الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219947 / تحميل: 7014
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

فالإنسان بخصوصيّة إنشائه و كونه بحيث يسمع و يبصر يمتاز من الجماد و النبات - و الاقتصار بالسمع و البصر من سائر الحواسّ كاللمس و الذوق و الشمّ لكونهما العمدة و لا يبعد أن يكون المراد بالسمع و البصر مطلق الحواسّ الظاهرة من باب إطلاق الجزء و إرادة الكلّ - و بالفؤاد و هو النفس المتفكّرة يمتاز من سائر الحيوان.

و قوله:( قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ ) أي تشكرون قليلاً على هذه النعمة - أو النعم - العظمى فما زائدة و قليلاً مفعول مطلق تقديره تشكرون شكراً قليلاً، و قيل: ما مصدريّة و المعنى: قليلا شكركم.

قوله تعالى: ( قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) الذرء الخلق و المراد بذرئهم في الأرض خلقهم متعلّقين بالأرض فلا يتمّ لهم كمالهم إلّا بأعمال متعلّقة بالمادّة الأرضيّة بما زيّنها الله تعالى بما تنجذب إليه النفس الإنسانيّة في حياتها المعجّلة ليمتاز به الصالح من الطالح قال تعالى:( إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً ) الكهف: ٨.

و قوله:( وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) إشارة إلى البعث و الجزاء و وعد جازم.

قوله تعالى: ( وَ يَقُولُونَ مَتى‏ هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) المراد بهذا الوعد الحشر الموعود، و هو استعجال منهم استهزاء.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) جواب عن قولهم:( مَتى‏ هذَا الْوَعْدُ ) إلخ، و محصّله أنّ العلم به عندالله لا يعلم به إلّا هو كما قال:( لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ) الأعراف: ١٨٧، و ليس لي إلّا أنّي نذير مبين اُمرت أن اُخبركم أنّكم إليه تحشرون و أمّا أنّه متى هو فليس لي بذلك علم.

هذا على ما يفيده وقوع الآية في سياق الجواب عن السؤال عن وقت الحشر، و على هذا تكون اللام في العلم للعهد، و المراد العلم بوقت الحشر، و أمّا لو كانت للجنس على ما تفيده جملة( إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ ) في نفسها فالمعنى: إنّما حقيقة العلم عندالله و لا يحاط بشي‏ء منه إلّا بإذنه كما قال:( وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما

٢١

شاءَ ) البقرة: ٢٥٥، و لم يشأ أن أعلم من ذلك إلّا أنّه سيقع و اُنذركم به و أمّا أنّه متى يقع فلا علم لي به.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) إلخ، الزلفة القرب و المراد به القريب أو هو من باب زيد عدل، و ضمير( رَأَوْهُ ) للوعد و قيل للعذاب و المعنى: فلمّا رأوا الوعد المذكور قريباً قد أشرف عليهم ساء ذلك وجوه الّذين كفروا به فظهر في سيماهم أثر الخيبة و الخسران.

و قوله:( وَ قِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ ) قيل تدعون و تدّعون بمعنى واحد كتدخرون و تدّخرون و المعنى: و قيل لهم: هذا هو الوعد الّذي كنتم تسألونه و تستعجلون به بقولكم: متى هذا الوعد، و ظاهر السياق أنّ القائل هم الملائكة بأمر من الله، و قيل القائل من الكفّار يقوله بعضهم لبعض.

قوله تعالى: ( قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَ مَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ) ( إِنْ ) شرطيّة شرطها قوله:( أَهْلَكَنِيَ اللهُ ) و جزاؤها قوله:( فَمَنْ يُجِيرُ ) إلخ، و المعنى: قل لهم أخبروني إن أهلكني الله و من معي من المؤمنين أو رحمنا فلم يهلكنا فمن الّذي يجير و يعيد الكافرين - و هم أنتم كفرتم بالله فاستحققتم أليم العذاب - من عذاب أليم يهدّدهم تهديداً قاطعاً أي إنّ هلاكي و من معي و بقاؤنا برحمة ربّي لا ينفعكم شيئاً في العذاب الّذي سيصيبكم قطعاً بكفركم بالله.

قيل: إنّ كفّار مكّة كانوا يدعون على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و على المؤمنين بالهلاك فأمرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول لهم إن أهلكنا الله تعالى أو أبقانا فأمرنا إلى الله و نرجو الخير من رحمته و أمّا أنتم فما تصنعون؟ من يجيركم من أليم العذاب على كفركم بالله.؟

قوله تعالى: ( قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) الضمير للّذي يدعو إلى توحيده و هم يدعونه عليه، و المعنى: قل الّذي أدعوكم إلى توحيده و تدعونه عليّ و على من معي هو الرحمن الّذي عمّت نعمته كلّ شي‏ء آمنّا به و عليه توكّلنا من غير أن نميل و نعتمد على شي‏ء دونه فستعلمون أيّها الكفّار من هو في ضلال مبين؟ نحن أم أنتم.؟

٢٢

قال في الكشّاف: فإن قيل: لم اُخّر مفعول( آمَنَّا ) و قدّم مفعول( تَوَكَّلْنا ) ؟ قلت: لوقوع آمنّا تعريضاً بالكافرين حين ورد عقيب ذكرهم كأنّه قيل: آمنّا و لم نكفر كما كفرتم، ثمّ قال: و عليه توكّلنا خصوصاً لم نتّكل على ما أنتم متّكلون عليه من رجالكم و أموالكم.

قوله تعالى: ( قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ ) الغور ذهاب الماء و نضوبه في الأرض و المراد به الغائر، و المعين الظاهر الجاري من الماء، و المعنى: أخبروني إن صار ماؤكم غائراً ناضباً في الأرض فمن يأتيكم بماء ظاهر جار.

و هناك روايات تطبّق الآيات على ولاية عليّعليه‌السلام و محادّته، و هي من الجري و ليست بمفسّرة.

٢٣

( سورة القلم مكّيّة و هي اثنتان و خمسون آية)

( سورة القلم الآيات ١ - ٣٣)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ( ١ ) مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ( ٢ ) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ( ٣ ) وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ( ٤ ) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ( ٥ ) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ ( ٦ ) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ( ٧ ) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ( ٨ ) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ( ٩ ) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ ( ١٠ ) هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ( ١١ ) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ( ١٢ ) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ ( ١٣ ) أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ( ١٤ ) إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ( ١٥ ) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ( ١٦ ) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ( ١٧ ) وَلَا يَسْتَثْنُونَ ( ١٨ ) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ ( ١٩ ) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ( ٢٠ ) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ ( ٢١ ) أَنِ اغْدُوا عَلَىٰ حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ ( ٢٢ ) فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ( ٢٣ ) أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ ( ٢٤ ) وَغَدَوْا عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ ( ٢٥ ) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ( ٢٦ ) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ( ٢٧ ) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ ( ٢٨ ) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ( ٢٩ ) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ

٢٤

يَتَلَاوَمُونَ ( ٣٠ ) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ ( ٣١ ) عَسَىٰ رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ ( ٣٢ ) كَذَٰلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( ٣٣ )

( بيان‏)

السورة تعزّى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إثر ما رماه المشركون بالجنون و تطيّب نفسه بالوعد الجميل و الشكر على خلقه العظيم و تنهاه نهياً بالغاً عن طاعتهم و مداهنتهم، و تأمره أمراً أكيداً بالصبر لحكم ربّه.

و سياق آياتها على الجملة سياق مكّيّ، و نقل عن ابن عباس و قتادة أنّ صدرها إلى قوله:( سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ) - ستّة عشرة آية - مكّيّ، و ما بعده إلى قوله:( لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) - سبع عشرة آية - مدنيّ، و ما بعده إلى قوله:( يَكْتُبُونَ ) - خمس عشرة آية - مكّيّ، و ما بعده إلى آخر السورة - أربع آيات - مدنيّ.

و لا يخلو من وجه بالنسبة إلى الآيات السبع عشرة( إِنَّا بَلَوْناهُمْ - إلى قوله -لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) فإنّها أشبه بالمدنيّة منها بالمكّيّة.

قوله تعالى: ( ن ) تقدّم الكلام في الحروف المقطّعة الّتي في أوائل السور في تفسير سورة الشورى.

قوله تعالى: ( وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ ) القلم معروف، و السطر بالفتح فالسكون و ربّما يستعمل بفتحتين - كما في المفردات - الصفّ من الكتابة، و من الشجر المغروس و من القوم الوقوف و سطر فلان كذا كتب سطراً سطراً.

أقسم سبحانه بالقلم و ما يسطرون به و ظاهر السياق أنّ المراد بذلك مطلق القلم و مطلق ما يسطرون به و هو المكتوب فإنّ القلم و ما يسطر به من الكتابة من أعظم النعم الإلهيّة الّتي اهتدى إليها الإنسان يتلو الكلام في ضبط الحوادث الغائبة عن الأنظار

٢٥

و المعاني المستكنّة في الضمائر، و به يتيسّر للإنسان أن يستحضر كلّ ما ضرب مرور الزمان أو بعد المكان دونه حجاباً.

و قد امتنّ الله سبحانه على الإنسان بهدايته إليهما و تعليمهما له فقال في الكلام( خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ ) الرحمن: ٤ و قال في القلم:( عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ) العلق: ٥.

فإقسامه تعالى بالقلم و ما يسطرون إقسام بالنعمة، و قد أقسم تعالى في كلامه بكثير من خلقه بما أنّه رحمة و نعمة كالسماء و الأرض و الشمس و القمر و الليل و النهار إلى غير ذلك حتّى التين و الزيتون.

و قيل:( ما ) في قوله:( وَ ما يَسْطُرُونَ ) مصدريّة و المراد به الكتابة.

و قيل: المراد بالقلم القلم الأعلى الّذي في الحديث أنّه أوّل ما خلق الله و بما يسطرون ما يسطره الحفظة و الكرام الكاتبون و احتمل أيضاً أن يكون الجمع في( يَسْطُرُونَ ) للتعظيم لا للتكثير و هو كما ترى، و احتمل أن يكون المراد ما يسطرون فيه و هو اللوح المحفوظ و احتمل أن يكون المراد بالقلم و ما يسطرون أصحاب القلم و مسطوراتهم و هي احتمالات واهية.

قوله تعالى: ( ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ) مقسم عليه و الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و الباء في( بِنِعْمَةِ ) للسببية أو المصاحبة أي ما أنت بمجنون بسبب النعمة - أو مع النعمة - الّتي أنعمها عليك ربّك.

و السياق يؤيّد أنّ المراد بهذه النعمة النبوّة فإنّ دليل النبوّة يدفع عن النبيّ كلّ اختلال عقليّ حتّى تستقيم الهداية الإلهيّة اللّازمة في نظام الحياة الإنسانيّة، و الآية تردّ ما رموه به من الجنون كما يحكي عنهم في آخر السورة( وَ يَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ) .

و قيل: المراد بالنعمة فصاحتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عقله الكامل و سيرته المرضيّة و براءته من كلّ عيب و اتّصافه بكلّ مكرمة فظهور هذه الصفات فيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينافي حصول الجنون فيه و ما قدّمناه أقطع حجّة و الآية و ما يتلوها كما ترى تعزية للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تطييب

٢٦

لنفسه الشريفة و تأييد له كما أنّ فيها تكذيباً لقولهم.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ) الممنون من المنّ بمعنى القطع يقال: منّه لسير منّاً إذا قطعه و أضعفه لا من المنّة بمعنى تثقيل النعمة قولاً.

و المراد بالأجر أجر الرسالة عندالله سبحانه، و فيه تطييب لنفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أنّ له على تحمّل رسالة الله أجراً غير مقطوع و ليس يذهب سدىً.

