الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن6%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219889 / تحميل: 7011
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

الكريم المصدّق لما بين يديه من الكتاب و المهيمن(١) عليه فيما يأمر المجتمع البشري قائماً بأمرهم حافظاً لمصالح حياتهم كما يبيّنه بأوفى البيان قوله تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) الروم: ٣٠.

و بهذه الآية يكمل بيان عموم رسالة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و شمول الدعوة الإسلاميّة لعامّة البشر فقوله:( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ ) إلخ يشير إلى أنّه كان من الواجب في سنّة الهداية الإلهيّة أن تتمّ الحجّة على من كفر بالدعوة من أهل الكتاب و المشركين، و هؤلاء و إن كانوا بعض أهل الكتاب و المشركين لكن من الضروريّ أن لا فرق بين البعض و البعض في تعلّق الدعوة فتعلّقها بالبعض لا ينفكّ عن تعلّقها بالكلّ.

و قوله:( رَسُولٌ مِنَ اللهِ ) إلخ يشير إلى أنّ تلك البيّنة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قوله:( وَ ما تَفَرَّقَ ) إلخ يشير إلى أنّ تفرّقهم و كفرهم السابق بالحقّ أيضاً كان بعد مجي‏ء البيّنة.

و قوله:( وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ ) إلخ يفيد أنّ الّذي دعوا إليه و اُمروا به دين قيّم حافظ لمصالح المجتمع البشريّ فعليهم جميعاً أن يؤمنوا به و لا يكفروا.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ) لمّا فرغ من الإشارة إلى كفرهم بالبيّنة الّتي كانت توجبها سنّة الهداية الإلهيّة و ما كانت تدعو إليه من الدين القيّم أخذ في الإنذار و التبشير بوعيد الكفّار و وعد المؤمنين، و البريّة الخلق، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) فيه قصر الخيريّة في المؤمنين الصالحين كما أنّ في الآية السابقة قصر الشرّيّة في الكفّار.

____________________

(١) سورة المائدة، آية ٤٨.

٤٨١

قوله تعالى: ( جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ - إلى قوله -ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ) العدن الاستقرار و الثبات فجنّات عدن جنّات خلود و دوام و توصيفها بقوله:( خالِدِينَ فِيها أَبَداً ) تأكيد بما يدلّ عليه الاسم.

و قوله:( رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ) الرضى منه تعالى صفة فعل و مصداقه الثواب الّذي أعطاهموه جزاء لإيمانهم و عملهم الصالح.

و قوله:( ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ) علامة مضروبة لسعادة الدار الآخرة و قد قال تعالى:( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) فاطر: ٢٨ فالعلم بالله يستتبع الخشية منه، و الخشية منه تستتبع الإيمان به بمعنى الالتزام القلبي بربوبيّته و اُلوهيّته ثمّ العمل الصالح.

و اعلم أنّ لهم في تفسير مفردات هذه الآيات اختلافاً شديداً و أقوالاً كثيرة لا جدوى في التعرّض لها من أراد الوقوف عليها فليراجع المطوّلات.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: البيّنة محمّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله من أكرم الخلق على الله؟ قال: يا عائشة أ ما تقرئين( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) ؟

و فيه، أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبدالله قال: كنّا عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأقبل عليّ فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و الّذي نفسي بيده إنّ هذا و شيعته لهم الفائزون يوم القيامة و نزلت:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) فكان أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أقبل عليّ قالوا: جاء خير البريّة.

أقول: و روي هذا المعنى أيضاً عن ابن عديّ عن ابن عبّاس، و أيضاً عن ابن

٤٨٢

مردويه عن عليّعليه‌السلام و رواه أيضاً في البرهان، عن الموفّق بن أحمد في كتاب المناقب عن يزيد بن شراحيل الأنصاريّ كاتب عليّ عنه، و كذا في المجمع، عن كتاب شواهد التنزيل للحاكم عن يزيد بن شراحيل عنه، و لفظه: سمعت عليّا يقول: قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أنا مسنده إلى صدري فقال: يا عليّ أ لم تسمع قول الله:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) هم شيعتك و موعدي و موعدكم الحوض إذا اجتمع الاُمم للحساب يدعون غرّاً محجّلين.

و في المجمع، عن مقاتل بن سليمان عن الضحّاك عن ابن عبّاس في قوله:( هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) قال: نزلت في عليّ و أهل بيته.

٤٨٣

( سورة الزلزال مدنيّة و هي ثمان آيات)

( سورة الزلزلة الآيات ١ - ٨)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ( ١ ) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ( ٢ ) وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا ( ٣ ) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ( ٤ ) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا ( ٥ ) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ( ٦ ) فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ( ٧ ) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ( ٨ )

( بيان‏)

ذكر للقيامة و صدور الناس للجزاء و إشارة إلى بعض أشراطها و هي زلزلة الأرض و تحديثها أخبارها. و السورة تحتمل المكّيّة و المدنيّة.

قوله تعالى: ( إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها ) الزلزال مصدر كالزلزلة، و إضافته إلى ضمير الأرض تفيد الاختصاص، و المعنى إذا زلزلت الأرض زلزلتها الخاصّة بها فتفيد التعظيم و التفخيم أي إنّها منتهية في الشدّة و الهول.

قوله تعالى: ( وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ) الأثقال جمع ثقل بفتحتين بمعنى المتاع أو خصوص متاع المسافر أو جمع ثقل بالكسر فالسكون بمعنى الحمل، و على أيّ حال المراد بأثقالها الّتي تخرجها، الموتى على ما قيل أو الكنوز و المعادن الّتي في بطنها أو الجميع و لكلّ قائل و أوّل الوجوه أقربها ثمّ الثالث لتكون الآية إشارة إلى خروجهم للحساب، و قوله:( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ ) إشارة إلى انصرافهم إلى الجزاء.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الْإِنْسانُ ما لَها ) أي يقول مدهوشاً متعجّباً من تلك الزلزلة الشديدة الهائلة: ما للأرض تتزلزل هذا الزلزال، و قيل: المراد بالإنسان الكافر غير

٤٨٤

المؤمن بالبعث، و قيل غير ذلك كما سيجي‏ء.

قوله تعالى: ( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى‏ لَها ) فتشهد على أعمال بني آدم كما تشهد بها أعضاؤهم و كتاب الأعمال من الملائكة و شهداء الأعمال من البشر و غيرهم.

و قوله:( بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى‏ لَها ) اللّام بمعنى إلى لأنّ الإيحاء يتعدّى بإلى و المعنى تحدّث أخبارها بسبب أنّ ربّك أوحى إليها أن تحدّث فهي شاعرة بما يقع فيها من الأعمال خيرها و شرّها متحمّلة لها يؤذن لها يوم القيامة بالوحي أن تحدّث أخبارها و تشهد بما تحمّلت، و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) إسراء: ٤٤، و قوله:( قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ) حم السجدة: ٢١ أنّ المستفاد من كلامه سبحانه أنّ الحياة و الشعور ساريان في الأشياء و إن كنّا في غفلة من ذلك.

و قد اشتدّ الخلاف بينهم في معنى تحديث الأرض بالوحي أ هو بإعطاء الحياة و الشعور للأرض الميتة حتّى تخبر بما وقع فيها أو بخلق صوت عندها و عدّ ذلك تكلّماً منها أو دلالتها بلسان الحال بما وقع فيها من الأعمال، و لا محلّ لهذا الاختلاف بعد ما سمعت و لا أنّ الحجّة تتمّ على أحد بهذا النوع من الشهادة.

قوله تعالى: ( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ ) الصدور انصراف الإبل عن الماء بعد وروده، و أشتات كشتّى جمع شتيت بمعنى المتفرّق، و الآية جواب بعد جواب لإذا.

و المراد بصدور الناس متفرّقين يومئذ انصرافهم عن الموقف إلى منازلهم في الجنّة و النار و أهل السعادة و الفلاح منهم متميّزون من أهل الشقاء و الهلاك، و إراءتهم أعمالهم إراءتهم جزاء أعمالهم بالحلول فيه أو مشاهدتهم نفس أعمالهم بناء على تجسّم الأعمال.

و قيل: المراد به خروجهم من قبورهم إلى الموقف متفرّقين متميّزين بسواد الوجوه و بياضها و بالفزع و الأمن و غير ذلك لإعلامهم جزاء أعمالهم بالحساب و التعبير

٤٨٥

عن العلم بالجزاء بالرؤية و عن الاعلام بالإراءة نظير ما في قوله تعالى:( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ ) آل عمران: ٣٠، و الوجه الأوّل أقرب و أوضح.

قوله تعالى: ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) المثقال ما يوزن به الأثقال، و الذرّة ما يرى في شعاع الشمس من الهباء، و تقال لصغار النمل.

تفريع على ما تقدّم من إراءتهم أعمالهم، فيه تأكيد البيان في أنّه لا يستثني من الإراءة عمل خيراً أو شرّاً كبيراً أو صغيراً حتّى مثقال الذرّة من خير أو شرّ، و بيان حال كلّ من عمل الخير و الشرّ في جملة مستقلّة لغرض إعطاء الضابط و ضرب القاعدة.

