الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن10%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219892 / تحميل: 7011
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

هكذا تُبدي التوراة عَداءه تعالى مع بني الإنسان!

هذا والقرآن يحثّ الأُمَم على الاجتماع دون التفرّق، وعلى التعارف بعضهم مع بعضهم؛ ليتعاونوا في الحياة دون التباغض والتباعد والاختلاف:

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا... ) (1) .

( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ) (2) .

الإنسان سرّ الخليقة

الإنسان - كما وصفه القرآن - صفوة الخليقة وفلذتها، وسرّها الكامن في سلسلة الوجود.

لا تجد وصفاً عن الإنسان وافياً ببيان حقيقته الذاتيّة الّتي جَبَله الله عليها - في جميع مناحيها وأبعادها المترامية - في سوى القرآن، يصفه بأجمل صفات وأفضل نُعوت، لم يَنعم بها أيّ مخلوق سواه، ومِن ثَمّ فقد حَظي بعناية الله الخاصّة، وحُبي بكرامته منذ بدء الوجود.

ولنُشِر إلى فهرسة تلكمُ الصفات والميزات، التي أهّلته لمثل هذه العناية والحِبَاء:

1 - خلقه الله بيديه: ( مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (3) .

2 - نفخ فيه من روحه: ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) (4) .

3 - أودعه أمانته: ( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ ) (5) .

4 - علّمه الأسماء كلّها: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا... ) (6) .

5 - أسجد له ملائكته: ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا... ) (7) .

____________________

(1) الحجرات 49: 13.

(2) الأنفال 8: 46.

(3) ص 38: 75.

(4) الحجر 15: 29، وص 38: 72، وفي سورة السجدة 32: 9: ( ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ) .

(5) الأحزاب 33: 72.

(6) البقرة 2: 31.

(7) البقرة 2: 34.

٢١

6 - منحه الخلافة في الأرض: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) (1) .

7 - سخّر له ما في السّماوات والأرض جميعاً: ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ) (2) .

ومِن ثَمّ بارك نفسه في هذا الخلق الممتاز: ( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (3) .

ميزات سبع حظي بها الإنسان في أصل وجوده، فكان المخلوق المفضّل الكريم، وإليك بعض التوضيح:

مِيزات الإنسان الفطريّة

امتاز الإنسان في ذات وجوده بميزات لم يحظَ بها غيره من سائر الخلق:

فقد شرّفه الله بأن خلقه بيديه: ( مَا مَنَعَكَ - خطاباً لإبليس - أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (4) والله خالق كلّ شيء، فلا بدّ أنْ تكون هناك خصوصيّة في خلق هذا الإنسان تستحقّ هذا التّنويه هي: خصوصيّة العناية الربّانيّة بهذا الكائن، وإبداعه نفخةً - من روح الله - دلالةً على هذه العناية.

قال العلاّمة الطباطبائي: نسبة خلقه إلى اليد تشريف بالاختصاص كما قال: ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) (5) وتثنية اليد كناية عن الاهتمام البالغ بخلقه وصنعه؛ ذلك أنّ الإنسان إذا اهتمّ بصُنع شيء استعمل يديه معاً عناية به (6) .

وهكذا نفخة الروح الإلهيّة فيه كناية عن جانب اختصاص هذا الإنسان - في أصل فطرته - بالملأ الأعلى، حتّى ولو كان متّخذاً - في جانب جسده - من عناصر تربطه بالأرض، فهو في ذاته عنصر سماوي قبل أن يكون أرضيّاً.

ولقد خلق الإنسان من عناصر هذه الأرض، ثُمّ من النفخة العلويّة التي فرّقت بينه

____________________

(1) البقرة 2: 30.

(2) الجاثية 45: 13.

(3) المؤمنون 23: 14.

(4) ص 38: 75.

(5) الحجر 15: 29.

(6) تفسير الميزان، ج 17، ص239.

٢٢

وبين سائر الأحياء، ومنحته خصائصه الإنسانيّة الكبرى، وأَوّلها القدرة على الارتقاء في سُلَّم المدارك العُليا الخاصّة بعالم الإنسان.

هذه النفخة هي التي تصله بالملأ الأعلى، وتجعله أهلاً للاتصال بالله، وللتلقّي عنه ولتجاوز النطاق المادّي الذي تتعامل فيه العضلات والحواسّ، إلى النطاق التجريدي الذي تتعامل فيه القلوب والعقول، والتي تمنحه ذلك السرّ الخفيّ الذي يسرب به وراء الزمان والمكان، ووراء طاقة العضلات والحواسّ، إلى ألوان من المدركات وألوان من التصوّرات غير المحدودة في بعض الأحيان (1) .

وبذلك استحقّ إيداعه أمانة الله التي هي ودائع ربّانية لها صبغة ملكوتيّة رفيعة، أُودعت هذا الإنسان دون غيره من سائر المخلوق، وتتلخّص هذه الودائع في قدرات هائلة يملكها الإنسان في جبلّته الأُولى، والتي أهّلته للاستيلاء على طاقات كامنة في طبيعة الوجود وتسخيرها حيث يشاء.

إنّها القدرة على الإرادة والتصميم، القدرة على التفكير والتدبير، القدرة على الإبداع والتكوين، القدرة على الاكتشاف والتسخير، إنّها الجرأة على حمل هذا العبء الخطير، قال سيّد قطب: إنّها الإرادة والإدراك والمحاولة وحمل التبعة، هي هي ميزة هذا الإنسان على كثير من خلق الله، وهي هي مناط التكريم الذي أعلنه الله في الملأ الأعلى وهو يُسجِد الملائكة لآدم، وأعلنه في قرآنه الباقي وهو يقول: ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ) (2) .

فليعرف الإنسان مناط تكريمه عند الله، ولينهض بالأمانة التي اختارها، والتي عُرضت على السماوات والأرض والجبال فأبينَ أنْ يحملنّها وأشفقنّ منها (3) .

إنّها أمانة ضخمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم، الكبير القُوى، القويّ العزم.

ومِن ثَمّ كان ظلوماً لنفسه؛ حيث لم ينهض بأداء هذه الأمانة كما حملها، جهولاً لطاقاته هذه الهائلة المودعة في وجوده وهو بعد لا يعرفها.

____________________

(1) من إفادات سيد قطب، راجع: في ظِلال القرآن، ج 14، ص 17، المجلد 5، ص203.

(2) الإسراء 17: 70.

(3) في ظِلال القرآن، ج22، ص47، المجلد 6، ص 618.

٢٣

وهكذا علّمه الأسماء: القدرة على معرفة الأشياء بذواتها وخاصيّاتها وآثارها الطبيعيّة العاملة في تطوير الحياة، والتي وقعت رهن إرادة الإنسان ليُسخّرها في مآربه حيث يشاء، وبذلك يتقدّم العلم بحشده وجموعه في سبيل عمارة الأرض وازدهار معالمها، حيث أراده الله من هذا الإنسان ( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) (1) .

وبذلك أصبح هذا الإنسان - بهذه الميزات - خليفة الله في الأرض، (2) حيث يتصرّف فيها وِفق إرادته وطاقاته المـُودعة فيه، ويعمل في عمارة الأرض وتطوير الحياة.

وإسجاد الملائكة له في عَرْصَة الوجود، كناية عن إخضاع القوى النورانيّة برمّتها للإنسان، تعمل وِفق إرادته الخاصّة من غير ما تخلّف، في مقابلة القوى الظلمانيّة (إبليس وجنوده) تعمل في معاكسة مصالحه، إلاّ مَن عَصَمه الله من شرور الشياطين ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ) (3) .

كما وأنّ تسخير ما في السماوات وما في الأرض جميعاً، (4) كناية عن إخضاع القوى الطبيعيّة - المودعة في أجواء السماوات والأرض - لهذا الإنسان، تعمل فور إرادته بلا فتور ولا قصور، ومعنى تسخيرها له: أنّ الإنسان فُطر على إمكان تسخيرها.

فسبحانه من خالقٍ عظيم، إذ خَلَق خَلقاً بهذه العظمة والاقتدار الفائق على كلّ مخلوق!

هذه دراستنا عن الإنسان على صفحات مُشرقة من القرآن الكريم، فيا ترى أين يوجد مثل هذه العظمة والتبجيل لمخلوقٍ هو في هندامه صغير وفي طاقاته كبير، كبرياءً ملأ الآفاق!

أتزعم أنّك جسمٌ صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

فتبارك الله أحسن الخالقين بخلقه أحسن المخلوقين!

____________________

(1) هود 11: 61.

(2) راجع: البقرة 2: 30.

(3) الإسراء 17: 65.

(4) راجع: الجاثية 45: 13.

٢٤

خلقتُ الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي!

حديث قدسيّ معروف (1) خطاباً مع بني آدم، حيث كانوا هم الغاية من الخليقة، كما كانت الذات المقدّسة هي الغاية من خلقة الإنسان، فكما وأنّ الأشياء برمّتها - علواً وسفلاً - سخّرها الله لهذا الإنسان ولتكون في قبضته فتَتَجلّى فيها مقدرته الهائلة، كذلك خُلق الإنسان؛ ليكون مظهراً تامّاً لكامل قدرته تعالى في الخلق والإبداع.

ما من مخلوق - صغيراً أو كبيرً - إلاّ وهو مظهر لتجلّي جانب من سِمات الصانع الحكيم (وفي كلّ شيء له آية تدلّ على أنّه واحد) أمّا الإنسان فكان المرآة الصقيلة التي تتجلّى فيها جميع صفات الجمال والجلال.

فإذا سئلت: ما هي الغاية من خلق ما في السماوات وما في الأرض جميعاً؟

قلت - حسب وصف القرآن -: هو الإنسان ذاته مُستودَع أمانات الله وليكون خليفته في الأرض!

وإذا سئلت: ما هي الغاية من خلقة الإنسان ذاته؟

قلت: هو الله الصانع الحكيم؛ حيث الإنسان بقدرته على الخلق والإبداع أصبح مظهراً تامّاً لكامل الأسماء والصفات، فكان وجه الله الأكمل وعين الله الأتمّ.

فكان الإنسان غاية الخليقة، وكان الله الغاية من خلق الإنسان، فالله هو غاية الغايات وبذلك ورد: (كنتُ كنزاً مخفيّاً فأحببت أن أُعرف، فخلقت الخلق لكي أُعرف) (2) .

حيث الإفاضة - وهي تجلّي الذات المقدّسة - كانت بالخلق والإبداع ومظهره الأتمّ هو الإنسان.

الحفاظ على كرامة الأنبياء

يمتاز القرآن بالحفاظ على كرامة الأنبياء، بينما التوراة تحطّ من كرامتهم.

____________________

(1) راجع: علم اليقين للفيض الكاشاني، ج 1، ص 381.

(2) حديث قُدسي معروف، راجع: البحار، ج84، ص 199، وهامش عوالي اللآلئ، ج 1، ص 55، وكتاب كشف الخفاء للعجاوني، ج 2، ص 132.

٢٥

لم يأتِ ذِكر نبيّ من الأنبياء في القرآن إلاّ وقد أحاط بهم هالةً من التبجيل والإكرام، كما ونزّهَهم عن الأدناس على وجه الإطلاق.

