الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن10%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219989 / تحميل: 7018
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

بين يدي محاوراته مع عثمان

لقد قرأنا في الجزء الثاني من الحلقة الأولى من هذه الموسوعة كثيراً من أخبار ابن عباس في أيام عثمان ، ولمّا كان حال عثمان غير خفيّ في التاريخ ، بالرغم من موضوعات زادت في تشويهه بأكاذيب أموية ، لكنها لم تصنع شيئاً ، فبقيت حال عثمان كما هي معلومة نسباً وحسباً وصحبةً ومصاهرةً وحكومةً وممارسةً وضلوعاً وإنصياعاً لبني أمية ، ما سببّت نقمة الناس عليه ، لأمور صدرت منه ومنهم ما كان ينبغى لمثله في سنّه وشأنه أن تنسب إليه فيؤاخذ عليها حتى أودت بحياته ، فكان كما قال عنه الدكتور طه حسين في كتابه ( الفتنة الكبرى ) :

( فأمّا عثمان فمهما يكن إعتذار أهل السنة والمعتزلة عنه ، فإنّه قد أسرف وترك عمّاله يسرفون في العُنف بالرعية ، ضرباً ونفياً وحبساً ، وهو نفسه قد ضرب أو أمر بضرب رجلين من أعلام أصحاب النبيّ ، فضرب عمار بن ياسر حتى أصابه الفتق ، وأمر من أخرج عبد الله بن مسعود من مسجد النبيّ إخراجاً عنيفاً ، حتى كسر بعض أضلاعه ).

وقال أيضاً : ( فهذه السياسة العنيفة التي تسلط الخليفة وعماله على أبشار الناس وأشعارهم وعلى أمنهم وحريتهم ليست من سيرة النبيّ ولا من سيرة الشيخين في شيء ).

١٤١

وقال أيضاً : ( والسياسة المالية التي أصطنعها عثمان منذ نهض بالخلافة كلّها موضوع النقمة والإنكار من أكثر الذين عاصروا عثمان ، ومن أكثر الرواة والمؤرخين ).

وقال أيضاً : ( ولو سار عثمان في الأموال العامّة سيرة عمر فلم ينفق المال إلاّ بحقه ، لجنّب نفسه وجنّب المسلمين شراً عظيماً ، ولكان من الممكن أن ينشئ الإسلام للإنسانية نظاماً سياسياً وإجتماعياً صالحاً يجنبّها كثيراً من الإضطراب الذي اضطرت إليه ، والفساد الذي تورطت فيه )(1) .

أقول : وعلى نحو ما مرّ من أقوال طه حسين نجد أقوال آخرين من الباحثين المحدثين ، ولا بدع لو التقت أراؤهم في نقد أفعاله وأختلفت أقوالهم في توجيه سياسته والتي رأوها جميعاً سياسية أموية رعناء جلبت له وللأمة كثيراً من الشر ، وكثرّت عليه أسباب النقمة ، بداية من المسلمين الصحابة في المدينة ، وسرعان ما أستطار شررها إلى بقية الأمصار ، فكثرت وفود الساخطين من العراق ومصر وغيرهما والتقوا بالصحابة فتفاقم الخطب.

وكانت شدّة المحنة والمعاناة عندما فزع الثوار إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يشكون حالهم ، فيسارع هو إلى عثمان ناصحاً في محاولات إصلاح بين الطرفين ، لكن عثمان لم يستجب للنصح ، بل وزاد في تعقيد الأمور إتهامه الإمام عليه السلام ما دام كثير من الثوار اتخذوه لجأً ، يرجون إغاثتهم

____________________

(1) الفتنة الكبرى 1 / 190 ـ 198.

١٤٢

من سوء أفعال عثمان وبطانته ، وكلّما دافع الإمام عليه السلام عن عثمان بالحسنى إزداد تصلّب الساخطين ، فآثر الإعتزال ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ، غير أنّ عثمان وبتحريض من بني أمية كان يزداد غضباً وحنقاً عليه ، ممّا أضطر العباس بن عبد المطلب ومن بعده ابنه عبد الله حبر الأمة القيام بمحاولات إصلاحية أيضاً ولتهدئة الخواطر ، عسى أن تهدأ الفورة وتسكن الثورة ، ولم تنجح تلك المساعي ، لأنّ عثمان كان إذن شرّ يسمع لما يقوله له مروان وبني أمية.

ومع كثرة الشواهد على المساعي الإصلاحية التي بذلها الإمام عليه السلام وعمه العباس وابنه عبد الله ، كان عثمان يتهمهم في النصح ، مع أنّه لو أنصفهم لوجدهم أحرص الناس عليه وأرعى ذماماً له للقرابة النسبية منه ، وهذا ما سنقرأ بعضاً منه في مواقف العباس وابنه عبد الله بن عباس في إصلاح ذات البين ، لكن عثمان ـ كما قلناـ كان مغلوباً على أمره من قبل بني أمية ، وفي قلوبهم جميعاً من الحقد والشنآن على بني هاشم عموماً وعلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام خصوصاً ، ممّا طغى على لسان عثمان ، فأظهرته فلتات اللسان عن بعض ما يضمره الجنان من الحقد والشنآن ، فيقول للإمام عليه السلام مغاضباً وعاتباً : ( ما ذنبي إليك إذا لم تحبّك قريش وقد قتلت منهم سبعين ترد آنافهم الماء قبل شفاهم ) ، وفي لفظ آخر : ( كأن أعناقهم أباريق فضة ) ، ونحو هذا. ولقد همّ مرّة ـ وربما أكثر ـ بأن ينفي الإمام عليه السلام من المدينة كما صنع مع أبي ذر ، كما ستأتي الإشارة إليه في مواقف العباس الإصلاحية والإستصلاحية.

١٤٣

وإلآن إلى قراءة بعضها ، ولنبدأ بما رواه الطبري في تاريخه :

( بسند عن حمران بن أبان ، قال : أرسلني عثمان إلى العباس بعدما بويع فدعوته له ، فقال : مالك تعبدتني ـ ( تبعّدتني ظ )؟ قال : لم أكن قط أحوج إليك مني اليوم. قال ـ العباس ـ : الزم خمساً لا تنازعك الأمة خزائمها ما لزمتها. قال : وما هي؟ قال : الصبر عن القتل ، والتحبب ، والصفح ، والمدارات ، وكتمان السر )(1) .

ولكن عثمان لم يلتزم بنصيحة العباس ، بل استمر على حاله ، فاتسع الخرق على الراقع ، حتى عجز العباس من رأب الصدع ، مع ما كان فيه من حنكة رأي وجودة تدبير ، حتى قيل له داهية قريش ، ولمّا رأى تسافل الحال ونذر الشر بدت تلوح في الأفق ، فصار يدعو ربّه أن يسبق به أجله قبل وقوع الكارثة التي بدت بوادرها تنذر بشر مستطير فإستجاب له ربّه ، فما كانت إلاّ جمعة حتى لقي ربّه.

أمّا عن مواقفه في نصيحة عثمان في كفّ أذاه عن الإمام عليه السلام وعن الأمّة فهي متعددة ، أذكر بعضها :

فمنها ما ذكر ابن أبي الحديد في شرح النهج ، قال :

( روى الزبير بن بكار في كتابه الموفقيات ، عن عبد الله بن عباس ، قال : ما سمعت من أبي شيئاً قط في أمر عثمان يلومه فيه ولا يعذره ، ولا سألته عن شيء من ذلك مخافة أن أهجم منه على ما لا يوافقه ، فأنا عنده

____________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 400 ط دار المعارف بمصر.

١٤٤

ليلة ونحن نتعشى إذ قيل هذا أمير المؤمنين عثمان بالباب ، فقال : أئذنوا له ، فدخل فأوسع له على فراشه وأصاب من العشاء معه ، فلمّا رفع قام من كان هناك وثبتّ أنا.

فحمد الله عثمان وأثنى عليه ، ثمّ قال : أمّا بعد يا خال فإنّي قد جئتك أستعذرك من ابن أخيك عليّ سبّني ، وشهر أمري ، وقطع رحمي ، وطعن في ديني ، وإنّي أعوذ بالله منكم يا بني عبد المطلب ، إن كان لكم حقّ تزعمون أنّكم غُلبتم عليه فقد تركتموه في يدي مَن فعل ذلك بكم ، وأنا أقرب إليكم رحماً منه ، وما لمت منكم أحداً إلاّ عليّاً ، ولقد دعيت أن أبسط عليه فتركته لله والرحم وأنا أخاف أن لا يتركني فلا أتركه.

قال ابن عباس : فحمد أبي الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : أمّا بعد يا بن أختي فإن كنت لا تحمد عليّاً لنفسك فإنّي لا أحمدك لعليّ ، وما عليّ وحده قال فيك ، بل غيره ، فلو أنّك اتهمت نفسك للناس أتهم الناس أنفسهم لك ، ولو أنّك نزلت ممّا رقيت وأرتقوا ممّا نزلوا فأخذت منهم وأخذوا منك ما كان بذلك بأس.

قال عثمان : فذلك إليك يا خال وأنت بيني وبينهم.

قال : أفأذكر لهم ذلك عنك؟

قال : نعم ، وأنصرف.

