الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن6%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219976 / تحميل: 7018
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

و المراد بالأمر كما قيل واحد الأوامر لقوله تعالى:( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) المؤمن: ١٦ و شأن الملك المطاع، الأمر بالمعنى المقابل للنهي، و الأمر بمعنى الشأن لا يلائم المقام تلك الملاءمة.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ إِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ) قال: تنشقّ فتخرج الناس منها.

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم و صحّحه عن حذيفة قال: قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من استنّ خيراً فاستنّ به فله أجره و مثل اُجور من اتّبعه غير منتقص من اُجورهم و من استنّ شرّاً فاستنّ به فله وزره و مثل أوزار من اتّبعه غير منتقص من أوزارهم، و تلا حذيفة( عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ ) .

و فيه، أخرج عبد بن حميد عن صالح بن مسمار قال: بلغني أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلا هذه الآية( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) ثمّ قال: جهله.

و في تفسير القمّيّ:( فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ ) قال: لو شاء ركّبك على غير هذه الصورة.

أقول: و رواه في المجمع، عن الصادقعليه‌السلام مرسلاً.

و فيه،:( وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ ) قال: الملكان الموكّلان بالإنسان.

و عن سعد السعود، و في رواية: إنّهما - يعني الملكين الموكّلين - يأتيان المؤمن عند حضور صلاة الفجر فإذا هبطا صعد الملكان الموكّلان باللّيل فإذا غربت الشمس نزل إليه الموكّلان بكتابة اللّيل، و يصعد الملكان الكاتبان بالنهار بديوانه إلى الله عزّوجلّ.

فلا يزال ذلك دأبهم إلى وقت حضور أجله فإذا حضر أجله قالا للرجل الصالح: جزاك الله من صاحب عنّا خيراً فكم من عمل صالح أريتناه، و كم من قول حسن أسمعتناه، و كم من مجلس خير أحضرتناه فنحن اليوم على ما تحبّه و شفعاء إلى

٣٤١

ربّك، و إن كان عاصياً قالا له: جزاك الله من صاحب عنّا شرّاً فلقد كنت تؤذينا فكم من عمل سيّي‏ء أريتناه، و كم من قول سيّي‏ء أسمعتناه، و( كم) من مجلس سوء أحضرتناه و نحن اليوم لك على ما تكره، و شهيدان عند ربّك.

و في المجمع: في قوله تعالى:( وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) روى عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام أنّه قال: الأمر يومئذ و اليوم كلّه لله. يا جابر إذا كان يوم القيامة بادت الحكّام فلم يبق حاكم إلّا الله.

أقول: مرادهعليه‌السلام أنّ كون الأمر لله لا يختصّ بيوم القيامة بل الأمر لله دائماً، و تخصيصه بيوم القيامة باعتبار ظهوره لا باعتبار أصله فالّذي يختصّ به ظهور هذه الحقيقة ظهور عيان فيسقط اليوم أمر غيره تعالى و حكمه، و نظير الأمر سائر ما عدّ في كلامه تعالى من مختصّات يوم القيامة، فالرواية من غرر الروايات.

٣٤٢

( سورة المطفّفين مكّيّة أو مدنيّة و هي ستّ و ثلاثون آية)

( سورة المطفّفين الآيات ١ - ٢١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ ( ١ ) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ( ٢ ) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ( ٣ ) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ ( ٤ ) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ( ٥ ) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( ٦ ) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ( ٧ ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ( ٨ ) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ( ٩ ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( ١٠ ) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ( ١١ ) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ( ١٢ ) إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ( ١٣ ) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( ١٤ ) كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ( ١٥ ) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ( ١٦ ) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ ( ١٧ ) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ( ١٨ ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ ( ١٩ ) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ( ٢٠ ) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ( ٢١ )

( بيان‏)

تفتتح السورة بوعيد أهل التطفيف في الكيل و الوزن و تنذرهم بأنّهم مبعوثون للجزاء في يوم عظيم و هو يوم القيامة ثمّ تتخلّص لتفصيل ما يجري يومئذ على الفجّار و الأبرار.

٣٤٣

و الأنسب بالنظر إلى السياق أن يكون أوّل السورة المشتمل على وعيد المطفّفين نازلاً بالمدينة و أمّا ما يتلوه من الآيات إلى آخر السورة فيقبل الانطباق على السياقات المكّيّة و المدنيّة.

قوله تعالى: ( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ) دعاء على المطفّفين و التطفيف نقص المكيال و الميزان، و قد نهى الله تعالى عنه و سمّاه إفساداً في الأرض كما فيما حكاه من قول شعيب:( وَ يا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) هود: ٨٤، و قد تقدّم الكلام في تفسير الآية في معنى كونه إفساداً في الأرض.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ) الاكتيال من الناس الأخذ منهم بالكيل، و تعديته بعلى لإفادة معنى الضرر، و الكيل إعطاؤهم بالمكيال يقال: كاله طعامه و وزنه و كال له طعامه و وزن له و الأوّل لغة أهل الحجاز و عليه التنزيل و الثاني لغة غيرهم كما في المجمع، و الاستيفاء أخذ الحقّ تامّاً كاملاً، و الإخسار الإيقاع في الخسارة.

و المعنى: الّذين إذا أخذوا من الناس بالكيل يأخذون حقّهم تامّاً كاملاً، و إذا أعطوا الناس بالكيل أو الوزن ينقصون فيوقعونهم في الخسران.

فمضمون الآيتين جميعاً ذمّ واحد و هو أنّهم يراعون الحقّ لأنفسهم و لا يراعونه لغيرهم و بعبارة اُخرى لا يراعون لغيرهم من الحقّ مثل ما يراعونه لأنفسهم و فيه إفساد الاجتماع الإنسانيّ المبنيّ على تعادل الحقوق المتقابلة و في إفساده كلّ الفساد.

و لم يذكر الاتّزان مع الاكتيال كما ذكر الوزن مع الكيل إذ قال:( وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ ) قيل: لأنّ المطفّفين كانوا باعة و هم كانوا في الأغلب يشترون الكثير من الحبوب و البقول و نحوهما من الأمتعة ثمّ يكسبون بها فيبيعونها يسيراً يسيراً تدريجاً، و كان دأبهم في الكثير من هذه الأمتعة أن يؤخذ و يعطى بالكيل لا بالوزن فذكر الاكتيال وحده في الآية مبنيّ على الغالب.

و قيل: لم يذكر الاتّزان لأنّ الكيل و الوزن بهما البيع و الشراء فذكر

٣٤٤

أحدهما يدلّ على الآخر. و فيه أنّ ما ذكر في الاكتيال جار في الكيل أيضاً و قد ذكر معه الوزن فالوجه لا يخلو من تحكّم.

و قيل: الآيتان تحاكيان ما كان عليه دأب الّذين نزلت فيهم السورة فقد كانوا يشترون بالاكتيال فقط و يبيعون بالكيل و الوزن جميعاً، و هذا الوجه دعوى من غير دليل.

إلى غير ذلك ممّا ذكروه في توجيه الاقتصار على ذكر الاكتيال في الآية، و لا يخلو شي‏ء منها من ضعف.

قوله تعالى: ( أَ لا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ) الاستفهام للإنكار و التعجيب، و الظنّ بمعناه المعروف و الإشارة إلى المطفّفين باُولئك الموضوعة للإشارة البعيدة للدلالة على بعدهم من رحمة الله، و اليوم العظيم يوم القيامة الّذي يجازون فيه بعملهم.

و الاكتفاء بظنّ البعث و حسبانه - مع أنّ من الواجب الاعتقاد العلميّ بالمعاد - لأنّ مجرّد حسبان الخطر و الضرر في عمل يوجب التجنّب عنه و التحرّز عن اقترافه و إن لم يكن هناك علم فالظنّ بالبعث ليوم عظيم يؤاخذ الله فيه الناس بما كسبوا من شأنه أن يردعهم عن اقتراف هذا الذنب العظيم الّذي يستتبع العذاب الأليم.ليم.

و قيل: الظنّ في الآية بمعنى العلم.

قوله تعالى: ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ) المراد به قيامهم من قبورهم - كناية عن تلبّسهم بالحياة بعد الممات - لحكمه تعالى و قضائه بينهم.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) ردع - كما قيل - عمّا كانوا عليه من التطفيف و الغفلة عن البعث و الحساب.

و قوله:( إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ) إلخ الّذي يعطيه التدبّر في سياق

٣٤٥

الآيات الأربع بقياس بعضها إلى بعض و قياس المجموع إلى مجموع قوله:( كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ) إلى تمام أربع آيات أنّ المراد بسجّين ما يقابل علّيّين و معناه علو على علو مضاعف ففيه شي‏ء من معنى السفل و الانحباس فيه كما يشير إليه قوله:( ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ ) التين: ٥ فالأقرب أن يكون مبالغة من السجن بمعنى الحبس كسكّير و شرّيب من السكر و الشرب فمعناه الّذي يحبس من دخله على التخليد كما قيل.

و الكتاب بمعنى المكتوب من الكتابة بمعنى القضاء المحتوم و المراد بكتاب الفجّار ما قدّره الله لهم من الجزاء و أثبته بقضائه المحتوم.

فمحصّل الآية أنّ الّذي أثبته الله من جزائهم أو عدّه لهم لفي سجّين الّذي هو سجن يحبس من دخله حبساً طويلاً أو خالداً.

و قوله:( وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ ) مسوق للتهويل.

و قوله:( كِتابٌ مَرْقُومٌ ) خبر لمبتدإ محذوف هو ضمير راجع إلى سجّين و الجملة بيان لسجّين و( كتاب ) أيضاً بمعنى المكتوب من الكتابة بمعنى القضاء و الإثبات، و( مرقوم ) من الرقم، قال الراغب: الرقم الخطّ الغليظ، و قيل: هو تعجيم الكتاب، و قوله تعالى:( كِتابٌ مَرْقُومٌ ) حمل على الوجهين. انتهى، و المعنى الثاني أنسب للمقام فيكون إشارة إلى كون ما كتب لهم متبيّناً لا إبهام فيه أي إنّ القضاء حتم لا يتخلّف.

