الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن10%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219949 / تحميل: 7014
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

فتحصّنوا عنه بالحصون، وتمادى بهم التحصّن قريباً من سنة ونصف حتّى ظهر فيهم القحط والوباء.

وأصرّ بخت نصّر على المحاصرة حتّى فتح الحصون، وذلك في سنة خمسمائة وستّ وثمانين قبل المسيح، وقتل نفوسهم، وخرب ديارهم وخرّبوا بيت الله وأفنوا كلّ آية وعلامة دينيّة وبدّلوا هيكلهم تلّاً من تراب، وفقدت عند ذلك التوراة والتابوت الّذي كانت تجعل فيه.

وبقى الأمر على هذا الحال خمسين سنة تقريباً وهم قاطنون ببابل وليس من كتابهم عين ولا أثر ولا من مسجدهم وديارهم إلّا تلال ورياع.

ثمّ لمّا جلس كورش من ملوك فارس على سرير الملك وكان من أمره مع البابليّين ما كان وفتح بابل ودخله أطلق اُسراء بابل من بني اسرائيل وكان عزرا المعروف من المقرّبين عنده فأمّره عليهم وأجاز له أن يكتب لهم كتابهم التوراة ويبني لهم الهيكل ويعيدهم إلى سيرتهم الاُولى وكان رجوع عزرا بهم إلى بيت المقدس سنة أربعمائة وسبعة وخمسين قبل المسيح وبعد ذلك جمع عزرا كتب العهد العتيق وصحّحها وهي التوراة الدائرة اليوم(١) .

وأنت ترى بعد التدبّر في القصّة أنّ سند التوراة الدائرة اليوم مقطوعة غير متّصلة بموسى (عليه السلام) إلّا بواحد (وهو عزرا) لا نعرفه أوّلاً ولا نعرف كيفيّة اطّلاعه وتعمّقه ثانياً ولا نعرف مقدار أمانته ثالثاً، ولا نعرف من أين أخذ ما جمعه من أسفار التوراة رابعاً، ولا ندري بالاستناد إلى أيّ مستند صحّح الأغلاط الواقعة أو الدائرة خامساً.

وقد أعقبت هذه الحادثة المشئومة أثراً مشئوماً آخر وهو إنكار عدّة من باحثي المورّخين من الغربيّين وجود موسى وما يتبعه، وقولهم: إنّه شخص خياليّ كما قيل

____________________

(١) مأخوذ من قاموس الكتاب المقدّس تأليف مستر هاكس الامريكائي الهمداني ومآخذ اُخرى من التواريخ.

٣٤١

نظيره في المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام. لكنّ ذلك لا يسع لمسلم فإنّ القرآن الشريف يصرّح بوجوده (عليه السلام) وينصّ عليه.

٢ - قصّة المسيح والإنجيل:

اليهود مهتمون بتاريخ قوميّتهم وضبط الحوادث الظاهرة في الأعصار الّتي مرّت بهم، ومع ذلك فإنّك لو تتبّعت كتبهم ومسفوراتهم لم تعثر فيها على ذكر المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام): لا على كيفيّة ولادته ولا على ظهوره ودعوته ولا على سيرته والآيات الّتي أظهرها الله على يديه ولا على خاتمة حياته من موت أو قتل أو صلب أو غير ذلك. فما هو السبب في ذلك؟ وما هو الّذي أوجب خفاء أمره عليهم أو إخفائهم أمره؟

والقرآن يذكر عنهم أنّهم قذفوا مريم ورموها بالبهتان في ولادة عيسى، وأنّهم ادّعوا قتل عيسى. قال تعالى:( وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم وإنّ الّذين اختلفوا فيه لفي شكّ منه ما لهم به من علم إلّا اتّباع الظنّ وما قتلوه يقيناً ) النساء - ١٥٧.

فهل كانت دعواهم تلك مستندة إلى حديث دائر بينهم كانوا يذكرونه بين قصصهم القوميّة من غير أن يكون مودعاً في كتاب؟ وعند كلّ اُمّة أحاديث دائرة من واقعيّات وأساطير لا اعتبار بها ما لم تنته إلى مآخذ صحيحة قويمة.

أو أنّهم سمعوا من النصارى الذكر المكرّر من المسيح وولادته وظهوره ودعوته فأخذوا ذلك من أفواههم وباهتوا مريم، وادّعوا قتل المسيح؟ لا طريق إلى استبانة شئ من ذلك غير أنّ القرآن - كما يظهر بالتدبّر في الآية السابقة - لا ينسب إليهم صريحاً إلّا دعوى القتل دون الصلب، ويذكر أنّهم على ريب من الأمر وأنّ هناك اختلافاً.

وأمّا حقيقة ما عند النصارى من قصّة المسيح وأمر الإنجيل والبشارة فهي أنّ قصّته (عليه السلام) وما يتعلّق بها تنتهي عندهم إلى الكتب المقدّسة عندهم وهي الأناجيل الأربعة الّتي هي أناجيل متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا، وكتاب أعمال الرسل للوقا،

٣٤٢

وعدّة رسائل لبولس وبطرس ويعقوب ويوحنّا ويهودا. واعتبار الجميع ينتهي إلى اعتبار الأناجيل فلنشتغل بها:

أمّا إنجيل متّى فهو أقدم الأناجيل في تصنيفه وانتشاره ذكر بعضهم أنّه صنّف سنة ٣٨ الميلاديّة، وذكر آخرون أنّه كتب ما بين سنة ٥٠ إلى سنة ٦٠(١) فهو مؤلّف بعد المسيح.

والمحقّقون من قدمائهم ومتأخّريّهم على أنّه كان أصله مكتوباً بالعبرانيّة ثمّ ترجم إلى اليونانيّة وغيرها أمّا النسخة الأصليّة العبرانيّة فمفقودة، وأمّا الترجمة فلا يدري حالها، ولا يعرف مترجمها(٢) .

وأمّا إنجيل مرقس: فمرقس هذا كان تلميذاً لبطرس، ولم يكن من الحواريّين وربّما ذكروا أنّه إنّما كتب إنجيله بإشارة بطرس وأمره، وكان لا يرى إلهيّة المسيح(٣) ولذلك ذكر بعضهم أنّه إنّما كتب إنجيله للعشائر وأهل القرى فعرّف المسيح تعريف رسول إلهيّ مبلّغ لشرائع الله(٤) وكيف كان فقد كتب إنجيله سنة ٦١ ميلاديّة.

وأما إنجيل لوقا: فلوقا هذا لم يكن حواريّاً ولا رأى المسيح وإنّما تلقّن النصرانيّة من بولس، وبولس كان يهوديّاً متعصّباً على النصرانيّة يوذي المؤمنين بالمسيح ويقلّب الاُمور عليهم ثمّ اتّفق مفاجأة أن ادّعى أنّه صرع وفي حال الصرع لمسه المسيح ولامه وزجره عن الإساءة إلى متّبعيه وأنّه آمن بالمسيح وأرسله المسيح ليبشّر بإنجيله.

____________________

(١) قاموس الكتاب المقدّس للمستر هاكس مادّة - متى.

 (٢) كتاب ميزان الحقّ واعتراف به على تردّد في قاموس الكتاب المقدّس.

 (٣) نقل ذلك عبد الوهّاب النجّار في قصص الأنبياء عن كتاب مروج الاخبار في تراجم الاخبار لبطرس قرماج.

(٤) ذكره في قاموس الكتاب المقدّس. يقول فيه: إن نصّ تواتر السلف على أن مرقس كتب إنجيله برومية وانتشر بعد وفاة بطرس وبولس لكنّه ليس له كثير اعتبار لأن ظاهر إنجيله أنّه كتبه لأهل القبائل والقرويين لا لأهل البلاد وخاصّة الروميّة. فتدبّر في كلامه !

٣٤٣

وبولس هذا هو الّذي شيّد أركان النصرانيّة الحاضرة على ما هي عليها(١) فبني التعليم على أنّ الإيمان بالمسيح كاف في النجاة من دون عمل وأباح لهم أكل الميتة ولحم الخنزير ونهى عن الختنة وكثير ممّا في التوراة(٢) مع أنّ الإنجيل لم يأت إلّا مصدّقاً لما بين يديه من التوراة، ولم يحلّل إلّا أشياء معدودة. وبالجملة إنّما جاء عيسى ليقوّم شريعة التوراة ويردّ إليها المنحرفين والفاسقين لا ليبطل العمل ويقصر السعادة على الإيمان الخالي.

وقد كتب لوقا إنجيله بعد إنجيل مرقس. وذلك بعد موت بطرس وبولس. وقد صرّح جمع بأنّ إنجيله ليس كتاباً إلهاميّاً كسائر الأناجيل(٣) كما يدلّ عليه ما وقع في مبتدء إنجيله.

وأمّا إنجيل يوحنّا فقد ذكر كثير من النصارى أنّ يوحنّا هذا هو يوحنّا بن زبديّ الصيّاد أحد التلاميذ الإثنى عشر (الحواريّين) الّذي كان يحبّه المسيح حبّاً شديداً(٤) .

وذكروا أنّ (شيرينطوس) و(أبيسون) وجماعتهما لمّا كانوا يرون أنّ المسيح ليس إلّا إنساناً مخلوقاً لا يسبق وجوده وجود اُمّه اجتمعت أساقفة آسيا وغيرهم في سنة ٩٦

____________________

(١) راجع مادّة بولس من قاموس الكتاب المقدّس.

(٢) راجع كتاب أعمال الرسل ورسائل بولس.

(٣) قال في أوّل إنجيل لوقا:( لأجل أن كثيرين راموا كتب قصص الاُمور الّتي نحن بها عارفون كما عهد الينا اولئك الأوّلون الّذين كانوا من قبل معاينين وكانوا خداما للكلمة رأيت أنا أيضاً إذ كنت تابعا لكلّ شئ بتحقيق أن أكتب اليك أيّها العزيز ثاوفيلا) ودلالته على كون الكتاب نظريا غير إلهامي ظاهرة وقد نقل ذلك أيضاً عن مستر كدل في رسالة اللّهمّ وصرح جيروم أن بعض القدماء كانوا يشكون في البابين الأوّلين من إنجيل لوقا وأنّهما ما كانا في نسخة فرقة مارسيوني وجزم إكهارن في كتابه ص ٩٥ أن من ف ٤٣ إلى ٤٧ من الباب ٢٢ من إنجيل لوقا الحاقية وذكر إكهارن أيضاً في ص ٦١ من كتابه: قد اختلط الكذب الروائي ببيان المعجزات الّتي نقلها لوقا والكاتب ضمه على طريق المبالغة الشاعرية لكن تمييز الصدق عن الكذب في هذا الزمان عسير وقول:( كلي مي شيس أن متّى ومرقس يتخالفان في التحرير وإذا اتفقا ترجح قولهما على قول لوقا) نقل عن قصص الأنبياء للنجّار - ص ٤٧٧.

(٤) راجع قاموس الكتاب المقدّس مادّة يوحنّا.

٣٤٤

ميلاديّة عند يوحنّا والتمسوا منه أن يكتب ما لم يكتبه الآخرون في أناجيلهم ويبيّن بنوع خصوصيّ لاهوت المسيح فلم يسعه أن ينكر إجابة طلبهم(١) .

وقد اختلفت كلماتهم في السنة الّتي اُلّف فيها هذا الإنجيل فمن قائل أنّها سنة ٦٥ وقائل أنّها سنة ٩٦ وقائل أنّها سند ٩٨.

