظهر ممّا تقدّم أن ضمير( يَقْضِ ) للإنسان و المراد بقضائه إتيانه بما أمر الله به، و قيل: الضمير لله تعالى و المعنى لمّا يقض الله لهذا الكافر أن يأتي بما أمره به من الإيمان و الطاعة بل إنّما أمره بما أمر إتماماً للحجّة، و هو بعيد.

و ظهر أيضاً أنّ ما في الآيات من الذمّ و اللّائمة إنّما هو للإنسان بما في طبعه من الإفراط في الكفر كما في قوله:( إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) إبراهيم: ٣٤ فينطبق على من تلبّس بالكفر و أفرط فيه بالعناد و منه يظهر عدم استقامة ما نقل عن بعضهم أنّ الآية على العموم في الكافر و المسلم لم يعبده أحد حقّ عبادته.

و ذلك أنّ الضمير للإنسان المذكور في صدر الآيات بما في طبعه من داعية الإفراط في الكفر و ينطبق على من تلبّس به بالفعل.

قوله تعالى: ( فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى‏ طَعامِهِ ) متفرّع على ما تقدّم تفرّع التفصيل على الإجمال ففيه توجيه نظر الإنسان إلى طعامه الّذي يقتات به و يستمدّ منه لبقائه و هو واحد ممّا لا يحصى ممّا هيّأه التدبير الربوبيّ لرفع حوائجه في الحياة حتّى يتأمّله فيشاهد سعة التدبير الربوبيّ الّتي تدهش لبّه و تحيّر عقله، و تعلّق العناية الإلهيّة - على دقّتها و إحاطتها - بصلاح حاله و استقامة أمره.

و المراد بالإنسان - كما قيل - غير الإنسان المتقدّم المذكور في قوله:( قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ ) فإنّ المراد به خصوص الإنسان المبالغ في الكفر بخلاف الإنسان المذكور في هذه الآية المأمور بالنظر فإنّه عامّ شامل لكلّ إنسان، و لذلك أظهر و لم يضمر.

٣١٥

قوله تعالى: ( أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا - إلى قوله -وَ لِأَنْعامِكُمْ ) القراءة الدائرة( أَنَّا ) بفتح الهمزة و هو بيان تفصيليّ لتدبيره تعالى طعام الإنسان نعم هو مرحلة ابتدائيّة من التفصيل و أمّا القول المستوفى لبيان خصوصيّات النظام الّذي هيّأ له هذه الاُمور و النظام الوسيع الجاري في كل من هذه الاُمور و الروابط الكونيّة الّتي بين كلّ واحد منها و بين الإنسان فممّا لا يسعه نطاق البيان عادة.

و بالجملة قوله:( أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ) الصبّ إراقة الماء من العلو، و المراد بصب الماء إنزال الأمطار على الأرض لإنبات النبات، و لا يبعد أن يشمل إجراء العيون و الأنهار فإنّ ما في بطن الأرض من ذخائر الماء إنّما يتكوّن من الأمطار.

و قوله:( ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ) ظاهره شقّ الأرض بالنبات الخارج منها و لذا عطف على صبّ الماء بثمّ و عطف عليه إنبات الحبّ بالفاء.

و قوله:( فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا ) ضمير( فِيها) للأرض، و المراد بالحبّ جنس الحبّ الّذي يقتات به الإنسان كالحنطة و الشعير و نحوهما و كذا في العنب و القضب و غيرهما.

و قوله:( وَ عِنَباً وَ قَضْباً ) العنب معروف، و يطلق على شجر الكرم و لعلّه المراد في الآية و نظيره الزيتون.

و القضب هو الغضّ الرطب من البقول الّذي يأكله الإنسان يقضب أي يقطع مرّة بعد اُخرى، و قيل: هو ما يقطع من النبات فتعلّف به الدوابّ.

و قوله:( وَ زَيْتُوناً وَ نَخْلًا ) معروفان.

و قوله:( وَ حَدائِقَ غُلْباً ) الحدائق جمع حديقة و هي على ما فسّر البستان المحوّط و الغلب جمع غلباء يقال: شجرة غلباء أي عظيمة غليظة فالحدائق الغلب البساتين المشتملة على أشجار عظام غلاظ.

و قوله:( وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا ) قيل: الفاكهة مطلق الثمار، و قيل: ما عدا العنب و الرّمان. قيل: إنّ ذكر ما يدخل في الفاكهة أوّلاً كالزيتون و النخل للاعتناء بشأنه

٣١٦

و الأبّ الكلاء و المرعى.

و قوله:( مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ ) مفعول له أي أنبتنا ما أنبتنا ممّا تطعمونه ليكون تمتيعاً لكم و للأنعام الّتي خصصتموها بأنفسكم.

و الالتفات عن الغيبة إلى الخطاب في الآية لتأكيد الامتنان بالتدبير أو بإنعام النعمة.

قوله تعالى: ( فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ ) إشارة إلى ما ينتهي إليه ما ذكر من التدبير العامّ الربوبيّ للإنسان بما أنّ فيه أمراً ربوبيّاً إلهيّاً بالعبودية يقضيه الإنسان أوّلاً يقضيه و هو يوم القيامة الّذي يوفّى فيه الإنسان جزاء أعماله.

و الصاخة: الصيحة الشديدة الّتي تصمّ الأسماع من شدّتها، و المراد بها نفخة الصور.

