الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219973 / تحميل: 7018
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

يقول الأُستاذ الطنطاوي: ويعتقد بعض العلماء اليوم أنّ تبادل الخواطر هو مستوى القوّة التي تُمكّن الشخص مِن نقل آرائه إلى شخصٍ آخر بدون أيّة واسطة مادّية أو ظاهريّة، فهل هذا الرأي مُمكن أو مُحتمل الوقوع؟ وإجابةً على ذلك يقول العالِم الإنجليزي (برسي): إنّ نقل الأفكار قد يحدث في أوقات شاذّة وحالات خاصّة، وذلك مالا يُعارض فيه أحد من الباحثينَ، ولكنّه لا ينطبق على الحالات العامّة، وذلك التبادل قد يُرى بوضوح بين الحشرات والحيوانات قد اقتربت حشرةً من أُخرى. قال: وبذلك نعرف أنّ الحيوانات تُكلّم بعضها بنقل الخواطر، والنَّمل من هذا القبيل، وأنّ الإنسان مُستعدّ لذلك؛ لأنّه من جُملة مواهبه، ولكن هذه المـَوهبة تجيء تارةً بطريق الوحي الخارق للعادة وتارةً بالتَمرين (1) .

فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً

زَعَموا أنّ القرآن ذَكَر مراحل تكوين الجنين فيما يُخالف العِلم الثابت اليوم!

ففي قوله تعالى: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (2) .

جاء في تفسير الجلالَين: ( عَلَقَةً ) دماً جامداً، ( مُضْغَةً ) لَحمَة قَدَر ما يُمضغ (3) .

وهكذا جاء في تفسير المراغي (4) وغيره مِن المتأخّرين.

ومعنى ذلك: أنّ النطفة تحوّلت دماً مُتخثّراً، وتحوّل الدم إلى مُضغةٍ أي لَحمَة شِبه ممضوغة أو بقدرها، ثمّ تحوّلت اللَحمة إلى العظام.

الأمر الذي يتنافى مع العِلم القائل بأنّ اللحم ينبت على العظام بعد خَلقها، كما هو صريح القرآن أيضاً وهذا يبدو متناقضاً ( فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ) !!

____________________

(1) تفسير الجواهر، ج13، ص158 - 159.

(2) المؤمنون 23: 12 - 14.

(3) تفسير الجلالَين، ج2، ص44.

(4) تفسير المراغي، ج18، ص8.

٣٢١

غير أنّ هذه الشُبهة نشأت مِن خطأ هؤلاء المفسّرين وليست واردة على القرآن.

فقد كان تعبير القرآن أنّ النُطفة - وهي خليّة الذَكَر تمتزج ببويضة المرأة - تتحوّل إلى علقة: كُرة جرثوميّة لها خلايا آكلةً وقاضمةً تُعلّق بواسطتها وبواسطة حملات دقيقة بجدار الرحم، تتغذّى بدم المرأة، وهذه النُطفة الصغيرة العالقة تشبه دودة العَلَقة التي تَمتصّ الدم.

ثمّ إنّ هذه العَلَقَة تتحوّل إلى كُتلة غُضروفيّة تشبه ممضوغة العِلك في الفم، وتكون منشأ لتكوين العظام ثُمّ تكوين العضلات بعد بِضعة أيّام؛ لتكسو العظام أي تُغطّيها وتلتحم معها.

ومعنى ذلك: أنّ العِظام تسبق العضلات، ثُمّ تكسو العضلات العظام، وصدق الله العظيم حيث يقول: ( فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ) .

قال سيّد قطب: وهنا يَقف الإنسان مدهوشاً أمام ما كَشَف عنه القرآن من حقيقة في تكوين الجنين لم تُعرف على وجه الدقّة إلاّ أخيراً بعد تقدّم عِلم الأجنّة التشريحي، ذلك أنّ خلايا العظام غير خلايا اللحم (العضلات)، وقد ثبت أنّ خلايا العِظام هي الّتي تتكوّن أَوّلاً في الجنين، ولا تُشاهد خليّة واحدة من خلايا اللحم إلاّ بعد ظهور خلايا العِظام وتمام الهيكل العظمي للجنين، وهي الحقيقة التي يُسجّلها النصّ القرآني (1) .

وقد أشبعنا الكلام في ذلك عند الكلام عن إعجاز القرآن العلمي في الجزء السادس من التمهيد.

وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ

يبدو من ظاهر تعبير آيات قرآنيّة أنّ النجوم جُعلت شُهُباً يُرمى بها الشياطين، قال تعالى: ( وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ ) (2) .

وقال ( إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى

____________________

(1) في ظِلال القرآن، ج 18، ص 16 - 17.

(2) المـُلك 67: 5.

٣٢٢

الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلاّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ) (1) .

وقال سبحانه: ( وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً ) (2) .

وقال عزّ مَن قائل: ( وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلاّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ ) (3) .

غير خفيّ أنّ الشُهُب والنيازك إنّما تَحدث في الغلاف الغازي (الهواء) المحيط بالأرض؛ وقايةً لها، وقُدّر سُمكُه بأكثر من ثلاثمِئة كيلومتر، وذلك على أثر سقوط أحجار هي أشلاء متناثرة في الفضاء المتبقّية من كواكب اندثرت تعوم عبر الفضاء، فإذا ما اقتربت من الأرض انجذبت إليها بسرعة هائلة ما بين 50 و 60 كيلومتراً في الثانية، تخترق الهواء المحيط بالأرض، ولاحتكاكها الشديد بالهواء من جهةٍ ولتأثير الغازات الهوائيّة من جهةٍ أخرى تَحترق وتلتهب شعلة نار، لتتحوّل إلى ذرّات عالقة في الهواء مُكوّناً منها الغُبار الكوني، وهي في حال انقضاضها - وهي تشتعل ناراً - تُرى بصورة نجمة وهّاجة ذات ذَنب مستطيل تُدعى الشُهُب والنيازك.

فليست الشُهُب سِوى أحجار مُلتهبة في الهواء المحيط بالأرض، قريبة منها! فما وجه فَرضها نُجوماً في السماء يُرجم بها الشياطين الصاعدة إلى الملأ الأعلى؟!

لكن يجب أنْ نعلم قبل كلّ شيء أنّ التعابير القرآنيّة - وهي آخذة في الحديث عن كائنات ما وراء المادّة - ليس ينبغي الأخذ بظاهرها اللفظي؛ حيث الأفهام تقصر عن إدراك ما يفوق مستواها المادّي المحدود، والألفاظ أيضاً تضيق عن الإدلاء بتلك المفاهيم الرقيقة البعيدة عن متناول الحسّ.

وبتعبير اصطلاحي: إنّ الأفهام وكذا الألفاظ محدودة في إطار المادّة الكثيفة، فلا تَنال المجرّدات الرقيقة.

____________________

(1) الصافّات 37: 7 - 10.

(2) الجنّ 72: 8 و 9.

(3) الحجر 15: 16 - 18.

٣٢٣

وعليه، فكلّ تعبير جاء بهذا الشأن إنّما هو مجاز واستعارة وتمثيل بِلا ريب.

فلا تَحسب مِن الملأ الأعلى عالَماً يشبه عالَمَنا الأسفل، سوى أنّه واقع في مكان فوق أجواء الفضاء؛ لأنّه تصوّر مادّي عن أمرٍ هو يفوق المادةّ ومُتجرّد عنها، وعليه، فَقِس كلّ ما جاء في أمثال هذه التعابير.

فلا تتصوّر من الشياطين أجساماً على مثال الأناسي والطيور، ولا رَجمها بمِثل رمي النُشّاب إليها، ولا مُرودها بمثل نفور الوحش، ولا استماعها في محاولة الصعود إلى الملأ الأعلى بالسارق المتسلّق على الحيطان، ولا قذفها بمثل قذف القنابل والبندقيات، ولا الحرس الذين ملئوا السماء بالجنود المتصاكّة في القِلاع، ولا رصدها بالكمين لها على غِرار ميادين القتال... إذ كلّ ذلك تشبيه وتمثيل وتقريب في التعبير لأمرٍ غير محسوس إلى الحسّ لغرض التفهيم، فهو تقريبٌ ذهني، أمّا الحقيقة فالبون شاسع والشُقّة واسعة والمسافة بينهما بعيدة غاية البُعد.

قال العلاّمة الطباطبائي: إنّ هذه التعابير في كلامه تعالى من قبيل الأمثال المضروبة؛ ليُتصوّر بها الأمور الخارجة عن محدودة الحسّ في صور المحسوسات للتقريب إلى الأذهان، وهو القائل عزّ وجلّ: ( وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاّ الْعَالِمُونَ ) (1) (أي لا يتعقّلها ولا يعرف مغزاها إلاّ مَن عَرف أنها أمثال ظاهريّة ضُربت للتقريب محضاً).

قال: وأمثال هذه التعابير كثير في القرآن كالحديث عن العرش والكرسي واللوح والكتاب وغيرها.

قال: وعلى هذا، فيكون المـُراد من السماء التي مَلأَتْها الملائكة: عالَماً ملكوتيّاً هو أعلا مرتبة من العالم المشهود، على مِثال اعتلاء السماء الدنيا من الأرض، والمـُراد من اقتراب الشياطين إليها واستراق السمع والقذف بالشُهب: اقترابهم من عالم الملائكة لغرض؛ الاطّلاع على أسرار الملكوت، وثَمّ طردهم بما لا يَطيقون تَحمّله مِن قذائف النور،

____________________

(1) العنكبوت 29: 43.

٣٢٤

أو محاولتهم لتلبيس الحقّ الظاهر، وثَمّ دحرهم ليعودوا خائبينَ (1) ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) (2) .

والآيات من سورة الجنّ لعلّها إشارة إلى هذا المعنى، حيث هي ناظرة إلى بعثة نبيّ الإسلام، وقد أَيسَ الشيطان من أنْ يُعبد وعلا نفيره.

قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (ولقد سمعتُ رنّةَ الشيطان حين نَزل الوحي عليه (صلّى الله عليه وآله) فقلتُ: يا رسولَ الله، ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان قد أيسَ من عبادته) (3) .

يقول تعالى في سورة الجنّ: ( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناًَ عَجَباً - إلى قوله: - وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً ) (4) ، فهي حكاية عن حالٍ حاضرة وَجَدَتها الجنّ حينما بُعث نبيّ الإسلام.

وبهذا يشير قوله تعالى: ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (5) ، وقوله: ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ) (6) .

نعم، كانت تلك بُغية إبليس أنْ يتلاعب بوحي السماء ولكن في خيبة آيسة: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاّ إِذَا تَمَنَّى (ظهور شريعته) أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (7) ، أي حاول إبليس الحؤول دون بلوغ أُمنيّة الأنبياء، فكان يَندحر ويَغلب الحقّ الباطل وتَفشل دسائسه في نهاية المطاف.