و ربّما اُخذ المنّ بمعنى ذكر المنعم إنعامه على المنعم عليه بحيث يثقل عليه و يكدّر عيشه بتقريب أنّ ما يعطيه الله أجر في مقابل عمله فهو يستحقّه عليه تعالى فلا منّه عليه و هو غير سديد فإنّ كلّ عامل مملوك لله سبحانه بحقيقة معنى الملك بذاته و صفاته و أعماله فما يعطيّه العبد من ذلك فهو موهبة و عطيّة و ما يملكه العبد من ذلك فإنّما يملكه بتمليك الله و هو المالك لما ملّكه من قبل و من بعد فهو تفضّل منه تعالى و لئن سمّى ما يعطيه بإزاء العمل أجراً و سمّى ما بينه و بين عبده من مبادلة العمل و الأجر معاملة فذلك تفضّل آخر فللّه سبحانه المنّة على جميع خلقه و الرسول و من دونه فيه سواء.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) الخلق هو الملكة النفسانيّة الّتي تصدر عنها الأفعال بسهولة و ينقسم إلى الفضيلة و هي الممدوحة كالعفّة و الشجاعة، و الرذيلة و هي المذمومة كالشره و الجبن لكنه إذا اُطلق فهم منه الخلق الحسن.

قال الراغب: و الخلق - بفتح الخاء - و الخلق - بضمّ الخاء - في الأصل واحد كالشَرب و الشُرب و الصرم و الصُرم لكن خصّ الخلق - بالفتح - بالهيئات و الأشكال و الصور المدركة بالبصر، و خصّ الخلق - بالضمّ - بالقوى و السجايا المدركة بالبصيرة قال تعالى:( وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) انتهى.

و الآية و إن كانت في نفسها تمدح حسن خلقهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تعظّمه غير أنّها بالنظر إلى خصوص السياق ناظرة إلى أخلاقه الجميلة الاجتماعيّة المتعلّقة بالمعاشرة كالثبات على الحقّ و الصبر على أذى الناس و جفاء أجلافهم و العفو و الإغماض و سعة البذل و الرفق و المداراة و التواضع و غير ذلك، و قد أوردنا في آخر الجزء السادس من الكتاب

٢٧

ما روي في جوامع أخلاقهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و ممّا تقدّم يظهر أنّ ما قيل: إنّ المراد بالخلق الدين و هو الإسلام غير مستقيم إلّا بالرجوع إلى ما تقدّم.

قوله تعالى: ( فَسَتُبْصِرُ وَ يُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ ) تقريع على محصّل ما تقدّم أي فإذا لم تكن مجنوناً بل متلبّساً بالنبوّة و متخلّقاً بالخلق و لك عظيم الأجر من ربّك فسيظهر أمر دعوتك و ينكشف على الأبصار و البصائر من المفتون بالجنون؟ أنت أو المكذّبون الرامون لك بالجنون.

و قيل: المراد ظهور عاقبة أمر الدعوة له و لهم في الدنيا أو في الآخرة؟ الآية تقبل الحمل على كلّ منها. و لكلّ قائل، و لا مانع من الجمع فإنّ الله تعالى أظهر نبيّه عليهم و دينه على دينهم، و رفع ذكرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و محا أثرهم في الدنيا و سيذوقون وبال أمرهم غداً و يعلمون(١) أنّ الله هو الحقّ المبين يوم هم(٢) على النار يفتنون ذوقوا فتنتكم هذا الّذي كنتم به تستعجلون.

و قوله:( بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ ) الباء زائدة للصلة، و المفتون اسم مفعول من الفتنة بمعنى الابتلاء يريد به المبتلى بالجنون و فقدان العقل، و المعنى: فستبصر و يبصرون أيّكم المفتون المبتلى بالجنون؟ أنت أم هم.؟

و قيل: المفتون مصدر على زنة مفعول كمعقول و ميسور و معسور في قولهم: ليس له معقول، و خذ ميسوره، و دع معسوره، و الباء في( بِأَيِّكُمُ ) بمعنى في و المعنى: فستبصر و يبصرون في أي الفريقين الفتنة.

قوله تعالى: ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) لمّا اُفيد بما تقدّم من القول أنّ هناك ضلالاً و اهتداء، و اُشير إلى أنّ الرامين للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجنون هم المفتونون الضالّون و سيظهر أمرهم و أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

____________________

(١) النور: ٣٥.

(٢) الذاريات: ١٤

٢٨

مهتد و كان ذلك ببيان من الله سبحانه أكّد ذلك بأنّ الله أعلم بمن ضلّ عن سبيله و هو أعلم بالمهتدين لأنّ السبيل سبيله و هو أعلم بمن هو في سبيله و من ليس فيه و إليه أمر الهداية.

قوله تعالى: ( فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ) تفريع على المحصّل من معنى الآيات السابقة و في المكذّبين معنى العهد و المراد بالطاعة مطلق الموافقة عملاً أو قولاً، و المعنى: فإذا كان هؤلاء المكذّبون لك مفتونين ضالّين فلا تطعهم.

قوله تعالى: ( وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ) الإدهان من الدهن يراد به التليين أي ودّ و أحبّ هؤلاء المكذّبون أن تليّنهم بالاقتراب منهم في دينك فيليّنوك بالاقتراب منك في دينهم، و محصّله أنّهم ودّوا أن تصالحهم و يصالحوك على أن يتسامح كلّ منكم بعض المسامحة في دين الآخر كما قيل: إنّهم عرضوا عليه أن يكفّ عن ذكر آلهتهم فيكفّوا عنه و عن ربّه.

و بما تقدّم ظهر أنّ متعلّق مودّتهم مجموع( لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ) و أنّ الفاء في( فَيُدْهِنُونَ ) للتفريع لا للسببيّة.

قوله تعالى: ( وَ لا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ - إلى قوله -زَنِيمٍ ) الحلّاف كثير الحلف، و لازم كثرة الحلف و الإقسام في كلّ يسير و خطير و حقّ و باطل أن لا يحترم الحالف شيئاً ممّا يقسم به، و إذا كان حلفه بالله فهو لا يستشعر عظمة الله عزّ اسمه و كفى به رذيلة.

و المهين من المهانة بمعنى الحقارة و المراد به حقارة الرأي، و قيل: هو المكثار في الشرّ، و قيل: هو الكذّاب.

و الهمّاز مبالغة من الهمز و المراد به العيّاب و الطعّان، و قيل: الطعّان بالعين و الإشارة و قيل: كثير الاغتياب.

و المشّاء بنميم النميم: السعاية و الإفساد، و المشّاء به هو نقّال الحديث من قوم إلى قوم على وجه الإفساد بينهم.

و المنّاع للخير كثير المنع لفعل الخير أو للخير الّذي ينال أهله.

٢٩

و المعتدي من الاعتداء و هو المجاوزة للحدّ ظلماً.

و الأثيم هو الّذي كثر إثمه حتّى استقرّ فيه من غير زوال و الإثم هو العمل السيّئ الّذي يبطئ الخير.

و العتلّ بضمّتين هو الفظّ الغليظ الطبع، و فسّر بالفاحش السيّئ الخلق، و بالجافي الشديد الخصومة بالباطل، و بالأكول المنوع للغير، و بالّذي يعتلّ الناس و يجرّهم إلى حبس أو عذاب.

و الزنيم هو الّذي لا أصل له، و قيل: هو الدعيّ الملحق بقوم و ليس منهم، و قيل: هو المعروف باللؤم، و قيل: هو الّذي له علامة في الشرّ يعرف بها و إذا ذكر الشرّ سبق هو إلى الذهن، و المعاني متقاربة.

فهذه صفات تسع رذيلة وصف الله بها بعض أعداء الدين ممّن كان يدعو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الطاعة و المداهنة، و هي جماع الرذائل.

و قوله:( عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ ) معناه أنّه بعد ما ذكر من مثالبه و رذائله عتلّ زنيم قيل: و فيه دلالة على أنّ هاتين الرذيلتين أشدّ معايبه.

و الظاهر أنّ فيه إشارة إلى أنّ له خبائث من الصفات لا ينبغي معها أن يطاع في أمر الحقّ و لو اُغمض عن تلك الصفات فإنّه فظّ خشن الطبع لا أصل له لا ينبغي أن يعبأ بمثله في مجتمع بشريّ فليطرد و لا يطع في قول و لا يتّبع في فعل.

قوله تعالى: ( أَنْ كانَ ذا مالٍ وَ بَنِينَ ) الظاهر أنّه بتقدير لام التعليل و هو متعلّق بفعل محصّل من مجموع الصفات الرذيلة المذكورة أي هو يفعل كذا و كذا لأن كان ذا مال و بنين فبطر بذلك و كفر بنعمة الله و تلبّس بكلّ رذيلة خبيثة بدل أن يشكر الله على نعمته و يصلح نفسه، فالآية في إفادة الذمّ و التهكّم تجري مجرى قوله:( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ ) .

و قيل: إنّه متعلّق بقوله السابق( لا تُطِعْ ) ، و المعنى: لا تطعه لكونه ذا مال و بنين أي لا يحملك كونه ذا مال و بنين على طاعته، و المعنى المتقدّم أقرب و أوسع.

قيل: و لا يجوز تعلّقه بقوله:( قالَ ) في الشرطيّة التالية لأنّ ما بعد الشرط

٣٠

لا يعمل فيما قبله عند النحاة.

قوله تعالى: ( إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) الأساطير جمع اُسطورة و هي القصّة الخرافيّة، و الآية تجري مجرى التعليل لقوله السابق:( لا تُطِعْ ) .

قوله تعالى: ( سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ) الوسم و السمة وضع العلامة، و الخرطوم الأنف، و قيل: إنّ في إطلاق الخرطوم على أنفه و إنّما يطلق في الفيل و الخنزير تهكّماً، و في الآية وعيد على عداوته الشديدة لله و رسوله و ما نزّله على رسوله.

و الظاهر أنّ الوسم على الأنف اُريد به نهاية إذلاله بذلّة ظاهرة يعرفه بها كلّ من رآه فإنّ الأنف ممّا يظهر فيه العزّة و الذلّة كما يقال: شمخ فلان بأنفه و حمي فلان أنفه و أرغمت أنفه و جدع أنفه.

و الظاهر أنّ الوسم على الخرطوم ممّا سيقع يوم القيامة لا في الدنيا و إن تكلّف بعضهم في توجيه حمله على فضاحته في الدنيا.

قوله تعالى: ( إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ - إلى قوله -كَالصَّرِيمِ ) البلاء الاختبار و إصابة المصيبة، و الصرم قطع الثمار من الأشجار، و الاستثناء عزل البعض من حكم الكلّ و أيضاً الاستثناء قول إن شاء الله عند القطع بقول و ذلك أنّ الأصل فيه الاستثناء فالأصل في قولك: أخرج غداً إن شاء الله هو أخرج غداً إلّا أن يشاء الله أن لا أخرج، و الطائف العذاب الّذي يأتي بالليل، و الصريم الشجر المقطوع ثمره، و قيل: الليل الأسود، و قيل: الرمل المقطوع من سائر الرمل و هو لا ينبت شيئاً و لا يفيد فائدة.