خُذ مثلاً سورة الصافّات جاء فيها ذكر أنبياءٍ عِظام مُرفَقاً بعظيم الاحترام.

( وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) (1) .

( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) وينتهي إلى قوله : ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشـَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ... ) (2) .

( وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) (3) .

( وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) إلى قوله: ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) (4) وهكذا كلّما يُمرّ ذِكرُ نبيّ تَصحبه لمـّة مِن الإجلال والتكريم.

وأمّا التوراة فلا تمرّ فيها بقصّةٍ من قصص الأنبياء إلاّ وملؤها الإهانة والتحقير، وربّما بلغ إلى حدّ الابتذال والتعبير ممّا لا يليق بشأن عباد الله المخلصين، هذا نوح شيخ الأنبياء تصفه التوراة: رجلاً سكّيراً مستهتراً لا يرعوي شناعةَ حال ولا فضاعة بال.

تقول عنه التوراة: إنّه بعد ما نَزل من السفينة هو ومَن معه، غرس كَرماً وصنع خمراً وشربها، حتّى إذا سكر وتعرّى داخل خبائه إذ دخل عليه ابنه الصغير حام فرأى أباه

____________________

(1) الصافات: 75 - 81.

(2) الصافات: 83 - 113.

(3) الصافات: 114 - 122.

(4) الصافات : 123 - 132.

٢٦

مكشوفاً عورته، فاستحى ورجع ليُخبر إخوته بذلك، ولمـّا صحا نوح وعَلِم بفضيع أمره دعا على ابنه هذا، ولعنه هو وذرّيته في الآخرين. فكان مِن أثر دعائه عليه أن كانت ذرّيته عبيداً لذرّية أخويه سام ويافث أبد الآبدين! (1) .

يا لها من مهزلة نسجتها ذهنيّة الحاقدين على أهل الدين، فما شأن التوراة وثَبتُ هكذا سفاسف حمقانيّة تمسّ بكرامة شيخ الأنبياء؟!

وهذا إبراهيم خليل الرحمان وأبو الأنبياء وصاحب الشريعة الحنيفة والتي أورثها الأنبياء من بعده، نَجده في التوراة رجلاً أرضيّاً يُتاجر بزوجه الحسناء (سارة) ليَفتدي بها لا لشيءٍ؛ إلاّ ليَحظى بالحياة الدنيا على غِرار سائر المـُرابين، يفعلون الفُجور للحصول على القليل من حطام الدنيا الدنيّة! (2) .

وما هي إلاّ فِرية فاضحة يُكذّبها تأريخ حياة إبراهيم (عليه السلام):

كانت سارة عندما صَحِبت زوجها إبراهيم في سفره إلى أرض مصر قد طَعنت في السنّ من السبعينيّات، وكان الدهر قد وَسَم على وجهها آثار الكُهولة والهرم، ولم يَعهد من عادة الملوك الجبابرة وأصحاب الترف والبذخ أن يطمعوا في هكذا نساء عجوزات!

كان إبراهيم عندما غادر (حاران) موطن أبيه (تارَح) قاصداً بلاد كنعان قد بلغ الخامسة والسبعين من عمره، واجتاز أرض (شكيم) ليبني هناك مَذبحاً (معبداً)، وارتحل إلى الجبل: شرقي (بيت إيل)، وهكذا تَداوم في رحلته يجوب البلاد ويبني مذابح، إلى أنْ حدث جَدْبٌ عمَّ البلاد، فانحدر إلى أرض مصر لينتجع هناك.

ولم يأتِ في التوراة مدّة هذا التَجوال والرحلات، لكن جاء فيها: أنّ سارة لمـّا وَهبت جاريتها (هاجر) لإبراهيم كان قد مضى من مغادرتهم أرض مصر عشر سنين (3) ، فحبلت هاجر وولدت إسماعيل بعد ما انقضى مِن عُمر إبراهيم ستٌ وثمانون عاماً (4) ، فكان إبراهيم عند مَقدمه مصر قد تجاوز الستّ والسبعين، وبما أنّ سارة كانت أصغر من إبراهيم

____________________

(1) سِفر التكوين، إصحاح 9/18 - 24.

(2) المصدر: 12/11 - 20.

(3) المصدر: 16/3.

(4) المصدر: 16/16.

٢٧

بعشر سنين فقد كانت عند قدومها مصر قد ناهزت الستّ والستين وهو سنّ العجائز! (1) .

إبراهيم، لم يَكذب قطّ!

جاء في أحاديث العامّة برواية أبي هريرة - وهي أشبه بالإسرائيليّات - (أنّ إبراهيم (عليه السلام) كَذَب ثلاث كِذبات: ثنتين في ذات الله: قوله: ( إِنِّي سَقِيمٌ ) (2) وقوله: ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ) (3) ، والثالثة بشأن سارة: أنّها أُخته) (4)

وفي حديث الشفاعة برواية أبي هريرة أيضاً: (أنّ أهل الموقف يأتون الأنبياء واحداً بعد واحد يستشفعون منهم، حتّى يأتوا إبراهيم فيأبى معتذراً: إنّي كذبت ثلاث كذبات ولستُ هناكم) (5) .

وقد وصفت لجنة مشايخ الأزهر هذه الروايات بالصِحاح، وعارضت الأستاذ عبد الوهاب النجّار استنكاره لهذه المفتريات (6) .

قلت: وحاشا إبراهيم الخليل - الداعي إلى الحنيفيّة البيضاء - أنْ ينطق بكذب، وإنّما كُذِبَ عليه بلا ريب، والرواية عامّية الإسناد لا اعتداد بها في هكذا مجالات.

ولقد أجاد الإمام الرازي حيث قال: فلأنْ يُضاف الكَذِب إلى رواة هذا الخبر أَولى من أنْ يُضاف إلى الأنبياء، وأخذ في تأويل الموارد الثلاثة، وأضافَ قائلاً: وإذا أمكن حَمل الكلام على ظاهره من غير نسبة الكَذِب إلى الأنبياء فحينئذٍ لا يحكم بنسبة الكذب إليهم إلاّ زنديق (7) .

أمّا قوله: ( إِنّي سَقِيمٌ ) فلعلّه أراد وهن حالته الجسديّة ممّا كان يرى قومه على عَمَه الغباء، وقد أحسّ ألماً شديداً انتاب قلبه المرهف تجاه تلكمُ الجهالات العارمة.

وأمّا قوله ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذَا فَسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ ) فقولة قالها مستهزئاً بهم

____________________

(1) المصدر: 17/17.

(2) الصافّات 37: 89.

(3) الأنبياء 21: 63.

(4) صحيح ا لبخاري، ج4، ص171 و ج7، ص7: وصحيح مسلم، ج7، ص98: ومسند أحمد، ج2، ص403 - 404.

(5) جامع الترمذي، ج4، ص623 وج5، ص321.

(6) راجع: هامش قصص الأنبياء للنجّار، ص86.

(7) التفسير الكبير، ج22، ص185 وج26، ص148.

٢٨

مستخفّاً عقليّتهم الكاسدة.

والكَذِب لا يكون إلاّ لغرض التمويه، أمّا إذا كان السامعون عارفين بواقع الأمر، وأنّ إبراهيم لم يقصد الحقيقة وإنّما أراد التسفيه من عقولهم محضاً فهذا لا يُعدّ كَذِباً؛ لأنّ الكَذِب إخبار في ظاهر غير مطابق للواقع، وهذا إنشاء لمحض التسفيه والهزء بهم، والإنشاء لا يَحتمل الصدق والكَذِب فتدبّر.

وأمّا الثالثة - بشأن سارة أنّها أُخته - فحديث خُرافة يا أُمّ عمرو!

قصّة الطوفان في التوراة

جاءت قصّة الطوفان في سِفر التكوين (1) بصورة تفصيليّة، تشبه أن تكون أساطيريّة، وفيها ما ترفضه العقول وتأباه واقعيّة الحياة، فضلاً عن منافاتها لأُصول الحكمة المهيمنة على مظاهر الوجود.

جاء فيه: أنّ قوم نوح فسدوا وأفسدوا في الأرض، فغضب اللّهُ عليهم وأنذرهم على لسان نوح بعذاب الاستئصال بإرسال الطوفان العارم، فلم يعبأوا بذلك وظلّوا يعبثون ويَعثون في البلاد.

ولمـّا بلغ نوح من العمر ستمِئة سنة أمره الله بصنع الفلك (في 300 ذراع طولاً و50 ذراعاً عرضاً و30 في الارتفاع).

فجاء الطوفان، وجُعلت ينابيع الأرض تتفجّر، والسماء تمطر بغزارة أربعين صباحاً، والماء يرتفع شيئاً فشيئاً على وجه الأرض كلّها، حتّى بلغ قِمم الجبال الشامخة في كل جوانب الأرض، وارتفع على أشمخ قمّة من الجبال بخمس عشرة ذراعاً؛ وبذلك هلك الحرث والنسل، ومات كلّ ذي حياة على وجه الأرض من الدوابّ والبهائم والدبّابات والزحّافات، وحتّى الطير في السماء.

ودام الطوفان مئة وخمسين صباحاً، يحوم نوح بأهله وذويه وما حمله معه في الفلك على وجه الماء، حتّى أخذ الماء ينحطّ ويغور فاستقرّت

____________________

(1) سِفر التكوين، إصحاح 9 - 6.

٢٩

سفينته على جبل (آرارات) بأرمينيّة، فنزلوا من السفينة وعاش نوح بعد ذلك ثلاثمئة وخمسين عاماً، فكان كلّ أيّام نوح تسعمِئة وخمسين سنة، على ما جاء في الإصحاح التاسع عدد 28.

وكان الذي حمله نوح معه في السفينة - غير أهله وذويه - أزواجاً (ذكراً وأُنثى) من كلّ أنواع الحيوانات؛ لئلاّ ينقرض نسلها وتبيد من الوجود (من جميع البهائم والطيور ذكراً وأُنثى، لاستبقاء نسلها على وجه كلّ الأرض) (1) .

وهذا يعنى: أنّ جميع الأحياء هلكوا على أثر الغَرَق (فما كلّ ذي جسد كان يدبّ على الأرض من الطيور والبهائم والوحوش، وكلّ الزحّافات التي كانت تزحف على الأرض وجميع الناس، كلّ ما في أنفه نسمة روح الحياة فيما في اليابسة مات) (2) ؛ وذلك أنّ الماء غمر وجه الأرض كلّها، وطغى على أعالي الجبال الشامخة في كلّ أكناف الأرض (وتعاظمت المياه كثيراً جدّاً على الأرض، فتغطّت جميعُ الجبال الشامخة التي تحت كلّ السماء خمس عشرة ذراعاً في الارتفاع فتغطّت كلّ الجبال) (3) .

حادث الطوفان في القرآن

وحاشا القرآن أنْ يساير التوراة (المـُتداولة) في سرد أقاصيص أسطوريّة واهية، وإنّما هي الواقعيّة ينتقيها ويَنبذ الأوهام الخرافيّة والتي أحدقت بها على أثر طول العهد.