أمّا عند ظهور الإسلام فقد خاب هو وجنوده منذ بدء الأمر وخَسِر هنالك المـُبطلون.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (فلمـّا وُلد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حُجِب (إبليس) عن السبع السماوات ورُميت الشياطين بالنجوم...) (8) .

____________________

(1) تفسير الميزان، ج 17، ص 130 نقلاً مع تصرّفٍ يسير.

(2) الأنبياء 21: 18.

(3) نهج البلاغة، الخطبة القاصعة، ص 301.

(4) الجنّ 72: 1 - 9.

(5) الحجر 15: 9.

(6) الفتح 48: 28.

(7) الحجّ 22: 52.

(8) الأمالي للصدوق، ص 253، المجلس 48، وبحار الأنوار، ج 15، ص 257.

٣٢٥

وفي حديث الرضا عن أبيه الكاظم عن أبيه الصادق (عليهم السلام) في جواب مُساءَلة اليهود: (أنّ الجنّ كانوا يَسترقون السمعَ قَبل مَبعث النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فمُنِعت مِن أوان رسالته بالرجوم وانقضاض النجوم وبُطلان (عمل) الكَهَنة والسحرة) (1) .

وهكذا حاول الشيخ الطنطاوي تأويل ظواهر التعابير الواردة في هذه الآيات إلى إرادة التمثيل، قال - ما مُلخّصه -: إنّ العلوم التي عَرفها الناس تُراد لأَمرَين: إمّا لمعرفة الحقائق لإكمال العقول، أو لنظام المعايش والصناعات لتربية الجسم، وإلى الأَوّل أشار بقوله تعالى: ( وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً ) (2) ، وإلى الثاني قوله: ( وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ) (3) ، وكلّ مَن خالف هاتَين الطريقتَين فهو على أحد حالَين: إمّا أنْ يُريد ابتزاز أموال الناس بالاستعلاء بلا فائدة، وإمّا أنْ يُريد الصيت والشُهرة وكسب الجاه، وكلاهما لا نفع في عِلمه ولا فضل له.

فمَن طلب العِلم أو أكثر في الذِكر؛ ليكون عالةً على الأُمّة فهو داخلٌ في نوع الشيطان الرجيم، مرجوم مُبعدٌ عن إدراك الحقائق ومُعذّبٌ بالذّل والهوان، وهذا مِثال قوله تعالى:) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى (فلا يعرفون حقائق الأشياء) وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً ) بما رُكّب فيهم من الشهوات وما اُبتلوا من العاهات ( وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ) أي في أَمل متواصل مُلازم لهم مدى الحياة، فلو حاول أنْ يَخطِف خَطفة من الحقائق حالت دون بلوغه لها الأميال الباطلة ( فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ) (4) .

نعم ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ) (5) ، ولا شكّ أنّها كناية عن حرمانهم العناية الربّانيّة المـُفاضة مِن مَلكوت أعلى، الأمر الذي أُنعِمَ به الرّبانيّون في هذه الحياة: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ) (6) ، فملائكة الرَحمة تَهبط إليهم وهم في مواضعهم آمنون مستقرّون سائرون في طريقهم صُعُداً إلى قمّة الكمال.

____________________

(1) بحار الأنوار، ج 17، ص 226 عن قرب الإسناد للحميري، ص 133.

(2) الحجر 15: 16.

(3) الأعراف 7: 10، الحجر 15: 20.

(4) الصافّات 37: 6 - 10. راجع: تفسير الجواهر، ج 8، ص 13، وج 18، ص 10.

(5) الأعراف 7: 40.

(6) فصّلت 41: 30.

٣٢٦

وكذلك قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ) (1) ، أي آخذ في الصعود إلى سماء العزّ والشرف والسعادة. ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (2) ، فما هذا الصعود وهذا الرفع؛ إلاّ ترفيعاً في مدارج الكمال.

وهكذا جاء التعبير بفتح أبواب السماء كنايةً عن هطول المطر ( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ ) (3) ، وأمثال هذا التعبير في القرآن كثير (4) ، والجميع مَجاز وليس على الحقيقة سواء في المعنويّات أم الماديّات، فلو كان عيباً لعَابَه العرب أصحاب اللغة العَرباء في الجزيرة، لا أرباب اللغة العجماء من وراء البحار.

وأمّا النجوم التي يُرجم بها الشياطين (أبالسة الجنّ والإنس) فهم العلماء الربّانيّون المتلألئون في أُفق السماء، يقومون في وجه أهل الزيغ والباطل فيَرجموهم بقذائف الحُجج الدامغة ودلائل البيّنات الباهرة، ويَرمونهم من كلّ جانب دحوراً.

فسماء المعرفة مُلئت حرساً شديداً وشُهُباً. قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (يَحمل هذا الدِّين في كلِّ قَرن عدولٌ يَنفون عنه تأويل المـُبطلينَ وتحريف الغالينَ وانتحال الجاهلين...) (5) .

وقد أطلق النُجوم على أئمة الهُدى ومصابيح الدُجى من آل بيت الرسول (عليهم السلام) فقد روى عليّ بن إبراهيم في تفسير قوله تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) (6) قال: النُجوم آل مُحمّد (صلّى الله عليه وآله) (7) .

وفي حديث سلمان الفارسي رضوان الله عليه قال: خَطَبنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال: (مَعاشرَ الناسِ، إنّي راحل عنكم عن قريب ومُنطلق إلى المـَغيب، أُوصيكم في عترتي خيراً وإيّاكم والبِدع، فإنّ كلّ بِدعةٍ ضلالة وكلّ ضلالة وأهلها في النار، معاشرَ الناسِ، مَن افتقدَ الشمس فليتمسّك بالقمر، ومَن افتقدَ القمر فليتمسّك بالفرقَدَين، ومَن افتقدَ الفرقَدَين فليَتمسّك بالنجوم الزاهرة بعدي، أقول قولي واستغفر اللّه لي ولكم).

____________________

(1) إبراهيم 14: 24.

(2) فاطر 35: 10.

(3) القمر 54: 11.

(4) الأنعام 6: 44، الأعراف 7: 96، الحجر 15: 14، النبأ 78: 19.

(5) بحار الأنوار، ج2، ص93، رقم 22 من كتاب العلم.

(6) الأنعام 6: 97.

(7) تفسير القميّ، ج1، ص211.

٣٢٧

قال سلمان: فتَبِعتُه وقد دَخل بيت عائشة وسألتُه عن تفسير كلامه فقال - ما ملخّصه -: (أنا الشمس وعليٌّ القمر، والفرقَدان الحسن والحسين، وأمّا النجوم الزاهرة فالأئمة مِن وُلد الحسين واحداً بعد واحد...) (1) (كلّما غابَ نجمٌ طلعَ نجمٌ إلى يوم القيامة) كما في حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس رحمة اللّه عليهما قاله في شأن أهل البيت (عليهم السلام) (2) .

وفي حديث أبي ذر رضوان اللّه عليه التعبير عنهم بـ (النُجُوم الهادية) (3) وأمثال ذلك كثير.

سبع سماوات عُلا

قال تعالى: ( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ - إلى قوله: - وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ) (4) .

ظاهر التعبير أنّ السماوات السبع هي أجواء وفضاءات متراكبة بعضُها فوق بعضٍ؛ لتكون الجميع محيطةً بالأرض من كلّ الجوانب ( وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً ) (5) ، حيث الفوقيّة بالنسبة إلى جسم كريّ - هي الأرض - إنّما تعني الإحاطة بها من كلّ جانب.

وأيضاً فإنّ السماء الدنيا - وهو الفضاء الفسيح المـُحيط بالأرض - هي التي تَزينَّت بزينة الكواكب ( أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا ) (6) ، والظاهر يقتضي التركيز فيها، وإنْ كان مِن المـُحتمل تَجلّلها بما تُشِعّ عليها الكواكبُ من أنوار!

ويبدو أنّ هذا الفضاء الواسع الأرجاء - بما فيه من أَنجم زاهرة وكواكب مضيئة لامعة - هي السماء الأُولى الدنيا، ومن ورائها فضاءات ستٌّ في أبعادٍ مُترامية، هي مليئة بالحياة لا يعلم بها سِوى صانعها الحكيم، ( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً ) (7) .

والعقل لا يفسح المجال لإنكار ما لم يَبلغه العلم، وهو في بدء مراحله الآخذة إلى الكمال.

____________________

(1) بحار الأنوار، ج36، ص 289، عن كتاب كفاية الأثر للخزّار الرازي، باب ما جاء عن سلمان في النصّ على الأئمة الاثني عشر، ص293.

(2) بحار الأنوار، ج40، ص203 عن جامع الأخبار للصدوق، ص15.

(3) راجع: بحار الأنوار، ج28، ص275.

(4) الملك 67: 3 - 5.

(5) النبأ 78: 12.

(6) ق 50: 6.

(7) الإسراء 17: 85.

٣٢٨

نعم، يزداد العلم يقيناً - كلّما رَصَد ظاهرة كونيّة - أنّ ما بَلَغه ضئيل جدّاً بالنسبة إلى ما لم يبلغه، ويزداد ضآلةً كلّما تقدّم إلى الأمام؛ حيث عَظَمة فُسحة الكون تَزداد اُبّهةً وكبرياءً كلّما كُشف عن سرٍّ من أسرار الوجود وربّما إلى غير نهاية، لاسيّما والكون في اتّساع مطّرد: ( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ) (1) .

هذا وقد حاول بعضهم - في تَكلّفٍ ظاهر - التطبيق مع ما بَلغه العِلم قديماً وفي الجديد مِن غير ضرورة تدعو إلى ذلك، ولعلّ الأناة حتّى يأتي يوم يساعد التوفيق على حلّ هذا المجهول من غير تكلّفٍ، كانت أفضل.

يقول سيّد قطب: لا ضرورة لمحاولة تطبيق هذه النصوص على ما يَصل إليه عِلمنا؛ لأنّ علمنا لا يُحيط بالكون حتّى نقول على وجه التحقيق: هذا ما يريده القرآن، ولن يصحّ أنْ نقول هكذا إلاّ يوم يَعلم الإنسان تَركيبَ الكون كلّه عِلماً يقيناً، وهيهات... (2)

وإليك بعض محاولات القوم: حاول بعض القُدامى تطبيق التعبير الوارد في القرآن على فرضيّة بطلميوس لهيئة الأفلاك التي هي مَدارات الكواكب فيما حَسبه حول الأرض (3) ، ولكن من غير جَدوى؛ لأنّ الأفلاك في مزعومتِه تسعة؛ ومِن ثَمَّ أضافوا على

____________________

(1) الذاريات 51: 47.

(2) في ظِلال القرآن، ج28، ص152.