فما لبثنا أن قيل : هذا أمير المؤمنين قد رجع بالباب ، قال أبي : أئذنوا له ، فدخل فقام قائماً ولم يجلس وقال : لا تعجل يا خال حتى أوذنك. فنظرنا فإذا مروان بن الحكم كان جالساً بالباب ينتظره حتى خرج فهو

١٤٥

الذي ثناه عن رأيه الأوّل.

فأقبل عليَّ أبي وقال : يا بني ما إلى هذا من أمره شيء. ثمّ قال : يا بني أملك عليك لسانك حتى ترى ما لابدّ منه. ثمّ رفع يديه فقال : اللّهمّ اسبق بي ما لا خير لي في إدراكه ، فما مرّت جمعة حتى مات رحمه الله )(1) .

ومنها ما رواه البلاذري في ( أنساب الأشراف ) ، بإسناده عن صهيب مولى العباس ، قال :

( إنّ العباس قال لعثمان : أذكرّك الله في أمر ابن عمك وابن خالك وصهرك ، وصاحبك مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد بلغني أنّك تريد أن تقوم به وبأصحابه.

فقال : أوّل ما أجيبك به أنّي قد شفعتك ، إنّ عليّاً لو شاء لم يكن أحد عندي إلاّ دونه ، ولكن أبى إلاّ رأيه. ثم قال لعليّ مثل قوله لعثمان.

فقال عليّ : لو أمرني عثمان أن أخرج من داري لخرجت )(2) .

وهذا رواه ابن عساكر أيضاً في ( تاريخ مدينة دمشق ) ، بسنده عن صهيب مولى العباس ، وجاء في آخر قول الإمام عليه السلام : ( فأمّا أداهن أن لا

____________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 397.

وهذه الواقعة غير التي سبقتها وان عاصرتها زماناً ففي الاُولى كانت الشكوى في دار عثمان والعباس حاضر عنده. أمّا هذه فهي في دار العباس وعثمان حاضر عنده ، ولا مانع من تعدّدهما إذا عرفنا تخبّط السياسة يومئذ في معالجة مشاكل الناس وأستحواذ مروان على عثمان في تدبير أُموره.

(2) أنساب الأشراف 1 / 498 ـ 499.

١٤٦

يقام بكتاب الله فلم أكن لأفعل )(1) .

وجاء الخبر في ( التعديل والتجريح ) مسنداً عن سهيل مولى العباس يقول : ( أرسلني العباس إلى عثمان أدعوه ، فأتاه فقال : أفلح الوجه أبا الفضل ، قال : ووجهك يا أمير المؤمنين. قال : عليّ ابن عمك وابن عمتك وصهرك وأخوك في دينك وصاحبك مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبلغني أنّك تريد أن تقوم به وبأصحابه. فقال : لو شاء عليّ ما كان دونه أحد ، ثم أرسلني إلى عليّ ، فقال : إنّ عثمان ابن عمك وابن عمتك وأخوك في دينك وصاحبك مع رسول صلى الله عليه وآله وسلم وولي بيعتك ، فقال : لو أمرتني أن أخرج من داري لفعلت )(2) .

ومنها ما رواه البلاذري وغيره ، واللفظ له قال :

( حدثني عباس بن هشام ، عن أبيه ، عمّن حدثه ، عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عباس : إنّ عثمان شكا عليّاً إلى العباس فقال له : يا خال إنّ عليّاً قد قطع رحمي ، وألّب الناس عليَّ ، والله لئن كنتم يا بني عبد المطلب أقررتم هذا الأمر في أيدي بني تيمّ وعدي ، فبنو عبد مناف أحق أن لا تنازعوهم فيه ولا تحسدوهم عليه.

قال عبد الله بن العباس : فأطرق أبي طويلاً ، ثم قال : يا بن أخت لئن كنت لا تحمد عليّاً فما نحمدك له ، وأن حقك في القرابة والإمامة للحق الذي لا يُدفع ولا يجحد ، فلو رقيت فيما تطأطأ ، أو تطأطأت فيما رقي ،

____________________

(1) تاريخ مدينة دمشق 39 / 264 ط دار الفكر بيروت.

(2) التعديل والتجريح 3 / 1007.

١٤٧

تقاربتهما ، وكان ذلك أوصل وأجمل.

قال : قد صيّرت الأمر عن ذلك إليك ، فقرّب الأمر بيننا.

قال : فلمّا خرجنا من عنده دخل عليه مروان فأزاله عن رأيه ، فما لبثنا أن جاء أبي رسول عثمان بالرجوع إليه ، فلمّا رجع ، قال : يا خال أحبّ أن تؤخر النظر في الأمر الذي ألقيت إليك حتى أرى من رأي.

فخرج أبي من عنده ثم التفت إلى فقال : يا بني ليس إلى هذا الرجل من أمره شيء ، ثم قال : اللهم أسبق بي الفتن ، ولا تبقني إلى ما لا خير لي في البقاء إليه ، فما كانت جمعة حتى هلك )(1) .

ويبدو لي تعدّد الوقائع مع تقارب الزمان بينهما ، ففي الرواية الأولى كانت الشكاة في دار العباس وقد أتاه عثمان بنفسه ليلة وأصاب معه من عشائه ثم نفث شكاته ، وفي الرواية الثانية التي رواها البلاذري بسنده عن ابن عباس أنّ التشاكي كان في دار عثمان ، وفي خبر التعديل والتجريح أنّ العباس أرسل مولاه سهيل فاستدعى عثمان إلى بيته ونصحه باستعمال الرفق واللين مع عليّ عليه السلام ، وفي كلّ الروايات قرأنا طرحاً إستصلاحياً يكاد النجاح حليفه ، لكن صراحة استحواذ مروان على عثمان في تخبطه السياسي فلم يدع مجالاً للعباس ولا لغيره أن يصلح بينه وبين الناس لمعالجة المشاكل العالقة يومئذ.

ويبدو لي أنّ العباس يأس من إصلاح ما أفسده بنو أمية من أمر

____________________

(1) أنساب الأشراف 1 / ق4 / 498 ـ 499.

١٤٨

عثمان ، وتوقع المزيد من طوارق الحدثان تجتاح المجتمع الإسلامي في المدينة وغيرها ، ولذلك دعا أن يسبقها أجله ، فمرض فكان العوّاد يعودونه ، فكان آخر نصائحه لعثمان حين دخل عليه في مرضه الذي مات فيه :

( فقال ـ عثمان ـ : أوصني بما ينفعني ( الله ) به.

فقال : إلزم ثلاث خصال خواص تصيب بها ثلاث عوام ، فالخواص : ترك مصانعة الناس في الحق ، وسلامة القلب ، وحفظ اللسان ، تُصب بها سُرور الرعية ، وسلامة الدين ، ورضا الربّ )(1) .

ولشدّة اهتمامه بوحدة كلمة المسلمين وصلاح ذات البين كانت وصاياه لعثمان ، وكذلك كانت وصيته للإمام أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً ، وهي آخر وصية صدرت منه ، تكشف عن بُعد نظر في قراءة المستقبل المظلم الذي ستنتصر فيه قوى الشر على وحدة الخير ، ويكون عليّ عليه السلام ضحيتها ، لذلك كانت نظرة العباس تفيض بالألم على ما أصاب بني هاشم من تحديات وإحباطات سابقاً ، مضافاً إلى ما سيلاقونه لاحقاً من عقبات ومعادات من أعدائهم مع خذلان من أنصارهم ، إلاّ من رحم الله فحفظ فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقليلٌ ما هم.

كلّ هذا كان عند العباس بثاقب نظره رؤيا العين ، فهو إذ يوصي الإمام عليه السلام بتجنب المواجهة مع عثمان خشية عليه من أن يعصب به كلّ

____________________

(1) أخبار الدولة العباسية / 21.

١٤٩

الإضطغان القرشي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للدماء التي أُريقت في سبيل الإسلام ، من قريش وغيرهم ، والعباس كان يعرف كراهية قريش لبني هاشم منذ عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد مرّت بنا شواهد على ذلك.

والآن إلى قراءة وصيته لابن أخيه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام :

وصية العباس للإمام عليه السلام :

لقد سبق ذكر الوصية عند ذكر وفاة العباس ، إلاّ أنّ ثمة تفاوت وتعقيب وتذنيب اقتضى ذكرها ثانياً.