و لا منافاة بين ما تدلّ عليه الآيتان من العموم و بين الآيات الدالّة على حبط الأعمال، و الدالّة على انتقال أعمال الخير و الشرّ من نفس إلى نفس كحسنات القاتل إلى المقتول و سيّئات المقتول إلى القاتل، و الدالّة على تبديل السيّئات حسنات في بعض التائبين إلى غير ذلك ممّا تقدّمت الإشارة إليه في بحث الأعمال في الجزء الثاني من الكتاب و كذا في تفسير قوله:( لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) الآية: الأنفال: ٣٧.

و ذلك لأنّ الآيات المذكورة حاكمة على هاتين الآيتين فإنّ من حبط عمله الخير محكوم بأنّه لم يعمل خيراً فلا عمل له خيراً حتّى يراه و على هذا القياس في غيره فافهم.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه و البيهقيّ في شعب الإيمان عن أنس بن مالك أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنّ الأرض لتخبر يوم القيامة بكلّ ما عمل على ظهرها و قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها ) حتّى بلغ( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها ) قال أ تدرون ما أخبارها؟ جاءني جبريل قال: خبرها إذا كان يوم القيامة أخبرت بكلّ عمل عمل على ظهرها.

أقول: و روي مثله عن أبي هريرة.

٤٨٦

و فيه، أخرج الحسين بن سفيان في مسنده و أبو نعيم في الحلية عن شدّاد بن أوس قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول:

أيّها الناس إنّ الدنيا عرض حاضر يأكل منه البرّ و الفاجر، و إنّ الآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قادر يحقّ فيها الحقّ و يبطل الباطل.

أيّها الناس كونوا من أبناء الآخرة و لا تكونوا من أبناء الدنيا فإنّ كلّ اُمّ يتبعها ولدها اعملوا و أنتم من الله على حذر، و اعلموا أنّكم معروضون على أعمالكم و أنّكم ملاقوا الله لا بدّ منه فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره و من يعمل مثقال ذرّة شرّاً يره.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ) قال: من الناس( وَ قالَ الْإِنْسانُ ما لَها ) قال: ذلك أميرالمؤمنينعليه‌السلام ( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها - إلى قوله -أَشْتاتاً ) قال: يجيئون أشتاتاً مؤمنين و كافرين و منافقين( لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ ) قال: يقفون على ما فعلوه.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ) يقول: إن كان من أهل النار قد عمل مثقال ذرّة في الدنيا خيراً (كان عليه ظ) يوم القيامة حسرة إن كان عمله لغير الله( وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) يقول: إن كان من أهل الجنّة راى ذلك الشرّ يوم القيامة ثمّ غفر له.

٤٨٧

( سورة العاديات مدنيّة و هي إحدى عشرة آية)

( سورة العاديات الآيات ١ - ١١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ( ١ ) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا ( ٢ ) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا ( ٣ ) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ( ٤ ) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا ( ٥ ) إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ( ٦ ) وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ لَشَهِيدٌ ( ٧ ) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ( ٨ ) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ ( ٩ ) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ ( ١٠ ) إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ ( ١١ )

( بيان‏)

تذكر السورة كفران الإنسان لنعم ربّه و حبّه الشديد للخير عن علم منه به و هو حجّة عليه و سيحاسب على ذلك.

و السورة مدنيّة بشهادة ما في صدرها من الإقسام بمثل قوله:( وَ الْعادِياتِ ضَبْحاً ) إلخ الظاهر في خيل الغزاة المجاهدين على ما سيجي‏ء، و إنّما شرّع الجهاد بعد الهجرة و يؤيّد ذلك ما ورد من طرق الشيعة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ السورة نزلت في عليّعليه‌السلام و سريّته في غزوة ذات السلاسل، و يؤيّده أيضاً بعض الروايات من طرق أهل السنّة على ما سنشير إليه في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله.

قوله تعالى: ( وَ الْعادِياتِ ضَبْحاً ) العاديات من العدو و هو الجري بسرعة و الضبح صوت أنفاس الخيل عند عدوها و هو المعهود المعروف من الخيل و إن ادّعي أنّه يعرض لكثير من الحيوان غيرها، و المعنى اُقسم بالخيل اللّاتي يعدون يضبحن ضبحاً.

و قيل: المراد بها إبل الحاج في ارتفاعها بركبانها من الجمع إلى منى يوم النحر،

٤٨٨

و قيل: إبل الغزاة، و ما في الآيات التالية من الصفات لا يلائم كون الإبل هو المراد بالعاديات.

قوله تعالى: ( فَالْمُورِياتِ قَدْحاً ) الإيراء إخراج النار و القدح الضرب و الصكّ المعروف يقال: قدح فأورى إذا أخرج النار بالقدح، و المراد بها الخيل تخرج النار بحوافرها إذا عدت على الحجارة و الأرض المحصبة.

و قيل: المراد بالإيراء مكر الرجال في الحرب، و قيل: إيقادهم النار، و قيل: الموريات ألسنة الرجال توري النار من عظيم ما تتكلّم به، و هي وجوه ظاهرة الضعف.

قوله تعالى: ( فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً ) الإغارة و الغارة الهجوم على العدوّ بغتة بالخيل و هي صفة أصحاب الخيل و نسبتها إلى الخيل مجاز، و المعنى فاُقسم بالخيل الهاجمات على العدوّ بغتة في وقت الصبح.

و قيل: المراد بها الآبال ترتفع بركبانها يوم النحر من جمع إلى منى و السنّة أن لا ترتفع حتّى تصبح، و الإغارة سرعة السير و هو خلاف ظاهر الإغارة.

قوله تعالى: ( فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً ) أثرن من الإثارة بمعنى تهييج الغبار و نحوه، و النقع الغبار، و المعنى فهيّجن بالعدو و الإغارة غباراً.

قيل: لا بأس بعطف( فَأَثَرْنَ ) و هو فعل على ما قبله و هو صفة لأنّه اسم فاعل و هو في معنى الفعل كأنّه قيل: اُقسم باللّاتي عدون فأورين فأغرن فأثرن.

قوله تعالى: ( فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً ) وسط و توسّط بمعنى، و ضمير( بِهِ ) للصبح و الباء بمعنى في أو الضمير للنقع و الباء للملابسة.

و المعنى فصرن في وقت الصبح في وسط جمع و المراد به كتيبة العدوّ أو المعنى فتوسّطن جمعاً ملابسين للنقع.

و قيل: المراد توسّط الآبال جمع منى و أنت خبير بأنّ حمل الآيات الخمس بما لمفرداتها من ظواهر المعاني على إبل الحاج الّذين يفيضون من جمع إلى منى خلاف ظاهرها جدّاً.

٤٨٩

فالمتعيّن حملها على خيل الغزاة و سياق الآيات و خاصّة قوله:( فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً ) ( فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً ) يعطي أنّها غزاة بعينها أقسم الله فيها بخيل المجاهدين العاديات و الفاء في الآيات الأربع تدلّ على ترتّب كلّ منها على ما قبلها.

قوله تعالى: ( إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ) الكنود الكفور، و الآية كقوله:( إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ ) الحجّ: ٦٦، و هو إخبار عمّا في طبع الإنسان من اتّباع الهوى و الانكباب على عرض الدنيا و الانقطاع به عن شكر ربّه على ما أنعم عليه.

و فيه تعريض للقوم المغار عليهم، و كأنّ المراد بكفرانهم كفرانهم بنعمة الإسلام الّتي أنعم الله بها عليهم و هي أعظم نعمة اُوتوها فيها طيب حياتهم الدنيا و سعادة حياتهم الأبديّة الاُخرى.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ عَلى‏ ذلِكَ لَشَهِيدٌ ) ظاهر اتّساق الضمائر أن يكون ضمير( وَ إِنَّهُ ) للإنسان فيكون المراد بكونه شهيداً على كفران نفسه بكفران نفسه علمه المذموم و تحمّله له.

فالمعنى و إنّ الإنسان على كفرانه بربّه شاهد متحمّل فالآية في معنى قوله:( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) القيامة: ١٤.

و قيل: الضمير لله و اتّساق الضمائر لا يلائمه.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) قيل: اللّام في( لِحُبِّ الْخَيْرِ ) للتعليل و الخير المال، و المعنى و إنّ الإنسان لأجل حبّ المال لشديد أي بخيل شحيح، و قيل: المراد أنّ الإنسان لشديد الحبّ للمال و يدعوه ذلك إلى الامتناع من إعطاء حقّ الله، و الإنفاق في الله. كذا فسّروا.

و لا يبعد أن يكون المراد بالخير مطلقة و يكون المراد أنّ حبّ الخير فطريّ للإنسان ثمّ إنّه يرى عرض الدنيا و زينتها خيراً فتنجذب إليه نفسه و ينسيه ذلك ربّه أن يشكره.

قوله تعالى: ( أَ فَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ - إلى قوله -لَخَبِيرٌ ) البعثرة كالبحثرة البعث و النشر، و تحصيل ما في الصدور تمييز ما في باطن النفوس من صفة

٤٩٠

الإيمان و الكفر و رسم الحسنة و السيّئة قال تعالى:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) الطارق: ٩، و قيل: هو إظهار ما أخفته الصدور لتجازى على السرّ كما تجازى على العلانية.

و قوله:( أَ فَلا يَعْلَمُ ) الاستفهام فيه للإنكار، و مفعول يعلم جملة قائمة مقام المفعولين يدلّ عليه المقام. ثمّ استؤنف فقيل: إذا بعثر ما في القبور إلخ تأكيداً للإنكار، و المراد بما في القبور الأبدان.