و المحصّل أنّ سجّين مقضيّ عليهم مثبت لهم متبيّن متميّز لا إبهام فيه.

و لا ضير في لزوم كون الكتاب ظرفاً للكتاب على هذا المعنى لأنّ ذلك من ظرفية الكلّ للجزء و هي ممّا لا ضير فيه فيكون سجّين كتاباً جامعاً فيه ما قضي على الفجّار و غيرهم من مستحقّي العذاب.

و قوله:( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) نعي و دعاء على الفجّار و فيه تفسيرهم بالمكذّبين، و( يَوْمَئِذٍ ) ظرف لقوله:( إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ) بحسب

٣٤٦

المعنى أي ليهلك الفجّار - و هم المكذّبون - يومئذ تحقّق ما كتب الله لهم و قضى عليهم من الجزاء و حلّ بهم ما أعدّ لهم من العذاب.

هذا ما يفيده التدبّر في هذه الآيات الأربع، و هي ذات سياق واحد متّصل متلائم الأجزاء.

و للقوم في تفسير مفردات الآيات الأربع و جملها أقوال متفرّقة كقولهم: إنّ الكتاب في قوله:( إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ ) بمعنى المكتوب و المراد به صحيفة أعمالهم، و قيل: مصدر بمعنى الكتابة و في الكلام مضاف محذوف و التقدير كتابة عمل الفجّار لفي سجّين.

و قولهم: إنّ الفجّار أعمّ من المكذّبين فيشمل الكفّار و الفسقة جميعاً.

و قولهم: إنّ المراد بسجّين الأرض السابعة السفلى يوضع فيها كتاب الفجّار و قيل: واد في جهنّم، و قيل: جبّ فيها، و قيل: سجّين اسم لكتابهم، و قيل: سجّين الأوّل اسم الموضع الّذي يوضع فيه كتابهم و الثاني اسم كتابهم، و قيل: هو اسم كتاب جامع هو ديوان الشرّ دوّن فيه أعمال الفجرة من الثقلين، و قيل: المراد به الخسار و الهوان فهو كقولهم: بلغ فلان الحضيض إذا صار في غاية الخمول، و قيل: هو السجّيل بدّل لامه نوناً كما يقال جبرين في جبريل إلى غير ذلك ممّا قيل.

و قولهم: إنّ قوله:( كِتابٌ مَرْقُومٌ ) ليس بياناً و تفسيراً لسجّين بل تفسير للكتاب المذكور في قوله:( إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ ) .

و قولهم: إنّ قوله:( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) متّصل بقوله:( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ) و الآيات الثلاث الواقعة بين الآيتين اعتراض.

و أنت إن تأمّلت هذه الأقاويل وجدت كثيراً منها تحكّماً محضاً لا دليل عليه.

على أنّها تقطع ما في الآيات من السياق الواحد المتّصل الّذي يحاذي به ما في الآيات الأربع الآتية في صفة كتاب الأبرار من السياق الواحد المتّصل فلا نطيل الكلام بالتعرّض لواحد واحد منها و المناقشة فيها.

٣٤٧

قوله تعالى: ( الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ) تفسير للمكذّبين و ظاهر الآية - و يؤيّده الآيات التالية - أنّ المراد بالتكذيب هو التكذيب القوليّ الصريح فيختصّ الذمّ بالكفّار و لا يشمل الفسقة من أهل الإيمان فلا يشمل مطلق المطفّفين بل الكفّار منهم.

اللّهمّ إلّا أن يراد بالتكذيب ما يعمّ التكذيب العمليّ كما ربّما أيّده قوله السابق:( أَ لا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ) فيشمل الفجّار من المؤمنين كالكفّار.

قوله تعالى: ( وَ ما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ) المعتدي اسم فاعل من الاعتداء بمعنى التجاوز و المراد به المتجاوز عن حدود العبوديّة، و الأثيم كثير الآثام بحيث تراكم بعضها على بعض بانهماكه في الأهواء.

و من المعلوم أنّ المانع الوحيد الّذي يردع عن المعصية هو الإيمان بالبعث و الجزاء، و المنهمك في الأهواء المتعلّق قلبه بالاعتداء و الإثم تأبى نفسه التسليم لما يردع عنها و التزهّد عن المعاصي و ينتهي إلى تكذيب البعث و الجزاء قال تعالى:( ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى‏ أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ ) الروم: ١٠.

قوله تعالى: ( إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) المراد بالآيات آيات القرآن بقرينة قوله( تُتْلى) و الأساطير ما سطروه و كتبوه و المراد بها أباطيل الاُمم الماضين و المعنى إذا تتلى عليه آيات القرآن ممّا يحذّرهم المعصية و ينذرهم بالبعث و الجزاء قال: هي أباطيل.

قوله تعالى: ( كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ) ردع عمّا قاله المكذّبون:( أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) قال الراغب: الرين صدا يعلو الشي‏ء الجليل(١) قال تعالى:( بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ) أي صار ذلك كصدء على جلاء قلوبهم فعمي عليهم معرفة الخير من الشرّ، انتهى. فكون ما كانوا يكسبون و هو الذنوب ريناً على

____________________

(١) الجلي ظ.

٣٤٨

قلوبهم هو حيلولة الذنوب بينهم و بين أن يدركوا الحقّ على ما هو عليه.

و يظهر من الآية:

أوّلاً: أنّ للأعمال السيّئة نقوشاً و صوراً في النفس تنتقش و تتصوّر بها.

و ثانياً: أنّ هذه النقوش و الصور تمنع النفس أن تدرك الحقّ كما هو و تحول بينها و بينه.

و ثالثاً: أنّ للنفس بحسب طبعها الأوّلي صفاءً و جلاءً تدرك به الحقّ كما هو و تميّز بينه و بين الباطل و تفرّق بين التقوى و الفجور قال تعالى:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها ) الشمس: ٨.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) ردع عن كسب الذنوب الحائلة بين القلب و إدراك الحقّ، و المراد بكونهم محجوبين عن ربّهم يوم القيامة حرمانهم من كرامة القرب و المنزلة و لعلّه مراد من قال: إنّ المراد كونهم محجوبين عن رحمة ربّهم.

و أمّا ارتفاع الحجاب بمعنى سقوط الأسباب المتوسّطة بينه تعالى و بين خلقه و المعرفة التامّة به تعالى فهو حاصل لكلّ أحد قال تعالى:( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) المؤمن: ١٦ و قال:( وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ) النور: ٢٥.

قوله تعالى: ( ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ ) أي داخلون فيها ملازمون لها أو مقاسون حرّها على ما فسّره بعضهم و( ثُمَّ ) في الآية و ما بعدها للتراخي بحسب رتبة الكلام.

قوله تعالى: ( ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) هو توبيخ و تقريع و القائل خزنة النار أو أهل الجنّة.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ ) ردع في معنى الردع الّذي في قوله:( كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ ) و

٣٤٩

علّيّون - كما تقدّم - علو على علو مضاعف، و ينطبق على الدرجات العالية و منازل القرب من الله تعالى كما أنّ السجّين بخلافه.

و الكلام في معنى الآيات الثلاث نظير الكلام في الآيات الثلاث المتقدّمة الّتي تحاذيها من قوله:( إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ ) .

فالمعنى أنّ الّذي كتب للأبرار و قضي جزاءً لبرّهم لفي علّيّين و ما أدراك ما علّيّون هو أمر مكتوب و مقضيّ قضاءً حتماً لازماً متبيّن لا إبهام فيه.

و للقوم أقاويل في هذه الآيات نظير ما لهم في الآيات السابقة من الأقوال غير أنّ من أقوالهم في علّييّن أنّه السماء السابعة تحت العرش فيه أرواح المؤمنين، و قيل سدرة المنتهى الّتي إليها تنتهي الأعمال، و قيل: لوح من زبرجدة تحت العرش معلّق مكتوب فيه أعمالهم، و قيل: هي مراتب عالية محفوفة بالجلالة، و الكلام فيها كالكلام فيما تقدّم من أقوالهم.

قوله تعالى: ( يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) الأنسب لما تقدّم من معنى الآيات السابقة أن يكون( يَشْهَدُهُ ) من الشهود بمعنى المعاينة و المقرّبون قوم من أهل الجنّة هم أعلى درجة من عامّة الأبرار على ما سيأتي استفادته من قوله:( عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ) فالمراد معاينتهم له بإراءة الله إيّاه لهم و قد قال الله تعالى في مثله من أمر الجحيم:( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) التكاثر: ٦ و منه يظهر أنّ المقرّبين هم أهل اليقين.

و قيل: الشهادة هي الحضور و المقرّبون الملائكة، و المراد حضور الملائكة على صحيفة عملهم إذا صعدوا بها إلى الله سبحانه.

و قيل: المقرّبون هم الأبرار و الملائكة جميعاً.

و القولان مبنيّان على أنّ المراد بالكتاب صحيفة الأعمال و قد تقدّم ضعفه.

٣٥٠

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: نزلت يعني سورة المطفّفين على نبيّ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين قدم المدينة و هم يومئذ أسوأ الناس كيلاً فأحسنوا الكيل.

و في اُصول الكافي، بإسناده عن أبي حمزة الثماليّ قال: سمعت أبا جعفرعليه‌السلام يقول: إنّ الله عزّوجلّ خلقنا من أعلى علّيّين و خلق قلوب شيعتنا ممّا خلقنا منه و خلق أبدانهم من دون ذلك فقلوبهم تهوي إلينا لأنّها خلقت ممّا خلقنا ثمّ تلا هذه الآية( كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) .