وإليك الحادث على ما جاء في سورة هود:

( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ (4) قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاّ

____________________

(1) المصدر: 7/4.

(2) المصدر: 7/21.

(3) المصدر: 7/19.

(4) كلمة أعجميّة وتطلق في كلام العرب على مفجر المياه، جاء في القاموس: التنّور كل ّمفجر الماء.

٣٠

مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ * وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ (1) وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ * قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (2) .

مواضع عِبر أغفلتها التوراة

جاءت القصّة في التوراة كسائر الأحداث التاريخيّة القديمة مشوّهةً في خِضمٍّ من خرافات بائدة، ومن غير أن تتأكّد على مواضع العِبر منها، بل وأغفلتها في الأكثر، أمّا القرآن؛ فبما أنّه كتاب هداية وعِبر نراهُ يقتطف من أحداث التأريخ عِبرها، ويَجتني من شجرة حياة الإنسان السالفة يانع ثمرها، فليتمتّع الإنسان بها في حياته الحاضرة في شغفٍ وهناء.

وقد أغفلت التوراة جانب زوجة نوح وابنه اللذَينِ شَملهما العذاب بسوء اختيارهما، إنّها عِبرةٌ كبرى، كيف يغفل الإنسان أوفر إمكانيّات الهداية والصلاح؟ وينجرف بسوء اختياره مع تيّار الضلالة والفساد، وفي النهاية الدمار والهلاك!!

ذكر السيّد ابن طاووس: أنّه كان لنوح زوجان إحداهما وفيّة وأخرى غبيّة، فركبت الصالحة مع أبنائها السفينة، وهلكت الأخرى الطالحة مع الآثمين (3) .

قال اللّه تعالى عنها وعن زوج لوط: ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) (4) .

____________________

(1) قال أبو مسلم الإصبهاني: الجودي كلّ جبلٍ وأرضٍ صلبة.

(2) هود 11: 40 - 48.

(3) راجع: سعد السعود لابن طاووس، ص239، وبحار الأنوار، ج11، 342.

(4) التحريم 66: 10.

٣١

وكانت خيانَتُهما هي المـُسايرة مع الكافرين، ونبذ معالم الهداية التي كانت في متناولهما القريب.

وابن نوح يقول عنه تعالى: إنّه ليس من أهله، لا يصلح للانتساب إليه بهذا العنوان الفخيم (أهل نوح)؛ لأنّه عملٌ غير صالح، إنّه حصيلة أعماله غير الصالحة، ومن ثَمَّ فإنّه كان يعيش خارج الإطار الذي كان يعيشه نوح وأهله.

وهذا أيضاً من أعظم العِبر، كيف ينحدر الإنسان من أعلى قِمم الهداية والتوفيق لينخرط مع البائسين الحيارى لا يهتدون سبيلاً؟!

أمّا وكيف ابتغى نوح نجاة ابنه هذا وهو يعلم ما به من غَواية الضلال؟ فهذا يعود إلى حنان الأُبوّة ورحمة العُطوفة التي كان يحملها نوح (عليه السلام) لا سيّما مع ما وعده الله بنجاة أهله، فلعلّه شملته العناية الربّانيّة وأصبح من المرحومين ومِن ثَمّ جاءته الإجابة باليأس، وأنّه لا يصلح أن يكون أهلاً له وكان محتّماً عليه أن يمسي من المرجومين.

هل عمّ الطوفان وجه الأرض؟

صريح التوراة أنّ الطوفان عمّ وجه الأرض، وأهلك الحرث والنسل وحتّى الطير في السماء.

وليس في القرآن دلالةٌ ولا إشارةٌ إلى ذلك، بل على العكس أدلّ، وأنّ الطوفان إنّما عمّ المنطقة التي كان يعيشها قوم نوح ولم يتجاوزها.

جاء في سورة الأعراف: ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) إلى قوله ( فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ ) (1) .

فالذين كان يخاف عليهم عذاب يومٍ عظيم ممّن كذّبوه وكانوا قوماً عمين، كانوا هم المغرقين.

____________________

(1) الأعراف 7: 59 - 64.

٣٢

ولا دلالة فيها على غرق آخرين من أقوامٍ لو كانوا مُبعثرين عائشين في سائر أقطار الأرض ممّن لم تبلغهم دعوة نوح، ولم يكن مرسلاً إليهم.

هذا فضلاً عن سائر الحيوان من الزحّافات والدبّابات المنتشرة في وجه الأرض، وكذا الطير في الهواء، ممّا لا شأن لها ورسالات الأنبياء، ولا وجه لأنْ يعمّها العذاب، وهو عقاب على معصية لا مساس لها بغير الإنسان.

الأمر الذي يؤخذ على التوراة أشدّ الأخذ! ولا سيّما بذاك الوصف الذي وصفته: غمر الماء وجه الأرض كلها وارتفع حتّى غمر قمم الجبال الشامخات وعلاهنّ بخمس عشرة ذراعاً (سبعة أمتار)!

نقض فرضية الشمول

يقول (ولتر) - الكاتب الناقد الفرنسي (1694 - 1778 م) بصدد تسخيف أُسطورة الطوفان على ما وصفته التوراة -: كان يجب لمثل هذا التضخّم من الماء المتراكم على وجه الأرض أنْ تضمّ اثنا عشر بحراً، كلّ في سعة البحر الأطلانتي المحيط، بعضها فوق بعض ليكون الأعلى في حجم أكبر بأربع وعشرين ضعفاً، وهكذا حتّى تجتمع في مثل هذا الماء المتراكم ليغمر شامخات الجبال!

ويزيد - مستخفّاً عقليّة مسطّر هذه الأساطير وناقماً على الذين اعتنقوها باعتبارها وحياً من السماء (وحاشاه) -: يكفي بذلك معجزة خالدة لا حاجة معها إلى سائر المعاجز، حيث لا مثيل لها في خرق نواميس الكون!!.

ويقول آخر: إنّ المحاسبات العلميّة الدقيقة تُعطينا: أنّ الأبخرة المنبثّة في أجواء الأرض لو تكثّفت جميعاً وهطلت أمطاراً لما كانت تكفي لأنْ تغمر وتعلو عن وجه الأرض بأكثر من بضع سانتي مترات، فكيف بجبال شامخات؟!

يقول الدكتور (شفا): لو كانت السماء تهطل بأمطارها أربعين صباحاً - كما هو نصّ التوراة - لما كاد أنْ يغمر هضبة ما بين النهرين - على صغرها - فكيف بغمر وجه الأرض

٣٣

وأنْ يعلو قمم الجبال؟! وجبل (آرارات) يرتفع عن سطح البحر بأكثر من خمس كيلو مترات ما يكاد أن يغمره، فكيف بسائر الجبال الشامخة؟! (1) .

الطوفان ظاهرة طبيعيّة حيث أرادها الله

نعم، كان حادث الطوفان ظاهرة طبيعيّة وعلى ما وصفه القرآن ممّا لا يكاد الغمز فيه.

كان قد مرّ على حياة الأرض في أدوارها الأولى كثير من تغيّرات جوّية مفاجئة، كان وجه الأرض مسرحاً لتناوب هطول أمطار غزيرة، وسيول هائلة منحدرة من أعالي الجبال كادت تغمّ الهضاب والوديان والمناطق المنخفضة من سطح الأرض.

وكان طوفان نوح إحدى تلكم الظواهر الكونيّة حدثت بإذن الله ( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ) (2) ، فانحدرت سيول هائلة على سفوح الجبال، وتفجّر ينابيع الأرض المـُشبعة بالأمطار، وهكذا أحاط الماء الهائم بقوم نوح وسدّ عليهم طرق النجاة، وحتّى ابن نوح حاول اللجوء إلى أعالي المرتفعات لولا أنْ جابهته سيول هائجة لتصرعه إلى حيث مَهوى الهلاك، بل وحتّى لم يجد فرصة التريّث فيما كان ينصحه أبوه، وحال بينهما الموج فكان من المغرقين.

وفي تواريخ الأُمم ما يُسجّل حدوث طوفانات هائلة جرفت بقسط من الحياة؛ ولعلّه لتراكم الفساد والشرّ في تلكم البقاع، فمِن قدماء الفرس: أنّ طوفاناً هائلاً غمّ أرض العراق إلى حدود كردستان، وهكذا رُوي عن قدماء اليونان، والهنود أثبتوا وقوع الطوفان سبع مرّات شمل شبه الجزيرة الهنديّة، ويُروى تعدّد الطوفان عن اليابان والصين والبرازيل والمكسيك وغيرهم، ويُروى عن الكلدانييّن - وهم الذين وقع طوفان نوح في بلادهم -:

أنّ المياه طغت على البلاد وجرفت بالحرث والنسل. فقد نقل عنهم (برهوشع) و

____________________

(1) راجع: ما كتبه الدكتور شجاع الدين شفا في كتابه (تولّدي ديكر)، ص 285 منتقداً قصّة الطوفان على ما وردت في الكتب الدينيّة.

(2) القمر 54: 11 و 12.

٣٤

(يوسيفوس): أنّ (زيزستروس) رأى في الحُلم بعد موت أبيه (أوتيرت) أنّ المياه ستطغى وتُغرق الناس كلّهم - ممّن كان يعيش هناك طبعاً - فأُمر بصنع سفينة يعتصم فيها هو وذووه ففعل، وقد كان هناك جبابرة طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد فعاقبهم الله بالطوفان والاستئصال.

وقد عَثر بعض الإنجليز على ألواح من الآجر نُقشت فيها هذه الرواية بالحروف المسماريّة في عصر (آشور بانيبال) من نحو (660) سنة قبل ميلاد المسيح، وأنّها منقولة من كتابة قديمة من القرن السابع عشر قبل الميلاد أو قبل ذلك، ومِن ثَمّ فهي أقدم من كتابة سِفر التكوين (يرجع تدوينه إلى عام 536 قبل الميلاد بعد الرجوع من سبي بابل).

ويروي اليونان خبراً عن الطوفان أورده (أفلاطون) وهو: أنّ كَهَنة مصر قالوا للحكيم اليوناني (سولون) أنّ السماء أرسلت طوفاناً غيّر وجه الأرض مراراً، فهلك الناس - ممّن عمروا البلاد في المنطقة - وانمحت آثارهم ولم يبق للجيل الجديد شيء من تلكمُ الآثار والمعارف.

وأورد (مانيتيون) خبر طوفان حدث بعد (هرمس) الأَوّل - الذي كان بعد (ميناس) الأَوّل -، وهو أقدم من تأريخ التوراة أيضاً (1) .

وهكذا جاء خبر الطوفان في (اُوستا) كتاب المجوس (2) .

وجاء في كتاب (تأريخ الأدب الهندي) الجزء الأوّل المختصّ بالثقافة الوثنيّة الهنديّة، للسيّد أبي نصر أحمد الحسيني البهوبالي الهندي (مخطوط) ص 42 و 43، في الباب الخامس، وعنوانه (برهمانا وأوبانبشاء):

وممّا يلفت النظر في (ساتا بانا برهمانا) قصّة الطوفان، التي بُيّنت في ضمن الضحايا، والقصّة وإنْ اختلفت من وجوه كثيرة عمّا في القرآن والتوراة، وإن لم توجد شواهد قاطعة تربط القصّة الهنديّة مع الساميّة، توجب الاهتمام..