قال ابن أبي الحديد : ( قرأت في كتاب صنفه أبو حيان التوحيدي في تقريظ الجاحظ ، قال : نقلت من خط الصولي : قال الجاحظ : إنّ العباس بن عبد المطلب أوصى عليّ بن أبي طالب عليه السلام في علته التي مات فيها ، فقال : أي بُنيّ إنّي مشفٍ على الظعن عن الدنيا إلى الله الذي فاقتي إلى عفوه وتجاوزه أكثر من حاجتي إلى ما أنصحك فيه وأشير عليك به ، ولكن العِرق نبوض ، والرحم عروض ، وإذا قضيت حق العمومة فلا أبالي بعد ، إنّ هذا الرجل ـ يعني عثمان ـ قد جاءني مراراً بحديثك ، وناظرني ملايناً ومخاشناً في أمرك ، ولم أجد عليك إلاّ مثل ما أجد منك عليه ، ولا رأيت منه لك إلاّ مثل ما أجد منك له ، ولست تؤتى من قلّة علم ولكن من قلّة قبول ، ومع هذا كلّه فالرأي الذي أودّعك به أن تمسك عنه لسانك ويدك ، وهمزك وغمزك ، فإنّه لا يبدؤك ما لم تبدؤه ، ولا يجيبك عما لم يبلغه ،

١٥٠

وأنت المتجني وهو المتأني ، وأنت العائب وهو الصامت ، فإن قلت : كيف هذا وقد جلس مجلساً أنا به أحق ، فقد قاربت ولكن ذاك بما كسبت يداك ، ونكص عنه عقباك ، لأنّك بالأمس الأدنى هرولتَ إليهم ، تظن أنّهم يُحلّون جيدك ويُختمّون أصبعك ، ويطأون عقبك ، ويرون الرشد بك ، ويقولون لا بد لنا منك ، ولا معدل لنا عنك ، وكان هذا من هفواتك الكُبر ، وهناتك التي ليس لك منها عذر ، والآن بعد ما ثللت عرشك بيدك ، ونبذت رأي عمك في البيداء ، يتدهده(1) في السافياء(2) ، خذ بأحزم ممّا يتوضح به وجه الأمر ، لا تشارّ هذا الرجل ولا تماره ، ولا يبلغه عنك ما يحنقه عليك ، فإنّه إن كاشفك أصاب أنصاراً ، وإن كاشفته لم تر إلا ضِراراً ، ولم تستلج إلاّ عثاراً ، واعرف مَن هو بالشام له ، وَمَن ههنا حوله ، ومن يطيع أمره ويمتثل قوله ، ولا تغترر بناس يطيفون بك ، ويدّعون الحنوّ عليك والحبّ لك ، فإنّهم بين مولى جاهل ، وصاحب متمنّ ، وجليس يرعى العين ويبتدر المحضر ، ولو ظن الناس بك ما تظن بنفسك لكان الأمر لك والزمام في يدك ، ولكن هذا حديث يوم مرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فات ، ثم حرم الكلام فيه حين مات ، فعليك الآن بالعزوف عن شيء عرضك له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يتم ، وتصدّيت له مرّة بعد مرّة فلم يستقم ، ومن ساور الدهر غُلِب ، ومن حرص على ممنوع تعب ، فعلى ذلك فقد أوصيت عبد الله بطاعتك ، وبعثته على متابعتك ، وأوجرته محبتك ، ووجدت عنده من ذلك ظني به لك ، لا

____________________

(1) يتدهده : يتدحرج.

(2) السافياء : الريح التي تحمل التراب.

١٥١

توتر قوسك إلاّ بعد الثقة بها ، وإذا أعجبتك فأنظر إلى سيتها ، ثم لا تفوّق إلاّ بعد العلم ، ولا تغرق في النزع إلاّ لتصيب ، وأنظر لا تطرف يمينك عينَك ، ولا تجنِ شمالك شينك ، ودّعني بآيات من آخر سورة الكهف(1) ، وقم إذا بدا لك )(2) .

تعقيب ابن أبي الحديد على الوصية :

قال ابن أبي الحديد بعد ذكره الوصية المتقدمة : ( قلت : الناس يستحسنون رأي العباس لعليّ عليه السلام في أن لا يدخل في أصحاب الشورى ، وأمّا أنّا فانّي أستحسنه إن قصد به معنى ، ولا أستحسنه إن قصد به معنى آخر ، وذلك لأنّه إن أجري بهذا الرأي إلى ترفّعه عليهم وعلوّ قدره عن أن يكون مماثلاً لهم ، أو أجري به إلى زهده في الإمارة ورغبته عن الولاية ، فكلّ هذا رأي حسن وصوابه ، وإن كان منزعه في ذلك إلى أنّك إن تركت الدخول معهم وانفردت بنفسك في دارك أو خرجت عن المدينة إلى بعض أموالك فإنّهم يطلبونك ويضربون إليك آباط الإبل حتى يولّوك الخلافة ، وهذا هو الظاهر من كلامه ، فليس هذا الرأي عندي بمستحسن ،

____________________

(1) هي قوله تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً _ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً _ قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً _ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا ً) الكهف / 107 ـ 110.

(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 3 / 282 ط مصر الاُولى.

١٥٢

لأنّه لو فعل لولّوا عثمان أو واحداً منهم غيره ، ولم يكن عندهم من الرغبة إليه عليه السلام ما يبعثهم على طلبه ، بل كان تأخره عنهم قرّة أعينهم ، وواقعاً بإيثارهم ، فإنّ قريشاً كلّها كانت تبغضه أشد البغض ، ولو عمّر عمر نوح وتوصل إلى الخلافة بجميع أنواع التوصل كالزهد فيها تارة ، والمناشدة بفضائله تارة ، وبما فعله في ابتداء الأمر من إخراج زوجته وأطفاله ليلاً إلى بيوت الأنصار ، وبما اعتمده إذ ذاك من تخلّفه في بيته واظهار أنّه قد عكف على جمع القرآن ، وبسائر أنواع الحيل فيها لم تحصل له إلاّ بتجريد السيف كما فعله في آخر الأمر.

ولست ألوم العرب لا سيما قريشاً في بغضها له وانحرافها عنه ، فإنّه وترها وسفك دماءها ، وكشف القناع في منابذتها ، ونفوس العرب وأكبادها كما تعلم ، وليس الإسلام بمانع من بقاء الأحقاد في النفوس ، كما نشاهد اليوم عياناً ، والناس كالناس الأول ، والطبائع واحدة ، فأحسب أنّك كنت من سنتين أو ثلاث جاهلياً أو من بعض الروم وقد قتل واحد من المسلمين ابنك أو أخاك ثم أسلمت ، أكان اسلامك يُذهب عنك ما تجده من بغض ذلك القاتل وشنآنه ، كلا إنّ ذلك لغير ذاهب ، هذا إذا كان الإسلام صحيحاً والعقيدة محققة لا كإسلام كثير من العرب ، فبعضهم تقليداً ، وبعضهم للطمع والكسب ، وبعضهم خوفاً من السيف ، وبعضهم على طريق الحمية والإنتصار ، أو لعداوة قوم آخرين من أضداد الإسلام وأعدائه.

١٥٣

واعلم أنّ كلّ دم أراقه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسيف عليّ عليه السلام وبسيف غيره ، فإنّ العرب بعد وفاته عليه السلام عصبت تلك الدماء بعليّ بن أبي طالب عليه السلام وحده ، لأنّه لم يكن في رهطه مَن يستحق في شرعهم وسنتهم وعادتهم أن يعصب به تلك الدماء إلاّ بعليّ وحده ، وهذه عادة العرب إذا قتل منها قتلى طالبت بتلك الدماء القاتل ، فإن مات أو تعذرت عليها مطالبته طالبت بها أمثل الناس من أهله. لمّا قتل قوم من بني تميم أخاً لعمرو بن هند ، قال بعض أعدائه يحرض عمراً عليهم :

من مبلغ عمراً بأن المرء لم يخلق صُباره

وحوادث الأيام لايبقى لها إلاّ لحجاره

ها إنّ عجزة أمه بالسفح أسفل من أواره

تسفي الرياح خلال كشيحه وقد سلبوا أزاره

فاقتل زرارة لا أرى في القوم أمثل من زرارة

أن يقتل زرارة بن عدس رئيس بني تميم ، ولم يكن قاتلاً أخا الملك ولا حاضراً قتله. ومن نظر في أيام العرب ووقائعها ومقاتلها عرف ما ذكرناه )(1) .

____________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 3 / 283 ط الأولى بمصر.

١٥٤

محاورات ابن عباس مع عثمان

بين يدي المحاورة الأولى :

نذكر ما روى الواقدي في كتاب ( الشورى ) عن ابن عباس رحمه الله قال :

( شهدت عتاب عثمان لعليّ عليه السلام يوماً فقال له في بعض ما قاله : نشدتك الله أن تفتح للفرقة باباً ، فلعهدي بك وأنت تطيع عتيقاً وابن الخطاب طاعتك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولستُ بدون واحد منهما ، وأنا أمسّ بك رحماً وأقرب إليك صهراً ، فإن كنت تزعم أنّ هذا الأمر جعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لك ، فقد رأيناك حين توفي نازعت ثمّ أقررت ، فإن كانا لم يركبا من الأمر جَداً فكيف أذعنت لهما بالبيعة وبخعت بالطاعة ، وإن كانا أحسنا فيما وليّا ولم أقصر عنهما في ديني وحسبي وقرابتي فكن لي كما كنت لهما.

فقال عليّ عليه السلام : أمّا الفرقة ، فمعاذ الله أن أفتح لها باباً وأسهّل إليها سبيلاً ، ولكني أنهاك عمّا ينهاك الله ورسوله عنه ، وأهديك إلى رشدك.