و خلق قلوب عدوّنا من سجّين و خلق قلوب شيعتهم ممّا خلقهم منه و أبدانهم من دون ذلك، قلوبهم تهوي إليهم لأنّها خلقت ممّا خلقوا منه ثمّ تلا هذه الآية( كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) .

أقول: و روي مثله في اُصول الكافي، بطريق آخر عن الثماليّ عنهعليه‌السلام ، و رواه في علل الشرائع، بإسناد فيه رفع عن زيد الشحّام عن أبي عبداللهعليه‌السلام : مثله‏، و الأحاديث - كما ترى - تؤيّد ما قدّمناه في معنى الآيات.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ) قال: ما كتب الله لهم من العذاب لفي سجّين.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: السجّين الأرض السابعة و علّيّون السماء السابعة.

أقول: الرواية لو صحّت مبنيّة على انتساب الجنّة و النار إلى جهتي العلو و السفل بنوع من العناية و لذلك نظائر في الروايات كعدّ القبر روضة من رياض

٣٥١

الجنّة أو حفرة من حفر النار و عدّ وادي برهوت مكاناً لجهنّم.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن المبارك عن سعيد بن المسيّب قال: التقى سلمان و عبدالله بن سلام فقال أحدهما لصاحبه: إن متّ قبلي فالقني فأخبرني بما صنع ربّك بك و إن أنا متّ قبلك لقيتك فأخبرتك فقال عبدالله: كيف يكون هذا؟ قال: نعم إنّ أرواح المؤمنين تكون في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت و نفس الكافر في سجّين و الله أعلم.

و في اُصول الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ما من عبد إلّا و في قلبه نكتة بيضاء فإذا أذنب ذنباً خرج في تلك النكتة نكتة سوداء فإن تاب ذهب ذلك السواد، و إن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتّى يغطّي البياض فإذا غطّى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً و هو قول الله عزّوجلّ:( كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ) .

أقول: و روي هذا المعنى في الدرّ المنثور، عن عدّة من أصحاب الجوامع عن أبي هريرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و فيه، بإسناده عن عبدالله بن محمّد الحجّال عن بعض أصحابنا رفعه قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تذاكروا و تلاقوا و تحدّثوا فإنّ الحديث جلاء للقلوب إنّ القلوب لترين كما يرين السيف و جلاؤه الحديث.

و عن روضة الواعظين، قال الباقرعليه‌السلام : ما شي‏ء أفسد للقلب من الخطيئة إنّ القلب ليواقع الخطيئة فما تزال به حتّى تغلب عليه فيصير أسفله أعلاه و أعلاه أسفله.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب و نزع و استغفر صقل قلبه منه و إن ازداد زادت فذلك الران الّذي ذكره الله تعالى في كتابه( كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ) .

٣٥٢

( سورة المطفّفين الآيات ٢٢ - ٣٦)

إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ( ٢٢ ) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ ( ٢٣ ) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ( ٢٤ ) يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ ( ٢٥ ) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ( ٢٦ ) وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ ( ٢٧ ) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ( ٢٨ ) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ( ٢٩ ) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ( ٣٠ ) وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ ( ٣١ ) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ ( ٣٢ ) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ ( ٣٣ ) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ( ٣٤ ) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ ( ٣٥ ) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ( ٣٦ )

( بيان‏)

بيان فيه بعض التفصيل لجلالة قدر الأبرار و عظم منزلتهم عند الله تعالى و غزارة عيشهم في الجنّة، و أنّهم على كونهم يستهزئ بهم الكفّار و يتغامزون بهم و يضحكون منهم سيضحكون منهم و ينظرون إلى ما ينالهم من العذاب.

قوله تعالى: ( إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ ) النعيم النعمة الكثيرة و في تنكيره دلالة على فخامة قدره، و المعنى إنّ الأبرار لفي نعمة كثيرة لا يحيط بها الوصف.

قوله تعالى: ( عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ ) الأرائك جمع أريكة و الأريكة السرير

٣٥٣

في الجملة و هي البيت المزيّن للعروس و إطلاق قوله:( يَنْظُرُونَ ) من غير تقييد يؤيّد أن يكون المراد نظرهم إلى مناظر الجنّة البهجة و ما فيها من النعيم المقيم، و قيل: المراد به النظر إلى ما يجزي به الكفّار و ليس بذاك.

قوله تعالى: ( تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ) النضرة البهجة و الرونق، و الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باعتبار أنّ له أن ينظر فيعرف فالحكم عامّ و المعنى كلّ من نظر إلى وجوههم يعرف فيها بهجة النعيم الّذي هم فيه.

قوله تعالى: ( يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ ) الرحيق الشراب الصافي الخالص من الغشّ، و يناسبه وصفه بأنّه مختوم فإنّه إنّما يختم على الشي‏ء النفيس الخالص ليسلم من الغشّ و الخلط و إدخال ما يفسده فيه.

قوله تعالى: ( خِتامُهُ مِسْكٌ وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ ) قيل الختام بمعنى ما يختم به أي إنّ الّذي يختم به مسك بدلاً من الطين و نحوه الّذي يختم به في الدنيا، و قيل: أي آخر طعمه الّذي يجده شاربه رائحة المسك.

و قوله:( وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ ) التنافس التغالب على الشي‏ء و يفيد بحسب المقام معنى التسابق قال تعالى:( سابِقُوا إِلى‏ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ ) الحديد: ٢١، و قال:( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) المائدة: ٤٨، ففيه ترغيب إلى ما وصف من الرحيق المختوم.

و استشكل في الآية بأنّ فيها دخول العاطف على العاطف إذ التقدير فليتنافس في ذلك إلخ.

و اُجيب بأنّ الكلام على تقدير حرف الشرط و الفاء واقعة في جوابه و قدّم الظرف ليكون عوضاً عن الشرط و التقدير و إن اُريد تنافس فليتنافس في ذلك المتنافسون.

و يمكن أن يقال: إنّ قوله:( وَ فِي ذلِكَ ) معطوف على ظرف آخر محذوف متعلّق بقوله:( فَلْيَتَنافَسِ ) يدلّ عليه المقام فإنّ الكلام في وصف نعيم الجنّة فيفيد قوله:( وَ فِي ذلِكَ ) ترغيباً مؤكّداً بتخصيص الحكم بعد التعميم، و المعنى فليتنافس

٣٥٤

المتنافسون في نعيم الجنّة عامّة و في الرحيق المختوم الّذي يسقونه خاصّة فهو كقولنا: أكرم المؤمنين و الصالحين منهم خاصّة، و لا تكن عيّاباً و للعلماء خاصّة.

قوله تعالى: ( وَ مِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ) المزاج ما يمزج به، و التسنيم على ما تفسّره الآية التالية عين في الجنّة سمّاه الله تسنيماً و في لفظه معنى الرفع و المل‏ء يقال: سنّمه أي رفعه و منه سنام الإبل، و يقال: سنّم الإناء أي ملأه.

قوله تعالى: ( عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ) يقال: شربه و شرب به بمعنى و( عَيْناً ) منصوب على المدح أو الاختصاص و( يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ) وصف لها و المجموع تفسير للتسنيم.

و مفاد الآية أنّ المقرّبين يشربون التسنيم صرفاً كما أنّ مفاد قوله:( وَ مِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ) أنّه يمزج بها ما في كأس الأبرار من الرحيق المختوم، و يدلّ ذلك أوّلاً على أنّ التسنيم أفضل من الرحيق المختوم الّذي يزيد لذّة بمزجها، و ثانياً أنّ المقرّبين أعلى درجة من الأبرار الّذين يصفهم الآيات.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ) يعطي السياق أنّ المراد بالّذين آمنوا هم الأبرار الموصوفون في الآيات و إنّما عبّر عنهم بالّذين آمنوا لأنّ سبب ضحك الكفّار منهم و استهزائهم بهم إنّما هو إيمانهم كما أنّ التعبير عن الكفّار بالّذين أجرموا للدلالة على أنّهم بذلك من المجرمين.

قوله تعالى: ( وَ إِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ‏ ) عطف على قوله:( يَضْحَكُونَ ) أي كانوا إذا مرّوا بالّذين آمنوا يغمز بعضهم بعضاً و يشيرون بأعينهم استهزاءً بهم.

قوله تعالى: ( وَ إِذَا انْقَلَبُوا إِلى‏ أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ ) الفكه بالفتح فالكسر المرح البطر، و المعنى و كانوا إذا انقلبوا و صاروا إلى أهلهم عن ضحكهم و تغامزهم انقلبوا ملتذّين فرحين بما فعلوا أو هو من الفكاهة بمعنى حديث ذوي الاُنس و المعنى انقلبوا و هم يحدّثون بما فعلوا تفكّها.

قوله تعالى: ( وَ إِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ ) على سبيل الشهادة عليهم بالضلال أو القضاء عليهم و الثاني أقرب.

٣٥٥

قوله تعالى: ( وَ ما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ ) أي و ما اُرسل هؤلاء الّذين أجرموا حافظين على المؤمنين يقضون في حقّهم بما شاؤا أو يشهدون عليهم بما هووا، و هذا تهكّم بالمستهزئين.

قوله تعالى: ( فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ) المراد باليوم يوم الجزاء، و التعبير عن الّذين أجرموا بالكفّار رجوع إلى حقيقة صفتهم. قيل: تقديم الجار و المجرور على الفعل أعني( مِنَ الْكُفَّارِ ) على( يَضْحَكُونَ ) لإفادة قصر القلب، و المعنى فاليوم الّذين آمنوا يضحكون من الكفّار لا الكفّار منهم كما كانوا يفعلون في الدنيا.