(3) زَعموا أنّ الأرض في مركز العالَم، وأنّ القمر وعطارد والزُهرة والشمس والمرّيخ والمشتري وزحل سيّارات حولها، في مَدارات هي أفلاك بعضها فوق بعض بنفس الترتيب، وكلّ وأحدٍ منها في فَلكٍ دائر حول الأرض من الغرب إلى الشرق في حركةٍ معاكسةٍ لحركتها اليوميّة من الشرق إلى الغرب على أثر تحريك الفَلك التاسع، المـُسمّى عندهم بفَلك الأفلاك أو بالفَلك الأطلس؛ لعدم وجود نجم فيه وأمّا النجوم الثوابت فهي مركوزة في الفَلك الثامن، فهذه تسعة أفلاك مُحيطة بالأرض بعضها فوق بعض.

وهكذا جاء في إنجيل برنابا من كلام المسيح (عليه السلام): أنّ السماوات تسع، فيها السيّارات، وتَبعُد إحداها عن الأُخرى مسيرة خمسمِئة عام.

ولمـّا تُرجمت فلسفة اليونان إلى العربيّة، ودَرَسها علماء الإسلام وَثقوا بأنّ الأفلاك تسعة، وقال بعضهم: هي سبع سماوات، والكرسي فَلك الثوابت، والعرش هو الفَلك المـُحيط.

والغريب أنّ مِثل مُحيي الدين ابن عربي اغترّ بهذه الغريبة وحسبها حقيقة وبنى عليها معارفَه الإشراقيّة فيما زعم، (راجع: الفتوحات المكّيّة، الباب 371 والفصل الثالث منه، ج3، ص416 و433، وكذا الفصّ الإدريسي من فصوص الحكم، ج1، ص75)، وهكذا شيخنا العلاّمة بهاء الدين العاملي في كتابه تشريح الأفلاك، وهو عجيب!

ولقد أَعجبني كلام أبي الحسن علي بن عيسى الرّمّاني المـُعتزلي في تفسير الآية، حيث أنكر إرادة الأفلاك البطلميوسيّة من السماوات السبع في القرآن؛ محتجّاً بأنّه تفسير يُخالف ظاهر النصّ، راجع: تفسير التبيان للشيخ الطوسي، ج1، ص 127.

٣٢٩

السماوات السبع - الواردة في القرآن - العرش والكرسي؛ ليَكتمل التسع ويحصل التطابق بين القرآن وفرضيّةٍ أساسُها الحَدسُ والتخمينُ المجرّد.

وأمّا المحدَثون فحاولوا التطبيق على النظرة الكوبرنيكيّة الحديثة، حيث الشمس هي نواة منظومتها والكُرات دائرة حولها ومنها الأرض مع قمرها (1) .

زَعَموا أنّ المـُراد بالسماوات السبع، هي الأجرام السماويّة، الكُرات الدائرة حول الشمس، تُرى فوق الأرض في أُفقها. فالسماوات - في تعبير القرآن على هذا الفرض - هي الأجرام العالقة في جوّ السماء (وكان جديراً أنْ يُقال - بَدلَ السماوات - السماويّات).

يقول الشيخ الطنطاوي: هذا هو الذي عرفه الإنسان اليوم من السماوات. فَقَايسَ بين ما ذَكَره علماء الإسكندريّة بالأمس، ويبن ما عرفه الإنسان الآن، إنّ عظمة اللّه تَجلّت في هذا الزمان..

إذن فما جاء في إنجيل برنابا مَبنيّاً على عِلم الإسكندرون أصبح لا قيمة له بالنسبة للكشف الحديث الذي يُوافق القرآن (2) .

ويزداد تَبّجُحاً قائلاً: إذن دين الإسلام صار الكشف الحديث مُوافقاً له، وهذه معجزة جديدة جاءت في زماننا.

ثُمَّ يورد أسئلةً وُجّهت إليه، منها: التعبير بالسبع، فيجيب: أنّ العدد غير حاصر، فسواء قُلت سبعاً أو ألفاً فذلك كلّه صحيح؛ إذ كلّ ذلك من فعل اللّه دالّ على جماله وكماله.

____________________

(1) جاءت النظرية على الأَساس التالي:

1 - الشمس: نَواة المنظومة.

2 - نجمة فلكان: بُعدها عن الشمس 13 مليون ميلاً، ودورها المحوري 18 ساعة، ودورها حول الشمس 20 يوماً.

3 - كوكب عطارد: بُعدها 35 مليون ميلاً دَورها المحوري 24 ساعة و5 دقائق، حول الشمس 88 يوماً.

4 - الزُهرة: بُعدها 66 مليون ميلاً، دَورها المحوري 23 ساعة و22 دقيقة، حول الشمس 225 يوماً.

5 - الأرض: بُعدها 93 مليون ميلاً، دَورها المحوري 24 ساعة، حول الشمس 365 يوماً.

6 - المرّيخ: بُعدها 140 مليون ميلاً، دَورها المحوري 24 ساعة و38 دقيقة، حول الشمس 687 يوماً.

7 - المشتري: بُعدها 476 مليون ميلاً، دَورها المحوري 10 ساعات، حول الشمس 12 سنة.

8 - زُحل: بُعدها 876 مليون ميلاً، دَورها المحوري 10 ساعات و 15 دقيقة، حول الشمس 29 سنة ونصفاً.

9 - أُورانوس: بُعدها 1753 مليون ميلاً، دَورها المحوري 10 ساعات، حول الشمس 84 سنة وأُسبوعا.

10 - نبتون: بُعدها 2746 مليون ميلاً، دَورها المحوري مجهول، حول الشمس 164 سنة و285 يوماً.

راجع: الهيئة والإسلام للسيّد هبة الدين الشهرستاني، ص61 - 62.

(2) تفسير الجواهر، ج1، ص49 الطبعة الثانية.

٣٣٠

وأخيراً يقول: إنّ ما قُلناه ليس القصد منه أنْ يَخضع القرآن للمباحث (العلميّة) فإنّه ربّما يَبطل المذهب الحديث كما بَطل المذهب القديم، فالقرآن فوق الجميع، وإنّما التطبيق؛ كان ليأنس المؤمنون بالعلم ولا ينفروا منه لظاهر مخالفته لألفاظ القرآن في نظرهم (1) .

وللسيّد هبة الدين الشهرستاني - علاّمة بغداد في عصره - محاولة أُخرى للتطبيق، فَفَرض من كلّ كُرة دائرة حول الشمس ومنها الأرض أرضاً والجوّ المحيط بها سماءً، فهناك أَرَضون سبع وسماوات سبع، الأُولى: في أرضنا وسماؤها الغلاف الهوائي المحيط بها، والأرض الثانية: هي الزُهرة وسماؤها الغلاف البخاري المحيط بها، والثالثة: عطارد وسماؤها المحيط بها، الرابعة: المرّيخ وسماؤها المحيط بها، الخامسة: المشتري وسماؤها المحيط بها، السادسة: زُحل وسماؤها المحيط بها، السابعة: أورانوس وسماؤها المحيط بها.

قال: ترتيبنا المـُختار تنطبق عليه مقالات الشريعة الإسلاميّة ويُوافق الهيئة الكوبرنيكيّة.

وأسند ذلك إلى حديث عن الإمام الرضا (عليه السلام) سنوافيك به عند الكلام عن الأَرَضين (2) .

وذكر الحجّة البلاغي أنّ السماوات السبع لا يمتنع انطباقها على كلّ واحدة من الهيئتَين القديمة والجديدة، فيُمكن أنْ يُقال على الهيئة القديمة: إنّ السماوات السبع هي أفلاك السيّارات السبع، وإنّ فَلك الثوابت هو الكرسي في قوله تعالى: ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ) (3) ، وإنّ الفَلك الأطلس المـُدير - على ما زَعَموا - هو العرش في قوله تعالى: ( رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) (4) .

ويُمكن أنْ يُقال على الهيئة الجديدة: إنّ السماوات السبع هي أفلاكٌ خمسٌ من السيّارات مع فَلكَي (الأرض) و(فلكان) والعرش والكرسي هما فَلَكا (نبتون) و(أُورانوس)، وأمّا الشمس فهي مركز الأفلاك، والقمر تابع للأرض وفَلَكه جزء من فَلَكها (5) .

____________________

(1) المصدر: ص 50 - 51 بتصرّف وتلخيص.

(2) الهيئة والإسلام، ص177 - 179.

(3) البقرة 2: 255.

(4) المؤمنون 23: 86.

(5) الهدى إلى دين المصطفى للبلاغي، ج2، ص7.

٣٣١

قال: والحاصل أنّ كلاًّ مِن وضعَي الهيئة القديمة والجديدة يُمكن من حيث انطباق الحركات المحسوسة عليه، ولكنّه يُمكن أنْ يتعدّاه التحقيق إلى وضعٍ ثالث ورابع، فلا يَحسُن الجزم بشيءٍ ما لم يُشاهد بالتفصيل أو بصراحة الوحي، لكنّ الحِكمة تقتضي أنْ لا يتولّى الوحي بصراحته بالتفصيل (1) .

وبعد، فالطريقة السليمة هي التي سَلكها سيّدنا العلاّمة الطباطبائي، يقول:

إنّ المـُستفاد من ظاهر الآيات الكريمة - وليست نصّاً - أنّ السماء الدنيا هي عالم النجوم والكواكب فوقنا، وأنّ السماوات السبع هي أجواء متطابقة أقربُها منّا عالم النُجوم، ولم يَصف لنا القرآن شيئاً مِن الستّ الباقية سِوى أنّها طِباق، وليس المراد بها الأَجرام العلوية سواء من مَنظُومتنا الشمسيّة أو غيرها.

وما وَرد مِن كون السماوات مأوى الملائكة يَهبطون منها ويَعرجون إليها، ولها أبواب تُفتَّح لنزول البركات، كلّ ذلك يكشف عن أنّ لهذه الأُمور نوع تعلّق بها لا كتعلّقها بالجسمانيّات، فإنّ للملائكة عوالم ملكوتيّة مُترتّبة سماوات سبعاً ونُسب ما لها من الآثار إلى ظاهر هذه السماوات؛ بلحاظ ما لها من العلوّ والإحاطة والشمول، وهو تسامح في التعبير تقريباً إلى الأذهان الساذجة (2) .

ولبعض العلماء الباحثين في المسائل الروحيّة في إنجلترا - (هو: جيمس آرثر فندلاي من مواليد 1883م) - تصوير عن السماوات السبع يَشبه تصويرنا بعض الشيء: يرى من كُرة الأرض واقعة في وسط أبهاء وفضاءات تُحيط بها من كلّ الجوانب، في شكل كُراتٍ مُتخلِّلةٍ بعضُها بعضاً ومتراكبة إلى سبعة أطباق، كلّ طبقة ذات سطحَين أعلى وأسفل، مِلءُ ما بينهما الحياة النابضة، يُسمّى المجموع العالَم الأكبر الذي نعيش فيه، نحن في الوسط على وجه الأرض.

