الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219925 / تحميل: 7014
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

( بيان‏)

هذا هو الفصل الثاني من الآيات يعرّف الحاقّة ببعض أشراطها و نبذة ممّا يقع فيها.

قوله تعالى: ( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ ) قد تقدّم أنّ النفخ في الصور كناية عن البعث و الإحضار لفصل القضاء، و في توصيف النفخة بالواحدة إشارة إلى مضيّ الأمر و نفوذ القدرة فلا وهن فيه حتّى يحتاج إلى تكرار النفخة، و الّذي يسبق إلى الفهم من سياق الآيات أنّها النفخة الثانية الّتي تحيي الموتى.

قوله تعالى: ( وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً ) الدكّ أشدّ الدقّ و هو كسر الشي‏ء و تبديله إلى أجزاء صغار، و حمل الأرض و الجبال إحاطة القدرة بها، و توصيف الدكّة بالواحدة للإشارة إلى سرعة تفتّتهما بحيث لا يفتقر إلى دكّة ثانية.

قوله تعالى: ( فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ) أي قامت القيامة.

قوله تعالى: ( وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ ) انشقاق الشي‏ء انفصال شطر منه من شطر آخر، و واهية من الوهي بمعنى الضعف، و قيل: من الوهي بمعنى شقّ الأديم و الثوب و نحوهما.

و يمكن أن تكون الآية أعني قوله:( وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها ) في معنى قوله:( وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا ) الفرقان: 25.

قوله تعالى: ( وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) قال الراغب: رجا البئر و السماء و غيرهما جانبها و الجمع أرجاء قال تعالى:( وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها ) انتهى، و الملك - كما قيل - يطلق على الواحد و الجمع و المراد به في

٦١

الآية الجمع.

و قوله:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) ضمير( فَوْقَهُمْ ) على ظاهر ما يقتضيه السياق للملائكة، و قيل: الضمير للخلائق.

و ظاهر كلامه أنّ للعرش اليوم حملة من الملائكة قال تعالى:( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) المؤمن: 7 و قد وردت الروايات أنّهم أربعة، و ظاهر الآية أعني قوله:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) أنّ الحملة يوم القيامة ثمانية و هل هم من الملائكة أو من غيرهم؟ الآية ساكتة عن ذلك و إن كان لا يخلو السياق من إشعار ما بأنّهم من الملائكة.

و من الممكن - كما تقدّمت الإشارة إليه - أن يكون الغرض من ذكر انشقاق السماء و كون الملائكة على أرجائها و كون حملة العرش يومئذ ثمانية بيان ظهور الملائكة و السماء و العرش للإنسان يومئذ، قال تعالى:( وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) الزمر: 75.

قوله تعالى: ( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى‏ مِنْكُمْ خافِيَةٌ ) الظاهر أنّ المراد به العرض على الله كما قال تعالى:( وعُرِضُوا عَلى‏ رَبِّكَ صَفًّا ) الكهف: 48، و العرض إراءة البائع سلعته للمشتري ببسطها بين يديه، فالعرض يومئذ على الله و هو يوم القضاء إبراز ما عند الإنسان من اعتقاد و عمل إبرازاً لا يخفى معه عقيدة خافية و لا فعلة خافية و ذلك بتبدّل الغيب شهادة و السرّ علناً قال:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) الطارق: 9، و قال:( يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى‏ عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْ‏ءٌ ) المؤمن: 16.

و قد تقدّم في أبحاثنا السابقة أنّ ما عدّ في كلامه تعالى من خصائص يوم القيامة كاختصاص الملك بالله، و كون الأمر له، و أن لا عاصم منه، و بروز الخلق له و عدم خفاء شي‏ء منهم عليه و غير ذلك، كلّ ذلك دائميّة الثبوت له تعالى، و إنّما المراد ظهور هذه الحقائق يومئذ ظهوراً لا ستر عليه و لا مرية فيه.

٦٢

فالمعنى: يومئذ يظهر أنّكم في معرض على علم الله و يظهر كلّ فعلة خافية من أفعالكم.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) قال في المجمع، هاؤم أمر للجماعة بمنزلة هاكم، تقول للواحد: هاء يا رجل، و للاثنين: هاؤما يا رجلان، و للجماعة: هاؤم يا رجال، و للمرأة: هاء يا امرأة بكسر الهمزة و ليس بعدها ياء، و للمرأتين: هاؤما، و للنساء: هاؤنّ. هذه لغة أهل الحجاز.

و تميم و قيس يقولون: هاء يا رجل مثل قول أهل الحجاز، و للاثنين: هاءا، و للجماعة: هاؤا، و للمرأة: هائي، و للنساء هاؤنّ.

و بعض العرب يجعل مكان الهمزة كافاً فيقول: هاك هاكما هاكم هاك هاكما هاكنّ، و معناه: خذ و تناول، و يؤمر بها و لا ينهى. انتهى.

و الآية و ما بعدها إلى قوله:( الْخاطِؤُنَ ) بيان تفصيليّ لاختلاف حال الناس يومئذ من حيث السعادة و الشقاء، و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) إسراء: 71 كلام في معنى إعطاء الكتاب باليمين، و الظاهر أنّ قوله:( هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) خطاب للملائكة، و الهاء في( كِتابِيَهْ ) و كذا في أواخر الآيات التالية للوقف و تسمّى هاء الاستراحة.

و المعنى: فأمّا من اُوتي كتابه بيمينه فيقول للملائكة: خذوا و اقرأوا كتابيه أي إنّها كتاب يقضي بسعادتي.

قوله تعالى: ( إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ ) الظنّ بمعنى اليقين، و الآية تعليل لما يتحصّل من الآية السابقة و محصّل التعليل إنّما كان كتابي كتاب اليمين و قاضياً بسعادتي لأنّي أيقنت في الدنيا أنّي ساُلاقي حسابي فآمنت بربّي و أصلحت عملي.

قوله تعالى: ( فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ) أي يعيش عيشة يرضاها فنسبة الرضا إلى العيشة من المجاز العقليّ.

٦٣

قوله تعالى: ( فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ - إلى قوله -الْخالِيَةِ ) أي هو في جنّة عالية قدراً فيها ما لا عين رأت و لا اُذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.

و قوله:( قُطُوفُها دانِيَةٌ ) القطوف جمع قطف بالكسر فالسكون و هو ما يجتنى من الثمر و المعنى: أثمارها قريبة منه يتناوله كيف يشاء.

و قوله:( كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ ) أي يقال لهم: كلوا و اشربوا من جميع ما يؤكل فيها و ما يشرب حال كونه هنيئاً لكم بما قدّمتم من الإيمان و العمل الصالح في الدنيا الّتي تقضّت أيّامها.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ ) و هؤلاء هم الطائفة الثانية و هم الأشقياء المجرمون يؤتون صحيفة أعمالهم بشمالهم و قد مرّ الكلام في معناه في سورة الإسراء، و هؤلاء يتمنّون أن لو لم يكونوا يؤتون كتابهم و يدرون ما حسابهم يتمنّون ذلك لما يشاهدون من أليم العذاب المعدّ لهم.

قوله تعالى: ( يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ) ذكروا أنّ ضمير( لَيْتَها ) للموتة الاُولى الّتي ذاقها الإنسان في الدنيا.

و المعنى: يا ليت الموتة الاُولى الّتي ذقتها كانت قاضية عليّ تقضي بعدمي فكنت انعدمت و لم اُبعث حيّاً فأقع في ورطة العذاب الخالد و اُشاهد ما اُشاهد.

قوله تعالى: ( ما أَغْنى‏ عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ ) كلمتا تحسّر يقولهما حيث يرى خيبة سعيه في الدنيا فإنّه كان يحسب أنّ مفتاح سعادته في الحياة هو المال و السلطان يدفعان عنه كلّ مكروه و يسلّطانه على كلّ ما يحبّ و يرضى فبذل كلّ جهده في تحصيلهما و أعرض عن ربّه و عن كلّ حقّ يدعى إليه و كذّب داعيه فلمّا شاهد تقطّع الأسباب و أنّه في يوم لا ينفع فيه مال و لا بنون ذكر عدم نفع ماله و بطلان سلطانه تحسّراً و توجّعاً و ما ذا ينفع التحسّر.؟

قوله تعالى: ( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ - إلى قوله -فَاسْلُكُوهُ ) حكاية أمره تعالى الملائكة بأخذه و إدخاله النار، و التقدير يقال للملائكة خذوه إلخ، و( فَغُلُّوهُ ) أمر من الغلّ بالفتح

٦٤

و هو الشدّ بالغلّ الّذي يجمع بين اليد و الرجل و العنق.

و قوله:( ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ) أي أدخلوه النار العظيمة و ألزموه إيّاها.

و قوله:( ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ ) السلسلة القيد، و الذرع الطول، و الذراع بُعد ما بين المرفق و رأس الأصابع و هو واحد الطول و سلوكه فيه جعله فيه، و المحصّل ثمّ اجعلوه في قيد طوله سبعون ذراعاً.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَ لا يَحُضُّ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) الحضّ التحريض و الترغيب، و الآيتان في مقام التعليل للأمر بالأخذ و الإدخال في النار أي إنّ الأخذ ثمّ التصلية في الجحيم و السلوك في السلسلة لأجل أنّه كان لا يؤمن بالله العظيم و لا يحرّض على طعام المسكين أي يساهل في أمر المساكين و لا يبالي بما يقاسونه.

قوله تعالى: ( فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ - إلى قوله -الْخاطِؤُنَ ) الحميم الصديق و الآية تفريع على قوله:( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ ) إلخ، و المحصّل: أنّه لمّا كان لا يؤمن بالله العظيم فليس له اليوم ههنا صديق ينفعه أي شفيع يشفع له إذ لا مغفرة لكافر فلا شفاعة.