قوله تعالى: ( عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ ) الثواب في الأصل مطلق الجزاء و إن غلب استعماله في الخير، و قوله( عَلَى الْأَرائِكِ ) خبر بعد خبر للّذين آمنوا و( يَنْظُرُونَ ) خبر آخر، و قوله:( هَلْ ثُوِّبَ ) إلخ متعلّق بقوله:( يَنْظُرُونَ ) قائم مقام المفعول.

و المعنى: الّذين آمنوا على سرر في الحجال ينظرون إلى جزاء الكفّار بأفعالهم الّتي كانوا يفعلونها في الدنيا من أنواع الإجرام و منها ضحكهم من المؤمنين و تغامزهم إذا مرّوا بهم و انقلابهم إلى أهلهم فكهين و قولهم: إنّ هؤلاء لضالّون.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ ) قال: فيما ذكرناه من الثواب الّذي يطلبه المؤمن.

و في المجمع: في قوله تعالى:( وَ إِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ‏ ) قيل نزلت في عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام و ذلك أنّه كان في نفر من المسلمين جاؤا إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسخر منهم المنافقون و ضحكوا و تغامزوا ثمّ رجعوا إلى أصحابهم فقالوا: رأينا اليوم الأصلع

٣٥٦

فضحكنا منه فنزلت الآية قبل أن يصل عليّ و أصحابه إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عن مقاتل و الكلبيّ.

أقول: و قد أورده في الكشّاف.

و فيه ذكر الحاكم أبوالقاسم الحسكانيّ في كتاب شواهد التنزيل لقواعد التفصيل بإسناده عن أبي صالح عن ابن عبّاس قال:( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ) منافقوا قريش و( الَّذِينَ آمَنُوا ) عليّ بن أبي طالب و أصحابه.

و في تفسير القمّيّ:( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا - إلى قوله -فَكِهِينَ ) قال: يسخرون.

٣٥٧

( سورة الانشقاق مكّيّة و هي خمس و عشرون آية)

( سورة الانشقاق الآيات ١ - ٢٥)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ ( ١ ) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ( ٢ ) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ( ٣ ) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ( ٤ ) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ( ٥ ) يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ( ٦ ) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ( ٧ ) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ( ٨ ) وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُورًا ( ٩ ) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ( ١٠ ) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ( ١١ ) وَيَصْلَىٰ سَعِيرًا ( ١٢ ) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا ( ١٣ ) إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ ( ١٤ ) بَلَىٰ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا ( ١٥ ) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ( ١٦ ) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ ( ١٧ ) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ( ١٨ ) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ ( ١٩ ) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ( ٢٠ ) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ ( ٢١ ) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ ( ٢٢ ) وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ ( ٢٣ ) فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( ٢٤ ) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ( ٢٥ )

٣٥٨

( بيان‏)

تشير السورة إلى قيام الساعة، و تذكر أنّ للإنسان سيراً إلى ربّه حتّى يلاقيه فيحاسب على ما يقتضيه كتابه و تؤكّد القول في ذلك و الغلبة فيها للإنذار على التبشير. و سياق آياتها سياق مكّي.

قوله تعالى: ( إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ ) شرط جزاؤه محذوف يدلّ عليه قوله:( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) و التقدير: لاقى الإنسان ربّه فحاسبه و جازاه على ما عمل.

و انشقاق السماء و هو تصدّعه و انفراجه من أشراط الساعة كمدّ الأرض و سائر ما ذكر في مواضع من كلامه تعالى من تكوير الشمس و اجتماع الشمس و القمر و انتثار الكواكب و نحوها.

قوله تعالى: ( وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ ) الإذن الاستماع و منه الاُذن لجارحة السمع و هو مجاز عن الانقياد و الطاعة، و( حُقَّتْ ) أي جعلت حقيقة و جديرة بأن تسمع، و المعنى و أطاعت و انقادت لربّها و كانت حقيقة و جديرة بأن تستمع و تطيع.

قوله تعالى: ( وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ) الظاهر أنّ المراد به اتّساع الأرض، و قد قال تعالى:( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ ) إبراهيم: ٤٨.

قوله تعالى: ( وَ أَلْقَتْ ما فِيها وَ تَخَلَّتْ ) أي ألقت الأرض ما في جوفها من الموتى و بالغت في الخلوّ ممّا فيها منهم.

و قيل: المراد إلقائها الموتى و الكنوز كما قال تعالى:( وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ) الزلزال: ٢.

و قيل: المعنى ألقت ما في بطنها و تخلّت ممّا على ظهرها من الجبال و البحار، و لعلّ أوّل الوجوه أقربها.

قوله تعالى: ( وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ ) ضمائر التأنيث للأرض كما أنّها في

٣٥٩

نظيرتها المتقدّمة للسماء، و قد تقدّم معنى الآية.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) قال الراغب: الكدح السعي و العناء. انتهى. ففيه معنى السير، و قيل: الكدح جهد النفس في العمل حتّى يؤثّر فيها انتهى. و على هذا فهو مضمّن معنى السير بدليل تعدّيه بإلى ففي الكدح معنى السير على أيّ حال.

و قوله:( فَمُلاقِيهِ ) عطف على( كادِحٌ ) و قد بيّن به أنّ غاية هذا السير و السعي و العناء هو الله سبحانه بما أنّ له الربوبيّة أي إنّ الإنسان بما أنّه عبد مربوب و مملوك مدبّر ساع إلى الله سبحانه بما أنّه ربّه و مالكه المدبّر لأمره فإنّ العبد لا يملك لنفسه إرادة و لا عملاً فعليه أن يريد و لا يعمل إلّا ما أراده ربّه و مولاه و أمره به فهو مسؤل عن إرادته و عمله.

و من هنا يظهر أوّلاً أنّ قوله:( إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ ) يتضمّن حجّة على المعاد لما عرفت أنّ الربوبيّة لا تتمّ إلّا مع عبوديّة و لا تتمّ العبوديّة إلّا مع مسؤليّة و لا تتمّ مسؤليّة إلّا برجوع و حساب على الأعمال و لا يتمّ حساب إلّا بجزاء.

و ثانياً: أنّ المراد بملاقاته انتهاؤه إلى حيث لا حكم إلّا حكمه من غير أن يحجبه عن ربّه حاجب.

و ثالثاً: أنّ المخاطب في الآية هو الإنسان بما أنّه إنسان فالمراد به الجنس و ذلك أنّ الربوبيّة عامّة لكلّ إنسان.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) تفصيل مترتّب على ما يلوّح إليه قوله:( إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ ) أنّ هناك رجوعاً و سؤالاً عن الأعمال و حساباً، و المراد بالكتاب صحيفة الأعمال بقرينة ذكر الحساب، و قد تقدّم الكلام في معنى إعطاء الكتاب باليمين في سورتي الإسراء و الحاقّة.

قوله تعالى: ( فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً ) الحساب اليسير ما سوهل فيه و خلا عن المناقشة.

قوله تعالى: ( وَ يَنْقَلِبُ إِلى‏ أَهْلِهِ مَسْرُوراً ) المراد بالأهل من أعدّه الله له في

٣٦٠

الجنّة من الحور و الغلمان و غيرهم و هذا هو الّذي يفيده السياق، و قيل: المراد به عشيرته المؤمنون ممّن يدخل الجنّة، و قيل المراد فريق المؤمنين و إن لم يكونوا من عشيرته فالمؤمنون إخوة. و الوجهان لا يخلوان من بعد.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ ) الظرف منصوب بنزع الخافض و التقدير من وراء ظهره، و لعلّهم إنّما يؤتون كتبهم من وراء ظهورهم لردّ وجوههم على أدبارهم كما قال تعالى:( مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى‏ أَدْبارِها ) النساء: 47.

و لا منافاة بين إيتاء كتابهم من وراء ظهورهم و بين إيتائهم بشمالهم كما وقع في قوله تعالى:( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ ) الحاقّة: 25 و سيأتي في البحث الروائيّ التالي ما ورد في الروايات من معنى إيتاء الكتاب من وراء ظهورهم.

قوله تعالى: ( فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً ) الثبور كالويل الهلاك و دعاؤهم الثبور قولهم: وا ثبوراه.

قوله تعالى: ( وَ يَصْلى‏ سَعِيراً ) أي يدخل ناراً مؤجّجة لا يوصف عذابها، أو يقاسي حرّها.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً ) يسرّه ما يناله من متاع الدنيا و تنجذب نفسه إلى زينتها و ينسيه ذلك أمر الآخرة و قد ذمّ تعالى فرح الإنسان بما يناله من خير الدنيا و سمّاه فرحاً بغير حقّ قال تعالى بعد ذكر النار و عذابها:( ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ) المؤمن: 75.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ ) أي لن يرجع و المراد الرجوع إلى ربّه للحساب و الجزاء، و لا سبب يوجبه عليهم إلّا التوغّل في الذنوب و الآثام الصارفة عن الآخرة الداعية إلى استبعاد البعث.

قوله تعالى: ( بَلى‏ إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً ) ردّ لظنّه أي ليس الأمر كما ظنّه بل يحور و يرجع، و قوله:( إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً ) تعليل للردّ المذكور فإنّ الله

٣٦١

سبحانه كان ربّه المالك له المدبّر لأمره و كان يحيط به علماً و يرى ما كان من أعماله و قد كلّفه بما كلّف و لأعماله جزاء خيراً أو شرّاً فلا بدّ أن يرجع إليه و يجزي بما يستحقّه بعمله.

و بذلك يظهر أنّ قوله:( إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً ) من إعطاء الحجّة على وجوب المعاد نظير ما تقدّم في قوله:( إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ ) الآية.

و يظهر أيضاً من مجموع هذه الآيات التسع أنّ إيتاء الكتب و نشر الصحف قبل الحساب كما يدلّ عليه أيضاً قوله تعالى:( وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى‏ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) إسراء: 14.