وهذه الأجواء المتراكبة تُحيط بنا طِباقاً بعضها فوق بعض إلى سبع طَبقات، وإنْ شئت فعبّر بسبع سماوات؛ لأنّها مبنيّة في جهةٍ أعلى فوق رؤوسنا، وإليك الصورة حسبما رَسَمها في كتابه (الكون المنشور).

____________________

(1) المصدر: ج2، ص6.

(2) تفسير الميزان، ج17، ص392 - 393.

٣٣٢

شَكل الأرض في الوسط تَحيط بها سبع أطباق هي سماوات عُلى:

في هذا الشَكل - كما رَسَمه (جيمس آرثر فندلاي) - نجد العالم الأَكبر في صورة أبهاء متراكبة بعضها فوق بعض مملوءة بالحياة، ويُرى الحياة في حركتها إلى أعلى وأسفل في شكل خُطوطٍ مُنحنية على السطوح، وتُمثّل الصُلبان الصغيرة الحياة على الأرض، أمّا النُقط فتُمثّل الحياة الأثيريّة ويُلاحظ أنّها ليست مقصورة على السطوح وحدَها؛ لأنّ الفضاءات بين السطوح مِلؤها الحياة سابحة فيها! (1)

____________________

(1) راجع: ملحق كتابه (على حافّة العالم الأثيري) تَرجمة أحمد فهمي أبو الخير (ط3)، ص199.

٣٣٣

مسائل ودلائل

هنا عدة أسئلة تستدعي الوقوف لديها:

1 - ( كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)

قال تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) (1) .

وقال: ( لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) (2) .

هلاّ كان التعبير بالفَلَك مُتابعة لِما حَسبه بطلميوس؟

قلت: لا؛ لأنّ الفَلَك لفظة عربيّة قديمة يُراد بها الشيء المـُستدير، ومن الشيء مُستداره، قال ابن فارس: الفاء واللام والكاف أصل صحيح (3) يدلّ على استدارةٍ في شيء، من ذلك (فَلْكَةُ المِغزل) لاستدارتها؛ ولذلك قيل: فَلَكَ ثديُ المرأة، إذا استدار، ومن هذا القياس: فَلَكُ السماء (4) .

إذن، فكما أنّ السماء مستديرة حتّى في شكلها الظاهري، فكلّ ما يَسبح في فضائِها يَسير في مَسلك مُستدير؛ وبذلك صحّت استعارة هذا اللفظ.

والدليل على أنها استعارة هو استعمال اللفظة بشأن الليل والنهار أيضاً، أي أنّ لكلّ ظاهرة من الظواهر الكونيّة مَجراها الخاصّ وفي نظام رتيب لا تَجور ولا تَحور.

2 - ( فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ)

قال تعالى: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ) (5) .

أو هل كانت الطرائق هنا هي مَدارات الأفلاك البطليميوسيّة؟

قلت: كلاّ، إنّها الطَرائق بمعنى مَجاري الأُمور في التدبير والتقدير والتي هي محلّها السماوات العُلا.

____________________

(1) الأنبياء 21: 33.

(2) يس 36: 40.

(3) مقصوده من الأصل: كونها ذات أصالة عربيّة وليس مستعارة من لغةٍ أجنبيّة.

(4) معجم مقاييس اللغة، ج4، ص452 - 453.

(5) المؤمنون 23: 17.

٣٣٤

الطَرَائق: جمعُ الطَريقة بمعنى المـَذهب والمـَسلك الفكري والعقائدي وليس بمعنى سبيل الاستطراق على الأقدام، ولم تُستعمل في القرآن إلاّ بهذا المعنى:

يقول تعالى - حكايةً عن لسان الجنّ -: ( وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً ) (1) ، أي مَذاهب شتّى.

( وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) (2) ، أي بمَذهبكم القويم الأفضل.

( إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ يَوْماً ) (3) ، وذاك يوم الحَشر يَتخافت المـُجرمون: كم لَبِثوا؟ فيقول بعضهم: عشراً. ويقول أَعقلهم وأَفضلهم بصيرةً: ( إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ يَوْماً ) .

( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً ) (4) ، أي الطريقة المـُثلى والمـَذهب الحقّ.

فالمقصود بالطَرَائق - في الآية الكريمة - هي طَرائق التدبير والتقدير، المـُتّخذة في السماوات حيث مُستقرّ الملائِكِ المدبِّرات أمراً والمقسّمات (5) ، ( يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ) (6) ، ( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) (7) ، أي تقدير أرزاقكم وكلّما قُدّر لكم مِن مَجاري الأُمور، ( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ ) (8) ، ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) (9) .

فالتدبير في السماء ثُمّ التنزيل إلى الأرض ( وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبِّكَ ) (10) ، ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) (11) ، ومِن ثَمَّ تعقّب الآية بقوله تعالى: قال العلاّمة الطباطبائي: أي لستُم بمُنقطعينَ عنّا ولا بمَعزلٍ عن مراقبتِنا وتدبيرنا لشؤونكم، فهذه الطَرائق السبع إنّما جُعلت؛ ليستطرقَها رُسُل ربّكم في التقدير والتدبير والتنزيل (12) .

____________________

(1) الجن 72: 11.

(2) طه 20: 63.

(3) طه 20: 104.

(4) الجنّ 72: 16.

(5) النازعات 79: 5، والذرايات 51: 4.

(6) السجدة 32: 5.

(7) الذاريات 51: 22.

(8) يونس 10: 3.

(9) الحجر 15: 21.

(10) مريم 10: 64.

(11) القدر 97: 4.

(12) راجع: الميزان، ج15، ص21.

٣٣٥

3 - ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ) (1)

ماذا يعنى بذات الحُبُك؟

الحُبُك: جمع الحَبِيكة بمعنى الطَريقة المـَتّخذة، قال الراغب. فمنهم مَن تصوّر منها الطَرائق المحسوسة بالنجوم والمـَجرّات، ومنهم مَن اعتبر ذلك بما فيه مِن الطَرائق المعقولة المـُدرَكة بالبصيرة.

والحُبُك: المـُنعطفات على وجه الماء الصافي تحصل على أثرِ هُبوب الرياح الخفيفة، وهي تكسّرات على وجه الماء كتجعّدات الشعر، ويُقال للشعر المـُجعَّد: حُبُك والواحد حِباك وحَبيكة، قاله الشيخ أبو جعفر الطوسي في التبيان.

من ذلك قول زهير يصف روضة:

مُكلَّلٌ بأُصولِ النَجْمِ تَنْسِجُهُ

ريحٌ خَريقٌ لضاحي مائِهِ حُبُكُ

مراده بالنَجم النبات الناعم، وشَبّه تربية الرياح له بالنَسج، كأنّه إكليل (تاج مزيّن بالجواهر) نَسَجته الريح، ووصف الريح بالخَريق، وهو العاصف.

ثُمّ وَصَف ضاحي مائِهِ - وهو الصافي الزُلال - بأنّ على وجهه قَسَمات وتَعاريج على أثر مَهبّ الرياح عليه، وهو منظر بهيج.

فعلى احتمال إرادة التعرّجات المتأرجحة من الآية، فهي إشارة إلى تلكُم التمرُّجات النوريّة التي تُجلِّل كَبْدَ السماء زينةً لها وبهجةً للناظرين، فسبحان الصانع العظيم!

4 - ( أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً) (2)

في هذه الآية تَوجّه الخطاب إلى عامّة الناس ولا سيّما الأُمَم السالفة الجاهلة حيث لا يعرفون من أطباق السماء شيئاً، فكيف يُعرض عليهم دليلاً على إتقان صنعه تعالى؟ (الآية في سورة نوح والخطاب عن لسانه موجّه إلى قومه).

____________________

(1) الذاريات 51: 7.

(2) نوح 71: 15.

٣٣٦

وهكذا قوله تعالى: ( أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ) (1) .

وقوله: ( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ) (2) .

قلت: هذا بناءً على تفسير الطِباق بذات الطَبقات.

هكذا فسّره المشهور: طِباقاً، واحدة فوق أخرى كالقِباب بعضها فوق بعض (3) .

لكنّ الطِباق هو بمعنى الوِفاق والتَماثل في الصُنع والإتقان، بدليل تفسيره بقوله تعالى: ( مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ ) ، أي كلّها في الصُنع والاستحكام متشاكل.

وقد أُشرِب هنا معنى الالتحام والتلاصق التامّ بين أجزائها مُراداً به الانسجام في الخَلق، بدليل قوله تعالى: ( هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ) أي انشقاق وخَلَل وعَدم انسجام، وكذا قوله: ( وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ) أي منفرجات وخلاّت تُوجب فصل بعضها عن بعض بحيث تُضادّ النَظم القائم، الأمر الذي يستطيع كلّ إنسان - مهما كان مَبلَغه مِن العِلم - من الوقوف عليه إذا تأمّل في النَظم الساطي على السماوات والأرض.

5 - ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ) (4)

( وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ) (5) ( تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً ) (6) ، أو هل تعني البُرُوج هذه ما تصوّره الفلكيّون بشأن البروج الاثني عشر في أشكالٍ رَسَموها لرصد النجوم؟

قلت: المعنيّ بالبُرُوج هذه هي نفس النُجوم؛ تشبيهاً لها بالقصور الزاهية والحصون المنيعة الرفيعة، بدليل عطف السِراج - وهي الشمس الوهّاجة - والقمر المنير عليها.

____________________

(1) ق 50: 6.

(2) الملك 67: 3.

(3) راجع: مجمع البيان، ذيل الآية من سورة المـُلك والآية من سورة نوح، ج 10، ص 322 و 363، وروح المعاني للآلوسي، ج 29، ص 6 و75، وتفسير المراغي، ج 29، ص 6 و 85... وغيرها.

(4) البروج 85: 1.

(5) الحجر 15: 16.

(6) الفرقان 25: 61.

٣٣٧

ولا صلة لها بالأَشكال الفَلكيّة الاثني عشر.

البُرج - في اللغة - بمعنى الحِصن والقصر وكلّ بناءٍ رفيع على شكلٍ مُستدير، فالنُجوم باعتبار إنارتها تبدو مُستديرةً، وباعتبار تلألؤها تبدو كعُبابات تَعوم على وجه السماء زينةً لها، وباعتبارها مراصد لحراسة السماء ( وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ) (1) ، هي حُصون منيعة، فصحّ إطلاق البروج عليها من هذه الجوانب لا غيرها.

هذا، وقد خُلِط على لفيفٍ من المفسّرين فَحَسبوها منازل الشمس والقمر حسب ترسيم الفلكيّين (2) .