و قوله:( وَ لا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ) الغسلين الغسالة و كأنّ المراد به ما يسيل من أبدان أهل النار من قيح و نحوه و الآية عطف على قوله في الآية السابقة:( حَمِيمٌ ) و متفرّع على قوله:( وَ لا يَحُضُّ ) إلخ، و المحصّل: أنّه لمّا كان لا يحرّض على طعام المسكين فليس له اليوم ههنا طعام إلّا من غسلين أهل النار.

و قوله:( لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ ) وصف لغسلين و الخاطؤن المتلبّسون بالخطيئة و الإثم.

٦٥

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، في قوله تعالى:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يحمله اليوم أربعة و يوم القيامة ثمانية.

أقول: و في تقييد الحاملين في الآية بقوله:( يَوْمَئِذٍ ) إشعار بل ظهور في اختصاص العدد بالقيامة.

و في تفسير القمّيّ، و في حديث آخر قال: حمله ثمانية أربعة من الأوّلين و أربعة من الآخرين فأمّا الأربعة من الأوّلين فنوح و إبراهيم و موسى و عيسى، و أمّا الأربعة من الآخرين فمحمّد و عليّ و الحسن و الحسينعليهم‌السلام .

أقول: و في غير واحد من الروايات أنّ الثمانية مخصوصة بيوم القيامة، و في بعضها أنّ حملة العرش - و العرش العلم - أربعة منّا و أربعة ممّن شاء الله.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّه إذا كان يوم القيامة يدعى كلّ اُناس بإمامه الّذي مات في عصره فإن أثبته اُعطي كتابه بيمينه لقوله:( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ‏ ) فمن اُوتي كتابه بيمينه فاُولئك يقرؤن كتابهم، و اليمين إثبات الإمام لأنه كتابه يقرؤه - إلى أن قال - و من أنكر كان من أصحاب الشمال الّذين قال الله:( وَ أَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ وَ حَمِيمٍ وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ) إلخ.

أقول: و في عدّة من الروايات تطبيق قوله:( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) إلخ، على عليّعليه‌السلام ، و في بعضها عليه و على شيعته، و كذا تطبيق قوله:( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ ) إلخ، على أعدائه، و هي من الجري دون التفسير.

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم و صحّحه عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لو أنّ دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن بأهل الدنيا.

و فيه، أخرج البيهقيّ في شعب الإيمان عن صعصعة بن صوحان قال: جاء أعرابي

٦٦

إلى عليّ بن أبي طالب فقال: كيف هذا الحرف: لا يأكله إلّا الخاطون؟ كلّ و الله يخطو. فتبسّم عليّ و قال: يا أعرابيّ( لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ ) قال: صدقت و الله يا أميرالمؤمنين ما كان الله ليسلم عبده.

ثمّ التفت عليّ إلى أبي الأسود فقال: إنّ الأعاجم قد دخلت في الدين كافّة فضع للناس شيئاً يستدلّون به على صلاح ألسنتهم فرسم لهم الرفع و النصب و الخفض.

و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه في الدروع الواقية في حديث عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و لو أنّ ذراعاً من السلسلة الّتي ذكرها الله في كتابه وضع على جميع جبال الدنيا لذابت عن حرّها.

٦٧

( سورة الحاقّة الآيات 38 - 52)

فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ( 38 ) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ( 39 ) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ( 40 ) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ ( 41 ) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ( 42 ) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ( 43 ) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ( 44 ) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ( 45 ) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ( 46 ) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ( 47 ) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ( 48 ) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ ( 49 ) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ( 50 ) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ( 51 ) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ( 52 )

( بيان‏)

هذا هو الفصل الثالث من آيات السورة يؤكّد ما تقدّم من أمر الحاقّة بلسان تصديق القرآن الكريم ليثبت بذلك حقّيّة ما أنبأ به من أمر القيامة.

قوله تعالى: ( فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَ ما لا تُبْصِرُونَ ) ظاهر الآية أنّه إقسام بما هو مشهود لهم و ما لا يشاهدون أي الغيب و الشهادة فهو إقسام بمجموع الخليقة و لا يشمل ذاته المتعالية فإنّ من البعيد من أدب القرآن أن يجمع الخالق و الخلق في صفّ واحد و يعظّمه تعالى و ما صنع تعظيماً مشتركاً في عرض واحد.

و في الإقسام نوع تعظيم و تجليل للمقسم به و خلقه تعالى بما أنّه خلقه جليل جميل لأنّه تعالى جميل لا يصدر منه إلّا الجميل و قد استحسن تعالى فعل نفسه و أثنى

٦٨

على نفسه بخلقه في قوله:( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ ) الم السجدة: 7، و قوله:( فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) المؤمنون: 14 فليس للموجودات منه تعالى إلّا الحسن و ما دون ذلك من مساءة فمن أنفسها و بقياس بعضها إلى بعض.

و في اختيار ما يبصرون و ما لا يبصرون للأقسام به على حقّيّة القرآن ما لا يخفى من المناسبة فإنّ النظام الواحد المتشابك أجزاؤه الجاري في مجموع العالم يقضي بتوحّده تعالى و مصير الكلّ إليه و ما يترتّب عليه من بعث الرسل و إنزال الكتب و القرآن خير كتاب سماويّ يهدي إلى الحقّ في جميع ذلك و إلى طريق مستقيم.

و ممّا تقدّم يظهر عدم استقامة ما قيل: إنّ المراد بما تبصرون و ما لا تبصرون الخلق و الخالق فإنّ السياق لا يساعد عليه، و كذا ما قيل: إنّ المراد النعم الظاهرة و الباطنة، و ما قيل: إنّ المراد الجنّ و الإنس و الملائكة أو الأجسام و الأرواح أو الدنيا و الآخرة أو ما يشاهد من آثار القدرة و ما لا يشاهد من أسرارها فاللفظ أعمّ مدلولاً من جميع ذلك.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) الضمير للقرآن، و المستفاد من السياق أنّ المراد برسول كريم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو تصديق لرسالته قبال ما كانوا يقولون إنّه شاعر أو كاهن.

و لا ضير في نسبة القرآن إلى قوله فإنّه إنّما ينسب إليه بما أنّه رسول و الرسول بما أنّه رسول لا يأتي إلّا بقول مرسلة، و قد بيّن ذلك فضل بيان بقوله بعد:( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

و قيل: المراد برسول كريم جبريل، و السياق لا يؤيّده إذ لو كان هو المراد لكان الأنسب نفي كونه ممّا نزلت به الشياطين كما فعل في سورة الشعراء.

على أنّ قوله بعد:( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ) و ما يتلوه إنّما يناسب كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المراد برسول كريم.

قوله تعالى: ( وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ) نفي أن يكون القرآن

٦٩

نظماً ألّفه شاعر و لم يقل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شعراً و لم يكن شاعراً.

و قوله:( قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ) توبيخ لمجتمعهم حيث إنّ الأكثرين منهم لم يؤمنوا و ما آمن به إلّا قليل منهم.

قوله تعالى: ( وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ) نفي أن يكون القرآن كهانة و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كاهنا يأخذ القرآن من الجنّ و هم يُلقونه إليه.

و قوله:( قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ) توبيخ أيضاً لمجتمعهم.

قوله تعالى: ( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) أي منزل من ربّ العالمين و ليس من صنع الرسول نسبه إلى الله كما تقدّمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ - إلى قوله -حاجِزِينَ ) يقال: تقوّل على فلان أي اختلق قولاً من نفسه و نسبه إليه، و الوتين - على ما ذكره الراغب - عرق يسقي الكبد و إذا انقطع مات صاحبه، و قيل: هو رباط القلب.

و المعنى:( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا ) هذا الرسول الكريم الّذي حمّلناه رسالتنا و أرسلناه إليكم بقرآن نزّلناه عليه و اختلق( بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ) و نسبه إلينا( لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ) كما يقبض على المجرم فيؤخذ بيده أو المراد قطعنا منه يده اليمنى أو المراد لانتقمنا منه بالقوّة كما في رواية القمّيّ( ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ) و قتلناه لتقوّله علينا( فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ‏ ) تحجبونه عنّا و تنجونه من عقوبتنا و إهلاكنا.

و هذا تهديد للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تقدير أن يفتري على الله كذباً و ينسب إليه شيئاً لم يقله و هو رسول من عنده أكرمه بنبوّته و اختاره لرسالته.

فالآيات في معنى قوله:( لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) إسراء: 75، و كذا قوله في الأنبياء بعد ذكر نعمه العظمى عليهم:( وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) الأنعام: 88.

فلا يرد أنّ مقتضى الآيات أنّ كلّ من ادّعى النبوّة و افترى على الله الكذب أهلكه الله و عاقبه في الدنيا أشدّ العقاب و هو منقوض ببعض مدّعي النبوّة من الكذّابين.

٧٠

و ذلك أنّ التهديد في الآية متوجّه إلى الرسول الصادق في رسالته لو تقوّل على الله و نسب إليه بعض ما ليس منه لا مطلق مدّعي النبوّة المفتري على الله في دعواه النبوّة و إخباره عن الله تعالى.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ) يذكّرهم كرامة تقواهم و معارف المبدأ و المعاد بحقائقها، و يعرّفهم درجاتهم عند الله و مقاماتهم في الآخرة و الجنّة و ما هذا شأنه لا يكون تقوّلاً و افتراء فالآية مسوقة حجّة على كون القرآن منزّهاً عن التقوّل و الفرية.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ ) ستظهر لهم يوم الحسرة.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) قد تقدّم كلام في نظيرتي الآيتين في آخر سورة الواقعة، و السورتان متّحدتان في الغرض و هو وصف يوم القيامة و متّحدتان في سياق خاتمتهما و هي الإقسام على حقّيّة القرآن المنبئ عن يوم القيامة، و قد ختمت السورتان بكون القرآن و ما أنبأ به عن وقوع الواقعة حقّ اليقين ثمّ الأمر بتسبيح اسم الربّ العظيم المنزّه عن خلق العالم باطلاً لا معاد فيه و عن أن يبطل المعارف الحقّة الّتي يعطيها القرآن في أمر المبدأ و المعاد.