ثمّ الآيات كما ترى تخصّ إيتاء الكتاب من وراء الظهر بالكفّار فيقع الكلام في عصاة المؤمنين من أصحاب الكبائر ممّن يدخل النار فيمكث فيها برهة ثمّ يخرج منها بالشفاعة على ما في الأخبار من طرق الفريقين فهؤلاء لا يؤتون كتابهم من وراء ظهورهم لاختصاص ذلك بالكفّار و لا بيمينهم لظهور الآيات في أنّ أصحاب اليمين يحاسبون حساباً يسيراً و يدخلون الجنّة، و لا سبيل إلى القول بأنّهم لا يؤتون كتاباً لمكان قوله تعالى:( وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ) الآية المفيد للعموم.

و قد تخلّص بعضهم عن الإشكال بأنّهم يؤتون كتابهم باليمين بعد الخروج من النار.

و فيه أنّ ظاهر الآيات إن لم يكن صريحها أنّ دخول النار أو الجنّة فرع مترتّب على القضاء المترتب على الحساب المترتّب على إيتاء الكتب و نشر الصحف فلا معنى لإيتاء الكتاب بعد الخروج من النار.

و احتمل بعضهم أن يؤتوا كتابهم بشمالهم و يكون الإيتاء من وراء الظهر مخصوصاً بالكفّار كما تفيده الآيات.

و فيه أنّ الآيات الّتي تذكر إيتاء الكتاب بالشمال - و هي الّتي في سورة الواقعة و الحاقّة و في معناها ما في سورة الإسراء أيضاً - تخصّ إيتاء الكتاب بالشمال بالكفّار

٣٦٢

و يظهر من مجموع الآيات أنّ الّذين يؤتون كتابهم بشمالهم هم الّذين يؤتونه من وراء ظهورهم.

و قال بعضهم من الممكن أن يؤتوا كتابهم من وراء ظهورهم و يكون قوله:( فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً ) من قبيل وصف الكلّ بصفة بعض أجزائه.

و فيه أنّ المقام لا يساعد على هذا التجوّز فإنّ المقام مقام تمييز السعداء من الأشقياء و تشخيص كلّ بجزائه الخاصّ به فلا مجوّز لإدغام جمع من أهل العذاب في أهل الجنّة.

على أنّ قوله:( فَسَوْفَ يُحاسَبُ ) إلخ وعد جميل إلهيّ و لا معنى لشموله لغير مستحقّيه و لو بظاهر من القول.

نعم يمكن أن يقال: إنّ اليسر و العسر معنيان إضافيّان و حساب العصاة من أهل الإيمان يسير بالإضافة إلى حساب الكفّار المخلّدين في النار و لو كان عسيراً بالإضافة إلى حساب المتّقين.

و يمكن أيضاً أن يقال إنّ قسمة أهل الجمع إلى أصحاب اليمين و أصحاب الشمال غير حاصرة كما يدلّ عليه قوله تعالى:( وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَ أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) الواقعة: 11 فمدلول الآيات خروج المقرّبين من الفريقين، و مثلهم المستضعفون كما ربّما يستفاد من قوله تعالى:( وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ) التوبة: 106.

فمن الجائز أن لا يكون تقسيم أهل الجمع إلى أصحاب اليمين و أصحاب الشمال تقسيماً حاصراً لجميعهم بل تخصيصاً لأهل الجنّة من المتّقين و أهل الخلود في النار بالذكر بتوصيفهم بإيتاء الكتاب باليمين و بالشمال لمكان الدعوة إلى الإيمان و التقوى و نظير ذلك ما في سورة المرسلات من ذكر يوم الفصل ثمّ بيان حال المتّقين و المكذّبين فحسب و ليس ينحصر الناس في القبيلين، و نظيره ما في سورة النبإ و النازعات و عبس و الانفطار، و المطفّفين و غيرها فالغرض فيها ذكر اُنموذج من أهل الإيمان و الطاعة و أهل الكفر

٣٦٣

و التكذيب و السكوت عمّن سواهم ليتذكّر أنّ السعادة في جانب التقوى و الشقاء في جانب التمرّد و الطغوى.

قوله تعالى: ( فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ) الشفق الحمرة ثمّ الصفرة ثمّ البياض الّتي تحدث بالمغرب أوّل الليل.

قوله تعالى: ( وَ اللَّيْلِ وَ ما وَسَقَ ) أي ضمّ و جمع ما تفرّق و انتشر في النهار من الإنسان و الحيوان فإنّها تتفرّق و تنتشر بالطبع في النهار و ترجع إلى مأواها في الليل فتسكن.

و فسّر بعضهم( وسق ) بمعنى طرد أي طرد الكواكب من الخفاء إلى الظهور.

قوله تعالى: ( وَ الْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ) أي اجتمع و انضمّ بعض نوره إلى بعض فاكتمل نوره و تبدّر.

قوله تعالى: ( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ ) جواب القسم و الخطاب للناس و الطبق هو الشي‏ء أو الحال الّذي يطابق آخر سواء كان أحدهما فوق الآخر أم لا و المراد به كيف كان المرحلة بعد المرحلة يقطعها الإنسان في كدحه إلى ربّه من الحياة الدنيا ثمّ الموت ثمّ الحياة البرزخيّة ثمّ الانتقال إلى الآخرة ثمّ الحياة الآخرة ثمّ الحساب و الجزاء.

و في هذا الإقسام - كما ترى - تأكيد لما في قوله:( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ ) الآية و ما بعده من نبإ البعث و توطئة و تمهيد لما في قوله:( فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) من التعجيب و التوبيخ و ما في قوله:( فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ ) إلخ من الإنذار و التبشير.

و في الآية إشارة إلى أنّ المراحل الّتي يقطعها الإنسان في مسيره إلى ربّه مترتّبة متطابقة.

قوله تعالى: ( فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَ إِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ ) الاستفهام للتعجيب و التوبيخ و لذا ناسب الالتفات الّذي فيه من الخطاب إلى الغيبة كأنّه لمّا رأى أنّهم لا يتذكّرون بتذكيره و لا يتّعظون بعظته أعرض عنهم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخاطبه بقوله:( فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) إلخ.

٣٦٤

قوله تعالى: ( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ وَ اللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ ) ( يُكَذِّبُونَ ) يفيد الاستمرار، و التعبير عنهم بالّذين كفروا للدلالة على علّة التكذيب، و الإيعاء كما قيل جعل الشي‏ء في وعاء.

و المعنى: أنّهم لم يتركوا الإيمان لقصور في البيان أو لانقطاع من البرهان لكنّهم اتّبعوا أسلافهم و رؤساءهم فرسخوا في الكفر و استمرّوا على التكذيب و الله يعلم بما جمعوا في صدورهم و أضمروا في قلوبهم من الكفر و الشرك.

و قيل: المراد بقوله:( وَ اللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ ) أنّ لهم وراء التكذيب مضمرات في قلوبهم لا يحيط بها العبارة و لا يعلمها إلّا الله، و هو بعيد من السياق.

قوله تعالى: ( فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) التعبير عن الإخبار بالعذاب بالتبشير مبنيّ على التهكّم، و الجملة متفرّعة على التكذيب.

قوله تعالى: ( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) استثناء منقطع من ضمير( فَبَشِّرْهُمْ ) و المراد بكون أجرهم غير ممنون خلوّه من قول يثقل على المأجور.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ ) قال: يوم القيامة.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن عليّ قال تنشقّ السماء من المجرّة.

و في تفسير القمّيّ: في قوله:( وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَ أَلْقَتْ ما فِيها وَ تَخَلَّتْ ) قال: تمدّ الأرض فتنشقّ فيخرج الناس منها.

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم بسند جيّد عن جابر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: تمدّ الأرض يوم القيامة مدّ الأديم ثمّ لا يكون لابن آدم منها إلّا موضع قدميه.

و في الاحتجاج، عن عليّعليه‌السلام في حديث قال و الناس يومئذ على صفات و منازل فمنهم من يحاسب حساباً يسيراً و ينقلب إلى أهله مسروراً، و منهم الّذين يدخلون الجنّة بغير حساب لأنّهم لم يلبسوا من أمر الدنيا بشي‏ء و إنّما الحساب هناك على من

٣٦٥

يلبس بها ههنا، و منهم من يحاسب على النقير و القطمير و يصير إلى عذاب السعير.

و في المعاني، بإسناده عن ابن سنان عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّ محاسب معذّب فقال له قائل: يا رسول الله فأين قول الله عزّوجلّ:( فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً ) قال: ذلك العرض يعني التصفّح.

أقول: و روي في الدرّ المنثور، عن البخاريّ و مسلم و الترمذيّ و غيرهم عن عائشة: مثله.

و في تفسير القمّيّ، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) فهو أبوسلمة عبدالله بن عبدالأسود بن هلال المخزوميّ و هو من بني مخزوم،( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ ) فهو أخوه الأسود بن عبدالأسود المخزوميّ فقتله حمزة بن عبدالمطّلب يوم بدر.

و في المجمع: في قوله تعالى:( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ ) و قيل: معناه شدّة بعد شدّة حياة ثمّ موت ثمّ بعث ثمّ جزاء: و روي ذلك مرفوعاً.

و عن جوامع الجامع، في الآية عن أبي عبيدة: لتركبنّ سنن من كان قبلكم من الأوّلين و أحوالهم: و روي ذلك عن الصادقعليه‌السلام .