وقال جمع منهم إنّه ليس تأليف يوحنّا التلميذ: فبعضهم على أنّه تأليف طالب من طلبة المدرسة الاسكندريّة(٢) وبعضهم على أنّ هذا الإنجيل كلّه وكذا رسائل يوحنّا ليست من تصنيفه بل إنّما صنّفه بعضهم في ابتداء القرن الثاني، ونسبه إلى يوحنّا ليعتربه الناس(٣) وبعضهم على أنّ إنجيل يوحنّا كان في الأصل عشرين باباً فألحقت كنيسة (أفاس) الباب الحادي والعشرين بعد موت يوحنّا(٤) فهذه حال هذه الأناجيل الأربعة وإذا أخذنا بالقدر المتيقّن من هذه الطرق انتهت إلى سبعة رجال هم: متّى، مرقس، لوقا، يوحنّا، بطرس، بولس، يهوذا، ينتهي ركونهم كلّه إلى هذه الأناجيل الأربعة وينتهي الأربعة إلى واحد هو أقدمها وأسبقها وهو إنجيل متّى وقد مرّ أنّه ترجمة مفقود الأصل لا يدري من الّذي ترجمه؟ وكيف كان أصله. وعلى ما ذا كان يبني تعليمه أبرسالة المسيح أم باُلوهيّته.

وهذا الإنجيل الموجود يترجم أنّه ظهر في بني إسرائيل رجل يدعى عيسى بن يوسف النجّار وأقام الدعوة إلى الله، وكان يدّعي أنّه ابن الله مولود من غير أب بشريّ وأنّ أباه أرسله ليفدي به الناس عن ذنوبهم بالصلب والقتل، وأنّه أحيى الميّت وأبرء الأكمه والأبرص وشفى المجانين بإخراج الجنّ من أبدانهم، وأنّه كان له إثنا عشر تلميذاً: أحدهم متّى صاحب الإنجيل بارك لهم وأرسلهم للدعوة وتبليغ الدين المسيحيّ إلخ.

____________________

(١) نقله في قصص الأنبياء عند جرجس زوين الفتوحي اللبناني في كتابه.

 (٢) نقل ذلك من كتاب (كاتلك هر الد) في المجلد السابع المطبوع سنة ١٨٤٤ ص ٢٠٥ نقله عن استادلن (عن القصص) وأشار إليه في القاموس في مادّة يوحنّا.

 (٣) قال ذلك (بر طشنيدر) على ما نقل عن كتاب الفاروق المجلد الأوّل (عن القصص).

(٤) المدرك السابق.

٣٤٥

 فهذا ملخّص ما تنتهى إليه الدعوة المسيحيّة على انبساطها على شرق الأرض وغربها، وهو لا يزيد على خبر واحد مجهول الاسم والرسم، مبهم العين والوصف.

وهذا الوهن العجيب في مبدء القصّة هو الّذي أوجب لبعض أحرار الباحثين من اُروبه أن أدّعى أنّ المسيح عيسى بن مريم شخص خياليّ صوّره بعض النزعات الدينيّة على حكومات الوقت أو لها وتأيّد ذلك بموضوع خرافيّ آخر يشبهه كلّ الشبه في جميع شئون القصّة وهو موضوع (كرشنا) الّذي تدّعي وثنيّة الهند القديمة أنّه ابن الله نزل عن لاهوته، وفدى الناس بنفسه صلباً ليخلّصهم من الأوزار والخطايا كما يدّعى في عيسى المسيح حذو النعل بالنعل (كما سيجئ ذكره).

وأوجب لآخرين من منتقدي الباحثين أن يذهبوا إلى أنّ هناك شخصين مسمّيين بالمسيح: المسيح غير المصلوب، والمسيح المصلوب. وبينهما من الزمان ما يزيد على خمسة قرون.

وأنّ التاريخ الميلاديّ الّذي سنتنا هذه سنة الف وتسعمائة وستّة وخمسين منه لا ينطبق على واحد منهما بل المسيح الأوّل غير المصلوب يتقدّم عليه بما يزيد على مأتين وخمسين سنة وقد عاش نحواً من ستّين سنة والمسيح الثاني المصلوب يتأخّر عنه بما يزيد على مأتين وتسعين سنة وقد عاش نحواً من ثلاث وثلاثين سنة(١)

على أنّ عدم انطباق التاريخ الميلاديّ على ميلاد المسيح في الجملة ممّا لم يسع للنصارى إنكاره(٢) وهو سكتة تاريخيّة.

على أنّ هيهنا اُموراً مريبة موهمة اُخرى فقد ذكروا أنّه كتب في القرنين الأوّلين من الميلاد أناجيل كثيرة اُخرى ربّما أنهوها إلى نيّف ومائة من الأناجيل والأناجيل الأربعة منها ثمّ حرّمت الكنيسة جميع تلك الأناجيل إلّا الأناجيل الأربعة

____________________

(١) وقد فصل القول في ذلك الزعيم الفاضل (بهروز) في كتاب ألفه جديداً في البشارات النبوّية وأرجو أن أوفق لايداع شذرة منه في تفسير آخر سورة النساء من هذا الكتاب والقدر المتيقن (الّذي يهمنا منه) اختلال التاريخ المسيحي.

(٢) راجع مادّة مسيح من قاموس الكتاب المقدس.

٣٤٦

الّتي عرفت قانونيّة لموافقة متونها تعليم الكنيسة(١) .

ومن جملة الأناجيل المتروكة إنجيل برنابا الّذي ظهرت نسخة منها منذ سنين فترجمت إلى العربيّة والفارسيّة، وهو يوافق في عامّة قصصه ما قصّه القرآن في المسيح عيسى بن مريم(٢) .

ومن العجيب أنّ الموادّ التاريخيّة المأثورة عن غير اليهود أيضاً ساكتة عن تفاصيل ما ينسبه الإنجيل إلى الدعوة المسيحيّة من حديث البنوّة والفداء وغيرهما. ذكر المورّخ الإمريكيّ الشهير (هندريك ويلم وان لون) في تأليفه في تاريخ البشر كتاباً كتبه الطبيب (إسكولابيوس كولتلوس) الروميّ سنة ٦٢ الميلاديّة إلى ابن أخيه (جلاديوس أنسا) وكان جنديّاً في عسكر الروم بفلسطين، يذكر فيه أنّه عاد مريضاً بروميّة يسمّى بولس فأعجبه كلامه وقد كان بولس كلّمه بالدعوة المسيحيّة، وذكر له طرفاً من أخبار المسيح ودعوته.

ثمّ يذكر أنّه ترك بولس ولم يره حتّى سمع بعد حين أنّه قتل في طريق (أوستى) ثمّ يسأل ابن أخيه أن يبحث عن أخبار هذا النبيّ الاسرائيليّ الّذي كان يذكره بولس وعن أخبار بولس نفسه ويكتب إليه ما بلغه من ذلك.

____________________

(١) ولقد لام (شيلسوس) الفيلسوف في القرن الثاني النصارى في كتابه (الخطاب الحقيقي) على تلاعبهم بالاناجيل، ومحوهم بالغد ما أدرجوه بالامس، وفي سنة ٣٨٤ م أمر البابا داماسيوس أن تحرر ترجمة لاتينية جديدة من العهدين القديم والحديث تعتبر قانونيّة في الكنائس وكان تيودوسيس الملك قد ضجر من المخاصمات الجدلية بين الاساقفة، وتمت تلك الترجمة الّتي تسمى (فولكانا) وكان ذلك خاصّا بالاناجيل الاربعة: متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا وقد قال مرتب تلك الاناجيل: (بعد أن قابلنا عددا من النسخ اليونانية القديمة رتبناها بمعنى أننا نقحنا ماكان فيها مغايرا للمعنى، وأبقينا الباقي على ماكان عليه) ثمّ إن هذه الترجمة قد ثبتها المجمع (التريدنتيني) سنة ١٥٤٦ أي بعدها بأحد عشر قرنا، ثمّ خطأها سيستوس الخامس سنة ١٥٩٠ وأمر بطبع نسخ جديدة ثمّ خطأ كليمنضوس الثامن هذه النسخة الثانية أيضاً، وأمر بطبعة جديدة منقحة هي الدارجة اليوم عند الكاثوليكيين (تفسير الجواهر - الجزء الثاني - ص ١٢١ الطبعة الثانية).

(٢) وقد وجد هذا الانجيل بالخط الايطالي منذ سنين وترجمه إلى العربيّة الدكتور خليل سعاده بمصر وترجمه إلى الفارسيّة الحبر الفاضل (سردار كابلي) بإيران.

٣٤٧

فكتب إليه (جلاديوس أنسا) بعد ستّة أسابيع من معسكر الروم باُورشليم: أنّي سألت عدّة من شيوخ البلد ومعمّريهم عن عيسى المسيح فوجدتهم لا يحسنون مجاوبتي فيما أسألهم( هذا والسنة سنة ٦٢ ميلاديّة وهم شيوخ !) .

حتّى لقيت بيّاع زيتون فسألته هل يعرفه؟ فأنعم لي في الجواب ثمّ دلّني على رجل اسمه يوسف، و ذكر أنّه كان من أتباعه ومحبّيه وأنّه خبير بقصصه بصير بأخباره يستطيع أن يجيبك فيما تسأله عنه.

فلقيت يوسف اليوم بعد ما تفحّصت أيّاماً فوجدته شيخاً هرماً وقد كان قديماً يصطاد السمك في بعض البحيرات من هذه الناحية.

كان الرجل على كبر سنّه صحيح المشاعر جيّد الحافظة وقصّ لي جميع الأخبار والقضايا الحادثة في ذلك الأوان، أوان الاغتشاش والفتنة.

ذكر أنّ فونتيوس فيلاطوس كان حاكماً على سامرا ويهوديّه في عهد القيصر (تي بريوس).

فاتّفق أن وقع أيّام حكومته فتنة في اُورشليم فسافر فونتيوس فيلاطوس إليه لإخماد ما فيه من نار الفتنة وكانت الفتنة هي ما شاع يومئذ أنّ ابن نجّار من أهل الناصرة يدعو الناس ويستنهضهم على الحكومة.

فلمّا تحقّقوا أمره تبيّن أنّ ابن النجّار المتّهم شابّ عاقل متين لم يرتكب ما يوجب عليه سياسة غير أنّ رؤساء المذهب من اليهود كانوا يخالفونه ويباغضونه بأشدّ ما يكون وقد قالوا لفيلاطوس إنّ هذا الشابّ الناصريّ يقول: لو أنّ يونانيّاً أو روميّاً أو فلسطينيّاً عامل الناس وعاشرهم بالعدالة والشفقة كان عند الله كمن صرف عمره في مطّلعة كتاب الله وتلاوة آياته.

وكأنّ هذه التعرّضات والاقتراحات لم تؤثّر في فيلاطوس أثرها لكنّه لما سمع ازدحام الناس قبال المعبد وهم يريدون أن يقبضوا على عيسى وأصحابه ويقطّعوهم إرباً إرباً رأى أنّ الأصلح أن يقبض هو على هذا الشابّ النجّار ويسجنة حتّى لا يقتل بأيدي الناس في غوغائهم.

٣٤٨

وكان فيلاطوس لم يتّضح له سبب ما ينقمه الناس من عيسى كلّ الاتّضاح وكلّما كلّم الناس في أمره وسألهم واستوضحهم علت أصواتهم وتنادوا (هو كافر) (هو ملحد) (هو خائن) فلم ينته الأمر إلى طائل.

حتّى استقرّ رأي فيلاطوس أن يكلّم عيسى بنفسه فأشخصه وكلّمه وسأله عمّا يقصده بما يبلّغه من الدين فأجابه عيسى أنّه لا يهتمّ بأمر الحكومة والسياسة ولا له في ذلك غرض وأنّه يهتمّ بالحياة الروحانيّة أكثر ممّا يهتمّ بأمر الحياة الجسمانيّة وأنّه يعتقد أنّ الإنسان يجب أن يحسن إلى الناس ويعبد الله الفرد الواحد وحده الّذي هو في حكم الأب لجميع أرباب الحياة من المخلوقات.

وكان فيلاطوس ذا خبرة في مذاهب الرواقيّين وسائر فلاسفة يونان فكأنّه لم ير في ما كلّمه به عيسى موضع غمضة ولا محلّ مؤاخذة ولذلك عزم ثانياً أن يخلّص هذا النبيّ السليم المتين من شرّ اليهود وسوّف في حكم قتله وإنجازه.

