الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن10%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219941 / تحميل: 7014
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

٦١

ورد في كتاب ( السلطان المفرج عن أهل الإيمان )(١) ثلاث حكايات وقعت ببركة صاحب المقام عجل الله تعالى فرجه الشريففي القرن الثامن الهجري ، لم تقتري الحكاية الأولى بتاريخ لكن الحكايتين التاليتين ورد فيهما تاريخ صريح ، فلنورد الحكاية الأولى ثم الثانية والثالثة تباعاً

وقبل أن ننقل الحكايات الثلاث ، تذكر ترجمة صاحب الكتاب ، وثناء العلماء عليه حتى يتبين لنا صدقه في النقل.

أقول : إن مؤلف كتاب ( السلطان المفرج عن أهل الإيمان ) ، هو السيد بهاء الدين علي ابن السيد غياث الدين عبد الكريم بن عبد الحميد بن عبد الله بن أحمد بن حسن بن علي بن محمد بن علي غياث الدين(٢) ابن السيد جلال الدين عبد الحميد(٣) بن عبد الله بن أسامة(٤) بن أحمد بن علي بن محمد بن عمر(٥) بن يحيى ( القائم

__________________

١ ـ نقلاً عن بحار الأنوار / للعلامة المجلسي ( أعلى الله مقامه ).

٢ ـ الذي خرج عليه جماعة من العرب بشط سوراء بالعراق وحملوا عليه وسلبوه فمانعهم عن سلب سراويله فضربه أحدهم فقتله وكان عالماً تقياً.

٣ ـ الذي يروي عنه محمد بن جعفر المشهدي في المزار الكبير وقال فيه : أخبرني السيد الأجل العالم عبد الحميد بن التقي عبد الله بن أسامة العلوي الحسيني رَضيَ اللهُ عَنه في ذي القعدة نم سنة ثمانين وخمسمائة قراءة عليه بحلة الجامعين.

٤ ـ متولّي النقابة بالعراق.

٥ ـ الوئيس الجليل الذي رد الله على يده الحجر الأسود لما نهبت القرامطة مكة في سنة

٦٢

٦٣

بالكوفة ) ابن الحسين ( النقيب الطاهر ابن أبي عاتقة أحمد الشاعر المحدث ) ابن أبي علي عمر بن أبي الحسين يحيى(١) ابن أبي عاتقة الزاهد العابد الحسين(٢) بن زيد الشهيد ابن علي زين العابدين ابن الحسين بن علي بن أبي طالب: النيلي(٣) النجفي النسابة.

وهو من مشايخ العلامة أبي العباس أحمد بن فهد المجاز منه في ٧٩١ هـ أدرك أواخر عهد فخر المحققين تـ ٧٧١ هـ والسيدين العلمين عميد الدين وضياء الدين والشهيد محمد بن مكي العاملي ويروي عنهم جميعاً ، كما يروي عن الشيخ المقريء والحافظ شمس الدين محمد بن قارون وغيرهم.

وأما كتابه هذا فقد نقل عنه الشيخ حسن ين سليمان الحلي ( من علماء القرن التاسع ) في كتابه ( مختصر بصائر الدرجات ) ص ١٧٦ ، والعلامة المجلسي; في ( بحار الأنوار ) ، والميرزا الافندي; في ( رياض العلماء ) والبهبهاني; في ( الدمعة الساكبة ).

__________________

ثلاث وعشرين وثلاثمائة وأخذوا الحجر وأتو به إلى الكوفة وعلقوه في السارية السابعة من المسجد التي كان ذكرها أمير المؤمنين7 فإنه قال ذات يوم بالكوفة : لا بد أن يسلب في هذه السارية وأومى إلى السارية السابعة والقصة طويلة وبنى قبة جده أمير المؤمنين7 من خالص ماله.

١ ـ من أصحاب الكاظم7 المقتول سنة خمسين ومثتين الذي حمل رأسه في قوصرة إلى المستعين.

٢ ـ الملقب بذي الدمعة الذي رباه الإمام الصادق7 وأورثه علماً جمّا.

٣ ـ النيل : بلدة تقع على نهر النيل ، وهو يتفرع من نهر الفرات العظمى احتفره الحجاج بن يوسف الثقفي سنة ٨٢ هـ وهي مركز الإمارة المزيدية قبل تأسيس الحلة.

٦٤

ويظهر من بعض حكايات الكتاب أن تاريخ كتابته سنة ٧٨٩ هـ(١) وللسيد هذا كتب أخرى لا أرى بايراد أسمائها هنا بأساً :

أ ـ كتاب الأنوار المضيّة في الحكم الشرعية.

ب ـ كتاب الغيبة.

جـ ـ كتاب الدر النضيد في تعازي الحسين الشهيد.

د ـ سرور أهل الإيمان.

هـ ـ كتاب الانحراف من كلام صاحب الكشاف.

و ـ كتاب الأنصاف في الرد على صاحب الكشاف.

ز ـ كتاب شرح المصباح للشيخ الطوسي.

ي ـ كتاب الرجال ( ينسب اليه ).

في الثناء عليه :

قال تلميذه ابن فهد الحلي; تـ ٨٤١ هـ : حدثني المولى السيد السعيد الإمام بهاء الدين

وقال تلميذه الشيخ حسن بن سليمان الحلي; : ومما رواه لي ورويته عنه السيد الجليل السعيد الموفق الموثق بهاء الدين

وقال العلامة المجلسي; : السيد النقيب الحسيب بهاء الدين

وقال الميرزا الافندي; : السيد المرتضى النقيب الحسيب

__________________

١ ـ وللاسف الشديد ان هذا الكتاب لم يطبع إلى الآن برغم وجود نسخه الخطية في المكتبات العامة فمن قلمنا هذا ندعو مؤسسات النشر والتأليف إلى اخراجه للطبع وطبع كتب هذا السيد الجليل وتحقيقها خدمة للمذهب الإمامي واحياءً لآثار هذا السيد الجليل.

٦٥

النسابة الكامل السعيد الفقيه الشاعر الماهر العالم الفاضل الكامل صاحب المقامات والكرامات العظيمة قدس الله روحه الشريفة كان من أفاضل عصره وقال الميرزا النوري; : السيد الأجل الأكمل الارشد المؤيد العلامة النحرير ،(١) كان حياً سنة ٨٠٠ هـ

الحكاية الأولى :

حكاية أبي راجح الحمامي الشيخ الذي أصبح شاباً

نقل العلامة المجلسي ( ١٠٣٧ ـ ١١١١ هـ ) في بحار الانوار عن كتاب ( السلطان المفرج عن أهل الايمان ) تأليف العامل الكامل السيد علي بن عبد الحميد النيلي النجفي ، انه قال : فمن ذلك ما اشتهر وذاع ، وملأ البقاع ، وشهد بالعيان أبناء الزمان ، وهو قصّة أبي راجح الحمامي بالحلة ، وقد حكى ذلك جماعة من الاعيان الاماثل ، وأهل الصدق الافاضل ، منهم الشيخ الزاهد العابد المحقق شمس الدين محمد بن قارون سلّمه الله تعالى قال :

كان الحاكم بالحلة شخصاً يدعى مرجان الصغير ، فرفع إليه أنّ أباراجح هذا يسبّ الصحابة ، فأحضره وأمر بضربه فضرب ضرباً شديداً مهلكاً على جميع بدنه ، حتى انه ضرب على وجهه فسقطت ثناياه ، وأخرج لسانه فجعل فيه مسلّة من الحديد ، وخرق النفه ، ووضع فيه شركة من الشعر وشدّ فيها حبلاً وسلمه الى جماعة من اصحابه ،

__________________

١ ـ انظر : رياض العلماء ج ٤ / ص ٨٨ و ١٢٤ ـ ١٣٠ ، خاتمة المستدرك ط ح ص ٤٣٥ ، سفينة البحار ج ٢ / ط. ح / ص ٢٤٨ الذريعة في أجزائها وطبقات أعلام الشيعة.

٦٦

وأمرهم أن يدوروا به أزقّة الحلة ، والضرب يأخذه من جميع جوانبه ، حتى سقط الى الارض وعاين الهلاك ، فأخبر الحاكم بذلك ، فأمر بقتله ، فقال الحاضرون انه شيخ كبير ، وقد حصل له ما يكفيه ، وهو ميّت لما به فاتر كه وهو يموت حتف أنفه ، ولا تتقلّد بدمه ، وبالغوا في ذلك حتى أمر بتخليته وقد انتفخ وجهه ولسانه ، فنقله أهله في البيت ولم يشكّ أحدّ أنه يموت من ليلته.

فلما كان من الغدغدا عليه الناس فاذا هو قائم يصلّي على أتم حالة ، وقد عادت ثناياه التي سقطت كما كانت ، واندملت جراحاته ، ولم يبق لها أثر ، والشجّة قد زالت من وجهه!

فعجب الناس من حاله وساءلوه عن أمره فقال : اني لما عاينت الموت ولم يبق لي لسان اسأل الله تعالى به فكنت اسأله بقلبي واستغثت الى سيدي ومولاي صاحب الزمان7 .

فلما جنّ عليّ الليل فاذا بالدار قد امتلأت نوراً وإذا بمولاي صاحب الزمان7 قد أمرّ يده الشريفة على وجهي وقال لي : ( اخرج وكدّ على عيالك ، فقد عافاك الله تعالى ) فأصبحت كما ترون.

وحكى الشيخ شمس الدين محمد بن قارون المذكور قال :

وأقسم بالله تعالى إن هذا ابو راجح كان ضعيفاً جداً ، ضعيف التركيب ، اصفر اللون ، شين الوجه ، مقرض اللحية ، وكنت دائماً أدخل في الحمام الذي هو فيه ، وكنت دائماً أراه على هذه الحالة وهذا الشكل.

