الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن10%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219829 / تحميل: 7009
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

السابقة و اللاحقة و التدبّر فيها - و الله أعلم - أن يكون المراد بدخولهم من حيث أمرهم أبوهم أنّهم دخلوا مصر أو دار العزيز فيها من أبواب متفرّقة كما أمرهم أبوهم حينما ودّعوه للرحيل، و إنّما اتّخذ يعقوب (عليه السلام) هذا الأمر وسيلة لدفع ما تفرّسه من نزول مصيبة بهم تفرّق جمعهم و تنقص من عددهم كما اُشير إليه في الآية السابقة لكن اتّخاذ هذه الوسيلة و هي الدخول من حيث أمرهم أبوهم لم يكن ليدفع عنهم البلاء و كان قضاء الله سبحانه ماضيا فيهم و أخذ العزيز أخاهم من أبيهم لحديث سرقة الصواع و انفصل منهم كبيرهم فبقي في مصر و أدّى ذلك إلى تفرّق جمعهم و نقص عددهم فلم يغن يعقوب أو الدخول من حيث أمرهم من الله من شي‏ء.

لكنّ الله سبحانه قضى بذلك حاجة في نفس يعقوب (عليه السلام) فإنّه جعل هذا السبب الّذي تخلّف عن أمره و أدّى إلى تفرّق جمعهم و نقص عددهم بعينه سببا لوصول يعقوب إلى يوسف (عليه السلام) فإنّ يوسف أخذ أخاه إليه و رجع سائر الإخوة إلّا كبيرهم إلى أبيهم ثمّ عادوا إلى يوسف يسترحمونه و يتذلّلون لعزّته فعرّفهم نفسه و أشخص أباه و أهله إلى مصر فاتّصلوا به.

فقوله:( ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ الله مِنْ شَيْ‏ءٍ ) أي لم يكن من شأن يعقوب أو هذا الأمر الّذي اتّخذه وسيلة لتخلّصهم من هذه المصيبة النازلة أن يغني عنهم من الله شيئاً ألبتّة و يدفع عنهم ما قضى الله أن يفارق اثنان منهم جمعهم بل اُخذ منهم واحد و فارقهم و لزم أرض مصر آخر و هو كبيرهم.

و قوله:( إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها ) قيل: إنّ( إِلَّا ) بمعنى لكن أي لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها الله فردّ إليه ولده الّذي فقده و هو يوسف.

و لا يبعد أن يكون( إِلَّا ) استثنائيّة فإنّ قوله:( ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ الله مِنْ شَيْ‏ءٍ ) في معنى قولنا: لم ينفع هذا السبب يعقوب شيئاً أو لم ينفعهم جميعاً شيئاً و لم يقض الله لهم جميعاً به حاجة إلّا حاجة في نفس يعقوب، و قوله:( قَضاها ) استئناف و جواب سؤال كأنّ سائلاً يسأل فيقول: ماذا فعل بها؟ فاُجيب بقوله:( قَضاها ) .

و قوله:( وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ ) الضمير ليعقوب أي إنّ يعقوب لذو

٢٤١

علم بسبب ما علّمناه من العلم أو بسبب تعليمنا إيّاه و ظاهر نسبة التعليم إليه تعالى أنّه علم موهبيّ غير اكتسابيّ و قد تقدّم أنّ إخلاص التوحيد يؤدّي إلى مثل هذه العناية الإلهيّة، و يؤيّد ذلك أيضاً قوله تعالى بعده:( وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) إذ لو كان من العلم الاكتسابيّ الّذي يحكم بالأسباب الظاهريّة و يتوصّل إليه من الطرق العاديّة المألوفة لعلمه الناس و اهتدوا إليه.

و الجملة:( وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ ) إلخ، ثناء على يعقوب (عليه السلام)، و العلم الموهبيّ لا يضلّ في هدايته و لا يخطئ في إصابته و الكلام كما يفيده السياق يشير إلى ما تفرّس له يعقوب (عليه السلام) من البلاء و توسّل به من الوسيلة و حاجته في يوسف في نفسه لا ينساها و لا يزال يذكرها، فمن هذه الجهات يعلم أنّ في قوله:( وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ ) إلخ، تصديقاً ليعقوب (عليه السلام) فيما قاله لبنيه و تصويبا لما اتّخذه من الوسيلة لحاجته بأمرهم بما أمر و توكّله على الله فقضى الله له حاجة في نفسه.

هذا ما يعطيه التدبّر في سياق الآيات و للمفسّرين أقوال عجيبة في معنى الآية كقول بعضهم: إنّ المراد بقوله:( ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ - إلى قوله -قَضاها ) إنّه لم يكن دخولهم كما أمرهم أبوهم يغني عنهم أو يدفع عنهم شيئاً أراد الله إيقاعه بهم من حسد أو أصابه عين و كان يعقوب (عليه السلام) عالما بأنّ الحذر لا يدفع القدر و لكن كان ما قاله لبنيه حاجة في نفسه فقضى يعقوب تلك الحاجة أي أزال به اضطراب قلبه و أذهب به القلق عن نفسه.

و قول بعضهم: إنّ المعنى أنّ الله لو قدر أن تصيبهم العين لأصابتهم و هم متفرّقون كما تصيبهم مجتمعين.

و قول بعضهم: إنّ معنى قوله:( وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ ) إلخ أنّه لذو يقين و معرفة بالله لأجل تعليمنا إيّاه و لكنّ أكثر الناس لا يعلمون مرتبته.

و قول بعضهم: إنّ اللّام في( لِما عَلَّمْناهُ ) للتقوية و المعنى أنّه يعلم ما علّمناه فيعمل به لأنّ من علم شيئاً و هو لا يعمل به كان كمن لا يعلم. إلى غير ذلك من أقاويلهم.

٢٤٢

قوله تعالى: ( وَ لَمَّا دَخَلُوا عَلى‏ يُوسُفَ آوى‏ إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) الإيواء إليه ضمّه و تقريبه منه في مجلسه و نحوه، و الابتئاس اجتلاب البؤس و الاغتمام و الحزن، و ضمير الجمع للإخوة.

و معنى الآية:( وَ لَمَّا دَخَلُوا عَلى‏ يُوسُفَ ) بعد دخولهم مصر( آوى) و قرّب( إِلَيْهِ أَخاهُ ) الّذي أمرهم أن يأتوا به إليه و كان أخا له من أبيه و اُمّه( قالَ ) له( إِنِّي أَنَا أَخُوكَ ) أي يوسف الّذي فقدته منذ سنين - و الجملة خبر بعد خبر أو جواب سؤال مقدّر( فَلا تَبْتَئِسْ ) و لا تغتمّ( بِما كانُوا ) أي الإخوة( يَعْمَلُونَ ) من أنواع الأذى و المظالم الّتي حملهم عليها حسدهم لي و لك و نحن أخوان من اُمّ أو لا تبتئس بما كان غلماني يعملون فإنّه كيد لحبسك عندي.

و ظاهر السياق أنّه عرّفه نفسه بإسرار القول إليه و سلّاه على ما عمله الإخوة و طيّب نفسه فلا يعبأ بقول بعضهم أنّ معنى قوله: إنّي أنا أخوك: أنا أخوك مكان أخيك الهالك - و قد كان أخبره أنّه كان له أخ من اُمّه هلك من قبل فبقي وحده لا أخ له من اُمّه - و لم يعترف يوسف له بالنسب و لكنّه أراد أن يطيّب نفسه.

و ذلك أنّه ينافيه ما في قوله:( إِنِّي أَنَا أَخُوكَ ) من وجوه التأكيد و ذلك إنّما يناسب تعريفه نفسه بالنسب ليستيقن أنّه هو يوسف. على أنّه ينافي أيضاً ما سيأتي من قوله لإخوته عند تعريفهم نفسه:( أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا ) فإنّه إنّما يناسب ما إذا علم أخوه أنّه أخوه فاعتزّ بعزّته كما لا يخفى.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) السقاية الظرف الّذي يشرب فيه، و الرحل ما يوضع على البعير للركوب، و العير القوم الّذين معهم أحمال الميرة و ذلك اسم للرجال و الجمال الحاملة للميرة و إن كان قد يستعمل في كلّ واحد من دون الآخر، ذكر ذلك الراغب في مفرداته.

و معنى الآية ظاهر و هذه حيلة احتالها يوسف (عليه السلام) ليأخذ بها أخاه إليه كما قصّة و فصّله الله تعالى و جعل ذلك مقدّمة لتعريفهم نفسه في حال التحق به أخوه

٢٤٣

و هما منعّمان بنعمة الله مكرمان بكرامته.

و قوله:( ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) الخطاب لإخوة يوسف و فيهم أخوه لاُمّه، و من الجائز توجيه الخطاب إلى الجماعة في أمر يعود إلى بعضهم إذا كان لا يمتاز عن الآخرين، و في القرآن منه شي‏ء كثير، و هذا الأمر الّذي سمّي سرقة و هو وجود السقاية في رحل البعير كان قائماً بواحد منهم و هو أخو يوسف لاُمّه لكن عدم تعيّنه بعد من بينهم كان مجوّزاً لخطابهم جميعا بأنّكم سارقون فإنّ معنى هذا الخطاب في مثل هذا المقام أنّ السقاية مفقودة و هي عند بعضكم ممّن لا يتعيّن إلّا بعد الفحص و التفتيش.

و من المعلوم من السياق أنّ أخا يوسف لاُمّه كان عالماً بهذا الكيد مستحضراً منه و لذلك لم يتكلّم من أوّل الأمر إلى آخره و لا بكلمة و لا نفى عن نفسه السرقة و لا اضطرب كيف؟ و قد عرّفه يوسف أنّه أخاه و سلّاه و طيّب نفسه فليس إلّا أنّ يوسف (عليه السلام) كان عرّفه ما هو غرضه من هذا الصنع، و أنّه إنّما يريد بتسميته سارقا و إخراج السقاية من رحله أن يقبض عليه و يأخذه إليه فتسميته سارقا إنّما كان اتّهاماً في نظر الإخوة و أمّا بالنسبة إليه و في نظره فلم يكن تسمية جدّيّة و تهمة حقيقيّة بل توصيفاً صوريّاً فحسب لمصلحة لازمة جازمة.

فنسبه السرقة إليهم - بالنظر إلى هذه الجهات - لم تكن من الافتراء المذموم عقلا المحرّم شرعاً، على أنّ القائل هو المؤذّن الّذي أذّن بذلك.

و ذكر بعض المفسّرين: أنّ القائل:( إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) . بعض من فقد الصاع من قوم يوسف من غيره أمره و لم يعلم أنّ يوسف أمر بجعل الصاع في رحالهم.

و قال بعضهم: إنّ يوسف (عليه السلام) أمر المنادي أن ينادي به و لم يرد به سرقة الصاع، و إنّما عنى به أنّكم سرقتم يوسف من أبيه و ألقيتموه في الجبّ، و نسب ذلك إلى أبي مسلم المفسّر.