٧١

( سورة المعارج مكّيّة و هي أربع و أربعون آية)

( سورة المعارج الآيات 1 - 18)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ( 1 ) لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ( 2 ) مِّنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِجِ ( 3 ) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ( 4 ) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ( 5 ) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ( 6 ) وَنَرَاهُ قَرِيبًا ( 7 ) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ( 8 ) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ( 9 ) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ( 10 ) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ( 11 ) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ( 12 ) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ( 13 ) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ ( 14 ) كَلَّا إِنَّهَا لَظَىٰ ( 15 ) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ ( 16 ) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ ( 17 ) وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ ( 18 )

( بيان‏)

الّذي يعطيه سياق السورة أنّها تصف يوم القيامة بما اُعدّ فيه من أليم العذاب للكافرين. تبتدئ السورة فتذكر سؤال سائل سأل عذاباً من الله للكافرين فتشير إلى أنّه واقع ليس له دافع قريب غير بعيد كما يحسبونه ثمّ تصف اليوم الّذي يقع فيه و العذاب الّذي اُعدّ لهم فيه و تستثني المؤمنين الّذين قاموا بوظائف الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح.

٧٢

و هذا السياق يشبه سياق السور المكّيّة غير أنّ المنقول عن بعضهم أنّ قوله:( وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ) مدني و الاعتبار يؤيّده لأنّ ظاهره الزكاة و قد شرّعت بالمدينة بعد الهجرة، و كون هذه الآية مدنيّة يستتبع كون الآيات الحافّة بها الواقعة تحت الاستثناء و هي أربع عشرة آية (قوله:إِلَّا الْمُصَلِّينَ - إلى قوله -فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ‏ ) مدنيّة لما في سياقها من الاتّحاد و استلزام البعض للبعض.

و مدنيّة هذه الآيات الواقعة تحت الاستثناء تستدعي ما استثنيت منه و هو على الأقل ثلاث آيات (قوله:إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً - إلى قوله -مَنُوعاً ).

على أنّ قوله:( فَما لِلَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ) متفرّع على ما قبله تفرّعاً ظاهراً و هو ما بعده إلى آخر السورة ذو سياق واحد فتكون هذه الآيات أيضاً مدنيّة.

و من جهة اُخرى مضامين هذا الفصل من الآيات تناسب حال المنافقين الحافّين حول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن اليمين و عن الشمال عزين و هم الرادّون لبعض ما أنزل الله من الحكم و خاصّة قوله:( أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ ) إلخ، و قوله:( عَلى‏ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ ) إلخ على ما سيجي‏ء، و موطن ظهور هذا النفاق المدينة لا مكّة، و لا ضير في التعبير عن هؤلاء بالّذين كفروا فنظير ذلك موجود في سورة التوبة و غيرها.

على أنّهم رووا أنّ السورة نزلت في قول القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) الأنفال: 32 و قد تقدّم في تفسير الآية أنّ سياقها و الّتي بعدها سياق مدنيّ لا مكّي. لكنّ المرويّ عن الصادقعليه‌السلام أنّ المراد بالحقّ المعلوم في الآية حق يسمّيه صاحب المال في ماله غير الزكاة المفروضة.

و لا عبرة بما نسب إلى اتّفاق المفسّرين أنّ السورة مكّيّة على أنّ الخلاف ظاهر و كذا ما نسب إلى ابن عبّاس أنّها نزلت بعد سورة الحاقّة.

قوله تعالى: ( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) السؤال بمعنى الطلب و الدعاء، و لذا عدّي بالباء كما في قوله:( يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ ) الدخان: 55 و قيل: الفعل مضمّن معنى الاهتمام و الاعتناء و لذا عدّي بالباء، و قيل: الباء زائدة للتأكيد،

٧٣

و مآل الوجوه واحد و هو طلب العذاب من الله كفراً و عتوّاً.

و قيل: الباء بمعنى عن كما في قوله:( فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ) الفرقان: 59، و فيه أنّ كونها في الآية المستشهد بها بمعنى عن ممنوع. على أنّ سياق الآيات التالية و خاصّة قوله:( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا ) لا يلائم كون السؤال بمعنى الاستفسار و الاستخبار.

فالآية تحكي سؤال العذاب و طلبه عن بعض من كفر طغياناً و كفراً، و قد وصف العذاب المسؤل من الأوصاف بما يدلّ على إجابة الدعاء بنوع من التهكّم و التحقير و هو قوله:( واقِعٍ ) و قوله:( لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) .

و المعنى سأل سائل من الكفّار عذاباً للكافرين من الله سيصيبهم و يقع عليهم لا محالة و لا دافع له أي إنّه واقع عليهم سأل أو لم يسأل ففيه جواب تحقيريّ و إجابة لمسؤله تهكّماً.

قوله تعالى: ( لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) للكافرين متعلّق بعذاب و صفة له، و كذا قوله:( لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) و قد مرّت الإشارة إلى معنى الآية.

قوله تعالى: ( مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ ) الجارّ و المجرور متعلّق بقوله:( دافِعٌ ) أي ليس له دافع من جانب الله و من المعلوم أنّه لو اندفع لم يندفع إلّا من جانب الله سبحانه، و من المحتمل أن يتعلّق بقوله:( بِعَذابٍ ) .

و المعارج جمع معرج و فسّروه بالمصاعد و هي الدرجات و هي مقامات الملكوت الّتي يعرج إليها الملائكة عند رجوعهم إلى الله سبحانه على ما يفسّره قوله بعد:( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ ) إلخ فله سبحانه معارج الملكوت و مقاماتها المترتّبة علوّاً و شرفاً الّتي تعرج فيها الملائكة و الروح بحسب قربهم من الله و ليست بمقامات وهميّة اعتباريّة.

و قيل: المراد بالمعارج الدرجات الّتي يصعد فيها الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح قال تعالى:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) الفاطر 10، و قال:( وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى‏ مِنْكُمْ ) الحجّ: 37.

و قيل: المراد به مقامات القرب الّتي يعرج إليها المؤمنون بالإيمان و العمل

٧٤

الصالح قال تعالى:( هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَ اللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ ) آل عمران: 163 و قال:( لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ ) الأنفال: 4 و قال:( رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ ) المؤمن: 15.

و الحقّ أنّ مآل الوجهين إلى الوجه الأوّل، و الدرجات المذكورة حقيقيّة ليست بالوهميّة الاعتباريّة.

قوله تعالى: ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) المراد بهذا اليوم يوم القيامة على ما يفيده سياق الآيات التالية.

و المراد بكون مقدار هذا اليوم خمسين ألف سنة على ما ذكروا أنّه بحيث لو وقع في الدنيا و انطبق على الزمان الجاري فيها كان مقداره من الزمان خمسين ألف سنة من سني الدنيا.

و المراد بعروج الملائكة و الروح إليه يومئذ رجوعهم إليه تعالى عند رجوع الكلّ إليه فإنّ يوم القيامة يوم بروز سقوط الوسائط و تقطّع الأسباب و ارتفاع الروابط بينها و بين مسبّباتها و الملائكة وسائط موكّلة على اُمور العالم و حوادث الكون فإذا تقطّعت الأسباب عن مسبّباتها و زيّل الله بينهم و رجع الكلّ إلى الله عزّ اسمه رجعوا إليه و عرجوا معارجهم فحفّوا من حول عرش ربّهم و صفّوا قال تعالى:( وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) الزمر 75، و قال:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا ) النبأ: 38.

و الظاهر أنّ المراد بالروح الروح الّذي هو من أمره تعالى كما قال:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) إسراء: 85 و هو غير الملائكة كما هو ظاهر قوله تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) النحل: 2.

فلا يعبأ بما قيل: إنّ المراد بالروح جبرئيل و إن اُطلق عليه الروح الأمين و روح القدس في قوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) الشعراء: 194 و قوله:( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ ) النحل: 103 فإنّ المقيّد غير المطلق.

قوله تعالى: ( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا ) لمّا كان سؤال السائل للعذاب عن تعنّت

٧٥

و استكبار و هو ممّا يشقّ تحمّله أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر و وصفه بالجميل - و الجميل من الصبر ما ليس فيه شائبة الجزع و الشكوى - و علّله بأنّ اليوم بما فيه من العذاب قريب.

قوله تعالى: ( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً ) ضميراً( يَرَوْنَهُ ) و( نَراهُ ) للعذاب أو ليوم القيامة بما فيه من العذاب الواقع و يؤيّد الأوّل قوله فيما بعد:( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) إلخ.

و المراد بالرؤية الاعتقاد بنوع من العناية المجازيّة و رؤيتهم ذلك بعيداً ظنّهم أنّه بعيد من الإمكان فإنّ سؤال العذاب من الله سبحانه استكباراً عن دينه و ردّاً لحكمه لا يجامع الإيمان بالمعاد و إن تفوّه به السائل، و رؤيته تعالى ذلك قريباً علمه بتحقّقه و كلّ ما هو آت قريب.

و في الآيتين تعليل أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر الجميل فإنّ تحمّل الأذى و الصبر على المكاره يهون على الإنسان إذا استيقن أنّ الفرج قريب و تذكّر ذلك فالكلام في معنى قولنا فاصبر على تعنّتهم و استكبارهم في سؤالهم العذاب صبراً جميلاً لا يشوبه جزع و شكوى فإنّا نعلم أنّ العذاب قريب على خلاف ما يستبعدونه، و علمنا لا يتخلّف عن الواقع بل هو نفس الواقع.

قوله تعالى: ( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) المهل المذاب من المعدنيّات كالنحاس و الذهب و غيرهما، و قيل: درديّ الزيت، و قيل: عكر القطران(1) .