وسيّدنا العلاّمة الطباطبائي وإنْ كان في تفسيره لسورتَي الحِجر والفُرقان قد ذهب مذهب المشهور، لكنّه (قدس سره) عَدَل عنه عند تفسيره لسورة البُروج، قال: البُروج، جمع بُرج وهو الأمر الظاهر ويَغلب استعماله في القصر العالي والبِناء المـُرتفع على سُور البلد، وهو المـُراد في الآية، فالمـُراد بالبُروج مواضع الكواكب من السماء، قال: وبذلك يَظهر أنّ تفسير البُروج (في الآيات الثلاث) بالبُروج الاثني عشر المـُصطلح عليها في عِلم النجوم غير سديد (3) .

وقال الشيخ مُحمّد عَبده: وفُسّرت البُروج بالنُجوم وبالبُروج الفلكيّة وبالقُصور على التشبيه، ولا ريب في أنّ النُجوم أَبنية فخيمة عظيمة، فيصحّ إطلاق البُروج عليها تشبيهاً لها بما يُبنى من الحُصون والقُصور في الأرض (4) .

6 - ( وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ)

قال تعالى: ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ

____________________

(1) الحجر 15: 17.

(2) تفسير القمي، ج 1، ص 373، والميزان، ج 12، ص 143 و 154، وتفسير ابن كثير، ج 2، ص 548، وروح المعاني، ج 14، ص 20.

(3) تفسير الميزان، ج 20، ص 368.

(4) تفسير جزء عمّ لمـُحمّد عبده، ص 57.

٣٣٨

يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ ) (1) .

(يُزجي): يَسوق، (يُؤلّف بينه): يؤلّف بين متفرّقه، (يجعله رُكاماً): متكاثفاً، (فترى الوَدق): قَطرات المطر الآخِذة في الهُطول.

( وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ ) ؟

السؤال هنا: ماذا يعني بالجبال هذه؟ وماذا يكون المقصود مِن البَرد وهو الماء المتجمّد على أثر ضغط البرد؟ وكيف يكون هناك في السماء جبالٌ مِن بردٍ؟

وقد مرّ عليها أكثر المفسّرين القُدامى مرور الكرام، وبعضهم أَخذها على ظاهرها وقال: إنّ في السّماء جِبالاً من برد (من ثلج) يَنزل منها المطر، كما تنحدر المياه من جبال الأرض على أثر تراكم الثلوج عليها، عن الحسن والجبّائي (2) وعن مجاهد والكلبي وأكثر المفسّرين: أنّ المراد بالسّماء هي المظلّة وبالجبال حقيقتها، قالوا: إنّ الله خَلَق في السّماء جِبالاً من برد كما خَلق في الأرض جبالاً من صخر، قال الآلوسي: وليس في العقل ما ينفيه من قاطع، فيجوز إبقاء الآية على ظاهرها كما قيل (3) .

قال السيّد المرتضى: وجدتُ المفسّرين على اختلاف عباراتهم يذهبون إلى أنّه تعالى أراد: أنّ في السّماء جِبالاً من بردٍ، وفيهم مَن قال: ما قَدْرُه قَدْرُ جبال، يعني مِقدار جبال مِن كثرته.

قال: وأبو مسلم بن بحر الإصبهانيّ خاصّةً انفرد في هذا الموضع بتأويلٍ طريف، وهو أنْ قال: الجبال، ما جَبَل الله مِن بَرَد، وكلّ جسم شديد مُستحجِر فهو من الجبال، ألم ترَ إلى قوله تعالى في خَلق الأُمَم: ( وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ ) (4) ، والناس يقولون: فلا مجبول على كذا.

وأورد عليه السيّد بأنّه يَلزمه أنّ جعل الجبال اسماً للبرد نفسه؛ من حيث كان مجبولاً مستحجراً! وهذا غلط؛ لأنّ الجبال وإن كانت في الأصل مشتقّة من الجَبْل

____________________

(1) النور 24: 43.

(2) مجمع البيان، ج 7، ص 148.

(3) روح المعاني، ج 18، ص 172، وراجع: التفسير الكبير، ج 24، ص 14.

(4) الشعراء 26: 184.

٣٣٩

والجَمْع، فقد صارت اسماً لذي هيئةٍ مخصوصة؛ ولهذا لا يُسمّي أحد من أهل اللغة كلَّ جسم ضُمَّ بعضه إلى بعض - مع استحجار أو غير استحجار - بأنّه جبل، ولا يخصّون بهذا اللفظ إلاّ أجساماً مخصوصةً... كما أنّ اسم الدابّة وإن كان مشتقّاً في الأصل من الدبيب فقد صار اسماً لبعض ما دبّ، ولا يعمّ كلّ ما وقع منه الدبيب.

قال: والأَولى أنْ يُريد بلفظة السماء - هنا - ما عَلا من الغَيم وارتفع فصار سماءً لنا؛ لأنّ سماء البيت وسماواته ما ارتفع منه، وأراد بالجبال التشبيه؛ لأنّ السحاب المتراكب المتراكم تُشبّهه العرب بالجِبال والجِمال، وهذا شائعٌ في كلامها، كأنّه تعالى قال: ويُنزّل من السحاب الذي يشبه الجِبال في تَراكُمِه بَرداً.

قال: وعلى هذا التفسير تكون (مِن) الأُولى والثانية لابتداء الغاية، والثالثة زائدة لا حكم لها، ويكون تقدير الكلام: ويُنزّل من جبالٍ في السماء بَرداً، فزادت (مِن) كما تزاد في قولهم: ما في الدار من أحد، وكم أعطيته من درهم، ومالك عندي من حقّ، وما أشبه ذلك.

وأضاف: إنّه قد ظهر مفعولٌ صحيحٌ لـ (نُنزّل)، ولا مفعول لهذا الفعل على سائر التأويلات (1) .

قلت: وهو تأويل وجيه لولا جانب زيادة (مِن) في الإيجاب.

قال ابن هشام: شرط زيادتها تقدّم نفي أو نهي أو استفهام ولم يشترطه الكوفيّون واستدلّوا بقول العرب، قد كان من مطر. وبقول عمر بن أبي ربيعة:

ويَنمي لها حبُّها عندَنا

فما قال مِن كاشحٍ لم يَضِرّ

أي فما قاله كاشحٌ - وهو الذي يُضمر العداوة - لم يَضرّ.

قال: وقال الفارسي في قوله تعالى: ( وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ ) : يجوز كون (مِن) الثانية والثالثة زائدتَين، فجوّز الزيادة في الإيجاب (2) .

____________________

(1) الأمالي للسيّد المرتضى عَلَم الهدى، ج 2، ص 304 - 306.

(2) مغني اللبيب لابن هشام، حرف الميم، ج 1، ص 325.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

( سورة العصر مكّيّة و هي ثلاث آيات)

( سورة العصر الآيات ١ - ٣)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ ( ١ ) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ( ٢ ) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ( ٣ )

( بيان‏)

تلخّص السورة جميع المعارف القرآنيّة و تجمع شتات مقاصد القرآن في أوجز بيان، و هي تحتمل المكّيّة و المدنيّة لكنّها أشبه بالمكّيّة.

قوله تعالى: ( وَ الْعَصْرِ ) إقسام بالعصر و الأنسب لما تتضمّنه الآيتان التاليتان من شمول الخسران للعالم الإنسانيّ إلّا لمن اتّبع الحقّ و صبر عليه و هم المؤمنون الصالحون عملاً، أن يكون المراد بالعصر عصر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو عصر طلوع الإسلام على المجتمع البشريّ و ظهور الحقّ على الباطل.

و قيل: المراد به وقت العصر و هو الطرف الأخير من النهار لما فيه من الدلالة على التدبير الربوبيّ بإدبار النهار و إقبال الليل و ذهاب سلطان الشمس، و قيل: المراد به صلاة العصر و هي الصلاة الوسطى الّتي هي أفضل الفرائض اليوميّة، و قيل الليل و النهار و يطلق عليهما العصران، و قيل الدهر لما فيه من عجائب الحوادث الدالّة على القدرة الربوبيّة و غير ذلك.

و قد ورد في بعض الروايات أنّه عصر ظهور المهديّعليه‌السلام لما فيه من تمام ظهور الحقّ على الباطل.

قوله تعالى: ( إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ) المراد بالإنسان جنسه، و الخسر و الخسران و الخسار و الخسارة نقص رأس المال قال الراغب: و ينسب ذلك إلى الإنسان

٥٠١

فيقال: خسر فلان و إلى الفعل فيقال: خسرت تجارته، انتهى. و التنكير في( خُسْرٍ ) للتعظيم و يحتمل التنويع أي في نوع من الخسر غير الخسارات الماليّة و الجاهيّة قال تعالى:( الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ ) الزمر: ١٥.

قوله تعالى: ( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) استثناء من جنس الإنسان الواقع في الخسر، و المستثنون هم الأفراد المتلبّسون بالإيمان و الأعمال الصالحة فهم آمنون من الخسر.

و ذلك أنّ كتاب الله يبيّن أنّ للإنسان حياة خالدة مؤبّدة لا تنقطع بالموت و إنّما الموت انتقال من دار إلى دار كما تقدّم في تفسير قوله تعالى:( عَلى‏ أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَ نُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ ) الواقعة: ٦١، و يبيّن أنّ شطراً من هذه الحياة و هي الحياة الدنيا حياة امتحانيّة تتعيّن بها صفة الشطر الأخير الّذي هو الحياة الآخرة المؤبّدة من سعادة و شقاء قال تعالى:( وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ ) الرعد: ٢٦، و قال:( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً ) الأنبياء: ٣٥.

و يبيّن أنّ مقدّميّة هذه الحياة لتلك الحياة إنّما هي بمظاهرها من الاعتقاد و العمل فالاعتقاد الحقّ و العمل الصالح ملاك السعادة الاُخرويّة و الكفر و الفسوق ملاك الشقاء فيها قال تعالى:( وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى‏ وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى‏ ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى‏ ) ، و قال:( مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ) الروم: ٤٤، و قال:( مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ) حم السجدة: ٤٦، و قد سمّى الله تعالى ما سيلقاه الإنسان في الآخرة جزاء و أجراً في آيات كثيرة.

و يتبيّن بذلك كلّه أنّ الحياة رأس مال للإنسان يكسب به ما يعيش به في حياته الآخرة فإن اتّبع الحقّ في العقد و العمل فقد ربحت تجارته و بورك في مكسبه و أمن الشرّ في مستقبله، و إن اتّبع الباطل و أعرض عن الإيمان و العمل الصالح فقد خسرت تجارته و حرم الخير في عقباه و هو قوله تعالى:( إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ

٥٠٢

آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) .