و قال بعضهم: إنّ الجملة استفهاميّة، و التقدير: أ إنّكم لسارقون؟ بحذف همزة الاستفهام، و لا يخفى ما في هذه الوجوه من البعد.

٢٤٤

قوله تعالى: ( قالُوا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ ) الفقد - كما قيل - غيبة الشي‏ء عن الحسّ بحيث لا يعرف مكانه، و الضمير في قوله:( قالُوا ) للإخوة و هم العير، و قوله:( ما ذا تَفْقِدُونَ ) مقول القول و الضمير في قوله:( عَلَيْهِمْ ) ليوسف و فتيانه كما يدلّ عليه السياق.

و المعنى قال إخوة يوسف المقبلين ليوسف و فتيانه: ما ذا تفقدون؟ و في السياق دلالة على أنّ المنادي إنّما ناداهم من ورائهم و قد أخذوا في السير.

قوله تعالى: ( قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) الصواع بالضمّ السقاية و قيل: إنّ الصواع هو الصاع الّذي يكال به، و كان صواع الملك إناء يشرب فيه و يكال به و لذلك سمّي تارة سقاية و اُخرى صواع، و يجوز فيه التذكير و التأنيث، و لذلك قال:( وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ ) و قال:( ثُمَّ اسْتَخْرَجَها ) .

و الحمل ما يحمله الحامل من الأثقال، و قد ذكر الراغب أنّ الأثقال المحمولة في الظاهر كالشي‏ء المحمول على الظهر تختصّ باسم الحمل بكسر الحاء، و الأثقال المحمولة في الباطن كالولد في البطن و الماء في السحاب و الثمرة في الشجرة تختصّ باسم الحمل بفتح الحاء.

و قال في المجمع: الزعيم و الكفيل و الضمين نظائر و الزعيم أيضاً القائم بأمر القوم و هو الرئيس.

و لعلّ القائل:( نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ ) هو فتيان يوسف و القائل:( وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) يوسف (عليه السلام) نفسه لأنّه هو الرئيس الّذي يقوم بأمر الإعطاء و المنع و الضمانة و الكفالة و الحكم، و يعود معنى الكلام على هذا إلى نحو من قولنا: أجاب عنهم يوسف و فتيانه أمّا فتيانه فقالوا:( نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ ) ، و أمّا يوسف فقال:( وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ‏ ) ، و هذه جعالة.

و ظاهر بعض المفسّرين: أنّ قوله:( وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) تتمّة قول المؤذّن:( أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) و على هذا فقوله:( قالُوا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ - إلى قوله -صُواعَ الْمَلِكِ ) معترض.

٢٤٥

قوله تعالى: ( قالُوا تَالله لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَ ما كُنَّا سارِقِينَ ) المراد بالأرض أرض مصر و هي الّتي جاؤها و معنى الآية ظاهر.

و في قولهم:( لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ ) دلالة على أنّهم فتّشوا و حقّق في أمرهم أوّل ما دخلوا مصر للميرة بأمر يوسف (عليه السلام) بدعوى الخوف من أن يكونوا جواسيس و عيونا أو نازلين بها لأغراض فاسدة اُخرى فسألوا عن شأنهم و محلّهم و نسبهم و أمثال ذلك، و به يتأيّد ما ورد في بعض الروايات أنّ يوسف أظهر لهم أنّه في ريب من أمرهم فسألهم عن شأنهم و مكانهم و أهلهم و عند ذلك ذكروا أنّ لهم أبا شائخا و أخا من أبيهم فأمر بإتيانهم به، و سيأتي في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى.

و قولهم:( وَ ما كُنَّا سارِقِينَ ) نفي أن يكونوا متّصفين بهذه الصفة الرذيلة من قبل أو يعهد منهم أهل البيت ذلك.

قوله تعالى: ( قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ ) أي قال فتيان يوسف أو هو و فتيانه سائلين منهم عن الجزاء: ما جزاء السرق أو ما جزاء الّذي سرق منكم إن كنتم كاذبين في إنكاركم.

و الكلام في قولهم:( إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ ) في نسبة الكذب إليهم يقرب من الكلام في قولهم:( إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) و قد تقدّم.

قوله تعالى: ( قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) مرادهم أنّ جزاء السرق نفس السارق أو جزاء السارق نفسه بمعنى أنّ من سرق مالاً يصير عبداً لمن سرق ماله و هكذا كان حكمه في سنّة يعقوب (عليه السلام) كما يدلّ عليه قولهم:( كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) أي هؤلاء الظالمين و هم السرّاق لكنّهم عدلوا عنه إلى قولهم:( جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ ) للدلالة على أنّ السرقة إنّما يجازى بها نفس السارق لا رفقته و صحبه و هم أحد عشر نسمة لا ينبغي أن يؤاخذ منهم لو تحقّقت السرقة إلّا السارق بعينه من غير أن يتعدّى إلى نفوس الآخرين و رحالهم ثمّ للمسروق منه أن يملك السارق نفسه يفعل به ما يشاء.

٢٤٦

قوله تعالى: ( فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ ) فيه تفريع على ما تقدّم أي أخذ بالتفتيش و الفحص بالبناء على ما ذكروه من الجزاء فبدأ بأوعيتهم و ظروفهم قبل وعاء أخيه للتعمية عليهم حذراً من أن يتنبّهوا و يتفطّنوا أنّه هو الّذي وضعها في رحل أخيه ثمّ استخرجها من وعاء أخيه و عند ذلك استقرّ الجزاء عليه لكونها في رحله.

قوله تعالى: ( كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ) إلى آخر الآية. الإشارة إلى ما جرى من الأمر في طريق أخذ يوسف (عليه السلام) أخاه لاُمّه من عصبة إخوته، و قد كان كيداً لأنّه يوصل إلى ما يطلبه منهم من غير أن يعلموا و يتفطّنوا به و لو علموا لما رضوا به و لا مكّنوه منه، و هذا هو الكيد غير أنّه كان بإلهام من الله سبحانه أو وحي منه إليه علّمه به طريق التوصّل إلى أخذ أخيه. و لذلك نسب الله سبحانه ذلك إلى نفسه مع توصيفه بالكيد فقال:( كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ) .

و ليس كلّ كيد بمنفيّ عنه تعالى و إنّما تتنزّه ساحة قدسه عن الكيد الّذي هو ظلم و نظيره المكر و الإضلال و الاستدراج و غيرها.

و قوله:( ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ) بيان للسبب الداعي إلى الكيد، و هو أنّه كان يريد أن يأخذ أخاه إليه، و لم يكن في دين الملك أي سنّته الجارية في أرض مصر طريق يؤدّي إلى أخذه، و لا أنّ السرقة حكمها استعباد السارق و لذلك كادهم يوسف - بأمر من الله - بجعل السقاية في رحله ثمّ إعلام أنّهم سارقون حتّى ينكروه فيسألهم عن جزائه إن كانوا كاذبين فيخبروا أنّ جزاء السرق عندهم أخذ السارق و استعباده فيأخذهم بما رضوا به لأنفسهم.

و على هذا فلم يكن له أن يأخذ أخاه في دين الملك إلّا في حال يشاء الله ذلك و هو هذا الحال الّذي رضوا فيه أن يجازوا بما رضوا به لأنفسهم.

و من هنا يظهر أنّ الاستثناء يفيد أنّه كان من دين الملك أن يؤخذ المجرم بما يرضاه لنفسه من الجزاء و هو أشقّ، و كان ذلك متداولاً في كثير من السنن

٢٤٧

القوميّة و سياسات الملوك.

و قوله:( نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) امتنان على يوسف (عليه السلام) بما رفعه الله على إخوته، و بيان لقوله:( كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ) و كان امتناناً عليه.

و في قوله:( وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) بيان أنّ العلم من الاُمور الّتي لا يقف على حدّ ينتهي إليه بل كلّ ذي علم يمكن أن يفرض من هو أعلم منه.

و ينبغي أن يعلم أنّ ظاهر قوله:( ذِي عِلْمٍ ) هو العلم الطارئ على العالم الزائد على ذاته لما في لفظة( ذِي ) من الدلالة على المصاحبة و المقارنة فالله سبحانه و علمه الّذي هو صفة ذاته عين ذاته، و هو تعالى علم غير محدود كما أنّ وجوده أحدي غير محدود، خارج بذاته عن إطلاق الكلام.

على أنّ الجملة( وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) إنّما تصدق فيما أمكن هناك فرض( فَوْقَ ) و الله سبحانه لا فوق له و لا تحت له و لا وراء لوجوده و لا حدّ لذاته و لا نهاية.

و لا يبعد أن يكون قوله:( وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) إشارة إلى كونه تعالى فوق كلّ ذي علم بأن يكون المراد بعليم هو الله سبحانه اُورد في هيئة النكرة صوناً للّسان عن تعريفه للتعظيم.

قوله تعالى: ( قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ) إلى آخر الآية، القائلون هم إخوة يوسف (عليه السلام) لأبيه، و لذلك نسبوا يوسف إلى أخيهم المتّهم بالسرقة لأنّهما كانا من اُمّ واحدة، و المعنى أنّهم قالوا: إن يسرق هذا صواع الملك فليس ببعيد منه لأنّه كان له أخ و قد تحقّقت السرقة منه من قبل فهما يتوارثان ذلك من ناحية اُمّهما و نحن مفارقوهما في الاُمّ.

و في هذا نوع تبرئة لأنفسهم من السرقة لكنّه لا يخلو من تكذيب لما قالوه آنفاً:( وَ ما كُنَّا سارِقِينَ ) لأنّهم كانوا ينفون به السرقة عن أبناء يعقوب جميعا و إلّا لم يكن ينفعهم ألبتّة فقولهم:( فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ) يناقضه و هو ظاهر. على

٢٤٨

أنّهم أظهروا بهذه الكلمة ما في نفوسهم من الحسد ليوسف و أخيه - و لعلّهم لم يشعروا به - و هذا يكشف عن اُمور مؤسّفة كثيرة فيما بينهم.

و بهذا يتّضح بعض الاتّضاح معنى قول يوسف:( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) كما أنّ الظاهر أنّ قوله:( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) إلى آخر الآية كالبيان لقوله:( فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِها لَهُمْ ) و كما أنّ قوله:( وَ لَمْ يُبْدِها لَهُمْ ) عطف تفسير لقوله:( فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ ) .

و المعنى - و الله أعلم -( فَأَسَرَّها ) أي أخفى هذه الكلمة الّتي قالوها أي لم يتعرّض لما نسبوا إليه من السرقة و لم ينفه و لم يبيّن حقيقة الحال بل( فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِها لَهُمْ ) و كأنّ هناك قائلاً يقول: كيف أسرّها في نفسه فاُجيب أنّه( قالَ: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) و أسوأ حالا لما في أقوالكم من التناقض و في نفوسكم من غريزة الحسد الظاهرة و اجترائكم على الكذب في حضرة العزيز بعد هذا الإكرام و الإحسان كلّه( وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ ) إنّه قد سرق أخ له من قبل فلم يكذّبهم في وصفهم و لم ينفه.