فلما أصبحت كنت ممن دخل عليه ، فرأيته وقد اشتدّت قوته وانتصبت قامته ، وطالت لحيته ، واحمر وجهه ، وعاد كأنّه ابن عشرين سنة ولم يزل على ذلك حتى أدر كته الوفاة.

٦٧

ولما شاع هذا الحبر وذاع ، طلبه الحاكم وأحضره عنده وقد كان رآه بالأمس على تلك الحالة ، وهو الان على ضدّها كما وصفناه ، ولم يرَ لجراحاته أثراً ، وثناياه قد عادت ، فداخل الحاكم في ذلك رعب عظيم ، وكان يجلس في مقام الأمام7 في الحلة ويعطي ظهره القبلة الشريفة ، فصار بعد ذلك يجلس ويستقبلها ، وعاد يتلطّف بأهل الحلة ، ويتجاوز عن مسيئهم ، ويحسن الى محسنهم ، ولم ينفعه ذلك بل لم يلبث في ذلك الا قليلاً حتى مات.(١)

أقول : روحي وأرواح العالمين لك الفداء.

إيه أيتها الجوهرة المحفوفة بالاسرار كم جهلناك وكم بخسناك حقك؟!

كم أغفلنا ذكرك وانشغلنا بغيرك كم سرحنا أفكارنا بعيداً عنك؟

أترك تعطف علينا اليوم بنظرة من تلك التي مننت بها على ذاك الرجل صاحب الحمام ( العمومي ) ، فتمسح قلوبنا بذاك الاكسير؟! فنحن في هذا الحمى.

بحث حول الحكاية :

أقول : إن هذه الحكاية مشهورة ومتواترة النقل في عصر المؤلف السيد بهاء الدين وتناقلها علماء الحلة ، انظر إلى قول السيد في بداية الحكاية ( فمن ذلك ما اشتهر وذاع وملأ البقاع وشهد بالعيان أبناء الزمان وقد حكى ذلك جماعة من الأعيان الأماثل وأهل الصدق الأفاضل ).

__________________

١ ـ انظر : بحار الانوار ج ٥٢ / ص ٧١ ؛ النجم الثاقب ج ٢ / ص ٢١٩.

٦٨

في أحوال راوي الحكاية وعصرها :

أقول : إن راوي الحكاية هو شمس الدين محمد بن قارون الذي لم أجد له ترجمة في كتب الرجال ، فللفائدة والاستدراك على الكتب الرجالية نذكر ترجمته :

قال السيد بهاء الدين : انه من الأعيان وأهل الصدق الأفاضل ، وقال عنه أيضاً الشيخ الزاهد العابد المحقق شمس الدين محمد بن قارون ،(١) المحترم العامل الفاضل(٢) الشيخ العالم الكامل القدوة المقري الحافظ المحمود المعتمرشمس الحق والدين محمد بن قارون.(٣)

وكما قال عنه الشيخ شمس الدين محمد بن قارون السيبي ،(٤) وكما وصفه أيضاً الشيخ عز الدين حسن بن عبد الله بن حسن التغلبي بـ ( الشيخ الصالح محمد بن قارون ) ،(٥) كان حياً سنة ٧٥٩ هـ

فهو يعد من مشايخ السيد بهاء الدين ، يعني أن شمس الدين كان بالقطع مععاصراً للشهيد الأول ( ٧٣٤ ـ ٧٨٦ هـ ) فاذن وجود شمس الدين محمد بن قارون في بداية القرن الثامن الهجري حياً وروايته لهذه الحكاية ، يدل على أن الحكاية وقعت في النصف الأول من هذا

__________________

١ ـ انظر : بحار الأنوار / المجلسي; ، ج ٥٢ / ص ٧١.

٢ ـ انظر : المصدر السابق ص ٧٢.

٣ ـ انظر : جنة المأوى / النوري; ص ٢٠٢.

٤ ـ نسبة إلى ( السيب ) بكسر أوله وسكون ثانيه ، وهو نهر في ذنابة الفرات بقرب الحلة ، وعليه بلد يسمى باسمه.

٥ ـ كتاب الدر النضيد في تعازي الحسين الشهيد نقلا عن رياض العلماء ج ٢ / ص ١١.

٦٩

القرن السالف الذكر والدليل على ذلك الحكاية الثانية التالية والتي يرويها أيضا شمس الدين محمد بن قارون والحاصلة في سنة ٧٤٤ هـ

وهو غير الشيخ الفقيه الصالح شمس الدين محمد بن أحمد بن صالح السيبي القسيني ، تلميذ السيد فخار بن معد الموسوي المجاز منه سنة ٦٣٠ هـ ( وهي سنة وفاة السيد فخار ) وهو صغير لم يبلغ الحلم وأجازه الشيخ والده أحمد سنة ٦٣٥ هـ وأجازه الشيخ محمد بن أبي البركات اليماني الصنعاني سنة ٦٣٦ هـ والمجيز لنجم الدين طومان بن أحمد العاملي سنة ٧٢٨ هـ فإن هذا الشيخ متقدم على الشيخ شمس الدين محمد بن قارون السيبي.(١)

تنبيه لكل نبيه :

قال ابن بطوطة في رحلته ( سافرنا من البصرة فوصلنا إلى مشهد علي ابن ابي طالب رَضي اللهُ عَنه وزرنا ، ثم توجهنا إلى الكوفة فزرنا مسجدها المبارك ثم إلى الحلة حيث مشهد صاحب الزمان واتفق في بعض الأيام أن وليها بعض الامراء فمنع أهلها من التوجه على عادتهم الى مسجد صاحب الزمان وانتظاره هنالك ومنع عنهم الدابة التي كانوا يأخذونها كل ليلة من الأمير فأصابت ذلك الوالي علة مات منها سريعاً فزاد ذلك في فتنة الرافضة وقالوا انما أصابه ذلك لأجل منعه الابة فلم تمنع بعد ).(٢)

أقول : ان كلام ابن بطوطة المتقدم آنفاً هو في زيارته الثانية للحلة ، فابن بطوطة مرَّ في الحلة مرتين الأولى كانت سنة ٧٢٥ هـ في عهد الوالي ( حسن

__________________

١ ـ انظر : الذريعة إلى تصانيف الشيعة / الطهراني; ج ١ / ص ٢٢٩ و ٢٢٠.

٢ ـ انظر : رحلة ابن بطوطة ج ٢ / ص ١٧٤.

٧٠

الجلايري ) والثانية بعد عودته من بلاد الهند والصين والتتر وبينهما عدة سنين ، وأظن ان الوالي المذكور في حكاية أبي راجح الحمامي والمذكور في زيارة ابن بطوطة الثانية واحد باعتبار أن عصر الحكايتين واحد وان الوالي المذكور في الحكايتين كان يؤذي أهل الحلة ( فالأمر ليس أمر انتظار صاحب الزمان ولا أمر الدابة ) ، وقد مات بفعله هذا ، وهذا عن أهل الحلة ليس ببعيد ففيهم بقول أمير المؤمنين7 : ( يظهر بها قوم أخيار لو أقسم أحدهم على الله لأبرقسمه ).(١)

الحكاية الثانية :

حكاية ابن الخطيب وعثمان والمرأة العمياء التي أبصرت

ونقل من ذلك الكتاب عن الشيخ المحترم العامل الفاضل شمس الدين محمد بن قارون المذكور قال :

كان من أصحاب السلاطين المعمر بن شمس يسمى مذوّر ، يضمن القرية المعروفة ببرس ، ووقف العلويين ، وكان له نائب يقال له : ابن الخطيب وغلام يتولّى نفقاته يدعى عثمان ، وكان ابن الخطيب من أهل الصلاح والايمان بالضدّ من عثمان وكانا دائماً يتجادلان ، فاتفق انهما حضرا في مقام ابراهيم الخليل7 بمحضر جماعة من الرّعيّة والعوام فقال ابن الخطيب لعثمان : يا عثمان الان اتضح الحق واستبان ، أنا أكتب على يديّ من أتولاه ، وهم علي والحسي والحسين ، واكتب أنت من تتولاه ابوبكر وعمر وعثمان ، ثم تشدّ يديّ ويدك ، فأيّهما احترقت يده بالنار كان على الباطل ، ومن سلمت يده كان على الحق ، فنكل عثمان ، وأبى أن يفعل ، فأخذ الحاضرون من الرّعيّة

____________

١ ـ انظر : بحار الأنوار المجلسي; ج ٦ / ص ١٢٢.