لكنّ اليهود لم يرضوا بذلك ولم يتركوه على حاله بل أشاعوا عليه أنّه فتن بأكاذيب عيسى وأقاويله وأنّ فيلاطوس يريد الخيانة على قيصر، وأخذوا يستشهدون عليه ويسجّلون الطوامير على ذلك يريدون به عزله من الحكومة، وقد كان برز قبل ذلك فتن وانقلابات في فلسطين. والقوى المؤمّنة القيصريّة قليلة العدّة لا تقوى على إسكات الناس فيها كلّ القوّة.

وكان على الحكّام وسائر المأمورين من ناحية قيصر أن لا يعاملوا الناس بما يجلب شكواهم وعدم رضايتهم.

فلهذه الأسباب لم ير فيلاطوس بدّاً من أن يفدي هذا الشابّ المسجون للأمن العامّ، ويجيب الناس فيما سألوه من قتله.

وأمّا عيسى فإنّه لم يجزع من الموت بل استقبله على شهامة من نفسه وقد عفى قبل موته عمّن تسبّب إلى قتله من اليهود ثمّ قضى به على الصليب و الناس يسخرون منه ويشتمونه ويسبّونه.

٣٤٩

قال (جلاديوس أنسا) هذا ما قصّ لي يوسف من قصّة عيسى ودموعه تجري على خدّيه وحين ودّعني للمفارقة قدّمت إليه شيئاً من المسكوك الذهبيّ لكنّه أبى أن يأخذه، وقال لي يوجد هيهنا من هو أفقر منّي فأعطه إيّاه.

وسألته عن بولس رفيقك المعهود فما كان يعرفه معرفة تامّة. والقدر الّذي تبيّن من أمره أنّه كان رجلاً خيّاماً ثمّ ترك شغله واشتغل بالتبليغ لهذا المذهب الجديد مذهب الربّ الرؤوف الرحيم الإله الّذي بينه وبين (يهوّه) إله يهود الّذي لا نزال نسمعه من علماء اليهود من الفرق ما هو أبعد ممّا بين السماء والأرض.

والظاهر أنّ بولس سافر أوّلاً إلى آسيا الصغرى ثمّ إلى يونان وأنّه كان يقول للعبيد والأرقّاء إنّهم جميعاً أبناء لأب يحبّهم ويرأف بهم وأنّ السعادة ليست تخصّ بعض الناس دون بعض بل تعمّ جميع الناس من فقير وغنيّ بشرط أن يعاشروا على المواخاة ويعيشوا على الطهارة والصداقة انتهى ملخّصاً.

هذه عامّة فقرات هذا الكتاب ممّا يرتبط بما نحن فيه من البحث.

وبالتأمّل في جمل مضامين هذا الكتاب يتحصّل للمتأمّل أنّ ظهور الدعوة المسيحيّة كيف كان في بني إسرائيل بعيد عيسى (عليه السلام). وأنّه لم يكن إلّا ظهور دعوة نبويّة بالرسالة من عند الله لا ظهور دعوة إلهيّة بظهور اللاهوت ونزولها إليهم وتخليصهم بالفداء!

ثمّ إنّ عدّة من تلامذة عيسى أو المنتسبين إليه كبولس وتلامذة تلامذتهم سافروا بعد وقعة الصلب إلى مختلف أقطار الأرض من الهند وإفريقيّة وروميّة وغيرها وبسطوا الدعوة المسيحيّة لكنّهم لم يلبثوا دون أن اختلفوا في مسائل أصليّة من التعليم كلاهوت المسيح وكفاية الإيمان بالمسيح عن العمل بشريعة موسى وكون دين الإنجيل ديناً أصيلاً ناسخاً لدين موسى أو كونه تابعاً لشريعة التوراة مكمّلاً إيّاها(١) فافترقوا عند ذلك فرقاً.

____________________

(١) يشير إليه كتاب الرسل ووسائل بولس، وقد اعترضت به النصارى

٣٥٠

والّذي يجب الإمعان فيه أنّ الاُمم الّتي بسطت الدعوة المسيحيّة وظهرت فيها أوّل ظهورها كالروم والهند وغيرهما كانوا قبلها منتحلين بالوثنيّة الصابئة أو البرهمنيّة أو البوذائيّة وفيها اُصول من مذاق التصوّف من جهة والفلسفة البرهمنيّة من جهة وفيها جميعاً شطر وافر من ظهور اللاهوت في مظهر الناسوت. على أنّ القول بتثليث الوحدة ونزول اللاهوت في لباس الناسوت وتحمّلها الصلب(١) والعذاب فدائا كان دائراً بين القدماء من وثنيّة الهند والصين ومصر وكلدان والآشور والفرس وكذا قدماء وثنيّة الغرب كالرومان والاسكندناويّين وغيرهم على ما يوجد في الكتب المؤلّفة في الاديان والمذاهب القديمة.

ذكر (دوان) في كتابه (خرافات التوراة وما يماثلها في الأديان الاُخرى): إذا رجعنا البصر إلى الهند نرى أنّ أعظم وأشهر عبادتهم اللاهوتيّة هو التثليث ويسمّون هذا التعليم بلغتهم (ترى مورتى) وهي عبارة مركّبة من كلمتين بلغتهم السنسكريتيّة (ترى) ومعناها الثلاثة و(مورتى) ومعناها هيآت أو أقانيم وهي (برهما، وفشنو، وسيفا) ثلاثة أقانيم متّحدة لا ينفكّ عن الوحدة فهي إله واحد بزعمهم.

ثمّ ذكر: أنّ برهما عندهم هو الأب وفشنو هو الابن، وسيفا هو روح القدس.

ثمّ ذكر أنّهم يدعون سيفا (كرشنا)(٢) الربّ المخلّص والروح العظيم الّذي ولد منه (فشنو) الإله الّذي ظهر بالناسوت على الأرض ليخلّص الناس فهو أحد الأقانيم الثلاثة الّتي هي الإله الواحد.

____________________

(١) القتل بالصلب على الصليب من القواعد القديمة جدّاً فقد كانوا يقتلون من اشتدّ جرمه وفظع دنبه بالصلب الّذي هو من أشدّ أسباب القتل عذاباً وأسوئها ذكراً، وكانت الطريقة فيه أن يصنع من خشبتين تقاطع إحديهما الاُخرى ما هو على شكل الصليب المعروف بحيث ينطبق عليه إنسان لو حمل عليه ثمّ يوضع المجرم عليه مبسوط اليدين ويدق من باطن راحتيه على طرفي الخشبة المعترضة بالمسامير، وكذا تدق قدماه على الخشبة وربّما شدتا من غير دقّ ثمّ تقام الخشبة بنصب طرفها على الأرض بحيث يكون ما بين قدمه إلى الأرض ما يقرب من ذراعين فيبقى الصليب على ذلك يوماً أو أيّاماً ثمّ تكسر قدماه من الساقين ويقتل على الصليب أو ينزل فيقتل بعد الانزال، وكان المصلوب يعذب قبل الصلب بالجلد أو المثلة وكان من العار الشنيع على قوم أن يقتل واحد منهم بالصلب.

(٢) وهو المعبر عنه ابلانكليزية (كرس) وهو المسيح المخلص.

٣٥١

 وذكر أيضاً: أنّهم يرمزون للاُقنوم الثالث بصورة حمامة كما يقوله النصارى.

وقال مستر (فابر) في كتابه (أصل الوثنيّة) كما نجد عند الهنود ثالوثاً مؤلّفاً من (برهما) و(فشنو) و(سيفا) نجد عند البوذيّين ثالوثاً فإنّهم يقولون: إنّ (بوذ) إله له ثلاثة أقانيم. وكذلك بوذيو (جينست) يقولون: إنّ (جيفا) مثلّث الأقانيم.

قال: والصينيّون يعبدون بوذه ويسمّونه (فو) ويقولون إنّه ثلاثة أقانيم كما تقول الهنود.

وقال دوان في كتابه المتقدّم ذكره: وكان قسّيسوا هيكل منفيس بمصر يعبّرون عن الثالوث المقدّس للمبتدئين بتعلّم الدين بقولهم: إنّ الأوّل خلق الثاني والثاني خلق الثالث وبذلك تمّ الثالوث المقدّس.

وسأل توليسو ملك مصر الكاهن تنيشوكي أن يخبره: هل كان قبله أحد أعظم منه؟ وهل يكون بعده أحد أعظم منه فأجابه الكاهن: نعم يوجد من هو أعظم وهو الله قبل كلّ شئ ثمّ الكلمة ومعهما روح القدس ولهذه الثلاثة طبيعة واحدة، وهم واحد بالذات وعنهم صدرت القوّة الأبديّة فاذهب يا فاني يا صاحب الحياه القصيرة.

وقال بونويك في كتابه (عقائد قدماء المصريّين) أغرب كلمة عمّ انتشارها في ديانة المصريّين هي قولهم بلاهوت الكلمة، وأنّ كلّ شئ حصل بواسطتها، وأنّها منبثقة من الله، وأنّها هي الله انتهى. وهذا عين العبارة الّتي يبتدي بها إنجيل يوحنّا.

وقال (هيجين) في كتاب (الإنكلوساكسون) كان الفرس يدعون متروساً الكلمة والوسيط ومخلّص الفرس.

ونقل عن كتاب سكّان اُوروبة الأوّلين: أنّه كان الوثنيّون القدماء يقولون: إنّ الإله مثلّث الأقانيم.

ونقل عن اليونان والرومان والفنلنديّين والاسكندناويّين قضيّة الثالوث السابق الذكر وكذا القول بالكلمة عن الكلدانيّين والآشوريّين والفينيقيّين.

وقال دوان في كتابه (خرافات التوراة وما يقابلها من الديانات الاُخرى) (ص ١٨١ - ١٨٢) ما ترجمته بالتلخيص:

٣٥٢

(إنّ تصوّر الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فدائا عن الخطيئة قديم العهد جدّاً عند الهنود الوثنيّين وغيرهم) وذكر شواهد على ذلك:

منها قوله: يعتقد الهنود أنّ كرشنا المولود البكر - الّذي هو نفس الإلهة فشنو الّذى لا ابتداء له ولا انتهاء على رأيهم - تحرّك حنوّاً كي يخلّص الأرض من ثقل حملها فأتاها وخلّص الإنسان بتقديم ذبيحة عنه.

وذكر أنّ (مسترمور) قد صوّر كرشنا مصلوباً كما هو مصوّر في كتب الهنود مثقوب اليدين والرجلين، وعلى قميصه صورة قلب الإنسان معلّقاً، ووجدت له صورة مصلوباً وعلى رأسه إكليل من الذهب. والنصارى تقول: إن يسوع صلب وعلى رأسه إكليل من الشوك.

وقال (هوك) في ص ٣٢٦ من المجلد الأوّل من رحلته: ويعتقد الهنود الوثنيّون بتجسّد بعض الآلهة وتقديم ذبيحة فداء للناس من الخطيئة.

وقال (موريفور ليمس) في ص ٢٦ من كتابه (الهنود) ويعتقد الهنود الوثنيّون بالخطيئة الأصليّة وممّا يدلّ على ذلك ما جاء في مناجاتهم وتوسّلاتهم الّتي يتوسّلون بها بعد (الكياتري) وهو إنّي مذنب ومرتكب الخطيئة، وطبيعتي شريرة، وحملتني اُمّي بالإثم فخلّصني يا ذا العين الحندقوقيّة يا مخلّص الخاطئين من الآثام والذنوب.

وقال القسّ (جورج كوكس) في كتابه (الديانات القديمة) في سياق الكلام عن الهنود: ويصفون كرشنا بالبطل الوديع المملوء لاهوتاً لأنّه قدّم شخصه ذبيحة.

ونقل (هيجين) عن (اندارا دا الكروزوبوس) وهو أوّل اُوروبيّ دخل بلاد التيبال والتبّت: أنّه قال في الإله (اندرا) الّذي يعبدونه: أنّه سفك دمه بالصلب وثقب المسامير لكي يخلّص البشر من ذنوبهم وأنّ صورة الصلب موجودة في كتبهم.