و ذكر بعض المفسّرين أنّ معنى قوله:( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) إلخ: أنّكم أسوأ حالا منه لأنّكم سرقتم أخاكم من أبيكم و الله أعلم أسرق أخ له من قبل أم لا.

و فيه: أنّ من الجائز أن يكون هذا المعنى بعض ما قصده يوسف بقوله:( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) لكنّ الكلام فيما تلقّاه إخوته من قوله هذا و الظرف هذا الظرف هم ينكرون يوسف (عليه السلام) و هو لا يريد أن يعرّفهم نفسه، و لا ينطبق قوله في مثل هذا الظرف إلّا بما تقدّم.

و ربّما ذكر بعضهم أنّ الّتي أسرّها يوسف في نفسه و لم يبدها لهم هي كلمته:( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكان ) فلم يخاطبهم بها ثمّ جهر بقوله:( وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ ) و هذا بعيد غير مستفاد من السياق.

قوله تعالى: ( قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) سياق الآيات يدلّ على أنّهم إنّما قالوا هذا القول لمّا

٢٤٩

شاهدوا أنّه استحقّ الأخذ و الاستعباد، و ذكروا أنّهم أعطوا أباهم موثقا من الله أن يرجعوه إليه فلم يكن في مقدرتهم أن يرجعوا إلى أبيهم و لا يكون معهم، فعند ذلك عزموا أن يفدوه بواحد منهم إن قبل العزيز، و كلّموا العزيز في ذلك أن يأخذ أيّ من شاء منهم، و يخلي عن سبيل أخيهم المتّهم ليرجعوه إلى أبيه.

و معنى الآية ظاهر، و في اللفظ ترقيق و استرحام و إثارة لصفة الفتوّة و الإحسان من العزيز.

قوله تعالى: ( قالَ مَعاذَ الله أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ ) ردّ منه (عليه السلام) لسؤالهم أن يأخذ أحدهم مكانه و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا ) إلى آخر الآية قال في المجمع: اليأس قطع الطمع من الأمر يقال يئس ييأس و أيس يأيس لغة، و استفعل مثل استيأس و استأيس. قال: و يئس و استيأس بمعنى مثل سخر و استسخر و عجب و استعجب.

و النجيّ القوم يتناجون الواحد و الجمع فيه سواء قال سبحانه:( وَ قَرَّبْناهُ نَجِيًّا ) و إنّما جاز ذلك لأنّه مصدر وصف به، و المناجاة المسارّة و أصله من النجوة هو المرتفع من الأرض فإنّه رفع السرّ من كلّ واحد إلى صاحبه في خفية، و النجوى يكون اسماً و مصدراً قال سبحانه:( وَ إِذْ هُمْ نَجْوى‏ ) أي يتناجون، و قال في المصدر:( إِنَّمَا النَّجْوى‏ مِنَ الشَّيْطانِ ) و جمع النجيّ أنجية قال: و برح الرجل براحا إذا تنحّى عن موضعه. انتهى.

و الضمير في قوله:( فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ ) ليوسف و يمكن أن يكون لأخيه و المعنى( فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا ) أي إخوة يوسف( مِنْهُ ) أي من يوسف أن يخلّي عن سبيل أخيه و لو بأخذ أحدهم بدلا منه( خَلَصُوا ) و خرجوا من بين الناس إلى فراغ( نَجِيًّا ) يتناجون في أمرهم أ يرجعون إلى أبيهم و قد أخذ منهم موثقا من الله أن يعيدوا أخاهم إليه أم يقيمون هناك و لا فائدة في إقامتهم؟ ما ذا يصنعون؟.

( قالَ كَبِيرُهُمْ ) مخاطباً لسائرهم( أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً

٢٥٠

مِنَ الله ) ألّا ترجعوا من سفركم هذا إليه إلّا بأخيكم،( وَ مِنْ قَبْلُ ) هذه الواقعة( ما فَرَّطْتُمْ ) أي تفريطكم و تقصيركم( فِي ) أمر( يُوسُفَ ) عهدتم أباكم أن تحفظوه و تردّوه إليه سالماً فألقيتموه في الجبّ ثمّ بعتموه من السيّارة ثمّ أخبرتم أباكم أنّه أكله الذئب.

( فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ ) أي فإذا كان الشأن هذا الشأن لن أتنحّى و لن اُفارق أرض مصر( حتّى يَأْذَنَ لِي أَبِي ) برفعه اليد عن الموثق الّذي واثقته به( أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ ) فيجعل لي طريقا إلى النجاة من هذه المضيقة الّتي سدّت لي كلّ باب و ذلك إمّا بخلاص أخي من يد العزيز من طريق لا أحتسبه أو بموتي أو بغير ذلك من سبيل!!.

أمّا أنا فاختار البقاء هاهنا و أمّا أنتم فارجعوا إلى أبيكم إلى آخر ما ذكر في الآيتين التاليتين.

قوله تعالى: ( ارْجِعُوا إِلى‏ أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَ ما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَ ما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ ) قيل المراد بقوله:( وَ ما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا ) إنّا لم نشهد في شهادتنا هذه:( إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ ) إلّا بما علمنا من سرقته، و قيل المراد ما شهدنا عند العزيز أنّ السارق يؤخذ بسرقته و يسترقّ إلّا بما علمنا من حكم المسألة، قيل و إنّما قالوا ذلك حين قال لهم يعقوب: ما يدري الرجل أنّ السارق يؤخذ بسرقته و يسترقّ؟ و إنّما علم ذلك بقولكم، و أقرب المعنيين إلى السياق أوّلهما.

و قوله:( وَ ما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ ) قيل أي لم نكن نعلم أنّ ابنك سيسرق فيؤخذ و يسترقّ و إنّما كنّا نعتمد على ظاهر الحال و لو كنّا نعلم ذلك لما بادرنا إلى تسفيره معنا و لا أقدمنا على الميثاق.

و الحقّ أنّ المراد بالغيب كونه سارقاً مع جهلهم بها و معنى الآية إنّ ابنك سرق و ما شهدنا في جزاء السرقة إلّا بما علمنا و ما كنّا نعلم أنّه سرق السقاية و أنّه سيؤخذ بها حتّى نكفّ عن تلك الشهادة فما كنّا نظنّ به ذلك.

٢٥١

قوله تعالى: ( وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَ الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَ إِنَّا لَصادِقُونَ ) أي و أسأل جميع من صاحبنا في هذه السفرة أو شاهد جريان حالنا عند العزيز حتّى لا يبقى لك أدنى ريب في أنّا لم نفرط في أمره بل إنّه سرق فاسترقّ.

فالمراد بالقرية الّتي كانوا فيها بلدة مصر - على الظاهر - و بالعير الّتي أقبلوا فيها القافلة الّتي كانوا فيها و كان رجالها يصاحبونهم في الخروج إلى مصر و الرجوع منها ثمّ أقبلوا مصاحبين لهم، و لذلك عقّبوا عرض السؤال بقولهم:( وَ إِنَّا لَصادِقُونَ ) أي فيما نخبرك من سرقته و استرقاقه لذلك، و نكلّفك السؤال لإزالة الريب من نفسك.

٢٥٢

( سورة يوسف الآيات ٨٣ - ٩٢)

قَالَ بَلْ سَوّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَميلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِم جَميعاً إِنّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ( ٨٣) وَتَوَلّى‏ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى‏ عَلَى‏ يُوسُفَ وَابْيَضّتْ عَينَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيم( ٨٤) قَالُوا تَاللّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّى‏ تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ( ٨٥) قَالَ إِنّمَا أَشْكُوا بَثّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ( ٨٦) يَا بَنِيّ اذْهَبُوا فَتَحَسّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رّوْحِ اللّهِ إِنّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَوْحِ اللّهِ إِلّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ( ٨٧) فَلَمّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يا أَيّهَا الْعَزِيزُ مَسّنَا وَأَهْلَنَا الضّرّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدّقْ عَلَيْنَا إِنّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدّقِينَ( ٨٨) قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ( ٨٩) قَالُوا أَءِنّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنّهُ مَن يَتّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ( ٩٠) قَالُوا تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنّا لَخَاطِئِينَ( ٩١) قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ( ٩٢)

٢٥٣

( بيان‏)

الآيات تتضمّن محاورة يعقوب بنيه بعد رجوعهم ثانياً من مصر و إخبارهم إيّاه خبر أخي يوسف و أمره برجوعهم ثالثاً إلى مصر و تحسّسهم من يوسف و أخيه إلى أن عرّفهم يوسف (عليه السلام) نفسه.

قوله تعالى: ( قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) في المقام حذف كثير يدلّ عليه قوله:( ارْجِعُوا إِلى‏ أَبِيكُمْ فَقُولُوا ) إلى آخر الآيتين و التقدير و لمّا رجعوا إلى أبيهم و قالوا ما وصّاهم به كبيرهم قال أبوهم بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً إلخ.

و قوله:( قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ) حكاية ما أجابهم به يعقوب (عليه السلام) و لم يقل (عليه السلام) هذا القول تكذيباً لهم فيما أخبروه به و حاشاه أن يكذب خبراً يحتفّ بقرائن الصدق و تصاحبه شواهد يمكن اختباره بها، و لا رماهم بقوله:( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ) رميا بالمظنّة بل ليس إلّا أنّه وجد بفراسة إلهيّة أنّ هذه الواقعة ترتبط و تتفرّع على تسويل نفسانيّ منهم إجمالاً و كذلك كان الأمر فإنّ الواقعة من أذناب واقعة يوسف و كانت واقعته من تسويل نفسانيّ منهم.

و من هنا يظهر أنّه (عليه السلام) لم ينسب إلى تسويل أنفسهم عدم رجوع أخي يوسف فحسب بل عدم رجوعه و عدم رجوع كبيرهم الّذي توقّف بمصر و لم يرجع إليه، و يشهد لذلك قوله:( عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً ) فجمع في ذلك بين يوسف و أخيه و كبير الإخوة فلم يذكر أخا يوسف وحده و لا يوسف و أخاه معا، فظاهر السياق أنّ ترجّيه رجوع بنيه الثلاثة مبنيّ على صبره الجميل قبال ما سوّلت لهم أنفسهم أمراً.

فالمعنى - و الله أعلم - أنّ هذه الواقعة ممّا سوّلت لكم أنفسكم كما قلت ذلك في واقعة يوسف فصبر جميل قبال تسويل أنفسكم عسى الله أن يأتيني بأبنائي الثلاثة جميعاً.

٢٥٤

و من هنا يظهر أنّ قولهم: إنّ المعنى: ما عندي أنّ الأمر على ما تصفونه بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فيما أظنّ، ليس في محلّه.