و المعنى - و الله أعلم - أ فلا يعلم الإنسان أنّ لكنوده و كفرانه بربّه تبعة ستلحقه و يجازى بها، إذا اُخرج ما في القبور من الأبدان و حصّل و ميّز ما في سرائر النفوس من الإيمان و الكفر و الطاعة و المعصية إنّ ربّهم بهم يومئذ لخبير فيجازيهم بما فيها.

( بحث روائي‏)

في المجمع: قيل: بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سريّة إلى حيّ من كنانة فاستعمل عليهم المنذر بن عمرو الأنصاريّ أحد النقباء فتأخّر رجوعهم فقال المنافقون: قتلوا جميعاً فأخبر الله تعالى عنها بقوله:( وَ الْعادِياتِ ضَبْحاً ) عن مقاتل.

و قيل: نزلت السورة لمّا بعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاًعليه‌السلام إلى ذات السلاسل فأوقع بهم و ذلك بعد أن بعث عليهم مراراً غيره من الصحابة فرجع كلّ منهم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . و هو المرويّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام في حديث طويل.

قال: و سمّيت هذه الغزوة ذات السلاسل لأنّه اُسر منهم و قتل و سبي و شدّ اُسراؤهم في الحبال مكتّفين كأنّهم في السلاسل.

و لما نزلت السورة خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الناس فصلّى بهم الغداة و قرأ فيها( وَ الْعادِياتِ ) فلمّا فرغ من صلاته قال أصحابه: هذه سورة لم نعرفها فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم إنّ عليّاً ظفر بأعداء الله و بشّرني بذلك جبريل في هذه الليلة فقدم عليّعليه‌السلام بعد أيّام بالغنائم و الاُسارى.

٤٩١

( سورة القارعة مكّيّة و هي إحدى عشرة آية)

( سورة القارعة الآيات ١ - ١١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْقَارِعَةُ ( ١ ) مَا الْقَارِعَةُ ( ٢ ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ( ٣ ) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ( ٤ ) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ ( ٥ ) فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ( ٦ ) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ( ٧ ) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ( ٨ ) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ( ٩ ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ( ١٠ ) نَارٌ حَامِيَةٌ ( ١١ )

( بيان‏)

إنذار و تبشير بالقيامة يغلب فيه جانب الإنذار، و السورة مكّيّة.

قوله تعالى: ( الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ ) مبتدأ و خبر، و القارعة من القرع و هو الضرب باعتماد شديد، و هي من أسماء القيامة في القرآن. قيل: سمّيت بها لأنّها تقرع القلوب بالفزع و تقرع أعداء الله بالعذاب.

و السؤال عن حقيقة القارعة في قوله:( مَا الْقارِعَةُ ) مع كونها معلومة إشارة إلى تعظيم أمرها و تفخيمه و أنّها لا تكتنه علما، و قد اُكّد هذا التعظيم و التفخيم بقوله بعد:( وَ ما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ ) .

قوله تعالى: ( يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ ) ظرف متعلّق بفعل مقدّر نحو اذكر و تقرع و تأتي، و الفراش على ما نقل عن الفراء الجراد الّذي ينفرش و يركب بعضه بعضاً و هو غوغاء الجراد. قيل: شبّه الناس عند البعث بالفراش لأنّ الفراش إذا ثار لم يتّجه إلى جهة واحدة كسائر الطير و كذلك الناس إذا خرجوا من قبورهم أحاط بهم الفزع فتوجّهوا جهات شتّى أو توجّهوا إلى منازلهم المختلفة

٤٩٢

سعادة و شقاء. و المبعوث من البثّ و هو التفريق.

قوله تعالى: ( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) العهن الصوف ذو ألوان مختلفة، و المنفوش من النفش و هو نشر الصوف بندف و نحوه فالعهن المنفوش الصوف المنتشر ذو ألوان مختلفة إشارة إلى تلاشي الجبال على اختلاف ألوانها بزلزلة الساعة.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ) إشارة إلى وزن الأعمال و أنّ الأعمال منها ما هو ثقيل في الميزان و هو ما له قدر و منزلة عندالله و هو الإيمان و أنواع الطاعات، و منها ما ليس كذلك و هو الكفر و أنواع المعاصي و يختلف القسمان أثراً فيستتبع الثقيل السعادة و يستتبع الخفيف الشقاء، و قد تقدّم البحث عن معنى الميزان في تفسير السور السابقة.

و قوله:( فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ) العيشة بكسر العين كالجلسة بناء نوع، و توصيفها براضية - و الراضي صاحبها - من المجاز العقليّ أو المعنى في عيشة ذات رضى.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ ) الظاهر أنّ المراد بهاوية جهنّم و تسميتها بهاوية لهويّ من اُلقي فيها أي سقوطه إلى أسفل سافلين قال تعالى:( ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ) التين: ٦.

فتوصيف النار بالهاوية مجاز عقليّ كتوصيف العيشة بالراضية و عدّ هاوية اُمّاً للداخل فيها لكونها مأواه و مرجعه الّذي يرجع إليه كما يرجع الولد إلى اُمّه.

و قيل: المراد باُمّه اُمّ رأسه و المعنى فاُمّ رأسه هاوية أي ساقطة فيها لأنّهم يلقون في النار على اُمّ رأسهم، و يبعّده بقاء الضمير في قوله:( ما هِيَهْ ) بلا مرجع ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ ما أَدْراكَ ما هِيَهْ ) ضمير هي لهاوية، و الهاء في( هِيَهْ ) للوقف و الجملة تفسير تفيد تعظيم أمر النار و تفخيمه.

قوله تعالى: ( نارٌ حامِيَةٌ ) أي حارّة شديدة الحرارة و هو جواب الاستفهام في( ما هِيَهْ ) و تفسير لهاوية.

٤٩٣

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) قال: العهن الصوف، و في قوله:( وَ أَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ ) قال: من الحسنات، و في قوله:( فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ ) قال: اُمّ رأسه، يقذف في النار على رأسه.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي أيّوب الأنصاريّ أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنّ نفس المؤمن إذا قبضت يلقاها أهل الرحمة من عباد الله كما يلقون البشير من أهل الدنيا فيقولون: انظروا صاحبكم يستريح فإنّه كان في كرب شديد ثمّ يسألونه ما فعل فلان و فلانة؟ هل تزوّجت؟ فإذا سألوه عن الرجل قد مات قبله فيقول: هيهات قد مات ذاك قبلي فيقولون: إنّا لله و إنّا إليه راجعون ذُهب به إلى اُمّه الهاوية فبئست الاُمّ و بئست المربّية.

أقول: و روي هذا المعنى عن أنس بن مالك و عن الحسن و الأشعث بن عبدالله الأعمى عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٤٩٤

( سورة التكاثر مكّيّة و هي ثمان آيات)

( سورة التكاثر الآيات ١ - ٨)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ( ١ ) حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ( ٢ ) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ( ٣ ) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ( ٤ ) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ( ٥ ) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ( ٦ ) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ( ٧ ) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ( ٨ )

( بيان‏)

توبيخ شديد للناس على تلهّيهم بالتكاثر في الأموال و الأولاد و الأعضاء و غفلتهم عمّا وراءه من تبعة الخسران و العذاب، و تهديد بأنّهم سوف يعلمون و يرون ذلك و يسألون عن هذه النعم الّتي اُوتوها ليشكروا فتلهّوا بها و بدّلوا نعمة الله كفراً.

و السورة بما لها من السياق تحتمل المكّيّة و المدنيّة، و سيأتي ما ورد في سبب نزولها في البحث الروائيّ إن شاء الله.

قوله تعالى: ( أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ ) قال في المفردات: اللهو ما يشغل الإنسان عمّا يعنيه و يهمّه. قال، و يقال: ألهاه كذا أي شغله عمّا هو أهمّ إليه، قال تعالى:( أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ ) انتهى.

و قال: و المكاثرة و التكاثر التباري في كثرة المال و العزّ، انتهى. و قال: المقبرة - بكسر الميم - و المقبرة - بفتحها - موضع القبور و جمعها مقابر، قال تعالى:( حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ ) كناية عن الموت، انتهى.

فالمعنى على ما يعطيه السياق شغلكم التكاثر في متاع الدنيا و زينتها و التسابق

٤٩٥

في تكثير العدّة و العدّة عمّا يهمّكم و هو ذكر الله حتّى لقيتم الموت فعمّتكم الغفلة مدى حياتكم.

و قيل: المعنى شغلكم التباهي و التباري بكثرة الرجال بأن يقول هؤلاء: نحن أكثر رجالاً، و هؤلاء: نحن أكثر حتّى إذا استوعبتم عدد الأحياء صرتم إلى القبور فعددتم الأموات من رجالكم فتكاثرتم بأمواتكم.

و هذا المعنى مبنيّ على ما ورد في أسباب النزول أنّ قبيلتين من الأنصار تفاخرتا بالأحياء ثمّ بالأموات، و في بعضها أنّ ذلك كان بمكّة بين بني عبد مناف و بني سهم فنزلت السورة، و سيأتي القصّة في البحث الروائيّ.

قوله تعالى: ( كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) ردع عن اشتغالهم بما لا يهمّهم عمّا يعنيهم و تخطئة لهم، و قوله:( سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) تهديد معناه على ما يفيده المقام سوف تعلمون تبعة تلهّيكم هذا و تعرفونها إذا انقطعتم عن الحياة الدنيا.