و الظرف متعلّق بقوله:( واقِعٍ ) على ما يفيده السياق.

قوله تعالى: ( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ ) العهن مطلق الصوف، و لعلّ المراد المنفوش منه كما في قوله تعالى:( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) القارعة: 5.

و قيل: هو الصوف الأحمر، و قيل: المصبوغ ألواناً لأنّ الجبال ذات ألوان مختلفة فمنها جدد بيض و حمر و غرابيب سود(2) .

____________________

(1) أي ردية و خبيثه‏.

(2) كما في الآية من سورة فاطر.

٧٦

قوله تعالى: ( وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) الحميم القريب الّذي تهتمّ بأمره و تشفق عليه.

إشارة إلى شدّة اليوم فالإنسان يومئذ تشغله نفسه عن غيره حتّى أنّ الحميم لا يسأل حميمه عن حاله لاشتغاله بنفسه.

قوله تعالى: ( يُبَصَّرُونَهُمْ ) الضميران للأحماء المعلوم من السياق و التبصير الإراءة و الإيضاح أي يُرى و يوضح الأحماء للأحماء فلا يسألونهم عن حالهم اشتغالاً بأنفسهم.

و الجملة مستأنفة في معنى الجواب عن سؤال مقدّر كأنّه لمّا قيل: لا يسأل حميم حميماً سئل فقيل: هل يرى الأحماء يومئذ أحماءهم؟ فاُجيب: يبصّرونهم و يمكن أن يكون( يُبَصَّرُونَهُمْ ) صفة( حَمِيماً ) .

و من ردي‏ءً التفسير قول بعضهم: إنّ معنى قوله:( يُبَصَّرُونَهُمْ ) يبصّر الملائكة الكفّار، و ما قيل: إنّ المعنى يبصّر المؤمنون أعداءهم من الكفّار و ما هم فيه من العذاب فيشمتون بهم، و ما قيل: إنّ المعنى يبصّر أتباع الضلالة رؤساءهم. و هي جميعاً وجوه لا دليل عليها.

قوله تعالى: ( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَ صاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ ) قال في المجمع: المودّة مشتركة بين التمنّي و بين المحبّة يقال: وددت الشي‏ء أي تمنّيته و وددته أي أحببته أودّ فيهما جميعاً. انتهى، و يمكن أن يكون استعماله بمعنى التمنّي من باب التضمين.

و قال: و الافتداء الضرر عن الشي‏ء ببدل منه انتهى، و قال: الفصيلة الجماعة المنقطعة عن جملة القبيلة برجوعها إلى اُبوّة خاصّة عن اُبوّة عامّة. انتهى، و ذكر بعضهم أنّ الفصيلة عشيرته الأقربين الّذين فصل عنهم كالآباء الأدنين.

و سياق هذه الآيات سياق الإضراب و الترقّي بالنسبة إلى قوله:( وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) فيفيد أنّ المجرم يبلغ به شدّة العذاب إلى أن يتمنّى أن يفتدي من العذاب بأحبّ أقاربه و أكرمهم عليه بنيه و صاحبته و أخيه و فصيلته و جميع من في الأرض ثمّ ينجيه الافتداء فيودّ ذلك فضلاً عن عدم سؤاله عن حال حميمه.

٧٧

و المعنى( يَوَدُّ ) و يتمنّى( الْمُجْرِمُ ) و هو المتلبّس بالأجرام أعمّ من الكافر( لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ ) و هذا هو الّذي يتمنّاه، و الجملة قائمة مقام مفعول يودّ.( بِبَنِيهِ ) الّذين هم أحبّ الناس عنده( وَ صاحِبَتِهِ ) الّتي كانت سكنا له و كان يحبّها و ربّما قدّمها على أبويه( وَ أَخِيهِ ) الّذي كان شقيقه و ناصره( وَ فَصِيلَتِهِ ) من عشيرته الأقربين( الَّتِي تُؤْوِيهِ ) و تضمّه إليها( وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) من اُولي العقل( ثُمَّ يُنْجِيهِ ) هذا الافتداء.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّها لَظى‏ نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى) كلّا للردع، و ضمير( إِنَّها ) لجهنّم أو للنار و سمّيت لظى لكونها تتلظّى و تشتعل، و النزّاعة اسم مبالغة من النزع بمعنى الاقتلاع، و الشوى الأطراف كاليد و الرجل يقال: رماه فأشواه أي أصاب شواه كذا قال الراغب، و إيعاء المال إمساكه في وعاء.

فقوله:( كَلَّا ) ردع لتمنّيه النجاة من العذاب بالافتداء و قد علّل الردع بقوله:( إِنَّها لَظى) إلخ و محصّله أنّ جهنّم نار مشتعلة محرقة للأطراف شأنها أنّها تطلب المجرمين لتعذّبهم فلا تصرف عنهم بافتداء كائناً ما كان.

فقوله:( إِنَّها لَظى‏ ) أي نار صفتها الاشتعال لا تنعزل عن شأنها و لا تخمد، و قوله:( نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ ) أي صفتها إحراق الأطراف و اقتلاعها لا يبطل ما لها من الأثر فيمن تعذّبه.

و قوله:( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى‏ ) أي تطلب من أدبر عن الدعوة الإلهيّة إلى الإيمان بالله و أعرض عن عبادته تعالى و جمع المال فأمسكه في وعائه و لم ينفق منه للسائل و المحروم.

و هذا المعنى هو المناسب لسياق الاستثناء الآتي و ذكر الصلاة و الإنفاق فيه.

٧٨

( بحث روائي‏)

في المجمع، حدّثنا السيّد أبوالحمد قال: حدّثنا الحاكم أبوالقاسم الحسكاني و ساق السند عن جعفر بن محمّد الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: لما نصب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا و قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، طار ذلك في البلاد فقدم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النعمان بن الحارث الفهريّ.

فقال: أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله و أنّك رسول الله و أمرتنا بالجهاد و الحجّ و الصوم و الصلاة و الزكاة فقبلناها ثمّ لم ترض حتّى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعليّ مولاه، فهذا شي‏ء منك أو أمر من عند الله؟ فقال: و الله الّذي لا إله إلّا هو إنّ هذا من الله.

فولى النعمان بن الحارث و هو يقول: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله و أنزل الله تعالى:( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) .

أقول: و هذا المعنى مروي بغير طريق من طرق الشيعة، و قد ردّ الحديث بعضهم بأنّه موضوع لكون سورة المعارج مكّيّة، و قد عرفت الكلام في مكّيّة السورة.

و في الدرّ المنثور، أخرج الفاريابيّ و عبد بن حميد و النسائيّ و ابن أبي حاتم و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه عن ابن عبّاس في قوله:( سَأَلَ سائِلٌ ) قال هو النضر بن الحارث قال: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدّيّ: في قوله:( سَأَلَ سائِلٌ ) قال. نزلت بمكّة في النضر بن الحارث و قد قال:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية و كان عذابه يوم بدر.

أقول: و هذا المعنى مرويّ أيضاً عن غير السدّيّ، و في بعض رواياتهم أنّ

٧٩

القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية هو الحارث بن علقمة رجل من عبد الدار، و في بعضها أنّ سائل العذاب هو أبوجهل بن هشام سأله يوم بدر و لازمه مدنيّة السورة و المعتمد على أيّ حال نزول السورة بعد قول القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية و قد تقدّم كلام في سياق الآية.

و في أمالي الشيخ، بإسناده إلى أبي عبداللهعليه‌السلام في حديث: ألا فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا فإنّ في القيامة خمسين موقفاً كلّ موقف مثل ألف سنة ممّا تعدّون ثمّ تلا هذه الآية( فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) .

أقول: و روي هذا المعنى في روضة الكافي، عن حفص بن غياث عنهعليه‌السلام .

و في المجمع، روى أبوسعيد الخدريّ قال: قيل لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أطول هذا اليوم فقال: و الّذي نفس محمّد بيده إنّه ليخفّ على المؤمن حتّى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدنيا.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن عدّة من الجوامع عن أبي سعيد عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) قال: الرصاص الذائب و النحاس كذلك تذوب السماء.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( يُبَصَّرُونَهُمْ ) يقول: يعرّفونهم ثمّ لا يتساءلون.

و فيه في قوله تعالى:( نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ ) قال: تنزع عينه و تسودّ وجهه.

و فيه في قوله تعالى:( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى ) قال: تجرّه إليها.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

خلقه من الملائكة و الجنّ و الإنس فدفعه الله بقوله:( رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) الناصّ على أنّ الربوبيّة و الخلق له وحده.

و قوله:( خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ) المراد جنس الإنسان المتناسل و العلق الدم المنجمد و المراد به ما يستحيل إليه النطفة في الرحم.

ففي الآية إشارة إلى التدبير الإلهيّ الوارد على الإنسان من حين كان علقة إلى حين يصير إنساناً تامّاً كاملاً له من أعاجيب الصفات و الأفعال ما تتحيّر فيه العقول فلم يتمّ الإنسان إنساناً و لم يكمل إلّا بتدبير متعاقب منه تعالى و هو بعينه خلق بعد خلق فهو تعالى ربّ مدبّر لأمر الإنسان بعين أنّه خالق له فليس للإنسان إلّا أن يتّخذه وحده ربّاً ففي الكلام احتجاج على توحيد الربوبيّة.

قوله تعالى: ( اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ) أمر بالقراءة ثانياً تأكيداً للأمر الأوّل على ما هو ظاهر سياق الإطلاق.

و قيل: المراد به الأمر بالقراءة على الناس و هو التبليغ بخلاف الأمر الأوّل فالمراد به الأمر بالقراءة لنفسه، كما قيل: إنّ المراد بالأمرين جميعاً الأمر بالقراءة على الناس، و الوجهان غير ظاهرين.