٧١

والعوان بالعياط عليه ، هذا وكانت ام عثمان مشرفة عليهم تسمع كلامهم فلمّا رأت ذلك لعنت الحضور الذين كانوا يعيّطون على ولدها عثمان وشتمتهم وتهدّدت وبالغت في ذلك فعميت في الحال! فلما أحست بذلك نادت الى رفقائها فصعدن اليها فاذا هي صحيحة العينين! لكن لاترى شيئاً ، فقادوها وأنزلوها ، ومضوا بها الى الحلة وشاع خبرها بين الصحابها وقرائبها وترائبها ، فاحضروا لها الاطباء من بغداد والحلة ، فلم يقدروا لها على شيء ، فقال لها نسوة مؤمنات كنّ أخدانها : ان الذي أعماكِ هو القائم7 فأن تشيعتي وتولّيتي وتبرأتي ( كذا )(١) ضمنّا لك العافية على الله تعالى ، وبدون هذا لا يمكنك الخلاص ، فأذعنت لذلك ورضنبت به ، فلما كانت ليلة الجمعة حملنها حتى أدخلنها القبة الشريفة في مقام صاحب الزمان7 وبتن بأجمعهنّ في باب القبة ، فلما كان ربع الليل فاذا هي قد خرجت عليهنّ وقد ذهب العمى عنها! وهي تقعدهنّ واحدة بعد واحدة وتصف ثيابهنّ وحليَهنَ ، فسررن بذلك ، وحمدنَ الله تعالى على حسن العافية ، وقلن لها : كيف كان ذلك؟! فقالت : لما جعلتنني في القبة وخرجتنّ عني أحسست بيد قد وضعت على يديّ ، وقائل يقول : اخرجي قد عافاك الله تعالى. فانكشف العمى عني ورأيت القبة قد امتلات ونوراً ورأيت الرجل ، فقلت له : من أنت يا سيدي؟ فقال : محمد بن الحسن ، ثم غاب عني ، فقمنَ وخرجنَ الى بيوتهنّ وتشيّع ولدها عثمان وحسن اعتقاده واعتقاد أمه المذكورة ، واشتهرت القصة بين أولئك الأقوام ومن سمع هذا الكلام واعتقد وجود الأمام7 وكان ذلك في سنة أربع واربعين وسبعمائة.(٢)

__________________

١ ـ كذا ورد في المطبوع والاصح ( تشيعتِ وتوليتِ وتبرأتِ ).

٢ ـ انظر : بحار الانوار ج ٥٢ / ص ٧٢ ؛ النجم الثاقب ج ٢ / ص ٢٢٠.

٧٢

أقول : حدثت هذه الكرامة سنة ( ٧٤٤ هـ / ١٣٢٣ م ) وراويها محمد بن قارون المتقدم ذكره وترجمته في الحكاية الأولى من هذا الباب.

وبرس : بضم الباء وسكون الراء والسين المهملة ناحية من ارض بابل وهي بحضرة الصرح ( صرح نمرود بن كنعان ) وهي الآن قرية معروفة بقبل الكوفة وينسب إليها الحافظ رجب البرسي; .

ومقام ابراهيم الخليل7 : موجود الى زماننا هذا ويقع بالحلة في تلك القرية ( تشرفت بزيارته انا عدة مرات ).

لحكاية الثالثة :

حكاية شفاء الشيخ جمال الدين الزهدري

وذكر هناك أيضاً : أي ( في كتاب السلطان المفرج عن أهل الايمان ).

ومن ذلك بتأريخ صفر سنة سبعمائة وتسع وخمسين حكي لي المولى الاجل الامجد العالم الفاضل ، القدوة الكامل ، المحقّق المدقّق ، مجمع الفضائل ومرجع الافاضل ، افتخار العلماء في العالمين ، كمال الملة والدين ، عبد الرحمن ابن العمّاني ( كذا ) ، وكتب بخطه الكريم ، عندي ما صورته :

قال العبد الفقير الى رحمة الله تعالى عبد الرحمن بن ابراهيم القبائقي :(١) اني كنت أسمع في الحلة السيفية حماها الله تعالى ان المولى الكبير المعظم جمال الدين ابن الشيخ الاجل الاوحد الفقيه القاريء نجم الدين جعفر ابن الزاهدري كان به فالج ، فعالجته جدّته لأبيه بعد موت أبيه بكل علاج للفالج فلم يبرأ ، فأشار عليها بعض

__________________

١ ـ هكذا ورد في الاصل والصحيح العتالقي.

٧٣

الاطباء ببغداد فأحضرتهم فعالجوه زماناً طويلاً فلم يبرأ ، وقيل لها :ألا تبيّتينه تحت القبة الشريفة بالحلة المعروفة بمقام صاحب الزمان 7 لعل الله تعالى يعافيه ويبرأه ، ففعلت وبيّتته تحتها وان صاحب الزمان7 أقامه وأزال عنه الفالج.

ثم بعد ذلك حصل بيني وبينه صحبة حتى كّنا لم نكد نفترق ، وكان له دار المعشرة ، يجتمع فيها وجوه أهل الحلة وشبابهم وأولاد الاماثل منهم ، فاستحكيته عن هذه الحكاية ، فقال لي :

إني كنت مفلوجاً وعجز الاطباء عني ، وحكى لي ما كنت اسمعه مستفاضاً في الحلة من قضيته وان الحجة صاحب الزمان7 قال لي : ( وقد أباتتني جدّتي تحت القبة ) :قم.

فقلت : ياسيدي لا أقدر على القيام منذ سنتي ، فقال :قم باذن الله تعالى وأعانني على القيام ، فقمت وزال عني الفالج ( أي شلل الاعضاء ).

وانطبق عليّ الناس حتى كادوا يقتلونني ، وأخذوا ما كان عليّ من الثياب تقطيعاً وتنتيفاً يتبرّكون فيها ، وكساني الناس من ثيابهم ، ورحت الى البيت ، وليس بيّ أثر الفالج ، وبعثت الى الناس ثيابهم ، وكنت أسمعه يحكي ذلك للناس ولمن يستحكيه مراراً حتى مات; .(١)

بحث حول الحكاية :

تاريخ الحكاية : أقول ، إنَّ تاريخ نقل هذه الحكاية هو سنة ( ٧٥٩ هـ ـ ١٢٣٨ م ).

__________________

١ ـ انظر : بحار الانوار ج ٥٢ / ص ٧٣.

٧٤

راوي الحكاية : الشيخ العالم الفاضل المحقق المدقق الفقيه المتبحر كمال الدين عبد الرحمن بن محمد بن ابراهيم ابن العتايقي(١) الحلي الامامي ، كان معاصرا للشهيد الاول; وبعض تلامذة العلامة الحلي; ، وقال البعض انه ادرك العلامة ، وتلمذ على يد نصير الدين علي بن محمد الكاشي تـ ٧٥٥ هـ ، وكان من مشايخ السيد بهاء الدين علي بن عبد الحميد النجفي ، وبروي عن جماعة منهم جمال الدين الزهدري ، توفى بعد سنة ٧٨٨ هـ التي الف فيها كتابه ( الارشاد في معرفة الابعاد ) وهو صاحب التصانيف الكثيرة والموجود بعضها في الخزانة الغروية ، ولا أرى بأماً بايراد اسمائها هنا فله كتاب ( شرح على نهج البلاغة ) وكتاب ( مختصر الجزء الثاني من كتاب الاوائل لأبي هلال العسكري ) وكتاب ( الاعمار ) وكتاب ( الاضداد في اللغة ) وكتاب ( الايضاح والتبيين في شرح منهاج اليقين ) وكتاب ( اختيار حقائق الخللفي دقائق الحيل ) وكتاب ( صفوة الصفوة ) وكتاب ( اختصار كتاب بطليموس ) وكتاب ( الشهدة في شرح معرف الزبدة ) وكتاب ( الايماقي ) وكتاب ( في التفسير وهو مختصر تفسير القمي ) وكتاب ( الارشاد ) و( الرسالة المفيدة لكل طالب مقدار ابعاد الافلاك والكواكب ) وله ( شرح على الجغميني ) وله ( شرح التلويح ) ، وغيرها من الكتب في شبى أنواع العلوم ، وللأسف الشديد ان كتبه لم تر النور.

_________________

١ ـ العتائقي نسبة الى العتائق قرية بقرب الحلة المزيدية ، وليس بالقبائقي كما في نسخ البحار المطبوعه فانه تصحيف ، كما اني لم ارَّ من الرجاليين من ذكرن بابن العماني بل المشهور انه ابن العتائقي ولعلها تصحيف ايضا او من خطأ النساخ.

٧٥

الى الآن مع كثرتها سوى كتابه ( الناسخ والمنسوخ ) فمن قلمنا هذا ندعو دور النشر والتأليف لأخراج كتبه خدمة للمذهب الامامي واحياء لآثار هذا الشيخ الجليل ، وصرح جمع من العلماء كالسيد محسن الأمين; والشيخ عباس القمي; والشيخ اغا بزرك الطهراني بمشاهدة كتبه في الخزانة الغروبة وكتب أخرى لغيره بخط يده ذكر فيها نسبه وتأريخه من ( ٧٣٨ ـ ٧٨٨ هـ ).(١)

صاحب الحكاية : الشيخ جمال الدين بن نجم الدين جعفر الزهدري ، لم أجد له ذكراً في كتب الرجال وانما وقفت على ترجمة والده الاجل الشيخ جعفر الزهدري صاحب كتاب ( ايضاح ترددات الشرائع )(٢) ويظهر من ثناء ابن العتائقي عليهما ، عظيم منزلتهما وجلالتهما.

وبهذه الحكاية انتهى ما أردنا نقله من حكايات كتاب ( السلطان المفرج عن اهل الايمان ).

الحكاية الرابعة :

حكاية ابن ابي الجواد النعماني

قال العالم الفاضل المتبحّر النقّاد الآميرزا عبد الله الاصفهاني الشهير بالافندي في المجلد الخامس من كتاب ( رياض العلماء

__________________

١ ـ انظر : رياض العلماء ج ٣ / ص ١٠٣ ، سفينة البحار ط ج / ج ٢ / ص ١٥٧ ، كذلك الذريعة في اجزائها.

٢ ـ وقد طبع الكتاب في زماننا هذا بجهود العلامة الحجة السيد محمود المرعشي في قم المقدسة وقد رأيت نسخته المطبوعة.