ففي هذه القصّة البرهمانيّة يقوم (مانو) بدور نبيّ الله نوح (عليه السلام) في القرآن وفي

____________________

(1) راجع: تفسير المنار لمـُحمّد عبده، ج 12، ص 105.

(2) في ترجمتها الفرنسيّة. راجع: الميزان للطباطبائي، ح 10، ص 267.

٣٥

التوراة، و (مانو) اسم نال التقديس والاحترام في أدب الثقافة بأسره من الوثنيّين، فهو: ابن الله، ومصدر جميع الناس وجدّهم الأسطوري.

وخلاصة القصّة: أنّه بينما كان (مانو) يغسل يديه إذ جاءت في يده سَمكة، وممّا اندهش به (مانو) أنّ السمكة كلّمته وطلبت إنقاذها من الهلاك، ووَعَدته جزاءً عليه أنّها ستنقذه في المستقبل من خطر عظيم، والخطر العظيم المـُحدق الذي أنبأت به السمكة كان طوفاناً سيجرف جميع المخلوقات؛ وعلى ذلك حَفَظ (مانو) السمكة في (المرتبان)، فلمـّا كَبُرت السمكة أخبرت (مانو) عن السنة التي سيأتي فيها الطوفان، ثمّ أشارت عليه أن يصنع سفينة كبيرة، ويدخل فيها عند طغيان الماء، قائلةً: أنا أُنقذك من الطوفان، فمانو صنع السفينة، والسمكة كبُرت أكثر من سعة (المرتبان)؛ لذلك ألقاها (مانو) في البحر. ثمّ جاء الطوفان كما أنبأت السمكة، وحين دخل (مانو) السفينة، عامت السمكة إليه، فربط السفينة بقرن على رأس السمكة، فجرّتها إلى الجبال الشماليّة، وهنا ربط (مانو) السفينة بشجرة، وعندما تراجع الماء وخفّ بقي (مانو) بوحدته (1) .

فذلكة الكلام: إنّ فيما أنبأت به الأُمم وحدّثت به الأجيال من حوادث جوّية خطيرة، داهمت الحياة البشريّة الأُولى وكان فيها الهلاك والدمار ومنها حادث الطوفان في كرّات ومرّات، ليُشْرف بالاطمئنان على تحقّق الحادث إجماليّاً، ولو لم يكن بذلك الشكل الأساطيري المنقول، شأن سائر القصص البائدة حِيكت حولها مخاريف، الأمر الذي لا يوجب إنكارها من رأس، ولا سيّما أنّ مثل حادث الطوفان كان طبيعيّاً أنْ يهاجم حياة الإنسان، ويواجهه بالنكبات في الأيام الأُولى بكثرة، ولا يزال ينتاب وجه الأرض بعد حينٍ وآخر.

وربما كان من أعظمها وأشملها طوفان نوح، عمّ المنطقة ودمّر وأباد، هذا شيء لا مساغ لإنكاره، بعد كونه طبيعيّاً وأخبر به الصادق الأمين.

____________________

(1) راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص 46 - 47.

٣٦

أمّا الزيادات التي جاءت في الأساطير القديمة ونقلتها التوراة على عِلاّتها فهذا شيءٌ نستخلص منه وننبذه، كما نبذه القرآن واستخلص الحادث صافياً جليّاً، الأمر الذي اختصّ به القرآن وكان نبأً غيبيّاً لا يعلمه أيّ إنسان ذلك الحين ( تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا ) (1) .

أي لا تعلمها بهذا الخلوص والجلاء، أمّا صورتها المشوّهة فكان يتداول بها أقوام جاهلون بحقيقة الأمر.

لا شاهد على شمول الطوفان

لا شكّ أنّ شواهد الطبيعة لا تدع مَجالاً لاحتمال شمول الطوفان، ولا سيّما بذلك الارتفاع الهائل! كما لا موجب لتناول الإعجاز لمثل هذا الحدّ غير الضروري قطعيّاً.

بقي ظاهر النصّ (التعابير الواردة في القرآن الكريم) ممّا حسبه البعض ذا دلالة أو إشارة إلى ذلك، فضلاً عن قرائن أخرى:

قال الشيخ مُحمّد عبده: وأمّا مسألة عموم الطوفان في نفسها فهي موضوع نزاع بين أهل الأديان، وأهل النظر في طبقات الأرض، وموضوع خلاف بين مؤرّخي الأُمم.

أمّا أهل الكتاب وعلماء الأمّة الإسلاميّة فعلى أنّ الطوفان كان عامّاً لكلّ الأرض، ووافقهم على ذلك كثير من أهل النظر، واحتجّوا على رأيهم بوجود بعض الأصداف والأسماك المتحجّرة في أعالي الجبال؛ لأنّ هذه الأشياء ممّا لا تتكّون إلاّ في البحر، فظهورها في رؤوس الجبال دليلٌ على أنّ الماء صعد إليها مرّةً من المرّات، ولن يكون ذلك حتّى يكون قد عمّ الأرض (2) .

وقال السيّد الطباطبائي: الحقّ، أنّ ظاهر القرآن الكريم - ظهوراً لا ينكر - أنّ الطوفان كان عامّاً للأرض، وأنّ من كان عليها من البشر أغرقوا جميعاً...

ومن شواهد الآيات التي استند إليها قوله تعالى - حكايةً عن نوح - ( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى

____________________

(1) هود 11: 49.

(2) تفسير المنار، ج 12، ص1 08.

٣٧

الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ) (1) وقوله: ( لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ) (2) وقوله: ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) (3) .

قال: ومن الشواهد من كلامه تعالى على عموم الطوفان ما ذكر في موضعين من الأمر بأنْ يَحمل من كلٍّ زوجين اثنين، (4) ومن الواضح أنّه لو كان الطوفان خاصّاً بالمنطقة - أرض العراق كما هو معروف - لم تكن حاجة إلى ذلك (5) ؛ نظراً لإمكان تداوم النسل بسائر أفراد النوع المنبّثة في أقطار الأرض حينذاك.

آثار جيولوجيّة

لكن وجود الفسايل وبقايا متحجّرة لحيوانات مائيّة وهكذا آثار الردم المـُشاهد في أعالي بعض الجبال لا يَصلح شاهداً لصعود الماء إليها؛ إذ لا يكفي لحدوث هذه الآثار ووجود هذه البقايا صعود الماء أيّاماً معدودة ولفترة قصيرة، بل ومن المحتمل القريب أنّها من بقايا رسوبيّة كانت يوماً ما تحت البحر وعلى ضفافه، غير أنّ التغيّرات الجيولوجيّة والتمعّجات الحاصلة على قشرة الأرض على أثر الزلازل وغيرها هي التي أوجبت تغيّراً في وجه الأرض، فمنها ما ارتفع بعدما كان مغموراً، أو انغمر بعد ما كان عالياً، وهكذا تعرجّات حدثت على الأرض ولا سيّما في الفترات الأُولى على أثر انخفاض حرارة سطح الأرض.

قال الشيخ محمّد عبده: إنّ وجود الأصداف والحيوانات البحريّة المتحجّرة في قُلل الجبال لا يدلّ على أنّها من أثر ذلك الطوفان؛ بل الأقرب أنّه كان من أثر تكوّن الجبال وغيرها من اليابسة في الماء. فإنّ صعود الماء إلى الجبال أيّاماً معدودة لا يكفي لحدوث ما ذكر فيها (6) .

____________________

(1) نوح 71: 26.

(2) هود 11: 43.

(3) الصافّات 37: 77.

(4) راجع: سورة هود 11: 40 والمؤمنون 23: 27.

(5) راجع: تفسير الميزان، ج 10، ص 272 و 274 ووافقه على ذلك الدكتور مُحمّد الصادقي في تفسيره الفرقان، ج 12، ص 316 - 317.

(6) تفسير المنار، ج 12، ص 108.

٣٨

( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرضِ) (1) .

أخذوا من هذه الآية دليلاً على عموم الطوفان وشموله لوجه الأرض كلّها.

قال الشيخ محمّد عبده: ليست الآية نصّاً في أنّ المراد بالأرض هذه الكُرة كلّها، فإنّ المعروف في كلام الأنبياء والأقوام وفي أخبارهم أنْ تُذكر الأَرض ويراد بها أرضهم ووطنهم، كقوله تعالى حكايةً عن خطاب فرعون لموسى وهارون: ( وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ ) (2) يعني أرض مصر، وقوله: ( وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ) (3) فالمراد بها مكّة، وقوله: ( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ) (4) والمراد ديار فلسطين، والشواهد على ذلك كثيرة.

قال: وظواهر الآيات تدلّ بمعونة القرائن والتقاليد المـُوروثة عن أهل الكتاب على أنّه لم يكن في الأرض كلّها في زمن نوح إلاّ قومه - (وهو في أوّليات حياة البشر) - وأنّهم هلكوا كلّهم بالطوفان، ولم يبقَ بعده فيها غير ذرّيته، وهذا يقتضي أنْ يكون الطوفان في البقعة التي كانوا فيها من الأرض سَهلها وجبالها لا في الأرض كلّها، إلاّ إذا كانت اليابسة منها في ذلك الزمن صغيرة؛ لقرب العهد بالتكوين وبوجود البشر عليها.

فإنّ علماء التكوين وطبقات الأرض (الجيولوجيّة) يقولون: إنّ الأرض كانت عند انفصالها من الشمس كرة ناريّة ملتهبة ثمّ صارت كرة مائيّة، ثُمّ ظهرت فيها اليابسة بالتدريج (5) .

وبذلك ظهر عدم دلالة الآية ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) (6) على شمول الطوفان لعامّة وجه الأرض، بعد فرض محدوديّة نطاق النسل البشري آنذاك (في عهدٍ بعيد جدّاً) وعدم الانتشار في أقطار الأرض، ولا نُسلّم بما حدّدته التوراة من التأريخ القريب ولا مستند لها.

( لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)

شاهد آخر التمسوه دليلاً على عموم الطوفان.

قال تعالى: ( وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ

____________________

(1) نوح 71: 26،

(2) يونس 10: 87.

(3) الإسراء 17: 76.

(4) الإسراء 17: 4.

(5) تفسير المنار، ج 12، ص 106.

(6) الصافّات 37: 77.

٣٩

ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ) (1) .

في هذه الآية موضعان يمكن الاستناد إليهما تدليلاً على شمول الطوفان:

1 - التعبير بالموج الهائل كالجبال، ممّا لا يحدث إلاّ في متّسع من خِضَمّ الماء المتراكم.

2 - محاولة ابن نوح للصعود إلى جبلٍ يَعصمه من الماء، ولكنّ نوحاً أنذره أنْ لا عاصم اليوم، ومعنى ذلك: أنّ الماء سيغطّي الجبال أيضاً ولا يَذر موضعاً يأوي إليه، وهكذا ابتلعه الموج الهائم فكان من المغرقين.