و قوله:( وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ ) أي الّذي يفوق عطاؤه عطاء ما سواه فهو تعالى يعطي لا عن استحقاق و ما من نعمة إلّا و ينتهي إيتاؤها إليه تعالى.

و قوله:( الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ) الباء للسببيّة أي علّم القراءة أو الكتابة و القراءة بواسطة القلم و الجملة حاليّة أو استئنافيّة، و الكلام مسوق لتقوية نفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إزالة القلق و الاضطراب عنها حيث اُمر بالقراءة و هو اُمّيّ لا يكتب و لا يقرأ كأنّه قيل: اقرأ كتاب ربّك الّذي يوحيه إليك و لا تخف و الحال أنّ ربّك الأكرم الّذي علم الإنسان القراءة بواسطة القلم الّذي يخطّ به فهو قادر على أن يعلّمك قراءة كتابه و أنت اُمّيّ و قد أمرك بالقراءة و لو لم يقدرك عليها لم يأمرك بها.

ثمّ عمّم سبحانه النعمة فذكر تعليمه للإنسان ما لم يعلم فقال:( عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ) و فيه مزيد تقوية لقلب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تطييب لنفسه.

٤٦١

و المراد بالإنسان الجنس كما هو ظاهر السياق و قيل: المراد به آدمعليه‌السلام ، و قيل: إدريسعليه‌السلام لأنّه أوّل من خطّ بالقلم، و قيل: كلّ نبيّ كان يكتب و هي وجوه ضعيفة بعيدة عن الفهم.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى‏ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) ردع عمّا يستفاد من الآيات السابقة أنّه تعالى أنعم على الإنسان بعظائم نعم مثل التعليم بالقلم و سائر ما علم و التعليم من طريق الوحي فعلى الإنسان أن يشكره على ذلك لكنّه يكفر بنعمته تعالى و يطغى.

و قوله:( إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى‏ ) أن يتعدّى طوره، و هو إخبار بما في طبع الإنسان ذلك كقوله:( إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) إبراهيم: ٣٤.

و قوله:( أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى‏ ) من الرأي دون الرؤية البصريّة، و فاعل( رَآهُ ) و مفعوله الإنسان. و جملة( أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى‏ ) في مقام التعليل أي ليطغى لأنّه يعتقد نفسه مستغنياً عن ربّه المنعم عليه فيكفر به، و ذلك أنّه يشتغل بنفسه و الأسباب الظاهريّة الّتي يتوصّل بها إلى مقاصده فيغفل عن ربّه من غير أن يرى حاجة منه إليه تبعثه إلى ذكره و شكره على نعمه فينساه و يطغى.

قوله تعالى: ( إِنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الرُّجْعى‏ ) الرجعى هو الرجوع و الظاهر من سياق الوعيد الآتي أنّه وعيد و تهديد بالموت و البعث، و الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قيل: الخطاب للإنسان بطريق الالتفات للتشديد، و الأوّل أظهر.

قوله تعالى: ( أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى‏ عَبْداً إِذا صَلَّى أَ رَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى‏ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى‏ أَ رَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) بمنزلة ذكر بعض المصاديق للإنسان الطاغي و هو كالتوطئة لوعيده بتصريح العقاب و النهي عن طاعته و الأمر بعبادته تعالى، و المراد بالعبد الّذي كان يصلّي هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما يستفاد من آخر الآيات حيث ينهاهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طاعة ذلك الناهي و يأمره بالسجود و الاقتراب.

و سياق الآيات - على تقدير كون السورة أوّل ما نزل من القرآن و نزولها دفعة واحدة - يدلّ على صلاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل نزول القرآن و فيه دلالة على نبوّته

٤٦٢

قبل رسالته بالقرآن.

و أمّا ما ذكره بعضهم أنّه لم يكن الصلاة مفروضة في أوّل البعثة و إنّما شرّعت ليلة المعراج على ما في الأخبار و هو قوله تعالى:( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى‏ غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ ) إسراء: ٧٨.

ففيه أنّ المسلّم من دلالتها أنّ الصلوات الخمس اليوميّة إنّما فرضت بهيئتها الخاصّة ركعتين ركعتين ليلة المعراج و لا دلالة فيها على عدم تشريعها قبل و قد ورد في كثير من السور المكّيّة و منها النازلة قبل سورة الإسراء كالمدّثّر و المزّمّل و غيرهما ذكر الصلاة بتعبيرات مختلفة و إن لم يظهر فيها من كيفيّتها إلّا أنّها كانت مشتملة على تلاوة شي‏ء من القرآن و السجود.

و قد ورد في بعض الروايات صلاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع خديجة و عليّ في أوائل البعثة و إن لم يذكر كيفيّة صلاتهم.

و بالجملة قوله:( أَ رَأَيْتَ) بمعنى أخبرني، و الاستفهام للتعجيب، و المفعول الأوّل لقوله:( أَ رَأَيْتَ ) الأوّل قوله:( الَّذِي يَنْهى‏ ) و لأرأيت الثالث ضمير عائد إلى الموصول، و لأرأيت الثاني ضمير عائد إلى قوله:( عَبْداً ) و المفعول الثاني لأرأيت في المواضع الثلاث قوله:( أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) .

و محصّل معنى الآيات أخبرني عن الّذي ينهى عبداً إذا صلّى و عبدالله الناهي يعلم أنّ الله يرى ما يفعله كيف يكون حاله. أخبرني عن هذا الناهي إن كان ذاك العبد المصلّي على الهدى أو أمر بالتقوى كيف يكون حال هذا الناهي و هو يعلم أنّ الله يرى. أخبرني عن هذا الناهي أن تلبّس بالتكذيب للحقّ و التولّي عن الإيمان به و نهي العبد المصلّي عن الصلاة و هو يعلم أنّ الله يرى؟ هل يستحقّ إلّا العذاب؟

و قيل: المفعول الأوّل لأرأيت في جميع المواضع الثلاث هو الموصول أو الضمير العائد إليه تحرّزاً عن التفكيك بين الضمائر.

و الأولى على هذا أن يجعل معنى قوله:( أَ رَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى‏ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى‏ ) أخبرني عن هذا الناهي إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى و هو يعلم أنّ

٤٦٣

الله يرى ما ذا كان يجب عليه أن يفعله و يأمر به؟ و كيف يكون حاله و قد نهى عن عبادة الله سبحانه؟

و هو مع ذلك معنى بعيد و لا بأس بالتفكيك بين الضمائر مع مساعدة السياق و إعانة القرائن.

و قوله:( أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى‏ ) المراد به العلم على طريق الاستلزام فإنّ لازم الاعتقاد بأنّ الله خالق كلّ شي‏ء هو الاعتقاد بأنّ له علماً بكلّ شي‏ء و إن غفل عنه و قد كان الناهي وثنيّاً مشركاً و الوثنيّة معترفون بأنّ الله هو خالق كلّ شي‏ء و ينزّهونه عن صفات النقص فيرون أنّه تعالى لا يجهل شيئاً و لا يعجز عن شي‏ء و هكذا.

قوله تعالى: ( كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ ) قال في المجمع: و السفع الجذب الشديد يقال: سفعت بالشي‏ء إذا قبضت عليه و جذبته جذباً شديداً. انتهى، و في توصيف الناصية بالكذب و الخطإ و هما وصفا صاحب الناصية مجاز.

و في الكلام ردع و تهديد شديد، و المعنى ليس الأمر كما يقول و يريد أو ليس له ذلك. اُقسم لئن لم يكفّ عن نهيه و لم ينصرف لنأخذنّ بناصيته أخذ الذليل المهان و نجذبنّه إلى العذاب تلك الناصية الّتي صاحبها كاذب فيما يقول خاطئ فيما يفعل، و قيل: المعنى لنسمنّ ناصيته بالنار و نسوّدنّها.

قوله تعالى: ( فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ ) النادي المجلس و كأنّ المراد به أهل المجلس أي الجمع الّذين يجتمع بهم، و قيل: الجليس، و الزبانية الملائكة الموكّلون بالنار، و قيل: الزبانية في كلامهم الشرط، و الأمر تعجيزيّ اُشير به إلى شدّة الأخذ و المعنى فليدع هذا الناهي جمعه لينجّوه منّا سندع الزبانية الغلاظ الشداد الّذين لا ينفع معهم نصر ناصر.

قوله تعالى: ( كَلَّا لا تُطِعْهُ وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ ) تكرار الردع للتأكيد، و قوله:( لا تُطِعْهُ ) أي لا تطعه في النهي عن الصلاة و هي القرينة على أنّ المراد بالسجود الصلاة، و لعلّ الصلاة الّتي كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأتي بها يومئذ كانت تسبيحه تعالى و السجود له

٤٦٤

و قيل: المراد به السجود لقراءة هذه السورة الّتي هي إحدى العزائم الأربع في القرآن.

و الاقتراب التقرّب إلى الله، و قيل: الاقتراب من ثواب الله تعالى.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج عبد الرزّاق و أحمد و عبد بن حميد و البخاريّ و مسلم و ابن جرير و ابن الأنباريّ في المصاحف و ابن مردويه و البيهقيّ من طريق ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنّها قالت: أوّل ما بدئ به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح.

ثمّ حبّب إليه الخلاء و كان يخلو بغار حراء فيتحنّث فيه و هو التعبّد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله و يتزوّد لذلك ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتّى جاءه الحقّ و هو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ قال: قلت: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطّني حتّى بلغ منّي الجهد ثمّ أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ قال: فأخذني فغطّني الثانية حتّى بلغ منّي الجهد ثمّ أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطّني الثالثة حتّى بلغ منّي الجهد ثمّ أرسلني فقال:( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ) الآية.