٣٦٦

( سورة البروج مكّيّة و هي اثنتان و عشرون آية)

( سورة البروج الآيات 1 - 22)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ( 1 ) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ( 2 ) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ( 3 ) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ( 4 ) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ( 5 ) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ( 6 ) وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ( 7 ) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ( 8 ) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( 9 ) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ( 10 ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ( 11 ) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ( 12 ) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ( 13 ) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ( 14 ) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ( 15 ) فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ( 16 ) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ ( 17 ) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ ( 18 ) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ ( 19 ) وَاللهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ ( 20 ) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ ( 21 ) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ( 22 )

٣٦٧

( بيان‏)

سورة إنذار و تبشير فيها وعيد شديد للّذين يفتنون المؤمنين و المؤمنات لإيمانهم بالله كما كان المشركون من أهل مكّة يفعلون ذلك بالّذين آمنوا بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيعذّبونهم ليرجعوا إلى شركهم السابق فمنهم من كان يصبر و لا يرجع بلغ الأمر ما بلغ، و منهم من رجع و ارتدّ و هم ضعفاء الإيمان كما يشير إلى ذلك قوله تعالى:( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ ) العنكبوت: 10، و قوله:( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى‏ حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى‏ وَجْهِهِ ) الحجّ: 11.

و قد قدّم سبحانه على ذلك الإشارة إلى قصّة أصحاب الاُخدود، و فيه تحريض المؤمنين على الصبر في جنب الله تعالى، و أتبعها بالإشارة إلى حديث الجنود فرعون و ثمود و فيه تطييب لنفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوعد النصر و تهديد للمشركين.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( وَ السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ ) البروج جمع برج و هو الأمر الظاهر و يغلب استعماله في القصر العالي لظهوره على الناظرين و يسمّى البناء المعمول على سور البلد للدفاع برجاً و هو المراد في الآية لقوله تعالى:( وَ لَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَ زَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ وَ حَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ ) الحجر: 17، فالمراد بالبروج مواضع الكواكب من السماء.

و بذلك يظهر أنّ تفسير البروج بالبروج الاثني عشر المصطلح عليها في علم النجوم غير سديد.

و في الآية إقسام بالسماء المحفوظة بالبروج، و لا يخفى مناسبته لما سيشار إليه من القصّة ثمّ الوعيد و الوعد و سنشير إليه.

قوله تعالى: ( وَ الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ) عطف على السماء و إقسام باليوم الموعود و هو يوم القيامة الّذي وعد الله القضاء فيه بين عباده.

٣٦٨

قوله تعالى: ( وَ شاهِدٍ وَ مَشْهُودٍ ) معطوفان على السماء و الجميع قسم بعد قسم على ما اُريد بيانه في السورة و هو - كما تقدّمت الإشارة إليه - الوعيد الشديد لمن يفتن المؤمنين و المؤمنات لإيمانهم و الوعد الجميل لمن آمن و عمل صالحاً.

فكأنّه قيل: اُقسم بالسماء ذات البروج الّتي يدفع الله بها عنها الشياطين إنّ الله يدفع عن إيمان المؤمنين كيد الشياطين و أوليائهم من الكافرين، و اُقسم باليوم الموعود الّذي يجزي فيه الناس بأعمالهم، و اُقسم بشاهد يشهد و يعاين أعمال اُولئك الكفّار و ما يفعلونه بالمؤمنين لإيمانهم بالله و اُقسم بمشهود سيشهده الكلّ و يعاينونه إنّ الّذين فتنوا المؤمنين و المؤمنات، إلى آخر الآيتين.تين.

و من هنا يظهر أنّ الشهادة في( شاهِدٍ ) و( مَشْهُودٍ ) بمعنى واحد و هو المعاينة بالحضور، على أنّها لو كانت بمعنى تأدية الشهادة لكان حقّ التعبير( و مشهود عليه) لأنّها بهذا المعنى إنّما تتعدّى بعلى.

و على هذا يقبل( شاهِدٍ ) الانطباق على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لشهادته أعمال اُمّته ثمّ يشهد عليها يوم القيامة، و يقبل( مَشْهُودٍ ) الانطباق على تعذيب الكفّار لهؤلاء المؤمنين و ما فعلوا بهم من الفتنة و إن شئت فقل: على جزائه و إن شئت فقل: على ما يقع يوم القيامة من العقاب و الثواب لهؤلاء الظالمين و المظلومين، و تنكير( مَشْهُودٍ ) و( وَ شاهِدٍ ) على أيّ حال للتفخيم.

و لهم في تفسير شاهد و مشهود أقاويل كثيرة أنهاها بعضهم إلى ثلاثين كقول بعضهم إنّ الشاهد يوم الجمعة و المشهود يوم عرفة، و القول بأنّ الشاهد يوم النحر و المشهود يوم عرفة، و القول بأنّ الشاهد يوم عرفة و المشهود يوم القيامة، و القول بأنّ الشاهد الملك يشهد على بني آدم و المشهود يوم القيامة، و القول بأنّ الشاهد الّذين يشهدون على الناس و المشهود الّذين يشهد عليهم.

و القول بأنّ الشاهد هذه الاُمّة و المشهود سائر الاُمم، و القول بأنّ الشاهد أعضاء بني آدم و المشهود أنفسهم و القول بأنّ الشاهد الحجر الأسود و المشهود الحاجّ و القول بأنّ الشاهد الأيّام و اللّيالي و المشهود بنو آدم، و القول بأنّ الشاهد الأنبياء و المشهود

٣٦٩

محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و القول بأنّ الشاهد هو الله و المشهود لا إله إلّا الله.

و القول بأنّ الشاهد الخلق و المشهود الحقّ، و القول بأنّ الشاهد هو الله و المشهود يوم القيامة، و القول بأنّ الشاهد آدم و ذرّيّته و المشهود يوم القيامة، و القول بأنّ الشاهد يوم التروية و المشهود يوم عرفة، و القول بأنّها يوم الإثنين و يوم الجمعة، و القول بأنّ الشاهد: المقرّبون و المشهود علّيّون، و القول بأنّ الشاهد هو الطفل الّذي قال لاُمّه في قصّة الاُخدود: اصبري فإنّك على الحقّ و المشهود الواقعة، و القول بأنّ الشاهد الملائكة المتعاقبون لكتابة الأعمال و المشهود قرآن الفجر إلى غير ذلك من أقوالهم.

و أكثر هذه الأقوال - كما ترى - مبنيّ على أخذ الشهادة بمعنى أداء ما حمّل من الشهادة و بعضها على تفريق بين الشاهد و المشهود في معنى الشهادة و قد عرفت ضعفه، و أنّ الأنسب للسياق أخذها بمعنى المعاينة و إن استلزم الشهادة بمعنى الأداء يوم القيامة، و أنّ الشاهد يقبل الانطباق على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

كيف لا؟ و قد سمّاه الله تعالى شاهداً إذ قال:( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً ) الأحزاب: 45، و سمّاه شهيداً إذ قال:( لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ ) الحجّ: 78، و قد عرفت معنى شهادة الأعمال من شهدائها فيما مرّ.

ثمّ إنّ جواب القسم محذوف يدلّ عليه قوله:( إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ ) إلى تمام آيتين، و يشعر به أيضاً قوله:( قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ ) إلخ و هو وعيد الفاتنين و وعد المؤمنين الصالحين و أنّ الله يوفقهم على الصبر و يؤيّدهم على حفظ إيمانهم من كيد الكائدين أن أخلصوا كما فعل بالمؤمنين في قصّة الاُخدود.

قوله تعالى: ( قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ ) إشارة إلى قصّة الاُخدود لتكون توطئة و تمهيداً لما سيجي‏ء من قوله:( إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا ) إلخ و ليس جواباً للقسم البتّة.

و الاُخدود الشقّ العظيم في الأرض، و أصحاب الاُخدود هم الجبابرة الّذين خدّوا اُخدوداً و أضرموا فيها النار و أمروا المؤمنين بدخولها فأحرقوهم عن آخرهم

٣٧٠

نقماً منهم لإيمانهم.

فقوله:( قُتِلَ ) إلخ دعاء عليهم و المراد بالقتل اللعن و الطرد.

و قيل: المراد بأصحاب الاُخدود المؤمنون و المؤمنات الّذين اُحرقوا فيه، و قوله:( قُتِلَ ) إخبار عن قتلهم بالإحراق و ليس من الدعاء في شي‏ء. و يضعّفه ظهور رجوع الضمائر في قوله:( إِذْ هُمْ عَلَيْها ) و( هُمْ عَلى‏ ما يَفْعَلُونَ ) و( ما نَقَمُوا ) إلى أصحاب الاُخدود، و المراد بها و خاصّة بالثاني و الثالث الجبابرة الناقمون دون المؤمنين المعذّبين.

قوله تعالى: ( النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ ) بدل من الاُخدود، و الوقود ما يشعل به النار من حطب و غيره، و في توصيف النار بذات الوقود إشارة إلى عظمة أمر هذه النار و شدّة اشتعالها و أجيجها.

قوله تعالى: ( إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ ) أي في حال اُولئك الجبابرة قاعدون في أطراف النار المشرفة عليها.

قوله تعالى: ( وَ هُمْ عَلى‏ ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ) أي حضور ينظرون و يشاهدون إحراقهم و احتراقهم.

قوله تعالى: ( وَ ما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ ) النقم بفتحتين الكراهة الشديدة أي ما كرهوا من اُولئك المؤمنين إلّا إيمانهم بالله فأحرقوهم لأجل إيمانهم.

قوله تعالى: ( الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ ) أوصاف جارية على اسم الجلالة تشير إلى الحجّة على أنّ اُولئك المؤمنين كانوا على الحقّ في إيمانهم مظلومين فيما فعل بهم لا يخفى حالهم على الله و سيجزيهم خير الجزاء، و على أنّ اُولئك الجبابرة كانوا على الباطل مجترين على الله ظالمين فيما فعلوا و سيذوقون وبال أمرهم.