٧٦

وحياض الفضلاء ) في ترجمة الشيخ ابن ابي الجواد النِّعماني(١) انه ممن رأى القائم7 في زمن الغيبة الكبرى ، وروى عنه7 ، ورأيت في بعض المواضع نقلاً عن خط الشيخ زين الدين علي بن الحسن بن محمد الخازن الحائري تلميذ الشهيد انه قد رأى ابن ابي جواد النعماني مولانا المهدي7 فقال له :

يا مولاي لك مقام بالنعمانية ومقام بالحلة ، فأين تكون فيهما؟

فقال له :أكون بالنعمانية ليلة الثلاثاء ويوم الثلاثاء ، ويوم الجمعة وليلة الجمعة أكون بالحلة ولكن أهل الحلة ما يتأدّبون في مقامي ، وما من رجل دخل مقامي بالأدب يتأدّب ويسلم عليّ وعلى الأئمة وصلّى عليّ وعليهم اثني عشر (٢) مرة ثم صلى ركعتين بسورتين ، وناجى الله بهما المناجاة إلاّ اعطاه تعالى ما يسأله احدها المغفرة.

فقلت : يا مولاي علمني ذلك.

فقال : قل« اللهم قد أخذ التأديب مني حتى مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ، وان كان ما اقترفته من الذنوب استحق به أضعاف أضعاف ما أدبتني به ، وأنت حليم ذو اناة تعفو عن كثير حتى يسبق عفوك ورحمتك عذابك » وكررها عليّ ثلاثاً حتى فهمتها(٣) .(٤)

__________________

١ ـ النعمانية : بليدة بناها النعمان بن المنذر وتقع بين واسط وبغداد في نصف الطريق على ضفة دجلة معدودة من اعمال الزاب الاعلى.

٢ ـ هكذا ورد في المطبوع والاصح اثنتي عشرة.

٣ ـ قال المؤلف; : يعني حفظتها.

٤ ـ انظر : النجم الثاقب / النوري; ج ٢ / ص ١٣٨.

٧٧

بحث حول الحكاية :

راوي الحكاية : زين الدين علي بن أبي محمد الحسن بن محمد الخازن الحائري ، تلميذ الشهيد الاول ( ٧٣٤ ـ ٧٨٦ هـ ) وقد أجازه الشهيد الاول سنة ٧٨٤ هـ وهو من مشايخ العلامة أبي العباس أحمد بن فهد الحلي ويروي عنه ، وأجازه في سنة ٧٩١ هـ ويعبر عنه بالشيخ علي الخازن الحائري ، وهو من علماء المائة الثامنة ، قال عنه الشهيد الاول; في إجازته له :

المولى الشيخ العالم التقي الورع المحصل العالم بأعباء العلوم الفائق أولي الفضائل والفهوم زين الدين أبو علي(١)

صاحب الحكاية : ابن أبي الجواد النعماني ، لم أجد له ترجمة في كتب الرجال ، سوى ما ترجمه ناقل الحكاية الافندي; في كتابه رياض العلماء الذي فقد معظم مجلداته ، ويظهر من راوي الحكاية الشيخ علي الخازن الذي هو من تلاميذ الشهيد الاول; أنَّ ابن ابي الجواد من طبقة الشهيد الاول ، أي من تلامذة العلامة الحلي; .

أقول : ولا يبعد اتحاده بالشيخ الفاضل العالم المتكلم عبد الواحد بن الصفي النعماني ، صاحب كتاب ( نهج السداد في شرح رسالة واجب الاعتقاد ) الذي نسبه اليه الكفعمي; في حواشي مصباحه ونؤيد ما قلناه آنفاً قول المتبحر الخيبر الافندي; في كتاب رياض العلماء ج ٣ ص ٢٧٩ قال : » وأظن أنه من تلامذة الشهيد أو تلامذة تلامذته « فلاحظ.

__________________

١ ـ انظر : رسائل الشهيد الاول ص ٣٠٤ وطبقات اعلام الشيعة للطهراني; .

٧٨

أقول : ومن خلال هذه الحكاية نستدل على شهرة المقام في ذلك القرن إذ الرجل من النعمانية ويسأله عن مقامه7 في الحلة ويستدل أيضاً على استحباب زيارة المقام الشريف في الحلة في ليلة الجمعة ويومها لوجود الإمام به ، وربما ينفي الزائر للمقام هذا الكلام ، فنقول له : إن الأمام عجل الله تعالى فرجه الشريف ليس بغائب ولكن هو غائب عمّن هو غائب عن الله.

وعلى أهل الحلة وغيرهم أن يتأدّبوا بمقامه جلّ التأدب ( فلا لاختلاط الرجال بالنساء في المصلى ، ولا لتبرج النساء ، ولا ) مما يصل الى سوء الادب بمحضر نائب الملك العلام ، فان أهل الحلة أشاد بهم أمير المؤمنين7 وأيّ إشادة ، فليكونوا دئاماً مصداق حديث مولاهم ومولاي علي بن أبي طالب7 .

فقد ذكر الشيخ عباس القمي في كتابه وقائع ايام ص (٣٠٢) :

روى أصبغ بن نباتة قال : صحبت مولاي أمير المؤمنين7 عند وروده صفين ، وقد وقف على تل ثم أومأالى أجمة ما بين بابل والتل قال :مدينة وأي مدينة.

فقلت له : يامولاي أراك تذكر مدينة أكان هناك مدينة وانمحت آثارُها؟ فقال7 : لا ولكن ستكون مدينة يقال لها الحلة ( السيفية ) يمدتها رجل من بني أسد يظهر بها قوم أخيار لو أقسم أحدهم على الله لأبرّ قسمه. (١)

* * *

__________________

١ ـ انظر : بحار الانوار ، ٦ / ١٢٢ رواية ٥٥.

٧٩

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

قد أنفق بعض ماله و امتنّ به مستكثراً له بقوله:( أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً ) فنزلت الآيات و ردّ الله عليه بأنّ الفوز بميمنة الحياة لا يتمّ إلّا باقتحام عقبة الإنفاق في سبيل الله و الدخول في زمرة الّذين آمنوا و تواصوا بالصبر و المرحمة، و يتأيّد به ما سيأتي في البحث الروائيّ إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( أَ يَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ ) إنكار لما هو لازم قول الإنسان:( أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً ) على طريق التكنية و محصّل المعنى أنّ لازم إخبار الإنسان بإهلاكه مالاً لبداً أنّه يحسب أنّا في غفلة و جهل بما أنفق و قد أخطأ في ذلك فالله سبحانه بصير بما أنفق لكنّ هذا المقدار لا يكفي في الفوز بميمنة الحياة بل لا بدّ له من أن يتحمّل ما هو أزيد من ذلك من مشاقّ العبوديّة فيقتحم العقبة و يكون مع المؤمنين في جميع ما هم فيه.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ) النجد الطريق المرتفع، و المراد بالنجدين طريق الخير و طريق الشرّ و سمّيا النجدين لما في سلوك كلّ منهما من الجهد و الكدح، و فسّراً بثديي الاُم و هو بعيد.

و قوله:( أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ) أي جهّزناه في بدنه بما يبصر به فيحصل له العلم بالمرئيّات على سعة نطاقها، و قوله:( وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ ) أي أ و لم نجعل له لساناً و شفتين يستعين بها على التكلّم و الدلالة على ما في ضميره من العلم و يهتدي بذلك غيره على العلم بالاُمور الغائبة عن البصر.

و قوله:( وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ) أي علّمناه طريق الخير و طريق الشرّ بإلهام منّا فهو يعرف الخير و يميّزه من الشرّ فالآية في معنى قوله تعالى:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها ) الشمس: ٨.

و في الآيات الثلاث حجّة على قوله:( أَ يَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ ) أي على أنّه تعالى يرى أعمال عباده و يعلم ما في ضمائرهم من وجوه الأعمال و يميّز الخير من الشرّ و الحسنة من السيّئة.

٤٢١

محصّلها أنّ الله سبحانه هو الّذي يعرّف المرئيّات للإنسان بوسيلة عينيه و كيف يتصوّر أن يعرّفه أمراً و هو لا يعرفه؟ و هو الّذي يدلّ الإنسان على ما في الضمير بواسطة الكلام و هل يعقل أن يكشف له عمّا هو في حجاب عنه؟ و هو الّذي يعلّم الإنسان و يميّز له الخير و الشرّ بالإلهام و هل يمكن معه أن يكون هو نفسه لا يعلم به و لا يميّزه؟ فهو تعالى يرى ما عمله الإنسان و يعلم ما ينويه بعمله و يميّز كونه خيراً أو شرّاً و حسنة أو سيّئة.

قوله تعالى: ( فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ) الاقتحام الدخول بسرعة و ضغط و شدّة، و العقبة الطريق الصعب الوعر الّذي فيه صعود من الجبل، و اقتحام العقبة إشارة إلى الإنفاق الّذي يشقّ على منفقه كما سيصرّح به.

و قيل: الجملة دعاء على الإنسان القائل: أهلكت مالاً لبداً، و ليس بشي‏ء.

قوله تعالى: ( وَ ما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ ) تفخيم لشأنها كما مرّ في نظائره.

قوله تعالى: ( فَكُّ رَقَبَةٍ ) أي عتقها و تحريرها أو التقدير هي أي العقبة فكّ رقبة فالمراد بالعقبة نفس الفكّ الّذي هو العمل و اقتحامه الإتيان به، و الإتيان بالعمل نفس العمل.

و به يظهر فساد قول بعضهم إنّ فكّ رقبة اقتحام للعقبة لا نفس العقبة فهناك مضاف محذوف يعود إليه الضمير و التقدير و ما أدراك ما اقتحام العقبة هو - أي الاقتحام - فكّ رقبة.