وأمّا عتيق وابن الخطاب ، فإن كانا أخذا ما جعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لي فأنت أعلم بذلك والمسلمون ، وما لي ولهذا الأمر وقد تركته منذ حين. فأمّا أن لا يكون حقي بل المسلمون فيه شرع ، فقد أصاب السهم الثغرة ،

١٥٥

وأمّا أن يكون حقي دونهم ، فقد تركته لهم طبت به نفساً ، ونفضت يدي عنه استصلاحاً.

وأمّا التسوية بينك وبينهما ، فلست كأحدهما ، إنّهما وليا هذا الأمر فطلقا أنفسهما وأهلهما عنه ، وعُمتَ فيه وقومك عوم السابح في اللجة ، فارجع إلى الله أبا عمرو وأنظر هل بقي من عمرك إلاّ كظمء الحمار ، فحتى متى وإلى متى؟ ألا تنهى سفهاء بني أمية عن أعراض المسلمين وأبشارهم وأموالهم؟ والله لو ظلم عامل من عمالك حيث تغرب الشمس لكان أثمه مشتركاً بينه وبينك.

قال ابن عباس : فقال عثمان : لك العتبى ، وافعل وأعزل من عمالي كلّ من تكرهه ويكرهه المسلمون.

ثمّ أفترقا ، فصدّه مروان بن الحكم عن ذلك ، وقال : يجتريء عليك الناس فلا تعزل أحداً منهم )(1) .

المحاورة الثانية :

روى الزبير بن بكار في كتاب ( الموفقيات ) بسنده عن ابن عباس S قال : ( صليت العصر يوماً ثمّ خرجت ، فإذا أنا بعثمان في أيام خلافته في بعض أزقة المدينة وحده ، فأتيته إجلالاً وتوقيراً لمكانه ، فقال لي : هل رأيت عليّاً؟

____________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 398 ط مصر الأولى.

١٥٦

قلت : خلّفته في المسجد ، فإن لم يكن الآن فيه فهو في منزله.

قال : أمّا منزله فليس فيه ، فابغه لنا في المسجد ، فتوجهنا إلى المسجد ، وإذا عليّ عليه السلام يخرج منه.

ـ قال ابن عباس : وقد كنت أمس ذلك اليوم عند عليّ فذكر عثمان وتجرّمه عليه ، وقال : أما والله يا بن عباس إنّ من دوائه لقطع كلامه وترك لقائه. فقلت له : يرحمك الله كيف لك بهذا ، فإن تركته ثمّ أرسل إليك فما أنت صانع؟ قال : أعتلّ وأعتلّ فمن يضرّني؟ قال : لا أحدـ

قال ابن عباس : فلمّا تراءينا له وهو خارج من المسجد ظهر منه من الالتفات والطلب للإنصراف ما أستبان لعثمان ، فنظر إليّ عثمان ، وقال : يا ابن عباس أما ترى ابن خالنا يكره لقاءنا؟

فقلت : ولِمَ وحقك ألزم وهو بالفضل أعلم.

فلمّا تقاربا رماه عثمان بالسلام فردّ عليه. فقال عثمان : إن تدخل فإياك أردنا ، وإن تمض فإياك طلبنا. فقال عليّ : أيّ ذلك أحببت. قال : تدخل ، فدخلا وأخذ عثمان بيده فأهوى به إلى القبلة فقصر عنها وجلس قبالتها ، فجلس عثمان إلى جانبه ، فنكصت عنهما ، فدعواني جميعاً فأتيتهما.

فحمد الله عثمان وأثنى عليه وصلّى على رسوله ، ثمّ قال : أمّا بعد يا ابنّي خاليّ وابنيّ عمّي فإذ جمعتكما في النداء فأستجمعكما في الشكاية على رضائي عن أحدكما ووجدي على الآخر ، إنّي أستعذركما من أنفسكما وأسألكما فياتكما وأستوهبكما رجعتكما ، فوالله لو غالبني الناس

١٥٧

ما أنتصرت إلاّ بكما ، ولو تهضّموني ما تعززت إلاّ بعزّكما ، ولقد طال هذا الأمر بيننا حتى تخوّفت أن يجوز قدره ويعظم الخطر فيه. ولقد هاجني العدو عليكما وأغراني بكما ، فمنعني الله والرحم ممّا أراد ، وقد خلونا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلى جانب قبره ، وقد أحببت أن تظهرا لي رأيكما وما تنطويان لي عليه وتصدقا ، فإنّ الصدق أنجى وأسلم ، وأستغفر الله لي ولكما.

قال ابن عباس : فأطرق عليّ عليه السلام وأطرقت معه طويلاً. أمّا أنا فأجللته أن أتكلّم قبله ، وأمّا هو فأراد أن أجيب عنّي وعنه ؛ ثمّ قلت له : أتتكلم أم أتكلم أنا عنك؟ قال : بل تكلم عني وعنك.

فحمدت الله وأثنيت عليه ، وصلّيت على رسوله ، ثمّ قلت : أمّا بعد يا ابن عمنا وعمتنا ، فقد سمعنا كلامك لنا وخلطك في الشكاية بيننا على رضاك ـ زعمت ـ عن أحدنا ووجدك على الآخر ، وسنفعل في ذلك فنذمّك ونحمدك ، اقتداء منك بفعلك فينا ، فإنا نذمّ مثل تهمتك إيانا على ما اتهمتنا عليه بلا ثقة إلاّ ظنّاً ، ونحمد منك غير ذلك من مخالفتك عشيرتك ، ثمّ نستعذرك من نفسك استعذارك إيانا من أنفسنا ، ونستوهبك فياتك استيهابك إيانا فيأتنا ، ونسألك رجعتك مسألتك إيانا رجعتنا ، فإنّا معاً أيّما حمدت وذممت منّا كمثلك في أمر نفسك ، ليس بيننا فرق ولا إختلاف ، بل كلانا شريك صاحبه في رأيه وقوله ، فوالله ما تعلمنا غير معذّرين فيما بيننا وبينك ، ولا تعرفنا غير قانتين عليك ولا تجدنا غير راجعين إليك ،

١٥٨

فنحن نسألك من نفسك مثل ما سألتنا من أنفسنا.

وأمّا قولك : لو غالبني الناس ما أنتصرت إلاّ بكما ، أو تهضّموني ما تعزّزت إلاّ بعزّكما ، فأين بنا وبك عن ذلك ونحن وأنت كما قال أخو كنانة :

بدا بحتر ما رام نال وإن يرم

نخض دونه غمرا من الغر رائمه

لنا ولهم منا ومنهم على العدى

مراتب عزّ مصعدات سلالمه

وأمّا قولك في هيج العدو إياك وإغرائه لك بنا ، فوالله ما أتاك العدو من ذلك شيئاً إلاّ وقد أتانا بأعظم منه ، فمنعناه ما أراد ما منعك من مراقبة الله والرحم ، وما أبقيت أنت ونحن إلاّ على أدياننا وأعراضنا ومروآتنا ، ولقد لعمري طال بنا وبك هذا الأمر حتى تخوّفنا منه على أنفسنا وراقبنا منه ما راقبت.

وأمّا مساءلتك إيانا عن رأينا فيك وما ننطوي عليه لك ، فإنّا نخبرك أنّ ذلك إلى ما تحبّ لا يعلم واحد منّا من صاحبه إلاّ ذلك ، ولا يقبل منه غيره ، وكلانا ضامن على صاحبه ذلك وكفيل به ، وقد برّأت أحدنا وزكّيته وأنطقت الآخر وأسكته ، وليس السقيم منّا ممّا كرهت بأنطق من البري فيما ذكرت ، ولا البري منّا ممّا سخطت بأظهر من السقيم فيما وصفت ، فإمّا جمعتنا في الرضا وإمّا جمعتنا في السخط ، لنجازيك بمثل ما تفعل بنا في ذلك مكايلة الصاع بالصاع ، فقد أعلمناك رأينا وأظهرنا لك ذات أنفسنا

١٥٩

وصدقناك ، والصدق ـ كما ذكرت ـ أنجى وأسلم ، فأجب إلى ما دعوت إليه ، وأجلل عن النقص والغدر مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وموضع قبره ، وأصدق تنج وتسلم ، ونستغفر الله لنا ولك.

قال ابن عباس : فنظر إليّ عليّ عليه السلام نظر هيبة ، وقال : دعه حتى يبلغ رضاه فيما هو فيه. فوالله لو ظهرت له قلوبنا وبدت له سرائرنا حتى رآها بعينه كما يسمع الخبر عنها بإذنه ما زال متجرّماً منتقماً ، والله ما أنا ملقى على وضمة ، وإنّي لمانع ما وراء ظهري ، وانّ هذا الكلام لمخالفة منه وسوء عشرة.

فقال عثمان : مهلاً أبا حسن فوالله إنّك لتعلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصفني بغير ذلك يوم يقول وأنت عنده : إنّ من أصحابي لقوماً سالمين لهم وانّ عثمان لمنهم ، إنّه لأحسنهم بهم ظنّاً ، وأنصحهم لهم حبّاً.

فقال عليّ عليه السلام : فصدّق قوله صلى الله عليه وآله وسلم بفعلك ، وخالف ما أنت الآن عليه ، فقد قيل لك ما سمعت وهو كاف إن قبلت.