و المراد بالإيمان الإيمان بالله و من الإيمان بالله الإيمان بجميع رسله و الإيمان باليوم الآخر فقد نصّ تعالى فيمن لم يؤمن ببعض رسله(١) أو باليوم الآخر أنّه غير مؤمن بالله.

و ظاهر قوله:( وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) التلبّس بجميع الأعمال الصالحة فلا يشمل الاستثناء الفسّاق بترك بعض الصالحات من المؤمنين و لازمه أن يكون الخسر أعمّ من الخسر في جميع جهات حياته كما في الكافر المعاند للحقّ المخلّد في العذاب، و الخسر في بعض جهات حياته كالمؤمن الفاسق الّذي لا يخلّد في النار و ينقطع عنه العذاب بشفاعة و نحوها.

قوله تعالى: ( وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ ) التواصي بالحقّ هو أن يوصي بعضهم بعضاً بالحقّ أي باتّباعه و الدوام عليه فليس دين الحقّ إلّا اتّباع الحقّ اعتقاداً و عملاً و التواصي بالحقّ أوسع من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لشموله الاعتقاديات و مطلق الترغيب و الحثّ على العمل الصالح.

ثمّ التواصي بالحقّ من العمل الصالح فذكره بعد العمل الصالح من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامً اهتماماً بأمره كما أنّ التواصي بالصبر من التواصي بالحقّ و ذكره بعده من ذكر الخاصّ بعد العامّ اهتماماً بأمره، و يؤكّد تكرار ذكر التواصي حيث قال:( وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ ) و لم يقل: و تواصوا بالحقّ و الصبر.

و على الجملة ذكر تواصيهم بالحقّ و بالصبر بعد ذكر تلبّسهم بالإيمان و العمل الصالح للإشارة إلى حياة قلوبهم و انشراح صدورهم للإسلام لله فلهم اهتمام خاصّ و اعتناء تامّ بظهور سلطان الحقّ و انبساطه على الناس حتّى يتّبع و يدوم اتّباعه قال تعالى:( أَ فَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى‏ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) الزمر: ٢٢.

____________________

(١) النساء: ١٥٠ - ١٥١.

٥٠٣

و قد اُطلق الصبر فالمراد به أعمّ من الصبر على طاعة الله، و الصبر عن معصيته، و الصبر عند النوائب الّتي تصيبه بقضاء من الله و قدر.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ، بإسناده عن عبدالرحمن بن كثير عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قوله تعالى:( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ) إلخ، فقال: استثنى أهل صفوته من خلقه.

أقول: و طبق في ذيل الرواية الإيمان على الإيمان بولاية عليّعليه‌السلام ، و التواصي بالحقّ على توصيتهم ذرّيّاتهم و أخلافهم بها.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس في قوله:( وَ الْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ) يعني أباجهل بن هشام( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) ذكر عليّاً و سلمان.

٥٠٤

( سورة الهمزة مكّيّة و هي تسع آيات)

( سورة الهمزة الآيات ١ - ٩)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ ( ١ ) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ ( ٢ ) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ ( ٣ ) كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ( ٤ ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ ( ٥ ) نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ ( ٦ ) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ( ٧ ) إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ ( ٨ ) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ ( ٩ )

( بيان‏)

وعيد شديد للمغرمين بجمع المال المستعلين به على الناس المستكبرين عليهم فيزرون بهم و يعيبونهم بما ليس بعيب، و السورة مكّيّة.

قوله تعالى: ( وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ) قال في المجمع: الهمزة الكثير الطعن على غيره بغير حقّ العائب له بما ليس بعيب، و أصل الهمز الكسر. قال: و اللمز العيب أيضاً و الهمزة و اللمزة بمعنى، و قد قيل: بينهما فرق فإنّ الهمزة الّذي يعيبك بظهر الغيب، و اللمزة الّذي يعيبك في وجهك. عن الليث.

و قيل: الهمزة الّذي يؤذي جليسه بسوء لفظه، و اللمزة الّذي يكسر عينه على جليسه و يشير برأسه و يومئ بعينه. قال: و فعله بناء المبالغة في صفة من يكثر منه الفعل و يصير عادة له تقول: رجل نكحة كثير النكاح و ضحكة كثير الضحك و كذا همزة و لمزة انتهى.

فالمعنى ويل لكلّ عيّاب مغتاب، و فسّر بمعان اُخر على حسب اختلافهم في تفسير الهمزة و اللمزة.

قوله تعالى: ( الَّذِي جَمَعَ مالًا وَ عَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ ) بيان لهمزة لمزة

٥٠٥

و تنكير( مالًا ) للتحقير فإنّ المال و إن كثر ما كثر لا يغني عن صاحبه شيئاً غير أنّ له منه ما يصرفه في حوائج نفسه الطبيعيّة من أكلة تشبعه و شربة ماء ترويه و نحو ذلك و( عَدَّدَهُ ) من العدّ بمعنى الإحصاء أي إنّه لحبّه المال و شغفه بجمعه يجمع المال و يعدّه عدّاً بعد عدّ التذاذاً بتكثّره. و قيل: المعنى جعله عدّة و ذخراً لنوائب الدهر.

و قوله:( يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ ) أي يخلده في الدنيا و يدفع عنه الموت و الفناء فالماضي اُريد به المستقبل بقرينة قوله:( يَحْسَبُ ) .

فهذا الإنسان لإخلاده إلى الأرض و انغماره في طول الأمل لا يقنع من المال بما يرتفع به حوائج حياته القصيرة و ضروريّات أيّامه المعدودة بل كلّما زاد مالاً زاد حرصاً إلى ما لا نهاية له فظاهر حاله أنّه يرى أنّ المال يخلده، و لحبّه الغريزيّ للبقاء يهتمّ بجمعه و تعديده، و دغاه ما جمعه و عدّده من المال و ما شاهده من الاستغناء إلى الطغيان و الاستعلاء على غيره من الناس كما قال تعالى:( إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى‏ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) العلق ٧، و يورثه هذا الاستكبار و التعدّي الهمز و اللمز.

و من هنا يظهر أنّ قوله:( يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ ) بمنزلة التعليل لقوله:( الَّذِي جَمَعَ مالًا وَ عَدَّدَهُ ) ، و قوله:( الَّذِي جَمَعَ ) إلخ بمنزلة التعليل لقوله:( وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ) .

قوله تعالى: ( كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ) ردع عن حسبانه الخلود بالمال، و اللّام في( لَيُنْبَذَنََّ ) للقسم، و النبذ القذف و الطرح، و الحطمة مبالغة من الحطم و هو الكسر و جاء بمعنى الأكل، و هي من أسماء جهنّم على ما يفسّرها قوله الآتي:( نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ ) .

و المعنى ليس مخلّداً بالمال كما يحسب اُقسم ليموتنّ و يقذفنّ في الحطمة.

قوله تعالى: ( وَ ما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ ) تفخيم و تهويل.

قوله تعالى: ( نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ) إيقاد النار إشعالها و الاطّلاع و الطلوع على الشي‏ء الإشراف و الظهور، و الأفئدة جمع فؤاد و هو القلب، و المراد به في القرآن مبدأ الشعور و الفكر من الإنسان و هو النفس الإنسانيّة.

٥٠٦

و كأنّ المراد من اطّلاعها على الأفئدة أنّها تحرق باطن الإنسان كما تحرق ظاهره بخلاف النار الدنيويّة الّتي إنّما تحرق الظاهر فقط قال تعالى:( وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ ) البقرة ٢٤.

قوله تعالى: ( إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ) أي مطبقة لا مخرج لهم منها و لا منجا.

قوله تعالى: ( فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ ) العمد بفتحتين جمع عمود و التمديد مبالغة في المدّ قيل: هي أوتاد الأطباق الّتي تطبق على أهل النار، و قيل: عمد ممدّدة يوثقون فيها مثل المقاطر و هي خشب أو جذوع كبار فيها خروق توضع فيها أرجل المحبوسين من اللصوص و غيرهم، و قيل غير ذلك.

( بحث روائي‏)

في روح المعاني في قوله تعالى:( وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ) نزل ذلك على ما أخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن إسحاق عن عثمان بن عمر في اُبيّ بن خلف، و على ما أخرج عن السدي في اُبيّ بن عمر و الثقفيّ الشهير بالأخنس بن شريق فإنّه كان مغتاباً كثير الوقيعة.

و على ما قال ابن إسحاق في اُميّة بن خلف الجمحي و كان يهمز النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و على ما أخرج ابن جرير و غيره عن مجاهد في جميل بن عامر و على ما قيل في الوليد بن المغيرة و اغتيابه لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و غضّه منه، و على قول في العاص بن وائل.

أقول: ثمّ قال: و يجوز أن يكون نازلاً في جمع من ذكر. انتهى و لا يبعد أن يكون من تطبيق الرواة و هو كثير في أسباب النزول.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ ) قال: الّذي يغمز الناس و يستحقر الفقراء، و قوله:( لُمَزَةٍ ) يلوي عنقه و رأسه و يغضب إذا رأى فقيراً أو سائلاً( الَّذِي جَمَعَ مالًا وَ عَدَّدَهُ ) قال: أعدّه و وضعه.

و فيه قوله تعالى:( الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ) قال: تلتهب على الفؤاد قال

٥٠٧

أبو ذرّ رضي الله عنه: بشّر المتكبّرين بكيّ في الصدور و سحب على الظهور. قوله( إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ) قال: مطبقة( فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ ) قال: إذا مدّت العمد عليهم أكلت و الله الجلود.

و في المجمع، روى العيّاشيّ بإسناده عن محمّد بن النعمان الأحول عن حمران بن أعين عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: إنّ الكفّار و المشركين يعيّرون أهل التوحيد في النار و يقولون: ما نرى توحيدكم أغنى عنكم شيئاً و ما نحن و أنتم إلّا سواء قال: فيأنف لهم الربّ تعالى فيقول للملائكة: اشفعوا فيشفعون لمن شاء الله ثمّ يقول للنبيّين: اشفعوا فيشفعون لمن شاء الله ثمّ يقول للمؤمنين: اشفعوا فيشفعون لمن شاء الله و يقول الله: أنا أرحم الراحمين اخرجوا برحمتي فيخرجون كما يخرج الفراش.

قال: ثمّ قال أبوجعفرعليه‌السلام : ثمّ مدّت العمد و اُوصدت عليهم و كان و الله الخلود.