فرجع بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زمّلوني زمّلوني فزمّلوه حتّى ذهب عنه الروع فقال لخديجة و أخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي فقالت خديجة: كلّا ما يخزيك الله أبداً إنّك لتصل الرحم و تحمل الكلّ و تكسب(١) المعدوم و تقري الضيف و تعين على نوائب الحق(٢) .

____________________

(١) تكسي ط.

(٢) الخلق ط.

٤٦٥

فانطلقت به خديجة حتّى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى ابن عمّ خديجة و كان امرأ قد تنصّر في الجاهليّة، و كان يكتب الكتاب العبرانيّ فيكتب من الإنجيل بالعبرانيّة ما شاء الله أن يكتب، و كان شيخاً كبيراً قد عمي فقالت له خديجة: يا ابن عمّ اسمع من ابن أخيك.

فقال له ورقة: يا ابن أخي ما ذا ترى؟ فأخبره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خبر ما رأى فقال له ورقة: هذا الناموس الّذي أنزل الله على موسى! يا ليتني أكون فيها جذعاً يا ليتني أكون فيها حيّاً إذ يخرجك قومك فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أ و مخرجيّ هم؟ قال: نعم لم يأت رجل قطّ بمثل ما جئت به إلّا عودي، و إن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً ثمّ لم ينشب ورقة أن توفي و فتر الوحي.

قال ابن شهاب: و أخبرني أبوسلمة بن عبد الرحمن أنّ جابر بن عبدالله الأنصاري قال و هو يحدّث عن فترة الوحي فقال في حديثه: بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الّذي جاءني بحراء جالس على كرسيّ بين السماء و الأرض فرعبت منه فرجعت فقلت: زمّلوني زمّلوني فأنزل الله:( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) فحمي الوحي و تتابع.

و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير و أبو نعيم في الدلائل عن عبدالله بن شدّاد قال: أتى جبريل محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا محمّد اقرأ. قال: و ما أقرأ فضمّه ثمّ قال: يا محمّد اقرأ. قال: و ما أقرأ. قال:( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) . حتّى بلغ( ما لَمْ يَعْلَمْ ) .

فجاء إلى خديجة فقال: يا خديجة ما أراه إلّا قد عرض لي قالت: كلّا و الله ما كان ربّك يفعل ذلك بك و ما أتيت فاحشة قطّ فأتت خديجة ورقة فأخبرته الخبر قال: لئن كنت صادقة إنّ زوجك لنبيّ و ليلقينّ من اُمّته شدّة و لئن أدركته لاُؤمننّ به.

قال: ثمّ أبطأ عليه جبريل فقالت خديجة: ما أرى ربّك إلّا قد قلاك فأنزل الله( وَ الضُّحى‏ وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى‏ ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى) .

٤٦٦

أقول: و في رواية: أنّ الّذي ألقاه جبريل سورة الحمد.

و القصّة لا تخلو من شي‏ء و أهون ما فيها من الإشكال شكّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كون ما شاهده وحياً إلهيّاً من ملك سماويّ ألقى إليه كلام الله و تردّده بل ظنّه أنّه من مسّ الشياطين بالجنون، و أشكل منه سكون نفسه في كونه نبوّة إلى قول رجل نصرانيّ مترهّب و قد قال تعالى:( قُلْ إِنِّي عَلى‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ) الأنعام: ٥٧ و أي حجّة بيّنة في قول ورقة؟ و قال تعالى:( قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى‏ بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي ) فهل بصيرتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي سكون نفسه إلى قول ورقة؟ و بصيرة من اتّبعه سكون أنفسهم إلى سكون نفسه إلى ما لا حجّة فيه قاطعة؟ و قال تعالى:( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) النساء: ١٦٣ فهل كان اعتمادهم في نبوّتهم على مثل ما تقصّه هذه القصّة؟

و الحقّ أنّ وحي النبوّة و الرسالة يلازم اليقين من النبيّ و الرسول بكونه من الله تعالى على ما ورد عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

و في المجمع: في قوله:( أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى‏ ) الآية إنّ أبا جهل قال: هل يعفر محمّد وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم. قال: فبالّذي يحلف به لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ رقبته فقيل له: ها هو ذلك يصلّي فانطلق ليطأ على رقبته فما فجأهم إلّا و هو ينكص على عقبيه و يتّقي بيديه فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: إنّ بيني و بينه خندقاً من نار و هؤلاء أجنحة، و قال نبيّ الله: و الّذي نفسي بيده لو دنا منّي لاختطفته الملائكة عضواً عضواً فأنزل الله( أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى‏ ) إلى آخر السورة. رواه مسلم في الصحيح.

و في تفسير القمّيّ: في الآية: كان الوليد بن المغيرة ينهى الناس عن الصلاة و أن يطاع الله و رسوله فقال الله:( أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى‏ عَبْداً إِذا صَلَّى ) .

أقول: مفاده لا يلائم ظهور سياق الآيات في كون المصلّي هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في المجمع، في الحديث عن عبدالله بن مسعود أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: أقرب ما يكون العبد من الله إذا كان ساجداً.

٤٦٧

و في الكافي، بإسناده إلى الوشّاء قال: سمعت الرضاعليه‌السلام يقول: أقرب ما يكون العبد من الله و هو ساجد و ذلك قوله:( وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ ) .

و في المجمع، روى عبدالله بن سنان عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: العزائم الم التنزيل و حم السجدة و النجم إذا هوى و اقرأ باسم ربّك، و ما عداها في جميع القرآن مسنون و ليس بمفروض.

٤٦٨

( سورة القدر مكّيّة و هي خمس آيات)

( سورة القدر الآيات ١ - ٥)

بِّسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ( ١ ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ( ٢ ) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ( ٣ ) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ( ٤ ) سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ ( ٥ )

( بيان‏)

تذكر السورة إنزال القرآن في ليلة القدر و تعظّم الليلة بتفضيلها على ألف شهر و تنزّل الملائكة و الروح فيها، و السورة تحتمل المكّيّة و المدنيّة و لا يخلو بعض(١) ما روي في سبب نزولها عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام و غيرهم من تأييد لكونها مدنيّة.

قوله تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ضمير( أَنْزَلْناهُ ) للقرآن و ظاهره جملة الكتاب العزيز لا بعض آياته و يؤيّده التعبير بالإنزال الظاهر في اعتبار الدفعة دون التنزيل الظاهر في التدريج.

و في معنى الآية قوله تعالى:( وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) الدخان: ٣ و ظاهره الإقسام بجملة الكتاب المبين ثمّ الإخبار عن إنزال ما اُقسم به جملة.

فمدلول الآيات أنّ للقرآن نزولاً جملياً على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير نزوله التدريجيّ الّذي تمّ في مدّة ثلاث و عشرين سنة كما يشير إليه قوله:( وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ

____________________

(١) و هو ما دلّ على أنّ السورة بعد رؤيا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ بني اُميّة يصعدون منبره فاغتم فسلاه الله بها.

٤٦٩

عَلَى النَّاسِ عَلى‏ مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا ) إسراء: ١٠٦ و قوله:( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا ) الفرقان: ٣٢.

فلا يعبأ بما قيل: إنّ معنى قوله:( أَنْزَلْناهُ ) ابتدأنا بإنزاله و المراد إنزال بعض القرآن.

و ليس في كلامه تعالى ما يبيّن أنّ الليلة أيّة ليلة هي غير ما في قوله تعالى:( شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) البقرة: ١٨٥ فإنّ الآية بانضمامها إلى آية القدر تدلّ على أنّ الليلة من ليالي شهر رمضان. و أمّا تعيينها أزيد من ذلك فمستفاد من الأخبار و سيجي‏ء بعض ما يتعلّق به في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله.

و قد سمّاها الله تعالى ليلة القدر، و الظاهر أنّ المراد بالقدر التقدير فهي ليلة التقدير يقدّر الله فيها حوادث السنة من الليلة إلى مثلها من قابل من حياة و موت و رزق و سعادة و شقاء و غير ذلك كما يدلّ عليه قوله في سورة الدخان في صفة الليلة:( فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) الدخان: ٦ فليس فرق الأمر الحكيم إلّا أحكام الحادثة الواقعة بخصوصياتها بالتقدير.

و يستفاد من ذلك أنّ الليلة متكرّرة بتكرّر السنين ففي شهر رمضان من كلّ سنة قمريّة ليلة تقدّر فيها اُمور السنة من الليلة إلى مثلها من قابل إذ لا معنى لفرض ليلة واحدة بعينها أو ليال معدودة في طول الزمان تقدّر فيها الحوادث الواقعة الّتي قبلها و الّتي بعدها و إن صحّ فرض واحدة من ليالي القدر المتكرّرة ينزل فيها القرآن جملة واحدة.

على أنّ قوله:( يُفْرَقُ ) - و هو فعل مضارع - ظاهر في الاستمرار، و قوله:( خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) و( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ ) إلخ يؤيّد ذلك.

فلا وجه لما قيل: إنّها كانت ليلة واحدة بعينها نزل فيها القرآن من غير أن يتكرّر، و كذا ما قيل: إنّها كانت تتكرّر بتكرّر السنين في زمن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ رفعها الله، و كذا ما قيل: إنّها واحدة بعينها في جميع السنة و كذا ما قيل: إنّها في

٤٧٠

جميع السنة غير أنّها تتبدّل بتكرّر السنين فسنة في شهر رمضان و سنة في شعبان و سنة في غيرهما.

و قيل: القدر بمعنى المنزلة و إنّما سمّيت ليلة القدر للاهتمام بمنزلتها أو منزلة المتعبّدين فيها، و قيل: القدر بمعنى الضيق و سمّيت ليلة القدر لضيق الأرض فيها بنزول الملائكة. و الوجهان كما ترى.