قال عثمان : تثق يا أبا الحسن؟

قال : نعم أثق ولا أظنك فاعلاً.

قال عثمان : قد وثقت وأنت ممن لا يخفر صاحبه ولا يكذّب لقيله.

قال ابن عباس : فأخذت بأيديهما حتى تصافحا وتصالحا وتمازحا ، ونهضت عنهما فتشاورا وتآمرا وتذاكرا ، ثمّ افترقا ، فوالله ما مرّت ثالثة حتى

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

و المراد بالأمر كما قيل واحد الأوامر لقوله تعالى:( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) المؤمن: ١٦ و شأن الملك المطاع، الأمر بالمعنى المقابل للنهي، و الأمر بمعنى الشأن لا يلائم المقام تلك الملاءمة.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ إِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ) قال: تنشقّ فتخرج الناس منها.

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم و صحّحه عن حذيفة قال: قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من استنّ خيراً فاستنّ به فله أجره و مثل اُجور من اتّبعه غير منتقص من اُجورهم و من استنّ شرّاً فاستنّ به فله وزره و مثل أوزار من اتّبعه غير منتقص من أوزارهم، و تلا حذيفة( عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ ) .

و فيه، أخرج عبد بن حميد عن صالح بن مسمار قال: بلغني أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلا هذه الآية( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) ثمّ قال: جهله.

و في تفسير القمّيّ:( فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ ) قال: لو شاء ركّبك على غير هذه الصورة.

أقول: و رواه في المجمع، عن الصادقعليه‌السلام مرسلاً.

و فيه،:( وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ ) قال: الملكان الموكّلان بالإنسان.

و عن سعد السعود، و في رواية: إنّهما - يعني الملكين الموكّلين - يأتيان المؤمن عند حضور صلاة الفجر فإذا هبطا صعد الملكان الموكّلان باللّيل فإذا غربت الشمس نزل إليه الموكّلان بكتابة اللّيل، و يصعد الملكان الكاتبان بالنهار بديوانه إلى الله عزّوجلّ.

فلا يزال ذلك دأبهم إلى وقت حضور أجله فإذا حضر أجله قالا للرجل الصالح: جزاك الله من صاحب عنّا خيراً فكم من عمل صالح أريتناه، و كم من قول حسن أسمعتناه، و كم من مجلس خير أحضرتناه فنحن اليوم على ما تحبّه و شفعاء إلى

٣٤١

ربّك، و إن كان عاصياً قالا له: جزاك الله من صاحب عنّا شرّاً فلقد كنت تؤذينا فكم من عمل سيّي‏ء أريتناه، و كم من قول سيّي‏ء أسمعتناه، و( كم) من مجلس سوء أحضرتناه و نحن اليوم لك على ما تكره، و شهيدان عند ربّك.

و في المجمع: في قوله تعالى:( وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) روى عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام أنّه قال: الأمر يومئذ و اليوم كلّه لله. يا جابر إذا كان يوم القيامة بادت الحكّام فلم يبق حاكم إلّا الله.

أقول: مرادهعليه‌السلام أنّ كون الأمر لله لا يختصّ بيوم القيامة بل الأمر لله دائماً، و تخصيصه بيوم القيامة باعتبار ظهوره لا باعتبار أصله فالّذي يختصّ به ظهور هذه الحقيقة ظهور عيان فيسقط اليوم أمر غيره تعالى و حكمه، و نظير الأمر سائر ما عدّ في كلامه تعالى من مختصّات يوم القيامة، فالرواية من غرر الروايات.

٣٤٢

( سورة المطفّفين مكّيّة أو مدنيّة و هي ستّ و ثلاثون آية)

( سورة المطفّفين الآيات ١ - ٢١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ ( ١ ) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ( ٢ ) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ( ٣ ) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ ( ٤ ) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ( ٥ ) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( ٦ ) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ( ٧ ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ( ٨ ) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ( ٩ ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( ١٠ ) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ( ١١ ) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ( ١٢ ) إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ( ١٣ ) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( ١٤ ) كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ( ١٥ ) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ( ١٦ ) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ ( ١٧ ) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ( ١٨ ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ ( ١٩ ) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ( ٢٠ ) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ( ٢١ )

( بيان‏)

تفتتح السورة بوعيد أهل التطفيف في الكيل و الوزن و تنذرهم بأنّهم مبعوثون للجزاء في يوم عظيم و هو يوم القيامة ثمّ تتخلّص لتفصيل ما يجري يومئذ على الفجّار و الأبرار.

٣٤٣

و الأنسب بالنظر إلى السياق أن يكون أوّل السورة المشتمل على وعيد المطفّفين نازلاً بالمدينة و أمّا ما يتلوه من الآيات إلى آخر السورة فيقبل الانطباق على السياقات المكّيّة و المدنيّة.

قوله تعالى: ( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ) دعاء على المطفّفين و التطفيف نقص المكيال و الميزان، و قد نهى الله تعالى عنه و سمّاه إفساداً في الأرض كما فيما حكاه من قول شعيب:( وَ يا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) هود: ٨٤، و قد تقدّم الكلام في تفسير الآية في معنى كونه إفساداً في الأرض.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ) الاكتيال من الناس الأخذ منهم بالكيل، و تعديته بعلى لإفادة معنى الضرر، و الكيل إعطاؤهم بالمكيال يقال: كاله طعامه و وزنه و كال له طعامه و وزن له و الأوّل لغة أهل الحجاز و عليه التنزيل و الثاني لغة غيرهم كما في المجمع، و الاستيفاء أخذ الحقّ تامّاً كاملاً، و الإخسار الإيقاع في الخسارة.

و المعنى: الّذين إذا أخذوا من الناس بالكيل يأخذون حقّهم تامّاً كاملاً، و إذا أعطوا الناس بالكيل أو الوزن ينقصون فيوقعونهم في الخسران.

فمضمون الآيتين جميعاً ذمّ واحد و هو أنّهم يراعون الحقّ لأنفسهم و لا يراعونه لغيرهم و بعبارة اُخرى لا يراعون لغيرهم من الحقّ مثل ما يراعونه لأنفسهم و فيه إفساد الاجتماع الإنسانيّ المبنيّ على تعادل الحقوق المتقابلة و في إفساده كلّ الفساد.

و لم يذكر الاتّزان مع الاكتيال كما ذكر الوزن مع الكيل إذ قال:( وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ ) قيل: لأنّ المطفّفين كانوا باعة و هم كانوا في الأغلب يشترون الكثير من الحبوب و البقول و نحوهما من الأمتعة ثمّ يكسبون بها فيبيعونها يسيراً يسيراً تدريجاً، و كان دأبهم في الكثير من هذه الأمتعة أن يؤخذ و يعطى بالكيل لا بالوزن فذكر الاكتيال وحده في الآية مبنيّ على الغالب.

و قيل: لم يذكر الاتّزان لأنّ الكيل و الوزن بهما البيع و الشراء فذكر

٣٤٤

أحدهما يدلّ على الآخر. و فيه أنّ ما ذكر في الاكتيال جار في الكيل أيضاً و قد ذكر معه الوزن فالوجه لا يخلو من تحكّم.

و قيل: الآيتان تحاكيان ما كان عليه دأب الّذين نزلت فيهم السورة فقد كانوا يشترون بالاكتيال فقط و يبيعون بالكيل و الوزن جميعاً، و هذا الوجه دعوى من غير دليل.

إلى غير ذلك ممّا ذكروه في توجيه الاقتصار على ذكر الاكتيال في الآية، و لا يخلو شي‏ء منها من ضعف.

قوله تعالى: ( أَ لا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ) الاستفهام للإنكار و التعجيب، و الظنّ بمعناه المعروف و الإشارة إلى المطفّفين باُولئك الموضوعة للإشارة البعيدة للدلالة على بعدهم من رحمة الله، و اليوم العظيم يوم القيامة الّذي يجازون فيه بعملهم.

و الاكتفاء بظنّ البعث و حسبانه - مع أنّ من الواجب الاعتقاد العلميّ بالمعاد - لأنّ مجرّد حسبان الخطر و الضرر في عمل يوجب التجنّب عنه و التحرّز عن اقترافه و إن لم يكن هناك علم فالظنّ بالبعث ليوم عظيم يؤاخذ الله فيه الناس بما كسبوا من شأنه أن يردعهم عن اقتراف هذا الذنب العظيم الّذي يستتبع العذاب الأليم.ليم.

و قيل: الظنّ في الآية بمعنى العلم.

قوله تعالى: ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ) المراد به قيامهم من قبورهم - كناية عن تلبّسهم بالحياة بعد الممات - لحكمه تعالى و قضائه بينهم.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) ردع - كما قيل - عمّا كانوا عليه من التطفيف و الغفلة عن البعث و الحساب.

و قوله:( إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ) إلخ الّذي يعطيه التدبّر في سياق

٣٤٥

الآيات الأربع بقياس بعضها إلى بعض و قياس المجموع إلى مجموع قوله:( كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ) إلى تمام أربع آيات أنّ المراد بسجّين ما يقابل علّيّين و معناه علو على علو مضاعف ففيه شي‏ء من معنى السفل و الانحباس فيه كما يشير إليه قوله:( ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ ) التين: ٥ فالأقرب أن يكون مبالغة من السجن بمعنى الحبس كسكّير و شرّيب من السكر و الشرب فمعناه الّذي يحبس من دخله على التخليد كما قيل.