قوله تعالى: ( ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) تأكيد للردع و التهديد السابقين، و قيل: المراد بالأوّل علمهم بها عند الموت و بالثاني علمهم بها عند البعث.

قوله تعالى: ( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) ردع بعد ردع تأكيداً و اليقين العلم الّذي لا يداخله شكّ و ريب.

و قوله:( لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ) جواب لو محذوف و التقدير لو تعلمون الأمر علم اليقين لشغلكم ما تعلمون عن التباهي و التفاخر بالكثرة، و قوله:( لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمََ ) استئناف في الكلام، و اللّام للقسم، و المعنى اُقسم لترونّ الجحيم الّتي جزاء هذا التلهّي كذا فسّروا.

قالوا: و لا يجوز أن يكون قوله:( لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) جواب لو الامتناعيّة لأنّ الرؤية محقّق الوقوع و جوابها لا يكون كذلك.

و هذا مبنيّ على أن يكون المراد رؤية الجحيم يوم القيامة كما قال:( وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى‏ ) النازعات: ٣٦ و هو غير مسلّم بل الظاهر أنّ المراد رؤيتها قبل يوم القيامة رؤية البصيرة و هي رؤية القلب الّتي هي من آثار اليقين على ما يشير إليه،

٤٩٦

قوله تعالى:( وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) الأنعام: ٧٥، و قد تقدّم الكلام فيها، و هذه الرؤية القلبيّة قبل يوم القيامة غير محقّقة لهؤلاء المتلهّين بل ممتنعة في حقّهم لامتناع اليقين عليهم.

قوله تعالى: ( ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ ) المراد بعين اليقين نفسه، و المعنى لترونّها محض اليقين، و هذه بمشاهدتها يوم القيامة، و من الدليل عليه قوله بعد ذلك( ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) فالمراد بالرؤية الاُولى رؤيتها قبل يوم القيامة و بالثانية رؤيتها يوم القيامة.

و قيل: الاُولى قبل الدخول فيها يوم القيامة و الثانية إذ دخلوها.

و قيل: الاُولى بالمعرفة و الثانية بالمشاهدة، و قيل: المراد الرؤية بعد الرؤية إشارة إلى الاستمرار و الخلود، و قيل غير ذلك و هي وجوه ضعيفة.

قوله تعالى: ( ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) ظاهر السياق أنّ هذا الخطاب و كذلك الخطابات المتقدّمة في السورة للناس بما أنّ فيهم من اشتغل بنعمة ربّه عن ربّه فأنساه التكاثر فيها عن ذكر الله، و ما في السورة من التوبيخ و التهديد متوجّه إلى عامّة الناس ظاهراً واقع على طائفة خاصّة منهم حقيقة و هم الّذين ألهاهم التكاثر.

و كذا ظاهر السياق أنّ المراد بالنعيم مطلقة و هو كلّ ما يصدق عليه أنّه نعمة فالإنسان مسؤل عن كلّ نعمة أنعم الله بها عليه.

و ذلك أنّ النعمة - و هي الأمر الّذي يلائم المنعم عليه و يتضمّن له نوعاً من الخير و النفع - إنّما تكون نعمة بالنسبة إلى المنعم عليه إذا استعملها بحيث يسعد بها فينتفع و أمّا لو استعملها على خلاف ذلك كانت نقمة بالنسبة إليه و إن كانت نعمة بالنظر إلى نفسها.

و قد خلق الله تعالى الإنسان و جعل غاية خلقته الّتي هي سعادته و منتهى كماله التقرّب العبوديّ إليه كما قال:( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) الذاريات: ٥٦ و هي الولاية الإلهيّة لعبده، و قد هيّأ الله سبحانه له كلّ ما يسعد و ينتفع به في سلوكه نحو الغاية الّتي خلق لها و هي النعم فأسبغ عليه نعمه ظاهرة و باطنة.

٤٩٧

فاستعمال هذه النعم على نحو يرتضيه الله و ينتهي بالإنسان إلى غايته المطلوبة هو الطريق إلى بلوغ الغاية و هو الطاعة، و استعمالها بالجمود عليها و نسيان ما وراءها غيّ و ضلال و انقطاع عن الغاية و هو المعصية، و قد قضى سبحانه قضاء لا يردّ و لا يبدّل أن يرجع الإنسان إليه فيسأله عن عمله فيحاسبه و يجزيه، و عمله هو استعماله للنعم الإلهيّة قال تعالى:( وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى‏ وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى‏ ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى‏ وَ أَنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الْمُنْتَهى‏ ) النجم: ٤٢، فالسؤال عن عمل العبد سؤال عن النعيم كيف استعمله أ شكر النعمة أم كفر بها؟

( بحث روائي‏)

في المجمع، قيل: نزلت في اليهود قالوا: نحن أكثر من بني فلان، و بنو فلان أكثر من بني فلان ألهاهم ذلك حتّى ماتوا ضلالاً: عن قتادة.

و قيل: نزلت في فخذ من الأنصار تفاخروا: عن أبي بريدة، و قيل: نزلت في حيّين من قريش: بني عبد مناف بن قصيّ و بني سهم بن عمر و تكاثروا و عدّوا أشرافهم فكثرهم بنو عبد مناف. ثمّ قالوا: نعدّ موتانا حتّى زاروا القبور فعدّوهم و قالوا: هذا قبر فلان و هذا قبر فلان فكثرهم بنو سهم لأنّهم كانوا أكثر عدداً في الجاهليّة: عن مقاتل و الكلبيّ.

و في تفسير البرهان، عن البرقيّ عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قوله تعالى:( لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ) قال: المعاينة.

أقول: الرواية تؤيّد ما قدّمناه من المعنى.

و في تفسير القمّيّ، بإسناده عن جميل عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قلت له:( لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) قال: تسأل هذه الاُمّة عمّا أنعم الله عليها برسوله ثمّ بأهل بيته.

و في الكافي، بإسناده عن أبي خالد الكابليّ قال: دخلت على أبي جعفرعليه‌السلام فدعا بالغذاء فأكلت معه طعاماً ما أكلت طعاماً أطيب منه قطّ و لا ألطف فلمّا فرغنا من

٤٩٨

الطعام قال: يا أبا خالد كيف رأيت طعامك؟ أو قال: طعامنا؟ قلت: جعلت فداك ما أكلت طعاماً أطيب منه قطّ و لا أنظف و لكن ذكرت الآية الّتي في كتاب الله عزّوجلّ:( ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) فقال أبوجعفرعليه‌السلام : إنّما يسألكم عمّا أنتم عليه من الحقّ.

و فيه، بإسناده عن أبي حمزة قال: كنّا عند أبي عبداللهعليه‌السلام جماعة فدعا بطعام ما لنا عهد بمثله لذاذة و طيباً و اُتينا بتمر تنظر فيه أوجهنا من صفائه و حسنه فقال رجل: لتسألن عن هذا النعيم الّذي تنعّمتم به عند ابن رسول الله فقال أبو عبدالله إنّ الله عزّوجلّ أكرم و أجلّ أن يطعم طعاماً فيسوّغكموه ثمّ نسألكم عنه إنّما يسألكم عمّا أنعم عليكم بمحمّد و آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أقول: و هذا المعنى مرويّ عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام بطرق اُخرى و عبارات مختلفة و في بعضها أنّ النعيم ولايتنا أهل البيت، و يؤل المعنى إلى ما قدّمناه من عموم النعيم لكلّ نعمة أنعم الله بها بما أنّها نعمة.

بيان ذلك أنّ هذه النعم لو سئل عن شي‏ء منها فليست يسأل عنها بما أنّها لحم أو خبز أو تمر أو ماء بارد أو أنّها سمع أو بصر أو يد أو رجل مثلاً و إنّما يسأل عنها بما أنّها نعمة خلقها الله للإنسان و أوقعها في طريق كماله و الحصول على التقرّب العبوديّ كما تقدّمت الإشارة إليه و ندبه إلى أن يستعملها شكراً لا كفراً.

فالمسؤل عنها هي النعمة بما أنّها نعمة، و من المعلوم أنّ الدالّ على نعيميّة النعيم و كيفيّة استعماله شكراً و المبيّن لذلك كلّه هو الدين الّذي جاء به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و نصب لبيانه الأئمّة من أهل بيته فالسؤال عن النعيم مرجعه السؤال عن العمل بالدين في كلّ حركة و سكون و من المعلوم أيضا أنّ السؤال عن النعيم الّذي هو الدين سؤال عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الأئمّة من بعده الّذين افترض الله طاعتهم و أوجب اتّباعهم في السلوك إلى الله الّذي طريقه استعمال النعم كما بيّنه الرسول و الأئمّة.

و إلى كون السؤال عن النعيم سؤالاً عن الدين يشير ما في رواية أبي خالد من قوله:( إنّما يسألكم عمّا أنتم عليه من الحقّ) .

٤٩٩

و إلى كونه سؤالاً عن النعيم الّذي هو النبيّ و أهل بيته يشير ما في روايتي جميل و أبي حمزة السابقتين من قوله:( يسأل هذه الاُمّة عمّا أنعم الله عليها برسوله ثمّ بأهل بيته) أو ما في معناه، و في بعض الروايات:( النعيم هو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنعم الله به على أهل العالم فاستنقذهم من الضلالة) ، و في بعضها: أنّ النعيم ولايتنا أهل البيت‏، و المال واحد و من ولاية أهل البيت افتراض طاعتهم و اتّباعهم فيما يسلكونه من طريق العبوديّة.