و ما ذكر في بيان العقبة من فكّ الرقبة و الإطعام في يوم ذي مسغبة من مصاديق نشر الرحمة خصّ بالذكر لمكان الأهمّيّة، و قدّم فكّ الرقبة و ابتدئ به لكمال عناية الدين بفكّ الرقاب.

قوله تعالى: ( أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ) المسغبة المجاعة، و المقربة القرابة بالنسب، و المتربة من التراب و معناها الالتصاق بالتراب من شدّة الفقر، و المعنى أو إطعام في يوم المجاعة يتيماً من ذي القربى أو

٤٢٢

مسكيناً شديد الفقر.

قوله تعالى: ( ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَ تَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ) المرحمة مصدر ميميّ من الرحمة، و التواصي بالصبر وصيّة بعضهم بعضاً بالصبر على طاعة الله و التواصي بالمرحمة وصيّة بعضهم بعضاً بالرحمة على ذوي الفقر و الفاقة و المسكنة.

و الجملة أعني قوله:( ثُمَّ كانَ ) إلخ معطوفة على قول:( اقْتَحَمَ ) و التقدير فلا اقتحم العقبة و لا كان من الّذين آمنوا إلخ و قيل فيها غير ذلك ممّا لا جدوى فيه.

قوله تعالى: ( أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ) بمعنى اليمن مقابل الشؤم، و الإشارة باُولئك إلى ما يدلّ عليه السياق السابق أي الّذين اقتحموا العقبة و كانوا من الّذين آمنوا و تواصوا بالصبر و المرحمة أصحاب اليمن لا يرون ممّا قدّموه من الإيمان و عملهم الصالح إلّا أمراً مباركاً جميلاً مرضيّاً.

و قيل: المراد بالميمنة جهة اليمين و أصحاب الميمنة هم الّذين يؤتون كتابهم بيمينهم، و مقابلة الميمنة بالمشأمة لا تلائمه.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ ) الآيات الآفاقيّة و الأنفسية آيات و أدلّة عليه تعالى تدلّ على توحّده في الربوبيّة و الاُلوهيّة و سائر ما يتفرّع عليه و ردّها كفر بها و الكفر بها كفر بالله و كذا القرآن الكريم و آياته، و كذا ما نزل و بلّغ من طريق الرسالة.

و الظاهر أنّ المراد بالآيات مطلقها، و المشأمة خلاف الميمنة.

قوله تعالى: ( عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ ) أي مطبقة.

( بحث روائي‏)

في المجمع: في قوله:( وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ) قيل: معناه و أنت محلّ بهذا البلد و هو ضدّ المحرم، و المراد أنت حلال لك قتل من رأيت من الكفّار، و ذلك حين اُمر بالقتال يوم فتح مكّة فأحلّها الله له حتّى قاتل و قتل، و قد قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لم يحلّ لأحد قبلي و لا يحلّ لأحد بعدي و لم يحلّ لي إلّا ساعة من نهار. عن ابن عبّاس

٤٢٣

و مجاهد و عطاء.

و فيه: في الآية و قيل: لا اُقسم بهذا البلد و أنت حلال منتهك الحرمة مستباح العرض لا تحترم فلا تبقى للبلد حرمة حيث هتكت: عن أبي مسلم و هو المرويّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

قال: كانت قريش تعظّم البلد و تستحلّ محمّداً فيه فقال:( لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ) يريد أنّهم استحلّوك فيه و كذّبوه و شتموك، و كانوا لا يأخذ الرجل منهم فيه قاتل أبيه و يتقلّدون لحاء شجر الحرم فيأمنون بتقلّدهم إيّاه فاستحلّوا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما لم يستحلّوه من غيره فعاب الله ذلك عليهم.

و فيه: في قوله تعالى:( وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ ) قيل: آدم و ما ولد من الأنبياء و الأوصياء و أتباعهم. عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

أقول: و المعاني السابقة مرويّة من طرق أهل السنّة في أحاديث موقوفة، و روى القمّيّ في تفسيره الأخيرتين بالإرسال و الإضمار.

و في تفسير القمّيّ:( يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً ) قال: اللبد المجتمع و في المجمع: في الآية قيل: هو الحارث بن نوفل بن عبد مناف و ذلك أنّه أذنب ذنبا فاستفتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأمره أن يكفّر فقال: لقد ذهب مالي في الكفّارات و النفقات منذ دخلت في دين محمّد، عن مقاتل.

و في المجمع: أنّه قيل لأميرالمؤمنينعليه‌السلام : إنّ اُناسا يقولون في قوله:( وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ) أنّهما الثديان فقال: لا، هما الخير و الشرّ.

و في اُصول الكافي، بإسناده عن حمزة بن محمّد عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله تعالى:( وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ) قال: نجد الخير و الشرّ.

أقول: و روي في الدرّ المنثور، هذا المعنى بطرق عن عليّعليه‌السلام و أنس و أبي أمامة و غيرهم عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و رواه القمّيّ في تفسيره، مرسلاً مضمراً.

و في الكافي، بإسناده عن جعفر بن خلّاد قال: كان أبوالحسن الرضاعليه‌السلام إذا أكل اُتي بصحفة فتوضع قرب مائدته فيعمد إلى أطيب الطعام ممّا يؤتى به فيأخذ من كلّ

٤٢٤

شي‏ء شيئاً فيضع في تلك الصحفة ثمّ يأمر بها للمساكين ثمّ يتلو هذه الآية( فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ) .

ثمّ يقول: علم الله عزّوجلّ أنّه ليس كلّ إنسان يقدر على عتق رقبة فجعل لهم السبيل إلى الجنّة.

و في المجمع، و روي مرفوعاً عن البراء بن عازب قال: جاء أعرابيّ إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا رسول الله علّمني عملاً يدخلني الجنّة قال: إن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة، أعتق النسمة و فكّ الرقبة، فقال أ و ليسا واحداً؟ قال: لا، عتق الرقبة أن يتفرّد بعتقها و فكّ الرقبة أن يعين في ثمنها، و الفي‏ء على ذي الرحم الظالم.

فإن لم يكن ذلك فأطعم الجائع و اسق الظمآن و أمر بالمعروف و أنه عن المنكر فإن لم تطق ذلك فكفّ لسانك إلّا من خير.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ) قال: لا يقيه من التراب شي‏ء.

٤٢٥

( سورة الشمس مكّيّة و هي خمس عشرة آية)

( سورة الشمس الآيات ١ - ١٥)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ( ١ ) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ( ٢ ) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ( ٣ ) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ( ٤ ) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ( ٥ ) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ( ٦ ) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ( ٧ ) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ( ٨ ) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ( ٩ ) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ( ١٠ ) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ( ١١ ) إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا ( ١٢ ) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا ( ١٣ ) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا ( ١٤ ) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ( ١٥ )

( بيان‏)

تذكر السورة أنّ فلاح الإنسان - و هو يعرف التقوى و الفجور بتعريف إلهيّ و إلهام باطنيّ - أن يزكّي نفسه و ينميها إنماءً صالحاً بتحليتها بالتقوى و تطهيرها من الفجور، و الخيبة و الحرمان من السعادة لمن يدسّيها، و يستشهد لذلك بما جرى على ثمود من عذاب الاستئصال لمّا كذّبوا رسولهم صالحاً و عقروا الناقة، و في ذلك تعريض لأهل مكّة، و السورة مكّيّة بشهادة من سياقها.

قوله تعالى: ( وَ الشَّمْسِ وَ ضُحاها ) في المفردات: الضحى انبساط الشمس و امتداد النهار و سمّي الوقت به انتهى. و الضمير للشمس، و في الآية إقسام بالشمس و انبساط ضوئها على الأرض.

قوله تعالى: ( وَ الْقَمَرِ إِذا تَلاها ) عطف على الشمس و الضمير لها و إقسام بالقمر

٤٢٦

حال كونه تاليا للشمس، و المراد بتلوّه لها إن كان كسبه النور منها فالحال حال دائمة و إن كان طلوعه بعد غروبها فالإقسام به من حال كونه هلالاً إلى حال تبدّره.

قوله تعالى: ( وَ النَّهارِ إِذا جَلَّاها ) التجلية الإظهار و الإبراز، و ضمير التأنيث للأرض، و المعنى و اُقسم بالنهار إذا أظهر الأرض للأبصار.

و قيل: ضمير الفاعل في( جَلَّاها ) للنهار و ضمير المفعول للشمس، و المراد الإقسام بحال إظهار النهار للشمس فإنّها تنجلي و تظهر إذا انبسط النهار، و فيه أنّه لا يلائم ما تقدّمه فإنّ الشمس هي المظهرة للنهار دون العكس.

و قيل: الضمير المؤنّث للدنيا، و قيل: للظلمة، و قيل: ضمير الفاعل لله تعالى و ضمير المفعول للشمس، و المعنى و اُقسم بالنهار إذا أظهر الله الشمس، و هي وجوه بعيدة.

قوله تعالى: ( وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشاها ) أي يغطي الأرض، فالضمير للأرض كما في( جَلَّاها ) و قيل: للشمس و هو بعيد فالليل لا يغطّي الشمس و إنّما يغطّي الأرض و ما عليها.

و التعبير عن غشيان الليل الأرض بالمضارع بخلاف تجلية النهار لها حيث قيل:( وَ النَّهارِ إِذا جَلَّاها وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشاها ) للدلالة على الحال ليكون فيه إيماء إلى غشيان الفجور الأرض في الزمن الحاضر الّذي هو أوائل ظهور الدعوة الإسلاميّة لما تقدّم أنّ بين هذه الأقسام و بين المقسم بها نوع اتّصال و ارتباط، هذا مضافاً إلى رعاية الفواصل.