و ذلك أنّه تعالى هو الله العزيز الحميد أي الغالب غير المغلوب على الإطلاق و الجميل في فعله على الإطلاق فله وحده كلّ الجلال و الجمال فمن الواجب أن يخضع

٣٧١

له و أن لا يتعرّض لجانبه، و إذ كان له ملك السماوات و الأرض فهو المليك على الإطلاق له الأمر و له الحكم فهو ربّ العالمين فمن الواجب أن يتّخذ إلهاً معبوداً و لا يشرك به أحد فالمؤمنون به على الحقّ و الكافرون في ضلال.

ثمّ إنّ الله - و هو الموجد لكلّ شي‏ء - على كلّ شي‏ء شهيد لا يخفى عليه شي‏ء من خلقه و لا عمل من أعمال خلقه و لا يحتجب عنه إحسان محسن و لا إساءة مسي‏ء فسيجزي كلّاً بما عمل.

و بالجملة إذ كان تعالى هو الله المتّصف بهذه الصفات الكريمة كان على هؤلاء المؤمنين أن يؤمنوا به و لم يكن لاُولئك الجبابرة أن يتعرّضوا لحالهم و لا أن يمسّوهم بسوء.

و قال بعض المفسّرين في توجيه إجراء الصفات في الآية: إنّ القوم إن كانوا مشركين فالّذي كانوا ينقمونه من المؤمنين و ينكرونه عليهم لم يكن هو الإيمان بالله تعالى بل نفي ما سواه من معبوداتهم الباطلة، و إن كانوا معطّلة فالمنكر عندهم ليس إلّا إثبات معبود غير معهود لهم لكن لمّا كان مآل الأمرين إنكار المعبود الحقّ الموصوف بصفات الجلال و الإكرام عبّر بما عبّر بإجراء الصفات عليه تعالى.

و فيه غفلة عن أنّ المشركين و هم الوثنيّة ما كانوا ينسبون إلى الله تعالى إلّا الصنع و الإيجاد. و أمّا الربوبيّة الّتي تستتبع التدبير و الاُلوهيّة الّتي تستوجب العبادة فكانوا يقصرونها في أربابهم و آلهتهم فيعبدونها دون الله سبحانه، فليس له تعالى عندهم إلّا أنّه ربّ الأرباب و إله الآلهة لا غير.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَ لَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ ) الفتنة المحنة و التعذيب،( و الَّذِينَ فَتَنُوا ) إلخ عامّ يشمل أصحاب الاُخدود و مشركي قريش الّذين كانوا يفتنون من آمن بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المؤمنين و المؤمنات بأنواع من العذاب ليرجعوا عن دينهم.

قال في المجمع: يسأل فيقال: كيف فصّل بين عذاب جهنّم و عذاب الحريق و هما واحد؟ اُجيب عن ذلك بأنّ المراد لهم أنواع العذاب في جهنّم سوى الإحراق

٣٧٢

مثل الزّقّوم و الغسلين و المقامع و لهم مع ذلك الإحراق بالنار انتهى.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ) وعد جميل للمؤمنين يطيّب به نفوسهم كما أنّ ما قبله وعيد شديد للكفّار الفاتنين المعذّبين.

قوله تعالى: ( إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ) الآية إلى تمام سبع آيات تحقيق و تأكيد لما تقدّم من الوعيد و الوعد، و البطش - كما ذكره الراغب - تناول الشي‏ء بصولة.

و في إضافة البطش إلى الربّ و إضافة الربّ إلى الكاف تطييب لنفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتأييد و النصر، و إشارة إلى أنّ لجبابرة اُمّته نصيباً من الوعيد المتقدّم.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَ يُعِيدُ ) المقابلة بين المبدئ و المعيد يعطي أنّ المراد بالإبداء البدء، و الافتتاح بالشي‏ء، قالوا: و لم يسمع من العرب الإبداء لكن القراءة ذلك و في بعض القراءات الشاذّة يبدأ بفتح الياء و الدال.

و على أيّ حال فالآية تعليل لشدّة بطشه تعالى و ذلك أنّه تعالى مبدئ يوجد ما يريده من شي‏ء إيجاداً ابتدائياً من غير أن يستمدّ على ذلك من شي‏ء غير نفسه، و هو تعالى يعيد كلّ ما كان إلى ما كان و كلّ حال فاتته إلى ما كانت عليه قبل الفوت فهو تعالى لا يمتنع عليه ما أراد و لا يفوته فائت زائل و إذ كان كذلك فهو القادر على أن يحمل على العبد المتعدّي حدّه، من العذاب ما هو فوق حدّه و وراء طاقته و يحفظه على ما هو عليه ليذوق العذاب قال تعالى:( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى‏ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها ) فاطر: 36.

و هو القادر على أن يعيد ما أفسده العذاب إلى حالته الاُولى ليذوق المجرم بذلك العذاب من غير انقطاع قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ ) النساء: 56.

و بهذا البيان يتّضح:

أوّلاً: أنّ سياق قوله:( إِنَّهُ هُوَ ) إلخ يفيد القصر أي إنّ إبداع الوجود

٣٧٣

و إعادته لله سبحانه وحده إذ الصنع و الإيجاد ينتهي إليه تعالى وحده.

و ثانياً: أنّ حدود الأشياء إليه تعالى و لو شاء أن لا يحدّ لم يحدّ أو بدّل حدّاً من آخر فهو الّذي حدّ العذاب و الفتنة في الدنيا بالموت و الزوال و لو لم يشأ لم يحدّ كما في عذاب الآخرة.

و ثالثاً: أنّ المراد من شدّة البطش - و هو الأخذ بعنف - أن لا دافع لأخذه و لا رادّ لحكمه كيفما حكم إلّا أن يحول بين حكمه و متعلّقه حكم آخر منه يقيّد الأوّل.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ) أي كثير المغفرة و المودّة ناظر إلى وعد المؤمنين كما أنّ قوله:( إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ ) إلخ ناظر إلى وعيد الكافرين.

قوله تعالى: ( ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ) العرش عرش الملك، و ذوالعرش كناية عن الملك أي هو ملك له أن يتصرّف في مملكته كيفما تصرّف و يحكم بما شاء و المجيد صفة من المجد و هو العظمة المعنوية و هي كمال الذات و الصفات، و قوله:( فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ) أي لا يصرفه عمّا أراده صارف لا من داخل لضجر و كسل و ملل و تغيّر إرادة و غيرها و لا من خارج لمانع يحول بينه و بين ما أراد.

فله تعالى أن يوعد الّذين فتنوا المؤمنين و المؤمنات بالنار و يعد الّذين آمنوا و عملوا الصالحات بالجنّة لأنّه ذو العرش المجيد و لن يخلف وعده لأنّه فعّال لما يريد.

قوله تعالى: ( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَ ثَمُودَ ) تقرير لما تقدّم من شدّة بطشه تعالى و كونه ملكاً مجيداً فعّالاً لما يريد، و فيه تسلية للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تطييب لنفسه الشريفة بالإشارة إلى حديثهم، و معنى الآيتين ظاهر.

قوله تعالى: ( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ ) لا يبعد أن يستفاد من السياق كون المراد بالّذين كفروا هم قوم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في الآية إضراب عمّا تقدّم من الموعظة و الحجّة من حيث الأثر، و المعنى لا ينبغي أن يرجى منهم الإيمان بهذه الآيات البيّنات فإنّ الّذين كفروا مصرّون على

٣٧٤

تكذيبهم لا ينتفعون بموعظة أو حجّة.

و من هنا ظهر أنّ المراد بكون الّذين كفروا في تكذيب أي بظرفيّة التكذيب لهم إصرارهم عليه.

قوله تعالى: ( وَ اللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ ) وراء الشي‏ء الجهات الخارجة منه المحيطة به. إشارة إلى أنّهم غير معجزين لله سبحانه فهو محيط بهم قادر عليهم من كلّ جهة، و فيه أيضاً تطييب لنفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و عن بعضهم أنّ في قوله:( مِنْ وَرائِهِمْ ) تلويحاً إلى أنّهم اتّخذوا الله وراءهم ظهريّا، و هو مبنيّ على أخذ وراء بمعنى خلف.

قوله تعالى: ( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ) إضراب عن إصرارهم على تكذيب القرآن، و المعنى ليس الأمر كما يدّعون بل القرآن كتاب مقروّ عظيم في معناه غزير في معارفه في لوح محفوظ عن الكذب و الباطل مصون من مسّ الشياطين.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن جابر بن عبدالله أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن( السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ ) فقال: الكواكب، و سئل عن( الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً ) فقال: الكواكب. قيل:( بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ) فقال: قصور.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و الترمذيّ و ابن أبي الدنيا في الاُصول و ابن جرير و ابن المنذر و ابن حاتم و ابن مردويه و البيهقيّ في سننه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اليوم الموعود يوم القيامة و اليوم المشهود يوم عرفة و الشاهد يوم الجمعة. الحديث.

أقول: و روي مثله بطرق اُخرى عن أبي مالك و سعيد بن المسيّب و جبير بن مطعم عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و لفظ الأخير: الشاهد يوم الجمعة و المشهود يوم عرفة.

٣٧٥

و روي هذا اللفظ عن عبدالرزّاق و الفاريابيّ و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن عليّ بن أبي طالب.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن عليّ قال: اليوم الموعود يوم القيامة، و الشاهد يوم الجمعة، و المشهود يوم النحر.

و في المجمع، روي: أنّ رجلاً دخل مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإذا رجل يحدّث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال: فسألته عن الشاهد و المشهود فقال: نعم الشاهد يوم الجمعة و المشهود يوم عرفة، فجزته إلى آخر يحدّث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسألته عن ذلك فقال: أمّا الشاهد فيوم الجمعة و أمّا المشهود فيوم النحر.