و في المجمع، و قيل: النعيم الصحّة و الفراغ: عن عكرمة، و يعضده ما رواه ابن عبّاس عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة و الفراغ.

و فيه، و قيل: هو يعني النعيم الأمن و الصحّة: عن عبدالله بن مسعود و مجاهد، و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام .

أقول: و في روايات اُخرى من طرق أهل السنّة أنّ النعيم هو التمر و الماء البارد و في بعضها غيرهما، و ينبغي أن يحمل الجميع على إيراد المثال.

و في الحديث النبويّ من طرقهم أيضاً: ثلاث لا يسأل عنها العبد: خرقة يواري بها عورته أو كسرة يسدّ بها جوعته أو بيت يكنّه من الحرّ و البرد. الحديث‏، و ينبغي أن يحمل على خفّة الحساب في الضروريّات و نفي المناقشة فيه و الله أعلم.

٥٠٠

( سورة العصر مكّيّة و هي ثلاث آيات)

( سورة العصر الآيات 1 - 3)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ ( 1 ) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ( 2 ) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ( 3 )

( بيان‏)

تلخّص السورة جميع المعارف القرآنيّة و تجمع شتات مقاصد القرآن في أوجز بيان، و هي تحتمل المكّيّة و المدنيّة لكنّها أشبه بالمكّيّة.

قوله تعالى: ( وَ الْعَصْرِ ) إقسام بالعصر و الأنسب لما تتضمّنه الآيتان التاليتان من شمول الخسران للعالم الإنسانيّ إلّا لمن اتّبع الحقّ و صبر عليه و هم المؤمنون الصالحون عملاً، أن يكون المراد بالعصر عصر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو عصر طلوع الإسلام على المجتمع البشريّ و ظهور الحقّ على الباطل.

و قيل: المراد به وقت العصر و هو الطرف الأخير من النهار لما فيه من الدلالة على التدبير الربوبيّ بإدبار النهار و إقبال الليل و ذهاب سلطان الشمس، و قيل: المراد به صلاة العصر و هي الصلاة الوسطى الّتي هي أفضل الفرائض اليوميّة، و قيل الليل و النهار و يطلق عليهما العصران، و قيل الدهر لما فيه من عجائب الحوادث الدالّة على القدرة الربوبيّة و غير ذلك.

و قد ورد في بعض الروايات أنّه عصر ظهور المهديّعليه‌السلام لما فيه من تمام ظهور الحقّ على الباطل.

قوله تعالى: ( إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ) المراد بالإنسان جنسه، و الخسر و الخسران و الخسار و الخسارة نقص رأس المال قال الراغب: و ينسب ذلك إلى الإنسان

٥٠١

فيقال: خسر فلان و إلى الفعل فيقال: خسرت تجارته، انتهى. و التنكير في( خُسْرٍ ) للتعظيم و يحتمل التنويع أي في نوع من الخسر غير الخسارات الماليّة و الجاهيّة قال تعالى:( الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ ) الزمر: 15.

قوله تعالى: ( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) استثناء من جنس الإنسان الواقع في الخسر، و المستثنون هم الأفراد المتلبّسون بالإيمان و الأعمال الصالحة فهم آمنون من الخسر.

و ذلك أنّ كتاب الله يبيّن أنّ للإنسان حياة خالدة مؤبّدة لا تنقطع بالموت و إنّما الموت انتقال من دار إلى دار كما تقدّم في تفسير قوله تعالى:( عَلى‏ أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَ نُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ ) الواقعة: 61، و يبيّن أنّ شطراً من هذه الحياة و هي الحياة الدنيا حياة امتحانيّة تتعيّن بها صفة الشطر الأخير الّذي هو الحياة الآخرة المؤبّدة من سعادة و شقاء قال تعالى:( وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ ) الرعد: 26، و قال:( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً ) الأنبياء: 35.

و يبيّن أنّ مقدّميّة هذه الحياة لتلك الحياة إنّما هي بمظاهرها من الاعتقاد و العمل فالاعتقاد الحقّ و العمل الصالح ملاك السعادة الاُخرويّة و الكفر و الفسوق ملاك الشقاء فيها قال تعالى:( وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى‏ وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى‏ ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى‏ ) ، و قال:( مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ) الروم: 44، و قال:( مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ) حم السجدة: 46، و قد سمّى الله تعالى ما سيلقاه الإنسان في الآخرة جزاء و أجراً في آيات كثيرة.

و يتبيّن بذلك كلّه أنّ الحياة رأس مال للإنسان يكسب به ما يعيش به في حياته الآخرة فإن اتّبع الحقّ في العقد و العمل فقد ربحت تجارته و بورك في مكسبه و أمن الشرّ في مستقبله، و إن اتّبع الباطل و أعرض عن الإيمان و العمل الصالح فقد خسرت تجارته و حرم الخير في عقباه و هو قوله تعالى:( إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ

٥٠٢

آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) .

و المراد بالإيمان الإيمان بالله و من الإيمان بالله الإيمان بجميع رسله و الإيمان باليوم الآخر فقد نصّ تعالى فيمن لم يؤمن ببعض رسله(1) أو باليوم الآخر أنّه غير مؤمن بالله.

و ظاهر قوله:( وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) التلبّس بجميع الأعمال الصالحة فلا يشمل الاستثناء الفسّاق بترك بعض الصالحات من المؤمنين و لازمه أن يكون الخسر أعمّ من الخسر في جميع جهات حياته كما في الكافر المعاند للحقّ المخلّد في العذاب، و الخسر في بعض جهات حياته كالمؤمن الفاسق الّذي لا يخلّد في النار و ينقطع عنه العذاب بشفاعة و نحوها.

قوله تعالى: ( وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ ) التواصي بالحقّ هو أن يوصي بعضهم بعضاً بالحقّ أي باتّباعه و الدوام عليه فليس دين الحقّ إلّا اتّباع الحقّ اعتقاداً و عملاً و التواصي بالحقّ أوسع من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لشموله الاعتقاديات و مطلق الترغيب و الحثّ على العمل الصالح.

ثمّ التواصي بالحقّ من العمل الصالح فذكره بعد العمل الصالح من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامً اهتماماً بأمره كما أنّ التواصي بالصبر من التواصي بالحقّ و ذكره بعده من ذكر الخاصّ بعد العامّ اهتماماً بأمره، و يؤكّد تكرار ذكر التواصي حيث قال:( وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ ) و لم يقل: و تواصوا بالحقّ و الصبر.

و على الجملة ذكر تواصيهم بالحقّ و بالصبر بعد ذكر تلبّسهم بالإيمان و العمل الصالح للإشارة إلى حياة قلوبهم و انشراح صدورهم للإسلام لله فلهم اهتمام خاصّ و اعتناء تامّ بظهور سلطان الحقّ و انبساطه على الناس حتّى يتّبع و يدوم اتّباعه قال تعالى:( أَ فَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى‏ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) الزمر: 22.

____________________

(1) النساء: 150 - 151.

٥٠٣

و قد اُطلق الصبر فالمراد به أعمّ من الصبر على طاعة الله، و الصبر عن معصيته، و الصبر عند النوائب الّتي تصيبه بقضاء من الله و قدر.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ، بإسناده عن عبدالرحمن بن كثير عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قوله تعالى:( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ) إلخ، فقال: استثنى أهل صفوته من خلقه.

أقول: و طبق في ذيل الرواية الإيمان على الإيمان بولاية عليّعليه‌السلام ، و التواصي بالحقّ على توصيتهم ذرّيّاتهم و أخلافهم بها.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس في قوله:( وَ الْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ) يعني أباجهل بن هشام( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) ذكر عليّاً و سلمان.

٥٠٤

( سورة الهمزة مكّيّة و هي تسع آيات)

( سورة الهمزة الآيات 1 - 9)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ ( 1 ) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ ( 2 ) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ ( 3 ) كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ( 4 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ ( 5 ) نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ ( 6 ) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ( 7 ) إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ ( 8 ) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ ( 9 )

( بيان‏)

وعيد شديد للمغرمين بجمع المال المستعلين به على الناس المستكبرين عليهم فيزرون بهم و يعيبونهم بما ليس بعيب، و السورة مكّيّة.

قوله تعالى: ( وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ) قال في المجمع: الهمزة الكثير الطعن على غيره بغير حقّ العائب له بما ليس بعيب، و أصل الهمز الكسر. قال: و اللمز العيب أيضاً و الهمزة و اللمزة بمعنى، و قد قيل: بينهما فرق فإنّ الهمزة الّذي يعيبك بظهر الغيب، و اللمزة الّذي يعيبك في وجهك. عن الليث.

و قيل: الهمزة الّذي يؤذي جليسه بسوء لفظه، و اللمزة الّذي يكسر عينه على جليسه و يشير برأسه و يومئ بعينه. قال: و فعله بناء المبالغة في صفة من يكثر منه الفعل و يصير عادة له تقول: رجل نكحة كثير النكاح و ضحكة كثير الضحك و كذا همزة و لمزة انتهى.

فالمعنى ويل لكلّ عيّاب مغتاب، و فسّر بمعان اُخر على حسب اختلافهم في تفسير الهمزة و اللمزة.