قوله تعالى: ( وَ السَّماءِ وَ ما بَناها وَ الْأَرْضِ وَ ما طَحاها ) طحو الأرض و دحوها بسطها، و( ما ) في( وَ ما بَناها ) و( ما طَحاها ) موصولة، و الّذي بناها و طحاها هو الله تعالى و التعبير عنه تعالى بما دون من لإيثار الإبهام المفيد للتفخيم و التعجيب فالمعنى و اُقسم بالسماء و الشي‏ء القوي العجيب الّذي بناها و اُقسم بالأرض و الشي‏ء القويّ العجيب الّذي بسطها.

و قيل: ما مصدريّة و المعنى و اُقسم بالسماء و بنائها و الأرض و طحوها، و السياق

٤٢٧

- و فيه قوله:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها ) إلخ - لا يساعده.

قوله تعالى: ( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها ) أي و اُقسم بنفس و الشي‏ء ذي القدرة و العلم و الحكمة الّذي سوّاها و رتّب خلقتها و نظم أعضاءها و عدّل بين قواها.

و تنكير( نَفْسٍ ) قيل: للتنكير، و قيل: للتفخيم و لا يبعد أن يكون التنكير للإشارة إلى أنّ لها وصفاً و أنّ لها نبأ.

و المراد بالنفس النفس الإنسانيّة مطلقاً و قيل: المراد بها نفس آدمعليه‌السلام و لا يلائمه السياق و خاصّة قوله:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ) إلّا بالاستخدام على أنّه لا موجب للتخصيص.

قوله تعالى: ( فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها ) الفجور - على ما ذكره الراغب - شقّ ستر الديانة فالنهي الإلهيّ عن فعل أو عن ترك حجاب مضروب دونه حائل بين الإنسان و بينه و اقتراف المنهيّ عنه شقّ للستر و خرق للحجاب.

و التقوى - على ما ذكره الراغب - جعل النفس في وقاية ممّا يخاف، و المراد بها بقرينة المقابلة في الآية بينها و بين الفجور التجنّب عن الفجور و التحرّز عن المنافي و قد فسّرت في الرواية بأنّها الورع عن محارم الله.

و الإلهام الإلقاء في الروع و هو إفاضته تعالى الصور العمليّة من تصوّر أو تصديق على النفس.

و تعليق الإلهام على عنواني فجور النفس و تقواها للدلالة على أنّ المراد تعريفه تعالى للإنسان صفة فعله من تقوى أو فجور وراء تعريفه متن الفعل بعنوانه الأوّليّ المشترك بين التقوى و الفجور كأكل المال مثلاً المشترك بين أكل مال اليتيم الّذي هو فجور و بين أكل مال نفسه الّذي هو من التقوى، و المباشرة المشتركة بين الزنا و هو فجور و النكاح و هو من التقوى و بالجملة المراد أنّه تعالى عرّف الإنسان كون ما يأتي به من فعل فجوراً أو تقوى و ميّز له ما هو تقوى ممّا هو فجور.

و تفريع الإلهام على التسوية في قوله:( وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها ) إلخ للإشارة إلى أنّ إلهام الفجور و التقوى و هو العقل العملي من تكميل تسوية النفس فهو من نعوت

٤٢٨

خلقتها كما قال تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) الروم: ٣٠.

و إضافة الفجور و التقوى إلى ضمير النفس للإشارة إلى أنّ المراد بالفجور و التقوى الملهمين الفجور و التقوى المختصّين بهذه النفس المذكورة و هي النفس الإنسانيّة و نفوس الجنّ على ما يظهر من الكتاب العزيز من كونهم مكلّفين بالإيمان و العمل الصالح.

قوله تعالى: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ) الفلاح هو الظفر بالمطلوب و إدراك البغية، و الخيبة خلافه، و الزكاة نموّ النبات نموّاً صالحاً ذا بركة و التزكية إنماؤه كذلك، و التدسّي - و هو من الدسّ بقلب إحدى السينين ياء - إدخال الشي‏ء في الشي‏ء بضرب من الإخفاء، و المراد بها بقرينة مقابله التزكية: الإنماء على غير ما يقتضيه طبعها و ركّبت عليه نفسها.

و الآية أعني قوله:( قَدْ أَفْلَحَ ) إلخ جواب القسم، و قوله:( وَ قَدْ خابَ ) إلخ معطوف عليه.

و التعبير بالتزكية و التدسّي عن إصلاح النفس و إفسادها مبتن على ما يدلّ عليه قوله:( فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها ) على أنّ من كمال النفس الإنسانيّة أنّها ملهمة مميّزة - بحسب فطرتها - للفجور من التقوى أي أنّ الدين و هو الإسلام لله فيما يريده فطريّ للنفس فتحلية النفس بالتقوى تزكية و إنماء صالح و تزويد لها بما يمدّها في بقائها قال تعالى:( وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى‏ وَ اتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ ) البقرة: ١٩٧ و أمرها في الفجور على خلاف التقوى.

قوله تعالى: ( كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها ) الطغوى مصدر كالطغيان، و الباء للسببيّة.

و الآية و ما يتلوها إلى آخر السورة استشهاد و تقرير لما تقدّم من قوله( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ) إلخ.

قوله تعالى: ( إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها ) ظرف لقوله:( كَذَّبَتْ ) أو لقوله:( بِطَغْواها )

٤٢٩

و المراد بأشقى ثمود هو الّذي عقر الناقة و اسمه على ما في الروايات قدار بن سالف و قد كان انبعاثه ببعث القوم كما تدلّ عليه الآيات التالية بما فيها من ضمائر الجمع.

قوله تعالى: ( فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَ سُقْياها ) المراد برسول الله صالحعليه‌السلام نبيّ ثمود، و قوله:( ناقَةَ اللهِ ) منصوب على التحذير، و قوله:( وَ سُقْياها ) معطوف عليه.

و المعنى فقال لهم صالح برسالة من الله: احذروا ناقة الله و سقياها و لا تتعرّضوا لها بقتلها أو منعها عن نوبتها في شرب الماء، و قد فصّل الله القصّة في سورة هود و غيرها.

قوله تعالى: ( فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها ) العقر إصابة أصل الشي‏ء و يطلق على نحر البعير و القتل، و الدمدمة على الشي‏ء الإطباق عليه يقال: دمدم عليه القبر أي أطبقه عليه و المراد شمولهم بعذاب يقطع دابرهم و يمحو أثرهم بسبب ذنبهم.

و قوله:( فَسَوَّاها ) الظاهر أنّ الضمير لثمود باعتبار أنّهم قبيلة أي فسوّاها بالأرض أو هو تسوية الأرض بمعنى تسطيحها و إعفاء ما فيها من ارتفاع و انخفاض.

و قيل: الضمير للدمدمة المفهومة من قوله:( فَدَمْدَمَ ) و المعنى فسوّى الدمدمة بينهم فلم يفلت منهم قويّ و لا ضعيف و لا كبير و لا صغير.

قوله تعالى: ( وَ لا يَخافُ عُقْباها ) الضمير للدمدمة أو التسوية، و الواو للاستئناف أو الحال.

و المعنى: و لا يخاف ربّهم عاقبة الدمدمة عليهم و تسويتهم كما يخاف الملوك و الأقوياء عاقبة عقاب أعدائهم و تبعته، لأنّ عواقب الاُمور هي ما يريده و على وفق ما يأذن فيه فالآية قريبة المعنى من قوله تعالى:( لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ ) الأنبياء: ٢٣.

و قيل: ضمير( لا يَخافُ ) للأشقى، و المعنى و لا يخاف عاقر الناقة عقبى ما صنع بها.

و قيل: ضمير( لا يَخافُ ) لصالح و ضمير( عُقْباها ) للدمدمة و المعنى و لا يخاف صالح عقبى الدمدمة عليهم لثقته بالنجاة و ضعف الوجهين ظاهر.

٤٣٠

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها ) قال: خلقها و صورها.

و في المجمع، و روى زرارة و حمران و محمّد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام في قوله تعالى:( فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها ) قال: بيّن لها ما يأتي و ما يترك، و في قوله تعالى:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ) قال: قد أفلح من أطاع( وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ) قال: قد خاب من عصى.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و مسلم و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه عن عمران بن حصين أنّ رجلاً قال: يا رسول الله أ رأيت ما يعمل الناس اليوم و يكدحون فيه شي‏ء قد قضي عليهم و مضى عليهم في قدر قد سبق؟ أو فيما يستقبلون به نبيّهم و اتّخذت عليهم به الحجّة؟ قال: بل شي‏ء قضي عليهم.

قال: فلم يعملون إذا؟ قال: من كان الله خلقه لواحدة من المنزلتين هيّأه لعملها و تصديق ذلك في كتاب الله:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها ) .

أقول: قوله: أو فيما يستقبلون إلخ الظاهر أنّ الهمزة فيه للاستفهام و الواو للعطف و المعنى و هل في طاعتهم لنبيّهم قضاء من الله و قدر قد سبق؟ و قوله: فلم يعملون إذا، أي فما معنى عملهم و استناد الفعل إليهم.؟

و قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من كان الله إلخ معناه أنّ وجوب صدور الفعل حسنة أو سيّئة منهم بالنظر إلى القضاء و القدر السابقين لا ينافي إمكان صدوره بالنظر إلى الإنسان و اختياره، و قد اتّضح ذلك في الأبحاث السابقة من الكتاب مراراً.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و أبوالشيخ و ابن مردويه و الديلميّ عن جويبر عن الضحّاك عن ابن عبّاس: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ) الآية أفلحت نفس زكّاها الله و خابت نفس خيبّها الله من كلّ خير.