الآيات أعني قوله:( إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ ) إلى تمام سبع عشرة آية وعيد لمكذّبي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الرامين له بالجنون، و في التشبيه و التنظير دلالة على أنّ هؤلاء المكذّبين معذّبون لا محالة و العذاب الواقع عليهم قائم على ساقه، غير أنّهم غافلون و سيعلمون، فهم مولعون اليوم بجمع المال و تكثير البنين

٣١

مستكبرون بها معتمدون عليها و على سائر الأسباب الظاهريّة الّتي توافقهم و تشايع أهواءهم من غير أن يشكروا ربّهم على هذه النعم و يسلكوا سبيل الحقّ و يعبدوا ربّهم حتّى يأتيهم الأجل و يفاجئهم عذاب الآخرة أو عذاب دنيويّ من عنده كما فاجأهم يوم بدر فيروا انقطاع الأسباب عنهم و أنّ المال و البنين سدىً لا ينفعهم شيئاً كما شاهد نظير ذلك أصحاب الجنّة من جنّتهم و سيندمون على صنيعهم و يرغبون إلى ربّهم و لا يرد ذلك عذاب الله كما ندم أصحاب الجنّة و تلاوموا و رغبوا إلى ربّهم فلم ينفعهم ذلك شيئاً كذلك العذاب و لعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون، هذا على تقدير اتّصال الآيات بما قبلها و نزولها معها.

و أمّا على ما رووا أنّ الآيات نزلت في القحط و السنة الّذي أصاب أهل مكّة و قريشاً إثر دعاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم بقوله: اللّهمّ اشدد وطأتك على مضر و اجعلها عليهم سنين كسني يوسف، فالمراد بالبلاء إصابتهم بالقحط و تناظر قصّتهم قصّة أصحاب الجنّة غير أنّ في انطباق ما في آخر قصّتهم من قوله:( فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ ) إلخ، على قصّة أهل مكّة خفاء.

و كيف كان فالمعنى:( إِنَّا بَلَوْناهُمْ ) أصبناهم بالبليّة( كَما بَلَوْنا ) و أصبنا بالبليّة( أَصْحابَ الْجَنَّةِ ) و كانوا قوماً من اليمن و جنّتهم فيها و سيأتي إن شاء الله قصّتهم في البحث الروائيّ الآتي( إِذْ ) ظرف لبلونا( أَقْسَمُوا ) و حلفوا( لَيَصْرِمُنَّها ) أي ليقطعنّ و يقطفنّ ثمار جنّتهم( مُصْبِحِينَ ) داخلين في الصباح و كأنّهم ائتمروا و تشاوروا ليلاً فعزموا على الصرم صبيحة ليلتهم( وَ لا يَسْتَثْنُونَ ) لم يقولوا إلّا أن يشاء الله اعتماداً على أنفسهم و اتّكاء على ظاهر الأسباب. أو المعنى: قالوا و هم لا يعزلون نصيباً من ثمارهم للفقراء و المساكين.

( فَطافَ عَلَيْها ) على الجنّة( طائِفٌ ) أي بلاء يطوف عليها و يحيط بها ليلاً( مِنْ ) ناحية( رَبِّكَ، فَأَصْبَحَتْ ) و صارت الجنّة( كَالصَّرِيمِ ) و هو الشجر المقطوع ثمره أو المعنى: فصارت الجنّة كالليل الأسود لمّا اسودّت بإحراق النار الّتي أرسلها الله إليها أو المعنى: فصارت الجنّة كالقطعة من الرمل لا نبات بها و لا فائدة.

٣٢

قوله تعالى: ( فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ - إلى قوله -قادِرِينَ ) التنادي نداء بعض القوم بعضاً، و الإصباح الدخول في الصباح، و صارمين من الصرم بمعنى قطع الثمار من الشجرة، و المراد به في الآية القاصدون لقطع الثمار، و الحرث الزرع و الشجر، و الخفت الإخفاء و الكتمان، و الحرد المنع و قادرين من القدر بمعنى التقدير.

و المعنى:( فَتَنادَوْا ) أي فنادى بعض القوم بعضاً( مُصْبِحِينَ ) أي و الحال أنّهم داخلون في الصباح( أَنِ اغْدُوا عَلى‏ حَرْثِكُمْ ) تفسير للتنادي أي بكّروا مقبلين على جنّتكم - فاغدوا أمر بمعنى بكّروا مضمّن معنى أقبلوا و لذا عدّي بعلى و لو كان غير مضمّن عدّي بإلى كما في الكشّاف -( إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ ) أي قاصدين عازمين على الصرم و القطع.

( فانطلقوا ) و ذهبوا إلى جنّتهم( وَ هُمْ يَتَخافَتُونَ ) أي و الحال أنّهم يأتمرون فيما بينهم بطريق المخافتة و المكاتمة( أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا ) أي الجنّة( الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ ) أي أخفوا ورودكم الجنّة للصرم من المساكين حتّى لا يدخلوا عليكم فيحملكم ذلك على عزل نصيب من الثمر المصروم لهم( وَ غَدَوْا ) و بكّروا إلى الجنّة( عَلى‏ حَرْدٍ ) أي على منع للمساكين( قادِرِينَ ) مقدّرين في أنفسهم أنّهم سيصرمونها و لا يساهمون المساكين بشي‏ء منها.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ) أي فلمّا رأوا الجنّة و شاهدوها و قد أصبحت كالصريم بطواف طائف من عندالله قالوا: إنّا لضالّون عن الصواب في غدوّنا إليها بقصد الصرم و منع المساكين.

و قيل: المراد إنّا لضالّون طريق جنّتنا و ما هي بها.

و قوله:( بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ) إضراب عن سابقه أي ليس مجرّد الضلال عن الصواب بل حرمنا الزرع.

قوله تعالى: ( قالَ أَوْسَطُهُمْ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ - إلى قوله -راغِبُونَ ) أي( قالَ أَوْسَطُهُمْ ) أي أعدلهم طريقاً و ذلك أنّه ذكّرهم بالحقّ و إن تبعهم في العمل

٣٣

و قيل: المراد أوسطهم سنّا و ليس بشي‏ء( أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ ) و قد كان قال لهم ذلك و إنّما لم يذكر قبل في القصّة إيجازاً بالتعويل على ذكره ههنا.

( لَوْ لا تُسَبِّحُونَ ) المراد بتسبيحهم له تعالى تنزيههم له من الشركاء حيث اعتمدوا على أنفسهم و على سائر الأسباب الظاهريّة فأقسموا ليصرمنّها مصبحين و لم يستثنوا لله مشيّة فعزلوه تعالى عن السببيّة و التأثير و نسبوا التأثير إلى أنفسهم و سائر الأسباب الظاهريّة، و هو إثبات للشريك، و لو قالوا: لنصرمنّها مصبحين إلّا أن يشاء الله كان معنى ذلك نفي الشركاء و أنّهم إن لم يصرموا كان لمشيّة من الله و إن صرموا كان ذلك بإذن من الله فللّه الأمر وحده لا شريك له.

و قيل: المراد بتسبيحهم لله ذكر الله تعالى و توبتهم إليه حيث نووا أن يصرموها و يحرموا المساكين منها، و له وجه على تقدير أن يراد بالاستثناء عزل نصيب من الثمار للمساكين.

قوله تعالى: ( قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ ) تسبيح منهم لله سبحانه إثر توبيخ أوسطهم لهم، أي ننزّه الله تنزيهاً من الشركاء الّذين أثبتناهم فيما حلفنا عليه فهو ربّنا الّذي يدبّر بمشيّته اُمورنا لأنّا كنّا ظالمين في إثباتنا الشركاء فهو تسبيح و اعتراف بظلمهم على أنفسهم في إثبات الشركاء.

و على القول الآخر توبة و اعتراف بظلمهم على أنفسهم و على المساكين.

قوله تعالى: ( فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ ) أي يلوم بعضهم بعضاً على ما ارتكبوه من الظلم.

قوله تعالى: ( قالُوا يا وَيْلَنا - إلى قوله -راغِبُونَ ) الطغيان تجاوز الحدّ و ضمير( مِنْها ) للجنّة باعتبار ثمارها و المعنى: قالوا يا ويلنا إنّا كنّا متجاوزين حدّ العبوديّة إذ أثبتنا شركاء لربّنا و لم نوحّده، و نرجو من ربّنا أن يبدلنا خيراً من هذه الجنّة الّتي طاف عليها طائف منه لأنّا راغبون إليه معرضون عن غيره.

قوله تعالى: ( كَذلِكَ الْعَذابُ وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) العذاب مبتدأ مؤخّر، و كذلك خبر مقدّم أي إنّما يكون العذاب على ما وصفناه في قصّة

٣٤

أصحاب الجنّة و هو أنّ الإنسان يمتحن بالمال و البنين فيطغى مغترّاً بذلك فيستغني بنفسه و ينسى ربّه و يشرك بالأسباب الظاهريّة و بنفسه و يجترئ على المعصية و هو غافل عمّا يحيط به من وبال عمله و يهيّؤ له من العذاب كذلك حتّى إذا فاجأه العذاب و برز له بأهول وجوهه و أمرّها انتبه من نومة الغفلة و تذكّر ما جاءه من النصح قبلاً و ندم على ما فرّط بالطغيان و الظلم و سأل الله أن يعيد عليه النعمة فيشكر كما انتهى إليه أمر أصحاب الجنّة، ففي ذلك إعطاء الضابط بالمثال.

و قوله:( وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) لأنّه ناش عن قهر إلهي لا يقوم له شي‏ء لا رجاء للتخلّص منه و لو بالموت و الفناء كما في شدائد الدنيا، محيط بالإنسان من جميع أقطار وجوده لا كعذاب الدنيا دائم لا انتهاء لأمده كما في الابتلاءات الدنيويّة.

( بحث روائي)

في المعاني، بإسناده عن سفيان بن سعيد الثوريّ عن الصادقعليه‌السلام في تفسير الحروف المقطّعة في القرآن قال: و أمّا ن فهو نهر في الجنّة قال الله عزّوجلّ: اجمد فجمد فصار مداداً ثمّ قال للقلم: اكتب فسطر القلم في اللوح المحفوظ ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة فالمداد مداد من نور و القلم قلم من نور و اللوح لوح من نور.

قال سفيان: فقلت له: يا بن رسول الله بيّن أمر اللوح و القلم و المداد فضل بيان و علّمني ممّا علّمك الله فقال: يا ابن سعيد لو لا أنّك أهل للجواب ما أجبتك فنون ملك يؤدّي إلى القلم و هو ملك، و القلم يؤدّي إلى اللّوح و هو ملك، و اللّوح يؤدّي إلى إسرافيل و إسرافيل يؤدّي إلى ميكائيل و ميكائيل يؤدّي إلى جبرائيل و جبرائيل يؤدّي إلى الأنبياء و الرسل. قال: ثمّ قال: قم يا سفيان فلا آمن عليك.

و فيه، بإسناده عن إبراهيم الكرخيّ قال: سألت جعفر بن محمّدعليه‌السلام عن اللّوح و القلم قال: هما ملكان.

٣٥

و فيه، بإسناده عن الأصبغ بن نباتة عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام :( ن وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ ) القلم قلم من نور و كتاب من نور في لوح محفوظ يشهده المقرّبون و كفى بالله شهيداً.

أقول: و في المعاني المتقدّمة روايات اُخرى عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، و قد تقدّم في ذيل قوله تعالى:( هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ) الجاثية: ٢٩، حديث القمّيّ عن عبدالرحيم القصير عن الصادقعليه‌السلام في اللّوح و القلم و فيه: ثمّ ختم على فم القلم فلم ينطق بعد ذلك و لا ينطق أبداً و هو الكتاب المكنون الّذي منه النسخ كلّها.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير عن معاوية بن قرّة عن أبيه قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( ن وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ ) قال: لوح من نور و قلم من نور يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة.