و قوله:( عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) ترجّ مجرّد لرجوعهم جميعاً مع ما فيه من الإشارة إلى أنّ يوسف حيّ لم يمت - على ما يراه - و ليس مشربا معنى الدعاء، و لو كان في معنى الدعاء لم يختمه بقوله:( إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) بل بمثل قولنا: إنّه هو السميع العليم أو الرؤف الرحيم أو ما يناظرهما كما هو المعهود في الأدعية المنقولة في القرآن الكريم.

بل هو رجاء لثمرة الصبر فهو يقول: إنّ واقعة يوسف السابقة و هذه الواقعة الّتي أخذت منّي ابنين آخرين إنّما هما لأمر مّا سوّلته لكم أنفسكم فسأصبر صبرا و أرجو به أن يأتيني الله بأبنائي جميعاً و يتمّ نعمته على آل يعقوب كما وعدنيه إنّه هو العليم بمورد الاجتباء و إتمام النعمة حكيم في فعله يقدّر الاُمور على ما تقتضيه الحكمة البالغة فلا ينبغي للإنسان أن يضطرب عند البلايا و المحن بالطيش و الجزع و لا أن ييأس من روحه و رحمته.

و الاسمان: العليم الحكيم هما اللّذان ذكرهما يعقوب ليوسف (عليه السلام) لأوّل مرّة أوّل رؤياه فقال:( إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ثمّ ذكرهما يوسف ليعقوب (عليه السلام) ثانياً حيث رفع أبويه على العرش و خرّوا له سجداً فقال:( يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ - إلى أن قال -هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) .

قوله تعالى: ( وَ تَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا أَسَفى‏ عَلى‏ يُوسُفَ وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ) قال الراغب في المفردات: الأسف الحزن و الغضب معا، و قد يقال لكلّ واحد منهما على الانفراد و حقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام فمتى كان ذلك على من دونه انتشر فصار غضبا، و متى كان على من فوقه انقبض فصار حزنا - إلى أن قال - و قوله تعالى:( فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ ) أي أغضبونا قال أبوعبدالله(١) الرضا: إنّ الله لا يأسف كأسفنا و لكن له أولياء يأسفون و يرضون

____________________

(١) كذا في النسخة المنقولة عنها و الصحيح أبوالحسن.

٢٥٥

فجعل رضاهم رضاه و غضبهم‏ غضبه. قال: و على ذلك قال: من أهان لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة. انتهى.

و قال: الكظم مخرج النفس يقال: أخذ بكظمه، و الكظوم احتباس النفس و يعبّر به عن السكوت كقولهم: فلان لا يتنفّس إذا وصف بالمبالغة في السكوت، و كظم فلان حبس نفسه قال تعالى:( إِذْ نادى‏ وَ هُوَ مَكْظُومٌ ) و كظم الغيظ حبسه قال تعالى:( وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ ) ، و منه كظم البعير إذا ترك الاجترار و كظم السقاء شدّة بعد ملئه مانعاً لنفسه. انتهى.

و قوله:( وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ ) ابيضاض العين أي سوادها هو العمى و بطلان الإبصار و ربّما يجامع قليل إبصار لكن قوله الآتي:( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى‏ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً ) الآية ٩٣ من السورة يشهد بأنّه كناية عن ذهاب البصر.

و معنى الآية:( ثمّ تولّى ) و أعرض يعقوب (عليه السلام)( عَنْهُمْ ) أي عن أبنائه بعد ما خاطبهم بقوله:( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ) ( وَ قالَ: يا أَسَفى) و يا حزني( عَلى‏ يُوسُفَ وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ ) و ذهب بصره( مِنَ الْحُزْنِ ) على يوسف( فَهُوَ كَظِيمٌ ) حابس غيظه متجرّع حزنه لا يتعرّض لبنيه بشي‏ء.

قوله تعالى: ( قالُوا تَالله تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حتّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ ) الحرض و الحارض المشرف على الهلاك و قيل: هو الّذي لا ميت فينسى و لا حيّ فيرجي، و المعنى الأوّل أنسب بالنظر إلى مقابلته الهلاك، و الحرض لا يثنّى و لا يجمع لأنّه مصدر.

و المعنى: نقسم بالله لا تزال تذكر يوسف و تديم ذكره منذ سنين لا تكفّ عنه حتّى تشرف على الهلاك أو تهلك، و ظاهر قولهم هذا أنّهم إنّما قالوه رقّة بحاله و رأفة به، و لعلّهم إنّما تفوّهوا به تبرّما ببكائه و سأمة من طول نياحه ليوسف، و خاصّة من جهة أنّه كان يكذّبهم في ما كانوا يدعونه من أمر يوسف، و كان ظاهر بكائه و تأسّفه أنّه يشكوهم كما ربّما يؤيّده قوله:( ما أَشْكُو ) إلخ.

٢٥٦

قوله تعالى: ( قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى الله وَ أَعْلَمُ مِنَ الله ما لا تَعْلَمُونَ) قال في المجمع: البثّ الهمّ الّذي لا يقدر صاحبه على كتمانه فيبثّه أي يفرّقه، و كلّ شي‏ء فرّقته فقد بثثته و منه قوله:( وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ) انتهى فهو من المصدر بمعنى المفعول أي المبثوث.

و الحصر الّذي في قوله:( إنّما أَشْكُو ) إلخ، من قصر القلب فيكون مفاده أنّي لست أشكو بثّي و حزني إليكم معاشر ولدي و أهلي، و لو كنت أشكوه إليكم لانقطع في أقلّ زمان كما يجري عليه دأب الناس في بثّهم و حزنهم عند المصائب، و إنّما أشكو بثّي و حزني إلى الله سبحانه، و لا يأخذه ملل و لا سأمة فيما يسأله عنه عباده و يبرمه أرباب الحوائج و يلحّون عليه و أعلم من الله ما لا تعلمون فلست أيأس من روحه و لا أقنط من رحمته.

و في قوله:( ‏وَ أَعْلَمُ مِنَ الله ما لا تَعْلَمُونَ‏ ) إشارة إجماليّة إلى علمه بالله لا يستفاد منه إلّا ما يساعد على فهمه المقام كما أشرنا إليه.

قوله تعالى: ( يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ الله إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) قال في المجمع: التحسّس - بالحاء - طلب الشي‏ء بالحاسّة و التجسّس - بالجيم - نظيره‏ و في الحديث: لا تحسّسوا و لا تجسّسوا، و قيل إنّ معناهما واحد و نسق أحدهما على الآخر لاختلاف اللفظين كقول الشاعر( متى أدن منه ينأى عنه و يبعد) .

و قيل: التجسّس بالجيم البحث عن عورات الناس، و بالحاء الاستماع لحديث قوم و سئل ابن عبّاس عن الفرق بينهما؟ قال: لا يبعد أحدهما عن الآخر: التحسّس في الخير و التجسّس في الشرّ. انتهى.

و قوله:( وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ الله ) الروح بالفتح فالسكون النفس أو النفس الطيّب و يكنّى به عن الحالة الّتي هي ضدّ التعب و هي الراحة و ذلك أنّ الشدّة الّتي فيها انقطاع الأسباب و انسداد طرق النجاة تتصوّر اختناقاً و كظماً للإنسان و بالمقابلة الخروج إلى فسحة الفرج و الظفر بالعافية تنفّساً و روحاً لقولهم يفرّج

٢٥٧

الهمّ و ينفّس الكرب فالرّوح المنسوب إليه تعالى هو الفرج بعد الشدّة بإذن الله و مشيّته، و على من يؤمن بالله أن يعتقد أنّ الله يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد لا قاهر لمشيّته و لا معقّب لحكمه، و ليس له أن ييأس من روح الله و يقنط من رحمته فإنّه تحديد لقدرته و في معنى الكفر بإحاطته و سعة رحمته كما قال تعالى حاكيا عن لسان يعقوب (عليه السلام):( إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) و قال حاكيا عن لسان إبراهيم (عليه السلام):( وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّاالضَّالُّونَ ) الحجر: ٥٦، و قد عدّ اليأس من روح الله في الأخبار المأثورة من الكبائر الموبقة.

و معنى الآية - ثمّ قال يعقوب لبنيه آمراً لهم -( يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ ) الّذي اُخذ بمصر و ابحثوا عنهما لعلّكم تظفرون بهما( وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ الله ) و الفرج الّذي يرزقه الله بعد الشدّة( إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) الّذين لا يؤمنون بأنّ الله يقدر أن يكشف كلّ غمّة و ينفّس عن كلّ كربة.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ وَ جِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ ) إلخ، البضاعة المزجاة المتاع القليل، و في الكلام حذف و التقدير فساروا بني يعقوب إلى مصر و لمّا دخلوا على يوسف قالوا إلخ.

كانت لهم - على ما يدلّ عليه السياق - حاجتان إلى العزيز و لا مطمع لهم بحسب ظاهر الأسباب إلى قضائهما و استجابته عليهم فيهما.

إحداهما: أن يبيع منهم الطعام و لا ثمن عندهم يفي بما يريدونه من الطعام على أنّهم عرفوا بالكذب و سجّل عليهم السرقة من قبل و هان أمرهم على العزيز لا يرجى منه أن يكرمهم بما كان يكرمهم به في الجيئة الأولى.

و ثانيتهما: أن يخلّي عن سبيل أخيهم المأخوذ بالسرقة، و قد استيأسوا منه بعد ما كانوا ألحّوا عليه فأبى العزيز حتّى عن تخلية سبيله بأخذ أحدهم مكانه.

و لذلك لمّا حضروا عند يوسف العزيز و كلّموه و هم يريدون أخذ الطعام و إعتاق أخيهم أوقفوا أنفسهم موقف التذلّل و الخضوع و بالغوا في رقّة الكلام

٢٥٨

استرحاما و استعطافا فذكروا أوّلاً ما مسّهم و أهلهم من الضرّ و سوء الحال ثمّ ذكروا قلّة ما أتوا به من البضاعة ثمّ سألوه إيفاء الكيل، و أمّا حديث أخيهم المأخوذ فلم يصرّحوا بسؤال تخلية سبيله بل سألوه أن يتصدّق عليهم و إنّما يتصدّق بالمال و الطعام مال و أخوهم المسترقّ مال العزيز ظاهراً ثمّ حرّضوه بقولهم:( إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ) و هو في معنى الدعاء.

فمعنى الآية:( يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ ) و أحاط بنا جميعاً المضيقة و سوء الحال( وَ جِئْنا ) إليك( بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ ) و متاع قليل لا يعدل ما نسألك من الطعام غير أنّه نهاية ما في وسعنا( فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنا ) و كأنّهم يريدون به أخاهم أو إيّاه و الطعام( إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ) خيرا.

و قد بدؤا القول بخطاب( يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ ) و ختموه بما في معنى الدعاء و أتوا خلاله بذكر سوء حالهم و الاعتراف بقلّة بضاعتهم و سؤاله أن يتصدّق عليهم و هو من أمرّ السؤال و الموقف موقف الاسترحام ممّن لا يستحقّ ذلك لسوء سابقته، و هم عصبة قد اصطفّوا أمام عزيز مصر.