لكن لا شكّ أنّ هضبةً كبيرةً واسعةَ الأرجاء إذا ازدحمت عليها المياه، واكتنفتها السيول العارمة من كلّ جانب، وفاضت ينابيع الأرض فإنّ الماء ليجول ويصول في ساحتها، وربّما ارتفعت إلى عشرات الأمتار، وفي مثل هذا الخِضمّ من الماء الهائم - والذي في عرضة الطوفان - وهبوب رياح عاصف لابدّ أنّ تحصل أمواج عالية وعاتية تلوي على كلٍّ شيء.

ولابدّ أنّ ابن نوح كان واقفاً على مرتفع من الأرض ليرى تجوال السفينة على وجه الماء، وحينما كلّمه أبوه - وهو راكبٌ في السفينة - لمْ يعبأ بنُصح أبيه، وأنّه سوف يأوي إلى أعالي الجبال، لكنّه غافلٌ أنّ السيول الهائمة المـُنحدرة على سفوح الجبال سوف تلوي به إلى أعماق الغَرق، وبالفعل نزلت به النازلة وحال بينه وبين أبيه الموج فكان من الهالكين.

وليس في ذلك دلالة على أنّ الماء سوف يرتفع على قِمم الجبال الشامخة في كلّ مناحي الأرض.

وهكذا رجّح العلاّمة الشعراني أنّ الماء لم يرتفع في أرض الطوفان (هضبة ما بين النهرين) أكثر من عشرين أو ثلاثين متراً، ممّا لا يمكن غشيانه قُلَل جبال رفيعة كقُلّةِ آرارات من سلسلة جبال جودي (2) .

____________________

(1) هود 11: 42 و 43.

(2) معجم لغات القرآن للعلاّمة أبي الحسن الشعراني (ملحق تفسير أبي الفتوح الرازي، ج 11، ص 144).

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

قد أنفق بعض ماله و امتنّ به مستكثراً له بقوله:( أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً ) فنزلت الآيات و ردّ الله عليه بأنّ الفوز بميمنة الحياة لا يتمّ إلّا باقتحام عقبة الإنفاق في سبيل الله و الدخول في زمرة الّذين آمنوا و تواصوا بالصبر و المرحمة، و يتأيّد به ما سيأتي في البحث الروائيّ إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( أَ يَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ ) إنكار لما هو لازم قول الإنسان:( أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً ) على طريق التكنية و محصّل المعنى أنّ لازم إخبار الإنسان بإهلاكه مالاً لبداً أنّه يحسب أنّا في غفلة و جهل بما أنفق و قد أخطأ في ذلك فالله سبحانه بصير بما أنفق لكنّ هذا المقدار لا يكفي في الفوز بميمنة الحياة بل لا بدّ له من أن يتحمّل ما هو أزيد من ذلك من مشاقّ العبوديّة فيقتحم العقبة و يكون مع المؤمنين في جميع ما هم فيه.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ) النجد الطريق المرتفع، و المراد بالنجدين طريق الخير و طريق الشرّ و سمّيا النجدين لما في سلوك كلّ منهما من الجهد و الكدح، و فسّراً بثديي الاُم و هو بعيد.

و قوله:( أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ) أي جهّزناه في بدنه بما يبصر به فيحصل له العلم بالمرئيّات على سعة نطاقها، و قوله:( وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ ) أي أ و لم نجعل له لساناً و شفتين يستعين بها على التكلّم و الدلالة على ما في ضميره من العلم و يهتدي بذلك غيره على العلم بالاُمور الغائبة عن البصر.

و قوله:( وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ) أي علّمناه طريق الخير و طريق الشرّ بإلهام منّا فهو يعرف الخير و يميّزه من الشرّ فالآية في معنى قوله تعالى:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها ) الشمس: ٨.

و في الآيات الثلاث حجّة على قوله:( أَ يَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ ) أي على أنّه تعالى يرى أعمال عباده و يعلم ما في ضمائرهم من وجوه الأعمال و يميّز الخير من الشرّ و الحسنة من السيّئة.

٤٢١

محصّلها أنّ الله سبحانه هو الّذي يعرّف المرئيّات للإنسان بوسيلة عينيه و كيف يتصوّر أن يعرّفه أمراً و هو لا يعرفه؟ و هو الّذي يدلّ الإنسان على ما في الضمير بواسطة الكلام و هل يعقل أن يكشف له عمّا هو في حجاب عنه؟ و هو الّذي يعلّم الإنسان و يميّز له الخير و الشرّ بالإلهام و هل يمكن معه أن يكون هو نفسه لا يعلم به و لا يميّزه؟ فهو تعالى يرى ما عمله الإنسان و يعلم ما ينويه بعمله و يميّز كونه خيراً أو شرّاً و حسنة أو سيّئة.

قوله تعالى: ( فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ) الاقتحام الدخول بسرعة و ضغط و شدّة، و العقبة الطريق الصعب الوعر الّذي فيه صعود من الجبل، و اقتحام العقبة إشارة إلى الإنفاق الّذي يشقّ على منفقه كما سيصرّح به.

و قيل: الجملة دعاء على الإنسان القائل: أهلكت مالاً لبداً، و ليس بشي‏ء.

قوله تعالى: ( وَ ما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ ) تفخيم لشأنها كما مرّ في نظائره.

قوله تعالى: ( فَكُّ رَقَبَةٍ ) أي عتقها و تحريرها أو التقدير هي أي العقبة فكّ رقبة فالمراد بالعقبة نفس الفكّ الّذي هو العمل و اقتحامه الإتيان به، و الإتيان بالعمل نفس العمل.

و به يظهر فساد قول بعضهم إنّ فكّ رقبة اقتحام للعقبة لا نفس العقبة فهناك مضاف محذوف يعود إليه الضمير و التقدير و ما أدراك ما اقتحام العقبة هو - أي الاقتحام - فكّ رقبة.

و ما ذكر في بيان العقبة من فكّ الرقبة و الإطعام في يوم ذي مسغبة من مصاديق نشر الرحمة خصّ بالذكر لمكان الأهمّيّة، و قدّم فكّ الرقبة و ابتدئ به لكمال عناية الدين بفكّ الرقاب.

قوله تعالى: ( أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ) المسغبة المجاعة، و المقربة القرابة بالنسب، و المتربة من التراب و معناها الالتصاق بالتراب من شدّة الفقر، و المعنى أو إطعام في يوم المجاعة يتيماً من ذي القربى أو

٤٢٢

مسكيناً شديد الفقر.

قوله تعالى: ( ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَ تَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ) المرحمة مصدر ميميّ من الرحمة، و التواصي بالصبر وصيّة بعضهم بعضاً بالصبر على طاعة الله و التواصي بالمرحمة وصيّة بعضهم بعضاً بالرحمة على ذوي الفقر و الفاقة و المسكنة.

و الجملة أعني قوله:( ثُمَّ كانَ ) إلخ معطوفة على قول:( اقْتَحَمَ ) و التقدير فلا اقتحم العقبة و لا كان من الّذين آمنوا إلخ و قيل فيها غير ذلك ممّا لا جدوى فيه.

قوله تعالى: ( أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ) بمعنى اليمن مقابل الشؤم، و الإشارة باُولئك إلى ما يدلّ عليه السياق السابق أي الّذين اقتحموا العقبة و كانوا من الّذين آمنوا و تواصوا بالصبر و المرحمة أصحاب اليمن لا يرون ممّا قدّموه من الإيمان و عملهم الصالح إلّا أمراً مباركاً جميلاً مرضيّاً.

و قيل: المراد بالميمنة جهة اليمين و أصحاب الميمنة هم الّذين يؤتون كتابهم بيمينهم، و مقابلة الميمنة بالمشأمة لا تلائمه.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ ) الآيات الآفاقيّة و الأنفسية آيات و أدلّة عليه تعالى تدلّ على توحّده في الربوبيّة و الاُلوهيّة و سائر ما يتفرّع عليه و ردّها كفر بها و الكفر بها كفر بالله و كذا القرآن الكريم و آياته، و كذا ما نزل و بلّغ من طريق الرسالة.

و الظاهر أنّ المراد بالآيات مطلقها، و المشأمة خلاف الميمنة.

قوله تعالى: ( عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ ) أي مطبقة.

( بحث روائي‏)

في المجمع: في قوله:( وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ) قيل: معناه و أنت محلّ بهذا البلد و هو ضدّ المحرم، و المراد أنت حلال لك قتل من رأيت من الكفّار، و ذلك حين اُمر بالقتال يوم فتح مكّة فأحلّها الله له حتّى قاتل و قتل، و قد قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لم يحلّ لأحد قبلي و لا يحلّ لأحد بعدي و لم يحلّ لي إلّا ساعة من نهار. عن ابن عبّاس

٤٢٣

و مجاهد و عطاء.

و فيه: في الآية و قيل: لا اُقسم بهذا البلد و أنت حلال منتهك الحرمة مستباح العرض لا تحترم فلا تبقى للبلد حرمة حيث هتكت: عن أبي مسلم و هو المرويّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

قال: كانت قريش تعظّم البلد و تستحلّ محمّداً فيه فقال:( لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ) يريد أنّهم استحلّوك فيه و كذّبوه و شتموك، و كانوا لا يأخذ الرجل منهم فيه قاتل أبيه و يتقلّدون لحاء شجر الحرم فيأمنون بتقلّدهم إيّاه فاستحلّوا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما لم يستحلّوه من غيره فعاب الله ذلك عليهم.

و فيه: في قوله تعالى:( وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ ) قيل: آدم و ما ولد من الأنبياء و الأوصياء و أتباعهم. عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

أقول: و المعاني السابقة مرويّة من طرق أهل السنّة في أحاديث موقوفة، و روى القمّيّ في تفسيره الأخيرتين بالإرسال و الإضمار.

و في تفسير القمّيّ:( يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً ) قال: اللبد المجتمع و في المجمع: في الآية قيل: هو الحارث بن نوفل بن عبد مناف و ذلك أنّه أذنب ذنبا فاستفتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأمره أن يكفّر فقال: لقد ذهب مالي في الكفّارات و النفقات منذ دخلت في دين محمّد، عن مقاتل.

و في المجمع: أنّه قيل لأميرالمؤمنينعليه‌السلام : إنّ اُناسا يقولون في قوله:( وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ) أنّهما الثديان فقال: لا، هما الخير و الشرّ.

و في اُصول الكافي، بإسناده عن حمزة بن محمّد عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله تعالى:( وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ) قال: نجد الخير و الشرّ.

أقول: و روي في الدرّ المنثور، هذا المعنى بطرق عن عليّعليه‌السلام و أنس و أبي أمامة و غيرهم عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و رواه القمّيّ في تفسيره، مرسلاً مضمراً.

و في الكافي، بإسناده عن جعفر بن خلّاد قال: كان أبوالحسن الرضاعليه‌السلام إذا أكل اُتي بصحفة فتوضع قرب مائدته فيعمد إلى أطيب الطعام ممّا يؤتى به فيأخذ من كلّ

٤٢٤

شي‏ء شيئاً فيضع في تلك الصحفة ثمّ يأمر بها للمساكين ثمّ يتلو هذه الآية( فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ) .