أقول: انتساب التزكية و التخييب إليه تعالى بوجه لا ينافي انتسابهما بالطاعة و المعصية إلى الإنسان.

٤٣١

و إنّما ينتسب إلى الله سبحانه من الإضلال ما كان على طريق المجازاة كما قال:( وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ) البقرة: ٢٦.

و في المجمع، و قد صحّت الرواية بالإسناد عن عثمان بن صهيب عن أبيه قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ بن أبي طالب: من أشقى الأوّلين؟ قال: عاقر الناقة. قال: صدقت فمن أشقى الآخرين؟ قال: قلت: لا أعلم يا رسول الله. قال: الّذي يضربك على هذه فأشار إلى يافوخة.

أقول: و روي فيه هذا المعنى أيضاً عن عمّار بن ياسر.

و في تفسير البرهان: و روى الثعلبيّ و الواحديّ بإسنادهما عن عمّار و عن عثمان بن صهيب و عن الضحّاك و روى ابن مردويه بإسناده عن جابر بن سمرة و عن عمّار و عن ابن عديّ أو عن الضحّاك و روى الخطيب في التاريخ، عن جابر بن سمرة و روى الطبريّ و الموصلي و روى أحمد عن الضحّاك عن عمّار أنّه قال: قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عليّ أشقى الأوّلين عاقر الناقة و أشقى الآخرين قاتلك، و في رواية من يخضب هذه من هذا.

٤٣٢

( سورة الليل مكّيّة و هي إحدى و عشرون آية)

( سورة الليل الآيات ١ - ٢١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ ( ١ ) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ ( ٢ ) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ ( ٣ ) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ ( ٤ ) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ ( ٥ ) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ ( ٦ ) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ ( ٧ ) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ ( ٨ ) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ ( ٩ ) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ ( ١٠ ) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ ( ١١ ) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ ( ١٢ ) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَىٰ ( ١٣ ) فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّىٰ ( ١٤ ) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى ( ١٥ ) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ( ١٦ ) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ( ١٧ ) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ ( ١٨ ) وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ ( ١٩ ) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ ( ٢٠ ) وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ ( ٢١ )

( بيان‏)

غرض السورة الإنذار و تسلك إليه بالإشارة إلى اختلاف مساعي الناس و أنّ منهم من أنفق و اتّقى و صدّق بالحسنى فسيمكّنه الله من حياة خالدة سعيدة و منهم من بخل و استغنى و كذّب بالحسنى فسيسلك الله به إلى شقاء العاقبة، و في السورة اهتمام و عناية خاصّة بأمر الإنفاق المالي.

و السورة تحتمل المكّيّة و المدنيّة بحسب سياقها.

٤٣٣

قوله تعالى: ( وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى‏ ) إقسام بالليل إذا يغشى النهار على حدّ قوله تعالى:( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ ) الأعراف: ٥٤، و يحتمل أن يكون المراد غشيانه الأرض أو الشمس.

قوله تعالى: ( وَ النَّهارِ إِذا تَجَلَّى ) عطف على الليل، و التجلّي ظهور الشي‏ء بعد خفائه، و التعبير عن صفة الليل بالمضارع و عن صفة النهار بالماضي حيث قيل:( يَغْشى) و( تَجَلَّى ) تقدّم فيه وجه في تفسير أوّل السورة السابقة.

قوله تعالى: ( وَ ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى‏ ) عطف على الليل كسابقه، و( ما ) موصولة و المراد به الله سبحانه و إنّما عبّر بما، دون من، إيثاراً للإبهام المشعر بالتعظيم و التفخيم و المعنى و اُقسم بالشي‏ء العجيب الّذي أوجد الذكر و الاُنثى المختلفين على كونهما من نوع واحد.

و قيل: ما مصدريّة و المعنى و اُقسم بخلق الذكر و الاُنثى و هو ضعيف.

و المراد بالذكر و الاُنثى مطلق الذكر و الاُنثى أينما تحقّقاً، و قيل: الذكر و الاُنثى من الإنسان، و قيل: المراد بهما آدم و زوجته حوّاء، و أوجه الوجوه أوّلها.

قوله تعالى: ( إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ) السعي هو المشي السريع، و المراد به العمل من حيث يهتمّ به، و هو في معنى الجمع، و شتّى جمع شتيت بمعنى المتفرّق كمرضى جمع مريض.

و الجملة جواب القسم و المعنى اُقسم بهذه المتفرّقات خلقاً و أثراً إنّ مساعيكم لمتفرّقات في نفسها و آثارها فمنها إعطاء و تقوى و تصديق و لها أثر خاصّ بها، و منها بخل و استغناء و تكذيب و لها أثر خاصّ بها.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا مَنْ أَعْطى‏ وَ اتَّقى‏ وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) تفصيل تفرّق مساعيهم و اختلاف آثارها.

و المراد بالإعطاء إنفاق المال لوجه الله بقرينة مقابلته للبخل الظاهر في الإمساك عن إنفاق المال و قوله بعد:( وَ ما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى ) .

٤٣٤

و قوله:( وَ اتَّقى‏) كالمفسّر للإعطاء يفيد أنّ المراد هو الإعطاء على سبيل التقوى الدينيّة.

و قوله:( وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى‏ ) الحسنى صفة قائمة مقام الموصوف و الظاهر أنّ التقدير بالعدة الحسنى و هي ما وعد الله من الثواب على الإنفاق لوجهه الكريم و هو تصديق البعث و الإيمان به و لازمه الإيمان بوحدانيّته تعالى في الربوبيّة و الاُلوهيّة، و كذا الإيمان بالرسالة فإنّها طريق بلوغ وعده تعالى للثواب.

و محصّل الآيتين أن يكون مؤمناً بالله و رسوله و اليوم الآخر و ينفق المال لوجه الله و ابتغاء ثوابه الّذي وعده بلسان رسوله.

و قوله:( فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى‏ ) التيسير التهيئة و الإعداد و اليسرى الخصلة الّتي فيها يسر من غير عسر، و توصيفها باليسر بنوع من التجوّز فالمراد من تيسيره لليسرى توفيقه للأعمال الصالحة بتسهيلها عليه من غير تعسير أو جعله مستعدّاً للحياة السعيدة عند ربّه و دخول الجنّة بسبب الأعمال الصالحة الّتي يأتي بها، و الوجه الثاني أقرب و أوضح انطباقاً على ما هو المعهود من مواعد القرآن.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا مَنْ بَخِلَ وَ اسْتَغْنى‏ وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنى‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى‏ وَ ما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى ) البخل مقابل الإعطاء، و الاستغناء طلب الغنى و الثروة بالإمساك و الجمع، و المراد بالتكذيب بالحسنى الكفر بالعدّة الحسنى و ثواب الله الّذي بلّغه الأنبياء و الرسل و يرجع إلى إنكار البعث.

و المراد بتيسيره للعسرى خذلانه بعدم توفيقه للأعمال الصالحة، بتثقيلها عليه و عدم شرح صدره للإيمان أو إعداده للعذاب.

و قوله:( وَ ما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى ) التردّي هو السقوط من مكان عال و يطلق على الهلاك فالمراد سقوطه في حفرة القبر أو في جهنّم أو هلاكه.

و( ما ) استفهاميّة أو نافية أي أيّ شي‏ء يغنيه ماله إذا مات و هلك أو ليس يغني عنه ماله إذا مات و هلك.

٤٣٥

قوله تعالى: ( إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى‏ وَ إِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَ الْأُولى) تعليل لما تقدّم من حديث تيسيره لليسرى و للعسرى أو الإخبار به بأوجز بيان، محصّله أنّا إنّما نفعل هذا التيسير أو نبيّن هذا البيان لأنّه من الهدى و الهدى علينا لا يزاحمنا في ذلك شي‏ء و لا يمنعنا عنه مانع.

فقوله:( إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى‏ ) يفيد أنّ هدى الناس ممّا قضى سبحانه به و أوجبه على نفسه بمقتضى الحكمة و ذلك أنّه خلقهم ليعبدوه كما قال:( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) الذاريات: ٥٦ فجعل عبادته غاية لخلقهم و جعلها صراطاً مستقيماً إليه كما قال:( إِنَّ اللهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ) آل عمران: ٥١، و قال:( وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللهِ ) الشورى: ٥٣ و قضى على نفسه أن يبيّن لهم سبيله و يهديهم إليه بمعنى إراءة الطريق سواء سلكوها أم تركوها كما قال:( وَ عَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَ مِنْها جائِرٌ ) النحل: ٩، و قال:( وَ اللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ) الأحزاب: ٤ و قال:( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً ) الإنسان: ٣ و لا ينافي ذلك قيام غيره تعالى بأمر هذا المعنى من الهدى بإذنه كالأنبياء كما قال تعالى:( وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) الشورى: ٥٢، و قال:( قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى‏ بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي ) يوسف: ١٠٨.

و قد تقدّم لهذه المسألة بيان عقلي في مباحث النبوّة في الجزء الثاني من الكتاب.

هذا في الهداية بمعنى إراءة الطريق و أمّا الهداية بمعنى الإيصال إلى المطلوب - و المطلوب في المقام الآثار الحسنة الّتي تترتّب على الاهتداء بهدى الله و التلبّس بالعبوديّة كالحياة الطيّبة المعجّلة في الدنيا و الحياة السعيدة الأبديّة في الآخرة - فمن البيّن أنّه من قبيل الصنع و الإيجاد الّذي يختصّ به تعالى فهو ممّا قضى به الله و أوجبه على نفسه و سجّله بوعده الحقّ قال تعالى:( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى‏ ) طه: ١٢٣، و قال:( مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) النحل: ٩٧، و قال:( وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً

٤٣٦

وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا ) النساء: ١٢٢.