وفي كتاب (جورجيوس) الراهب صورة الإله (اندرا) هذا مصلوباً، وهو بشكل صليب أضلاعه متساوية العرض متفاوتة الطول فالرأسيّ اقصرها - وفيه صورة وجهه - والسفلى أطولها ولو لا صورة الوجه لما خطر لمن يرى الصورة أنّها تمثّل شخصاً هذا.

٣٥٣

وأمّا ما يروى عن البوذيّين في بوذا فهو أكثر انطباقاً على ما يرويه النصارى عن المسيح من جميع الوجوه حتّى أنّهم يسمّونه المسيح، والمولود الوحيد، ومخلّص العالم ويقولون إنّه إنسان كامل وإله كامل تجسّد بالناسوت، وأنّه قدّم نفسه ذبيحة ليكفّر ذنوب البشر ويخلّصهم من ذنوبهم فلا يعاقبوا عليها، ويجعلهم وارثين لملكوت السماوات بيّن ذلك كثير من علماء الغرب: منهم (بيل) في كتابه و(هوك) في رحلته و(موالر) في كتابه تاريخ الآداب السنسكريتيّة وغيرهم.(١)

فهذه نبذة أو اُنموذجة من عقيدة تلبّس اللاهوت بالناسوت، وحديث الصلب والفداء في الديانات القديمة الّتي كانت الاُمم متمسّكين بها منكبّين عليها يوم شرعت الديانة النصرانيّة تنبسط على الأرض وأخذت الدعوة المسيحيّة تأخذ بمجامع القلوب في المناطق الّتي جال الدعاة المسيحيّون فيها فهل هذا إلّا أنّ الدعاة المسيحيّين أخذوا اُصول المسيحيّة وأفرغوها في قالب الوثنيّة واستمالوا بذلك قلوب الناس في تقبّل دعوتهم وهضم تعليمهم؟

ويؤيّد ذلك ما ترى في كلمات بولس وغيره من الطعن في حكمة الحكماء وفلسفتهم والإزراء بطرق الاستدلالات العقليّة وأنّ الإله الربّ يرجّح بلاهة الأبله على عقل العاقل.

وليس ذلك إلّا لأنّهم قابلوا بتعليمهم مكاتب التعقّل والاستدلال فردّه أهله بأنّه لا طريق إلى قبوله بل إلى تعقّله الصحيح من جهة الاستدلال فوضعوا الأساس على المكاشفة والامتلاء بالروح المقدّس فشاكلوا بذلك ما يصرّ به جهلة المتصوّفة أنّ طريقتهم طور وراء طور العقل.

ثمّ إنّ الدعاة منهم ترهبوا وجالوا في البلاد (على ما يحكيه كتاب أعمال الرسل والتواريخ) وبسطوا الدعوة المسيحيّة واستقبلتهم في ذلك العامّة في شتات البلاد، كان من سرّ موفّقيّتهم وخاصّة في إمبراطوريّة الروم هي الضغطة الروحيّة الّتي عمّت

____________________

(١) يجد القارئ هذه المنقولات في تفسير المنار - الجزء السادس في تفسير النساء وفي دوائر المعارف وفي كتاب العقائد الوثنيّة في الديانة النصرانيّة وغيرها.

٣٥٤

البلاد من فشوّ الظلم والتعدّي، وشمول أحكام الاسترقاق والاستعباد، والبون البعيد في حياة الطبقة الحاكمة والمحكومة والآمرة والمأمورة والفصل الشاسع بين عيشة الاغنياء وأهل الإتراف والفقراء والمساكين والأرقّاء.

وقد كانت الدعاة تدعو إلى المواخاة والمحابّة و التساوي والمعاشرة الجميلة بين الناس ورفض الدنيا وعيشتها الكدرة الفانية والاقبال على الحياة الصافية السعيدة الّتي في ملكوت السماء ولهذا بعينه ما كان يعني بحالهم الطبقة الحاكمة من الملوك والقياصرة كلّ العناية، ولا يقصدونهم بالأذى والسياسة والطرد.

فلم يزالوا يزيدون عدداً من غير تظاهر وتنافس وينمون قوّة وشدّة حتّى حصل لهم جمّ غفير في إمبراطوريّة الروم وإفريقيّة والهند وغيرها من البلاد. ولم يزالوا كلّما بنوا كنيسة وفتحوا بابها على وجوه الناس هدموا بذلك واحداً من بيوت الأوثان وأغلقوا بابه.

وكانوا لا يعتنون بمزاحمة رؤساء الوثنيّة في هدم أساسهم، ولا بملوك الوقت وحكّامه في التعالي عن خضوعهم وفي مخالفة أحكامهم ودساتيرهم وربّما كان ذلك يؤدّيهم إلى الهلاك والقتل والحبس والعذاب فكان لا تزال تقتل طائفة وتسجن اُخرى وتشرّد ثالثة.

وكان الأمر على هذه الصفة إلى أوان ملك القيصر (كنستانتين) فآمن بالملّة المسيحيّة وأعلن بها فأخذ التنصّر بالرسميّة وبنيت الكنائس في الروم وما يتبع إمبراطوريّته من الممالك وذلك في النصف الأخير من القرن الرابع الميلاديّ.

تمركزت النصرانيّة يومئذ في كنيسة الروم وأخذت تبعث القسّيسين إلى أكناف الأرض من البلاد التابعة يبنون الكنائس والديرات ومدارس يدرسون بها التعليم الإنجيليّ.

والّذي يجب إلتفات النظر إليه أنّهم وضعوا البحث على اُصول مسلّمة إنجيليّة فأخذوا التعاليم الإنجيليّة كمسألة الأب والابن والروح، ومسألة الصلب والفداء وغير ذلك اُصولاً مسلّمة وبنوا البحث والتنقير عليها.

٣٥٥

وهذا أوّل ما ورد على أبحاثهم الدينيّة من الوهن والوهي فإنّ استحكام البناء المبنيّ وإن بلغ ما بلغ واستقامته لا يغني عن وهن الأساس المبنيّ عليه شيئاً وما بنوا عليه من مسألة تثليث الوحدة والصلب والفداء أمر غير معقول.

وقد اعترف عدّة من باحثيهم في التثليث بأنّه أمر غير معقول لكنّهم اعتذروا عنه بأنّه من المسائل الدينيّة الّتي يجب أن تقبل تعبّداً فكم في الأديان من مسألة تعبديّة تحيلها العقول.

وهو من الظنون الفاسدة المتفرّعة على أصلهم الفاسد، وكيف يتصوّر وقوع مسألة مستحيلة في دين حقّ؟ ونحن إنّما نقبل الدين ونميّز كونه دين حقّ بالعقل وكيف يمكن عند العقل أن تشتمل العقيدة الحقّة على أمر يبطله العقل ويحيله؟ وهل هذا إلّا تناقض صريح؟

نعم يمكن أن يشتمل الدين على ممكن يخرق العادة الجارية، والسنّة الطبيعيّة القائمة، وأمّا المحال الذاتيّ فلا البتّة.

وهذا الطريق المذكور من البحث هو الّذي أوجب وقوع الخلاف والمشاجرة بين الباحثين المتفكّرين منهم في أوائل انتشار صيت النصرانيّة وانكباب المحصّلين على الأبحاث المذهبيّة في مدارس الروم والإسكندريّة وغيرهما.

فكانت الكنيسة تزيد كلّ يوم في مراقبتها لوحدة الكلمة وتهيّئ مجمعاً مشكّلاً عند ظهور كلّ قول حديث وبدعة جديدة من البطارقة والأساقفة لإقناعهم بالمذهب العامّ وتكفيرهم ونفيهم وطردهم وقتلهم إذا لم يقنعوا.

وأوّل مجمع عقدوه مجمع نيقيه لمّا قال أريوس: إنّ اُقنوم الابن غير مساو لاُقنوم الأب وإنّ القديم هو الله والمسيح مخلوق.

اجتمعت البطارقة والمطارنة والأساقفة في قسطنطينيّة بمحضر من القيصر كنستانتين وكانوا ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً واتّفقوا على هذه الكلمة( نؤمن بالله الواحد الأب مالك كلّ شئ وصانع ما يرى وما لا يرى وبالابن الواحد يسوع المسيح

٣٥٦

ابن الله الواحد، بكر الخلائق كلّها، وليس بمصنوع، إله حقّ من إله حقّ، من جوهر أبيه الّذي بيده اُتقنت العوالم وكلّ شئ، الّذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسّد من روح القدس، وولد من مريم البتول، وصلب أيّام فيلاطوس، ودفن، ثمّ قام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعدّ للمجئ تارة اُخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ونؤمن بروح القدس الواحد، روح الحقّ الّذي يخرج من أبيه، وبمعموديّة(١) واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قدسيّة مسيحيّة - جاثليقيّة وبقيام أبداننا(٢) والحياة أبد الآبدين(٣) ) .

هذا هو المجمع الأوّل، وكم من مجمع بعد ذلك عقدوه للتبرّي عن المذاهب المستحدثة كمذهب النسطوريّة واليعقوبيّة والأليانيّة واليليارسيّة و المقدانوسيّة والسباليوسيّة والنوئتوسيّة والبولسيّة وغيرها.

ومع هذا كانت الكنيسة تقوم بالواجب من مراقبتها، ولا تتوانى ولا تهن في دعوتها وتزيد كلّ يوم في قوّتها وسيطرتها حتّى وفّقت لجلب سائر دول اُوروبه إلى التنصّر كفرنسا و الإنجليز والنمسا والبروس والإسبانيا والبرتغال والبلجيك وهولاندا وغيرهم إلّا الروسيا أواخر القرن الخامس الميلاديّ سنة ٤٩٦.

ولم تزل تتقدّم وترتقي الكنيسة من جانب، ومن جانب آخر كانت تهاجم الاُمم الشماليّة والعشائر البدويّة على الروم، والحروب والفتن تضعّف سلطنة القياصرة،

____________________

(١) المراد بالمعمودية طهارة الباطن وقداسته.

(٢) أورد عليه أنّه يستلزم القول بالمعاد الجسمانيّ والنصارى تقول بالمعاد الروحانيّ كما يدلّ عليه الانجيل وأظنّ أنّ الانجيل إنّما يدلّ على عدم وجود اللذائذ الجسمانيّة الدنيويّة في القيامة وأمّا كون الإنسان روحاً مجرّداً من غير جسم فلا دلالة فيه عليه بل يدلّ على أنّ الإنسان يصير في المعاد كالملائكة لا ازدواج بينهم وظاهر العهدين أنّ الله سبحانه وملائكته جميعاً أجسام فضلا عن الإنسان يوم القيامة.

(٣) الملل والنجل للشهرستاني.

٣٥٧

وآل الأمر إلى أن أجمعت أهل الروم والاُمم المتغلّبة على إلقاء زمام اُمور المملكة إلى الكنيسة كما كانت زمام اُمور الدين بيدها فاجتمعت السلطنة الروحانيّة والجسمانيّة لرئيس الكنيسة اليوم وهو (البابا جريجوار) وكان ذلك سنة ٥٩٠ الميلاديّة.

وضارت كنيسة الروم لها الرئاسة المطلقة للعالم المسيحيّ غير أنّ الروم لمّا كانت انشعبت إمبراطوريّته إلى الروم الغربيّ الّذي عاصمتها رومة، والروم الشرقيّ الّذي عاصمتها قسطنطينيّة كانت قياصرة الروم الشرقيّ يعدّون أنفسهم رؤساء دينيّين لمملكتهم من غير أن يتّبعوا كنيسة روما وهذا مبدأ انشعاب المسيحيّة إلى الكاثوليك، أتباع كنيسة روما والأرثوذوكس وهم غيرهم.

وكان الأمر على ذلك حتّى إذا فتحت قسطنطينيّة بيد آل عثمان، وقتل القيصر (بالي اُولوكوس) وهو آخر قياصرة الروم الشرقيّ وقسّيس الكنيسة اليوم (قتل في كنيسة(أياصوفيا)).

وادّعى وراثة هذا المنصب الدينيّ أعني رئاسة الكنيسة قياصرة روسيا لقرابة سببيّة كانت بينهم وبين قياصرة الروم، وكانت الروس تنصّرت في القرن العاشر الميلاديّ فصارت ملوك روسيا قسّيسي كنيسة أرضهم غير تابعة لكنيسة رومة، وكان ذلك سنة ١٤٥٤ الميلاديّة.