ثمّ يقول: علم الله عزّوجلّ أنّه ليس كلّ إنسان يقدر على عتق رقبة فجعل لهم السبيل إلى الجنّة.

و في المجمع، و روي مرفوعاً عن البراء بن عازب قال: جاء أعرابيّ إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا رسول الله علّمني عملاً يدخلني الجنّة قال: إن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة، أعتق النسمة و فكّ الرقبة، فقال أ و ليسا واحداً؟ قال: لا، عتق الرقبة أن يتفرّد بعتقها و فكّ الرقبة أن يعين في ثمنها، و الفي‏ء على ذي الرحم الظالم.

فإن لم يكن ذلك فأطعم الجائع و اسق الظمآن و أمر بالمعروف و أنه عن المنكر فإن لم تطق ذلك فكفّ لسانك إلّا من خير.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ) قال: لا يقيه من التراب شي‏ء.

٤٢٥

( سورة الشمس مكّيّة و هي خمس عشرة آية)

( سورة الشمس الآيات ١ - ١٥)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ( ١ ) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ( ٢ ) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ( ٣ ) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ( ٤ ) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ( ٥ ) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ( ٦ ) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ( ٧ ) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ( ٨ ) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ( ٩ ) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ( ١٠ ) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ( ١١ ) إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا ( ١٢ ) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا ( ١٣ ) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا ( ١٤ ) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ( ١٥ )

( بيان‏)

تذكر السورة أنّ فلاح الإنسان - و هو يعرف التقوى و الفجور بتعريف إلهيّ و إلهام باطنيّ - أن يزكّي نفسه و ينميها إنماءً صالحاً بتحليتها بالتقوى و تطهيرها من الفجور، و الخيبة و الحرمان من السعادة لمن يدسّيها، و يستشهد لذلك بما جرى على ثمود من عذاب الاستئصال لمّا كذّبوا رسولهم صالحاً و عقروا الناقة، و في ذلك تعريض لأهل مكّة، و السورة مكّيّة بشهادة من سياقها.

قوله تعالى: ( وَ الشَّمْسِ وَ ضُحاها ) في المفردات: الضحى انبساط الشمس و امتداد النهار و سمّي الوقت به انتهى. و الضمير للشمس، و في الآية إقسام بالشمس و انبساط ضوئها على الأرض.

قوله تعالى: ( وَ الْقَمَرِ إِذا تَلاها ) عطف على الشمس و الضمير لها و إقسام بالقمر

٤٢٦

حال كونه تاليا للشمس، و المراد بتلوّه لها إن كان كسبه النور منها فالحال حال دائمة و إن كان طلوعه بعد غروبها فالإقسام به من حال كونه هلالاً إلى حال تبدّره.

قوله تعالى: ( وَ النَّهارِ إِذا جَلَّاها ) التجلية الإظهار و الإبراز، و ضمير التأنيث للأرض، و المعنى و اُقسم بالنهار إذا أظهر الأرض للأبصار.

و قيل: ضمير الفاعل في( جَلَّاها ) للنهار و ضمير المفعول للشمس، و المراد الإقسام بحال إظهار النهار للشمس فإنّها تنجلي و تظهر إذا انبسط النهار، و فيه أنّه لا يلائم ما تقدّمه فإنّ الشمس هي المظهرة للنهار دون العكس.

و قيل: الضمير المؤنّث للدنيا، و قيل: للظلمة، و قيل: ضمير الفاعل لله تعالى و ضمير المفعول للشمس، و المعنى و اُقسم بالنهار إذا أظهر الله الشمس، و هي وجوه بعيدة.

قوله تعالى: ( وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشاها ) أي يغطي الأرض، فالضمير للأرض كما في( جَلَّاها ) و قيل: للشمس و هو بعيد فالليل لا يغطّي الشمس و إنّما يغطّي الأرض و ما عليها.

و التعبير عن غشيان الليل الأرض بالمضارع بخلاف تجلية النهار لها حيث قيل:( وَ النَّهارِ إِذا جَلَّاها وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشاها ) للدلالة على الحال ليكون فيه إيماء إلى غشيان الفجور الأرض في الزمن الحاضر الّذي هو أوائل ظهور الدعوة الإسلاميّة لما تقدّم أنّ بين هذه الأقسام و بين المقسم بها نوع اتّصال و ارتباط، هذا مضافاً إلى رعاية الفواصل.

قوله تعالى: ( وَ السَّماءِ وَ ما بَناها وَ الْأَرْضِ وَ ما طَحاها ) طحو الأرض و دحوها بسطها، و( ما ) في( وَ ما بَناها ) و( ما طَحاها ) موصولة، و الّذي بناها و طحاها هو الله تعالى و التعبير عنه تعالى بما دون من لإيثار الإبهام المفيد للتفخيم و التعجيب فالمعنى و اُقسم بالسماء و الشي‏ء القوي العجيب الّذي بناها و اُقسم بالأرض و الشي‏ء القويّ العجيب الّذي بسطها.

و قيل: ما مصدريّة و المعنى و اُقسم بالسماء و بنائها و الأرض و طحوها، و السياق

٤٢٧

- و فيه قوله:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها ) إلخ - لا يساعده.

قوله تعالى: ( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها ) أي و اُقسم بنفس و الشي‏ء ذي القدرة و العلم و الحكمة الّذي سوّاها و رتّب خلقتها و نظم أعضاءها و عدّل بين قواها.

و تنكير( نَفْسٍ ) قيل: للتنكير، و قيل: للتفخيم و لا يبعد أن يكون التنكير للإشارة إلى أنّ لها وصفاً و أنّ لها نبأ.

و المراد بالنفس النفس الإنسانيّة مطلقاً و قيل: المراد بها نفس آدمعليه‌السلام و لا يلائمه السياق و خاصّة قوله:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ) إلّا بالاستخدام على أنّه لا موجب للتخصيص.

قوله تعالى: ( فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها ) الفجور - على ما ذكره الراغب - شقّ ستر الديانة فالنهي الإلهيّ عن فعل أو عن ترك حجاب مضروب دونه حائل بين الإنسان و بينه و اقتراف المنهيّ عنه شقّ للستر و خرق للحجاب.

و التقوى - على ما ذكره الراغب - جعل النفس في وقاية ممّا يخاف، و المراد بها بقرينة المقابلة في الآية بينها و بين الفجور التجنّب عن الفجور و التحرّز عن المنافي و قد فسّرت في الرواية بأنّها الورع عن محارم الله.

و الإلهام الإلقاء في الروع و هو إفاضته تعالى الصور العمليّة من تصوّر أو تصديق على النفس.

و تعليق الإلهام على عنواني فجور النفس و تقواها للدلالة على أنّ المراد تعريفه تعالى للإنسان صفة فعله من تقوى أو فجور وراء تعريفه متن الفعل بعنوانه الأوّليّ المشترك بين التقوى و الفجور كأكل المال مثلاً المشترك بين أكل مال اليتيم الّذي هو فجور و بين أكل مال نفسه الّذي هو من التقوى، و المباشرة المشتركة بين الزنا و هو فجور و النكاح و هو من التقوى و بالجملة المراد أنّه تعالى عرّف الإنسان كون ما يأتي به من فعل فجوراً أو تقوى و ميّز له ما هو تقوى ممّا هو فجور.

و تفريع الإلهام على التسوية في قوله:( وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها ) إلخ للإشارة إلى أنّ إلهام الفجور و التقوى و هو العقل العملي من تكميل تسوية النفس فهو من نعوت

٤٢٨

خلقتها كما قال تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) الروم: ٣٠.

و إضافة الفجور و التقوى إلى ضمير النفس للإشارة إلى أنّ المراد بالفجور و التقوى الملهمين الفجور و التقوى المختصّين بهذه النفس المذكورة و هي النفس الإنسانيّة و نفوس الجنّ على ما يظهر من الكتاب العزيز من كونهم مكلّفين بالإيمان و العمل الصالح.

قوله تعالى: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ) الفلاح هو الظفر بالمطلوب و إدراك البغية، و الخيبة خلافه، و الزكاة نموّ النبات نموّاً صالحاً ذا بركة و التزكية إنماؤه كذلك، و التدسّي - و هو من الدسّ بقلب إحدى السينين ياء - إدخال الشي‏ء في الشي‏ء بضرب من الإخفاء، و المراد بها بقرينة مقابله التزكية: الإنماء على غير ما يقتضيه طبعها و ركّبت عليه نفسها.

و الآية أعني قوله:( قَدْ أَفْلَحَ ) إلخ جواب القسم، و قوله:( وَ قَدْ خابَ ) إلخ معطوف عليه.

و التعبير بالتزكية و التدسّي عن إصلاح النفس و إفسادها مبتن على ما يدلّ عليه قوله:( فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها ) على أنّ من كمال النفس الإنسانيّة أنّها ملهمة مميّزة - بحسب فطرتها - للفجور من التقوى أي أنّ الدين و هو الإسلام لله فيما يريده فطريّ للنفس فتحلية النفس بالتقوى تزكية و إنماء صالح و تزويد لها بما يمدّها في بقائها قال تعالى:( وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى‏ وَ اتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ ) البقرة: ١٩٧ و أمرها في الفجور على خلاف التقوى.

قوله تعالى: ( كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها ) الطغوى مصدر كالطغيان، و الباء للسببيّة.

و الآية و ما يتلوها إلى آخر السورة استشهاد و تقرير لما تقدّم من قوله( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ) إلخ.

قوله تعالى: ( إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها ) ظرف لقوله:( كَذَّبَتْ ) أو لقوله:( بِطَغْواها )

٤٢٩

و المراد بأشقى ثمود هو الّذي عقر الناقة و اسمه على ما في الروايات قدار بن سالف و قد كان انبعاثه ببعث القوم كما تدلّ عليه الآيات التالية بما فيها من ضمائر الجمع.

قوله تعالى: ( فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَ سُقْياها ) المراد برسول الله صالحعليه‌السلام نبيّ ثمود، و قوله:( ناقَةَ اللهِ ) منصوب على التحذير، و قوله:( وَ سُقْياها ) معطوف عليه.

و المعنى فقال لهم صالح برسالة من الله: احذروا ناقة الله و سقياها و لا تتعرّضوا لها بقتلها أو منعها عن نوبتها في شرب الماء، و قد فصّل الله القصّة في سورة هود و غيرها.

قوله تعالى: ( فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها ) العقر إصابة أصل الشي‏ء و يطلق على نحر البعير و القتل، و الدمدمة على الشي‏ء الإطباق عليه يقال: دمدم عليه القبر أي أطبقه عليه و المراد شمولهم بعذاب يقطع دابرهم و يمحو أثرهم بسبب ذنبهم.

و قوله:( فَسَوَّاها ) الظاهر أنّ الضمير لثمود باعتبار أنّهم قبيلة أي فسوّاها بالأرض أو هو تسوية الأرض بمعنى تسطيحها و إعفاء ما فيها من ارتفاع و انخفاض.