أقول: و في معناه روايات اُخر، و قوله: يجري بما هو كائن إلخ، أي منطبق على متن الكائنات من دون أن يتخلّف شي‏ء منها عمّا كتب هناك و نظيره ما في رواية أبي هريرة: ثمّ ختم علي في القلم فلم ينطق و لا ينطق إلى يوم القيامة.

و في المعاني، بإسناده عن أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ:( وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) قال: هو الإسلام.

و في تفسير القمّيّ، عن أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ) قال: على دين عظيم.

أقول: يريد اشتمال الدين و الإسلام على كمال الخُلق و استنانهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به، و في الرواية المعروفة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بعثت لاُتمّم مكارم الأخلاق.

و في المجمع، بإسناده عن الحاكم بإسناده عن الضحّاك قال: لمّا رأت قريش تقديم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاً و إعظامه له نالوا من علي و قالوا: قد افتتن به محمّد فأنزل الله تعالى:( ن وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ ) قسم أقسم الله به( ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَ إِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ (يعني القرآن) - إلى قوله -

٣٦

بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ) وهم النفر الّذين قالوا ما قالوا( وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) يعني عليّ بن أبي طالب.

أقول: و رواه في تفسير البرهان، عن محمّد بن العبّاس بإسناده إلى الضحّاك و ساق نحواً ممّا مرّ و في آخره: و سبيله عليّ بن أبي طالب.

و فيه في قوله تعالى:( وَ لا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ ) إلخ، قيل: يعني الوليد بن المغيرة عرض على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المال ليرجع عن دينه، و قيل: يعني الأخنس بن شريق عن عطاء، و قيل: يعني الأسود بن عبد يغوث: عن مجاهد.

أقول: و في ذلك روايات في الدرّ المنثور و غيره تركنا إيرادها من أرادها فليراجع جوامع الروايات.

و فيه، عن شدّاد بن أوس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يدخل الجنّة جوّاظ و لا جعظريّ و لا عتلّ زنيم. قلت: فما الجوّاظ؟ قال: كلّ جمّاع منّاع. قلت: فما الجعظريّ؟ قال: الفظّ الغليظ. قلت: فما العتلّ الزنيم؟ قال: كلّ رحيب الجوف سيّي‏ء الخلق أكول شروب غشوم ظلوم زنيم.

و فيه، في معنى الزنيم: قيل: هو الّذي لا أصل له.

و فيه، في تفسير القمّيّ في قوله:( عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ ) قال: العتلّ العظيم الكفر الزنيم الدعيّ.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ ) إنّ أهل مكّة ابتلوا بالجوع كما ابتلي أصحاب الجنّة و هي كانت في الدنيا و كانت باليمن يقال له الرضوان على تسعة أميال من صنعاء.

و فيه، بإسناده إلى ابن عبّاس: أنّه قيل له إنّ قوماً من هذه الاُمّة يزعمون أنّ العبد يذنب فيحرم به الرزق، فقال ابن عبّاس: فو الله الّذي لا إله إلّا هو هذا أنور في كتاب الله من الشمس الضاحية ذكره الله في سورة ن و القلم.

إنّه كان شيخ و كان له جنّة و كان لا يدخل إلى بيته ثمرة منها و لا إلى منزله حتّى يعطي كلّ ذي حقّ حقّه فلمّا قبض الشيخ ورثه بنوه و كان له خمس من البنين

٣٧

فحملت جنّتهم في تلك السنة الّتي هلك فيها أبوهم حملاً لم يكن حملته قبل ذلك فراحوا الفتية إلى جنّتهم بعد صلاة العصر فأشرفوا على ثمرة و رزق فاضل لم يعاينوا مثله في حياة أبيهم.

فلمّا نظروا إلى الفضل طغوا و بغوا و قال بعضهم لبعض: إنّ أبانا كان شيخاً كبيراً قد ذهب عقله و خرف فهلمّوا نتعاقد فيما بيننا أن لا نعطي أحداً من فقراء المسلمين في عامنا شيئاً حتّى نستغني و يكثر أموالنا ثمّ نستأنف الصنيعة فيما استقبل من السنين المقبلة فرضي بذلك منهم أربعة و سخط الخامس و هو الّذي قال الله:( قالَ أَوْسَطُهُمْ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ ) .

فقال الرجل: يا ابن عبّاس كان أوسطهم في السنّ؟ فقال: لا بل كان أصغرهم سنّاً و أكبرهم عقلاً و أوسط القوم خير القوم، و الدليل عليه في القرآن قوله: إنكم يا اُمّة محمّد أصغر الاُمم و خير الاُمم قوله عزّوجلّ:( وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) .

قال لهم أوسطهم: اتّقوا و كونوا على منهاج أبيكم تسلموا و تغنموا فبطشوا به و ضربوه ضرباً مبرحاً فلمّا أيقن الأخ منهم أنّهم يريدون قتله دخل معهم في مشورتهم كارهاً لأمرهم غير طائع.

فراحوا إلى منازلهم ثمّ حلفوا بالله ليصرمنّ إذا أصبحوا و لم يقولوا إن شاء الله فابتلاهم الله بذلك الذنب و حال بينهم و بين ذلك الرزق الّذي كانوا أشرفوا عليه فأخبر عنهم في الكتاب فقال:( إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَ لا يَسْتَثْنُونَ فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَ هُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ) قال: كالمحترق.

فقال الرجل: يا ابن عبّاس ما الصريم؟ قال: الليل المظلم، ثمّ قال: لا ضوء له و لا نور.

فلمّا أصبح القوم( فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلى‏ حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ ) قال:( فَانْطَلَقُوا وَ هُمْ يَتَخافَتُونَ ) قال الرجل: و ما التخافت يا ابن عبّاس؟ قال: يتشاورون

٣٨

فيشاور بعضهم بعضاً لكيلاً يسمع أحد غيرهم فقالوا:( لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَ غَدَوْا عَلى‏ حَرْدٍ قادِرِينَ ) في أنفسهم أن يصرموها و لا يعلمون ما قد حلّ بهم من سطوات الله و نقمته.

( فَلَمَّا رَأَوْها ) و ما قد حلّ بهم( قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ) فحرمهم الله ذلك الرزق بذنب كان منهم و لم يظلمهم شيئاً.

( قالَ أَوْسَطُهُمْ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ ) قال: يلومون أنفسهم فيما عزموا عليه( قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ عَسى‏ رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى‏ رَبِّنا راغِبُونَ ) فقال الله:( كَذلِكَ الْعَذابُ وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) .

أقول: و قد ورد ما يقرب من مضمون هذا الحديث و الّذي قبله في روايات اُخر و في بعض الروايات أنّ الجنّة كانت لرجل من بني إسرائيل ثمّ مات و ورثه بنوه فكان من أمرهم ما كان.

٣٩

( سورة القلم الآيات ٣٤ - ٥٢)

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( ٣٤ ) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ( ٣٥ ) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ( ٣٦ ) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ( ٣٧ ) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ ( ٣٨ ) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ ( ٣٩ ) سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَٰلِكَ زَعِيمٌ ( ٤٠ ) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ( ٤١ ) يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ( ٤٢ ) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ( ٤٣ ) فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ( ٤٤ ) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ( ٤٥ ) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ ( ٤٦ ) أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ( ٤٧ ) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ ( ٤٨ ) لَّوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ ( ٤٩ ) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ( ٥٠ ) وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ( ٥١ ) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ( ٥٢ )

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الموقف التاسع:

شروطهعليه‌السلام على المأمون لقبول ولاية العهد، وهي:

((أن لا يولي أحداً، ولا يعزل أحداً، ولا ينقض رسماً، ولا يغير شيئاً مما هو قائم، ويكون في الأمر مشيراً من بعيد)) (١) ، فأجابه المأمون إلى ذلك كله!!!.

وفي ذلك تضييع لجملة من أهداف المأمون.. إذ إن:

١ ـ السلبية تعني الاتهام:

فإن من الطبيعي أن تثير سلبيته هذه الكثير من التساؤلات لدى الناس، ولسوف تكون سبباً في وضع علامات استفهام كبيرة، حول الحكم، والحكام. وكل أعمالهم وتصرفاتهم، إذ إن السلبية إنما تعني: أن نظام الحكم لا يصلح حتى للتعاون معه، بأي نحو من أنحاء التعاون، وإلا فلماذا يرفض ـ حتى ولي العهد ـ التعاون مع نظام هو ولي العهد فيه، ويأبى التأييد لأي من تصرفاته وأعماله؟!.

____________

(١) الفصول المهمة، لابن الصباغ المالكي ص ٢٤١، ونور الأبصار من ص ١٤٣، وعيون أخبار الرضا ج ١ ص ٢٠، و ج ٢ ص ١٨٣، ومواضع أخرى، ومناقب آل أبي طالب ج ٤ ص ٣٦٣، وعلل الشرايع ج ١، ص ٢٣٨، وإعلام الورى ص ٣٢٠، والبحار ج ٤٩ ص ٣٤ و ٣٥، وغيرها، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٩، وإرشاد المفيد ص ٣١٠، وأمالي الصدوق ص ٤٣، وأصول الكافي ص ٤٨٩، وروضة الواعظين ج ١ ص ٢٦٨، ٢٦٩، ومعادن الحكمة ص ١٨٠، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥.

٣٠١

٢ ـ رفض الاعتراف بشرعية ذلك النظام:

ولقد قدمنا: أن من جملة أهداف المأمون هو أن يحصل من الإمامعليه‌السلام على اعتراف ضمني بشرعية حكمه وخلافته، كما صرح هو نفسه بذلك (وليعترف بالملك، والخلافة لنا).

والإمام.. بشروطه تلك يكون قد رفض الاعتراف بشرعية النظام القائم. بأي نحو من أنحاء الاعتراف، ولم يعد قبوله بولاية العهد يمثل اعترافا بذلك، ولا يدل على أن ذلك الحكم يمثل الحكم الإسلامي الأصيل.

هذا.. وقد عضد شروطه هذه، بسلوكه السلبي مع المأمون، والهيئة الحاكمة، طيلة فترة ولاية العهد، يضاف إلى ذلك تصريحاته المتكررة، التي تحدثنا عنها فيما سبق.

٣ ـ النظام القائم لا يمثل وجهة نظره في الحكم:

والأهم من كل ذلك: أن شروطه هذه كانت بمثابة الرفض القاطع لتحمل المسؤولية عن أي تصرف يصدر من الهيئة الحاكمة. وليس للناس ـ بعد هذا ـ أن ينظروا إلى تصرفات وأعمال المأمون وحزبه، على أنها تحظى برضى الإمامعليه‌السلام وموافقته. ولا يمكن لها ـ من ثم ـ أن تعكس وجهة نظرهعليه‌السلام في الحكم ورأيه في أساليبه، التي هي في الحقيقة وجهة نظر الإسلام الصحيح فيه. الإسلام.. الذي يعتبر الأئمةعليه‌السلام الممثلين الحقيقيين له، في سائر الظروف، ومختلف المجالات..

وانطلاقاً مما تقدم: نراهعليه‌السلام يرفض ما كان يعرضه عليه المأمون، من: كتابة بتولية أو عزل إلى أي إنسان.. ويرفض أيضاً: أن يؤم الناس في الصلاة مرتين.. إلى آخر ما سيأتي بيانه.

وفي كل مرة كان يرفض فيها مطالب المأمون هذه نراه يحتج عليه بشروطه تلك، فلا يجد المأمون الحيلة لما يريده، وتضيع الفرصة من يده، ولا بد من ملاحظة: أنه عندما أصر عليه المأمون بأن يؤم الناس في الصلاة، ورأىعليه‌السلام : أنه لا بد له من قبول ذلك ـ نلاحظ ـ: أنه اشترط عليه أن يخرج كما كان يخرج جده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا كما يخرج الآخرون..