و عند ذلك تمّت الكلمة الإلهيّة أنّه سيرفع يوسف و أخاه و يضع عنده سائر بني يعقوب لظلمهم، و لذلك لم يلبث يوسف (عليه السلام) دون أن أجابهم بقوله:( هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ ) و عرّفهم نفسه، و قد كان يمكنه (عليه السلام) أن يخبر أباه و إخوته مكانه و أنّه بمصر طول هذه المدّة غير القصيرة لكن الله سبحانه شاء أن يوقف إخوته أمامه و معه أخوه المحسود موقف المذلّة و المسكنة و هو متّك على أريكة العزّة.

قوله تعالى: ( قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ ) إنّما يخاطب المخطئ المجرم بمثل هل علمت و أ تدري و أ رأيت و نحوها و هو عالم بما فعل لتذكيره جزاء عمله و وبال ذنبه لكنّه (عليه السلام) أعقب استفهامه بقوله:( إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ ) و فيه تلقين عذر.

فقوله:( هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ ) مجرّد تذكير لعملهم بهما من

٢٥٩

غير توبيخ و مؤاخذة ليعرّفهم من الله عليه و على أخيه و هذا من عجيب فتوّة يوسف (عليه السلام)، و يا لها من فتوّة.

قوله تعالى: ( قالُوا أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا ) إلى آخر الآية تأكيد الجملة المستفهم عنها للدلالة على أنّ الشواهد القطعيّة قامت على تحقّق مضمونها و إنّما يستفهم لمجرّد الاعتراف فحسب.

و قد قامت الشواهد عندهم على كون العزيز هو أخاهم يوسف و لذلك سألوه بقولهم:( أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ ) مؤكّداً بإنّ و اللّام و ضمير الفصل فأجابهم بقوله:( أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي ) و إنّما ألحق أخاه بنفسه و لم يسألوا عنه و ما كانوا يجهلونه ليخبر عن منّ الله عليهما، و هما معا المحسودان و لذا قال:( قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا ) .

ثمّ أخبر عن سبب المنّ الإلهيّ بحسب ظاهر الأسباب فقال:( إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) و فيه دعوتهم إلى الإحسان و بيان أنّه يتحقّق بالتقوى و الصبر.

قوله تعالى: ( قالُوا تَالله لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ ) الإيثار هو الاختيار و التفضيل، و الخطأ ضدّ الصواب و الخاطئ و المخطئ من خطأ خطأً و أخطأ إخطاء بمعنى واحد، و معنى الآية ظاهر و فيها اعترافهم بالخطأ و تفضيل الله يوسف عليهم.

قوله تعالى: ( قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) التثريب التوبيخ و المبالغة في اللوم و تعديد الذنوب، و إنّما قيّد نفي التثريب باليوم ليدلّ على مكانة صفحة و إغماضه عن الانتقام منهم و الظرف هذا الظرف هو عزيز مصر اُوتي النبوّة و الحكم و علم الأحاديث و معه أخوه و هم أذّلاء بين يديه معترفون بالخطيئة و أنّ الله آثره عليهم بالرغم من قولهم أوّل يوم:( لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى‏ أَبِينا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

ثمّ دعا لهم و استغفر بقوله:( يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) و هذا دعاء و استغفار منه لإخوته الّذين ظلموه جميعاً و إن كان الحاضرون عنده اليوم بعضهم

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

( سورة الكوثر مكّيّة و هي ثلاث آيات)

( سورة الكوثر الآيات ١ - ٣)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ( ١ ) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ( ٢ ) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ( ٣ )

( بيان‏)

امتنان على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإعطائه الكوثر و تطييب لنفسه الشريفة بأنّ شانئه هو الأبتر، و هي أقصر سورة في القرآن و قد اختلفت الروايات في كون السورة مكّيّة أو مدنيّة، و الظاهر أنّها مكّيّة، و ذكر بعضهم أنّها نزلت مرّتين جمعاً بين الروايات.

قوله تعالى: ( إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ) قال في المجمع، الكوثر فوعل و هو الشي‏ء الّذي من شأنه الكثرة، و الكوثر الخير الكثير، انتهى.

و قد اختلفت أقوالهم في تفسير الكوثر اختلافاً عجيباً فقيل: هو الخير الكثير، و قيل نهر في الجنّة، و قيل: حوض النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجنّة أو في المحشر، و قيل: أولاده و قيل: أصحابه و أشياعهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى يوم القيامة، و قيل: علماء اُمّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قيل القرآن و فضائله كثيرة، و قيل النبوّة و قيل: تيسير القرآن و تخفيف الشرائع و قيل: الإسلام و قيل التوحيد، و قيل: العلم و الحكمة، و قيل: فضائلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قيل المقام المحمود، و قيل: هو نور قلبهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى غير ذلك ممّا قيل، و قد نقل عن بعضهم أنّه أنهى الأقوال إلى ستّة و عشرين.

و قد استند في القولين الأوّلين إلى بعض الروايات، و باقي الأقوال لا تخلو من تحكّم و كيفما كان فقوله في آخر السورة:( إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) - و ظاهر الأبتر هو المنقطع نسله و ظاهر الجملة أنّها من قبيل قصر القلب - أنّ كثرة ذرّيّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي

٥٢١

المرادة وحدها بالكوثر الّذي اُعطيه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو المراد بها الخير الكثير و كثرة الذرّيّة مرادة في ضمن الخير الكثير و لو لا ذلك لكان تحقيق الكلام بقوله:( إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) خالياً عن الفائدة.

و قد استفاضت الروايات أنّ السورة إنّما نزلت فيمن عابهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالبتر بعد ما مات ابناه القاسم و عبدالله، و بذلك يندفع ما قيل: إنّ مراد الشانئ بقوله:( الْأَبْتَرُ ) المنقطع عن قومه أو المنقطع عن الخير فردّ الله عليه بأنّه هو المنقطع من كلّ خير.

و لما في قوله:( إِنَّا أَعْطَيْناكَ ) من الامتنان عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جي‏ء بلفظ المتكلّم مع الغير الدالّ على العظمة، و لما فيه من تطييب نفسه الشريفة اُكّدت الجملة بإنّ و عبّر بلفظ الإعطاء الظاهر في التمليك.

و الجملة لا تخلو من دلالة على أنّ ولد فاطمةعليها‌السلام ذرّيّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و هذا في نفسه من ملاحم القرآن الكريم فقد كثّر الله تعالى نسله بعده كثرة لا يعادلهم فيها أيّ نسل آخر مع ما نزل عليهم من النوائب و أفنى جموعهم من المقاتل الذريعة.

قوله تعالى: ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ ) ظاهر السياق في تفريع الأمر بالصلاة و النحر على الامتنان في قوله:( إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ) أنّه من شكر النعمة و المعنى إذا مننّا عليك بإعطاء الكوثر فاشكر لهذه النعمة بالصلاة و النحر.

و المراد بالنحر على ما رواه الفريقان عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عن عليّعليه‌السلام و روته الشيعة عن الصادقعليه‌السلام و غيره من الأئمّة هو رفع اليدين في تكبير الصلاة إلى النحر.

و قيل: معنى الآية صلّ لربّك صلاة العيد و انحر البدن، و قيل: يعني صلّ لربّك و استو قائماً عند رفع رأسك من الركوع و قيل غير ذلك.

قوله تعالى: ( إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) الشانئ هو المبغض و الأبتر من لا عقب له و هذا الشانئ هو العاص بن وائل.

و قيل: المراد بالأبتر المنقطع عن الخير أو المنقطع عن قومه، و قد عرفت أنّ

٥٢٢

روايات سبب نزول السورة لا تلائمه و ستجي‏ء.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج البخاريّ و ابن جرير و الحاكم من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس أنّه قال: الكوثر الخير الّذي أعطاه إيّاه قال أبوبشر قلت لسعيد بن جبير فإنّ ناساً يزعمون أنّه نهر في الجنّة قال: النهر الّذي في الجنّة من الخير الّذي أعطاه الله إيّاه.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و الحاكم و ابن مردويه و البيهقيّ في سننه عن عليّ بن أبي طالب قال: لمّا نزلت هذه السورة على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ) قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لجبريل: ما هذه النحيرة الّتي أمرني بها ربّي؟ قال: إنّها ليست بنحيرة و لكن يأمرك إذا تحرّمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبّرت و إذا ركعت و إذا رفعت رأسك من الركوع فإنّها صلاتنا و صلاة الملائكة الّذين في السماوات السبع، و إنّ لكلّ شي‏ء زينة و زينة الصلاة رفع اليدين عند كلّ تكبيرة.

قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رفع اليدين من الاستكانة الّتي قال الله:( فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَ ما يَتَضَرَّعُونَ‏ ) .

أقول: و رواه في المجمع، عن المقاتل عن الأصبغ بن نباتة عنهعليه‌السلام ثمّ قال: أورده الثعلبيّ و الواحديّ في تفسيرهما، و قال أيضاً: إنّ جميع عترته الطاهرة رووا عنهعليه‌السلام : أنّ معنى النحر رفع اليدين إلى النحر في الصلاة.

و فيه، أخرج ابن جرير عن أبي جعفر في قوله:( فَصَلِّ لِرَبِّكَ ) قال: الصلاة( وَ انْحَرْ ) قال يرفع يديه أوّل ما يكبّر في الافتتاح.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس في قوله:( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ ) قال: إنّ الله أوحى إلى رسوله أن ارفع يديك حذاء نحرك إذا كبّرت للصلاة فذاك النحر.

٥٢٣

و في المجمع، في الآية عن عمر بن يزيد قال سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول في قوله:( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ ) هو رفع يديك حذاء وجهك.

أقول: ثمّ قال: و روى عنه عبدالله بن سنان مثله، و روي أيضاً قريباً منه عن جميل عنهعليه‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن سعد و ابن عساكر من طريق الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عبّاس قال: كان أكبر ولد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القاسم ثمّ زينب ثمّ عبدالله ثمّ اُمّ كلثوم ثمّ فاطمة ثمّ رقيّة فمات القاسم و هو أوّل ميّت من ولده بمكّة ثمّ مات عبدالله فقال العاص بن وائل السهميّ قد انقطع نسله فهو أبتر فأنزل الله( إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) .

و فيه، أخرج الزبير بن بكار و ابن عساكر عن جعفر بن محمّد عن أبيه قال: توفّي القاسم بن رسول الله بمكّة فمرّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو آت من جنازته على العاص بن وائل و ابنه عمرو فقال حين رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي لأشنؤه فقال العاص بن وائل: لا جرم لقد أصبح أبتر فأنزل الله( إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) .

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدّيّ قال: كانت قريش تقول - إذا مات ذكور الرجل - بتر فلان فلمّا مات ولد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال العاص بن وائل: بتر و الأبتر الفرد.