و قيل: الضمير للدمدمة المفهومة من قوله:( فَدَمْدَمَ ) و المعنى فسوّى الدمدمة بينهم فلم يفلت منهم قويّ و لا ضعيف و لا كبير و لا صغير.

قوله تعالى: ( وَ لا يَخافُ عُقْباها ) الضمير للدمدمة أو التسوية، و الواو للاستئناف أو الحال.

و المعنى: و لا يخاف ربّهم عاقبة الدمدمة عليهم و تسويتهم كما يخاف الملوك و الأقوياء عاقبة عقاب أعدائهم و تبعته، لأنّ عواقب الاُمور هي ما يريده و على وفق ما يأذن فيه فالآية قريبة المعنى من قوله تعالى:( لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ ) الأنبياء: ٢٣.

و قيل: ضمير( لا يَخافُ ) للأشقى، و المعنى و لا يخاف عاقر الناقة عقبى ما صنع بها.

و قيل: ضمير( لا يَخافُ ) لصالح و ضمير( عُقْباها ) للدمدمة و المعنى و لا يخاف صالح عقبى الدمدمة عليهم لثقته بالنجاة و ضعف الوجهين ظاهر.

٤٣٠

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها ) قال: خلقها و صورها.

و في المجمع، و روى زرارة و حمران و محمّد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام في قوله تعالى:( فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها ) قال: بيّن لها ما يأتي و ما يترك، و في قوله تعالى:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ) قال: قد أفلح من أطاع( وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ) قال: قد خاب من عصى.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و مسلم و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه عن عمران بن حصين أنّ رجلاً قال: يا رسول الله أ رأيت ما يعمل الناس اليوم و يكدحون فيه شي‏ء قد قضي عليهم و مضى عليهم في قدر قد سبق؟ أو فيما يستقبلون به نبيّهم و اتّخذت عليهم به الحجّة؟ قال: بل شي‏ء قضي عليهم.

قال: فلم يعملون إذا؟ قال: من كان الله خلقه لواحدة من المنزلتين هيّأه لعملها و تصديق ذلك في كتاب الله:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها ) .

أقول: قوله: أو فيما يستقبلون إلخ الظاهر أنّ الهمزة فيه للاستفهام و الواو للعطف و المعنى و هل في طاعتهم لنبيّهم قضاء من الله و قدر قد سبق؟ و قوله: فلم يعملون إذا، أي فما معنى عملهم و استناد الفعل إليهم.؟

و قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من كان الله إلخ معناه أنّ وجوب صدور الفعل حسنة أو سيّئة منهم بالنظر إلى القضاء و القدر السابقين لا ينافي إمكان صدوره بالنظر إلى الإنسان و اختياره، و قد اتّضح ذلك في الأبحاث السابقة من الكتاب مراراً.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و أبوالشيخ و ابن مردويه و الديلميّ عن جويبر عن الضحّاك عن ابن عبّاس: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ) الآية أفلحت نفس زكّاها الله و خابت نفس خيبّها الله من كلّ خير.

أقول: انتساب التزكية و التخييب إليه تعالى بوجه لا ينافي انتسابهما بالطاعة و المعصية إلى الإنسان.

٤٣١

و إنّما ينتسب إلى الله سبحانه من الإضلال ما كان على طريق المجازاة كما قال:( وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ) البقرة: ٢٦.

و في المجمع، و قد صحّت الرواية بالإسناد عن عثمان بن صهيب عن أبيه قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ بن أبي طالب: من أشقى الأوّلين؟ قال: عاقر الناقة. قال: صدقت فمن أشقى الآخرين؟ قال: قلت: لا أعلم يا رسول الله. قال: الّذي يضربك على هذه فأشار إلى يافوخة.

أقول: و روي فيه هذا المعنى أيضاً عن عمّار بن ياسر.

و في تفسير البرهان: و روى الثعلبيّ و الواحديّ بإسنادهما عن عمّار و عن عثمان بن صهيب و عن الضحّاك و روى ابن مردويه بإسناده عن جابر بن سمرة و عن عمّار و عن ابن عديّ أو عن الضحّاك و روى الخطيب في التاريخ، عن جابر بن سمرة و روى الطبريّ و الموصلي و روى أحمد عن الضحّاك عن عمّار أنّه قال: قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عليّ أشقى الأوّلين عاقر الناقة و أشقى الآخرين قاتلك، و في رواية من يخضب هذه من هذا.

٤٣٢

( سورة الليل مكّيّة و هي إحدى و عشرون آية)

( سورة الليل الآيات ١ - ٢١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ ( ١ ) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ ( ٢ ) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ ( ٣ ) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ ( ٤ ) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ ( ٥ ) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ ( ٦ ) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ ( ٧ ) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ ( ٨ ) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ ( ٩ ) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ ( ١٠ ) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ ( ١١ ) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ ( ١٢ ) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَىٰ ( ١٣ ) فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّىٰ ( ١٤ ) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى ( ١٥ ) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ( ١٦ ) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ( ١٧ ) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ ( ١٨ ) وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ ( ١٩ ) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ ( ٢٠ ) وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ ( ٢١ )

( بيان‏)

غرض السورة الإنذار و تسلك إليه بالإشارة إلى اختلاف مساعي الناس و أنّ منهم من أنفق و اتّقى و صدّق بالحسنى فسيمكّنه الله من حياة خالدة سعيدة و منهم من بخل و استغنى و كذّب بالحسنى فسيسلك الله به إلى شقاء العاقبة، و في السورة اهتمام و عناية خاصّة بأمر الإنفاق المالي.

و السورة تحتمل المكّيّة و المدنيّة بحسب سياقها.

٤٣٣

قوله تعالى: ( وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى‏ ) إقسام بالليل إذا يغشى النهار على حدّ قوله تعالى:( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ ) الأعراف: ٥٤، و يحتمل أن يكون المراد غشيانه الأرض أو الشمس.

قوله تعالى: ( وَ النَّهارِ إِذا تَجَلَّى ) عطف على الليل، و التجلّي ظهور الشي‏ء بعد خفائه، و التعبير عن صفة الليل بالمضارع و عن صفة النهار بالماضي حيث قيل:( يَغْشى) و( تَجَلَّى ) تقدّم فيه وجه في تفسير أوّل السورة السابقة.

قوله تعالى: ( وَ ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى‏ ) عطف على الليل كسابقه، و( ما ) موصولة و المراد به الله سبحانه و إنّما عبّر بما، دون من، إيثاراً للإبهام المشعر بالتعظيم و التفخيم و المعنى و اُقسم بالشي‏ء العجيب الّذي أوجد الذكر و الاُنثى المختلفين على كونهما من نوع واحد.

و قيل: ما مصدريّة و المعنى و اُقسم بخلق الذكر و الاُنثى و هو ضعيف.

و المراد بالذكر و الاُنثى مطلق الذكر و الاُنثى أينما تحقّقاً، و قيل: الذكر و الاُنثى من الإنسان، و قيل: المراد بهما آدم و زوجته حوّاء، و أوجه الوجوه أوّلها.

قوله تعالى: ( إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ) السعي هو المشي السريع، و المراد به العمل من حيث يهتمّ به، و هو في معنى الجمع، و شتّى جمع شتيت بمعنى المتفرّق كمرضى جمع مريض.

و الجملة جواب القسم و المعنى اُقسم بهذه المتفرّقات خلقاً و أثراً إنّ مساعيكم لمتفرّقات في نفسها و آثارها فمنها إعطاء و تقوى و تصديق و لها أثر خاصّ بها، و منها بخل و استغناء و تكذيب و لها أثر خاصّ بها.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا مَنْ أَعْطى‏ وَ اتَّقى‏ وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) تفصيل تفرّق مساعيهم و اختلاف آثارها.

و المراد بالإعطاء إنفاق المال لوجه الله بقرينة مقابلته للبخل الظاهر في الإمساك عن إنفاق المال و قوله بعد:( وَ ما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى ) .

٤٣٤

و قوله:( وَ اتَّقى‏) كالمفسّر للإعطاء يفيد أنّ المراد هو الإعطاء على سبيل التقوى الدينيّة.

و قوله:( وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى‏ ) الحسنى صفة قائمة مقام الموصوف و الظاهر أنّ التقدير بالعدة الحسنى و هي ما وعد الله من الثواب على الإنفاق لوجهه الكريم و هو تصديق البعث و الإيمان به و لازمه الإيمان بوحدانيّته تعالى في الربوبيّة و الاُلوهيّة، و كذا الإيمان بالرسالة فإنّها طريق بلوغ وعده تعالى للثواب.

و محصّل الآيتين أن يكون مؤمناً بالله و رسوله و اليوم الآخر و ينفق المال لوجه الله و ابتغاء ثوابه الّذي وعده بلسان رسوله.

و قوله:( فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى‏ ) التيسير التهيئة و الإعداد و اليسرى الخصلة الّتي فيها يسر من غير عسر، و توصيفها باليسر بنوع من التجوّز فالمراد من تيسيره لليسرى توفيقه للأعمال الصالحة بتسهيلها عليه من غير تعسير أو جعله مستعدّاً للحياة السعيدة عند ربّه و دخول الجنّة بسبب الأعمال الصالحة الّتي يأتي بها، و الوجه الثاني أقرب و أوضح انطباقاً على ما هو المعهود من مواعد القرآن.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا مَنْ بَخِلَ وَ اسْتَغْنى‏ وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنى‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى‏ وَ ما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى ) البخل مقابل الإعطاء، و الاستغناء طلب الغنى و الثروة بالإمساك و الجمع، و المراد بالتكذيب بالحسنى الكفر بالعدّة الحسنى و ثواب الله الّذي بلّغه الأنبياء و الرسل و يرجع إلى إنكار البعث.

و المراد بتيسيره للعسرى خذلانه بعدم توفيقه للأعمال الصالحة، بتثقيلها عليه و عدم شرح صدره للإيمان أو إعداده للعذاب.

و قوله:( وَ ما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى ) التردّي هو السقوط من مكان عال و يطلق على الهلاك فالمراد سقوطه في حفرة القبر أو في جهنّم أو هلاكه.

و( ما ) استفهاميّة أو نافية أي أيّ شي‏ء يغنيه ماله إذا مات و هلك أو ليس يغني عنه ماله إذا مات و هلك.

٤٣٥

قوله تعالى: ( إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى‏ وَ إِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَ الْأُولى) تعليل لما تقدّم من حديث تيسيره لليسرى و للعسرى أو الإخبار به بأوجز بيان، محصّله أنّا إنّما نفعل هذا التيسير أو نبيّن هذا البيان لأنّه من الهدى و الهدى علينا لا يزاحمنا في ذلك شي‏ء و لا يمنعنا عنه مانع.