وبقي الأمر على هذا الحال نحواً من خمسة قرون حتّى قتل (تزار نيكولا) وهو آخر قياصرة الروسيا قتل هو وجميع أهل بيته سنة ١٩١٨ الميلاديّة بيد الشيوعيّين فعادت كنيسة رومة تقريباً إلى حالها قبل الانشعاب.

لكنّ الكنيسة في أثر ما كانت تحاول رؤسائها السلطة على جميع جهات حياة الناس في القرون الوسطى الّتي كانت الكنيسة فيها في أوج ارتقائها وإرتفاعها ثار عليها جماهير من المتديّنين تخلّصاً من القيود الّتي كانت تحملها عليهم الكنيسة.

فخرجت طائفة عن تبعيّة أحكام رؤساء الكنيسة والباباوات وطاعتهم مع البقاء على طاعة التعليم الإنجيليّ على ما يفهمه مجامعهم، ويقرّره اتّفاق علمائهم وقسّيسهم وهؤلاء هم الأرثوذكس.

٣٥٨

 وطائفة خرجت عن متابعة كنيسة رومة أصلاً فليسوا بتابعين في التعليم الإنجيليّ لكنيسة رومة ولا معتنين للأوامر الصادرة منها وهؤلاء هم البروتستانت.

فأنشعب العالم المسيحيّ اليوم إلى ثلاث فرق: الكاثوليك وهي التابعة لكنيسة رومة وتعليمها والاُورثوذكس وهي التابعة لتعليم الكنيسة دون نفسها وقد حدثت شعبتهم بحدوث الانشعاب في الكنيسة وخاصّة بعد انتقال كنيسة قسطنطينيّة إلى مسكو بالروسيا (كما تقدّم) والبروتستانت وهي الخارجة عن تبعيّة الكنيسة وتعليمها جميعاً. وقد استقلّت طريقتهم وتظاهرت في القرن الخامس عشر الميلاديّ.

هذا إجمال ما جرى عليه الدعوة المسيحيّة في زمان يقرب من عشرين قرناً والبصير بالغرض الموضوع له هذا الكتاب يعلم أنّ القصد من ذكر جمل تاريخهم:

أوّلا: أن يكون الباحث على بصيرة من التحوّلات التاريخيّة في مذهبهم والمعاني الّتي يمكن أن تنتقل إلى عقائدهم الدينيّة بنحو التوارث أو السراية أو الانفعال بالامتزاج أو الإلف والعادة من عقائد الوثنيّة والأفكار الموروثة منهم أو المأخوذة عنهم.

وثانياً: أنّ اقتدار الكنيسة وخاصّة كنيسة رومة بلغ بالتدريج في القرون الوسطى الميلاديّة إلى نهاية أوجه حتّى كانت لهم سيطرة الدين والدنيا وانقادت لهم كراسيّ الملك بأوربه فكان لهم عزل من شاءوا ونصب من شاءوا(١) .

يروى أنّ البابا مرّة أمر إمبراطور آلمانيا أن يقف ثلاثة أيّام حافياً على باب قصره في فصل الشتاء لزلّة صدرت منه يريد ان يغفرها له(٢) .

ورفس البابا مرّة تاج الملك برجله حيث جائه جاثياً يطلب المغفرة(٣) .

وقد كانوا وصفوا المسلمين لأتباعهم وصفاً لم يدعهم إلّا أن يروا دين الإسلام دين الوثنيّة يستفاد ذلك من الشعارات والأشعار الّتي نظموها في استنهاض النصارى و

____________________

(١) الفتوحات الإسلاميّة.

(٢) المدرك السابق.

(٣) المدرك السابق.

٣٥٩

تهييجهم على المسلمين في الحروب الصليبيّة الّتي نشبت بينهم وبين المسلمين سنين متطاولة.

فإنّهم كانوا(١) يرون أنّ المسلمين يعبدون الأصنام وأنّ لهم آلهة ثلاثة أسماؤها على الترتيب (ماهوم) ويسمّى بافوميد وماهومند وهو أوّل الآلهة وهو (محمّد) وبعده (ايلين) وهو الثاني وبعده (ترفاجان) وهو الثالث وربّما يظهر من بعض كلماتهم أنّ للمسلمين إلهين آخرين وهما (مارتوان) و(جوبين) ولكنّهما بعد الثلاثة المتقدّمة رتبة وكانوا يقولون: إنّ محمّداً بنى دعوته على دعوى الاُلوهيّة وربّما قالوا: إنّه كان اتّخذ لنفسه صنماً من ذهب.

وفي أشعار ريشار الّتي قالها لاستنهاض الإفرنج على المسلمين: (قوموا وقلّبوا ماهومند وترفاجان وألقوهما في النار تقرّباً من إلهكم).

وفي أشعار رولان في وصف (ماهوم) إله المسلمين: (إنّه مصنوع تامّاً من الذهب والفضّة ولو رأيته أيقنت أنّه لا يمكن لصانع أن يصوّر في خياله أجمل منه ثمّ يصنعه عظيمة جثّته جيّدة صنعته وفي سيمائه آثار الجلالة ظاهرة ماهوم مصنوع من الذهب والفضّة يكاد سنا برقه يذهب بالبصر. وقد اُقعد على فيل هو من أحسن المصنوعات وأجودها بطنه خال وربّما أحسّ الناظر من بطنه ضوءاً هو مرصّعة بالأحجار الثمينة المتلالئة، يرى باطنه من ظاهره ولا يوجد له في جودة الصنعة نظير.

ولمّا كانت آلهة المسلمين يوحون إليهم في مواقع الشدّة وقد انهزم المسلمون في بعض حروبهم بعث قائد القوم واحداً في طلب إلههم الّذي كان بمكّة (يعني محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم)). يروي بعض من شاهد الواقعة: أنّ الإله (يعني محمّداً) جائهم وقد أحاط به جمّ غفير من أتباعه وهم يضربون الطبول والعيدان والمزامير والبوقات المعمولة من فضّة ويتغنّون ويرقصون حتّى أتوا به إلى المعسكر بسرور وترح ومرح، وقد كان خليفته منتظراً لقدومه فلمّا رآه قام على ساقه، واشتغل بعبادته بخضوع وخشوع.

____________________

(١) هذا وما بعده إلى آخر الفصل منقول عن ترجمة كتاب (هنري دوكاستري) في الديانة الإسلاميّة الفصل الأوّل منه.

٣٦٠

الجنّة من الحور و الغلمان و غيرهم و هذا هو الّذي يفيده السياق، و قيل: المراد به عشيرته المؤمنون ممّن يدخل الجنّة، و قيل المراد فريق المؤمنين و إن لم يكونوا من عشيرته فالمؤمنون إخوة. و الوجهان لا يخلوان من بعد.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ ) الظرف منصوب بنزع الخافض و التقدير من وراء ظهره، و لعلّهم إنّما يؤتون كتبهم من وراء ظهورهم لردّ وجوههم على أدبارهم كما قال تعالى:( مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى‏ أَدْبارِها ) النساء: ٤٧.

و لا منافاة بين إيتاء كتابهم من وراء ظهورهم و بين إيتائهم بشمالهم كما وقع في قوله تعالى:( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ ) الحاقّة: ٢٥ و سيأتي في البحث الروائيّ التالي ما ورد في الروايات من معنى إيتاء الكتاب من وراء ظهورهم.

قوله تعالى: ( فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً ) الثبور كالويل الهلاك و دعاؤهم الثبور قولهم: وا ثبوراه.

قوله تعالى: ( وَ يَصْلى‏ سَعِيراً ) أي يدخل ناراً مؤجّجة لا يوصف عذابها، أو يقاسي حرّها.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً ) يسرّه ما يناله من متاع الدنيا و تنجذب نفسه إلى زينتها و ينسيه ذلك أمر الآخرة و قد ذمّ تعالى فرح الإنسان بما يناله من خير الدنيا و سمّاه فرحاً بغير حقّ قال تعالى بعد ذكر النار و عذابها:( ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ) المؤمن: ٧٥.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ ) أي لن يرجع و المراد الرجوع إلى ربّه للحساب و الجزاء، و لا سبب يوجبه عليهم إلّا التوغّل في الذنوب و الآثام الصارفة عن الآخرة الداعية إلى استبعاد البعث.

قوله تعالى: ( بَلى‏ إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً ) ردّ لظنّه أي ليس الأمر كما ظنّه بل يحور و يرجع، و قوله:( إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً ) تعليل للردّ المذكور فإنّ الله

٣٦١

سبحانه كان ربّه المالك له المدبّر لأمره و كان يحيط به علماً و يرى ما كان من أعماله و قد كلّفه بما كلّف و لأعماله جزاء خيراً أو شرّاً فلا بدّ أن يرجع إليه و يجزي بما يستحقّه بعمله.

و بذلك يظهر أنّ قوله:( إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً ) من إعطاء الحجّة على وجوب المعاد نظير ما تقدّم في قوله:( إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ ) الآية.

و يظهر أيضاً من مجموع هذه الآيات التسع أنّ إيتاء الكتب و نشر الصحف قبل الحساب كما يدلّ عليه أيضاً قوله تعالى:( وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى‏ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) إسراء: ١٤.

ثمّ الآيات كما ترى تخصّ إيتاء الكتاب من وراء الظهر بالكفّار فيقع الكلام في عصاة المؤمنين من أصحاب الكبائر ممّن يدخل النار فيمكث فيها برهة ثمّ يخرج منها بالشفاعة على ما في الأخبار من طرق الفريقين فهؤلاء لا يؤتون كتابهم من وراء ظهورهم لاختصاص ذلك بالكفّار و لا بيمينهم لظهور الآيات في أنّ أصحاب اليمين يحاسبون حساباً يسيراً و يدخلون الجنّة، و لا سبيل إلى القول بأنّهم لا يؤتون كتاباً لمكان قوله تعالى:( وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ) الآية المفيد للعموم.

و قد تخلّص بعضهم عن الإشكال بأنّهم يؤتون كتابهم باليمين بعد الخروج من النار.

و فيه أنّ ظاهر الآيات إن لم يكن صريحها أنّ دخول النار أو الجنّة فرع مترتّب على القضاء المترتب على الحساب المترتّب على إيتاء الكتب و نشر الصحف فلا معنى لإيتاء الكتاب بعد الخروج من النار.

و احتمل بعضهم أن يؤتوا كتابهم بشمالهم و يكون الإيتاء من وراء الظهر مخصوصاً بالكفّار كما تفيده الآيات.

و فيه أنّ الآيات الّتي تذكر إيتاء الكتاب بالشمال - و هي الّتي في سورة الواقعة و الحاقّة و في معناها ما في سورة الإسراء أيضاً - تخصّ إيتاء الكتاب بالشمال بالكفّار

٣٦٢

و يظهر من مجموع الآيات أنّ الّذين يؤتون كتابهم بشمالهم هم الّذين يؤتونه من وراء ظهورهم.

و قال بعضهم من الممكن أن يؤتوا كتابهم من وراء ظهورهم و يكون قوله:( فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً ) من قبيل وصف الكلّ بصفة بعض أجزائه.

و فيه أنّ المقام لا يساعد على هذا التجوّز فإنّ المقام مقام تمييز السعداء من الأشقياء و تشخيص كلّ بجزائه الخاصّ به فلا مجوّز لإدغام جمع من أهل العذاب في أهل الجنّة.

على أنّ قوله:( فَسَوْفَ يُحاسَبُ ) إلخ وعد جميل إلهيّ و لا معنى لشموله لغير مستحقّيه و لو بظاهر من القول.

نعم يمكن أن يقال: إنّ اليسر و العسر معنيان إضافيّان و حساب العصاة من أهل الإيمان يسير بالإضافة إلى حساب الكفّار المخلّدين في النار و لو كان عسيراً بالإضافة إلى حساب المتّقين.