و الكتاب بمعنى المكتوب من الكتابة بمعنى القضاء المحتوم و المراد بكتاب الفجّار ما قدّره الله لهم من الجزاء و أثبته بقضائه المحتوم.

فمحصّل الآية أنّ الّذي أثبته الله من جزائهم أو عدّه لهم لفي سجّين الّذي هو سجن يحبس من دخله حبساً طويلاً أو خالداً.

و قوله:( وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ ) مسوق للتهويل.

و قوله:( كِتابٌ مَرْقُومٌ ) خبر لمبتدإ محذوف هو ضمير راجع إلى سجّين و الجملة بيان لسجّين و( كتاب ) أيضاً بمعنى المكتوب من الكتابة بمعنى القضاء و الإثبات، و( مرقوم ) من الرقم، قال الراغب: الرقم الخطّ الغليظ، و قيل: هو تعجيم الكتاب، و قوله تعالى:( كِتابٌ مَرْقُومٌ ) حمل على الوجهين. انتهى، و المعنى الثاني أنسب للمقام فيكون إشارة إلى كون ما كتب لهم متبيّناً لا إبهام فيه أي إنّ القضاء حتم لا يتخلّف.

و المحصّل أنّ سجّين مقضيّ عليهم مثبت لهم متبيّن متميّز لا إبهام فيه.

و لا ضير في لزوم كون الكتاب ظرفاً للكتاب على هذا المعنى لأنّ ذلك من ظرفية الكلّ للجزء و هي ممّا لا ضير فيه فيكون سجّين كتاباً جامعاً فيه ما قضي على الفجّار و غيرهم من مستحقّي العذاب.

و قوله:( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) نعي و دعاء على الفجّار و فيه تفسيرهم بالمكذّبين، و( يَوْمَئِذٍ ) ظرف لقوله:( إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ) بحسب

٣٤٦

المعنى أي ليهلك الفجّار - و هم المكذّبون - يومئذ تحقّق ما كتب الله لهم و قضى عليهم من الجزاء و حلّ بهم ما أعدّ لهم من العذاب.

هذا ما يفيده التدبّر في هذه الآيات الأربع، و هي ذات سياق واحد متّصل متلائم الأجزاء.

و للقوم في تفسير مفردات الآيات الأربع و جملها أقوال متفرّقة كقولهم: إنّ الكتاب في قوله:( إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ ) بمعنى المكتوب و المراد به صحيفة أعمالهم، و قيل: مصدر بمعنى الكتابة و في الكلام مضاف محذوف و التقدير كتابة عمل الفجّار لفي سجّين.

و قولهم: إنّ الفجّار أعمّ من المكذّبين فيشمل الكفّار و الفسقة جميعاً.

و قولهم: إنّ المراد بسجّين الأرض السابعة السفلى يوضع فيها كتاب الفجّار و قيل: واد في جهنّم، و قيل: جبّ فيها، و قيل: سجّين اسم لكتابهم، و قيل: سجّين الأوّل اسم الموضع الّذي يوضع فيه كتابهم و الثاني اسم كتابهم، و قيل: هو اسم كتاب جامع هو ديوان الشرّ دوّن فيه أعمال الفجرة من الثقلين، و قيل: المراد به الخسار و الهوان فهو كقولهم: بلغ فلان الحضيض إذا صار في غاية الخمول، و قيل: هو السجّيل بدّل لامه نوناً كما يقال جبرين في جبريل إلى غير ذلك ممّا قيل.

و قولهم: إنّ قوله:( كِتابٌ مَرْقُومٌ ) ليس بياناً و تفسيراً لسجّين بل تفسير للكتاب المذكور في قوله:( إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ ) .

و قولهم: إنّ قوله:( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) متّصل بقوله:( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ) و الآيات الثلاث الواقعة بين الآيتين اعتراض.

و أنت إن تأمّلت هذه الأقاويل وجدت كثيراً منها تحكّماً محضاً لا دليل عليه.

على أنّها تقطع ما في الآيات من السياق الواحد المتّصل الّذي يحاذي به ما في الآيات الأربع الآتية في صفة كتاب الأبرار من السياق الواحد المتّصل فلا نطيل الكلام بالتعرّض لواحد واحد منها و المناقشة فيها.

٣٤٧

قوله تعالى: ( الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ) تفسير للمكذّبين و ظاهر الآية - و يؤيّده الآيات التالية - أنّ المراد بالتكذيب هو التكذيب القوليّ الصريح فيختصّ الذمّ بالكفّار و لا يشمل الفسقة من أهل الإيمان فلا يشمل مطلق المطفّفين بل الكفّار منهم.

اللّهمّ إلّا أن يراد بالتكذيب ما يعمّ التكذيب العمليّ كما ربّما أيّده قوله السابق:( أَ لا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ) فيشمل الفجّار من المؤمنين كالكفّار.

قوله تعالى: ( وَ ما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ) المعتدي اسم فاعل من الاعتداء بمعنى التجاوز و المراد به المتجاوز عن حدود العبوديّة، و الأثيم كثير الآثام بحيث تراكم بعضها على بعض بانهماكه في الأهواء.

و من المعلوم أنّ المانع الوحيد الّذي يردع عن المعصية هو الإيمان بالبعث و الجزاء، و المنهمك في الأهواء المتعلّق قلبه بالاعتداء و الإثم تأبى نفسه التسليم لما يردع عنها و التزهّد عن المعاصي و ينتهي إلى تكذيب البعث و الجزاء قال تعالى:( ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى‏ أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ ) الروم: ١٠.

قوله تعالى: ( إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) المراد بالآيات آيات القرآن بقرينة قوله( تُتْلى) و الأساطير ما سطروه و كتبوه و المراد بها أباطيل الاُمم الماضين و المعنى إذا تتلى عليه آيات القرآن ممّا يحذّرهم المعصية و ينذرهم بالبعث و الجزاء قال: هي أباطيل.

قوله تعالى: ( كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ) ردع عمّا قاله المكذّبون:( أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) قال الراغب: الرين صدا يعلو الشي‏ء الجليل(١) قال تعالى:( بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ) أي صار ذلك كصدء على جلاء قلوبهم فعمي عليهم معرفة الخير من الشرّ، انتهى. فكون ما كانوا يكسبون و هو الذنوب ريناً على

____________________

(١) الجلي ظ.

٣٤٨

قلوبهم هو حيلولة الذنوب بينهم و بين أن يدركوا الحقّ على ما هو عليه.

و يظهر من الآية:

أوّلاً: أنّ للأعمال السيّئة نقوشاً و صوراً في النفس تنتقش و تتصوّر بها.

و ثانياً: أنّ هذه النقوش و الصور تمنع النفس أن تدرك الحقّ كما هو و تحول بينها و بينه.

و ثالثاً: أنّ للنفس بحسب طبعها الأوّلي صفاءً و جلاءً تدرك به الحقّ كما هو و تميّز بينه و بين الباطل و تفرّق بين التقوى و الفجور قال تعالى:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها ) الشمس: ٨.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) ردع عن كسب الذنوب الحائلة بين القلب و إدراك الحقّ، و المراد بكونهم محجوبين عن ربّهم يوم القيامة حرمانهم من كرامة القرب و المنزلة و لعلّه مراد من قال: إنّ المراد كونهم محجوبين عن رحمة ربّهم.

و أمّا ارتفاع الحجاب بمعنى سقوط الأسباب المتوسّطة بينه تعالى و بين خلقه و المعرفة التامّة به تعالى فهو حاصل لكلّ أحد قال تعالى:( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) المؤمن: ١٦ و قال:( وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ) النور: ٢٥.

قوله تعالى: ( ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ ) أي داخلون فيها ملازمون لها أو مقاسون حرّها على ما فسّره بعضهم و( ثُمَّ ) في الآية و ما بعدها للتراخي بحسب رتبة الكلام.

قوله تعالى: ( ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) هو توبيخ و تقريع و القائل خزنة النار أو أهل الجنّة.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ ) ردع في معنى الردع الّذي في قوله:( كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ ) و

٣٤٩

علّيّون - كما تقدّم - علو على علو مضاعف، و ينطبق على الدرجات العالية و منازل القرب من الله تعالى كما أنّ السجّين بخلافه.

و الكلام في معنى الآيات الثلاث نظير الكلام في الآيات الثلاث المتقدّمة الّتي تحاذيها من قوله:( إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ ) .

فالمعنى أنّ الّذي كتب للأبرار و قضي جزاءً لبرّهم لفي علّيّين و ما أدراك ما علّيّون هو أمر مكتوب و مقضيّ قضاءً حتماً لازماً متبيّن لا إبهام فيه.

و للقوم أقاويل في هذه الآيات نظير ما لهم في الآيات السابقة من الأقوال غير أنّ من أقوالهم في علّييّن أنّه السماء السابعة تحت العرش فيه أرواح المؤمنين، و قيل سدرة المنتهى الّتي إليها تنتهي الأعمال، و قيل: لوح من زبرجدة تحت العرش معلّق مكتوب فيه أعمالهم، و قيل: هي مراتب عالية محفوفة بالجلالة، و الكلام فيها كالكلام فيما تقدّم من أقوالهم.