قوله تعالى: ( الَّذِي جَمَعَ مالًا وَ عَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ ) بيان لهمزة لمزة

٥٠٥

و تنكير( مالًا ) للتحقير فإنّ المال و إن كثر ما كثر لا يغني عن صاحبه شيئاً غير أنّ له منه ما يصرفه في حوائج نفسه الطبيعيّة من أكلة تشبعه و شربة ماء ترويه و نحو ذلك و( عَدَّدَهُ ) من العدّ بمعنى الإحصاء أي إنّه لحبّه المال و شغفه بجمعه يجمع المال و يعدّه عدّاً بعد عدّ التذاذاً بتكثّره. و قيل: المعنى جعله عدّة و ذخراً لنوائب الدهر.

و قوله:( يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ ) أي يخلده في الدنيا و يدفع عنه الموت و الفناء فالماضي اُريد به المستقبل بقرينة قوله:( يَحْسَبُ ) .

فهذا الإنسان لإخلاده إلى الأرض و انغماره في طول الأمل لا يقنع من المال بما يرتفع به حوائج حياته القصيرة و ضروريّات أيّامه المعدودة بل كلّما زاد مالاً زاد حرصاً إلى ما لا نهاية له فظاهر حاله أنّه يرى أنّ المال يخلده، و لحبّه الغريزيّ للبقاء يهتمّ بجمعه و تعديده، و دغاه ما جمعه و عدّده من المال و ما شاهده من الاستغناء إلى الطغيان و الاستعلاء على غيره من الناس كما قال تعالى:( إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى‏ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) العلق 7، و يورثه هذا الاستكبار و التعدّي الهمز و اللمز.

و من هنا يظهر أنّ قوله:( يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ ) بمنزلة التعليل لقوله:( الَّذِي جَمَعَ مالًا وَ عَدَّدَهُ ) ، و قوله:( الَّذِي جَمَعَ ) إلخ بمنزلة التعليل لقوله:( وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ) .

قوله تعالى: ( كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ) ردع عن حسبانه الخلود بالمال، و اللّام في( لَيُنْبَذَنََّ ) للقسم، و النبذ القذف و الطرح، و الحطمة مبالغة من الحطم و هو الكسر و جاء بمعنى الأكل، و هي من أسماء جهنّم على ما يفسّرها قوله الآتي:( نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ ) .

و المعنى ليس مخلّداً بالمال كما يحسب اُقسم ليموتنّ و يقذفنّ في الحطمة.

قوله تعالى: ( وَ ما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ ) تفخيم و تهويل.

قوله تعالى: ( نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ) إيقاد النار إشعالها و الاطّلاع و الطلوع على الشي‏ء الإشراف و الظهور، و الأفئدة جمع فؤاد و هو القلب، و المراد به في القرآن مبدأ الشعور و الفكر من الإنسان و هو النفس الإنسانيّة.

٥٠٦

و كأنّ المراد من اطّلاعها على الأفئدة أنّها تحرق باطن الإنسان كما تحرق ظاهره بخلاف النار الدنيويّة الّتي إنّما تحرق الظاهر فقط قال تعالى:( وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ ) البقرة 24.

قوله تعالى: ( إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ) أي مطبقة لا مخرج لهم منها و لا منجا.

قوله تعالى: ( فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ ) العمد بفتحتين جمع عمود و التمديد مبالغة في المدّ قيل: هي أوتاد الأطباق الّتي تطبق على أهل النار، و قيل: عمد ممدّدة يوثقون فيها مثل المقاطر و هي خشب أو جذوع كبار فيها خروق توضع فيها أرجل المحبوسين من اللصوص و غيرهم، و قيل غير ذلك.

( بحث روائي‏)

في روح المعاني في قوله تعالى:( وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ) نزل ذلك على ما أخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن إسحاق عن عثمان بن عمر في اُبيّ بن خلف، و على ما أخرج عن السدي في اُبيّ بن عمر و الثقفيّ الشهير بالأخنس بن شريق فإنّه كان مغتاباً كثير الوقيعة.

و على ما قال ابن إسحاق في اُميّة بن خلف الجمحي و كان يهمز النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و على ما أخرج ابن جرير و غيره عن مجاهد في جميل بن عامر و على ما قيل في الوليد بن المغيرة و اغتيابه لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و غضّه منه، و على قول في العاص بن وائل.

أقول: ثمّ قال: و يجوز أن يكون نازلاً في جمع من ذكر. انتهى و لا يبعد أن يكون من تطبيق الرواة و هو كثير في أسباب النزول.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ ) قال: الّذي يغمز الناس و يستحقر الفقراء، و قوله:( لُمَزَةٍ ) يلوي عنقه و رأسه و يغضب إذا رأى فقيراً أو سائلاً( الَّذِي جَمَعَ مالًا وَ عَدَّدَهُ ) قال: أعدّه و وضعه.

و فيه قوله تعالى:( الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ) قال: تلتهب على الفؤاد قال

٥٠٧

أبو ذرّ رضي الله عنه: بشّر المتكبّرين بكيّ في الصدور و سحب على الظهور. قوله( إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ) قال: مطبقة( فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ ) قال: إذا مدّت العمد عليهم أكلت و الله الجلود.

و في المجمع، روى العيّاشيّ بإسناده عن محمّد بن النعمان الأحول عن حمران بن أعين عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: إنّ الكفّار و المشركين يعيّرون أهل التوحيد في النار و يقولون: ما نرى توحيدكم أغنى عنكم شيئاً و ما نحن و أنتم إلّا سواء قال: فيأنف لهم الربّ تعالى فيقول للملائكة: اشفعوا فيشفعون لمن شاء الله ثمّ يقول للنبيّين: اشفعوا فيشفعون لمن شاء الله ثمّ يقول للمؤمنين: اشفعوا فيشفعون لمن شاء الله و يقول الله: أنا أرحم الراحمين اخرجوا برحمتي فيخرجون كما يخرج الفراش.

قال: ثمّ قال أبوجعفرعليه‌السلام : ثمّ مدّت العمد و اُوصدت عليهم و كان و الله الخلود.

٥٠٨

( سورة الفيل مكّيّة و هي خمس آيات)

( سورة الفيل الآيات 1 - 5)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ( 1 ) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ( 2 ) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ( 3 ) تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ ( 4 ) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ ( 5 )

( بيان‏)

فيها إشارة إلى قصّة أصحاب الفيل إذ قصدوا مكّة لتخريب الكعبة المعظّمة فأهلكهم الله بإرسال طير أبابيل ترميهم بحجارة من سجّيل فجعلهم كعصف مأكول، و هي من آيات الله الجليّة الّتي لا سترة عليها، و قد أرّخوا بها و ذكرها الجاهليّون في أشعارهم، و السورة مكّيّة.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ ) المراد بالرؤية العلم الظاهر ظهور الحسّ، و الاستفهام إنكاريّ، و المعنى أ لم تعلم كيف فعل ربّك بأصحاب الفيل، و قد كانت الواقعة عام ولد فيه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ) المراد بكيدهم سوء قصدهم بمكّة و إرادتهم تخريب البيت الحرام، و التضليل و الإضلال واحد، و جعل كيدهم في تضليل جعل سعيهم ضالّاً لا يهتدى إلى الغاية المقصودة منه فقد ساروا لتخريب الكعبة و انتهى بهم إلى هلاك أنفسهم.

قوله تعالى: ( وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ ) الأبابيل - كما قيل - جماعات في تفرقة زمرة زمرة، و المعنى و أرسل الله على أصحاب الفيل جماعات متفرّقة من الطير و الآية و الّتي تتلوها عطف تفسير على قوله:( أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ) .

٥٠٩

قوله تعالى: ( تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ) أي ترمي أبابيل الطير أصحاب الفيل بحجارة من سجّيل، و قد تقدّم معنى السجّيل في تفسير قصص قوم لوط.

قوله تعالى: ( فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ) العصف ورق الزرع و العصف المأكول ورق الزرع الّذي اُكل حبّه أو قشر الحبّ الّذي اُكل لبّه و المراد أنّهم عادوا بعد وقوع السجّيل عليهم أجساداً بلا أرواح أو أنّ الحجر بحرارته أحرق أجوافهم، و قيل: المراد ورق الزرع الّذي وقع فيها الأكال و هو أن يأكله الدود فيفسده و فسّرت الآية ببعض وجوه اُخر لا يناسب الأدب القرآنيّ.

( بحث روائي‏)

في المجمع: أجمعت الرواة على أنّ ملك اليمن الّذي قصد هدم الكعبة هو أبرهة بن الصباح الأشرم و قيل: إنّ كنيته أبو يكسوم و نقل عن الواقديّ أنّه جدّ النجاشي الّذي كان على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثمّ ساق الكلام في قصّة استيلائه على ملك اليمن إلى أن قال: ثمّ إنّه بنى كعبة باليمن و جعل فيها قباباً من ذهب فأمر أهل مملكته بالحجّ إليها يضاهي بذلك البيت الحرام، و إنّ رجلاً من بني كنانة خرج حتّى قدم اليمن فنظر إليها ثمّ قعد فيها يعني لحاجة الإنسان فدخلها أبرهة فوجد تلك العذرة فيها فقال: من اجترأ عليّ بهذا؟ و نصرانيّتي لأهدمنّ ذلك البيت حتّى لا يحجّه حاج أبداً و دعا بالفيل و أذّن قومه بالخروج و من اتّبعه من أهل اليمن، و كان أكثر من اتّبعه منهم عكّ و الأشعرون و خثعم.