و يمكن أيضاً أن يقال إنّ قسمة أهل الجمع إلى أصحاب اليمين و أصحاب الشمال غير حاصرة كما يدلّ عليه قوله تعالى:( وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَ أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) الواقعة: ١١ فمدلول الآيات خروج المقرّبين من الفريقين، و مثلهم المستضعفون كما ربّما يستفاد من قوله تعالى:( وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ) التوبة: ١٠٦.

فمن الجائز أن لا يكون تقسيم أهل الجمع إلى أصحاب اليمين و أصحاب الشمال تقسيماً حاصراً لجميعهم بل تخصيصاً لأهل الجنّة من المتّقين و أهل الخلود في النار بالذكر بتوصيفهم بإيتاء الكتاب باليمين و بالشمال لمكان الدعوة إلى الإيمان و التقوى و نظير ذلك ما في سورة المرسلات من ذكر يوم الفصل ثمّ بيان حال المتّقين و المكذّبين فحسب و ليس ينحصر الناس في القبيلين، و نظيره ما في سورة النبإ و النازعات و عبس و الانفطار، و المطفّفين و غيرها فالغرض فيها ذكر اُنموذج من أهل الإيمان و الطاعة و أهل الكفر

٣٦٣

و التكذيب و السكوت عمّن سواهم ليتذكّر أنّ السعادة في جانب التقوى و الشقاء في جانب التمرّد و الطغوى.

قوله تعالى: ( فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ) الشفق الحمرة ثمّ الصفرة ثمّ البياض الّتي تحدث بالمغرب أوّل الليل.

قوله تعالى: ( وَ اللَّيْلِ وَ ما وَسَقَ ) أي ضمّ و جمع ما تفرّق و انتشر في النهار من الإنسان و الحيوان فإنّها تتفرّق و تنتشر بالطبع في النهار و ترجع إلى مأواها في الليل فتسكن.

و فسّر بعضهم( وسق ) بمعنى طرد أي طرد الكواكب من الخفاء إلى الظهور.

قوله تعالى: ( وَ الْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ) أي اجتمع و انضمّ بعض نوره إلى بعض فاكتمل نوره و تبدّر.

قوله تعالى: ( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ ) جواب القسم و الخطاب للناس و الطبق هو الشي‏ء أو الحال الّذي يطابق آخر سواء كان أحدهما فوق الآخر أم لا و المراد به كيف كان المرحلة بعد المرحلة يقطعها الإنسان في كدحه إلى ربّه من الحياة الدنيا ثمّ الموت ثمّ الحياة البرزخيّة ثمّ الانتقال إلى الآخرة ثمّ الحياة الآخرة ثمّ الحساب و الجزاء.

و في هذا الإقسام - كما ترى - تأكيد لما في قوله:( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ ) الآية و ما بعده من نبإ البعث و توطئة و تمهيد لما في قوله:( فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) من التعجيب و التوبيخ و ما في قوله:( فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ ) إلخ من الإنذار و التبشير.

و في الآية إشارة إلى أنّ المراحل الّتي يقطعها الإنسان في مسيره إلى ربّه مترتّبة متطابقة.

قوله تعالى: ( فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَ إِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ ) الاستفهام للتعجيب و التوبيخ و لذا ناسب الالتفات الّذي فيه من الخطاب إلى الغيبة كأنّه لمّا رأى أنّهم لا يتذكّرون بتذكيره و لا يتّعظون بعظته أعرض عنهم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخاطبه بقوله:( فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) إلخ.

٣٦٤

قوله تعالى: ( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ وَ اللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ ) ( يُكَذِّبُونَ ) يفيد الاستمرار، و التعبير عنهم بالّذين كفروا للدلالة على علّة التكذيب، و الإيعاء كما قيل جعل الشي‏ء في وعاء.

و المعنى: أنّهم لم يتركوا الإيمان لقصور في البيان أو لانقطاع من البرهان لكنّهم اتّبعوا أسلافهم و رؤساءهم فرسخوا في الكفر و استمرّوا على التكذيب و الله يعلم بما جمعوا في صدورهم و أضمروا في قلوبهم من الكفر و الشرك.

و قيل: المراد بقوله:( وَ اللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ ) أنّ لهم وراء التكذيب مضمرات في قلوبهم لا يحيط بها العبارة و لا يعلمها إلّا الله، و هو بعيد من السياق.

قوله تعالى: ( فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) التعبير عن الإخبار بالعذاب بالتبشير مبنيّ على التهكّم، و الجملة متفرّعة على التكذيب.

قوله تعالى: ( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) استثناء منقطع من ضمير( فَبَشِّرْهُمْ ) و المراد بكون أجرهم غير ممنون خلوّه من قول يثقل على المأجور.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ ) قال: يوم القيامة.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن عليّ قال تنشقّ السماء من المجرّة.

و في تفسير القمّيّ: في قوله:( وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَ أَلْقَتْ ما فِيها وَ تَخَلَّتْ ) قال: تمدّ الأرض فتنشقّ فيخرج الناس منها.

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم بسند جيّد عن جابر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: تمدّ الأرض يوم القيامة مدّ الأديم ثمّ لا يكون لابن آدم منها إلّا موضع قدميه.

و في الاحتجاج، عن عليّعليه‌السلام في حديث قال و الناس يومئذ على صفات و منازل فمنهم من يحاسب حساباً يسيراً و ينقلب إلى أهله مسروراً، و منهم الّذين يدخلون الجنّة بغير حساب لأنّهم لم يلبسوا من أمر الدنيا بشي‏ء و إنّما الحساب هناك على من

٣٦٥

يلبس بها ههنا، و منهم من يحاسب على النقير و القطمير و يصير إلى عذاب السعير.

و في المعاني، بإسناده عن ابن سنان عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّ محاسب معذّب فقال له قائل: يا رسول الله فأين قول الله عزّوجلّ:( فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً ) قال: ذلك العرض يعني التصفّح.

أقول: و روي في الدرّ المنثور، عن البخاريّ و مسلم و الترمذيّ و غيرهم عن عائشة: مثله.

و في تفسير القمّيّ، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) فهو أبوسلمة عبدالله بن عبدالأسود بن هلال المخزوميّ و هو من بني مخزوم،( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ ) فهو أخوه الأسود بن عبدالأسود المخزوميّ فقتله حمزة بن عبدالمطّلب يوم بدر.

و في المجمع: في قوله تعالى:( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ ) و قيل: معناه شدّة بعد شدّة حياة ثمّ موت ثمّ بعث ثمّ جزاء: و روي ذلك مرفوعاً.

و عن جوامع الجامع، في الآية عن أبي عبيدة: لتركبنّ سنن من كان قبلكم من الأوّلين و أحوالهم: و روي ذلك عن الصادقعليه‌السلام .

٣٦٦

( سورة البروج مكّيّة و هي اثنتان و عشرون آية)

( سورة البروج الآيات ١ - ٢٢)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ( ١ ) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ( ٢ ) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ( ٣ ) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ( ٤ ) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ( ٥ ) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ( ٦ ) وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ( ٧ ) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ( ٨ ) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( ٩ ) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ( ١٠ ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ( ١١ ) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ( ١٢ ) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ( ١٣ ) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ( ١٤ ) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ( ١٥ ) فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ( ١٦ ) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ ( ١٧ ) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ ( ١٨ ) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ ( ١٩ ) وَاللهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ ( ٢٠ ) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ ( ٢١ ) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ( ٢٢ )

٣٦٧

( بيان‏)

سورة إنذار و تبشير فيها وعيد شديد للّذين يفتنون المؤمنين و المؤمنات لإيمانهم بالله كما كان المشركون من أهل مكّة يفعلون ذلك بالّذين آمنوا بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيعذّبونهم ليرجعوا إلى شركهم السابق فمنهم من كان يصبر و لا يرجع بلغ الأمر ما بلغ، و منهم من رجع و ارتدّ و هم ضعفاء الإيمان كما يشير إلى ذلك قوله تعالى:( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ ) العنكبوت: ١٠، و قوله:( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى‏ حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى‏ وَجْهِهِ ) الحجّ: ١١.

و قد قدّم سبحانه على ذلك الإشارة إلى قصّة أصحاب الاُخدود، و فيه تحريض المؤمنين على الصبر في جنب الله تعالى، و أتبعها بالإشارة إلى حديث الجنود فرعون و ثمود و فيه تطييب لنفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوعد النصر و تهديد للمشركين.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( وَ السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ ) البروج جمع برج و هو الأمر الظاهر و يغلب استعماله في القصر العالي لظهوره على الناظرين و يسمّى البناء المعمول على سور البلد للدفاع برجاً و هو المراد في الآية لقوله تعالى:( وَ لَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَ زَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ وَ حَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ ) الحجر: ١٧، فالمراد بالبروج مواضع الكواكب من السماء.

و بذلك يظهر أنّ تفسير البروج بالبروج الاثني عشر المصطلح عليها في علم النجوم غير سديد.

و في الآية إقسام بالسماء المحفوظة بالبروج، و لا يخفى مناسبته لما سيشار إليه من القصّة ثمّ الوعيد و الوعد و سنشير إليه.

قوله تعالى: ( وَ الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ) عطف على السماء و إقسام باليوم الموعود و هو يوم القيامة الّذي وعد الله القضاء فيه بين عباده.

٣٦٨

قوله تعالى: ( وَ شاهِدٍ وَ مَشْهُودٍ ) معطوفان على السماء و الجميع قسم بعد قسم على ما اُريد بيانه في السورة و هو - كما تقدّمت الإشارة إليه - الوعيد الشديد لمن يفتن المؤمنين و المؤمنات لإيمانهم و الوعد الجميل لمن آمن و عمل صالحاً.

فكأنّه قيل: اُقسم بالسماء ذات البروج الّتي يدفع الله بها عنها الشياطين إنّ الله يدفع عن إيمان المؤمنين كيد الشياطين و أوليائهم من الكافرين، و اُقسم باليوم الموعود الّذي يجزي فيه الناس بأعمالهم، و اُقسم بشاهد يشهد و يعاين أعمال اُولئك الكفّار و ما يفعلونه بالمؤمنين لإيمانهم بالله و اُقسم بمشهود سيشهده الكلّ و يعاينونه إنّ الّذين فتنوا المؤمنين و المؤمنات، إلى آخر الآيتين.تين.

و من هنا يظهر أنّ الشهادة في( شاهِدٍ ) و( مَشْهُودٍ ) بمعنى واحد و هو المعاينة بالحضور، على أنّها لو كانت بمعنى تأدية الشهادة لكان حقّ التعبير( و مشهود عليه) لأنّها بهذا المعنى إنّما تتعدّى بعلى.

و على هذا يقبل( شاهِدٍ ) الانطباق على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لشهادته أعمال اُمّته ثمّ يشهد عليها يوم القيامة، و يقبل( مَشْهُودٍ ) الانطباق على تعذيب الكفّار لهؤلاء المؤمنين و ما فعلوا بهم من الفتنة و إن شئت فقل: على جزائه و إن شئت فقل: على ما يقع يوم القيامة من العقاب و الثواب لهؤلاء الظالمين و المظلومين، و تنكير( مَشْهُودٍ ) و( وَ شاهِدٍ ) على أيّ حال للتفخيم.

و لهم في تفسير شاهد و مشهود أقاويل كثيرة أنهاها بعضهم إلى ثلاثين كقول بعضهم إنّ الشاهد يوم الجمعة و المشهود يوم عرفة، و القول بأنّ الشاهد يوم النحر و المشهود يوم عرفة، و القول بأنّ الشاهد يوم عرفة و المشهود يوم القيامة، و القول بأنّ الشاهد الملك يشهد على بني آدم و المشهود يوم القيامة، و القول بأنّ الشاهد الّذين يشهدون على الناس و المشهود الّذين يشهد عليهم.

و القول بأنّ الشاهد هذه الاُمّة و المشهود سائر الاُمم، و القول بأنّ الشاهد أعضاء بني آدم و المشهود أنفسهم و القول بأنّ الشاهد الحجر الأسود و المشهود الحاجّ و القول بأنّ الشاهد الأيّام و اللّيالي و المشهود بنو آدم، و القول بأنّ الشاهد الأنبياء و المشهود

٣٦٩

محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و القول بأنّ الشاهد هو الله و المشهود لا إله إلّا الله.