قوله تعالى: ( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ وَ صاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ ) إشارة إلى شدّة اليوم فالّذين عدّوا من أقرباء الإنسان و أخصائه هم الّذين كان يأوي إليهم و يأنس بهم و يتّخذهم أعضاداً و أنصاراً يلوذ بهم في الدنيا لكنّه يفرّ منهم يوم القيامة لما أنّ الشدّة أحاطت به بحيث لا تدعه يشتغل بغيره و يعتني بما سواه كائناً من كان فالبلبيّة إذا عظمت و اشتدّت و أطّلت على الإنسان جذبته إلى نفسها و صرفته عن كلّ شي‏ء.

و الدليل على هذا المعنى قوله بعد:( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) أي يكفيه من أن يشتغل بغيره.

و قيل: في سبب فرار الإنسان من أقربائه و أخصّائه يومئذ وجوه اُخر لا دليل عليها أغمضنا عن إيرادها.

قوله تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ) بيان لانقسام الناس يومئذ إلى قسمين: أهل السعادة و أهل الشقاء، و إشارة إلى أنّهم يعرفون بسيماهم في وجوههم و إسفار الوجه إشراقه و إضاءته فرحاً و سروراً و استبشاره تهلّله بمشاهدة ما فيه البشرى.

٣١٧

قوله تعالى: ( وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ ) هي الغبار و الكدورة و هي سيماء الهمّ و الغمّ.

قوله تعالى: ( تَرْهَقُها قَتَرَةٌ ) أي يعلوها و يغشاها سواد و ظلمة، و قد بيّن حال الطائفتين في الآيات الأربع ببيان حال وجوههما لأنّ الوجه مرآة القلب في سروره و مساءته.

قوله تعالى: ( أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ) أي الجامعون بين الكفر اعتقاداً و الفجور و هو المعصية الشنيعة عملاً أو الكافرون بنعمة الله الفاجرون، و هذا تعريف للطائفة الثانية و هم أهل الشقاء و لم يأت بمثله في الطائفة الاُولى و هم أهل السعادة لأنّ الكلام مسوق للإنذار و الاعتناء بشأن أهل الشقاء.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن المنذر عن عكرمة في قوله:( قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ ) قال: نزلت في عتبة بن أبي لهب حين قال: كفرت بربّ النجم إذا هوى فدعا عليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخذه الأسد بطريق الشام.

و في الاحتجاج، عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام في حديث طويل:( قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ ) أي لعن الإنسان.

و في تفسير القمّيّ:( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) قال: يسّر له طريق الخير.

أقول: المراد به جعله مختاراً في فعله يسهل به سلوكه سبيل السعادة و وصوله إلى الكمال الّذي خلق له. فالخبر منطبق على ما قدّمناه من الوجه في تفسير الآية.

و فيه،: في قوله:( وَ قَضْباً ) قال: القضب القتّ.

٣١٨

و فيه: في قوله:( وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا ) قال: الأبّ الحشيش للبهائم.

و في الدرّ المنثور، أخرج أبوعبيد في فضائله عن إبراهيم التيميّ قال: سئل أبوبكر الصديق عن قوله:( وَ أَبًّا ) فقال: أيّ سماء تظلّني و أي أرض تقلّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم.

و فيه، أخرج سعيد بن منصور و ابن جرير و ابن سعد و عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان و الخطيب و الحاكم و صحّحه عن أنس أنّ عمر قرأ على المنبر( فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَ عِنَباً وَ قَضْباً - إلى قوله -وَ أَبًّا ) قال: كلّ هذا قد عرفناه فما الأبّ؟ ثمّ رفض عصاً كانت في يده فقال: هذا لعمر الله هو التكلّف فما عليك أن لا تدري ما الأبّ؟ اتّبعوا ما بيّن لكم هداه من الكتاب فاعملوا به و ما لم تعرفوه فكلوه إلى ربّه.

و فيه، أخرج عبد بن حميد عن عبد الرحمن بن يزيد أنّ رجلاً سأل عمر عن قوله:( وَ أَبًّا ) فلمّا رآهم يقولون أقبل عليهم بالدرّة.

أقول: هو مبني على منعهم عن البحث عن معارف الكتاب حتّى تفسير ألفاظه.

و في إرشاد المفيد، و روي: أنّ أبابكر سئل عن قول الله تعالى:( وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا ) فلم يعرف معنى الأبّ من القرآن فقال: أيّ سماء تظلّني أم أيّ أرض تقلّني أم كيف أصنع إن قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟ أمّا الفاكهة فنعرفها و أمّا الأبّ فالله أعلم.

فبلغ أميرالمؤمنينعليه‌السلام مقاله في ذلك فقال: سبحان الله أ ما علم أنّ الأبّ هو الكلاء و المرعى؟ و أنّ قوله تعالى:( وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا ) اعتداد من الله بإنعامه على خلقه فيما غذّاهم به و خلقه لهم و لأنعامهم ممّا تحيى به أنفسهم و تقوم به أجسادهم.

و في المجمع، و روي عن عطاء بن يسار عن سودة زوج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالت: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يبعث الناس حفاة عراة غرلا(١) يلجمهم العرق و يبلغ شحمة الاُذن

____________________

(١) الغرل بالغين المعجمة جمع أغرل و هو الأقلف غير المختون.

٣١٩

قالت: قلت: يا رسول الله وا سوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض إذا جاء؟ قال: شغل الناس عن ذلك و تلا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) .

و في تفسير القمّيّ: قوله:( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) قال: شغل يشغله عن غيره.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568