أقول: و في بعض الآثار أنّ الشانئ هو الوليد بن المغيرة، و في بعضها أبوجهل و في بعضها عقبة بن أبي معيط، و في بعضها كعب بن الأشرف، و المعتمد ما تقدّم.

و يؤيّده ما في الاحتجاج الطبرسيّ، عن الحسن بن عليّعليهما‌السلام : في حديث يخاطب فيه عمرو بن العاصي: و إنّك ولدت على فراش مشترك فتحاكمت فيك رجال قريش منهم أبوسفيان بن حرب و الوليد بن المغيرة و عثمان بن الحارث و النضر بن الحارث بن كلدة و العاص بن وائل كلّهم يزعم أنّك ابنه فغلبهم عليك من بين قريش ألأمهم حسباً

٥٢٤

و أخبثهم منصباً و أعظمهم بغية.

ثمّ قمت خطيباً و قلت: أنا شانئ محمّد و قال العاص بن وائل: إنّ محمّداً رجل أبتر لا ولد له قد مات انقطع ذكره فأنزل الله تبارك و تعالى:( إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) . الحديث.

و في تفسير القمّيّ:( إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ) قال: الكوثر نهر في الجنّة أعطى الله محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عوضاً عن ابنه إبراهيم.

أقول: الخبر على إرساله و إضماره معارض لسائر الروايات و تفسير الكوثر بنهر في الجنّة لا ينافي التفسير بالخير الكثير كما تقدّم في خبر ابن جبير.

٥٢٥

( سورة الكافرون مكّيّة و هي ست آيات)

( سورة الكافرون الآيات ١ - ٦)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ( ١ ) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ( ٢ ) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ( ٣ ) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ( ٤ ) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ( ٥ ) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ( ٦ )

( بيان‏)

فيها أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يظهر للكفّار براءته من دينهم و يخبرهم بامتناعهم من دينه فلا دينه يتعدّاه إليهم و لا دينهم يتعدّاهم إليه فلا يعبد ما يعبدون أبداً و لا يعبدون ما يعبد أبداً فلييأسوا من أيّ نوع من المداهنة و المساهلة.

و اختلفوا في كون السورة مكّيّة أو مدنيّة، و الظاهر من سياقها أنّها مكّيّة.

قوله تعالى: ( قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ) الظاهر أنّ هؤلاء قوم معهودون لا كلّ كافر و يدلّ على ذلك أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخاطبهم ببراءته من دينهم و امتناعهم من دينه.

قوله تعالى: ( لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ) الآية إلى آخر السورة مقول القول، و المراد بما تعبدون الأصنام الّتي كانوا يعبدونها، و مفعول( تَعْبُدُونَ ) ضمير راجع إلى الموصول محذوف لدلالة الكلام عليه و لرعاية الفواصل، و كذا مفاعيل الأفعال التالية:( أَعْبُدُ ) و( عَبَدْتُّمْ ) و( أَعْبُدُ ) .

و قوله:( لا أَعْبُدُ ) نفي استقباليّ فإنّ( لا ) لنفي الاستقبال كما أنّ( ما ) لنفي الحال، و المعنى لا أعبد أبداً ما تعبدونه اليوم من الأصنام.

٥٢٦

قوله تعالى: ( وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ ) نفي استقباليّ أيضاً لعبادتهم ما يعبدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو إخبار عن امتناعهم عن الدخول في دين التوحيد في مستقبل الأمر.

و بانضمام الأمر الّذي في مفتتح الكلام تفيد الآيتان أنّ الله سبحانه أمرني بالدوام على عبادته و أن اُخبركم أنّكم لا تعبدونه أبداً فلا يقع بيني و بينكم اشتراك في الدين أبداً.

فالآية في معنى قوله تعالى:( لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى‏ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) يس: ٧، و قوله:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) البقرة: ٦.

و كان من حقّ الكلام أن يقال: و لا أنتم عابدون من أعبد. لكن قيل: ما أعبد ليطابق ما في قوله:( لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ) .

قوله تعالى: ( وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ ) تكرار لمضمون الجملتين السابقتين لزيادة التأكيد، كقوله:( كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) التكاثر: ٤ و قوله:( فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ) المدّثّر: ٢٠.

و قيل: إنّ( ما ) في( ما عَبَدْتُّمْ ) و( ما أَعْبُدُ ) مصدرية لا موصولة و المعنى و لا أنا عابد عبادتكم و لا أنتم عابدون عبادتي أي لا اُشارككم و لا تشاركونني لا في المعبود و لا في العبادة فمعبودي هو الله و معبودكم الوثن و عبادتي ما شرعه الله لي و عبادتكم ما ابتدعتموه جهلاً و افتراء، و على هذا فالآيتان غير مسوقتين للتأكيد، و لا يخلو من بعد و سيأتي في البحث الروائيّ التالي وجه آخر للتكرار لطيف.

قوله تعالى: ( لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ ) تأكيد بحسب المعنى لما تقدّم من نفي الاشتراك، و اللّام للاختصاص أي دينكم و هو عبادة الأصنام يختصّ بكم و لا يتعدّاكم إليّ و ديني يختصّ بي و لا يتعدّاني إليكم و لا محلّ لتوهّم دلالة الآية على إباحة أخذ كلّ بما يرتضيه من الدين و لا أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يتعرض لدينهم بعد ذلك فالدعوة الحقّة الّتي يتضمّنها القرآن تدفع ذلك أساساً.

٥٢٧

و قيل: الدين في الآية بمعنى الجزاء و المعنى لكم جزاؤكم و لي جزائي، و قيل: إنّ هناك مضافاً محذوفاً و التقدير لكم جزاء دينكم و لي جزاء ديني، و الوجهان بعيدان عن الفهم.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن الأنباريّ في المصاحف عن سعيد بن ميناء مولى أبي البختريّ قال: لقي الوليد بن المغيرة و العاص بن وائل و الأسود بن المطّلب و اُميّة بن خلف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: يا محمّد هلمّ فلنعبد ما تعبد و تعبد ما نعبد و لنشترك نحن و أنت في أمرنا كلّه فإن كان الّذي نحن عليه أصحّ من الّذي أنت عليه كنت قد أخذت منه حظاً و إن كان الّذي أنت عليه أصحّ من الّذي نحن عليه كنّا قد أخذنا منه حظاً فأنزل الله( قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ) حتّى انقضت السورة.

أقول: و روى الشيخ في الأمالي، بإسناده عن ميناء عن غير واحد من أصحابه قريباً منه.

و في تفسير القمّيّ، عن أبيه عن ابن أبي عمير قال: سأل أبوشاكر أباجعفر الأحول عن قول الله:( قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ ) فهل يتكلّم الحكيم بمثل هذا القول، و يكرّر مرّة بعد مرّة؟ فلم يكن عند أبي جعفر الأحول في ذلك جواب.

فدخل المدينة فسأل أباعبداللهعليه‌السلام عن ذلك فقال: كان سبب نزولها و تكرارها أنّ قريشاً قالت لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تعبد آلهتنا سنة و نعبد إلهك سنة و تعبد آلهتنا سنة و نعبد إلهك سنة فأجابهم الله بمثل ما قالوا فقال فيما قالوا: تعبد آلهتنا سنة:( قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ) ، و فيما قالوا: نعبد إلهك سنة:( وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ

٥٢٨

ما أَعْبُدُ ) ، و فيما قالوا: تعبد آلهتنا سنة:( وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ ) و فيما قالوا: نعبد إلهك سنة:( وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ ) .

قال: فرجع أبو جعفر الأحول إلى أبي شاكر فأخبره بذلك فقال أبو شاكر: هذا حملته الإبل من الحجاز.

أقول: مفاد التكرار في كلام قريش الاستمرار على عبادة آلهتهم سنة و عبادة الله تعالى سنة.

٥٢٩

( سورة النصر مدنيّة و هي ثلاث آيات)

( سورة النصر الآيات ١ - ٣)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ( ١ ) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا ( ٢ ) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ( ٣ )

( بيان‏)

وعد لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنصر و الفتح و أنّه سيرى الناس يدخلون في الإسلام فوجاً بعد فوج و أمره بالتسبيح حينئذ و التحميد و الاستغفار، و السورة مدنيّة نزلت بعد صلح الحديبيّة و قبل فتح مكّة على ما سنستظهر.

قوله تعالى: ( إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَ الْفَتْحُ ) ظهور( إذا ) المصدّرة بها الآية في الاستقبال يستدعي أن يكون مضمون الآية إخباراً بتحقّق أمر لم يتحقّق بعد، و إذا كان المخبر به هو النصر و الفتح و ذلك ممّا تقرّ به عين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو وعد جميل و بشرى لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يكون من ملاحم القرآن الكريم.

و ليس المراد بالنصر و الفتح جنسهما حتّى يصدقاً على جميع المواقف الّتي أيّد الله فيها نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أعدائه و أظهر دينه على دينهم كما في حروبه و مغازيه و إيمان الأنصار و أهل اليمن كما قبل إذ لا يلائمه قوله بعد:( وَ رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً ) .

و ليس المراد بذلك أيضاً صلح الحديبيّة الّذي سمّاه الله تعالى فتحاً إذ قال:( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ) الفتح: ١- لعدم انطباق الآية الثانية بمضمونها عليه.

و أوضح ما يقبل الانطباق عليه النصر و الفتح المذكوران في الآية هو فتح مكّة

٥٣٠

الّذي هو اُمّ فتوحاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في زمن حياته و النصر الباهر الّذي انهدم به بنيان الشرك في جزيرة العرب.

و يؤيّده وعد النصر الّذي في الآيات النازلة في الحديبيّة( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَ يَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً ) الفتح: ٣ فإنّ من القريب جدّاً أن يكون ما في الآيات وعداً بنصر عزيز يرتبط بفتح الحديبيّة و هو نصره تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قريش حتّى فتح مكّة بعد مضيّ سنتين من فتح الحديبيّة.

و هذا الّذي ذكر أقرب من حمل الآية على إجابة أهل اليمن الدعوة الحقّة و دخولهم في الإسلام من غير قتال، فالأقرب إلى الاعتبار كون المراد بالنصر و الفتح نصره تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قريش و فتح مكّة، و أن تكون السورة نازلة بعد صلح الحديبيّة و نزول سورة الفتح و قبل فتح مكّة.

قوله تعالى: ( وَ رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً ) قال الراغب: الفوج الجماعة المارّة المسرعة، و جمعه أفواج. انتهى. فمعنى دخول الناس في دين الله أفواجاً دخولهم فيه جماعة بعد جماعة، و المراد بدين الله الإسلام قال تعالى:( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ ) آل عمران: ١٩.

قوله تعالى: ( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً ) لمّا كان هذا النصر و الفتح إذلالاً منه تعالى للشرك و إعزازاً للتوحيد و بعبارة اُخرى إبطالاً للباطل و إحقاقاً للحقّ ناسب من الجهة الاُولى تنزيهه تعالى و تسبيحه، و ناسب من الجهة الثانية - الّتي هي نعمة - الثناء عليه تعالى و حمده فلذلك أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله:( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ) .