و القول بأنّ الشاهد الخلق و المشهود الحقّ، و القول بأنّ الشاهد هو الله و المشهود يوم القيامة، و القول بأنّ الشاهد آدم و ذرّيّته و المشهود يوم القيامة، و القول بأنّ الشاهد يوم التروية و المشهود يوم عرفة، و القول بأنّها يوم الإثنين و يوم الجمعة، و القول بأنّ الشاهد: المقرّبون و المشهود علّيّون، و القول بأنّ الشاهد هو الطفل الّذي قال لاُمّه في قصّة الاُخدود: اصبري فإنّك على الحقّ و المشهود الواقعة، و القول بأنّ الشاهد الملائكة المتعاقبون لكتابة الأعمال و المشهود قرآن الفجر إلى غير ذلك من أقوالهم.

و أكثر هذه الأقوال - كما ترى - مبنيّ على أخذ الشهادة بمعنى أداء ما حمّل من الشهادة و بعضها على تفريق بين الشاهد و المشهود في معنى الشهادة و قد عرفت ضعفه، و أنّ الأنسب للسياق أخذها بمعنى المعاينة و إن استلزم الشهادة بمعنى الأداء يوم القيامة، و أنّ الشاهد يقبل الانطباق على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

كيف لا؟ و قد سمّاه الله تعالى شاهداً إذ قال:( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً ) الأحزاب: ٤٥، و سمّاه شهيداً إذ قال:( لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ ) الحجّ: ٧٨، و قد عرفت معنى شهادة الأعمال من شهدائها فيما مرّ.

ثمّ إنّ جواب القسم محذوف يدلّ عليه قوله:( إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ ) إلى تمام آيتين، و يشعر به أيضاً قوله:( قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ ) إلخ و هو وعيد الفاتنين و وعد المؤمنين الصالحين و أنّ الله يوفقهم على الصبر و يؤيّدهم على حفظ إيمانهم من كيد الكائدين أن أخلصوا كما فعل بالمؤمنين في قصّة الاُخدود.

قوله تعالى: ( قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ ) إشارة إلى قصّة الاُخدود لتكون توطئة و تمهيداً لما سيجي‏ء من قوله:( إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا ) إلخ و ليس جواباً للقسم البتّة.

و الاُخدود الشقّ العظيم في الأرض، و أصحاب الاُخدود هم الجبابرة الّذين خدّوا اُخدوداً و أضرموا فيها النار و أمروا المؤمنين بدخولها فأحرقوهم عن آخرهم

٣٧٠

نقماً منهم لإيمانهم.

فقوله:( قُتِلَ ) إلخ دعاء عليهم و المراد بالقتل اللعن و الطرد.

و قيل: المراد بأصحاب الاُخدود المؤمنون و المؤمنات الّذين اُحرقوا فيه، و قوله:( قُتِلَ ) إخبار عن قتلهم بالإحراق و ليس من الدعاء في شي‏ء. و يضعّفه ظهور رجوع الضمائر في قوله:( إِذْ هُمْ عَلَيْها ) و( هُمْ عَلى‏ ما يَفْعَلُونَ ) و( ما نَقَمُوا ) إلى أصحاب الاُخدود، و المراد بها و خاصّة بالثاني و الثالث الجبابرة الناقمون دون المؤمنين المعذّبين.

قوله تعالى: ( النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ ) بدل من الاُخدود، و الوقود ما يشعل به النار من حطب و غيره، و في توصيف النار بذات الوقود إشارة إلى عظمة أمر هذه النار و شدّة اشتعالها و أجيجها.

قوله تعالى: ( إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ ) أي في حال اُولئك الجبابرة قاعدون في أطراف النار المشرفة عليها.

قوله تعالى: ( وَ هُمْ عَلى‏ ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ) أي حضور ينظرون و يشاهدون إحراقهم و احتراقهم.

قوله تعالى: ( وَ ما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ ) النقم بفتحتين الكراهة الشديدة أي ما كرهوا من اُولئك المؤمنين إلّا إيمانهم بالله فأحرقوهم لأجل إيمانهم.

قوله تعالى: ( الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ ) أوصاف جارية على اسم الجلالة تشير إلى الحجّة على أنّ اُولئك المؤمنين كانوا على الحقّ في إيمانهم مظلومين فيما فعل بهم لا يخفى حالهم على الله و سيجزيهم خير الجزاء، و على أنّ اُولئك الجبابرة كانوا على الباطل مجترين على الله ظالمين فيما فعلوا و سيذوقون وبال أمرهم.

و ذلك أنّه تعالى هو الله العزيز الحميد أي الغالب غير المغلوب على الإطلاق و الجميل في فعله على الإطلاق فله وحده كلّ الجلال و الجمال فمن الواجب أن يخضع

٣٧١

له و أن لا يتعرّض لجانبه، و إذ كان له ملك السماوات و الأرض فهو المليك على الإطلاق له الأمر و له الحكم فهو ربّ العالمين فمن الواجب أن يتّخذ إلهاً معبوداً و لا يشرك به أحد فالمؤمنون به على الحقّ و الكافرون في ضلال.

ثمّ إنّ الله - و هو الموجد لكلّ شي‏ء - على كلّ شي‏ء شهيد لا يخفى عليه شي‏ء من خلقه و لا عمل من أعمال خلقه و لا يحتجب عنه إحسان محسن و لا إساءة مسي‏ء فسيجزي كلّاً بما عمل.

و بالجملة إذ كان تعالى هو الله المتّصف بهذه الصفات الكريمة كان على هؤلاء المؤمنين أن يؤمنوا به و لم يكن لاُولئك الجبابرة أن يتعرّضوا لحالهم و لا أن يمسّوهم بسوء.

و قال بعض المفسّرين في توجيه إجراء الصفات في الآية: إنّ القوم إن كانوا مشركين فالّذي كانوا ينقمونه من المؤمنين و ينكرونه عليهم لم يكن هو الإيمان بالله تعالى بل نفي ما سواه من معبوداتهم الباطلة، و إن كانوا معطّلة فالمنكر عندهم ليس إلّا إثبات معبود غير معهود لهم لكن لمّا كان مآل الأمرين إنكار المعبود الحقّ الموصوف بصفات الجلال و الإكرام عبّر بما عبّر بإجراء الصفات عليه تعالى.

و فيه غفلة عن أنّ المشركين و هم الوثنيّة ما كانوا ينسبون إلى الله تعالى إلّا الصنع و الإيجاد. و أمّا الربوبيّة الّتي تستتبع التدبير و الاُلوهيّة الّتي تستوجب العبادة فكانوا يقصرونها في أربابهم و آلهتهم فيعبدونها دون الله سبحانه، فليس له تعالى عندهم إلّا أنّه ربّ الأرباب و إله الآلهة لا غير.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَ لَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ ) الفتنة المحنة و التعذيب،( و الَّذِينَ فَتَنُوا ) إلخ عامّ يشمل أصحاب الاُخدود و مشركي قريش الّذين كانوا يفتنون من آمن بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المؤمنين و المؤمنات بأنواع من العذاب ليرجعوا عن دينهم.

قال في المجمع: يسأل فيقال: كيف فصّل بين عذاب جهنّم و عذاب الحريق و هما واحد؟ اُجيب عن ذلك بأنّ المراد لهم أنواع العذاب في جهنّم سوى الإحراق

٣٧٢

مثل الزّقّوم و الغسلين و المقامع و لهم مع ذلك الإحراق بالنار انتهى.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ) وعد جميل للمؤمنين يطيّب به نفوسهم كما أنّ ما قبله وعيد شديد للكفّار الفاتنين المعذّبين.

قوله تعالى: ( إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ) الآية إلى تمام سبع آيات تحقيق و تأكيد لما تقدّم من الوعيد و الوعد، و البطش - كما ذكره الراغب - تناول الشي‏ء بصولة.

و في إضافة البطش إلى الربّ و إضافة الربّ إلى الكاف تطييب لنفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتأييد و النصر، و إشارة إلى أنّ لجبابرة اُمّته نصيباً من الوعيد المتقدّم.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَ يُعِيدُ ) المقابلة بين المبدئ و المعيد يعطي أنّ المراد بالإبداء البدء، و الافتتاح بالشي‏ء، قالوا: و لم يسمع من العرب الإبداء لكن القراءة ذلك و في بعض القراءات الشاذّة يبدأ بفتح الياء و الدال.

و على أيّ حال فالآية تعليل لشدّة بطشه تعالى و ذلك أنّه تعالى مبدئ يوجد ما يريده من شي‏ء إيجاداً ابتدائياً من غير أن يستمدّ على ذلك من شي‏ء غير نفسه، و هو تعالى يعيد كلّ ما كان إلى ما كان و كلّ حال فاتته إلى ما كانت عليه قبل الفوت فهو تعالى لا يمتنع عليه ما أراد و لا يفوته فائت زائل و إذ كان كذلك فهو القادر على أن يحمل على العبد المتعدّي حدّه، من العذاب ما هو فوق حدّه و وراء طاقته و يحفظه على ما هو عليه ليذوق العذاب قال تعالى:( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى‏ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها ) فاطر: ٣٦.

و هو القادر على أن يعيد ما أفسده العذاب إلى حالته الاُولى ليذوق المجرم بذلك العذاب من غير انقطاع قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ ) النساء: ٥٦.

و بهذا البيان يتّضح:

أوّلاً: أنّ سياق قوله:( إِنَّهُ هُوَ ) إلخ يفيد القصر أي إنّ إبداع الوجود

٣٧٣

و إعادته لله سبحانه وحده إذ الصنع و الإيجاد ينتهي إليه تعالى وحده.

و ثانياً: أنّ حدود الأشياء إليه تعالى و لو شاء أن لا يحدّ لم يحدّ أو بدّل حدّاً من آخر فهو الّذي حدّ العذاب و الفتنة في الدنيا بالموت و الزوال و لو لم يشأ لم يحدّ كما في عذاب الآخرة.

و ثالثاً: أنّ المراد من شدّة البطش - و هو الأخذ بعنف - أن لا دافع لأخذه و لا رادّ لحكمه كيفما حكم إلّا أن يحول بين حكمه و متعلّقه حكم آخر منه يقيّد الأوّل.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ) أي كثير المغفرة و المودّة ناظر إلى وعد المؤمنين كما أنّ قوله:( إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ ) إلخ ناظر إلى وعيد الكافرين.

قوله تعالى: ( ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ) العرش عرش الملك، و ذوالعرش كناية عن الملك أي هو ملك له أن يتصرّف في مملكته كيفما تصرّف و يحكم بما شاء و المجيد صفة من المجد و هو العظمة المعنوية و هي كمال الذات و الصفات، و قوله:( فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ) أي لا يصرفه عمّا أراده صارف لا من داخل لضجر و كسل و ملل و تغيّر إرادة و غيرها و لا من خارج لمانع يحول بينه و بين ما أراد.

فله تعالى أن يوعد الّذين فتنوا المؤمنين و المؤمنات بالنار و يعد الّذين آمنوا و عملوا الصالحات بالجنّة لأنّه ذو العرش المجيد و لن يخلف وعده لأنّه فعّال لما يريد.

قوله تعالى: ( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَ ثَمُودَ ) تقرير لما تقدّم من شدّة بطشه تعالى و كونه ملكاً مجيداً فعّالاً لما يريد، و فيه تسلية للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تطييب لنفسه الشريفة بالإشارة إلى حديثهم، و معنى الآيتين ظاهر.

قوله تعالى: ( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ ) لا يبعد أن يستفاد من السياق كون المراد بالّذين كفروا هم قوم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في الآية إضراب عمّا تقدّم من الموعظة و الحجّة من حيث الأثر، و المعنى لا ينبغي أن يرجى منهم الإيمان بهذه الآيات البيّنات فإنّ الّذين كفروا مصرّون على

٣٧٤

تكذيبهم لا ينتفعون بموعظة أو حجّة.