٣٠٢

ولم يكن المأمون يدرك مدى أهمية هذا الشرط، ولا عرف أهداف الإمام من وراء اشتراطه هذا، فقال له ولعله بدون اكتراث: أخرج كيف شئت.. وكانت نتيجة ذلك.. أنهعليه‌السلام قد أفهم الناس جميعاً:

أن سلوكه وأسلوبه، وحتى مفاهيمه، تختلف عن كل أساليب ومفاهيم وسلوك الآخرين. وأن خطه هو خط محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنهاجه هو منهاج عليعليه‌السلام ، ربيب الوحي، وغذي النبوة، وليس هو خط المأمون وسواه من الحكام، الذين اعتاد الناس عليهم، وعلى تصرفاتهم وأعمالهم.

ولم يعد يستطيع المأمون، أن يفهم الناس: أن الحاكم: من كان، ومهما كان، هذا هو سلوكه، وهذه هي تصرفاته. وأن كل شخصية: من ومهما كانت، وإن كانت قبل أن تصل إلى الحكم تتخذ العدل، والحرية: والمساواة، وغير ذلك شعارات لها، إلا أنها عندما تصل إلى الحكم، لا يمكن إلا أن تكون قاسية ظالمة، مستأثرة بكل شيء، ومستهترة بكل شيء، ولذا فليس من مصلحة الناس أن يتطلعوا إلى حكم أفضل مما هو قائم، حتى ولو كان ذلك هو حكم الإمامعليه‌السلام المعروف بعلمه وتقواه وفضله الخ.. فضلاً عن غيره من العلويين أو من غيرهم ـ لم يعد يستطيع أن يقول ذلك ـ لأن الواقع الخارجي قد أثبت عكس ذلك تماماً، إذ قد رأينا: كيف أن الإمامعليه‌السلام بشروطه تلك، وبسائر مواقفه من المأمون ونظام حكمه.. يضيع على المأمون هذه الفرصة، ولم تجده محاولاته فيما بعد شيئاً، بل إن كثيراً منها كان سوءا ووبالاً عليه، كما سيأتي.

٤ ـ لا مجال بعد للمأمون لتنفيذ مخططاته:

ولعل من الواضح: أن شروطه تلك قد مكنته من أن يقطع الطريق على المأمون، ولا يمكنه من استغلال الظروف لتنفيذ بقية حلقات مؤامرته، إذ لم يعد بإمكانه أن يصر على الإمام أن يقوم بأعمال تنافي وتضر بقضيته هو، وقضية العلويين، ومن ثم تؤثر على الأمة بأسرها.. وعدا عن ذلك فإن هذه الشروط، قد حفظت لهعليه‌السلام حياته في حمام سرخس، حيث كان المأمون قد حاك مؤامرته للتخلص من وزيره وولي عهده مرة واحدة، كما سيأتي بيانه.. مما يعني أن سلبيتهعليه‌السلام مع النظام كانت أمراً لابد منه، إذا أراد أن لا يعرض نفسه إلى مشاكل، وأخطار هو في غنى عنها.. والذي أمن له هذه السلبية ليس إلا شروطه تلك، التي جعلت من لعبة ولاية العهد لعبة باهتة مملة لا حياة فيها، ولا رجاء..

٣٠٣

ولعل الأهم من كل ذلك.. أنها ضيعت على المأمون الكثير من أهدافه من البيعة، التي صرح الإمامعليه‌السلام أنه كان عارفاً بها، ولم يكن له خيار في تحملها، والصبر عليها، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

وعدا عن ذلك كله أن تعاونه مع النظام إنما يعني أن يحاول تصحيح السلوك، وتلافي الأخطاء، التي كان يقع فيها الحكم، والهيئة الحاكمة. وذلك معناه أن ينقلب جهاز الحكم كله ضد الإمام، ويجد المأمون ـ من ثم ـ العذر، والفرصة لتصفيتهعليه‌السلام من أهون سبيل، فشروطه تلك أبعدت عنه الخطر ـ إلى حد ما ـ الذي كان يتهدده من قبل المأمون وأشياعه، وجعلته ـ كما قلنا ـ في منأى ومأمن من كل مؤامراتهم ومخططاتهم.

٥ ـ الإمام.. لا ينفذ إرادات الحكم:

ولعل من الأهمية بمكان.. أن نشير إلى أنهعليه‌السلام كان يريد بشروطه تلك أن يفهم المأمون: أنه ليس على استعداد لتنفيذ إرادات الحكم، والحاكم، ولا على استعداد لأن يقتنع بالتشريفات، والأمور الشكلية، فإنه.. بصفته القائد والمنقذ الحقيقي للأمة، لا يمكن أن يرضى بديلاً عن أن ينقذ الأمة، ويرتفع بها من مستواها الذي أوصلها إليه الطواغيت والظلمة، الذين جلسوا في مكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأوصيائهعليهم‌السلام ، وحكموا بغير ما أنزل الله.

إنه يريد أن يخدم الأمة، ويحقق لها مكاسب تضمن لها الحياة الفضلى، والعيش الكريم، ولا يريد أن يخدم نفسه، ويحقق مكاسب شخصيته على حساب الآخرين، ولذلك فهو لا يستطيع أن يقتنع بالسطحيات والشكليات التي لا تسمن، ولا تغني من جوع..

٦ ـ لا زهد أكثر من هذا:

إنه مضافاً إلى أن مجرد رفض الإمام كلا عرضي المأمون: الخلافة، وولاية العهد، دليل قاطع على زهده فيه. فإن هذه الشروط كان لها عظيم الفائدة، وجليل الأثر في الإظهار لكل أحد أن الإمام ليس رجل دنيا، ولا طالب جاه ومقام. وما أراده المأمون من إظهار الإمام على أنه لم يزهد بالدنيا، وإنما الدنيا هي التي زهدت فيه.. لم يكن إلا هباء اشتدت به الريح في يوم عاصف.. ولم تفلح بعد محاولات المأمون وعمله الدائب، من أجل تشويه الإمام والنيل من كرامته.

٣٠٤

ولقد قدمنا: أن الإمامعليه‌السلام قد واجه نفس المأمون بحقيقة نواياه، وأفهمه أن خداعه لن ينطلي عليه، ولن تخفى عليه مقاصده، ولذا فإن من الأفضل والأسلم له أن يكف عن كل مؤامراته ومخططاته.. وإلا فإنه إذا ما أراد إجبار الإمام على التعاون معه، فلسوف يجد أنهعليه‌السلام على استعداد لفضحه، وكشف حقيقته وواقعه أمام الملأ، وإفهام الناس السبب الذي من أجله يجهد المأمون ليزج بالإمامعليه‌السلام في مجالات لا يرغب، بل واشترط عليه أن لا يزج فيها ـ كما فعل في مناسبات عديدة ـ الأمر الذي لن يكون أبداً في صالح المأمون، ونظام حكمه..

ومن هنا رأيناهعليه‌السلام يجيب الريان عندما سأله عن سر قبوله بولاية العهد، وإظهاره الزهد بالدنيا ـ يجيبه ـ: ببيان أنه مجبر على هذا الأمر، ويذكره بالشروط هذه، التي يعني أنه قد دخل فيه دخول خارج منه، كما تقدم..

وهكذا.. وبعد أن كانعليه‌السلام سلبياً مع النظام، وبعد رفضه لكلا عرضي المأمون، وبعد أن اشترط هذه الشروط للدخول في ولاية العهد، فليس من السهل على المأمون، ولا على أي إنسان آخر أن ينسب إليهعليه‌السلام : أنه رجل دنيا فقط، وأنه ليس زاهدا في الدنيا، وإنما هي التي زهدت فيه.

وعلى كل حال: ورغم كل محاولات المأمون تلك.. فقد استطاع الإمامعليه‌السلام ، بفضل وعيه، ويقظته، وإحكام خطته: أن يبقى القمة الشامخة للزهد، والورع، والنزاهة، والطهر، وكل الفضائل الإنسانية، وإلى الأبد.

الموقف العاشر:

موقفهعليه‌السلام في صلاتي العيد.. ففي إحداهما:

(بعث المأمون له يسأله: أن يصلي بالناس صلاة العيد، ويخطب، لتطمئن قلوب الناس، ويعرفوا فضله، وتقر قلوبهم على هذه الدولة المباركة، فبعث إليه الرضاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال:((قد علمت ما كان بيني وبينك من الشرط في دخولي في هذا الأمر، فأعفني من الصلاة بالناس، فقال المأمون: إنما أريد بهذا أن يرسخ في قلوب العامة، والجند، والشاكرية هذا الأمر، فتطمئن قلوبهم، ويقروا بما فضلك الله تعالى به..

٣٠٥

ولم يزل يراده الكلام في ذلك. فلما ألح عليه قال:يا أمير المؤمنين، إن أعفيتني من ذلك، فهو أحب إلي، وإن لم تعفني خرجت كما كان يخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكما خرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام )) قال المأمون: أخرج كيف شئت..

وأمر المأمون القواد، والحجاب، والناس: أن يبكروا إلى باب أبي الحسنعليه‌السلام ، فقعد الناس لأبي الحسن في الطرقات، والسطوح: من الرجال، والنساء، والصبيان، وصار جميع القواد، والجند إلى بابهعليه‌السلام ، فوقفوا على دوابهم حتى طلعت الشمس.

فلما طلعت الشمس قام الرضاعليه‌السلام فاغتسل، وتعمم بعمامة بيضاء من قطن، وألقى طرفاً منها على صدره، وطرفاً بين كتفيه، ومس شيئاً من الطيب، وتشمر. ثم قال لجميع مواليه:((افعلوا مثل ما فعلت)) .

ثم أخذ بيده عكازة، وخرج، ونحن بين يديه، وهو حاف قد شمر سراويله إلى نصف الساق، وعليه ثياب مشمرة..

فلما قام، ومشينا بين يديه، رفع رأسه إلى السماء، وكبر أربع تكبيرات، فخيل إلينا: أن الهواء والحيطان تجاوبه، والقواد والناس على الباب، قد تزينوا، ولبسوا السلاح، وتهيئوا بأحسن هيئة..

فلما طلعنا عليهم بهذه الصورة: حفاة، قد تشمرنا. وطلع الرضا وقف وقفة على الباب، وقال:((.. الله أكبر، الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام، والحمد لله على ما أبلانا)) . ورفع بذلك صوته، ورفعنا أصواتنا.

فتزعزعت مرو بالبكاء، فقالها: ثلاث مرات، فلما رآه القواد والجند على تلك الصورة، وسمعوا تكبيره سقطوا كلهم من الدواب إلى الأرض، ورموا بخفافهم، وكان أحسنهم حالاً من كان معه سكين قطع بها شرابة جاجيلته ونزعها، وتحفى.. وصارت مرو ضجة واحدة، ولم يتمالك الناس من البكاء والضجة.

فكان أبو الحسن يمشي، ويقف في كل عشر خطوات وقفة يكبر الله أربع مرات: فيتخيل إلينا: أن السماء، والأرض، والحيطان تجاوبه.

وبلغ المأمون ذلك، فقال له الفضل بن سهل ذو الرئاستين: يا أمير المؤمنين: إن بلغ الرضا المصلى على هذا السبيل افتتن به الناس، وخفنا كلنا على دمائنا، فالرأي أن تسأله أن يرجع..

٣٠٦

فبعث المأمون إلى الإمام يقول له: إنه قد كلفه شططا، وأنه ما كان يحب أن يتعبه، ويطلب منه: أن يصلي بالناس من كان يصلي بهم..