٥٠٨

( سورة الفيل مكّيّة و هي خمس آيات)

( سورة الفيل الآيات ١ - ٥)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ( ١ ) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ( ٢ ) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ( ٣ ) تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ ( ٤ ) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ ( ٥ )

( بيان‏)

فيها إشارة إلى قصّة أصحاب الفيل إذ قصدوا مكّة لتخريب الكعبة المعظّمة فأهلكهم الله بإرسال طير أبابيل ترميهم بحجارة من سجّيل فجعلهم كعصف مأكول، و هي من آيات الله الجليّة الّتي لا سترة عليها، و قد أرّخوا بها و ذكرها الجاهليّون في أشعارهم، و السورة مكّيّة.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ ) المراد بالرؤية العلم الظاهر ظهور الحسّ، و الاستفهام إنكاريّ، و المعنى أ لم تعلم كيف فعل ربّك بأصحاب الفيل، و قد كانت الواقعة عام ولد فيه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ) المراد بكيدهم سوء قصدهم بمكّة و إرادتهم تخريب البيت الحرام، و التضليل و الإضلال واحد، و جعل كيدهم في تضليل جعل سعيهم ضالّاً لا يهتدى إلى الغاية المقصودة منه فقد ساروا لتخريب الكعبة و انتهى بهم إلى هلاك أنفسهم.

قوله تعالى: ( وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ ) الأبابيل - كما قيل - جماعات في تفرقة زمرة زمرة، و المعنى و أرسل الله على أصحاب الفيل جماعات متفرّقة من الطير و الآية و الّتي تتلوها عطف تفسير على قوله:( أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ) .

٥٠٩

قوله تعالى: ( تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ) أي ترمي أبابيل الطير أصحاب الفيل بحجارة من سجّيل، و قد تقدّم معنى السجّيل في تفسير قصص قوم لوط.

قوله تعالى: ( فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ) العصف ورق الزرع و العصف المأكول ورق الزرع الّذي اُكل حبّه أو قشر الحبّ الّذي اُكل لبّه و المراد أنّهم عادوا بعد وقوع السجّيل عليهم أجساداً بلا أرواح أو أنّ الحجر بحرارته أحرق أجوافهم، و قيل: المراد ورق الزرع الّذي وقع فيها الأكال و هو أن يأكله الدود فيفسده و فسّرت الآية ببعض وجوه اُخر لا يناسب الأدب القرآنيّ.

( بحث روائي‏)

في المجمع: أجمعت الرواة على أنّ ملك اليمن الّذي قصد هدم الكعبة هو أبرهة بن الصباح الأشرم و قيل: إنّ كنيته أبو يكسوم و نقل عن الواقديّ أنّه جدّ النجاشي الّذي كان على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثمّ ساق الكلام في قصّة استيلائه على ملك اليمن إلى أن قال: ثمّ إنّه بنى كعبة باليمن و جعل فيها قباباً من ذهب فأمر أهل مملكته بالحجّ إليها يضاهي بذلك البيت الحرام، و إنّ رجلاً من بني كنانة خرج حتّى قدم اليمن فنظر إليها ثمّ قعد فيها يعني لحاجة الإنسان فدخلها أبرهة فوجد تلك العذرة فيها فقال: من اجترأ عليّ بهذا؟ و نصرانيّتي لأهدمنّ ذلك البيت حتّى لا يحجّه حاج أبداً و دعا بالفيل و أذّن قومه بالخروج و من اتّبعه من أهل اليمن، و كان أكثر من اتّبعه منهم عكّ و الأشعرون و خثعم.

قال: ثمّ خرج يسير حتّى إذا كان ببعض طريقه بعث رجلاً من بني سليم ليدعو الناس إلى حجّ بيته الّذي بناه فتلقاه أيضاً رجل من الحمس من بني كنانة فقتله فازداد بذلك حنقاً و حثّ السير و الانطلاق.

و طلب من أهل الطائف دليلاً فبعثوا معه رجلاً من هذيل يقال له نفيل فخرج

٥١٠

بهم يهديهم حتّى إذا كانوا بالمغمس نزلوه و هو من مكّة على ستّة أميال فبعثوا مقدّماتهم إلى مكّة فخرجت قريش عباديد في رؤوس الجبال و قالوا: لا طاقة لنا بقتال هؤلاء و لم يبق بمكّة غير عبد المطلب بن هاشم أقام على سقايته و غير شيبة بن عثمان بن عبد الدار أقام على حجابة البيت فجعل عبد المطّلب يأخذ بعضادتي الباب ثمّ يقول:

لا همّ أنّ المرء يمنع رحله فامنع جلالك

لا يغلبوا بصليبهم و محالهم عدواً محالك

لا يدخلوا البلد الحرام إذاً فأمر ما بدا لك

ثمّ إنّ مقدّمات أبرهة أصابت نعماً لقريش فأصابت فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم فلمّا بلغه ذلك خرج حتّى أتى القوم، و كان حاجب أبرهة رجلاً من الأشعرين و كان له بعبد المطّلب معرفة فاستأذن له على الملك و قال له: أيّها الملك جاءك سيّد قريش الّذي يطعم إنسها في الحيّ و وحشها في الجبل فقال له: ائذن له.

و كان عبد المطّلب رجلاً جسيماً جميلاً فلمّا رآه أبو يكسوم أعظمه أن يجلسه تحته و كره أن يجلسه معه على سريره فنزل من سريره فجلس على الأرض و أجلس عبد المطّلب معه ثمّ قال: ما حاجتك؟ قال: حاجتي مائتا بعير لي أصابتها مقدّمتك فقال أبو يكسوم: و الله لقد رأيتك فأعجبتني ثمّ تكلّمت فزهدت فيك فقال: و لم أيّها الملك؟ قال: لأنّي جئت إلى بيت عزّكم و منعتكم من العرب و فضلكم في الناس و شرفكم عليهم و دينكم الّذي تعبدون فجئت لأكسره و اُصيبت لك مائتا بعير فسألتك عن حاجتك فكلّمتني في إبلك و لم تطلب إليّ في بيتكم.

فقال له عبد المطّلب: أيّها الملك أنا اُكلّمك في مالي و لهذا البيت ربّ هو يمنعه لست أنا منه في شي‏ء فراع ذلك أبو يكسوم و أمر بردّ إبل عبد المطّلب عليه ثمّ رجع و أمست ليلتهم تلك الليلة كالحة نجومها كأنّها تكلّمهم كلاماً لاقترابها منهم فأحسّت نفوسهم بالعذاب.

٥١١

إلى أن قال: حتّى إذا كان مع طلوع الشمس طلعت عليهم الطير معها الحجارة فجعلت ترميهم، و كلّ طائر في منقاره حجر و في رجليه حجران و إذا رمت بذلك مضت و طلعت اُخرى فلا يقع حجر من حجارتهم تلك على بطن إلّا خرقه و لا عظم إلّا أوهاه و ثقبه، و ثاب أبو يكسوم راجعاً قد أصابته بعض الحجارة فجعل كلّما قدم أرضاً انقطع له فيها إرب حتّى إذا انتهى إلى اليمن لم يبق شي‏ء إلّا باده فلمّا قدمها تصدّع صدره و انشقّ بطنه فهلك و لم يصب من الأشعرين و خثعم أحد، الحديث.

أقول: و في الروايات اختلاف شديد في خصوصيّات القصّة من أراد الوقوف عليها فعليه بمطوّلات السير و التواريخ.

٥١٢

( سورة قريش مكّيّة و هي أربع آيات)

( سورة قريش الآيات ١ - ٤)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ( ١ ) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ( ٢ ) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ( ٣ ) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ( ٤ )

( بيان‏)

تتضمّن السورة امتناناً على قريش بإيلافهم الرحلتين و تعقّبه بدعوتهم إلى التوحيد و عبادة ربّ البيت، و السورة مكّيّة.

و لمضمون السورة نوع تعلّق بمضمون سورة الفيل و لذا ذهب قوم من أهل السنّة إلى كون الفيل و لإيلاف سورة واحدة كما قيل بمثله في الضحى و أ لم نشرح لما بينهما من الارتباط كما نسب ذلك إلى المشهور بين الشيعة و الحقّ أنّ شيئاً ممّا استندوا إليه لا يفيد ذلك.

أمّا القائلون بذلك من أهل السنّة فإنّهم استندوا فيه إلى ما روي أنّ أبيّ بن كعب لم يفصل بينهما في مصحفه بالبسملة، و بما روي عن عمرو بن ميمون الأزديّ قال: صلّيت المغرب خلف عمر بن الخطّاب فقرأ في الركعة الاُولى و التين و في الثانية أ لم تر و لإيلاف قريش من غير أن يفصل بالبسملة.

و اُجيب عن الرواية الاُولى بمعارضتها بما روي أنّه أثبت البسملة بينهما في مصحفه، و عن الثانية بأنّ من المحتمل على تقدير صحّتها أن يكون الراوي لم يسمع قراءتها أو يكون قرأها سرّاً. على أنّها معارض بما روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ الله فضّل قريشاً بسبع خصال و فيها( و نزلت فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها أحد

٥١٣

غيرهم: لإيلاف قريش) . الحديث على أنّ الفصل متواتر.

و أمّا القائلون بذلك من الشيعة فاستندوا فيه‏ إلى ما في المجمع، عن أبي العبّاس عن أحدهماعليهما‌السلام قال: أ لم تر كيف فعل ربّك و لإيلاف قريش سورة واحدة، و ما في التهذيب، بإسناده عن العلاء عن زيد الشحّام قال: صلّى بنا أبوعبداللهعليه‌السلام الفجر فقرأ الضحى و أ لم نشرح في ركعة، و ما في المجمع، عن العيّاشيّ عن المفضّل بن صالح عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سمعته يقول: لا تجمع بين سورتين في ركعة واحدة إلّا الضحى و أ لم نشرح و أ لم تر كيف و لإيلاف قريش: و رواه المحقّق في المعتبر، نقلاً من كتاب الجامع لأحمد بن محمّد بن أبي نصر عن المفضّل: مثله.

أمّا رواية أبي العبّاس فضعيف لما فيها من الرفع.

و أمّا رواية الشحّام فقد رويت عنه أيضاً بطريقين آخرين: أحدهما ما في التهذيب، بإسناده عن ابن مسكان عن زيد الشحّام قال: صلّى بنا أبوعبداللهعليه‌السلام فقرأ بنا بالضحى و أ لم نشرح‏، و ثانيهما عنه عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن زيد الشحّام قال: صلّى بنا أبوعبداللهعليه‌السلام فقرأ في الاُولى الضحى و في الثانية أ لم نشرح لك صدرك.

و هذه أعني صحيحة ابن أبي عمير صريحة في قراءة السورتين في ركعتين و لا يبقى معها لرواية العلاء ظهور في الجمع بينهما، و أمّا رواية ابن مسكان فلا ظهور لها في الجمع و لا صراحة، و أمّا حمل ابن أبي عمير على النافلة فيدفعه قوله فيها:( صلّى بنا) فإنّه صريح في الجماعة و لا جماعة في نفل.

و أمّا رواية المفضّل فهي أدلّ على كونهما سورتين منها على كونهما سورة واحدة حيث قيل: لا تجمع بين سورتين ثمّ استثنى من السورتين الضحى و أ لم نشرح و كذا الفيل و لإيلاف.