و لا ينافي انتساب هذا المعنى من الهداية إليه تعالى بنحو الأصالة انتسابه إلى غيره تعالى بنحو التبع بتخلّل الأسباب بينه تعالى و بين ما ينسب إليه من الأثر بإذنه.

و معنى الآية - إن كان المراد بالهدى إراءة الطريق - أنّا إنّما نبيّن لكم ما نبيّن لأنّه من إراءة طريق العبوديّة و إراءة الطريق علينا، و إن كان المراد به الإيصال إلى المطلوب أنّا إنّما نيسّر هؤلاء لليسرى من الأعمال الصالحة أو من الحياة السهلة الأبديّة و دخول الجنّة لأنّه من إيصال الأشياء إلى غاياتها و علينا ذلك.

و أمّا التيسير للعسرى فهو ممّا يتوقّف عليه التيسير لليسرى( لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى‏ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ) الأنفال: ٣٧ و قد قال سبحانه في القرآن الّذي هو هدى للعالمين:( وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً ) إسراء: ٨٢.

و يمكن أن يكون المراد به مطلق الهداية أعمّ من الهداية التكوينيّة الحقيقيّة و التشريعيّة الاعتباريّة - على ما هو ظاهر إطلاق اللفظ - فله تعالى الهداية الحقيقيّة كما قال:( الَّذِي أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى‏ ) طه: ٥٠، و الهداية الاعتباريّة كما قال:( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً ) الإنسان: ٣.

و قوله:( وَ إِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَ الْأُولى) أي عالم البدء و عالم العود فكلّ ما يصدق عليه أنّه شي‏ء فهو مملوك له تعالى بحقيقة الملك الّذي هو قيام وجوده بربّه القيّوم و يتفرّع عليه الملك الاعتباري الّذي من آثاره جواز التصرّفات.

فهو تعالى يملك كلّ شي‏ء من كلّ جهة فلا يملك شي‏ء منه شيئاً فلا معارض يعارضه و لا مانع يمنعه و لا شي‏ء يغلبه كما قال:( وَ اللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ) الرعد: ٤١ و قال:( وَ اللهُ غالِبٌ عَلى‏ أَمْرِهِ ) يوسف: ٢١، و قال:( وَ يَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ ) إبراهيم: ٢٧.

قوله تعالى: ( فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَ تَوَلَّى )

٤٣٧

تفريع على ما تقدّم أي إذا كان الهدى علينا فأنذرتكم نار جهنّم و بذلك يوجّه ما في قوله:( فَأَنْذَرْتُكُمْ ) من الالتفات عن التكلّم مع الغير إلى التكلّم وحده أي إذا كان الهدى مقضيّة محتومة فالمنذر بالأصالة هو الله و إن كان بلسان رسوله.

و تلظّى النار تلهّبها و توهّجها، و المراد بالنار الّتي تتلظّى جهنّم كما قال تعالى:( كَلَّا إِنَّها لَظى) المعارج: ١٥.

و المراد بالأشقى مطلق الكافر الّذي يكفر بالتكذيب و التولّي فإنّه أشقى من سائر من شقي في دنياه فمن ابتلي في بدنه شقي و من اُصيب في ماله أو ولده مثلاً شقي و من خسر في أمر آخرته شقي و الشقيّ في أمر آخرته أشقى من غيره لكون شقوته أبديّة لا مطمع في التخلص منها بخلاف الشقوة في شأن من شؤن الدنيا فإنّها مقطوعة لا محالة مرجوّة الزوال عاجلاً.

فالمراد بالأشقى هو الكافر المكذّب بالدعوة الحقّة المعرض عنها على ما يدلّ عليه توصيفه بقوله:( الَّذِي كَذَّبَ وَ تَوَلَّى ) و يؤيّده إطلاق الإنذار، و أمّا الأشقى بمعنى أشقى الناس كلّهم فممّا لا يساعد عليه السياق البتّة.

و المراد بصلي النار اتّباعها و لزومها فيفيد معنى الخلود و هو ممّا قضى الله به في حقّ الكافر، قال تعالى:( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) البقرة: ٣٩.

و بذلك يندفع ما قيل: إنّ قوله:( لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى ) ينفي عذاب النار عن فسّاق المؤمنين على ما هو لازم القصر في الآية، وجه الاندفاع أنّ الآية إنّما تنفي عن غير الكافر الخلود فيها دون أصل الدخول.

قوله تعالى: ( وَ سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى وَ ما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) التجنيب التبعيد، و ضمير( سَيُجَنَّبُهَا ) للنار، و المعنى سيبعد عن النار الأتقى.

و المراد بالأتقى من هو أتقى من غيره ممّن يتّقي المخاطر فهناك من يتّقي ضيعة النفوس كالموت و القتل و من يتّقي فساد الأموال و من يتّقي العدم و الفقر فيمسك عن

٤٣٨

بذل المال و هكذا و منهم من يتّقي الله فيبذل المال، و أتقى هؤلاء الطوائف من يتّقي الله فيبذل المال لوجهه و إن شئت فقل يتّقي خسران الآخرة فيتزكّى بالإعطاء.

فالمفضّل عليه للأتقى هو من لا يتّقي بإعطاء المال و إن اتّقى سائر المخاطر الدنيويّة أو اتّقى الله بسائر الأعمال الصالحة.

فالآية عامّة بحسب مدلولها غير خاصّة و يدلّ عليه توصيف الأتقى بقوله:( الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ ) إلخ و هو وصف عامّ و كذا ما يتلوه، و لا ينافي ذلك كون الآيات أو جميع السورة نازلة لسبب خاصّ كما ورد في أسباب النزول.

و أمّا إطلاق المفضّل عليه بحيث يشمل جميع الناس من طالح أو صالح و لازمه انحصار المفضّل في واحد مطلقاً أو واحد في كلّ عصر، و يكون المعنى و سيجنّبها من هو أتقى الناس كلّهم و كذا المعنى في نظيره: لا يصلاها إلّا أشقى الناس كلّهم فلا يساعد عليه سياق آيات صدر السورة، و كذا الإنذار العامّ الّذي في قوله:( فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى ) فلا معنى لأن يقال: أنذرتكم جميعاً ناراً لا يخلد فيها إلّا واحد منكم جميعاً و لا ينجو منها إلّا واحد منكم جميعاً.

و قوله:( الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى ) صفة للأتقى أي الّذي يعطي و ينفق ماله يطلب بذلك أن ينمو نماءً صالحاً.

و قوله:( وَ ما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) تقرير لمضمون الآية السابقة أي ليس لأحد عنده من نعمة تجزى تلك النعمة بما يؤتيه من المال و تكافأ و إنّما يؤتيه لوجه الله و يؤيّد هذا المعنى تعقيبه بقوله:( إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى‏ ) .

فالتقدير من نعمة تجزى به، و إنّما حذف الظرف رعاية للفواصل، و يندفع بذلك ما قيل: إنّ بناء( تُجْزى) للمفعول لأن القصد ليس لفاعل معيّن.

قوله تعالى: ( إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى‏ ) استثناء منقطع و المعنى و لكنّه يؤتي ماله طلباً لوجه ربّه الأعلى و قد تقدّم كلام في معنى وجه الله تعالى و في معنى الاسم الأعلى.

قوله تعالى: ( وَ لَسَوْفَ يَرْضى‏ ) أي و لسوف يرضى هذا الأتقى بما يؤتيه ربّه

٤٣٩

الأعلى من الأجر الجزيل و الجزاء الحسن الجميل.

و في ذكر صفتي الربّ و الأعلى إشعار بأنّ ما يؤتاه من الجزاء أنعم الجزاء و أعلاه و هو المناسب لربوبيّته تعالى و علوّه، و من هنا يظهر وجه الالتفات في الآية السابقة في قوله:( وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) من سياق التكلّم وحده إلى الغيبة بالإشارة إلى الوصفين: ربّه الأعلى.

( بحث روائي‏)

في الكافي، بإسناده عن محمّد بن مسلم قال: قلت لأبي جعفرعليه‌السلام : قول الله عزّوجلّ:( وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى) ( وَ النَّجْمِ إِذا هَوى) و ما أشبه ذلك؟ فقال: إنّ لله عزّوجلّ أن يقسم من خلقه بما شاء، و ليس لخلقه أن يقسموا إلّا به.

أقول: و رواه في الفقيه، بإسناده عن عليّ بن مهزيار عن أبي جعفر الثانيعليه‌السلام .

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى) قال: حين يغشى النهار و هو قسم.

و عن الحميريّ في قرب الإسناد، عن أحمد بن محمّد عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام قال: سمعته يقول: في تفسير( وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى‏ ) إنّ رجلاً كان لرجل في حائطه نخلة فكان يضرّ به فشكى ذلك إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدعاه فقال: أعطني نخلتك بنخلة في الجنّة فأبى فسمع ذلك رجل من الأنصار يكنّى أبا الدحداح فجاء إلى صاحب النخلة فقال: بعني نخلتك بحائطي فباعه فجاءه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا رسول الله قد اشتريت نخلة فلان بحائطي فقال رسول الله: لك بدلها نخلة في الجنّة.

فأنزل الله تعالى على نبيّه:( وَ ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى‏ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى فَأَمَّا مَنْ أَعْطى) يعني النخلة( وَ اتَّقى‏ وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى) هو ما عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى ‏ - إلى قوله -تَرَدَّى ) .

أقول: و رواه القمّيّ في تفسيره، مرسلاً مضمراً، و قوله: الزوجين تفسير منهعليه‌السلام

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568