فقوله:( إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى‏ ) يفيد أنّ هدى الناس ممّا قضى سبحانه به و أوجبه على نفسه بمقتضى الحكمة و ذلك أنّه خلقهم ليعبدوه كما قال:( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) الذاريات: ٥٦ فجعل عبادته غاية لخلقهم و جعلها صراطاً مستقيماً إليه كما قال:( إِنَّ اللهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ) آل عمران: ٥١، و قال:( وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللهِ ) الشورى: ٥٣ و قضى على نفسه أن يبيّن لهم سبيله و يهديهم إليه بمعنى إراءة الطريق سواء سلكوها أم تركوها كما قال:( وَ عَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَ مِنْها جائِرٌ ) النحل: ٩، و قال:( وَ اللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ) الأحزاب: ٤ و قال:( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً ) الإنسان: ٣ و لا ينافي ذلك قيام غيره تعالى بأمر هذا المعنى من الهدى بإذنه كالأنبياء كما قال تعالى:( وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) الشورى: ٥٢، و قال:( قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى‏ بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي ) يوسف: ١٠٨.

و قد تقدّم لهذه المسألة بيان عقلي في مباحث النبوّة في الجزء الثاني من الكتاب.

هذا في الهداية بمعنى إراءة الطريق و أمّا الهداية بمعنى الإيصال إلى المطلوب - و المطلوب في المقام الآثار الحسنة الّتي تترتّب على الاهتداء بهدى الله و التلبّس بالعبوديّة كالحياة الطيّبة المعجّلة في الدنيا و الحياة السعيدة الأبديّة في الآخرة - فمن البيّن أنّه من قبيل الصنع و الإيجاد الّذي يختصّ به تعالى فهو ممّا قضى به الله و أوجبه على نفسه و سجّله بوعده الحقّ قال تعالى:( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى‏ ) طه: ١٢٣، و قال:( مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) النحل: ٩٧، و قال:( وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً

٤٣٦

وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا ) النساء: ١٢٢.

و لا ينافي انتساب هذا المعنى من الهداية إليه تعالى بنحو الأصالة انتسابه إلى غيره تعالى بنحو التبع بتخلّل الأسباب بينه تعالى و بين ما ينسب إليه من الأثر بإذنه.

و معنى الآية - إن كان المراد بالهدى إراءة الطريق - أنّا إنّما نبيّن لكم ما نبيّن لأنّه من إراءة طريق العبوديّة و إراءة الطريق علينا، و إن كان المراد به الإيصال إلى المطلوب أنّا إنّما نيسّر هؤلاء لليسرى من الأعمال الصالحة أو من الحياة السهلة الأبديّة و دخول الجنّة لأنّه من إيصال الأشياء إلى غاياتها و علينا ذلك.

و أمّا التيسير للعسرى فهو ممّا يتوقّف عليه التيسير لليسرى( لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى‏ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ) الأنفال: ٣٧ و قد قال سبحانه في القرآن الّذي هو هدى للعالمين:( وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً ) إسراء: ٨٢.

و يمكن أن يكون المراد به مطلق الهداية أعمّ من الهداية التكوينيّة الحقيقيّة و التشريعيّة الاعتباريّة - على ما هو ظاهر إطلاق اللفظ - فله تعالى الهداية الحقيقيّة كما قال:( الَّذِي أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى‏ ) طه: ٥٠، و الهداية الاعتباريّة كما قال:( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً ) الإنسان: ٣.

و قوله:( وَ إِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَ الْأُولى) أي عالم البدء و عالم العود فكلّ ما يصدق عليه أنّه شي‏ء فهو مملوك له تعالى بحقيقة الملك الّذي هو قيام وجوده بربّه القيّوم و يتفرّع عليه الملك الاعتباري الّذي من آثاره جواز التصرّفات.

فهو تعالى يملك كلّ شي‏ء من كلّ جهة فلا يملك شي‏ء منه شيئاً فلا معارض يعارضه و لا مانع يمنعه و لا شي‏ء يغلبه كما قال:( وَ اللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ) الرعد: ٤١ و قال:( وَ اللهُ غالِبٌ عَلى‏ أَمْرِهِ ) يوسف: ٢١، و قال:( وَ يَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ ) إبراهيم: ٢٧.

قوله تعالى: ( فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَ تَوَلَّى )

٤٣٧

تفريع على ما تقدّم أي إذا كان الهدى علينا فأنذرتكم نار جهنّم و بذلك يوجّه ما في قوله:( فَأَنْذَرْتُكُمْ ) من الالتفات عن التكلّم مع الغير إلى التكلّم وحده أي إذا كان الهدى مقضيّة محتومة فالمنذر بالأصالة هو الله و إن كان بلسان رسوله.

و تلظّى النار تلهّبها و توهّجها، و المراد بالنار الّتي تتلظّى جهنّم كما قال تعالى:( كَلَّا إِنَّها لَظى) المعارج: ١٥.

و المراد بالأشقى مطلق الكافر الّذي يكفر بالتكذيب و التولّي فإنّه أشقى من سائر من شقي في دنياه فمن ابتلي في بدنه شقي و من اُصيب في ماله أو ولده مثلاً شقي و من خسر في أمر آخرته شقي و الشقيّ في أمر آخرته أشقى من غيره لكون شقوته أبديّة لا مطمع في التخلص منها بخلاف الشقوة في شأن من شؤن الدنيا فإنّها مقطوعة لا محالة مرجوّة الزوال عاجلاً.

فالمراد بالأشقى هو الكافر المكذّب بالدعوة الحقّة المعرض عنها على ما يدلّ عليه توصيفه بقوله:( الَّذِي كَذَّبَ وَ تَوَلَّى ) و يؤيّده إطلاق الإنذار، و أمّا الأشقى بمعنى أشقى الناس كلّهم فممّا لا يساعد عليه السياق البتّة.

و المراد بصلي النار اتّباعها و لزومها فيفيد معنى الخلود و هو ممّا قضى الله به في حقّ الكافر، قال تعالى:( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) البقرة: ٣٩.

و بذلك يندفع ما قيل: إنّ قوله:( لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى ) ينفي عذاب النار عن فسّاق المؤمنين على ما هو لازم القصر في الآية، وجه الاندفاع أنّ الآية إنّما تنفي عن غير الكافر الخلود فيها دون أصل الدخول.

قوله تعالى: ( وَ سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى وَ ما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) التجنيب التبعيد، و ضمير( سَيُجَنَّبُهَا ) للنار، و المعنى سيبعد عن النار الأتقى.

و المراد بالأتقى من هو أتقى من غيره ممّن يتّقي المخاطر فهناك من يتّقي ضيعة النفوس كالموت و القتل و من يتّقي فساد الأموال و من يتّقي العدم و الفقر فيمسك عن

٤٣٨

بذل المال و هكذا و منهم من يتّقي الله فيبذل المال، و أتقى هؤلاء الطوائف من يتّقي الله فيبذل المال لوجهه و إن شئت فقل يتّقي خسران الآخرة فيتزكّى بالإعطاء.

فالمفضّل عليه للأتقى هو من لا يتّقي بإعطاء المال و إن اتّقى سائر المخاطر الدنيويّة أو اتّقى الله بسائر الأعمال الصالحة.

فالآية عامّة بحسب مدلولها غير خاصّة و يدلّ عليه توصيف الأتقى بقوله:( الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ ) إلخ و هو وصف عامّ و كذا ما يتلوه، و لا ينافي ذلك كون الآيات أو جميع السورة نازلة لسبب خاصّ كما ورد في أسباب النزول.

و أمّا إطلاق المفضّل عليه بحيث يشمل جميع الناس من طالح أو صالح و لازمه انحصار المفضّل في واحد مطلقاً أو واحد في كلّ عصر، و يكون المعنى و سيجنّبها من هو أتقى الناس كلّهم و كذا المعنى في نظيره: لا يصلاها إلّا أشقى الناس كلّهم فلا يساعد عليه سياق آيات صدر السورة، و كذا الإنذار العامّ الّذي في قوله:( فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى ) فلا معنى لأن يقال: أنذرتكم جميعاً ناراً لا يخلد فيها إلّا واحد منكم جميعاً و لا ينجو منها إلّا واحد منكم جميعاً.

و قوله:( الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى ) صفة للأتقى أي الّذي يعطي و ينفق ماله يطلب بذلك أن ينمو نماءً صالحاً.

و قوله:( وَ ما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) تقرير لمضمون الآية السابقة أي ليس لأحد عنده من نعمة تجزى تلك النعمة بما يؤتيه من المال و تكافأ و إنّما يؤتيه لوجه الله و يؤيّد هذا المعنى تعقيبه بقوله:( إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى‏ ) .

فالتقدير من نعمة تجزى به، و إنّما حذف الظرف رعاية للفواصل، و يندفع بذلك ما قيل: إنّ بناء( تُجْزى) للمفعول لأن القصد ليس لفاعل معيّن.

قوله تعالى: ( إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى‏ ) استثناء منقطع و المعنى و لكنّه يؤتي ماله طلباً لوجه ربّه الأعلى و قد تقدّم كلام في معنى وجه الله تعالى و في معنى الاسم الأعلى.

قوله تعالى: ( وَ لَسَوْفَ يَرْضى‏ ) أي و لسوف يرضى هذا الأتقى بما يؤتيه ربّه

٤٣٩

الأعلى من الأجر الجزيل و الجزاء الحسن الجميل.

و في ذكر صفتي الربّ و الأعلى إشعار بأنّ ما يؤتاه من الجزاء أنعم الجزاء و أعلاه و هو المناسب لربوبيّته تعالى و علوّه، و من هنا يظهر وجه الالتفات في الآية السابقة في قوله:( وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) من سياق التكلّم وحده إلى الغيبة بالإشارة إلى الوصفين: ربّه الأعلى.

( بحث روائي‏)

في الكافي، بإسناده عن محمّد بن مسلم قال: قلت لأبي جعفرعليه‌السلام : قول الله عزّوجلّ:( وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى) ( وَ النَّجْمِ إِذا هَوى) و ما أشبه ذلك؟ فقال: إنّ لله عزّوجلّ أن يقسم من خلقه بما شاء، و ليس لخلقه أن يقسموا إلّا به.

أقول: و رواه في الفقيه، بإسناده عن عليّ بن مهزيار عن أبي جعفر الثانيعليه‌السلام .

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى) قال: حين يغشى النهار و هو قسم.

و عن الحميريّ في قرب الإسناد، عن أحمد بن محمّد عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام قال: سمعته يقول: في تفسير( وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى‏ ) إنّ رجلاً كان لرجل في حائطه نخلة فكان يضرّ به فشكى ذلك إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدعاه فقال: أعطني نخلتك بنخلة في الجنّة فأبى فسمع ذلك رجل من الأنصار يكنّى أبا الدحداح فجاء إلى صاحب النخلة فقال: بعني نخلتك بحائطي فباعه فجاءه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا رسول الله قد اشتريت نخلة فلان بحائطي فقال رسول الله: لك بدلها نخلة في الجنّة.

فأنزل الله تعالى على نبيّه:( وَ ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى‏ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى فَأَمَّا مَنْ أَعْطى) يعني النخلة( وَ اتَّقى‏ وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى) هو ما عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى ‏ - إلى قوله -تَرَدَّى ) .

أقول: و رواه القمّيّ في تفسيره، مرسلاً مضمراً، و قوله: الزوجين تفسير منهعليه‌السلام

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568