فمحصّل الآيات - كما ترى - أنّها ليلة بعينها من شهر رمضان من كلّ سنة فيها أحكام الاُمور بحسب التقدير، و لا ينافي ذلك وقوع التغيّر فيها بحسب التحقّق في ظرف السنة فإنّ التغيّر في كيفيّة تحقّق المقدّر أمر و التغيّر في التقدير أمر آخر كما أنّ إمكان التغيّر في الحوادث الكونيّة بحسب المشيّة الإلهيّة لا ينافي تعيّنها في اللوح المحفوظ قال تعالى:( وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) الرعد: ٣٩.

على أنّ لاستحكام الاُمور بحسب تحقّقها مراتب من حيث حضور أسبابها و شرائطها تامّة و ناقصة و من المحتمل أن تقع في ليلة القدر بعض مراتب الإحكام و يتأخّر تمام الإحكام إلى وقت آخر لكنّ الروايات كما ستأتي لا تلائم هذا الوجه.

قوله تعالى: ( وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) كناية عن جلالة قدر الليلة و عظم منزلتها و يؤكّد ذلك إظهار الاسم مرّة بعد مرّة حيث قيل:( ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ ) و لم يقل: و ما أدراك ما هي هي خير.

قوله تعالى: ( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) بيان إجماليّ لما اُشير إليه بقوله:( وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) من فخامة أمر الليلة.

و المراد بكونها خيراً من ألف شهر خيريّتها منها من حيث فضيلة العبادة على ما فسّره المفسّرون و هو المناسب لغرض القرآن و عنايته بتقريب الناس إلى الله فإحياؤها بالعبادة خير من عبادة ألف شهر، و يمكن أن يستفاد ذلك من المباركة المذكورة في سورة الدخان في قوله:( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) و هناك معنى آخر سيأتي في البحث الروائي التالي إن شاء الله.

قوله تعالى: ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) تنزّل

٤٧١

أصله تتنزّل، و الظاهر من الروح هو الروح الّذي من الأمر قال تعالى:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) إسراء: ٨٥ و الإذن في الشي‏ء الرخصة فيه و هو إعلام عدم المانع منه.

و( مِنْ ) في قوله:( مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) قيل: بمعنى الباء و قيل: لابتداء الغاية و تفيد السببيّة أي بسبب كلّ أمر إلهي، و قيل: للتعليل بالغاية أي لأجل تدبير كلّ أمر من الاُمور و الحقّ أنّ المراد بالأمر إن كان هو الأمر الإلهيّ المفسّر بقوله( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ ) يس: ٨٢ فمن للابتلاء و تفيد السببيّة و المعنى تتنزّل الملائكة و الروح في ليلة القدر بإذن ربّهم مبتدأ تنزّلهم و صادراً من كلّ أمر إلهيّ.

و إن كان هو الأمر من الاُمور الكونيّة و الحوادث الواقعة فمن بمعنى اللّام التعليليّة و المعنى تتنزّل الملائكة و الروح في الليلة بإذن ربّهم لأجل تدبير كلّ أمر من الاُمور الكونيّة.

قوله تعالى: ( سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ) قال في المفردات: السلام و السلامة التعرّي من الآفات الظاهرة و الباطنة انتهى فيكون قوله:( سَلامٌ هِيَ ) إشارة إلى العناية الإلهيّة بشمول الرحمة لعباده المقبلين إليه و سدّ باب نقمة جديدة تختصّ بالليلة و يلزمه بالطبع وهن كيد الشياطين كما اُشير إليه في بعض الروايات.

و قيل: المراد به أنّ الملائكة يسلّمون على من مرّوا به من المؤمنين المتعبّدين و مرجعه إلى ما تقدّم.

و الآيتان أعني قوله:( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ ) إلى آخر السورة في معنى التفسير لقوله:( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) .

٤٧٢

( بحث روائي‏)

في تفسير البرهان، عن الشيخ الطوسيّ عن أبي ذرّ قال: قلت يا رسول الله ليلة القدر شي‏ء يكون على عهد الأنبياء ينزل عليهم فيها الأمر فإذا مضوا رفعت؟ قال: لا بل هي إلى يوم القيامة.

أقول: و في معناه غير واحد من الروايات من طرق أهل السنّة.

و في المجمع، و عن حمّاد بن عثمان عن حسّان بن أبي عليّ قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن ليلة القدر قال: اطلبها في تسع عشرة و إحدى و عشرين و ثلاث و عشرين.

أقول: و في معناه غيرها، و في بعض الأخبار الترديد بين ليلتين الإحدى و العشرين و الثلاث و العشرين كرواية العيّاشيّ عن عبد الواحد عن الباقرعليه‌السلام و يستفاد من روايات أنّها ليلة ثلاث و عشرين و إنّما لم يعيّن تعظيماً لأمرها أن لا يستهان بها بارتكاب المعاصي.

و فيه، أيضاً في رواية عبدالله بن بكير عن زرارة عن أحدهماعليهما‌السلام قال: ليلة ثلاث و عشرين هي ليلة الجهنيّ، و حديثه أنّه قال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . إنّ منزلي نائي عن المدينة فمرني بليلة أدخل فيها فأمره بليلة ثلاث و عشرين.

أقول: و حديث الجهنيّ و اسمه عبدالله بن أنيس الأنصاريّ مرويّ من طرق أهل السنّة أيضاً أورده في الدرّ المنثور، عن مالك و البيهقيّ.

و في الكافي، بإسناده عن زرارة قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : التقدير في تسع عشرة، و الإبرام في ليلة إحدى و عشرين، و الإمضاء في ليلة ثلاث و عشرين.

أقول: و في معناها روايات اُخر.

فقد اتّفقت أخبار أهل البيتعليهم‌السلام أنّها باقية متكرّرة كلّ سنة، و أنّها ليلة من ليالي شهر رمضان و أنّها إحدى الليالي الثلاث.

و أمّا من طرق أهل السنّة فقد اختلفت الروايات اختلافاً عجيباً يكاد لا يضبط

٤٧٣

و المعروف عندهم أنّها ليلة سبع و عشرون فيها نزل القرآن، و من أراد الحصول عليها فليراجع الدرّ المنثور و سائر الجوامع.

و في الدرّ المنثور، أخرج الخطيب عن ابن المسيّب قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اُريت بني اُميّة يصعدون منبري فشقّ ذلك عليّ فأنزل الله إنّا أنزلناه في ليلة القدر.

أقول: و روي أيضاً مثله عن الخطيب في تاريخه، عن ابن عبّاس‏، و أيضاً ما في معناه عن الترمذيّ و ابن جرير و الطبرانيّ و ابن مردويه و البيهقيّ عن الحسن بن عليّ و هناك روايات كثيرة في هذا المعنى من طرق الشيعة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام و فيها أنّ الله تعالى سلّى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإعطاء ليلة القدر و جعلها خيراً من ألف شهر و هي مدّة ملك بني اُميّة.

و في الكافي، بإسناده عن ابن أبي عمير عن غير واحد عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال له بعض أصحابنا و لا أعلمه إلّا سعيد السمّان: كيف تكون ليلة القدر خيراً من ألف شهر؟ قال: العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.

و فيه، بإسناده عن الفضيل و زرارة و محمّد بن مسلم عن حمران أنّه سأل أبا جعفرعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) قال: نعم ليلة القدر و هي في كلّ سنة في شهر رمضان في العشر الأواخر فلم ينزل القرآن إلّا في ليلة القدر قال الله عزّوجلّ:( فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) .

قال: يقدّر في ليلة القدر كلّ شي‏ء يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل: خير و شرّ طاعة و معصية و مولود و أجل أو رزق فما قدّر في تلك الليلة و قضي فهو المحتوم و لله عزّوجلّ فيه المشيّة.

قال: قلت:( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) أيّ شي‏ء عنى بذلك؟ فقال: و العمل الصالح فيها من الصلاة و الزكاة و أنواع الخير خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، و لو لا ما يضاعف الله تبارك و تعالى للمؤمنين ما بلغوا و لكنّ الله يضاعف لهم الحسنات.

أقول: و قوله: و لله فيه المشيّة يريد به إطلاق قدرته تعالى فله أن يشاء ما يشاء

٤٧٤

و إن حتم فإنّ إيجابه الأمر لا يقيّد القدرة المطلقة فله أن ينقض القضاء المحتوم و إن كان لا يشاء ذلك أبداً.

و في المجمع، روى ابن عبّاس عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: إذا كان ليلة القدر تنزّل الملائكة الّذين هم سكّان سدرة المنتهى و منهم جبرائيل فينزل جبرائيل و معه ألوية ينصب لواء منها على قبري و لواء على بيت المقدس و لواء في المسجد الحرام و لواء على طور سيناء و لا يدع فيها مؤمناً و لا مؤمنة إلّا سلّم عليه إلّا مدمن خمر و آكل لحم الخنزير(١) و المتضمّخ بالزعفران.

و في تفسير البرهان، عن سعد بن عبدالله بإسناده عن أبي بصير قال: كنت مع أبي عبداللهعليه‌السلام فذكر شيئاً من أمر الإمام إذا ولد فقال: استوجب زيادة الروح في ليلة القدر فقلت: جعلت فداك أ ليس الروح هو جبرئيل؟ فقال: جبرئيل من الملائكة و الروح أعظم من الملائكة أ ليس أنّ الله عزّوجلّ يقول:( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ ) .

أقول: و الروايات في ليلة القدر و فضلها كثيرة جدّاً، و قد ذكرت في بعضها لها علامات ليست بدائمة و لا أكثريّة كطلوع الشمس صبيحتها و لا شعاع لها و اعتدال الهواء فيها أغمضنا عنها.

____________________

(١) تضمّخ بالطيب تلطخ به.