فدعا أبو الحسن بخفه، فلبسه، ورجع.

واختلف أمر الناس في ذلك اليوم، ولم ينتظم في صلاتهم إلخ..)(١) .

ولقد قال البحري يصف هذه الحادثة والظاهر أنه يمين بن معاوية العائشي الشاعر على ما في تاج العروس:

ذكـروا بطلعتك النبي، فهللوا

لما طلعت من الصفوف وكبروا

حتى انتهيت إلى المصلى لابساً

نـور الهدى يبدو عليك فيظهر

ومـشيت مشية خاشع متواضع

لـله، ولا يـزهى، ولا يـتكبر

ولـوان مـشتاقا تكلف غير ما

في وسعه لمشى إليك المنبر(٢)

ومما يلاحظ هنا: أنه في هذه المرة أرسل إليه من يطلب منه أن يرجع. ولكننا في مرة أخرى نراه يسارع بنفسه، ويصلي بالناس، رغم تظاهره بالمرض..

وعلى كل حال.. فإننا وإن كنا قد تحدثنا في هذا الفصل، وفي فصل: ظروف البيعة وسنتحدث فيما يأتي عن بعض ما يتعلق بهذه الرواية، إلا أننا سوف نشير هنا إلى نقطتين فقط.. وهما:

١ ـ الأثر العاطفي، والقاعدة الشعبية:

فنلاحظ: أننا حتى بعد مرور اثني عشر قرنا على هذه الواقعة، لا نملك أنفسنا ونحن نقرأ وقائعها، من الانفعال والتأثر بها، فكيف إذن كانت حال أولئك الذين قدر لهم أن يشهدوا ذلك الموقف العظيم؟!.

____________

(١) قد ذكرنا بعض مصادر هذه الرواية في فصل: ظروف البيعة.. فراجع..

(٢) مناقب آل أبي طالب. لابن شهر آشوب ج ٤ ص ٣٧٢، ولكن هذا الشعر ينسب أيضاً للبحتري في المتوكل عندما خرج لصلاة العيد.. وانتحال الشعر، وكذلك الاستشهاد بشعر الآخرين، في المواضع المناسبة ظاهرة شائعة في تلك الفترة ومن يدري فلعل الشعر للبحتري ونسب للبحري أو لعله للبحري وانتحله أو نسب للبحتري، ولعل البحتري قد صحف وصار: البحري.. ولعل العكس.

٣٠٧

وغني عن البيان هنا: أن شأن هذه الواقعة هو شأن واقعة نيشابور، من حيث دلالتها دلالة قاطعة على كل ما كان للرضا من عظمة وتقدير في نفوس الناس وقلوبهم، وعلى مدى اتساع القاعدة الشعبية لهعليه‌السلام ..

٢ ـ لماذا يجازف المأمون بإرجاعهعليه‌السلام :

وإذا كان هدف المأمون من الإصرار على الإمام بأن يصلي بالناس هو أن يخدع الخراسانيين والجند والشاكرية، ويجعلهم يطمئنون على دولته المباركة فإنه من الواضح أيضاً أن إرجاع المأمون للإمامعليه‌السلام في مثل تلك الحالة، وذلك التجمع الهائل، وتلك الثورة العاطفية في النفوس، كان ينطوي على مجازفة ومخاطرة لم تكن لتخفى على المأمون، وأشياعه، حيث لا بد وأن يثير تصرفه هذا حنق تلك الجماهير التي كانت في قمة الهيجان العاطفي، ويؤكد كراهيتها له.. وعلى الأقل لن تكون مرتاحة لتصرفه هذا على كل حال.

وبعد هذا.. فإنه إذا كان المأمون يخشى من مجرد إقامة الإمام للصلاة.. فلا معنى لأن يلح عليه هو بقبولها.. وكذلك لا معنى لأن يخشى ذلك الهيجان العاطفي، وتلك الحالة الروحية، التي أثارها فعل الإمامعليه‌السلام وتصرفه في هذا الموقف.. فذلك إذن ما لم يكن يخافه ويخشاه.. فمن أي شيء خاف المأمون إذن؟! إنه كان يخشى ما هو أعظم وأبعد أثراً، وأشد خطراً.. إنه خشي من أن الرضا إذا ما صعد المنبر، وخطب الناس، بعد أن هيأهم نفسيا، وأثارهم عاطفيا إلى هذا الحد ـ خشي ـ أن يأتي بمتمم لكلامه الذي أورده في نيشابور:((وأنا من شروطها..)) وأنه ظهر إليهم على الهيئة التي كان يخرج عليها النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووصيه عليعليه‌السلام وهو أمر جديد عليهم.. ما من شأنه أن يجعل المأمون وأشياعه لا يأمنون بعد على أنفسهم، كما ذكر الفضل بن سهل.. ولسوف يحول الإمام مرواً من معقل للعباسيين والمأمون، وعاصمة، وحصن قوي لهم ضد أعدائهم ـ من العرب وغيرهم ـ سوف يحولها إلى حصن لأعداء العباسيين والمأمون، حصن لأئمة أهل البيت. ففضل المأمون: أن يختار إرجاعهعليه‌السلام عن الصلاة، لأنه رأى أن ذلك هو أهون الشرين، وأقل الضررين..

ولقد جرب المأمون الرضا أكثر من مرة، وأصبح يعرف أنه مستعد لأن يعلن رأيه صراحة في أي موقف تؤاتيه فيه الفرصة، ويقتضي الأمر فيه ذلك. ولم ينس بعد موقفه في نيشابور، ولا ما كتبه في وثيقة العهد، ولا غير ذلك من مواقفهعليه‌السلام وتصريحاته في مختلف الأحوال والظروف..

٣٠٨

الموقف الحادي عشر:

وأخيراً.. فقد كان سلوك الإمامعليه‌السلام العام، سواء بعد عقد ولاية العهد له، أو قبلها. يمثل ضربة لكل خطط المأمون ومؤامراته، ذلك السلوك المثالي، الذي لم يتأثر بزبارج الحكم وبهارجه.. ويكفي أن نذكر هنا ما وضعه به إبراهيم بن العباس، كاتب القوم وعاملهم، حيث قال: (ما رأيت أبا الحسن جفا أحداً بكلامه قط، وما رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه. وما رد أحداً عن حاجة يقدر عليها، ولا مد رجليه بين يدي جليس له قط. ولا اتكأ بن يدي جليس له قط، ولا شتم أحداً من مواليه ومماليكه قط، ولا رأيته تفل قط، ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط، بل كان ضحكه التبسم. وكان إذا خلا، ونصبت مائدته أجلس معه على مائدته مماليكه، حتى البواب والسائس.

وكان قليل النوم بالليل، يحيى أكثر لياليه من أولها إلى الصبح. وكان كثير الصيام، فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر، ويقول:((ذلك صوم الدهر)) . وكان كثير المعروف والصدقة في السر، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة، فمن زعم أنه رأى مثله في فضله، فلا تصدقوه..)(١) .

وهذه الصفات بلا شك قد أسهمت إسهاماً كبيراً في أن يكون الإمامعليه‌السلام هو الأرضى في الخاصة والعامة، وأن تنفذ كتبه في المشرق والمغرب، إلى غير ذلك مما تقدم..

الحكم ليس امتيازاً وإنما هو مسؤولية:

وقد اعترض عليه بعض أصحابه، عندما رآه يأكل مع خدمه وغلمانه، حتى البواب والسائس، فأجابهعليه‌السلام :((مه، إن الرب تبارك وتعالى واحد، والأم واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال..)) (٢) .

وقال له أحدهم: أنت والله خير الناس، فقال له الإمام:((لا تحلف يا هذا، خير مني من كان أتقى لله تعالى. وأطوع له، والله ما

____________

(١) كلام إبراهيم بن العباس هذا معروف ومشهور، تجده في كثير من كتب التاريخ والرواية، ولذا فلا نرى أننا بحاجة إلى تعداد مصادره.

(٢) البحار ج ٤٩ ص ١٠١، والكافي الكليني، ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

٣٠٩

نسخت هذه الآية: ( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ.. ) )) (١) .

وقال لإبراهيم العباسي إنه لا يرى أن قرابته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجعله خيراً من عبد أسود، إلا أن يكون له عمل صالح فيفضله به(٢) .

وقال رجل له: ما على وجه الأرض أشرف منك إباء. فقال:((التقوى شرفتهم، وطاعة الله أحظتهم))( ٣) .

وما نريد أن نشير إليه ونؤكد عليه هنا، هو أنهعليه‌السلام يريد بذلك أن يفهم الملأ: أن الحكم لا يعطي للشخص ـ من كان، ومهما كان ـ امتيازاً، ولا يجعل له من الحقوق ما ليس لغيره، وإنما الامتياز ـ فقط ـ بالتقوى والفضائل الأخلاقية.. وكل شخص حتى الحاكم سوف يلقى جزاء أعماله: إن خيراً فخير، وإن شرا فشر، وعليه فما يراه الناس من سلوك الحكام، ليس هو السلوك الذي يريده الله، وتحكم به النواميس الأخلاقية، والإنسانية. والامتيازات التي يجعلونها لأنفسهم، ويستبيحون بها ما ليس من حقهم لا يقرها شرع، ولا يحكم بها قانون..

وبكلمة مختصرة: إن الإمامعليه‌السلام يرى: أن الحكم ليس امتيازاً، وإنما هو مسؤولية.

وعلى كل حال.. فإن سلوك الإمامعليه‌السلام ، لخير دليل على ما كان يتمتع به من المزايا الأخلاقية، والفضائل النفسية.. ويكفي أنه لم يظهر منهعليه‌السلام طيلة الفترة التي عاشها في الحكم إلا ما ازداد به فضلاً بينهم، ومحلاً في نفوسهم، على حد تعبير أبي الصلت. وعلى حد تعبير شخص آخر: أقام بينهم لا يشركهم في مأثم من مآثم الحكم.. بل لقد كان لوجوده أثر كبير في تصحيح جملة من الأخطاء والانحرافات التي اعتادها الحكام آنئذٍ.. حتى لقد استطاع أن يؤثر على نفس المأمون، ويمنعه من الشراب والغناء، طيلة الفترة التي عاشها معه، إلى آخر ما هنالك، مما لسنا هنا في صدد تتبعه واستقصائه.

____________

(١) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

(٢) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٧.

(٣) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٦. ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

٣١٠

وفي نهاية المطاف نقول:

وحسبنا هنا ما ذكرنا من الأمثلة، التي نحسب أنها تكفي لأن تلقي ضوءاً كاشفاً على الخطة التي اتبعها الإمامعليه‌السلام في مواجهة خطط المأمون ومؤامراته.. تلك الخطة التي كانت تكفي لأن لا تبقى الصورة التي أرادها المأمون في أذهان الناس، ولا مبرر للشكوك لأن تبقى تراود نفوسهم.

ولقد نجحت تلك الخطة نجاحا أذهل المأمون، وأعوانه، وجعلهم يتصرفون بلا روية، ويقعون بالمتناقضات.. حتى لقد أشرف المأمون منه على الهلاك. حسبما صرح به المأمون نفسه. وكانت النتيجة أن دبر فيه المأمون بما يحسم عنه مواد بلائه، كما وعد حميد بن مهران، وجماعة من العباسيين.

القسم الرابع

من خلال الأحداث

١ ـ مع بعض خطط المأمون..

٢ ـ كاد المريب أن يقول خذوني.

٣ ـ ما يقال حول وفاة الإمام..

٤ ـ دعبل والمأمون.

٥ ـ كلمة ختامية.