و ههنا وجه آخر يوجّه به الأمر بالتسبيح و التحميد و الاستغفار جميعاً و هو أنّ للربّ تعالى على عبده أن يذكره بصفات كماله و يذكر نفسه بما له من النقص و الحاجة و لمّا كان في هذا الفتح فراغهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جلّ ما كان عليه من السعي في إماطة الباطل و قطع دابر الفساد أمر أن يذكره عند ذلك بجلاله و هو التسبيح و جماله

٥٣١

و هو التحميد و أن يذكره بنقص نفسه و حاجته إلى ربّه و هو طلب المغفرة و معناه فيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - و هو مغفور - سؤال إدامة المغفرة فإنّ الحاجة إلى المغفرة بقاء كالحاجة إليها حدوثاً فافهم ذلك، و بذلك يتمّ شكره لربّه تعالى و قد تقدّم(١) كلام في معنى مغفرة الذنب في الأبحاث السابقة.

و قوله:( إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً ) تعليل للأمر بالاستغفار لا يخلو من تشويق و تأكيد.

( بحث روائي‏)

في المجمع، عن مقاتل: لمّا نزلت هذه السورة قرأهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أصحابه ففرحوا و استبشروا و سمعها العبّاس فبكى فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يبكيك يا عمّ؟ قال: أظنّ أنّه قد نعيت إليك نفسك يا رسول الله فقال: إنّه لكما تقول فعاش بعدها سنتين ما رئي بعدها ضاحكاً مستبشراً.

أقول: و روي هذا المعنى في عدّة روايات بألفاظ مختلفة و قيل في وجه دلالتها أنّ سياقها يلوّح إلى فراغهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا عليه من السعي و المجاهدة و تمام أمره، و عند الكمال يرقب الزوال.

و فيه، عن اُمّ سلمة قالت: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالآخرة لا يقوم و لا يقعد و لا يجي‏ء و لا يذهب إلّا قال: سبحان الله و بحمده استغفر الله و أتوب إليه فسألناه عن ذلك فقال: إنّي اُمرت بها ثمّ قرأ( إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَ الْفَتْحُ ) .

أقول: و في هذا المعنى غير واحد من الروايات مع اختلاف مّا فيما كان يقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في العيون، بإسناده إلى الحسين بن خالد قال: قال الرضاعليه‌السلام سمعت أبي يحدّث عن أبيهعليهما‌السلام : إنّ أوّل سورة نزلت( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ) و آخر سورة نزلت( إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ ) .

____________________

(١) في آخر الجزء السادس من الكتاب.

٥٣٢

أقول: لعلّ المراد به أنّها آخر سورة نزلت تامّة كما قيل.

و في المجمع، في قصّة فتح مكّة: لمّا صالح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قريشاً عام الحديبيّة كان في أشراطهم أنّه من أحبّ أن يدخل في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل فيه فدخلت خزاعة في عقد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و دخلت بنو بكر في عقد قريش، و كان بين القبيلتين شرّ قديم.

ثمّ وقعت فيما بعد بين بني بكر و خزاعة مقاتلة و رفدت قريش بني بكر بالسلاح و قاتل معهم من قريش من قاتل باللّيل مستخفياً، و كان ممّن أعان بني بكر على خزاعة بنفسه عكرمة بن أبي جهل و سهيل بن عمرو.

فركب عمرو بن سالم الخزاعيّ حتّى قدم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة و كان ذلك ممّا هاج فتح مكّة فوقف عليه و هو في المسجد بين ظهراني القوم و قال:

لا هم إني ناشد(١) محمدا

حلف أبينا و أبيه الأتلدا(٢)

إن قريشا أخلفوك الموعدا

و نقضوا ميثاقك المؤكدا

و قتلونا ركعا و سجدا

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حسبك يا عمرو ثمّ قام فدخل دار ميمونة و قال: اسكبي لي ماء فجعل يغتسل و هو يقول: لا نصرت إن لم أنصر بني كعب و هم رهط عمرو بن سالم ثمّ خرج بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة حتّى قدموا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبروه بما اُصيب منهم و مظاهرة قريش بني بكر عليهم ثمّ انصرفوا راجعين إلى مكّة و قد كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال للناس: كأنّكم بأبي سفيان قد جاء ليشدّد العقد و يزيد في المدّة و سيلقى بديل بن ورقاء فلقوا أبا سفيان بعسفان و قد بعثته قريش إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليشدّد العقد.

فلمّا لقي أبوسفيان بديلاً قال: من أين أقبلت يا بديل قال: سرت في هذا الساحل و في بطن هذا الوادي قال: ما أتيت محمّداً؟ قال: لا فلمّا راح بديل إلى مكّة قال

____________________

(١) الناشد: الطالب و المذكر.

(٢) الأتلد: القديم.

٥٣٣

أبوسفيان: لئن كان جاء من المدينة لقد علّف بها النوى فعمد إلى مبرك ناقته و أخذ من بعرها ففتّه فرأى فيها النوى فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمّداً.

ثمّ خرج أبوسفيان حتّى قدم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا محمّد احقن دم قومك و أجر بين قريش و زدنا في المدّة فقال: أ غدرتم يا أباسفيان؟ قال: لا فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فنحن على ما كنّا عليه فخرج فلقي أبابكر فقال: أجر بين قريش قال: ويحك و أحد يجير على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ ثمّ لقي عمر بن الخطّاب فقال له مثل ذلك ثمّ خرج فدخل على اُمّ حبيبة فذهب ليجلس على الفراش فأهوت إلى الفراش فطوته فقال: يا بنيّة أ رغبت بهذا الفراش عنّي؟ فقالت: نعم هذا فراش رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كنت لتجلس عليه و أنت رجس مشرك.

ثمّ خرج فدخل على فاطمةعليها‌السلام فقال يا بنت سيّد العرب تجيرين بين قريش و تزيدين في المدّة فتكونين أكرم سيّدة في الناس؟ فقالت: جواري جوار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . قال: أ تأمرين ابنيك أن يجيرا بين الناس؟ قالت: و الله ما بلغ ابناي أن يجيرا بين الناس و ما يجير على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحد فقال: يا أباالحسن إنّي أرى الاُمور قد اشتدّت عليّ فانصحني فقال عليّعليه‌السلام : إنّك شيخ قريش فقم على باب المسجد و أجر بين قريش ثمّ الحقّ بأرضك قال: و ترى ذلك مغنياً عنّي شيئاً؟ قال: لا و الله ما أظنّ ذلك و لكن لا أجد لك غير ذلك فقام أبوسفيان في المسجد فقال: يا أيّها الناس إنّي قد أجرت بين قريش ثمّ ركب بعيره فانطلق.

فلمّا قدم على قريش قالوا: ما وراءك؟ فأخبرهم بالقصّة فقالوا: و الله إن زاد عليّ بن أبي طالب على أن لعب بك فما يغني عنّا ما قلت؟ قال: لا و الله ما وجدت غير ذلك.

قال: فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجهاز لحرب مكّة و أمر الناس بالتهيئة و قال: اللّهمّ خذ العيون و الأخبار عن قريش حتّى نبغتها في بلادها، و كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش فأتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخبر من السماء فبعث علياًعليه‌السلام و الزبير حتّى أخذاً كتابه

٥٣٤

من المرأة و قد مضت هذه القصّة في سورة الممتحنة.

ثمّ استخلف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا ذرّ الغفاريّ و خرج عامداً إلى مكّة لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان في عشرة آلاف من المسلمين و نحو من أربعمائة فارس و لم يتخلّف من المهاجرين و الأنصار عنه أحد.

و قد كان أبوسفيان بن الحارث بن عبدالمطّلب و عبدالله بن اُميّة بن المغيرة قد لقيا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنيق العقاب فيما بين مكّة و المدينة فالتمسا الدخول عليه فلم يأذن لهما فكلّمته اُمّ سلمة فيهما فقالت: يا رسول الله ابن عمّك و ابن عمّتك و صهرك قال لا حاجة لي فيهما أمّا ابن عمّي فهتك عرضي، و أمّا ابن عمّتي و صهري فهو الّذي قال لي بمكّة ما قال فلمّا خرج الخبر إليهما بذلك و مع أبي سفيان بنيّ له قال: و الله ليأذننّ لي أو لآخذنّ بيد بنيّ هذا ثمّ لنذهبنّ في الأرض حتّى نموت عطشاً و جوعاً فلمّا بلغ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رقّ لهما فأذن لهما فدخلاً عليه فأسلما.

فلمّا نزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ الظهران و قد غمّت الأخبار عن قريش فلا يأتيهم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خبر خرج في تلك الليلة أبوسفيان بن حرب و حكيم بن حزام و بديل بن ورقاء يتجسّسون الأخبار و قد قال العبّاس ليلتئذ: يا سوء صباح قريش و الله لئن بغتها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بلادها فدخل مكّة عنوة أنّه لهلاك قريش إلى آخر الدهر فخرج على بغلة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قال: أخرج إلى الأراك لعلّي أرى حطّاباً أو صاحب لبن أو داخلاً يدخل مكّة فيخبرهم بمكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيأتونه فيستأمنونه.

قال العبّاس فوالله إنّي لأطوف في الأراك ألتمس ما خرجت له إذ سمعت صوت أبي سفيان و حكيم بن حزام و بديل بن ورقاء و سمعت أباسفيان يقول: و الله ما رأيت كالليلة قطّ نيراناً فقال بديل: هذه نيران خزاعة فقال أبوسفيان: خزاعة الأم من ذلك قال: فعرفت صوته فقلت: يا أبا حنظلة يعني أباسفيان فقال: أبوالفضل؟ فقلت: نعم قال: لبّيك فداك أبي و اُمّي ما وراءك؟ فقلت: هذا رسول الله وراءك قد جاء بما لا قبل لكم به بعشرة آلاف من المسلمين.

قال: فما تأمرني؟ قلت: تركب عجز هذه البغلة فاستأمن لك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٥٣٥

فوالله لئن ظفر بك ليضربنّ عنقك فردفني فخرجت أركض به بغلة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكلّما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا: هذا عمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على بغلة رسول الله حتّى مررت بنار عمر بن الخطّاب فقال يعني عمر: يا أباسفيان الحمد لله الّذي أمكن منك بغير عهد و لا عقد ثمّ اشتدّ نحو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ركضت البغلة حتّى اقتحمت باب القبّة و سبقت عمر بما يسبق به الدابّة البطيئة الرجل البطي‏ء.

فدخل عمر فقال: يا رسول الله هذا أبوسفيان عدوّ الله قد أمكن الله منه بغير عهد و لا عقد فدعني أضرب عنقه فقلت: يا رسول الله إنّي قد أجرته ثمّ إنّي جلست إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أخذت برأسه و قلت: و الله لا يناجيه اليوم أحد دوني فلمّا أكثر فيه عمر قلت: مهلاً يا عمر فوالله ما يصنع هذا الرجل إلّا أنّه رجل من آل بني عبد مناف و لو كان من عديّ بن كعب ما قلت هذا قال: مهلاً يا عبّاس لإسلامك يوم أسلمت كان أحبّ إليّ من إسلام الخطاب لو أسلم فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اذهب فقد آمنّاه حتّى تغدو به عليّ في الغداة.