قال: ثمّ خرج يسير حتّى إذا كان ببعض طريقه بعث رجلاً من بني سليم ليدعو الناس إلى حجّ بيته الّذي بناه فتلقاه أيضاً رجل من الحمس من بني كنانة فقتله فازداد بذلك حنقاً و حثّ السير و الانطلاق.

و طلب من أهل الطائف دليلاً فبعثوا معه رجلاً من هذيل يقال له نفيل فخرج

٥١٠

بهم يهديهم حتّى إذا كانوا بالمغمس نزلوه و هو من مكّة على ستّة أميال فبعثوا مقدّماتهم إلى مكّة فخرجت قريش عباديد في رؤوس الجبال و قالوا: لا طاقة لنا بقتال هؤلاء و لم يبق بمكّة غير عبد المطلب بن هاشم أقام على سقايته و غير شيبة بن عثمان بن عبد الدار أقام على حجابة البيت فجعل عبد المطّلب يأخذ بعضادتي الباب ثمّ يقول:

لا همّ أنّ المرء يمنع رحله فامنع جلالك

لا يغلبوا بصليبهم و محالهم عدواً محالك

لا يدخلوا البلد الحرام إذاً فأمر ما بدا لك

ثمّ إنّ مقدّمات أبرهة أصابت نعماً لقريش فأصابت فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم فلمّا بلغه ذلك خرج حتّى أتى القوم، و كان حاجب أبرهة رجلاً من الأشعرين و كان له بعبد المطّلب معرفة فاستأذن له على الملك و قال له: أيّها الملك جاءك سيّد قريش الّذي يطعم إنسها في الحيّ و وحشها في الجبل فقال له: ائذن له.

و كان عبد المطّلب رجلاً جسيماً جميلاً فلمّا رآه أبو يكسوم أعظمه أن يجلسه تحته و كره أن يجلسه معه على سريره فنزل من سريره فجلس على الأرض و أجلس عبد المطّلب معه ثمّ قال: ما حاجتك؟ قال: حاجتي مائتا بعير لي أصابتها مقدّمتك فقال أبو يكسوم: و الله لقد رأيتك فأعجبتني ثمّ تكلّمت فزهدت فيك فقال: و لم أيّها الملك؟ قال: لأنّي جئت إلى بيت عزّكم و منعتكم من العرب و فضلكم في الناس و شرفكم عليهم و دينكم الّذي تعبدون فجئت لأكسره و اُصيبت لك مائتا بعير فسألتك عن حاجتك فكلّمتني في إبلك و لم تطلب إليّ في بيتكم.

فقال له عبد المطّلب: أيّها الملك أنا اُكلّمك في مالي و لهذا البيت ربّ هو يمنعه لست أنا منه في شي‏ء فراع ذلك أبو يكسوم و أمر بردّ إبل عبد المطّلب عليه ثمّ رجع و أمست ليلتهم تلك الليلة كالحة نجومها كأنّها تكلّمهم كلاماً لاقترابها منهم فأحسّت نفوسهم بالعذاب.

٥١١

إلى أن قال: حتّى إذا كان مع طلوع الشمس طلعت عليهم الطير معها الحجارة فجعلت ترميهم، و كلّ طائر في منقاره حجر و في رجليه حجران و إذا رمت بذلك مضت و طلعت اُخرى فلا يقع حجر من حجارتهم تلك على بطن إلّا خرقه و لا عظم إلّا أوهاه و ثقبه، و ثاب أبو يكسوم راجعاً قد أصابته بعض الحجارة فجعل كلّما قدم أرضاً انقطع له فيها إرب حتّى إذا انتهى إلى اليمن لم يبق شي‏ء إلّا باده فلمّا قدمها تصدّع صدره و انشقّ بطنه فهلك و لم يصب من الأشعرين و خثعم أحد، الحديث.

أقول: و في الروايات اختلاف شديد في خصوصيّات القصّة من أراد الوقوف عليها فعليه بمطوّلات السير و التواريخ.

٥١٢

( سورة قريش مكّيّة و هي أربع آيات)

( سورة قريش الآيات 1 - 4)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ( 1 ) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ( 2 ) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ( 3 ) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ( 4 )

( بيان‏)

تتضمّن السورة امتناناً على قريش بإيلافهم الرحلتين و تعقّبه بدعوتهم إلى التوحيد و عبادة ربّ البيت، و السورة مكّيّة.

و لمضمون السورة نوع تعلّق بمضمون سورة الفيل و لذا ذهب قوم من أهل السنّة إلى كون الفيل و لإيلاف سورة واحدة كما قيل بمثله في الضحى و أ لم نشرح لما بينهما من الارتباط كما نسب ذلك إلى المشهور بين الشيعة و الحقّ أنّ شيئاً ممّا استندوا إليه لا يفيد ذلك.

أمّا القائلون بذلك من أهل السنّة فإنّهم استندوا فيه إلى ما روي أنّ أبيّ بن كعب لم يفصل بينهما في مصحفه بالبسملة، و بما روي عن عمرو بن ميمون الأزديّ قال: صلّيت المغرب خلف عمر بن الخطّاب فقرأ في الركعة الاُولى و التين و في الثانية أ لم تر و لإيلاف قريش من غير أن يفصل بالبسملة.

و اُجيب عن الرواية الاُولى بمعارضتها بما روي أنّه أثبت البسملة بينهما في مصحفه، و عن الثانية بأنّ من المحتمل على تقدير صحّتها أن يكون الراوي لم يسمع قراءتها أو يكون قرأها سرّاً. على أنّها معارض بما روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ الله فضّل قريشاً بسبع خصال و فيها( و نزلت فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها أحد

٥١٣

غيرهم: لإيلاف قريش) . الحديث على أنّ الفصل متواتر.

و أمّا القائلون بذلك من الشيعة فاستندوا فيه‏ إلى ما في المجمع، عن أبي العبّاس عن أحدهماعليهما‌السلام قال: أ لم تر كيف فعل ربّك و لإيلاف قريش سورة واحدة، و ما في التهذيب، بإسناده عن العلاء عن زيد الشحّام قال: صلّى بنا أبوعبداللهعليه‌السلام الفجر فقرأ الضحى و أ لم نشرح في ركعة، و ما في المجمع، عن العيّاشيّ عن المفضّل بن صالح عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سمعته يقول: لا تجمع بين سورتين في ركعة واحدة إلّا الضحى و أ لم نشرح و أ لم تر كيف و لإيلاف قريش: و رواه المحقّق في المعتبر، نقلاً من كتاب الجامع لأحمد بن محمّد بن أبي نصر عن المفضّل: مثله.

أمّا رواية أبي العبّاس فضعيف لما فيها من الرفع.

و أمّا رواية الشحّام فقد رويت عنه أيضاً بطريقين آخرين: أحدهما ما في التهذيب، بإسناده عن ابن مسكان عن زيد الشحّام قال: صلّى بنا أبوعبداللهعليه‌السلام فقرأ بنا بالضحى و أ لم نشرح‏، و ثانيهما عنه عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن زيد الشحّام قال: صلّى بنا أبوعبداللهعليه‌السلام فقرأ في الاُولى الضحى و في الثانية أ لم نشرح لك صدرك.

و هذه أعني صحيحة ابن أبي عمير صريحة في قراءة السورتين في ركعتين و لا يبقى معها لرواية العلاء ظهور في الجمع بينهما، و أمّا رواية ابن مسكان فلا ظهور لها في الجمع و لا صراحة، و أمّا حمل ابن أبي عمير على النافلة فيدفعه قوله فيها:( صلّى بنا) فإنّه صريح في الجماعة و لا جماعة في نفل.

و أمّا رواية المفضّل فهي أدلّ على كونهما سورتين منها على كونهما سورة واحدة حيث قيل: لا تجمع بين سورتين ثمّ استثنى من السورتين الضحى و أ لم نشرح و كذا الفيل و لإيلاف.

فالحقّ أنّ الروايات إن دلّت فإنّما تدلّ على جواز القرآن بين سورتي الضحى و أ لم نشرح و سورتي الفيل و لإيلاف في ركعة واحدة من الفرائض و هو ممنوع في غيرها، و يؤيّده‏ رواية الراونديّ في الخرائج، عن داود الرقّيّ عن أبي

٥١٤

عبداللهعليه‌السلام في حديث قال: فلمّا طلع الفجر قام فأذّن و أقام و أقامني عن يمينه و قرأ في أوّل ركعة الحمد و الضحى و في الثانية بالحمد و قل هو الله أحد ثمّ قنت ثمّ سلّم ثمّ جلس.

قوله تعالى: ( لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَ الصَّيْفِ ) الإلف بكسر الهمزة اجتماع مع التئام كما قاله الراغب و منه الاُلفة، و قال في الصحاح: و فلان قد ألف هذا الموضع بالكسر يألفه ألفاً و آلفه إيّاه غيره، و يقال أيضاً: آلفت الموضع اُولفه إيلافاً، انتهى.