٤٧٥

( سورة البيّنة مدنيّة و هي ثمان آيات)

( سورة البيّنة الآيات ١ - ٨)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ( ١ ) رَسُولٌ مِّنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً ( ٢ ) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ( ٣ ) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ( ٤ ) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ( ٥ ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ( ٦ ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ( ٧ ) جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ( ٨ )

( بيان‏)

تسجّل السورة رسالة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعامّة أهل الكتاب و المشركين و بعبارة اُخرى للملّيّين و غيرهم و هم عامّة البشر فتفيد عموم الرسالة و أنّها ممّا كانت تقتضيه السنّة الإلهيّة - سنّة الهداية - الّتي تشير إليها أمثال قوله تعالى:( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً ) الإنسان: ٣، و قوله:( وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ )

٤٧٦

فاطر: ٢٤، و تحتجّ على عموم دعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّها لا تتضمّن إلّا ما يصلح المجتمع الإنسانيّ من الاعتقاد و العمل على ما سيتّضح إن شاء الله.

و السورة تحتمل المكّيّة و المدنيّة و إن كان سياقها بالمدنيّة أشبه.

قوله تعالى: ( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ) ظاهر الآيات - و هي في سياق يشير إلى قيام الحجّة على الّذين كفروا بالدعوة الإسلاميّة من أهل الكتاب و المشركين و على الّذين اُوتوا الكتاب حينما بدا فيهم الاختلاف - أنّ المراد هو الإشارة إلى أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مصاديق الحجّة البيّنة القائمة على الناس الّتي تقتضي قيامها السنّة الإلهيّة الجارية في عباده فقد كانت توجب مجي‏ء البيّنة إليهم كما أوجبته من قبل ما تفرّقوا في دينهم.

و على هذا فالمراد بالّذين كفروا في الآية هم الكافرون بالدعوة النبويّة الإسلاميّة من أهل الكتاب و المشركين، و( مِنْ ) في قوله:( مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ) للتبعيض لا للتبيين، و قوله: و( الْمُشْرِكِينَ ) عطف على( أَهْلِ الْكِتابِ ) و المراد بهم غير أهل الكتاب من عبدة الأصنام و غيرهم.

و قوله:( مُنْفَكِّينَ ) من الانفكاك و هو الانفصال عن شدّة اتّصال، و المراد به - على ما يستفاد من قوله:( حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ) - انفكاكهم عمّا تقتضي سنّة الهداية و البيان كأنّ السنّة الإلهيّة كانت قد أخذتهم و لم تكن تتركهم حتّى تأتيهم البيّنة و لما أتتهم البيّنة تركتهم و شأنهم كما قال تعالى:( وَ ما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ) التوبة: ١١٥.

و قوله:( حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ) على ظاهره من الاستقبال و البيّنة هي الحجّة الظاهرة و المعنى لم يكن الّذين كفروا برسالة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو بدعوته أو بالقرآن لينفكّوا حتّى تأتيهم البيّنة و البيّنة هي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و للقوم اختلاف عجيب في تفسير الآية و معاني مفرداتها حتّى قال بعضهم - على ما نقل -: إنّ الآية من أصعب الآيات القرآنيّة نظماً و تفسيراً. انتهى، و الّذي أوردناه من المعنى هو الّذي يلائمه سياقها من غير تناقض بين الآيات و تدافع بين

٤٧٧

الجمل و المفردات، و من أراد الاطّلاع على تفصيل ما قيل و يقال فعليه أن يراجع المطوّلات.

قوله تعالى: ( رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ) بيان للبيّنة و المراد به محمّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قطعاً على ما يعطيه السياق.

و الصحف جمع صحيفة و هي ما يكتب فيها، و المراد بها أجزاء القرآن النازلة و قد تكرّر في كلامه تعالى إطلاق الصحف على أجزاء الكتب السماويّة و منها القرآن الكريم قال تعالى:( فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ ) عبس: ١٦.

و المراد بكون الصحف مطهّرة تقدّسها من قذارة الباطل بمسّ الشياطين، و قد تكرّر منه تعالى أنّه حقّ مصون من مداخلة الشياطين و قال:( لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) الواقعة: ٧٩.

و قوله:( فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ) الكتب جمع كتاب و معناه المكتوب و يطلق على اللوح و القرطاس و نحوهما المنقوشة فيها الألفاظ و على نفس الألفاظ الّتي تحكي عنها النقوش، و ربّما يطلق على المعاني بما أنّها محكيّة بالألفاظ، و يطلق أيضاً على الحكم و القضاء يقال كتب عليه كذا أي قضى أن يفعل كذا قال تعالى:( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ) البقرة: ١٨٣ و قال:( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ ) البقرة: ٢١٦.

و الظاهر أنّ المراد بالكتب الّتي في الصحف الأحكام و القضايا الإلهيّة المتعلّقة بالاعتقاد و العمل، و من الدليل عليه توصيفها بالقيّمة فإنّها من القيام بالشي‏ء بمعنى حفظه و مراعاة مصلحته و ضمان سعادته قال تعالى:( أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) يوسف: ٤٠، و معلوم أنّ الصحف السماويّة إنّما تقوم بأمر المجتمع الإنسانيّ و تحفظ مصلحته بما فيها من الأحكام و القضايا المتعلّقة بالاعتقاد و العمل.

فمعنى الآيتين: الحجّة البيّنة الّتي أتتهم رسول من الله يقرأ صحائف سماويّة مطهّرة من دنس الباطل في تلك الصحائف أحكام و قضايا قائمة بأمر المجتمع الإنسانيّ حافظة لمصالحه.

٤٧٨

قوله تعالى: ( وَ ما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ) كانت الآية الاُولى( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ) إلخ تشير إلى كفرهم بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و كتابه المتضمّن للدعوة الحقّة و هذه الآية تشير إلى اختلافهم السابق على الدعوة الإسلاميّة و قد اُشير إلى ذلك في مواضع من القرآن الكريم كما قال تعالى:( وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ) آل عمران: ١٩ إلى غير ذلك من الآيات.

و مجي‏ء البيّنة لهم هو البيان النبويّ الّذي تبيّن لهم في كتابهم أو أوضحه لهم أنبياؤهم قال تعالى:( وَ لَمَّا جاءَ عِيسى‏ بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَ أَطِيعُونِ إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ ) الزخرف: ٦٥.

فإن قلت: ما باله تعرّض لاختلاف أهل الكتاب و تفرّقهم في مذاهبهم و لم يتعرّض لتفرّق المشركين و إعراضهم عن دين التوحيد و إنكارهم الرسالة.

قلت: لا يبعد أن يكون قوله:( وَ ما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) إلخ شاملاً للمشركين كما هو شامل لأهل الكتاب فقد بدّل أهل الكتاب - و هم في عرف القرآن اليهود و النصارى و الصابئون و المجوس أو اليهود و النصارى - من الّذين اُوتوا الكتاب، و التعبيران متغايران، و قد صرّح تعالى بأنّه أنزل الكتاب - و هو الشريعة المفروضة عليهم الحاكمة في اختلافاتهم في اُمور الحياة - أوّل ما بدا الاختلافات الحيويّة بينهم ثمّ اختلفوا في الدين بعد تبيّن الحقّ لهم و قيام الحجّة عليهم فعامّة البشر آتاهم الله كتاباً ثمّ اختلفوا فيه فمنهم من نسي ما اُوتيه، و منهم من أخذ به محرّفاً و منهم من حفظه و آمن به، قال تعالى:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ) البقرة: ٢١٣ و قد مرّ تفسير الآية.

و في هذا المعنى قوله تعالى:( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ - إلى أن

٤٧٩

قال -وَ لَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ ) البقرة: ٢٥٣.

و بالجملة فالّذين اُوتوا الكتاب أعمّ من أهل الكتاب فقوله:( وَ ما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) إلخ يشمل المشركين كما يشمل أهل الكتاب.

قوله تعالى: ( وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ ) إلخ ضمير( أُمِرُوا ) للّذين كفروا من أهل الكتاب و المشركين أي لم يتضمّن رسالة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الكتب القيّمة الّتي في صحف الوحي إلّا أمرهم بعبادة الله تعالى بقيد الإخلاص في الدين فلا يشركوا به شيئاً.

و قوله:( حُنَفاءَ ) حال من ضمير الجمع و هو جمع حنيف من الحنف و هو الميل عن جانبي الإفراط و التفريط إلى حاقّ وسط الاعتدال و قد سمّى الله تعالى الإسلام ديناً حنيفاً لأنّه يأمر في جميع الاُمور بلزوم الاعتدال و التحرّز عن الإفراط و تفريط.

و قوله:( وَ يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَ يُؤْتُوا الزَّكاةَ) من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ أو الجزء بعد الكلّ اهتماماً بأمره فالصلاة و الزكاة على أركان الإسلام و هما التوجّه العبوديّ الخاصّ إلى الله و إنفاق المال في الله.

و قوله:( وَ ذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) أي دين الكتب القيّمة على ما فسّروا، و المراد بالكتب القيّمة إن كان جميع الكتب السماويّة أعني كتاب نوح و من دونه من الأنبياءعليهم‌السلام فالمعنى أنّ هذا الّذي اُمروا به و دعوا إليه في الدعوة المحمّديّة هو الدين الّذي كلّفوا به في كتبهم القيّمة و ليس بأمر بدع فدين الله واحد و عليهم أن يدينوا به لأنّه القيّم.

و إن كان المراد به ما كان يتلوه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الكتب القيّمة الّتي في الصحف المطهّرة فالمعنى أنّهم لم يؤمروا في الدعوة الإسلاميّة إلّا بأحكام و قضايا هي القيّمة الحافظة لمصالح المجتمع الإنسانيّ فلا يسعهم إلّا أن يؤمنوا بها و يتديّنوا.

فالآية على أيّ حال تشير إلى كون دين التوحيد الّذي يتضمّنه القرآن

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568