مع بعض خطط المأمون

التوجيهات الراضية غير مقبولة:

كل ما تقدم يلقي لنا ضوءاً على بعض نوايا المأمون مع الإمامعليه‌السلام ، وعلى كثير من الأحداث التي اكتنفت ذلك الحدث التاريخي الهام.

وإننا حتى لو سلمنا جدلاً، وغضضنا النظر عن كل تلك الأسئلة، وعلامات الاستفهام التي يمكن استخلاصها مما تقدم.. فإننا لا نستطيع ـ مع ذلك ـ أن نعتبر البيعة صادرة عن حسن نية، وسلامة طوية.

٣١١

ولا أن نقبل بالتوجيهات الراضية عن تصرفاته، طيلة فترة ولاية العهد، وبعدها تجاه الإمام، الذي كان يكبر المأمون بـ (٢٢‍) سنة، والذي كان مجبراً على قبول هذا الأمر، ومهددا بالقتل إن لم يقبل. ولم يتركه وشأنه ما دام أنه لا يريد أن يتقلد هذا الشرف الذي تتهافت النفوس عليه، وتزهق الأرواح من أجله.

نعم.. إننا لا نستطيع أن نسلم بذلك، ونحن نرى منه تلك التصرفات والمواقف المشبوهة، بل والمفضوحة تجاه الإمامعليه‌السلام ، والتي لا تبقي مجالاً للشك في حقيقة نواياه وأهدافه من كل ما أقدم وما كان عاقداً العزم على الإقدام عليه..

وهذا الفصل معقود للحديث عن بعض تلك التصرفات، ومن أجل بيان تلك الخطط.

المأمون يفضح نفسه:

وقد تعجب إذا قلنا لك: إن المأمون نفسه يصرح ببعض خططه، التي كانت تصرفاته تدور في فلكها، ويعلن بعض الدوافع، ويبوح ببعض النوايا تجاه الإمام، وبالنسبة لقضية ولاية العهد فإليك ما أجاب به حميد بن مهران، وجمعاً من العباسيين، عندما عاتبوه ولاموه على ما أقدم عليه، من البيعة للرضاعليه‌السلام يقول المأمون:

(.. قد كان هذا الرجل مستتراً عنا، يدعو إلى نفسه، فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا، وليعتقد فيه المفتونون به بأنه ليس مما ادعى في قليل ولا كثير، وأن هذا الأمر لنا دونه.

وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال: أن ينفتق علينا منه ما لا نسده، ويأتي علينا ما لا نطيقه..

والآن.. فإذ قد فعلنا به ما فعلنا، وأخطأنا في أمره بما أخطأنا. وأشرفنا من الهلاك بالتنويه باسمه على ما أشرفنا، فليس يجوز التهاون في أمره. ولكننا نحتاج إلى أن نضع منه قليلاً، قليلاً، حتى نصوره عند الرعية بصورة من لا يستحق هذا الأمر، ثم ندبر فيه بما يحسم عنا مواد بلائه..).

ثم طلب منه حميد بن مهران: أن يسمح له بمجادلة الإمامعليه‌السلام ، ليفحمه، وينزله منزلته، ويبين للناس قصوره، وعجزه، فقال المأمون: (لا شيء أحب إلي من هذا).

٣١٢

ثم كانت النتيجة عكس ما كان يتوقعه المأمون والعباسيون، وأشياعهم وباءوا كلهم بالفشل الذريع، والخيبة القاتلة(١) .

والذي يعنينا الحديث عنه هنا:

هو قوله: وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال.. إلى آخر ما نقلناه عنه آنفاً، فإنها أوضحت أن المأمون الذي كان يخشى الإمام خشية شديدة، كان يخطط أولاً إلى أخذ زمام المبادرة من الإمام، وتحاشي الاصطدام معه ثم كان يخطط بعد ذلك إلى الوضع منهعليه‌السلام قليلاً قليلاً إلى آخر ما تقدم..

ولا يرد: أن كلام المأمون مع حميد بن مهران ظاهره: أنه لم يكن يريد في بادئ الأمر الحط من الإمامعليه‌السلام ، وإنما بدا له ذلك حين قوي مركز الإمامعليه‌السلام ، واستحكم أمره.. لا يرد ذلك..

لأن كلامه هذا لا ينفي أنه كان يريد من أول الأمر ذلك. بل هو يؤكد ذلك. لأنه يصرح فيه: أنه إنما قدم على ما أقدم عليه، عندما رأى افتتان الناس بهعليه‌السلام ، فأراد أن يعمل عملا يفقد الإمامعليه‌السلام مركزه، ويقضي على كل نشاطاته، ويذهب بماله من القدرة والنفوذ نهائياً، وإلى الأبد.

ولقد تحدثنا فيما سبق عن بعض تصرفاته التي تدور في فلك خطط تلك مثل: فرضه للرقابة على الإمامعليه‌السلام ، والتضييق عليه، فلا يصل إليه إلا من أحب، وعزله عن شيعته ومواليه، وأيضاً تفريقه الناس عنه، عندما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس، وكذلك قضية صلاة العيد، وغير ذلك ما تقدم.

____________

(١) راجع: شرح ميمية أبي فراس ص ١٩٦، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٧٠، والبحار ج ٤٩ ص ١٨٣، ومسند الإمام الرضا ج ٢ ص ٩٦.

٣١٣

نزيد هنا بعض الأمور الأخرى، التي وإن كان قد سبق الحديث عن بعضها، ولكنه كان حديثا من زاوية أخرى، ومن أجل استفادة أمور غير الأمور التي نحاول استفادتها منها هنا. وذلك أمر طبيعي، ولا يكون تكراراً ما دام أن الواقعة الواحدة قد يكون لها دلالات متعددة، وإفادات مختلفة.. ولذا فإننا نقول:

لماذا على البصرة فالأهواز:

إن من جملة الأمور التي كانت من جملة خطط المأمون للتأثير على مكانة الإمامعليه‌السلام وحتى على معنوياته النفسية.. الطريق الذي أمر رجاء ابن أبي الضحاك(١) قرابة الفضل بن سهل، والذي كان من قواد المأمون، وولاته ـ أمره ـ بسلوكه، عندما أرسله ليأتي بالإمامعليه‌السلام من المدينة إلى مرو مهما كلفه الأمر..

فقد أمره: أن يجعل طريقه بالإمام (على البصرة، والأهواز، ففارس. وحذره كثيراً من المرور على طريق الكوفة، والجبل، وقم)(٢) .

____________

(١) وذكر أبو الفرج، والمفيد: أن المرسل هو الجلودي، ولكن الصحيح هو الذي ذكرناه.. إذ من الخطأ أن يرسله المأمون لإحضار الرضاعليه‌السلام ، لأن ذلك يضر بقضيته، ويفسد عليه ما كان دبره، لأنه موجب لسوء ظن الرضاعليه‌السلام ، والعلويين، وسائر الناس، وتنبههم مبكرا لحقيقة الأمر، وواقع القضية.

وذلك لأن الجلودي هو الذي أمره الرشيد: أن يغير على دور آل أبي طالب، ويسلب نساءهم إلخ ما تقدم.. كما أنه كان عدواً متجاهراً للإمامعليه‌السلام ، وقد سجنه المأمون بسبب معارضته للبيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد! ولعل سر خطأهم هو أن الجلودي كان والياً على المدينة من قبل المأمون، حين استقدام المأمون للإمام إلى مرو، حسبما جاء في كتاب: الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ٣٥.

(٢) تهذيب التهذيب ج ٧ ص ٣٨٧، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١٧٦، وينابيع المودة ص ٣٨٤، والخرائج والجرائح طبعة حجرية ص ٢٣٦. وإثبات الوصية ص ٢٠٥.

وإعلام الورى ص ٣٢٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩، ١٨٠، والكافي ج ١ ص ٤٨٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٤٠ والبحار ج ٤٩ ص ٩١، ٩٢ ١١٨ و ١٣٤، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٥، وغير ذلك كثير.

٣١٤

بل لقد ورد: أن المأمون قد كتب إلى الرضا نفسه، يقول له: (لا تأخذ على طريق الجبل وقم. وخذ على طريق البصرة، فالأهواز، ففارس..)(١) .

وسر ذلك واضح، فإن أهل الكوفة، وقم، كانوا معروفين بالتشيع للعلويين(٢) وأهل البيت، ومرور الإمام عليه‌السلام من هذين البلدين، وخصوصاً الكوفة، التي كانت تعتبر من المراكز الحساسة جداً في الدولة.. سوف يكون من نتيجته: أن يستقبله أهلها بما يليق بشأنه: من الإجلال، والإعزاز والتكريم.

____________

(١) أصول الكافي ج ١ ص ٤٨٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩ و ١٨٠، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥، ومعادن الحكمة ص ١٨٠، وإثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٤، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٧٣، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٤.

(٢) تشيع أهل الكوفة وقم أشهر من أن يحتاج إلى بيان، أو إقامة برهان.. لكننا نورد ـ مع ذلك ـ بعض الشواهد، تبصرة للقارئ، فنقول: أما الكوفة: فقد تقدم قول محمد بن علي العباسي أنها وسوادها شيعة علي وولده.. وفي الطبري، وابن الأثير، وغيرهما تجد قول عبد الله بن علي للمنصور، عندما استشاره في أمر محمد بن عبد الله بن الحسن: (.. ارتحل الساعة حتى تأتي الكوفة، فاجثم على أكتافهم، فإنهم شيعة أهل هذا البيت، وأنصاره الخ)، وفي قضية وفاة السيد الحميري، التي ذكرها المرزباني في كتابه أخبار السيد الحميري دلالة واضحة على تشيع الكوفيين، وانحراف البصريين..

ولأجل ذلك نرى المأمون يستقبل وفدا من أهل الكوفة في منتهى الغلظة والجفاء، فراجع مروج الذهب ج ٣ ص ٤٢١. وفي البداية والنهاية ج ١٠ ص ٩٣: أن المنصور قد اعترف بأن لإبراهيم بن عبد الله بن الحسن في الكوفة مئة ألف سيف مغمدة، وأعرب عن مخاوفه من تشيع أهل الكوفة للعلويين، وولائهم لهم.. بل إننا لا نستبعد أن يكون بناء المنصور لبغداد هو من أجل أن يبتعد عن الكوفة، وأهلها، ويأمن على نفسه، قال البلاذري في فتوح البلدان ص ٤٠٥: (أخذ المنصور أهل الكوفة بحفر خندقها. وألزم كل امرئ للنفقة عليه أربعين درهما. وكان ذاما لهم. لميلهم إلى الطالبيين، وإرجافهم بالسلطان..) وقد تقدم أنه عندما ذهب إليهم العباس بن موسى، أخو الإمام الرضاعليه‌السلام يدعوهم للبيعة، لم يجبه إلا البعض منهم، وقال له آخرون: (إن كنت تدعو للمأمون، ثم من بعده لأخيك، فلا حاجة لنا في دعوتك. وإن كنت تدعو إلى أخيك، أو بعض أهل بيتك، أو إلى نفسك أجبناك..).

وعلى كل حال.. فقد كانت الكوفة مصدرا لثورات كثيرة على الأمويين والعباسيين على حد سواء، تلك الثورات التي كانت كلها تقريباً بقيادة علوي، أو داعية إلى علوي..

ولم ينس المأمون بعد ثورة أبي السرايا التي كادت تغير الموازين، وتقلب مجريات الأحداث.. إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه. =

٣١٥

= وأما تشيع القميين، فذلك أعرف وأشهر. وقضيتهم مع جبة دعبل التي أهداه إياه الإمام لا يكاد يجهلها أحد. وعندما طلب المأمون من الريان أن يحدث بفضائل عليعليه‌السلام ، وأجاب بأنه لا يحسن شيئاً، قال المأمون: (سبحان الله! ما أجد أحداً يعينني على هذا الأمر لقد هممت أن أجعل أهل قم شعاري ودثاري).