و قريش عشيرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هم ولد النضر بن كنانة المسمّى قريشاً، و الرحلة حال السير على الراحلة و هي الناقة القويّة على السير كما في المجمع، و المراد بالرحلة خروج قريش من مكّة للتجارة و ذلك أنّ الحرم واد جديب لا زرع فيه و لا ضرع فكانت قريش تعيش فيه بالتجارة، و كانت لهم في كلّ سنة رحلتان للتجارة رحلة في الشتاء إلى اليمن و رحلة بالصيف إلى الشام، و كانوا يعيشون بذلك و كان الناس يحترمونهم لمكان البيت الحرام فلا يتعرضون لهم بقطع طريقهم أو الإغارة على بلدهم الأمن.

و قوله:( لِإِيلافِ قُرَيْشٍ ) اللّام فيه للتعليل، و فاعل الإيلاف هو الله سبحانه و قريش مفعوله الأوّل و مفعوله الثاني محذوف يدلّ عليه ما بعده، و قوله:( إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَ الصَّيْفِ ) بدل من إيلاف قريش، و فاعل إيلافهم هو الله و مفعوله الأوّل ضمير الجمع و مفعوله الثاني رحلة إلخ، و التقدير لإيلاف الله قريشاً رحلة الشتاء و الصيف.

قوله تعالى: ( يَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ‏ ) الفاء في( يَعْبُدُوا ) لتوهّم معنى الشرط أي أيّ شي‏ء كان فليعبدوا ربّ هذا البيت لإيلافه أيّام الرحلتين أو لتوهّم التفصيل أي مهما يكن من شي‏ء فليعبدوا ربّ هذا البيت إلخ، فهو كقوله تعالى:( وَ لِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ) المدّثّر: 7.

٥١٥

و محصّل معنى الآيات الثلاث ليعبد قريش ربّ هذا البيت لأجل إيلافه إيّاهم رحلة الشتاء و الصيف و هم عائشون بذلك في أمن.

هذا بالنظر إلى كون السورة منفصلة عمّا قبلها ذات سياق مستقلّ في نفسها، و أمّا على تقدير كونها جزء من سورة الفيل متمّمة لها فذكروا أنّ اللّام في( لِإِيلافِ ) تعليلية متعلّقة بمقدّر يدلّ عليه المقام و المعنى فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منّا على قريش مضافة إلى نعمتنا عليهم في رحلة الشتاء و الصيف فكأنّه قال: نعمة إلى نعمة و لذا قيل: إنّ اللّام مؤدّية معنى إلى و هو قول الفرّاء.

و قيل: المعنى فعلنا ذلك بأصحاب الفيل لتألف قريش بمكّة و يمكنهم المقام بها أو لنؤلف قريشاً فإنّهم هابوا من أبرهة لمّا قصدها و هربوا منه فأهلكناهم لترجع قريش إلى مكّة و يألفوا بها و يولد محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيبعث إلى الناس بشيراً و نذيراً هذا، و الكلام في استفادة هذه المعاني من السياق.

قوله تعالى: ( الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ) إشارة إلى ما في إيلافهم الرحلتين من منّه الواضح و نعمته الظاهرة عليهم و هو الإطعام و الأمن فيعيشون في أرض لا خصب فيها و لا أمن لغيرهم فليعبدوا ربّاً يدبّر أمرهم أحسن التدبير و هو ربّ البيت.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ ) قال: نزلت في قريش لأنّه كان معاشهم من الرحلتين رحلة في الشتاء إلى اليمن، و رحلة في الصيف إلى الشام، و كانوا يحملون من مكّة الأدم و اللّب و ما يقع من ناحية البحر من الفلفل و غيره فيشترون بالشام الثياب و الدرمك و الحبوب، و كانوا يتألّفون في طريقهم و يثبتون في الخروج في كلّ خرجة رئيساً من رؤساء قريش و كان معاشهم من ذلك.

٥١٦

فلمّا بعث الله نبيّه استغنوا عن ذلك لأنّ الناس وفدوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و حجّوا إلى البيت فقال الله:( فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ ) لا يحتاجون أن يذهبوا إلى الشام( وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ) يعني خوف الطريق.

أقول: قوله: فلمّا بعث الله إلخ خفيّ الانطباق على سياق آيات السورة، و لعلّه من كلام القمّيّ أخذه من بعض ما روي عن ابن عبّاس.

٥١٧

( سورة الماعون مدنيّة أو مكّيّة و هي سبع آيات)

( سورة الماعون الآيات 1 - 7)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ( 1 ) فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ( 2 ) وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ ( 3 ) فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ( 4 ) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ( 5 ) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ ( 6 ) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ( 7 )

( بيان‏)

وعيد لمن كان من المنتحلين بالدين متخلّقاً بأخلاق المنافقين كالسهو عن الصلاة و الرياء في الأعمال و منع الماعون ممّا لا يلائم التصديق بالجزاء.

و السورة تحتمل المكّيّة و المدنيّة، و قيل: نصفها مكّيّ و نصفها مدنيّ.

قوله تعالى: ( أَ رَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ) الرؤية تحتمل الرؤية البصريّة و تحتمل أن تكون بمعنى المعرفة، و الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما أنّه سامع فيتوجّه إلى كلّ سامع، و المراد بالدين الجزاء يوم الجزاء فالمكذّب بالدين منكر المعاد و قيل المراد به الدين بمعنى الملّة.

قوله تعالى: ( فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ) الدعّ هو الردّ بعنف و جفاء، و الفاء في( فَذلِكَ ) لتوهّم معنى الشرط و التقدير أ رأيت الّذي يكذّب بالجزاء فعرفته بصفاته اللازمة لتكذيبه فإن لم تعرفه فذلك الّذي يردّ اليتيم بعنف و يجفوه و لا يخاف عاقبة عمله السيّئ و لو لم يكذّب به لخافها و لو خافها لرحمه.

قوله تعالى: ( وَ لا يَحُضُّ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) الحضّ الترغيب، و الكلام على تقدير مضاف أي لا يرغّب الناس على إطعام طعام المسكين قيل: إنّ التعبير بالطعام دون

٥١٨

الإطعام للإشعار بأنّ المسكين كأنّه مالك لما يعطى له كما في قوله تعالى:( وَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ ) الذاريات: 19 و قيل: الطعام في الآية بمعنى الإطعام.

و التعبير بالحضّ دون الإطعام لأنّ الحضّ أعمّ من الحضّ العمليّ الّذي يتحقّق بالإطعام.

قوله تعالى: ( فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ ) أي غافلون لا يهتمّون بها و لا يبالون أن تفوتهم بالكلّيّة أو في بعض الأوقات أو تتأخّر عن وقت فضيلتها و هكذا.

و في الآية تطبيق من يكذّب بالدين على هؤلاء المصلّين لمكان فاء التفريع و دلالة على أنّهم لا يخلون من نفاق لأنّهم يكذّبون بالدين عملاً و هم يتظاهرون بالإيمان.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ ) أي يأتون بالعبادات لمراءاة الناس فهم يعملون للناس لا لله تعالى.

قوله تعالى: ( وَ يَمْنَعُونَ الْماعُونَ ) الماعون كلّ ما يعين الغير في رفع حاجة من حوائج الحياة كالقرض تقرضه و المعروف تصنعه و متاع البيت تعيره و إلى هذا يرجع متفرّقات ما فسّر به في كلماتهم.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( أَ رَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ) قال: نزلت في أبي جهل و كفّار قريش، و في قوله:( الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ ) قال: عنى به تاركون لأنّ كلّ إنسان يسهو في الصلاة قال أبوعبداللهعليه‌السلام : تأخير الصلاة عن أوّل وقتها لغير عذر.

و في الخصال، عن عليّعليه‌السلام في حديث الأربعمائة قال: ليس عمل أحبّ إلى الله عزّوجلّ من الصلاة فلا يشغلنّكم عن أوقاتها شي‏ء من اُمور الدنيا فإنّ الله عزّوجلّ

٥١٩

ذمّ أقواماً فقال:( الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ ) يعني أنّهم غافلون استهانوا بأوقاتها.

و في الكافي، بإسناده عن محمّد بن الفضيل قال: سألت عبداً صالحاًعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ ) قال هو التضييع.

أقول: و في هذه المضامين روايات اُخر.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و البيهقي في سننه عن عليّ بن أبي طالب( الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ ) قال: يراؤن بصلاتهم.

و فيه، أخرج أبونعيم و الديلميّ و ابن عساكر عن أبي هريرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله:( وَ يَمْنَعُونَ الْماعُونَ ) قال: ما تعاون الناس بينهم الفأس و القدر و الدلو و أشباهه.

و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام في حديث قال: و قوله عزّوجلّ:( وَ يَمْنَعُونَ الْماعُونَ ) هو القرض تقرضه و المعروف تصنعه و متاع البيت تعيره و منه الزكاة.

أقول: و تفسير الماعون بالزكاة مرويّ من طرق أهل السنّة أيضاً عن عليّعليه‌السلام كما في الدرّ المنثور، و لفظه: الماعون الزكاة المفروضة يراؤن بصلاتهم و يمنعون زكاتهم.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن قانع عن عليّ بن أبي طالب قال سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: المسلم أخو المسلم إذا لقيه حيّاه بالسلام و يردّ عليه ما هو خير منه لا يمنع الماعون قلت: يا رسول الله ما الماعون؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الحجر و الحديد و الماء و أشباه ذلك.

أقول: و قد فسّرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رواية اُخرى الحديد بقدور النحاس و حديد الفأس و الحجر بقدور الحجارة.

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568