فالحقّ أنّ الروايات إن دلّت فإنّما تدلّ على جواز القرآن بين سورتي الضحى و أ لم نشرح و سورتي الفيل و لإيلاف في ركعة واحدة من الفرائض و هو ممنوع في غيرها، و يؤيّده‏ رواية الراونديّ في الخرائج، عن داود الرقّيّ عن أبي

٥١٤

عبداللهعليه‌السلام في حديث قال: فلمّا طلع الفجر قام فأذّن و أقام و أقامني عن يمينه و قرأ في أوّل ركعة الحمد و الضحى و في الثانية بالحمد و قل هو الله أحد ثمّ قنت ثمّ سلّم ثمّ جلس.

قوله تعالى: ( لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَ الصَّيْفِ ) الإلف بكسر الهمزة اجتماع مع التئام كما قاله الراغب و منه الاُلفة، و قال في الصحاح: و فلان قد ألف هذا الموضع بالكسر يألفه ألفاً و آلفه إيّاه غيره، و يقال أيضاً: آلفت الموضع اُولفه إيلافاً، انتهى.

و قريش عشيرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هم ولد النضر بن كنانة المسمّى قريشاً، و الرحلة حال السير على الراحلة و هي الناقة القويّة على السير كما في المجمع، و المراد بالرحلة خروج قريش من مكّة للتجارة و ذلك أنّ الحرم واد جديب لا زرع فيه و لا ضرع فكانت قريش تعيش فيه بالتجارة، و كانت لهم في كلّ سنة رحلتان للتجارة رحلة في الشتاء إلى اليمن و رحلة بالصيف إلى الشام، و كانوا يعيشون بذلك و كان الناس يحترمونهم لمكان البيت الحرام فلا يتعرضون لهم بقطع طريقهم أو الإغارة على بلدهم الأمن.

و قوله:( لِإِيلافِ قُرَيْشٍ ) اللّام فيه للتعليل، و فاعل الإيلاف هو الله سبحانه و قريش مفعوله الأوّل و مفعوله الثاني محذوف يدلّ عليه ما بعده، و قوله:( إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَ الصَّيْفِ ) بدل من إيلاف قريش، و فاعل إيلافهم هو الله و مفعوله الأوّل ضمير الجمع و مفعوله الثاني رحلة إلخ، و التقدير لإيلاف الله قريشاً رحلة الشتاء و الصيف.

قوله تعالى: ( يَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ‏ ) الفاء في( يَعْبُدُوا ) لتوهّم معنى الشرط أي أيّ شي‏ء كان فليعبدوا ربّ هذا البيت لإيلافه أيّام الرحلتين أو لتوهّم التفصيل أي مهما يكن من شي‏ء فليعبدوا ربّ هذا البيت إلخ، فهو كقوله تعالى:( وَ لِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ) المدّثّر: ٧.

٥١٥

و محصّل معنى الآيات الثلاث ليعبد قريش ربّ هذا البيت لأجل إيلافه إيّاهم رحلة الشتاء و الصيف و هم عائشون بذلك في أمن.

هذا بالنظر إلى كون السورة منفصلة عمّا قبلها ذات سياق مستقلّ في نفسها، و أمّا على تقدير كونها جزء من سورة الفيل متمّمة لها فذكروا أنّ اللّام في( لِإِيلافِ ) تعليلية متعلّقة بمقدّر يدلّ عليه المقام و المعنى فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منّا على قريش مضافة إلى نعمتنا عليهم في رحلة الشتاء و الصيف فكأنّه قال: نعمة إلى نعمة و لذا قيل: إنّ اللّام مؤدّية معنى إلى و هو قول الفرّاء.

و قيل: المعنى فعلنا ذلك بأصحاب الفيل لتألف قريش بمكّة و يمكنهم المقام بها أو لنؤلف قريشاً فإنّهم هابوا من أبرهة لمّا قصدها و هربوا منه فأهلكناهم لترجع قريش إلى مكّة و يألفوا بها و يولد محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيبعث إلى الناس بشيراً و نذيراً هذا، و الكلام في استفادة هذه المعاني من السياق.

قوله تعالى: ( الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ) إشارة إلى ما في إيلافهم الرحلتين من منّه الواضح و نعمته الظاهرة عليهم و هو الإطعام و الأمن فيعيشون في أرض لا خصب فيها و لا أمن لغيرهم فليعبدوا ربّاً يدبّر أمرهم أحسن التدبير و هو ربّ البيت.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ ) قال: نزلت في قريش لأنّه كان معاشهم من الرحلتين رحلة في الشتاء إلى اليمن، و رحلة في الصيف إلى الشام، و كانوا يحملون من مكّة الأدم و اللّب و ما يقع من ناحية البحر من الفلفل و غيره فيشترون بالشام الثياب و الدرمك و الحبوب، و كانوا يتألّفون في طريقهم و يثبتون في الخروج في كلّ خرجة رئيساً من رؤساء قريش و كان معاشهم من ذلك.

٥١٦

فلمّا بعث الله نبيّه استغنوا عن ذلك لأنّ الناس وفدوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و حجّوا إلى البيت فقال الله:( فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ ) لا يحتاجون أن يذهبوا إلى الشام( وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ) يعني خوف الطريق.

أقول: قوله: فلمّا بعث الله إلخ خفيّ الانطباق على سياق آيات السورة، و لعلّه من كلام القمّيّ أخذه من بعض ما روي عن ابن عبّاس.

٥١٧

( سورة الماعون مدنيّة أو مكّيّة و هي سبع آيات)

( سورة الماعون الآيات ١ - ٧)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ( ١ ) فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ( ٢ ) وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ ( ٣ ) فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ( ٤ ) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ( ٥ ) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ ( ٦ ) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ( ٧ )

( بيان‏)

وعيد لمن كان من المنتحلين بالدين متخلّقاً بأخلاق المنافقين كالسهو عن الصلاة و الرياء في الأعمال و منع الماعون ممّا لا يلائم التصديق بالجزاء.

و السورة تحتمل المكّيّة و المدنيّة، و قيل: نصفها مكّيّ و نصفها مدنيّ.

قوله تعالى: ( أَ رَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ) الرؤية تحتمل الرؤية البصريّة و تحتمل أن تكون بمعنى المعرفة، و الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما أنّه سامع فيتوجّه إلى كلّ سامع، و المراد بالدين الجزاء يوم الجزاء فالمكذّب بالدين منكر المعاد و قيل المراد به الدين بمعنى الملّة.

قوله تعالى: ( فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ) الدعّ هو الردّ بعنف و جفاء، و الفاء في( فَذلِكَ ) لتوهّم معنى الشرط و التقدير أ رأيت الّذي يكذّب بالجزاء فعرفته بصفاته اللازمة لتكذيبه فإن لم تعرفه فذلك الّذي يردّ اليتيم بعنف و يجفوه و لا يخاف عاقبة عمله السيّئ و لو لم يكذّب به لخافها و لو خافها لرحمه.

قوله تعالى: ( وَ لا يَحُضُّ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) الحضّ الترغيب، و الكلام على تقدير مضاف أي لا يرغّب الناس على إطعام طعام المسكين قيل: إنّ التعبير بالطعام دون

٥١٨

الإطعام للإشعار بأنّ المسكين كأنّه مالك لما يعطى له كما في قوله تعالى:( وَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ ) الذاريات: ١٩ و قيل: الطعام في الآية بمعنى الإطعام.

و التعبير بالحضّ دون الإطعام لأنّ الحضّ أعمّ من الحضّ العمليّ الّذي يتحقّق بالإطعام.

قوله تعالى: ( فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ ) أي غافلون لا يهتمّون بها و لا يبالون أن تفوتهم بالكلّيّة أو في بعض الأوقات أو تتأخّر عن وقت فضيلتها و هكذا.

و في الآية تطبيق من يكذّب بالدين على هؤلاء المصلّين لمكان فاء التفريع و دلالة على أنّهم لا يخلون من نفاق لأنّهم يكذّبون بالدين عملاً و هم يتظاهرون بالإيمان.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ ) أي يأتون بالعبادات لمراءاة الناس فهم يعملون للناس لا لله تعالى.

قوله تعالى: ( وَ يَمْنَعُونَ الْماعُونَ ) الماعون كلّ ما يعين الغير في رفع حاجة من حوائج الحياة كالقرض تقرضه و المعروف تصنعه و متاع البيت تعيره و إلى هذا يرجع متفرّقات ما فسّر به في كلماتهم.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( أَ رَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ) قال: نزلت في أبي جهل و كفّار قريش، و في قوله:( الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ ) قال: عنى به تاركون لأنّ كلّ إنسان يسهو في الصلاة قال أبوعبداللهعليه‌السلام : تأخير الصلاة عن أوّل وقتها لغير عذر.

و في الخصال، عن عليّعليه‌السلام في حديث الأربعمائة قال: ليس عمل أحبّ إلى الله عزّوجلّ من الصلاة فلا يشغلنّكم عن أوقاتها شي‏ء من اُمور الدنيا فإنّ الله عزّوجلّ

٥١٩

ذمّ أقواماً فقال:( الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ ) يعني أنّهم غافلون استهانوا بأوقاتها.

و في الكافي، بإسناده عن محمّد بن الفضيل قال: سألت عبداً صالحاًعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ ) قال هو التضييع.

أقول: و في هذه المضامين روايات اُخر.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و البيهقي في سننه عن عليّ بن أبي طالب( الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ ) قال: يراؤن بصلاتهم.

و فيه، أخرج أبونعيم و الديلميّ و ابن عساكر عن أبي هريرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله:( وَ يَمْنَعُونَ الْماعُونَ ) قال: ما تعاون الناس بينهم الفأس و القدر و الدلو و أشباهه.

و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام في حديث قال: و قوله عزّوجلّ:( وَ يَمْنَعُونَ الْماعُونَ ) هو القرض تقرضه و المعروف تصنعه و متاع البيت تعيره و منه الزكاة.

أقول: و تفسير الماعون بالزكاة مرويّ من طرق أهل السنّة أيضاً عن عليّعليه‌السلام كما في الدرّ المنثور، و لفظه: الماعون الزكاة المفروضة يراؤن بصلاتهم و يمنعون زكاتهم.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن قانع عن عليّ بن أبي طالب قال سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: المسلم أخو المسلم إذا لقيه حيّاه بالسلام و يردّ عليه ما هو خير منه لا يمنع الماعون قلت: يا رسول الله ما الماعون؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الحجر و الحديد و الماء و أشباه ذلك.

أقول: و قد فسّرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رواية اُخرى الحديد بقدور النحاس و حديد الفأس و الحجر بقدور الحجارة.

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568