قوله تعالى: ( يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) الأنسب لما تقدّم من معنى الآيات السابقة أن يكون( يَشْهَدُهُ ) من الشهود بمعنى المعاينة و المقرّبون قوم من أهل الجنّة هم أعلى درجة من عامّة الأبرار على ما سيأتي استفادته من قوله:( عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ) فالمراد معاينتهم له بإراءة الله إيّاه لهم و قد قال الله تعالى في مثله من أمر الجحيم:( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) التكاثر: ٦ و منه يظهر أنّ المقرّبين هم أهل اليقين.

و قيل: الشهادة هي الحضور و المقرّبون الملائكة، و المراد حضور الملائكة على صحيفة عملهم إذا صعدوا بها إلى الله سبحانه.

و قيل: المقرّبون هم الأبرار و الملائكة جميعاً.

و القولان مبنيّان على أنّ المراد بالكتاب صحيفة الأعمال و قد تقدّم ضعفه.

٣٥٠

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: نزلت يعني سورة المطفّفين على نبيّ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين قدم المدينة و هم يومئذ أسوأ الناس كيلاً فأحسنوا الكيل.

و في اُصول الكافي، بإسناده عن أبي حمزة الثماليّ قال: سمعت أبا جعفرعليه‌السلام يقول: إنّ الله عزّوجلّ خلقنا من أعلى علّيّين و خلق قلوب شيعتنا ممّا خلقنا منه و خلق أبدانهم من دون ذلك فقلوبهم تهوي إلينا لأنّها خلقت ممّا خلقنا ثمّ تلا هذه الآية( كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) .

و خلق قلوب عدوّنا من سجّين و خلق قلوب شيعتهم ممّا خلقهم منه و أبدانهم من دون ذلك، قلوبهم تهوي إليهم لأنّها خلقت ممّا خلقوا منه ثمّ تلا هذه الآية( كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) .

أقول: و روي مثله في اُصول الكافي، بطريق آخر عن الثماليّ عنهعليه‌السلام ، و رواه في علل الشرائع، بإسناد فيه رفع عن زيد الشحّام عن أبي عبداللهعليه‌السلام : مثله‏، و الأحاديث - كما ترى - تؤيّد ما قدّمناه في معنى الآيات.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ) قال: ما كتب الله لهم من العذاب لفي سجّين.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: السجّين الأرض السابعة و علّيّون السماء السابعة.

أقول: الرواية لو صحّت مبنيّة على انتساب الجنّة و النار إلى جهتي العلو و السفل بنوع من العناية و لذلك نظائر في الروايات كعدّ القبر روضة من رياض

٣٥١

الجنّة أو حفرة من حفر النار و عدّ وادي برهوت مكاناً لجهنّم.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن المبارك عن سعيد بن المسيّب قال: التقى سلمان و عبدالله بن سلام فقال أحدهما لصاحبه: إن متّ قبلي فالقني فأخبرني بما صنع ربّك بك و إن أنا متّ قبلك لقيتك فأخبرتك فقال عبدالله: كيف يكون هذا؟ قال: نعم إنّ أرواح المؤمنين تكون في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت و نفس الكافر في سجّين و الله أعلم.

و في اُصول الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ما من عبد إلّا و في قلبه نكتة بيضاء فإذا أذنب ذنباً خرج في تلك النكتة نكتة سوداء فإن تاب ذهب ذلك السواد، و إن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتّى يغطّي البياض فإذا غطّى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً و هو قول الله عزّوجلّ:( كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ) .

أقول: و روي هذا المعنى في الدرّ المنثور، عن عدّة من أصحاب الجوامع عن أبي هريرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و فيه، بإسناده عن عبدالله بن محمّد الحجّال عن بعض أصحابنا رفعه قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تذاكروا و تلاقوا و تحدّثوا فإنّ الحديث جلاء للقلوب إنّ القلوب لترين كما يرين السيف و جلاؤه الحديث.

و عن روضة الواعظين، قال الباقرعليه‌السلام : ما شي‏ء أفسد للقلب من الخطيئة إنّ القلب ليواقع الخطيئة فما تزال به حتّى تغلب عليه فيصير أسفله أعلاه و أعلاه أسفله.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب و نزع و استغفر صقل قلبه منه و إن ازداد زادت فذلك الران الّذي ذكره الله تعالى في كتابه( كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ) .

٣٥٢

( سورة المطفّفين الآيات ٢٢ - ٣٦)

إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ( ٢٢ ) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ ( ٢٣ ) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ( ٢٤ ) يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ ( ٢٥ ) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ( ٢٦ ) وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ ( ٢٧ ) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ( ٢٨ ) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ( ٢٩ ) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ( ٣٠ ) وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ ( ٣١ ) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ ( ٣٢ ) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ ( ٣٣ ) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ( ٣٤ ) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ ( ٣٥ ) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ( ٣٦ )

( بيان‏)

بيان فيه بعض التفصيل لجلالة قدر الأبرار و عظم منزلتهم عند الله تعالى و غزارة عيشهم في الجنّة، و أنّهم على كونهم يستهزئ بهم الكفّار و يتغامزون بهم و يضحكون منهم سيضحكون منهم و ينظرون إلى ما ينالهم من العذاب.

قوله تعالى: ( إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ ) النعيم النعمة الكثيرة و في تنكيره دلالة على فخامة قدره، و المعنى إنّ الأبرار لفي نعمة كثيرة لا يحيط بها الوصف.

قوله تعالى: ( عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ ) الأرائك جمع أريكة و الأريكة السرير

٣٥٣

في الجملة و هي البيت المزيّن للعروس و إطلاق قوله:( يَنْظُرُونَ ) من غير تقييد يؤيّد أن يكون المراد نظرهم إلى مناظر الجنّة البهجة و ما فيها من النعيم المقيم، و قيل: المراد به النظر إلى ما يجزي به الكفّار و ليس بذاك.

قوله تعالى: ( تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ) النضرة البهجة و الرونق، و الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باعتبار أنّ له أن ينظر فيعرف فالحكم عامّ و المعنى كلّ من نظر إلى وجوههم يعرف فيها بهجة النعيم الّذي هم فيه.

قوله تعالى: ( يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ ) الرحيق الشراب الصافي الخالص من الغشّ، و يناسبه وصفه بأنّه مختوم فإنّه إنّما يختم على الشي‏ء النفيس الخالص ليسلم من الغشّ و الخلط و إدخال ما يفسده فيه.

قوله تعالى: ( خِتامُهُ مِسْكٌ وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ ) قيل الختام بمعنى ما يختم به أي إنّ الّذي يختم به مسك بدلاً من الطين و نحوه الّذي يختم به في الدنيا، و قيل: أي آخر طعمه الّذي يجده شاربه رائحة المسك.

و قوله:( وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ ) التنافس التغالب على الشي‏ء و يفيد بحسب المقام معنى التسابق قال تعالى:( سابِقُوا إِلى‏ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ ) الحديد: ٢١، و قال:( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) المائدة: ٤٨، ففيه ترغيب إلى ما وصف من الرحيق المختوم.

و استشكل في الآية بأنّ فيها دخول العاطف على العاطف إذ التقدير فليتنافس في ذلك إلخ.

و اُجيب بأنّ الكلام على تقدير حرف الشرط و الفاء واقعة في جوابه و قدّم الظرف ليكون عوضاً عن الشرط و التقدير و إن اُريد تنافس فليتنافس في ذلك المتنافسون.

و يمكن أن يقال: إنّ قوله:( وَ فِي ذلِكَ ) معطوف على ظرف آخر محذوف متعلّق بقوله:( فَلْيَتَنافَسِ ) يدلّ عليه المقام فإنّ الكلام في وصف نعيم الجنّة فيفيد قوله:( وَ فِي ذلِكَ ) ترغيباً مؤكّداً بتخصيص الحكم بعد التعميم، و المعنى فليتنافس

٣٥٤

المتنافسون في نعيم الجنّة عامّة و في الرحيق المختوم الّذي يسقونه خاصّة فهو كقولنا: أكرم المؤمنين و الصالحين منهم خاصّة، و لا تكن عيّاباً و للعلماء خاصّة.

قوله تعالى: ( وَ مِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ) المزاج ما يمزج به، و التسنيم على ما تفسّره الآية التالية عين في الجنّة سمّاه الله تسنيماً و في لفظه معنى الرفع و المل‏ء يقال: سنّمه أي رفعه و منه سنام الإبل، و يقال: سنّم الإناء أي ملأه.

قوله تعالى: ( عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ) يقال: شربه و شرب به بمعنى و( عَيْناً ) منصوب على المدح أو الاختصاص و( يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ) وصف لها و المجموع تفسير للتسنيم.