ولعل تشيع أهل قم هذا هو الذي دفع بالمأمون لأن يوجه إليهم عامله علي بن هشام، لينكل بهم، ويحاربهم حتى يهزمهم، ويدخل البلد، ويهدم سورها، ويجعل على أهلها مبلغ سبعة ملايين درهم، بدلا من مليونين، وهو ما لم يكن يدفعه أي بلد آخر يضاهي بلدهم في عدد السكان وغير ذلك من المميزات، فكيف بالسبعة.. ومع أنه كان قد خفض الخراج عن السواد، وبعد البلدان الأخرى، فلما سمعوا بذلك طالبوا بتخفيض الخراج عنهم أيضاً، ففعل ذلك.. وكان تخفيضه عنهم بزيادة المليونين إلى سبعة، كما قلنا.. راجع في تفصيل ذلك: الطبري ج ١١ ص ١٠٩٣، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ٢١٢، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٥٥، والنجوم الزاهرة ج ٢ ص، ١٩٠ وتاريخ التمدن الإسلامي مجلد ١ جزء ٢ ص ٣٣٧، وفتوح البلدان للبلاذري ص ٤٤٠، وتجارب الأمم ج ٦ ص ٤٦٠.

٣١٦

ولا شك أن الإمامعليه‌السلام سوف يستطيع أن يستقطب المزيد من الناس، ويؤثر عليهم بما حباه الله من الفضائل والكمالات الأخلاقية، وبما آتاه الله من العلم والحكمة، والورع والتقوى، الذي سار ذكره في الآفاق، حتى لا يكاد يجهله أحد.. وإذا كان أهل نيشابور، بل وحتى أهل مرو، معقل العباسيين والمأمون، قد كان منهم تجاه الإمام ما لا يجهله أحد. حتى إنهم كانوا بين صارخ، وباك ومتمرغ في التراب إلخ.. وحتى لقد خاف المأمون وأشياعه على دمائهم ـ إذا كان هؤلاء هكذا ـ فكيف ترى سوف تكون حالة أهل الكوفة وقم، معقلي العلويين، والمحبين لأهل البيت، والمتفانين فيهم، لو أنهم رأوا الإمامعليه‌السلام بينهم، وبالقرب منهم..

يقول الراوندي في ذلك: (إن المأمون أمر رجاء بن أبي الضحاك: أن لا يمر بالإمام عن طريق الكوفة، لئلا يفتتن به أهلها..)(١) !.

والمأمون لا يريد أن يفتتن الناس بالإمام، وإنما الذي يريده هو عكس ذلك تماماً.. إنه يريد أن يضع من الإمام لا أن يرفع.

أما أهل البصرة: فعثمانية، يدينون بالكف، ويقولون: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل.. بل لقد كانت البصرة معقلاً مهما للعباسيين، الذين حرق دورهم زيد النار، ابن الإمام الكاظمعليه‌السلام ، كما قدمنا، ولهذا نلاحظ: أن دور البصريين في التشيع لم يكن يضارع دور غيرهم، لا روائياً، ولا كلامياً..

وأما ما ربما يحتمله البعض: من أن المأمون كان يأمل أن يخرج من البصرة، أو غيرها من يخلصه من الإمامعليه‌السلام نهائياً.. فلا أرى أنه يتفق مع أهداف وأغراض المأمون، التي كان يرمي إليها من وراء لعبته تلك..

____________

(١) الخرائج والجرائح، طبعة حجرية ص ٢٣٦.

٣١٧

الإمام يرفض كل مشاركة تعرض عليه:

إنه برغم شروط الإمام على المأمون، والتي أشرنا إليها فيما سبق، فإننا نرى المأمون كل مدة يحاول أن يجري اختبارا للإمام، ليعرف حقيقة نواياه، وأنه هل أصبح له طمع بالخلافة، وطموح لها(١) ، ليعجل عليه بما يحسم عنه مواد بلائه.. أم لا. فكان يأتي كل مدة إليه، يطلب منه أن يولي فلانا، أو أن يعزل فلاناً، أو أن يصلي بالناس.. بل لقد طلب منه بعد مقتل الفضل أن يساعده في إدارة شؤون الخلافة(٢) بحجة أنه يعجز وحده أن يقوم بأعباء الحكم. ويدير دفة السلطان!

هذا.. إن لم نقل: أنه كان يريد من وراء ذلك: أن يجعل ذلك ذريعة للقضاء على الإمام، بحجة أنه نقض الشرط، وليكون بذلك قد قضى على العلويين جميعاً، وإلى الأبد.

أو على الأقل كان يريد بذلك: أن يوجد للإمام أعداء في الأوساط ذات القوة والنفوذ..

وأياً ما كانت نوايا المأمون وأهدافه، فإن الإمامعليه‌السلام كان يرفض ذلك كله بكل عزم وإصرار، ويذكره بالشروط تلك، ويقول له:((إن وفيت لي وفيت لك)) . وهذا تهديد صريح له من الإمامعليه‌السلام . ولا نعجب كثيراً ـ بعد أن اتضحت لنا نوايا المأمون وأهدافه ـ إذا رأينا المأمون يتحمل هذا التهديد، بل ويخضع له، ويقول: (بل أفي لك)!.

وهكذا.. فقد كان الإمامعليه‌السلام يضيع على المأمون ما كان يحسب أنه فرصة مؤاتية له، ولا يمكنه من معرفة ما يريد معرفته، ولا من تنفيذ ما يريد تنفيذه.

____________

(١) وما أشبه الليلة بالبارحة، فقد رأينا الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، يسأل ابن عباس عن عليعليه‌السلام : إن كان لا يزال يطمح إلى الخلافة، ويأمل فيها.. أم لا!.

(٢) الكافي ج ٨ ص ١٥١، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٨ و ٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٤ و ١٦٦ و ١٦٧ والبحار ج ٤٩ ص ١٤٤ و ١٥٥ و ١٧١، وغير ذلك.

٣١٨

الاختبار لشعبية الإمامعليه‌السلام :

كما أنه كان كل مدة يقوم بعملية اختبار لشعبية الإمامعليه‌السلام ، ولمدى ما يتمتع به من تأييد في الأوساط الشعبية، ليعرف إن كان أصبحعليه‌السلام يشكل خطراً حقيقياً، ليعجل بالقضاء عليه أم لا.. فكان كل مدة يكلفه بأن يؤم الناس بالصلاة للعيد. أو ما شاكل.. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى ما يعتمر قلب المأمون من الخوف والخشية منهعليه‌السلام . (راجع: السبب الثالث من فصل البيعة، والموقف العاشر في فصل: خطة الإمامعليه‌السلام ).

سؤال.. وجوابه:

ولعلك تقول: إذا كان المأمون يخشى الإمامعليه‌السلام إلى هذا الحد، لما يعلمه من نفوذه ومكانته، فلماذا لا يتخلص منه بذلك الأسلوب التقليدي الذي انتهجه أسلافه من الأمويين، والعباسيين، وتبعهم عليه هو فيما بعد، وكذلك من أتى بعده.. وذلك بأن يدس إليه شربة من السم، وهو في المدينة، من دون أن يحتاج إلى اشخاصه إلى مرو، والبيعة له بولاية العهد، وتزويجه ابنته، إلى غير ذلك من الأمور التي من شأنها أن تعزز من مركز الإمام، وترفع من شأنه، وتوجه إليه الأنظار والقلوب، حتى يضطر في نهاية الأمر لأن يعود إلى ما جرت عليه عادة أسلافه، وأتباعه..

ولكن الجواب على هذا قد اتضح مما قدمناه، فإن المأمون لم يكن يريد في بادئ الأمر موت الإمام، ولا كان يستطيع أن يفعل ذلك.

ولو أن ذلك كان قد حدث لوقع المأمون في ورطة، لها أول وليس لها آخر، حيث إنه كان بأمس الحاجة إلى حياة الإمامعليه‌السلام ، وذلك لما قدمناه من الأسباب والظروف التي كانت تحتم على المأمون أن يلعب لعبته تلك، التي وإن كانت تنطوي على مخاطرة جريئة، إلا أنه كان ـ كما قدمنا ـ قد رسم الخطة، وأحكم التدبير للتخلص من الإمامعليه‌السلام بمجرد أن يحقق مآربه، وأهدافه، بالطريقة التي لا تثير شك أحد، ولا توجب تهمة أحد، وقد حدث ذلك بالفعل، كما سيمر علينا..

وأما كتمه لفضائل الإمامعليه‌السلام :

ومن جملة الأمور التي كانت تدور في فلك خطة المأمون، التي لخصها بأنه يريد الوضع من الإمام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ محاولاته كتم فضائل الإمامعليه‌السلام ومزاياه عن الناس ما استطاع إلى ذلك سبيلاً..

٣١٩

وقد تقدم: أنه عندما سأل رجاء بن أبي الضحاك، الذي تولى إشخاص الرضاعليه‌السلام من المدينة إلى مرو، عن حال الرضاعليه‌السلام في الطريق، فأخبره عما شاهده من عبادتهعليه‌السلام ، وزهده وتقواه، وما ظهر له من الدلائل والبراهين، قال له المأمون: (.. بلى يا ابن أبي الضحاك، هذا خير أهل الأرض، وأعلمهم، وأعبدهم، فلا تخبر أحداً بما شهدت منه، لئلا يظهر فضله إلا على لساني..)!.

وهكذا: فإن المأمون وإن استطاع أن يمرر الكثير، إلا أنه لم يكن يجد بداً في كثير من الأحيان من أن يظهر على حقيقته وواقعه. وهذا هو أحد تلك المواقف التي مرت وسيمر معنا بعضها، والتي اضطر فيها المأمون لأن يكشف عن وجهه الحقيقي،.. وإن كان قد حاول ـ مع ذلك ـ أن يتستر بما لا يسمن ولا يغني من جوع.

ولا أعتقد أن المأمون كان يجهل: أن ما يأتي به لم يكن لينطلي كله على أعين الناس، بل كان يعلم ذلك حق العلم، ولكن كما يقولون: (الغريق يتشبث بالطحلب).

ولكن.. بالرغم من محاولات المأمون تلك.. فإننا نرى أن فضائل الإمام ومزاياه كانت كالعرف الطيب، لم تزل تظهر، وتنتشر وتذاع.. بل ولعل محاولات المأمون تلك التي كانت ترمي للحط من الإمام وإسقاطه، قد أسهمت كثيراً وساعدت على إظهار فضائله، وشيوعها، كما سيتضح.

الشائعات الكاذبة!

وكان بالإضافة إلى ما تقدم يحاول ترويج شائعات كاذبة، من شأنها أن تنفر الناس من العلويين عامة، ومن الإمامعليه‌السلام ، وسائر الأئمةعليهم‌السلام خاصة.

فهذا أبو الصلت يسأل الإمامعليه‌السلام فيقول: (يا ابن رسول الله، ما شيء يحكيه الناس عنكم؟!.

قالعليه‌السلام :((ما هو؟!.

قال: يقولون: إنكم تدعون: أن الناس لكم عبيد!.

قالعليه‌السلام :يا عبد السلام، إذا كان الناس كلهم عبيدنا ـ على ما حكوه ـ فممن نبيعهم)) ؟! إلخ(١) .

____________

(١) مسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٥، والبحار ج ٤٩ ص ١٧٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٨٤.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568