فجزتهما إلى غلام كأنّ وجهه الدينار و هو يحدّث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت: أخبرني عن شاهد و مشهود فقال: نعم أمّا الشاهد فمحمّد و أمّا المشهود فيوم القيامة أ ما سمعت الله سبحانه يقول:( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً ) و قال:( ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ) .

فسألت عن الأوّل فقالوا: ابن عبّاس، و سألت عن الثاني فقالوا: ابن عمرو، و سألت عن الثالث فقالوا: الحسن بن علي.

أقول: و الحديث مرويّ بطرق مختلفة و ألفاظ متقاربة و قد تقدّم في تفسير الآية أنّ ما ذكرهعليه‌السلام أظهر بالنظر إلى سياق الآيات، و إن كان لفظ الشاهد و المشهود لا يأبى الانطباق على غيره أيضاً بوجه.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ ) قال: كان سببه أنّ الّذي هيّج الحبشة على غزوة اليمن ذو نواس و هو آخر من ملك من حمير تهوّد و اجتمعت معه حمير على اليهوديّة و سمّى نفسه يوسف و أقام على ذلك حيناً من الدهر.

ثمّ اُخبر أنّ بنجران بقايا قوم على دين النصرانيّة و كانوا على دين عيسى و حكم الإنجيل، و رأس ذلك الدين عبد الله بن بريامن فحمله أهل دينه على أن يسير إليهم و يحملهم على اليهوديّة و يدخلهم فيها فسار حتّى قدم نجران فجمع من كان

٣٧٦

بها على دين النصرانيّة ثمّ عرض عليهم دين اليهوديّة و الدخول فيها فأبوا عليه فجادلهم و عرض عليهم و حرص الحرص كلّه فأبوا عليه و امتنعوا من اليهوديّة و الدّخول فيها و اختاروا القتل.

فاتّخذ لهم اُخدوداً و جمع فيه الحطب و أشعل فيه النار فمنهم من اُحرق بالنار و منهم من قتل بالسيف و مثل بهم كلّ مثلة فبلغ عدد من قتل و اُحرق بالنار عشرين ألفاً و أفلت منهم رجل يدعى دوش ذو ثعلبان على فرس له ركضة، و اتّبعوه حتّى أعجزهم في الرمل، و رجع ذو نواس إلى صنيعه في جنوده فقال الله:( قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ - إلى قوله -الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) .

و في المجمع، و روى سعيد بن جبير قال: لمّا انهزم أهل إسفندهان قال عمر بن الخطّاب: ما هم يهود و لا نصارى و لا لهم كتاب و كانوا مجوساً فقال عليّ بن أبي طالب: بلى قد كان لهم كتاب رفع.

و ذلك أنّ ملكاً لهم سكر فوقع على ابنته - أو قال: على اُخته - فلمّا أفاق قال لها: كيف المخرج ممّا وقعت فيه؟ قالت: تجمع أهل مملكتك و تخبرهم أنّك ترى نكاح البنات و تأمرهم أن يحلّوه فجمعهم فأخبرهم فأبوا أن يتابعوه فخدّ لهم اُخدوداً في الأرض، و أوقد فيه النيران و عرضهم عليها فمن أبى قبول ذلك قذفه في النار، و من أجاب خلّى سبيله.

أقول: و روي هذا المعنى في الدرّ المنثور، عن عبد بن حميد عنهعليه‌السلام .

و عن تفسير العيّاشيّ، بإسناده عن جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: أرسل عليّعليه‌السلام إلى اُسقفّ نجران يسأله عن أصحاب الاُخدود فأخبره بشي‏ء فقالعليه‌السلام : ليس كما ذكرت و لكن ساُخبرك عنهم:

إنّ الله بعث رجلاً حبشيّاً نبيّاً و هم حبشيّة فكذّبوه فقاتلهم فقتلوا أصحابه فأسروه و أسروا أصحابه ثمّ بنوا له حيراً ثمّ ملؤه ناراً ثمّ جمعوا الناس فقالوا: من كان على ديننا و أمرنا فليعتزل، و من كان على دين هؤلاء فليرم نفسه في النار فجعل أصحابه يتهافتون في النار فجاءت امرأة معها صبيّ لها ابن شهر فلمّا هجمت هابت و

٣٧٧

رقّت على ابنها فنادى الصبيّ: لا تهابي و ارميني و نفسك في النار فإنّ هذا و الله في الله قليل، فرمت بنفسها في النار و صبيّها، و كان ممّن تكلّم في المهد.

أقول: و روي هذا المعنى في الدرّ المنثور، عن ابن مردويه عن عبدالله بن نجي عنهعليه‌السلام ، و روي أيضاً عن ابن أبي حاتم من طريق عبدالله بن نجي عنهعليه‌السلام قال: كان نبيّ أصحاب الاُخدود حبشيّاً.

و روي أيضاً عن ابن أبي حاتم و ابن المنذر من طريق الحسن عنهعليه‌السلام في قوله تعالى:( أَصْحابُ الْأُخْدُودِ ) قال: هم الحبشة.

و لا يبعد أن يستفاد أنّ حديث أصحاب الاُخدود وقائع متعدّدة وقعت بالحبشة و اليمن و العجم و الإشارة في الآية إلى جميعها و هناك روايات تقصّ القصّة مع السكوت عن محلّ وقوعها.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ) قال: اللوح المحفوظ له طرفان طرف على يمين العرش على جبين إسرافيل فإذا تكلّم الربّ جلّ ذكره بالوحي ضرب اللّوح جبين إسرافيل فنظر في اللّوح فيوحي بما في اللّوح إلى جبرئيل.

و في الدرّ المنثور، أخرج أبوالشيخ و ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خلق الله لوحاً من درّة بيضاء دفّتاه من زبرجدة خضراء كتابه من نور يلحظ إليه في كلّ يوم ثلاث مائة و ستّين لحظة يحيي و يميت و يخلق و يرزق و يعزّ و يذلّ و يفعل ما يشاء.

أقول: و الروايات في صفة اللوح كثيرة مختلفة و هي على نوع من التمثيل.

٣٧٨

( سورة الطارق مكّيّة و هي سبع عشرة آية)

( سورة الطارق الآيات 1 - 17)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ( 1 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ( 2 ) النَّجْمُ الثَّاقِبُ ( 3 ) إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ( 4 ) فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ ( 5 ) خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ ( 6 ) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ( 7 ) إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ( 8 ) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ( 9 ) فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ ( 10 ) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ ( 11 ) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ( 12 ) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ( 13 ) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ( 14 ) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ( 15 ) وَأَكِيدُ كَيْدًا ( 16 ) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ( 17 )

( بيان‏)

في السورة إنذار بالمعاد و تستدلّ عليه بإطلاق القدرة و تؤكّد القول في ذلك، و فيها إشارة إلى حقيقة اليوم، و تختتم بوعيد الكفّار.

و السورة ذات سياق مكّيّ.

قوله تعالى: ( وَ السَّماءِ وَ الطَّارِقِ وَ ما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ ) الطرق في الأصل - على ما قيل - هو الضرب بشدّة يسمع له صوت و منه المطرقة و الطريق لأنّ السابلة تطرقها بأقدامها ثمّ شاع استعماله في سلوك الطريق ثمّ اختصّ بالإتيان ليلاً لأنّ الآتي بالليل في الغالب يجد الأبواب مغلقة فيطرقها و يدقّها ثمّ شاع الطارق

٣٧٩

في كلّ ما يظهر ليلاً، و المراد بالطارق في الآية النجم الّذي يطلع بالليل.

و الثقب في الأصل بمعنى الخرق ثمّ صار بمعنى النيّر المضي‏ء لأنّه يثقب الظلام بنوره و يأتي بمعنى العلوّ و الارتفاع و منه ثقب الطائر أي ارتفع و علا كأنّه يثقب الجوّ بطيرانه.

فقوله:( وَ السَّماءِ وَ الطَّارِقِ ) إقسام بالسماء و بالنجم الطالع ليلاً، و قوله:( وَ ما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ ) تفخيم لشأن المقسم به و هو الطارق، و قوله:( النَّجْمُ الثَّاقِبُ ) بيان للطارق و الجملة في معنى جواب استفهام مقدّر كأنّه لمّا قيل: و ما أدراك ما الطارق؟ سئل فقيل: فما هو الطارق؟ فاُجيب، و قيل: النجم الثاقب.

قوله تعالى: ( إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ ) جواب للقسم و لمّا بمعنى إلّا و المعنى ما من نفس إلّا عليها حافظ، و المراد من قيام الحافظ على حفظها كتابة أعمالها الحسنة و السيّئة على ما صدرت منها ليحاسب عليها يوم القيامة و يجزي بها فالحافظ هو الملك و المحفوظ العمل كما قال تعالى:( وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونََ ) الانفطار: 12.

و لا يبعد أن يكون المراد من حفظ النفس حفظ ذاتها و أعمالها، و المراد بالحافظ جنسه فتفيد أنّ النفوس محفوظة لا تبطل بالموت و لا تفسد حتّى إذا أحيا الله الأبدان أرجع النفوس إليها فكان الإنسان هو الإنسان الدنيويّ بعينه و شخصه ثمّ يجزيه بما يقتضيه أعماله المحفوظة عليه من خير أو شرّ.

و يؤيّد ذلك كثير من الآيات الدالّة على حفظ الأشياء كقوله تعالى:( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) الم السجدة: 11، و قوله:( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى‏ عَلَيْهَا الْمَوْتَ ) الزمر: 42.

و لا ينافي هذا الوجه ظاهر آية الانفطار السابقة من أنّ حفظ الملائكة هو الكتابة فإنّ حفظ نفس الإنسان أيضاً من الكتابة على ما يستفاد من قوله:( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) الجاثية: 29 و قد تقدّمت الإشارة إليه.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568