و من هنا ظهر أنّ المراد بكون الّذين كفروا في تكذيب أي بظرفيّة التكذيب لهم إصرارهم عليه.

قوله تعالى: ( وَ اللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ ) وراء الشي‏ء الجهات الخارجة منه المحيطة به. إشارة إلى أنّهم غير معجزين لله سبحانه فهو محيط بهم قادر عليهم من كلّ جهة، و فيه أيضاً تطييب لنفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و عن بعضهم أنّ في قوله:( مِنْ وَرائِهِمْ ) تلويحاً إلى أنّهم اتّخذوا الله وراءهم ظهريّا، و هو مبنيّ على أخذ وراء بمعنى خلف.

قوله تعالى: ( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ) إضراب عن إصرارهم على تكذيب القرآن، و المعنى ليس الأمر كما يدّعون بل القرآن كتاب مقروّ عظيم في معناه غزير في معارفه في لوح محفوظ عن الكذب و الباطل مصون من مسّ الشياطين.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن جابر بن عبدالله أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن( السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ ) فقال: الكواكب، و سئل عن( الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً ) فقال: الكواكب. قيل:( بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ) فقال: قصور.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و الترمذيّ و ابن أبي الدنيا في الاُصول و ابن جرير و ابن المنذر و ابن حاتم و ابن مردويه و البيهقيّ في سننه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اليوم الموعود يوم القيامة و اليوم المشهود يوم عرفة و الشاهد يوم الجمعة. الحديث.

أقول: و روي مثله بطرق اُخرى عن أبي مالك و سعيد بن المسيّب و جبير بن مطعم عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و لفظ الأخير: الشاهد يوم الجمعة و المشهود يوم عرفة.

٣٧٥

و روي هذا اللفظ عن عبدالرزّاق و الفاريابيّ و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن عليّ بن أبي طالب.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن عليّ قال: اليوم الموعود يوم القيامة، و الشاهد يوم الجمعة، و المشهود يوم النحر.

و في المجمع، روي: أنّ رجلاً دخل مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإذا رجل يحدّث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال: فسألته عن الشاهد و المشهود فقال: نعم الشاهد يوم الجمعة و المشهود يوم عرفة، فجزته إلى آخر يحدّث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسألته عن ذلك فقال: أمّا الشاهد فيوم الجمعة و أمّا المشهود فيوم النحر.

فجزتهما إلى غلام كأنّ وجهه الدينار و هو يحدّث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت: أخبرني عن شاهد و مشهود فقال: نعم أمّا الشاهد فمحمّد و أمّا المشهود فيوم القيامة أ ما سمعت الله سبحانه يقول:( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً ) و قال:( ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ) .

فسألت عن الأوّل فقالوا: ابن عبّاس، و سألت عن الثاني فقالوا: ابن عمرو، و سألت عن الثالث فقالوا: الحسن بن علي.

أقول: و الحديث مرويّ بطرق مختلفة و ألفاظ متقاربة و قد تقدّم في تفسير الآية أنّ ما ذكرهعليه‌السلام أظهر بالنظر إلى سياق الآيات، و إن كان لفظ الشاهد و المشهود لا يأبى الانطباق على غيره أيضاً بوجه.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ ) قال: كان سببه أنّ الّذي هيّج الحبشة على غزوة اليمن ذو نواس و هو آخر من ملك من حمير تهوّد و اجتمعت معه حمير على اليهوديّة و سمّى نفسه يوسف و أقام على ذلك حيناً من الدهر.

ثمّ اُخبر أنّ بنجران بقايا قوم على دين النصرانيّة و كانوا على دين عيسى و حكم الإنجيل، و رأس ذلك الدين عبد الله بن بريامن فحمله أهل دينه على أن يسير إليهم و يحملهم على اليهوديّة و يدخلهم فيها فسار حتّى قدم نجران فجمع من كان

٣٧٦

بها على دين النصرانيّة ثمّ عرض عليهم دين اليهوديّة و الدخول فيها فأبوا عليه فجادلهم و عرض عليهم و حرص الحرص كلّه فأبوا عليه و امتنعوا من اليهوديّة و الدّخول فيها و اختاروا القتل.

فاتّخذ لهم اُخدوداً و جمع فيه الحطب و أشعل فيه النار فمنهم من اُحرق بالنار و منهم من قتل بالسيف و مثل بهم كلّ مثلة فبلغ عدد من قتل و اُحرق بالنار عشرين ألفاً و أفلت منهم رجل يدعى دوش ذو ثعلبان على فرس له ركضة، و اتّبعوه حتّى أعجزهم في الرمل، و رجع ذو نواس إلى صنيعه في جنوده فقال الله:( قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ - إلى قوله -الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) .

و في المجمع، و روى سعيد بن جبير قال: لمّا انهزم أهل إسفندهان قال عمر بن الخطّاب: ما هم يهود و لا نصارى و لا لهم كتاب و كانوا مجوساً فقال عليّ بن أبي طالب: بلى قد كان لهم كتاب رفع.

و ذلك أنّ ملكاً لهم سكر فوقع على ابنته - أو قال: على اُخته - فلمّا أفاق قال لها: كيف المخرج ممّا وقعت فيه؟ قالت: تجمع أهل مملكتك و تخبرهم أنّك ترى نكاح البنات و تأمرهم أن يحلّوه فجمعهم فأخبرهم فأبوا أن يتابعوه فخدّ لهم اُخدوداً في الأرض، و أوقد فيه النيران و عرضهم عليها فمن أبى قبول ذلك قذفه في النار، و من أجاب خلّى سبيله.

أقول: و روي هذا المعنى في الدرّ المنثور، عن عبد بن حميد عنهعليه‌السلام .

و عن تفسير العيّاشيّ، بإسناده عن جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: أرسل عليّعليه‌السلام إلى اُسقفّ نجران يسأله عن أصحاب الاُخدود فأخبره بشي‏ء فقالعليه‌السلام : ليس كما ذكرت و لكن ساُخبرك عنهم:

إنّ الله بعث رجلاً حبشيّاً نبيّاً و هم حبشيّة فكذّبوه فقاتلهم فقتلوا أصحابه فأسروه و أسروا أصحابه ثمّ بنوا له حيراً ثمّ ملؤه ناراً ثمّ جمعوا الناس فقالوا: من كان على ديننا و أمرنا فليعتزل، و من كان على دين هؤلاء فليرم نفسه في النار فجعل أصحابه يتهافتون في النار فجاءت امرأة معها صبيّ لها ابن شهر فلمّا هجمت هابت و

٣٧٧

رقّت على ابنها فنادى الصبيّ: لا تهابي و ارميني و نفسك في النار فإنّ هذا و الله في الله قليل، فرمت بنفسها في النار و صبيّها، و كان ممّن تكلّم في المهد.

أقول: و روي هذا المعنى في الدرّ المنثور، عن ابن مردويه عن عبدالله بن نجي عنهعليه‌السلام ، و روي أيضاً عن ابن أبي حاتم من طريق عبدالله بن نجي عنهعليه‌السلام قال: كان نبيّ أصحاب الاُخدود حبشيّاً.

و روي أيضاً عن ابن أبي حاتم و ابن المنذر من طريق الحسن عنهعليه‌السلام في قوله تعالى:( أَصْحابُ الْأُخْدُودِ ) قال: هم الحبشة.

و لا يبعد أن يستفاد أنّ حديث أصحاب الاُخدود وقائع متعدّدة وقعت بالحبشة و اليمن و العجم و الإشارة في الآية إلى جميعها و هناك روايات تقصّ القصّة مع السكوت عن محلّ وقوعها.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ) قال: اللوح المحفوظ له طرفان طرف على يمين العرش على جبين إسرافيل فإذا تكلّم الربّ جلّ ذكره بالوحي ضرب اللّوح جبين إسرافيل فنظر في اللّوح فيوحي بما في اللّوح إلى جبرئيل.

و في الدرّ المنثور، أخرج أبوالشيخ و ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خلق الله لوحاً من درّة بيضاء دفّتاه من زبرجدة خضراء كتابه من نور يلحظ إليه في كلّ يوم ثلاث مائة و ستّين لحظة يحيي و يميت و يخلق و يرزق و يعزّ و يذلّ و يفعل ما يشاء.

أقول: و الروايات في صفة اللوح كثيرة مختلفة و هي على نوع من التمثيل.

٣٧٨

( سورة الطارق مكّيّة و هي سبع عشرة آية)

( سورة الطارق الآيات ١ - ١٧)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ( ١ ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ( ٢ ) النَّجْمُ الثَّاقِبُ ( ٣ ) إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ( ٤ ) فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ ( ٥ ) خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ ( ٦ ) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ( ٧ ) إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ( ٨ ) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ( ٩ ) فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ ( ١٠ ) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ ( ١١ ) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ( ١٢ ) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ( ١٣ ) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ( ١٤ ) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ( ١٥ ) وَأَكِيدُ كَيْدًا ( ١٦ ) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ( ١٧ )

( بيان‏)

في السورة إنذار بالمعاد و تستدلّ عليه بإطلاق القدرة و تؤكّد القول في ذلك، و فيها إشارة إلى حقيقة اليوم، و تختتم بوعيد الكفّار.

و السورة ذات سياق مكّيّ.

قوله تعالى: ( وَ السَّماءِ وَ الطَّارِقِ وَ ما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ ) الطرق في الأصل - على ما قيل - هو الضرب بشدّة يسمع له صوت و منه المطرقة و الطريق لأنّ السابلة تطرقها بأقدامها ثمّ شاع استعماله في سلوك الطريق ثمّ اختصّ بالإتيان ليلاً لأنّ الآتي بالليل في الغالب يجد الأبواب مغلقة فيطرقها و يدقّها ثمّ شاع الطارق

٣٧٩

في كلّ ما يظهر ليلاً، و المراد بالطارق في الآية النجم الّذي يطلع بالليل.

و الثقب في الأصل بمعنى الخرق ثمّ صار بمعنى النيّر المضي‏ء لأنّه يثقب الظلام بنوره و يأتي بمعنى العلوّ و الارتفاع و منه ثقب الطائر أي ارتفع و علا كأنّه يثقب الجوّ بطيرانه.

فقوله:( وَ السَّماءِ وَ الطَّارِقِ ) إقسام بالسماء و بالنجم الطالع ليلاً، و قوله:( وَ ما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ ) تفخيم لشأن المقسم به و هو الطارق، و قوله:( النَّجْمُ الثَّاقِبُ ) بيان للطارق و الجملة في معنى جواب استفهام مقدّر كأنّه لمّا قيل: و ما أدراك ما الطارق؟ سئل فقيل: فما هو الطارق؟ فاُجيب، و قيل: النجم الثاقب.

قوله تعالى: ( إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ ) جواب للقسم و لمّا بمعنى إلّا و المعنى ما من نفس إلّا عليها حافظ، و المراد من قيام الحافظ على حفظها كتابة أعمالها الحسنة و السيّئة على ما صدرت منها ليحاسب عليها يوم القيامة و يجزي بها فالحافظ هو الملك و المحفوظ العمل كما قال تعالى:( وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونََ ) الانفطار: ١٢.

و لا يبعد أن يكون المراد من حفظ النفس حفظ ذاتها و أعمالها، و المراد بالحافظ جنسه فتفيد أنّ النفوس محفوظة لا تبطل بالموت و لا تفسد حتّى إذا أحيا الله الأبدان أرجع النفوس إليها فكان الإنسان هو الإنسان الدنيويّ بعينه و شخصه ثمّ يجزيه بما يقتضيه أعماله المحفوظة عليه من خير أو شرّ.

و يؤيّد ذلك كثير من الآيات الدالّة على حفظ الأشياء كقوله تعالى:( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) الم السجدة: ١١، و قوله:( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى‏ عَلَيْهَا الْمَوْتَ ) الزمر: ٤٢.

و لا ينافي هذا الوجه ظاهر آية الانفطار السابقة من أنّ حفظ الملائكة هو الكتابة فإنّ حفظ نفس الإنسان أيضاً من الكتابة على ما يستفاد من قوله:( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) الجاثية: ٢٩ و قد تقدّمت الإشارة إليه.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568