و مفاد الآية أنّ المقرّبين يشربون التسنيم صرفاً كما أنّ مفاد قوله:( وَ مِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ) أنّه يمزج بها ما في كأس الأبرار من الرحيق المختوم، و يدلّ ذلك أوّلاً على أنّ التسنيم أفضل من الرحيق المختوم الّذي يزيد لذّة بمزجها، و ثانياً أنّ المقرّبين أعلى درجة من الأبرار الّذين يصفهم الآيات.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ) يعطي السياق أنّ المراد بالّذين آمنوا هم الأبرار الموصوفون في الآيات و إنّما عبّر عنهم بالّذين آمنوا لأنّ سبب ضحك الكفّار منهم و استهزائهم بهم إنّما هو إيمانهم كما أنّ التعبير عن الكفّار بالّذين أجرموا للدلالة على أنّهم بذلك من المجرمين.

قوله تعالى: ( وَ إِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ‏ ) عطف على قوله:( يَضْحَكُونَ ) أي كانوا إذا مرّوا بالّذين آمنوا يغمز بعضهم بعضاً و يشيرون بأعينهم استهزاءً بهم.

قوله تعالى: ( وَ إِذَا انْقَلَبُوا إِلى‏ أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ ) الفكه بالفتح فالكسر المرح البطر، و المعنى و كانوا إذا انقلبوا و صاروا إلى أهلهم عن ضحكهم و تغامزهم انقلبوا ملتذّين فرحين بما فعلوا أو هو من الفكاهة بمعنى حديث ذوي الاُنس و المعنى انقلبوا و هم يحدّثون بما فعلوا تفكّها.

قوله تعالى: ( وَ إِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ ) على سبيل الشهادة عليهم بالضلال أو القضاء عليهم و الثاني أقرب.

٣٥٥

قوله تعالى: ( وَ ما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ ) أي و ما اُرسل هؤلاء الّذين أجرموا حافظين على المؤمنين يقضون في حقّهم بما شاؤا أو يشهدون عليهم بما هووا، و هذا تهكّم بالمستهزئين.

قوله تعالى: ( فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ) المراد باليوم يوم الجزاء، و التعبير عن الّذين أجرموا بالكفّار رجوع إلى حقيقة صفتهم. قيل: تقديم الجار و المجرور على الفعل أعني( مِنَ الْكُفَّارِ ) على( يَضْحَكُونَ ) لإفادة قصر القلب، و المعنى فاليوم الّذين آمنوا يضحكون من الكفّار لا الكفّار منهم كما كانوا يفعلون في الدنيا.

قوله تعالى: ( عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ ) الثواب في الأصل مطلق الجزاء و إن غلب استعماله في الخير، و قوله( عَلَى الْأَرائِكِ ) خبر بعد خبر للّذين آمنوا و( يَنْظُرُونَ ) خبر آخر، و قوله:( هَلْ ثُوِّبَ ) إلخ متعلّق بقوله:( يَنْظُرُونَ ) قائم مقام المفعول.

و المعنى: الّذين آمنوا على سرر في الحجال ينظرون إلى جزاء الكفّار بأفعالهم الّتي كانوا يفعلونها في الدنيا من أنواع الإجرام و منها ضحكهم من المؤمنين و تغامزهم إذا مرّوا بهم و انقلابهم إلى أهلهم فكهين و قولهم: إنّ هؤلاء لضالّون.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ ) قال: فيما ذكرناه من الثواب الّذي يطلبه المؤمن.

و في المجمع: في قوله تعالى:( وَ إِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ‏ ) قيل نزلت في عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام و ذلك أنّه كان في نفر من المسلمين جاؤا إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسخر منهم المنافقون و ضحكوا و تغامزوا ثمّ رجعوا إلى أصحابهم فقالوا: رأينا اليوم الأصلع

٣٥٦

فضحكنا منه فنزلت الآية قبل أن يصل عليّ و أصحابه إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عن مقاتل و الكلبيّ.

أقول: و قد أورده في الكشّاف.

و فيه ذكر الحاكم أبوالقاسم الحسكانيّ في كتاب شواهد التنزيل لقواعد التفصيل بإسناده عن أبي صالح عن ابن عبّاس قال:( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ) منافقوا قريش و( الَّذِينَ آمَنُوا ) عليّ بن أبي طالب و أصحابه.

و في تفسير القمّيّ:( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا - إلى قوله -فَكِهِينَ ) قال: يسخرون.

٣٥٧

( سورة الانشقاق مكّيّة و هي خمس و عشرون آية)

( سورة الانشقاق الآيات ١ - ٢٥)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ ( ١ ) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ( ٢ ) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ( ٣ ) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ( ٤ ) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ( ٥ ) يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ( ٦ ) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ( ٧ ) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ( ٨ ) وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُورًا ( ٩ ) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ( ١٠ ) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ( ١١ ) وَيَصْلَىٰ سَعِيرًا ( ١٢ ) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا ( ١٣ ) إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ ( ١٤ ) بَلَىٰ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا ( ١٥ ) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ( ١٦ ) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ ( ١٧ ) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ( ١٨ ) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ ( ١٩ ) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ( ٢٠ ) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ ( ٢١ ) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ ( ٢٢ ) وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ ( ٢٣ ) فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( ٢٤ ) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ( ٢٥ )

٣٥٨

( بيان‏)

تشير السورة إلى قيام الساعة، و تذكر أنّ للإنسان سيراً إلى ربّه حتّى يلاقيه فيحاسب على ما يقتضيه كتابه و تؤكّد القول في ذلك و الغلبة فيها للإنذار على التبشير. و سياق آياتها سياق مكّي.

قوله تعالى: ( إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ ) شرط جزاؤه محذوف يدلّ عليه قوله:( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) و التقدير: لاقى الإنسان ربّه فحاسبه و جازاه على ما عمل.

و انشقاق السماء و هو تصدّعه و انفراجه من أشراط الساعة كمدّ الأرض و سائر ما ذكر في مواضع من كلامه تعالى من تكوير الشمس و اجتماع الشمس و القمر و انتثار الكواكب و نحوها.

قوله تعالى: ( وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ ) الإذن الاستماع و منه الاُذن لجارحة السمع و هو مجاز عن الانقياد و الطاعة، و( حُقَّتْ ) أي جعلت حقيقة و جديرة بأن تسمع، و المعنى و أطاعت و انقادت لربّها و كانت حقيقة و جديرة بأن تستمع و تطيع.

قوله تعالى: ( وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ) الظاهر أنّ المراد به اتّساع الأرض، و قد قال تعالى:( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ ) إبراهيم: ٤٨.

قوله تعالى: ( وَ أَلْقَتْ ما فِيها وَ تَخَلَّتْ ) أي ألقت الأرض ما في جوفها من الموتى و بالغت في الخلوّ ممّا فيها منهم.

و قيل: المراد إلقائها الموتى و الكنوز كما قال تعالى:( وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ) الزلزال: ٢.

و قيل: المعنى ألقت ما في بطنها و تخلّت ممّا على ظهرها من الجبال و البحار، و لعلّ أوّل الوجوه أقربها.

قوله تعالى: ( وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ ) ضمائر التأنيث للأرض كما أنّها في

٣٥٩

نظيرتها المتقدّمة للسماء، و قد تقدّم معنى الآية.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) قال الراغب: الكدح السعي و العناء. انتهى. ففيه معنى السير، و قيل: الكدح جهد النفس في العمل حتّى يؤثّر فيها انتهى. و على هذا فهو مضمّن معنى السير بدليل تعدّيه بإلى ففي الكدح معنى السير على أيّ حال.

و قوله:( فَمُلاقِيهِ ) عطف على( كادِحٌ ) و قد بيّن به أنّ غاية هذا السير و السعي و العناء هو الله سبحانه بما أنّ له الربوبيّة أي إنّ الإنسان بما أنّه عبد مربوب و مملوك مدبّر ساع إلى الله سبحانه بما أنّه ربّه و مالكه المدبّر لأمره فإنّ العبد لا يملك لنفسه إرادة و لا عملاً فعليه أن يريد و لا يعمل إلّا ما أراده ربّه و مولاه و أمره به فهو مسؤل عن إرادته و عمله.

و من هنا يظهر أوّلاً أنّ قوله:( إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ ) يتضمّن حجّة على المعاد لما عرفت أنّ الربوبيّة لا تتمّ إلّا مع عبوديّة و لا تتمّ العبوديّة إلّا مع مسؤليّة و لا تتمّ مسؤليّة إلّا برجوع و حساب على الأعمال و لا يتمّ حساب إلّا بجزاء.

و ثانياً: أنّ المراد بملاقاته انتهاؤه إلى حيث لا حكم إلّا حكمه من غير أن يحجبه عن ربّه حاجب.

و ثالثاً: أنّ المخاطب في الآية هو الإنسان بما أنّه إنسان فالمراد به الجنس و ذلك أنّ الربوبيّة عامّة لكلّ إنسان.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) تفصيل مترتّب على ما يلوّح إليه قوله:( إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ ) أنّ هناك رجوعاً و سؤالاً عن الأعمال و حساباً، و المراد بالكتاب صحيفة الأعمال بقرينة ذكر الحساب، و قد تقدّم الكلام في معنى إعطاء الكتاب باليمين في سورتي الإسراء و الحاقّة.

قوله تعالى: ( فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً ) الحساب اليسير ما سوهل فيه و خلا عن المناقشة.

قوله تعالى: ( وَ يَنْقَلِبُ إِلى‏ أَهْلِهِ مَسْرُوراً ) المراد بالأهل من أعدّه الله له في

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568