قال: فلمّا أصبح غدوت به على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا رآه قال: ويحك يا أباسفيان أ لم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلّا الله؟ فقال: بأبي أنت و اُمّي ما أوصلك و أكرمك و أرحمك و أحلمك و الله لقد ظننت أن لو كان معه إله لأغنى يوم بدر و يوم اُحد فقال: ويحك يا أباسفيان أ لم يأن لك أن تعلم أنّي رسول الله؟ فقال: بأبي أنت و اُمّي أمّا هذه فإنّ في النفس منها شيئاً قال العبّاس: فقلت له: ويحك اشهد بشهادة الحقّ قبل أن يضرب عنقك فتشهّد.

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للعبّاس: انصرف يا عبّاس فاحبسه عند مضيق الوادي حتّى يمرّ عليه جنود الله قال: فحبسته عند خطم(١) الجبل بمضيق الوادي و مرّ عليه القبائل قبيلة قبيلة و هو يقول: من هؤلاء؟ و أقول: أسلم و جهينة و فلان حتّى مرّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الكتيبة الخضراء من المهاجرين و الأنصار في الحديد لا يرى منهم إلّا الحدق فقال: من هؤلاء يا أباالفضل؟ قلت: هذا رسول الله في المهاجرين و الأنصار فقال: يا أباالفضل

____________________

(١) خطم الجبل: أنفه.

٥٣٦

لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً، فقلت: ويحك أنّها النبوّة فقال: نعم إذاً.

و جاء حكيم بن حزام و بديل بن ورقاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أسلما و بايعاه فلمّا بايعاه بعثهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين يديه إلى قريش يدعوانهم إلى الإسلام و قال: من دخل دار أبي سفيان و هي بأعلى مكّة فهو آمن، و من دخل دار حكيم و هي بأسفل مكّة فهو آمن، و من أغلق بابه و كفّ يده فهو آمن.

و لمّا خرج أبوسفيان و حكيم من عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عامدين إلى مكّة بعث في أثرهما الزبير بن العوّام و أمّره على خيل المهاجرين و أمره أن يغرز رايته بأعلى مكّة بالحجون و قال له: لا تبرح حتّى آتيك ثمّ دخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة و ضربت هناك خيمته، و بعث سعد بن عبادة في كتيبة الأنصار في مقدّمته، و بعث الخالد بن الوليد فيمن كان أسلم من قضاعة و بني سليم و أمره أن يدخل أسفل مكّة و يغرز رايته دون البيوت.

و أمرهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جميعاً أن يكفّوا أيديهم و لا يقاتلوا إلّا من قاتلهم، و أمرهم بقتل أربعة نفر عبدالله بن سعد بن أبي سرح و الحويرث بن نفيل و ابن خطل و مقبس بن ضبابة و أمرهم بقتل قينتين كانتا تغنّيان بهجاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قال: اقتلوهم و إن وجدتموهم متعلّقين بأستار الكعبة فقتل عليّعليه‌السلام الحويرث بن نفيل و إحدى القينتين و أفلتت الاُخرى، و قتل مقبس بن ضبابة في السوق، و أدرك ابن خطل و هو متعلّق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث و عمّار بن ياسر فسبق سعيد عمّاراً فقتله.

قال: و سعى أبوسفيان إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أخذ غرزه أي ركابه فقبّله ثمّ قال: بأبي أنت و اُمّي أ ما تسمع ما يقول سعد إنّه يقول:

اليوم يوم الملحمة

اليوم تسبى الحرمة

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّعليه‌السلام : أدركه و خذ الراية منه و كن أنت الّذي يدخل بها و أدخلها إدخالاً رفيقاً فأخذها عليّعليه‌السلام و أدخلها كما أمر.

و لمّا دخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة دخل صناديد قريش الكعبة و هم يظنّون أنّ السيف لا يرفع عنهم و أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و وقف قائماً على باب الكعبة فقال: لا إله

٥٣٧

إلّا الله وحده وحده أنجز وعده و نصر عبده و هزم الأحزاب وحده ألا إنّ كلّ مال أو مأثرة و دم يدّعى فهو تحت قدمي هاتين إلّا سدانة الكعبة و سقاية الحاجّ فإنهما مردودتان إلى أهليهما، ألا إنّ مكّة محرّمة بتحريم الله لم تحلّ لأحد كان قبلي و لم تحلّ لي إلّا ساعة من نهار و هي محرّمة إلى أن تقوم الساعة لا يختلى خلاها، و لا يقطع شجرها و لا ينفر صيدها، و لا تحلّ لقطتها إلّا لمنشد.

ثمّ قال: ألا لبئس جيران النبيّ كنتم لقد كذّبتم و طردتم و أخرجتم و آذيتم ثمّ ما رضيتم حتّى جئتموني في بلادي تقاتلونني فاذهبوا فأنتم الطلقاء فخرج القوم فكأنّما اُنشروا من القبور و دخلوا في الإسلام، و كان الله سبحانه أمكنه من رقابهم عنوة فكانوا له فيئا فلذلك سمّي أهل مكّة الطلقاء.

و جاء ابن الزبعري إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أسلم و قال:

يا رسول الإله إن لساني

راتق ما فتقت إذ أنا بور(١)

إذ أباري(٢) الشيطان في سنن(٣)

الغي و من مال ميله مثبور

آمن اللحم و العظام لربي

ثم نفسي الشهيد أنت النذير

قال: و عن ابن مسعود قال: دخل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الفتح و حول البيت ثلاثمائة و ستون صنما فجعل يطعنها بعود في يده و يقول:( جاءَ الْحَقُّ وَ ما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَ ما يُعِيدُ جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ) .

و عن ابن عبّاس قال: لمّا قدم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مكّة أبى أن يدخل البيت و فيه الآلهة فأمر بها فاُخرجت و صورة إبراهيم و إسماعيلعليهما‌السلام و في أيديهما الأزلام فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاتلهم الله أمّا و الله لقد علموا أنّهما لم يستقسما بها قطّ.

أقول: و الروايات حول قصّة الفتح كثيرة من أراد استقصاءها فعليه بكتب السير و جوامع الأخبار و ما تقدّم كالملخّص منها.

____________________

(١) البور: الهالك.

(٢) المباراة: المباهاة.

(٣) السنن: وسط الطريق.

٥٣٨

( سورة تبّت مكّيّة و هي خمس آيات)

( سورة المسد الآيات ١ - ٥)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ( ١ ) مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ( ٢ ) سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ( ٣ ) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ( ٤ ) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ ( ٥ )

( بيان‏)

وعيد شديد لأبي لهب بهلاك نفسه و عمله و بنار جهنّم و لامرأته، و السورة مكّيّة.

قوله تعالى: ( تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ ) التبّ و التباب هو الخسران و الهلاك على ما ذكره الجوهريّ، و دوام الخسران على ما ذكره الراغب، و قيل: الخيبة، و قيل الخلوّ من كلّ خير و المعاني - كما قيل - متقاربة فيد الإنسان هي عضوه الّذي يتوصّل به إلى تحصيل مقاصده و ينسب إليه جلّ أعماله، و تباب يديه خسرانهما فيما تكتسبانه من عمل و إن شئت فقل: بطلان أعماله الّتي يعملها بهما من حيث عدم انتهائها إلى غرض مطلوب و عدم انتفاعه بشي‏ء منها و تباب نفسه خسرانها في نفسها بحرمانها من سعادة دائمة و هو هلاكها المؤبّد.

فقوله:( تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ ) أي أبولهب، دعاء عليه بهلاك نفسه و بطلان ما كان يأتيه من الأعمال لإطفاء نور النبوّة أو قضاء منه تعالى بذلك.

و أبولهب هذا هو أبولهب بن عبدالمطّلب عمّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان شديد المعاداة للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مصرّاً في تكذيبه مبالغاً في إيذائه بما يستطيعه من قول و فعل و هو الّذي قال للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تبّاً لك لمّا دعاهم إلى الإسلام لأوّل مرة فنزلت السورة و ردّ الله التباب عليه.

٥٣٩

و ذكر بعضهم أنّ أبالهب اسمه و إن كان في صورة الكنية، و قيل: اسمه عبدالعزّى و قيل: عبد مناف و أحسن ما قيل في ذكره في الآية بكنيته لا باسمه أنّ في ذلك تهكّماً به لأنّ أبالهب يشعر بالنسبة إلى لهب النار كما يقال أبوالخير و أبوالفضل و أبوالشرّ في النسبة إلى الخير و الفضل و الشرّ فلمّا قيل:( سَيَصْلى‏ ناراً ذاتَ لَهَبٍ ) فهم منه أنّ قوله:( تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ ) في معنى قولنا: تبّت يدا جهنّمي يلازم لهبها.

و قيل: لم يذكر باسمه و هو عبد العزّى لأنّ عزّى اسم صنم فكره أن يعدّ بحسب اللفظ عبداً لغير الله و هو عبد الله و إن كان الاسم إنّما يقصد به المسمّى.

قوله تعالى: ( ما أَغْنى‏ عَنْهُ مالُهُ وَ ما كَسَبَ ) ما الاُولى نافية و ما الثانية موصولة و معنى( ما كَسَبَ ) الّذي كسبه بأعماله و هو أثر أعماله أو مصدريّة و المعنى كسبه بيديه و هو عمله، و المعنى ما أغنى عنه عمله.

و معنى الآية على أيّ حال لم يدفع عنه ماله و لا عمله - أو أثر عمله - تباب نفسه و يديه الّذي كتب عليه أو دعي عليه.

قوله تعالى: ( سَيَصْلى‏ ناراً ذاتَ لَهَبٍ ) أي سيدخل ناراً ذات لهب و هي نار جهنّم الخالدة، و في تنكير لهب تفخيم له و تهويل.

قوله تعالى: ( وَ امْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ) عطف على ضمير الفاعل المستكنّ في( سَيَصْلى) و التقدير: و ستصلى امرأته إلخ و( حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ) بالنصب وصف مقطوع عن الوصفيّة للذمّ أي أذمّ حمّالة الحطب، و قيل: حال من( امْرَأَتُهُ ) و هو معنى لطيف على ما سيأتي.

قوله تعالى: ( فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ) المسد حبل مفتول من الليف، و الجملة حال ثانية من امرأته.

و الظاهر أنّ المراد بالآيتين أنّها ستتمثل في النار الّتي تصلاها يوم القيامة في هيئتها الّتي كانت تتلبّس بها في الدنيا و هي أنّها كانت تحمل أغصان الشوك و غيرها تطرحها بالليل في طريق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تؤذيه بذلك فتعذّب بالنار و هي تحمل الحطب و في

٥٤٠

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568